تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء
خلافة علي بن عيسى
ذكر خلافة أبي الحسن علي بن عيسى لحامد بن
العباس وتفرده بالأمور من بعد ذلك
قد أوردنا في أخبار حامد عند وزارته ما جرى أمر أبي الحسن بن الفرات
معه وبعده، وما انتهى ذلك إليه من القبض عليه واعتقاله عند زيدان
القهرمانة. وراسله المقتدر بالله بأن يصدق عن أمواله، فكتب رقعة يذكر
فيها أنه لا يقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار. واتفق من ورود
القرامطة إلى البصرة، ودخولهم إليها واستيلائهم عليها ونقلهم ما وجدوه
فيها ثم انصرافهم بعد أيام عنها، ما دعا إلى إخراج بني بن نفيس لقتالهم
ودفعهم، ووصل وقد عادوا إلى بلدهم. فكتب إلى ابن الفرات بذلك، وبأنه
أسر قوماً منهم، وحكي عنهم أنهم قالوا: إن علي بن عيسى كاتبهم بالمسير
إلى هناك، وأنفذ إليهم في عدة أوقات هدايا من سلاح وآلات. فلما وافى
هؤلاء الأسراء، وعرض ابن الفرات على المقتدر بالله كتاب بني بن نفيس
فذكرهم وذكر ما حدثوا به على علي ابن عيسى، أمر بالجمع بينه وبين القوم
ليواجهوه بما قالوا فيه، فأُخرج وجمع بينه وبينهم بحضرة ابن الفرات.
فقال علي بن عيسى: من كانت صورته صورتي في سخط السلطان وانحراف الوزير
عنه لقي بالحق والباطل. ثم عدل ابن الفرات إلى خطابه في أمر الأعمال
فقال له: قد كان علي بن أحمد بن بسطام أخذ خطوط
(1/313)
المادرائيين في وزارتي الثانية بألف ألف
وثلاثمائة ألف دينار صلحاً عن خراج ضياعهما بمصر والشام، وما أخذاه من
المرافق عند تقلدهما الأعمال في أيامك الأولى. وبقي عليهما من المصادرة
التي واقفهما أبو علي الخاقاني عليها، وأديا في أيامي نحو خمسمائة ألف
دينار، وكانا على أداء تتمة المال، حتى صرفت ابن بسطام ساعة وليت عن
الدواوين، وقلدت هذين العاملين الخائنين المجاهرين بأخذ أموال السلطان
واقتطاعها، وكتبت عن أمير المؤمنين بإسقاط مال الصلح عنهما، وذكرت أنه
أمر بذلك، وقد سألته فأنكر دعواك عليه ما أدعيته. فقال علي ابن عيسى:
كنت في الوقت كاتباً لحامد، وخليفةً له على الأعمال، ومتصرفاً على أمره
في كبير الأمور وصغيرها وهو ذكر لي عن أمير المؤمنين أنه أمر بإسقاط
هذا المال، ووقع بذلك توقيعاً كتبت في آخره بامتثاله كما يفعل خليفة
الوزير فيما يأمر به صاحبه. فقال له ابن الفرات: أنت كنت تعارض حامداً
في كل أحواله، وتخاصمه في اليسير مما يخرج عليه من مال ضمانه، حتى تحدث
الناس بكما، وعجبوا لما يجري بينكما، فلم تركت أن تستأذن السلطان في
مثل هذا المال الجليل؟ فقال: كنت في أول الأمر كاتباً لحامد مدة سبعة
أشهر حتى بان لأمير المؤمنين ما رأى معه التعويل علي في تدبير الأمور،
وكان ما جرى من أمر المادرائيين في صدر أيام حامد. فقال له ابن الفرات:
