تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء
أخبار أبي علي
المنثور
حدث أبو الحسن علي بن هشام قال: حدثني أبو عبد الله الحسن بن علي
الباقطاني، وأبو الفضل بنان بن بنان وعلي بن عيسى الزنداني النصرانيان
قالوا: حدثنا أبو علي محمد بن عبيد الله الخاقاني قال: لما تمادت
الأيام بما وعدنيه المقتدر بالله من القبض علي أبي الحسن بن الفرات
وتقليدي الوزارة استعظم الحال في نكبته وأشفق من حادث يحدث بذاك في
دولته، وعلمت أنه لا ينفع في ذاك ألا إعمال الحيلة. وكنت أتتبع الأخبار
في استتاري فجاءتني في بعض الأيام امرأة من عجائزنا وقالت: رأيت الساعة
عماريةً على بغال، وجنداً وغلماناً يمضون إلى باب الكناس يريدون
الكوفة، وربما كان ذاك لخارجي خرج وفتق حدث. فكتبت إلى أبي عيسى يحيى
ابن إبراهيم المالكي أسأله عن هذا الأمر، وكان ظاهراً متبصرفاً،
فأجابني بأن ملاحاة جرت بين هشام بن عبد الله وعبد الله بن جبير
(1/288)
كاتبي ابن الفرات فيما يحتاج إليه من الإبل
والبقر والغنم للأضاحي في عيد النحر، ورسوم الأولياء والحواشي.
قال أبو الحسن: وكان الرسم جارياً بأن يفرق على القواد والفرسان
والغلمان الحجرية والرجالة والخدم والبوابين والفراشين وأصحاب الرسائل
والفرانقيين ووجوه الكتاب وأصاغرهم وخزان الدواوين في كل عيد. من شاة
إلى عدة بعران، وتنحر في المصلى سبعون ناقة ويلتزم على ذلك مال جليل،
فأسقطه علي بن عيسى في وزارة حامد ابن العباس واستيلائه على الأمور.
قال المالكي: فأشار ابن جبير على ابن الفرات مغايظةً لابن الدردي الذي
ضمنه إقامة الأضاحي، وإظهاراً لتوفر فيها أن يقلد ذلك رجلاً أسماه،
وكان من أولاد الكتاب متخلفاً منزقاً فقلده، وأمره بالخروج إلى الكوفة
لتحصيل ما يراد من هذه الأضاحي في فسحة من الوقت، قال الخاقاني: فتجلف
الرجل وخرج بهذا الزي والصفف وترك العمارية فارغة ليبعد عن البلد ثم
يركبها وركب الدواب فتأتت لي الحيلة في الحال، وكتبت رقعة إلى أم موسى
القهرمانة أقول فيها قد أحضر ابن الفرات رجلاً علوياً قريب النسب من
صاحب الخال الذي قتله المكتفي بالله، وعزم على إجلاسه في الخلافة يوم
عيد النحر، والجند والناس متشاغلون بصلاة العيد، وإن من الدليل على ذلك
إنفاذه عاملاً من ثقاته إلى الكوفة ومعه عمارية خرجت فارغةً ظاهراً، لم
يخف خبرها لركوب العلوي فيها متخفياً ليحصل بالقرب من بغداد قبل الوقت
الذي يفعل فيه ما يفعل قال:
(1/289)
وعظمت القصة وقلت. إن لم يعالج ابن الفرات
تمت الحيلة الموضوعة. ثم سألتها مطالعة الخليفة والسيدة بذلك، وكتمانه
عن كل أحد بعدهما لئلا ينم الحديث إلى ابن الفرات فيبطل ما رتبه. ففعلت
أم موسى، وأنفذ المقتدر بالله شفيعاً خادم السيدة إلى القصر على وجه
التصيد حتى عرف خبر العمارية الفارغة، ورأى زي العامل الذي هو أكثر من
عمله. فلم يشك المقتدر بالله في صحة ما ذكرته، واستظهر بأن شافه مؤنساً
وغريباً الخال بذلك، وكانا عدوي ابن الفرات ومعي في التدبير عليه،
فقالا: هو خبر مستفيض. وقوياه في نفسه، وقالا له: إن لم تعالجه امتنع
من حضور الدار، واعتصم بمن يساعده من الجيش على كثرتهم. فقبض عليه في
يوم الأربعاء الثالث من ذي الحجة من سنة تسع وتسعين ومائتين. قال أبو
الحسن بن هشام: فحدثني أبو عبد الله بن عبد الأعلى الإسكافي كاتب نصر
القشوري الحاجب قال: كنت بحضرة صاحبي في يوم للعرض على ابن الفرات،
فرأيته قد خاف خوفاً شديداً، فقلت: ما الخبر أيها الأستاذ؟ قال: ويحك،
جاءني الساعة خادم ممن أُعول عليه في مراعاة أخبار الخليفة، فعرفني أنه
شاهده وقد جمع جماعةً من خواص خدمه، وأقامهم حواليه بالسلاح، وأسبل
الستور والستائر في الدار التي هو وهم فيها، وهذا لأمر كبير ما أعلم ما
هو. فما مضت ساعة حتى وافى أبو الحسن بن الفرات، وخرج نصر الحاجب
فتلقاه على رسمه، ودخل إلى دار الوزارة المرسومة به، وأنفذ نصر يستأذن
في وصوله. فخرجت رسالة الخليفة: بأني
(1/290)
في دار خلوة، فقل له يدخل وحده مع بعض
الخدم، ولا يصحبه منكم أحد، واحبس أنت القواد واصرفهم، فليس هو يوم
وصول.
فدخل ابن الفرات مع الخدم، وقبض عليه نذير الحرمي وخدم السيدة في
طريقه، وعدلوا به إلى حيث حبسوه فيه، وعرف نصر الحاجب الحال فأشفق من
القبض عليه أو صرفه، ولم يزل مروعاً إلى أن تصرم النهار. فعلمت أن
أولئك الخدم أقيموا لخوف المقتدر بالله ألا يتم له القبض عليه، وأن
الجيش ربما هجموا فمنعوا منه.
قال أبو الحسن: وكان الرسم إذا دخل الوزير على الخليفة وخدمه ألا يقبض
عليه في ذلك اليوم، لا في داره ولا منصرفاً عن حضرته، إيجاباً لحق
الوصول وحرمته، وإنما يقبض عليه في بعض الممرات عند دخوله من قبل أن
تقع عينه عليه. وكان أيضاً من الرسم أن يكون للوزير دار مفردة في دار
الخلافة يجلس فيها وينظر، منذ أيام صاعد وإلى أيام الخاقاني الأكبر،
ويجلس الخواص والحواشي بين يديه. فلما ولي الخاقاني صارفاً لابن الفرات
جلس في دار الحاجب متقرباً إليه ومدارياً له، وفعل علي بن عيسى بعده
مثل فعله. فلما عاد أبو الحسن بن الفرات إلى الوزارة عاد إلى الدار
الأولى المفردة، وشق ذاك على الحاشية، وتقلد حامد فجلس في دار الحجبة،
ورجع ابن الفرات في الدفعة الثالثة فرجع إلى الدار القديمة، ثم بطل
الجلوس فيها بعده.
وحدث أبو عيسى أخو أبي صخرة قال: كان أبو علي الخاقاني يتهمني بمودة
أبي الحسين بن أبي البغل. فلما استدعي وقرب من بغداد خرجت إليه
وتلقيته، وثقل
(1/291)
ذاك على أبي علي، وأرجف الناس به، وبأنه
أقيم بلغةً إلى أن يرد أبو الحسن. وكان أبو الحسن أخو أبي الحسين قد
تقلد مناظرة أبي الحسن بن الفرات وأسبابه في دار السلطان، وإثارة
ودائعهم، بعناية أم موسى وقيامها بأمره، سعت أم موسى وابن الحواري في
تقليد أبي الحسين ابن أبي البغل. وقد كان ظهر من اختلال نظر الخاقاني
وسوء تدبيره ووقوف الأمر على يده ما دعا إلى صرفه قبل تطاول المدة.