فلما اعتمد عليك أمير المؤمنين ألا صدقته عن غلط حام فيها غلط به وفرط
فيه؟ فقال: إنما تركت ذلك
(1/314)
لأنني أخذت خط الحسين بن أحمد بحضرة أمير
المؤمنين بألف ألف دينار عن مصر والشام خالصاً للحمل، بعد النفقات ومال
الجند في تلك الأعمال، وكا ذاك غاية ما قررت عليه. فقال ابن الفرات:
أنت يا أبا الحسن تعمل أعمال الدواوين منذ نشأت وقد وليت ديوان المغرب
سنين كثيرة، وقد تقلدت الوزارة، فهل رأيت من يدع مالاً واجباً يؤدي
معجلاً ويأخذ العوض عنه ضماناً مؤجلاً لا يدرى ما يجري فيه؟ وهبك على
ما ذكرت من أنك رأيت ذلك صواباً وهو خطأ، فهل استوفيت مال الضمان من
هذا الضامن بخمس سنين دبرت فيها المملكة؟. فقال: قد كان حمل من مال
السنة الأولى صدراً ثم حدث من تغلب العلوي بإفريقية على أكثر تلك
النواحي ما دعا إلى خروج مؤنس المظفر وانصراف المال في نفقاته وأعطيات
الجند، وانكسر الباقي لأجل هذه الحادثة. فقال ابن الفرات: انهزم هذا
العلوي منذ سنتين، فهل أدى مالهما كاملاً؟. فقال علي بن عيسى في جواب
ذلك قولاً استوفاه لنفسه، وأخذ ابن الفرات خطه بالحجة عليه وله بأنه قد
رضي بحكم أمير المؤمنين. ثم قال له ابن الفرات في آخر قوله: قد أمر
أمير المؤمنين بأن تطالب بالأموال التي اقتطعتها وجمعتها، وينبغي أن
تعطيها عفواً وتصون نفسك عن
(1/315)
المكروه. فقال: لست من ذوي الأموال، وما لي
قدرة على أكثر من ثلاثة آلاف دينار. فقال له ابن الفرات: تقول هذا وقد
وجد لك عند عيسى الناقد سبعة عشر ألف دينار وأُخذ خطه بها وديعةً كانت
لك عنده؟ فقال. هذا رجل قلدته مال ضياع البر والجهبذة، وعنده أموال
حاصلة، فإما أن يكون المال منها أو تكون قد أخذت ماله ونسبته
إلي وأكرهته على أن كتب خطه بذلك. فقال له ابن الفرات قد أسقطت من
أرزاق أولاد القرابة والحرم والحواشي والخدم والفرسان الذين كنت
أُوفيهم أرزاقهم في أيامي الأولى والثانية مدة خمس سنين دبرت فيها
المملكة، وأخذت من ارتفاع ضياع الملك والإقطاع بعدما افرد منها للأمراء
ما يكون مبلغه مع ما كنت أحمله إلى أمير المؤمنين في وزارتي الثانية
وهو في كل شهر خمسة وأربعون ألف دينار للمدة المذكورة الجملة الكبيرة،
فإما أن تكون قد احتجنت ذلك لنفسك أو أضعته لتفريطك. فقال له علي بن
عيسى: ما استغللته من الضياع ووفرته من أرزاق من يستغني عنه تممت به
عجزاً أدخل في الخرج حتى اعتدلت الحال، ولم أمدد يدي إلى بيت مال
الخاصة. وأما خمسة وأربعون ألف دينار التي كنت تحملها من المرافق فإنني
لم أر ما رأيته أنت قط من المرافق للعمال، بل حظرتها عليهم علماً بأنها
طريق إلى ضياع الحقوق وخراب البلاد وظلم الرعية، وأنت كنت توصي الحواشي
بإخراب بيت المال، وتحول ما في بيت مال الخاصة إلى بيت مال العامة، ومن
الدليل على ذلك أني كنت أتولى ضياع ديوان الخاصة، فلما تقلدت الوزارة