وعرف الخاقاني ما يجري الخوض فيه، فتوصل إلى فسخه بحيلة عملها، وذاك
أنه قال لأبي القاسم ابنه: ادع دعوةً اجمع فيها أصحاب الدواوين ووجوه
القواد وإخوتك وكتابنا، فإن لذة الوزارة في ظهور الرئاسة، وإلا فما
الفرق بين العمل والعطلة؟ فقال: السمع والطاعة. وعين له في ذلك على يوم
سبت لأنه لا موكب فيه، ودعا الجماعة فلما حصلوا عند أبي القاسم ابنه
وقد كتم رأيه فيما هو مدبره عنه وعن كل أحد مضى وقت العصر من ذلك اليوم
إلى دار الخلافة وقال لنصر الحاجب: استأذن لي على أمير المؤمنين
لأجاريه مهماً لا يحتمل تأخر وقوفه عليه، فذكر نصر ذلك للمقتدر بالله،
فقلق وخاف من حدوث حادث عظيم، فأوصله. فلما دخل إليه ودنا منه قال: ها
هنا مهم لا يجوز أن يحضره أحد، فانصرف نصر الحاجب وسائر من في المجلس
حتى بقيا خاليين، ثم قال له الخاقاني: قد رفعتني يا أمير المؤمنين بعد
ذلة وأغنيتني بعد قلة، وما قصرت في خدمتك، ولا قعدت عن ممكن في تمشية
أمور دولتك، وفيما بان من اجتهادي أخذي من أموال ابن الفرات ما مبلغه
ألفاً ألف دينار وكسر سوى الأمتعة الجليلة. وما أدفع أني لست كهوفي
الكفاية لطول عطلتي ودربته، واعتزالي وتصرفه، ولكنني مأمون على أيامك،
ومعتقد لامامتك
(1/292)
وهؤلاء الرافضة كلهم أعداؤك، ورأيهم مع
الطالبيين لا معك ولا مع آبائك. وقد وفر الله عليك من ارتفاع ضياع ابن
الفرات ما قدره ألف ألف دينار في السنة، وليس يبلغ أثر تقصيري في
تدبيري على ما يقال لك هذا القدر، فكيف وليس الأمر على ما يدعي؟! وما
استعنت إلا بالكفاة الذين كانوا يعملون مع عبيد الله بن سليمان والقاسم
ابنه، وابن الفرات بعدهما، والأمور منتظمة بهم، وقد أمنت بذلك عدواً
يسعى على أصول الدولة. ولعمري إن ولدي وحاشيتي قد مدوا أيديهم إلى قبول
هدايا العمال ومرافقهم لأنهم كانوا فقراء، وعقيب محنة طويلة وعطلة
متصلة، لكننا ما أخذنا حبةً واحدة من الأصول، وقد غنينا الآن بما حصل
لنا وبل أحوالنا، وسأحلف آنفاً على استئناف الأمانة، واستعمال النزاهة،
وأضبط أولادي وأصحابي عن أخذ درهم واحد. وابن أبي البغل أعظم عداوةً
لمولانا من ابن الفرات، لأنه رجل ملحد، يبطل الإسلام والنبوة، ويلهو
بالقرآن، ويدعي الخطأ فيه، وقد أخرج عيوبه وصنف فيه كتاباً، فكيف يوثق
بمن هذه حاله عل الخدمة وقد ضافره جماعة من عمالي على أمره، وتربصوا
بما قبلهم من الأموال توقعاً لأيامه. وقد بلغني اليوم أنه قال لثقاته:
إن أمير المؤمنين قد أنفذ إليه على يد فرج النصرانية صاحبة أم موسى
خاتمه، وجعله على ثقة من تقليده في يوم الموكب الأدنى فإن كان ذلك حقاً
فقد حضرت دار أمير المؤمنين بعد أن جمعت عند ابني جميع أولادي وأقاربي
وكتابي وأصحابي، ولم أطلعهم على أمري، فإن أراد مولانا وهم بالقبض
عليهم فنحن في يده، فيأمر بإنفاذ من يتسلم الجماعة بعد أن تحرس نفوسنا
بكوننا عنده. فقد يجوز أن نستخدم في كتابة السيدة والأمراء ولا نخرج عن
الجملة. وأن يفضل مولانا بإتمام صنيعته، وتمكيني من هذا الملحد ابن أبي
البغل الذي
(1/293)
أبعده الوزراء قبلي لشره، وطردوه من الحضرة
لقبح فعله، وكانوا أعرف به مني أثرت من جهته وجهة أخيه مالاً كثيراً،
أذ كان أخوه قد اقتطع من مال ابن الفرات الذي تولى إثارته صدراً
كبيراً. وبكى ورقق المقتدر بالله، وأطمعه، فرق له ورحمه، وتوقف عن أمر
ابن أبي البغل، وقال للخاقاني: ما أردت صرفك، ولو كنت أردته لزلت عنه
الآن مع سماعي ما سمعته منك، وقد أطلقت يدك في ابن أبي البغل وأخيه،
فاقبض عليهما وأبعدهما. فقال: يا أمير المؤمنين كانت أم موسى سعت لي في
هذا الأمر، وقد تغيرت علي، وعدلت عني إلى السعي لابن أبي البغل
والقيام بأمره، وأخاف أن يفسد قلب السيدة فتثنيك عن هذا الرأي فأهلك
أنا. بأمره، وأخاف أن يفسد قلب السيدة فتثنيك عن هذا الرأي فأهلك أنا.
فعاهده ألا يطلع السيدة ولا غيرها على ما جرى بينهما إلى أن يتم القبض
عليه، فقال له الخاقاني: فيظهر أمير المؤمنين أني حضرت لأجل كذا وكذا،
لحديث علمه من أمور الأطراف. وخرج الخاقاني فجلس في دار الحجبة، وكتب
بخطه إلى أبي الحسن ابن أبي البغل: إن أمير المؤمنين قد طلب مني عملاً
لما صح من أموال ابن الفرات وأسبابه فحضره الساعة، فإني مقيم في الدار
أنتظرك. فما بعد أن وافي ابن أبي البغل، فقال له الخاقاني: قد جرى بيني
وبين أمير المؤمنين في أمر أخيك ما لو توليته لما زدت علي فيه، وقررت
معه تقليده أصول دواوين السواد والمشرق والمغرب، ليكون هو على الأصول،
وأبو بكر محمد ابن علي المادرائي على الأزمة، وأتشاغل أنا بالخدمة،
وتزول هذه الأراجيف الواقعة، ونكون يداً واحدة في إثارة الأموال وتسديد
الأحوال. فشكره ابن أبي البغل على ذلك، وظن أنه شيء قرره الخليفة وأمر
به ليجعله
(1/294)
طرفاً إلى ما اعتقده، وسبباً لسكون
الخاقاني وألا يستوحش من الأقوال التي تقال في الإرجاف به، وأن
الخاقاني أدعى من ذاك ما ادعاه لنفسه تجملاً وتمنناً عليه بما لا صنع
له فيه. وأمره الخاقاني بمكاتبة أخيه بأن يسبقه إلى داره ليوقع له بما
رسمه أمير المؤمنين ويتسلم الدواوين. وكتب ابن أبي البغل إلى أخيه
بالصورة وبما حسبه فيها وقدره. فبادر دار الخاقاني وتأخر الخاقاني في
دار الخلافة إلى وقت صلاة المغرب، ثم انصرف ليلاً، فساعة رأى ابن أبي
البغل حاصلاً وقد صعد أخوه معه قبض عليهما، وأنزلهما في زورق مطبق،
ووكل بهما ثقاته وحدرهما إلى واسط لينفيهما منها إلى حيث يتقرر رأيه
عليه. وعرفت السيدة وأم موسى ما جرى، فقامت القيامة عليهما، وخاطبتا
المقتدر بالله فيه فقال. أنا أمرت به، ولا يجوز فسخه مع وقوعه، فكانت
غاية ما عندهما أن سألاه مراسلة الخاقاني بألا يصادرهما وأن يقلدهما
بعض الأعمال لينفذ إليهما. ووجهت أم موسى بأخيها وابن الحواري إليه،
فما برحا حتى قلد أبا الحسين أصبهان وأبا الحسن الصلح والمبارك وكتب
بإطلاقهما وإنفاذهما إلى أعمالهما. وحدث أبو بكر الزهري الأصبهاني
الكاتب قال: لما تقلد القاسم بن محمد الكرخي أصبهان، وقبض علي أبي
الحسين بن أبي البغل، أقام في حبسه إلى أن تقلد الأهواز وحمله معه،
ومات القاسم وتقلد أبو عبد الله ابنه موضعه. وكتب أبو الحسين بن أبي
البغل من الحبس إلى أم موسى القهرمانة بالشروع له في الوزارة، وبذل
البذول الكثيرة، فقامت أم موسى بأمره وقررته مع المقتدر بالله والسيدة،
وكتبت إليه بذلك، وبأن الخليفة قد أمر بمكاتبتك بالإصعاد ليستوزرك.