بعد العباس بن الحسن انصرفت عنه فتركت في بيت مال الخاصة سبعة عشر ألف
ألف دينار حاصلةً، فلما قلدني أمير المؤمنين وزارته في سنة إحدى
وثلاثمائة لم أجد من ذلك المال شيئاً كبيراً. فقال له ابن الفرات: اكتب
حظك بأنك خلفت في بيت مال الخاصة سبعة عشر ألف ألف دينار. أطلق العباس
بن الحسن منها في البيعة لأمير المؤمنين ثلاثة آلاف ألف دينار. ووجدت
أعمال فارس وكرمان خارجةً عن يد السلطان منذ أيام المعتضد لا يحمل منها
المتغلبون عليها إلا النزر اليسير، فصدقت أمير المؤمنين عن صورتها
وضمنت له فتحها ففتحتها. وقد كانت لي أموال جمعتها في خدمة أمير
المؤمنين أنا وأخي وأسلافي مع أسلافه، وضياع وافرة الارتفاع، فلما رأى
أمير المؤمنين أخذها كان أحق بها، فصح لي في بيوت الأموال في دفعتين
أربعة آلاف ألف دينار. ثم أخذ ابن الفرات في مطالبته بالمال، فأقام على
أنه لا مال عنده، وأعيد إلى محبسه. وكانت له بعد ذلك مناظرات، منها ما
حدث به أبو محمد عبد الله بن علي المعروف بذكويه كاتب نصر القشوري
الحاجب، وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني كاتب بني الفرات قالا: حضر
أبو الحسن بن الفرات في وزارته الثالثة في يوم الخميس لخمس ليال بقين
من جمادي الآخرة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في أيام المقتدر بالله، وجمع
القواد والقضاة والكتاب، فأُحضر أبو الحسن علي بن عيسى من محبسه وجمع
بينه وبين ابن فلحة رسوله كان إلى القرامطة في وزارته الأولى حتى واجهه
بأنه أنفذه إلى القرامطة مبتدئاً، وكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق
وغير ذلك، فحمل جميعه إليهم، وأخرج أبو الحسن بن الفرات نسخة كتاب
أنشأه ابن ثوابة عن علي بن عيسى إلى القرامطة جواباً عن كتاب ورد منهم
إليه وفيه إصلاحات بخطه، ولم يقل فيها: إنكم خارجون عن ملة الإسلام
لمخالفتكم الإجماع وعصيانكم على الإمام. بل قال: ولكنكم خارجون عن جملة
أهل الرشاد والسداد. وداخلون مع أهل العناد والفساد. لي وأكرهته على أن
كتب خطه بذلك. فقال له ابن الفرات قد أسقطت من أرزاق أولاد القرابة
والحرم والحواشي والخدم والفرسان الذين كنت أُوفيهم أرزاقهم في أيامي
الأولى والثانية مدة خمس سنين دبرت فيها المملكة، وأخذت من ارتفاع ضياع
الملك والإقطاع بعدما افرد منها للأمراء ما يكون مبلغه مع ما كنت أحمله
إلى أمير المؤمنين في وزارتي الثانية وهو في كل شهر خمسة وأربعون ألف
دينار للمدة المذكورة الجملة الكبيرة، فإما أن تكون قد احتجنت ذلك
لنفسك أو أضعته لتفريطك. فقال له علي بن عيسى: ما استغللته من الضياع
ووفرته من أرزاق من يستغني عنه تممت به عجزاً أدخل في الخرج حتى اعتدلت
الحال، ولم أمدد يدي إلى بيت مال الخاصة. وأما خمسة وأربعون ألف دينار
التي كنت تحملها من المرافق فإنني لم أر ما رأيته أنت قط من المرافق
للعمال، بل حظرتها عليهم علماً بأنها طريق إلى ضياع الحقوق وخراب
البلاد وظلم الرعية، وأنت كنت توصي الحواشي بإخراب بيت المال، وتحول ما
في بيت مال الخاصة إلى بيت مال العامة، ومن الدليل على ذلك أني كنت
أتولى ضياع ديوان الخاصة، فلما تقلدت الوزارة بعد العباس بن الحسن
انصرفت عنه فتركت في بيت مال الخاصة سبعة عشر ألف ألف دينار حاصلةً،
فلما قلدني أمير المؤمنين
(1/316)
وزارته في سنة إحدى وثلاثمائة لم أجد من
ذلك المال شيئاً كبيراً. فقال له ابن الفرات: اكتب حظك بأنك خلفت في
بيت مال الخاصة سبعة عشر ألف ألف دينار. أطلق العباس بن الحسن منها في
البيعة لأمير المؤمنين ثلاثة آلاف ألف دينار. ووجدت أعمال فارس وكرمان
خارجةً عن يد السلطان منذ أيام المعتضد لا يحمل منها المتغلبون عليها
إلا النزر اليسير، فصدقت أمير المؤمنين عن صورتها وضمنت له فتحها
ففتحتها. وقد كانت لي أموال جمعتها في خدمة أمير المؤمنين أنا وأخي
وأسلافي مع أسلافه، وضياع وافرة الارتفاع، فلما رأى أمير المؤمنين
أخذها كان أحق بها، فصح لي في بيوت الأموال في دفعتين أربعة آلاف ألف
دينار. ثم أخذ ابن الفرات في مطالبته بالمال، فأقام على أنه لا مال
عنده، وأعيد إلى محبسه. وكانت له بعد ذلك مناظرات، منها ما حدث به أبو
محمد عبد الله بن علي المعروف بذكويه كاتب نصر القشوري الحاجب، وأبو
الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني كاتب بني الفرات قالا: حضر أبو الحسن بن
الفرات في وزارته الثالثة في يوم الخميس لخمس ليال بقين من جمادي
الآخرة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في أيام المقتدر بالله، وجمع القواد
والقضاة والكتاب، فأُحضر أبو الحسن علي بن عيسى من محبسه وجمع بينه
وبين ابن فلحة رسوله كان إلى القرامطة في وزارته
(1/317)
الأولى حتى واجهه بأنه أنفذه إلى القرامطة
مبتدئاً، وكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق وغير ذلك، فحمل جميعه
إليهم، وأخرج أبو الحسن بن الفرات نسخة كتاب أنشأه ابن ثوابة عن علي بن
عيسى إلى القرامطة جواباً عن كتاب ورد منهم إليه وفيه إصلاحات بخطه،
ولم يقل فيها: إنكم خارجون عن ملة الإسلام لمخالفتكم الإجماع وعصيانكم
على الإمام. بل قال: ولكنكم خارجون عن جملة أهل الرشاد والسداد.
وداخلون مع أهل العناد والفساد.
وقال ابن الفرات لعلي بن عيسى موبخاً ومهجناً: تقول ويحك للقرامطة
الذين قد أجمع الناس أنهم أهل ردة وضلالة قولاً تلحقهم فيه بأهل الملة
وهم لا يصلون ولا يصومون ولا يدينون بما يدين به المسلمون، وتنفذ إليهم
الطلق الذي إذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل النار فيه؟ قال: إنما
اعتمدت بذاك المصلحة، وأن أستعيدهم إلى الطاعة بالرفق والاستمالة. فقال