فلما قرأ كتابهما لم ينتظر ورود كتاب السلطان، وخرج من الحجرة التي كان
معتقلاً فيها، فقال له الموكلون به: إلى أين؟ فانترهم وشتمهم، وأظهر
الكتاب،
(1/295)
ورأى بغلاً مسرجاً لأبي عبد الله بن
القاسم، فركبه يريد الدار التي فيها رجاله وغلمانه. وعرف أبو عبد الله
خبره، فخرج حافياً حتى لحقه وقد وضع رجله في الركاب، فقال له: عرف الله
الوزير البركة، وخار له فيه. فقبل ذلك منه، ثم قال أبو عبد الله: ما
ورد عللي الكتاب بشيء من هذا. أفأكتب إلى بغداد بما فعله الوزير من
خروجه عن محبسه، وركوبه من غير أمر ورد في بابه، واحتجاجه بكتاب
القهرمانة؟ فقال له: اكتب ما شئت. فوافى إلى داره واستأجر سفناً، وسار
من يومه عن الأهواز يريد الحضرة. وكتب أبو عبد الله إلى الوزير
الخاقاني بالصورة، فركب إلى المقتدر بالله، ودخل إليه وحل سيفه ومنطقته
بين يديه، وقبل الأرض وبكى، وأذكره بخدمته وحرمته، وحقوق أسلافه على
أسلافه، بعد أن عرفه حال ابن أبي البغل، وما أظهره بالأهواز، وما فعله،
وبذل له أن يقوم بكثير مما بذله ابن أبي البغل، واستحيا المقتدر بالله،
ورق لقوله وبكائه، وغاظته عجلة أبي الحسين بن أبي البغل، ومبادرته إلى
الإصعاد قبل ورود أمره عليه بذلك، فأمره برده من الطريق وترك الفسحة له
في الورود. وعرفت أم موسى ما جرى، فقامت عليها القيامة منه، وراجعت
الخليفة، وأذكرته بما قررته معه، فامتنع عليها من استيزاره، وأجابها
إلى تعويضه من ذلك، وإخراجه، من النكبة، ورده إلى أصبهان، وكتب له
بتقليد هذه الناحية، ورسم له الرجوع من حيث يلقاه الكتاب فيه، وألا
يتمم إلى الحضرة. فاتفق أن وصل الكتاب إليه وقد حصل بجرجرايا، فعاد
مغموماً وتوجه إلى
أصبهان. بهان.
قال أبو بكر الزهري: ولما وردها، نزل بظاهرها في بستان يسمى مابان،
وخرج الناس لاستقباله، ودخلت إليه، وجلست عنده. فلما خلا قال أعطني ذلك
التقويم،
(1/296)
وأومأ إلى تقويم في زواية المجلس، فجئته
به. فكتب على ظهره بيتين لنفسه وأنشدنيهما، فسمعتهما منه وهما:
ولي همةٌ تعلو السّماكين رفعةً ... وتسمو إلى الأمر الذي هو أشرف
وجدّي عثورٌ كلما رمت نهضةً ... تقاعد بي يغتالني ليس ينصف
وله في هذا المعنى لما انتقض أمره في الوزارة:
أملٌ كان كضوء ال ... شمس في بعد المكان
فإذا صار على قر ... بٍ بلمسٍ وعيان
استردته يد الدّه ... ر فعدنا في الأماني
ولأبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد الأصبهاني الكاتب إلى أبي الحسين ابن
أبي البغل في هذا المعنى من قصيدة أولها يقول فيها:
نضا شيبه من جدة اللهو ما نضا ... وعوضه ثوب النّهى فتعوضا
أقول وقد شمت البروق فلم أجد ... كبرقٍ بدا من أصبهان فأومضا
سقى الرائح الغادي بلاداً رفضتها ... ولم تك لولا أن نبت بي لترفضا
وهل هي إلاّ موطن لي محبب ... إليّ أعادته الخطوب مبغّضا
ولما تولاها الأغرّ محمدٌ ... حدا ذكره شوقي إليه فأومضا
كأني بذاك الصقع قد حله أبو ال ... حسين فجادته يداه فروضا
فأُلبس فيه الأمن من كان خائفاً ... وحكّم في الإثراء من كان منفضاً
وأصلح ملتاثاً هناك بعزمه ... وقوّم معوجاً وذلل ريضاً
(1/297)
وجازى بإحسان مسيئاً ومحسناً ... وكل
امريءٍ يقضي الذي حيث أقرضا
وفيها يذكر الوزارة:
ووالله ما أدري أرأيك تنتضي ... أم القدر الماضي إذا الخطب أجهضا
ومعرضةٍ عن خاطبيها تبرجت ... إليك على قصد فألفتك معرضا
رأت منكراً في الرأي أن رأب الثأي ... سواك امرؤٌ أو أن يمرّ فينقضا