ابن الفرات لأبي عمر القاضي: ما عندك في هذا يا أبا عمر؟ فتوقف عن
جوابه، وأقبل على علي بن عيسى وقال له: قد أقررت يا هذا بما لو أقر
إمام به لسقطت طاعته وتعطلت إمامته. قال: فنظر علي بن عيسى إليه نظر
منكر لقوله، لعلمه بأن المقتدر بالله بحيث يسمع ما يجري ولا يرى. وطالب
ابن الفرات أبا عمر بأن يكتب خطه بشيء من هذا المعنى، فلم يفعل وقال:
قد غلط علي بن عيسى غلطاً كبيراً فأما جواب هذا القول فما عندي. فأخذ
خطه بما سمعه من إقراره في أن الكتاب كتابه، وأن الإصلاح في النسخة
بخطه. ثم أقبل ابن الفرات على أبي جعفر أحمد بن أسحاق بن البهلول
القاضي فقال: ما عندك يا أبا جعفر في ذلك؟ فقال: إن أذن الوزير أن أقول
ما عندي على بيان قلته. قال: أفعل. قال: صح عندي أن هذا الرجل وأومأ
إلي علي ابن عيسى
(1/318)
استخلص بكتابين كتبهما إلى القرامطة في
وزارته الأولى ابتداءً وجواباً ثلاثة آلاف رجل من المسلمين كانوا
مستعبدين معهم ومسترقين بالاستحلال منهم، حتى رجعوا إلى أوطانهم
وأولادهم ونعمهم وأموالهم. فإذا كتب الإنسان مثل هذه الكتب على وجه
الصلاح والمغالطة للعدو لم يجب عليه حكم. قال: فما عندك فيما أقر به من
أن القرامطة مسلمون؟ قال: إذا لم يثبت عنده كفرهم، وكاتبوه بذكر الله
والصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وانتسبوا إلى الإسلام،
وكانوا إنما ينازعون في الإمامة، لم يطلق عليهم بالكفر. قال له: فما
عندك بالطلق الذي أذا طليت به الأبدان لم تعمل النار فيها يحمل إلى
أعداء الإمام ورفع صوته بذلك على أبي جعفر كالمنكر لما جرى من قوله
فقال أبو جعفر لعلي بن عيسى: أنفذت الطلق الذي هذه صورته إلى القرامطة؟
قال: لا. فقال ابن الفرات: رسولك وثقتك ابن فلحة.. يقر عليك بذلك. فدهش
علي بن عيسى وأمسك. فقال ابن الفرات لأبي جعفر بن البهلول: احفظ
اعترافه بأن ابن فلحة رسوله وثقته، وقد أقر عليه بما أنكره. فقال. أيها
الوزير، ليس هذا إقراراً. إنما هو دعوى. قال: فهو ثقته بإنفاذه إياه.
قال: إنما وثقه في حمل كتاب، ولا يقبل قوله عليه في غيره. فقال ابن
الفرات: أنت يا أبا جعفر وكيله لا حاكم. قال: ما أنا وكيل لكنني أقول
الحق كما قلته في أمر الوزير أيده الله لما أراد حامد في وزارته الحيلة
عليه بما هو أعظم من هذا. فعدل ابن الفرات إلى أن قال لعلي بن عيسى: يا
قرمطي فقال: أنا أيها الوزير قرمطي؟ أنا قرمطي؟ وكررها تعريضاً به.
قال: نعم، وكان عندي أنك عدو لأمير المؤمنين وبني العباس خاصةً أعز
الله سلطانهم وإذا أنت عدو للمسلمين كافةً. فأمسك علي بن عيسى خوفاً
(1/319)
على نفسه. وأخذ نصر الحاجب والمحسن بن أبي
الحسن بن الفرات بيده وأقاماه بعد أن استأذنا الوزير في الخلوة به،
فأذن، فجلسا معه على انفراد.
قال أبو الطيب في حديثه: فقمت معهما، وسمعت ما جرى بينهما وبينه وكان
أن قالا له: إن رجعت إلى موضعك من محبسك ولم تقرر أمرك في صلحك خفنا
عليك من استحلال السلطان دمك بعد ما سمعه عنك. ولم يزالا به إلى أن
استجاب إلى ثلاثمائة ألف دينار يعجل منها الثلث في ثلاثين يوماً، ويؤدي
الباقي على رسم المصادرات، وكتب خطه بذلك، وعادا إلى ابن الفرات وعرفاه
ما جرى فأمضاه. واستدعي علي بن عيسى وجعل يواقفه على شرائط الخط، وكان
إذا امتنع الوزير من شيء غمز أبو الحسن علي بن عيسى يده وقال: يتفضل
الوزير. فيستحي ابن الفرات ويطرق ثم يفعل وإنما كان علي بن عيسى يفعل
ذلك إذكاراً بعهد كان بينهما في أيام العباس بن الحسن ومعاقدة في أن
يتعاضدا ويحرس كل واحد منهما صاحبه، ولا يسعى على نعمتة ولا نفسه حتى
إذا انتهى القول إلى حق بيت المال في ضياع علي بن عيسى قال علي بن
عيسى: وعما كثر به العمال عليه من حق بيت المال في ضياعه، ووجوبه به
مدةً، وذكروه في تحيفه السلطان في ذلك! فقال له ابن الفرات: كل شيء
أحتمله وأفعله إلا أن تعرضني لما يقدح في صناعتي، ويطرق عيباً علي في
خدمة سلطاني، أرأيتك إن كتب العمال بأنه يجب عليك من هذه الجهة
ثلاثمائة ألف دينار ألست أكون قد أخذت حظك بحق بيت المال في ملكك لا
مصادرةً عن تصرفك؟ وقد ترددت في الوزارة والأعمال الجليلة مذ عشر سنين؛
ولكن خذ مبلغاً في استثنائك بما يستثني به لنفسك. فقال: عشرون ألف
دينار. فأجابه إلى ذلك، وكتب على أنه: متى أوجب العمال عليه
(1/320)
بالعدل والإنصاف والموافقة التي لا يعترضها
تحيف من حق بيت المال في سائر ضياعه ووقوفه منذ وقت ملكه لها وإلى هذا
الوقت ما يكون مبلغه من ألف دينار إلى عشرين ألف دينار فقد دخل ذلك في
مال المصادرة، وإن زاد على هذا المبلغ كانت الزيادة خارجةً عن الجملة،
ولازمةً له بعدها. ولما تقررت النسخة وابتدأ علي بن عيسى يحررها بخطه
كتب في التعجيل: بعد ثلاثين يوماً. فقال له ابن الفرات: ارفق بنا يا
أبا الحسن ما صغرنا وكبرت، أفأدعك تسعةً وعشرين يوماً لا أُطالبك ولا
تؤدي شيئاً؟ ولكن اكتب: أُصححه أولاً أولاً في مدة ثلاثين يوماً. فقال
علي بن عيسى: على شرط من أن يكون ابتدائي بالأداء إذا خرجت من دار أمير
المؤمنين إلى موضع يأمن الوزير أيده الله فيه على نفسي يومى ألا يسلم
إلى المحسن أو من جرى مجراه في إشفاقه وخوفه إياه فتقرر الأمر على ذلك
وأنفذ الخط إلى المقتدر بالله فأمضاه، ورد أبو الحسن علي ابن عيسى إلى
محبسه. وقالت زيدان القهرمانة والسيدة للمقتدر بالله: إن سلم علي بن
عيسى إلى ابن الفرات سلمه إلى ابنه المحسن، ولم يؤمن عليه منه، وهو رجل
دين وقد خدمك وخدم أباك، وليس يفزع اليوم إلا منه، فلا تسلمه إليهم.