فجاءتك تخطو العز ممن تعرضوا ... لها، وهي لا تألوك منها تعرّضا
تجوب إليك البر والبحر والورى ... يحثونها لما رأوك لها رضا
فحاطك عنها الله علماً بأنها ... مدى غايةٍ إما انتهى فقد انقضى
وردّك صونا للمكارم والعلى ... إلى منهجٍ لا نبتغي عنه مدحضا
وليس بمغبوطٍ أخو الرتبة التي ... إذا زلّ عنها قيس شبر فقد قضى
ولو كنت قد حمّلت أعباء ثقلها ... لحملت وزراً يترك الظهر منقضا
أعيذك والراجون طراً من التي ... تكون بها للنائبات معرضا
وهنئت أغباب الزمان بثابت ... من العز والسلطان لن يتقوضا
فإنك لم تحبس لسوء ولم تضم ... ولم تلف في تلك المقامات مدحضا
وما كان يدعي ذلك المجلس الذي ... تبوأته إلاّ عريناً ومربضا
(1/298)
وما كنت إلاّ السيف يرهب مغمداً ... وإن
كان محصوراً ويقطع منتضى
محمد يا حلف الندا يا بن أحمدٍ ... نداء امريءٍ أضحى إليك مفوضّا
أترضى ببعدي عن ذراك فما أرى ... وراءك لي عيشاً وإن كان مرتضى
فداؤك نفسي كم يدٍ بعدها يدٌ ... جبرت بها عظمي وكان مهيضا
أيادٍ نمى طولاً وعرضا غراسها ... تحقّ لشكري أن يطول ويعرضا
وله إليه في هذا المعنى من قصيدة:
أرادوا له ما لم يرده لنفسه ... لكى يدركوا عزاً وفضل ثراء
وأفضل من نيل الوزارة لامريءٍ ... بقاء يريه مصرع الوزراء
ولا سيما من كان مستوجباً لها ... وإن عاقه عنها اعتلال قضاء
ومن قد رأينا بالخلافة فاقةً ... إلى مثله من راشدي الخلفاء
ومن هو معلوم بأنّ وفاءه ... بها لو يليها فوق كل وفاء
أريد له طول البقاء وقلما ... رأيت وزيراً نال طول بقاء
وذكر أبو الحسن ثابت بن سنان قال: لما ظهر من الاختلال في أيام
الخاقاني ما ظهر، كتب أبو محمد الحسن بن روح إلى المقتدر بالله رقعة
يضمن فيها الخاقاني وأسبابه بما يعجل منه خمسمائة ألف دينار ويقول: أنا
أقتصر على الوزارة، وتكون الدواوين إلى علي بن عيسى، فتمشي الأمور،
وتستقيم الأعمال. وسلم الرقعة إلى أم موسى القهرمانة لتوصلها، وتحرز
الأمر في مضمونها.
(1/299)
فسلمتها أم موسى إلى الخاقاني، فأنفذ إلى
منزل ابن روح وكبسه، وقبض عليه وحبسه، وصرفه عن ديوان ضياع الخاصة.
وحكى أبو عبد الله أحمد بن محمد الكاتب قال: قلت للوزير أبي علي محمد
ابن عبيد الله الخاقاني في كلام جرى: العادة طبيعة ثابتة. فقال لي: يا
أبا عبد الله، هذا تصحيف، إنما هو: العادة طبيعة ثانية. وذكر أبو علي
عبد الرحمن بن عيسى أن أبا علي كان لين العريكة، قليل البصيرة، لا يدفع
عن شيء يخاطب فيه، ولا يتصور عواقب الأمور فيما يكون منه فانبسطت
العامة عليه فضلاً عن الخاصة، ولقب بدق صدره، ووقع بكل سؤال وإنفاذ لكل
محال.
قال عبد الرحمن: فحدثني سبك المفلحي أن أحد القواد الأصاغر سأل أبا علي
الخاقاني أمراً فقال: اكتب رقعة حتى أوقع لك فيها. فأحضر بياضاً وقال:
يوقع الوزير في آخره بالإجابة إلى المسؤول لأكتب العرض بعد ذلك. فوقع
له بذلك. وحكي عبد الرحمن أيضاً: أن نصر بن الفتح كاتب مؤنس الخادم
تأخر عن أبي علي الخاقاني، وجاءه، فسأله عن سبب تأخره، فاعتذر إليه
بعلة بنت له عزيزة عليه. فاتفق أن انصرف من عنده، وعرض عليه صك عليه
لبعض الوجوه بمال اطلق له، فوقع إليه: أطلق أكرمك الله ذلك وعرفني خبر
الصبية إن شاء الله. وذكر عبد الرحمن عن سبك المفلحي: أنه سأله إثبات
راجل معه بأربعة دنانير في المشاهرة. فقال: أربعة دنانير! وكررها، وما
زال يحسبها حتى
(1/300)
صارت ثمانية وأربعين ديناراً في السنة. ثم
وقع بإجراء ثمانية وأربعين في المشاهرة.