وقدرتا بذلك أن تبطلا المال الذي قرره علي بن عيسى على نفسه. فقال وقد
كان وقر في صدره ما سمعه من حديثه مع القرامطة وتشعث به رأيه فيه: إن
أدى المال في داري لم أُسلمه، وإن تقاعد وألط مكنت المحسن في داري وغير
داري منه وسلمته إليه. وأخذ المحسن في الإغراء بعلي بن عيسى، فاستدعاه
إليه في دار الخلافة أياماً
(1/321)
من غير حضور الوزير أبيه، وطالبه وجد به،
فأحال علي بن عيسى على خطه وما شرط فيه له وعليه. فقال له المحسن: هذا
تقاعد، وتريد ألا تؤدي في دار أمير المؤمنين ولا تسلم إلي، وهذا أمر لا
يتم. فإذا أديت بحيث أنت، وإلا أخذتك إلي. فقال علي بن عيسى: هذا نقض
لما تقرر. واستدعى أحمد بن محمد بن جاني، وكان يتولى ضيعته، وإبراهيم
بن أيوب النصراني، وكان يكتب بحضرته، فلما حضر أمرهما ببيع داره التي
في سويقة أبي الورد المعروفة بدليل النصراني، وعقار له يجاورها فلم يرج
من ثمن ذلك إلا ألفا دينار وكسر. واستعفى إبراهيم من العود فأعفي وواصل
ابن جاني. وأراد المحسن أن يوحشه ليقف أمر علي بن عيسى فقال له: أنت
كنت كاتبه على ضياعه، ورسوله إلى أصحاب ودائعه، ولا بد من أن تصدق عما
تعرفه من صوره، وأوقع به مكروهاً غليظاً أغمي عليه فيه، وقيل: إنه تلف،
ثم أفاق وتراجع، وجزع المحسن من ذلك فأطلقه، إلا أنه استتر، ووقف أمر
علي ابن عيسى. وواصل المحسن القول في بابه عند المقتدر بالله، ونسبه
إلى التقاعد في فعله، وحضر الوزير والمحسن في يوم الاثنين الثالث عشر
من رجب بحضرة المقتدر بالله
فجدد المحسن القول في أمر علي بن عيسى وسكت الوزير، وأقبل المقتدر
بالله وقال له: أنت رجل خير، وتريد أن تتفضل على علي بن عيسى ليقول
الناس: رعي حقه وعرف له حرمة ما كان بينه وبينه، وراعى ذمام الصناعة
فيه. ويضيع مالي في الوسط، وما أصبر على ذاك. وهذا رجل قرمطي، ودمه
وماله حلالان، وإذا وهبت له ماله فلا أقل من أن يستوفي مالي منه. ثم
قال للمحسن: اخرج أنت واجلس في الدار، واستدع بعلي بن عيسى، وأرهبه،
فإن أقر بودائعه وخرج مما قرره على نفسه وإلا قيده، فإن أذعن وإلا
ألبسه مع القيد جبة صوف، فإن أقام على أمره أوقع المكروه به في جسمه
بمحضر من القواد جزاءً له على ما فارق الطاعة. فخرج المحسن وجلس معه
نصر القشوري الحاجب ونازوك والقواد، وأُحضر علي بن عيسى، فبدأه المحسن
بالرفق، ثم نقله إلى الأغلظ فلم يستجب إلى أداء شيء في دار الخلافة،
وقال: ما يمكنني الاحتيال وتصحيح المال إلا حيث أن أكون في موضع امن
فيه على نفسي، ويمكن أن يجيئني من أريده من كتابي وأصحابي بحسب ما تقرر
من شرائط خطى. فتقدم المحسن إلى نازوك بإحضار قيد فيه عشرون رطلاً وجبة
صوف مدهونة بماء الأكارع، فأحضرهما، وجيء بحداد، وأمر بتقييده. فلما
بدأ بذلك نهض نصر القشوري منصرفاً. فقال له المحسن: ما بمثل هذا
عاملتني يا أبا القاسم لما أنفذ هذا عامله ابن حماد حتى قيدني بحضرتك،
وأمر علي المكروه بمشاهدتك. فقال له نصر: والله يا سيدي ما ندري كيف
نصنع إذا غضب مولانا على وزرائه وكتابة وأمر فيهم بأمر، إن حضرنا