وحدث أبو الفرج السلمي الكاتب قال: حدثني أبو العباس ابن النفاط قال:
حدثني أبو عبد الله بن أبي العلاء الكاتب قال: كنت بحضرة الخاقاني وقد
عرض عليه كتاب كتب من الديوان إلى عامل النيل بحمل غلة كانت حاصلة قبله
وأنكر عليه تأخيرها، فوقع إليه في الكتاب: احمل الغلة، وأزح العلة، ولا
تجلس متودعاً في الكلة. قال: ثم التفت إلي وقال: يا أبا عبد الله، في
النيل بق يحتاج إلي كلل؟ فقلت: إي والله وأي بق ومن أجله يلزم الناس
الكلل نهاراً وليلاً. قال: فسر وقال: نحمد الله على حسن التوفيق.
ونفعني ذلك عنده. ووقع في كتاب إلى بعض العمال وكان مستزيداً له: الزم
وفقك الله المنهاج، واحمل ما أمكن من الدجاج، إن شاء الله. قال: فحمل
العامل دجاجاً كثيراً على سبيل الهدية. فقال: هذا دجاج وفرته بركة
السجع. وتقدم بأن يباع ويورد ثمنه في الحساب، فأورد منسوباً إلى ثمن
دجاج السجع. قال: وسأله رجل كتاب شفاعة إلى أم موسى القهرمانة، فكتب
له، وعنونه: لأبي موسى. قال: وكان لها أخ يجلس فيلقاه الناس وأصحاب
الحوائج ليأخذ رقاعهم وقصصهم إليها. فلما دفع إليه ذلك المستشفع الكتاب
نظر إلى عنوانه وضحك وقال له: احمله إلى صاحبه. قال: وأين منزله؟ قال:
في مقابر الخيرزان. قال: أحمله إلى أهل
(1/301)
القبور؟ قال: فإذا كان ذلك إلى أهل القبور،
تحمله إلى سكان الدور؟ وأخذ الكتاب منه وشاع خبره.
ومن أحاديث الخاقاني المشهورة أن أبا الحسن علي بن عيسى جلس معه يوماً
في طياره، وأراد الخاقاني أن يحييه بتفاحة كانت في يده، وهم أن يبصق في
الماء، فبصق في وجه علي بن عيسى، ورمي بالتفاحة إلى الماء. وقال: إنا
لله، غلطنا. فقال: علي ابن عيسى: إنا لله ثلطنا. ومن أحاديثه أيضاً أنه
مر في طياره منصرفاً من دار السلطان عند صلاة المغرب، فرأى ملاحين
يصلون في مسجد على دجلة بمشرعة القصب، فقدم وصعد وصلى معهم وكان
صائماً. فأنفذت إليه بدعة الكبيرة ماء مثلوجاً ليفطر عليه، فرده وشرب
ماءً حاراً من دجلة. وقيل: إنه كان يدخل إليه الرجل الذي قد عرفه
طويلاً فيسلم عليه ويسأل عنه، فيقول أو يقال له: هذا فلان، أو إنه
فلان. ثم يلقاه بعد يوم فتكون حاله معه مثل الحال الأولى.
وحدث أبو الحسين علي بن هشام قال: سمعت أبي وأبا إسحاق وإبراهيم بن
عيسى بن داود بن الجراح وأبا القاسم سليمان بن الحسن يحدثون، قالوا:
لما تقلد أبو الحسن علي بن عيسى الوزارة صارفاً للخاقانى عنها، وجد في
أيدي القواد والحاشية والرعية توقيعات كثيرة بخطه وخط عبد الله وعبد
الواحد ابنيه، ومحمد وأحمد ابني سعيد حاجبه، وبنان بن بنان ويحيى بن
إبراهيم المالكي وعلي بن عيسى الزنداني، كتابه، في فك وإثبات وتقرير
وإيجاب ومظالم وتسويغات وإقطاعات
(1/302)
ومقاطعات مما مثله يأتي على ارتفاع
المملكة. وقد كان الخاقاني أذن لهذه الجماعة في التوقيع عنه بكل ما
رأوه، وكانوا على فاقة وضغطة وخروج من نكبة وعطلة، وغرضهم الارتفاق
وأخذ ما لاح، وأغلظ الأمر وكثر الحرج. وتأمل علي بن عيسى هذه
التوقيعات، فأسقطها، وكان منها ما ثبت في الدواوين وما لم يثبت، وعمل
على إعلام المقتدر بالله ما على الملك وبيت المال من الوهن والنقص
بإمضائها واستئذانه في ردها وإبطالها.
قال هشام: وكنت متحققاً به إذ ذاك فقلت: لا تفعل فإن الخليفة على ما
تعرفه من التدبر بآراء النساء، والقبول من الحاشية، وأكثر هذه
التوقيعات لهم وللمتعلقين عليهم، وللملتجئين إليهم، فاعدل إلى أن تنظر
ما قد أنشيء الكتاب به من ديوان الدار إلى أصحاب الدار فتمضيه، وما كان
بخلاف ذلك أبطلته، فإنك تمضي القليل وتبطل الكثير، وتأمن عداوة الناس،
ومتى استأذنت الخليفة لم تأمن أن يأمرك بإمضاء الكل فتقع في الطويل
العريض. فلم يقبل، ومضى فطالع المقتدر بالله بالصورة، واستأمره في
إسقاط التوقيعات، وقد كان الحواشي سبقوا إليه بالشكوى، فقال له: ارجع
إلى الخاقاني وابنه فما عرفاك أنه بتوقيعهما أمضيته، وما كان بتوقيع
أصحابهما رددته فأمر علي ابن عيسى أصحاب الدواوين بجمع الرقاع، فجمعت
في أيام، وأنفذها إلى الخاقاني وابنه مع إبراهيم بن أيوب كاتب حضرته
وابن الماسح ليعرضاها عليهما، ويسألاهما عنها. فلما دخلا على الخاقاني
وابنه وجدا الخاقاني قائماً يصلي صلاة الضحى وكان يطيلها وابنه عنده
جالساً فعدلا إليه، وأديا الرسالة، وأعطياه الرقاع على حكم ما كان عليه
من الاستبداد بالأمور في خلافته لأبيه. فأخذ يتأملها ويميزها، ويفرد
الأقل
(1/303)
ويطرح الأكثر، ولحظه أبوه، فخفف الصلاة ثم
صاح عليه وقال له: أفسدت أمري في نظري، وتريد أن تفسده في حبسي! وأقبل
على الرسولين وقال لهما: ما أحسنتما الفعل. فإنكما أنفذتما إلي فعدلتما
إلى ولدي عني، وإنما كان خليفتي. فقاما إليه وعرفاه ما حضرا فيه.
وأقرآه الرقاع. فجعل يتأمل التوقيعات خاصة، حتى إذا استوفى النظر فيها
قال لهما: قولا للوزير أيده الله هذه التوقيعات صحيحة، وما وقع بها إلا
بإذني، فإنه ما كان أحد من كتابي يقدم على أن يوقع عني بما لا أعلمه
ولا أرسمه، والذي فعلته هو ما رأيته صلاحاً لنفسي وخدمةً للخليفة أطال
الله بقاءه في استمالة قلوب حاشيته ورعيته، واستخلاص نيتهم في موالاته
وطاعته، والأمر الآن إليك فافعل ما تراه. قال: فقاما وعادا إلى علي بن
عيسى، وأعادا عليه قوله: فقامت قيامته منه، واضطر إلى إمضاء الأكثر،
وإسقاط من استضعف صاحبه واستلان جانبه، ولم تكن له جهة تشفع في بابه.
وعرف الحاشية ذلك، وشكروا الخاقاني وتعصبوا له، وقاموا بأمره مع
المقتدر بالله حتى قررت مصادرته وأطلق بعد أربعة أشهر.
وقال الخاقاني لابنه بعد انصراف ابن أيوب وابن الماسح: أردت يا بني أن
تبعضنا إلى الناس بغير فائدة، ويكون أبو الحسن علي بن عيسى قد لقط
الشوك بأيدينا! نحن قد صرفنا، لم لا نتحبب إلى الخاصة والعامة بإمضاء
ما زوروه علينا؟ فإن أمضاه كان الحمد لنا والثقل عليه، وإن أبطله كان
الحمد لنا والذم عليه. وقد كان الخاقاني متخلفاً عامياً إلا أنه كان
خبيثاً داهياً، ولم يكن له إلا هذه الأفعال الثلاثة: في أمر ابن
الفرات، وأمر ابن أبي البغل، وتلافي الحاشية بعد النكبة.
وقد حفظ من سقطاته وحكاياته ما كان أعداؤه يشنعون عليه به. وقد أوردنا
ما سمعناه وتأدى إلينا منه.
(1/304)
|