عادونا إذا عادوا إلى الخدمة وسعوا في قبيحنا، وإن امتنعنا من الحضور
عادانا من إليه الأمر، فدلونا على ما نتخلص به منكم. د المحسن القول في
أمر علي بن عيسى وسكت الوزير، وأقبل المقتدر بالله وقال له: أنت رجل
خير، وتريد أن تتفضل على علي بن عيسى ليقول الناس: رعي حقه وعرف له
حرمة ما كان بينه وبينه، وراعى ذمام الصناعة فيه. ويضيع مالي في الوسط،
وما أصبر على ذاك. وهذا رجل قرمطي، ودمه وماله حلالان، وإذا وهبت له
ماله فلا أقل من أن يستوفي مالي منه. ثم قال للمحسن: اخرج أنت واجلس في
الدار، واستدع بعلي بن عيسى، وأرهبه، فإن أقر بودائعه وخرج مما قرره
على نفسه وإلا قيده، فإن أذعن وإلا ألبسه مع القيد جبة صوف، فإن أقام
(1/322)
على أمره أوقع المكروه به في جسمه بمحضر من
القواد جزاءً له على ما فارق الطاعة. فخرج المحسن وجلس معه نصر القشوري
الحاجب ونازوك والقواد، وأُحضر علي بن عيسى، فبدأه المحسن بالرفق، ثم
نقله إلى الأغلظ فلم يستجب إلى أداء شيء في دار الخلافة، وقال: ما
يمكنني الاحتيال وتصحيح المال إلا حيث أن أكون في موضع امن فيه على
نفسي، ويمكن أن يجيئني من أريده من كتابي وأصحابي بحسب ما تقرر من
شرائط خطى. فتقدم المحسن إلى نازوك بإحضار قيد فيه عشرون رطلاً وجبة
صوف مدهونة بماء الأكارع، فأحضرهما، وجيء بحداد، وأمر بتقييده. فلما
بدأ بذلك نهض نصر القشوري منصرفاً. فقال له المحسن: ما بمثل هذا
عاملتني يا أبا القاسم لما أنفذ هذا عامله ابن حماد حتى قيدني بحضرتك،
وأمر علي المكروه بمشاهدتك. فقال له نصر: والله يا سيدي ما ندري كيف
نصنع إذا غضب مولانا على وزرائه وكتابة وأمر فيهم بأمر، إن حضرنا
عادونا إذا عادوا إلى الخدمة وسعوا في قبيحنا، وإن امتنعنا من الحضور
عادانا من إليه الأمر، فدلونا على ما نتخلص به منكم.
وتركه ومضى إلى حجرته المرسومة بالحجبة في دار الخلافة. وجعل القيد في
رجل علي بن عيسى وضربه به الحداد بالمطرقة ليسمره، فأخطأ وأصاب كعبه،
فقال علي بن عيسى: يا هذا، أي عداوة بيني وبينك حتى فعلت ما فعلت؟ فقال
له: كيف لا أعادي وقد أسقطت من رزقي ديناراً؟ فوثب نازوك ليمضي. فقال
له المحسن: أنت صاحب الشرطة وهذا أمر يلزمك القيام به، فإذا تركته
وانصرفت لم يكن لجلوسي معنى، وإذا كنتم على هذه الحال من محبة علي بن
عيسى ومراقبته، وقد سمعتم من أمير المؤمنين لي فيه ما سمعتموه، فألأ
واجهتموني بالامتناع من الحضور
(1/323)
أولاً؟ فقال له نازوك: ما أستحسن أن أحضر
مكروه رجل قبلت يده عشر سنين، وله عندي من الأيادي والفضل، ومع ذلك فهو
شيخ يتدين ويصوم الدهر. فاغتاظ المحسن وقال للقواد الباقين: إن جلستم
وإلا قمت، فلست صاحب شرطة، فقعدوا. وأخذ ياقوت وصالح من بينهم
يستعطفانه لعلي بن عيسى، وسألاه ألا يلبسه الجبة الصوف ولا يجري عليه
مكروهاً. فقال: لا أفعل إلا أن يكتب خطه بأداء ثلاثين ألف دينار في
عشرين يوماً، إذ لا أقل من ذلك، فقال علي ابن عيسى: لا أكتب بما لا أفي
به ولو قطعت يدي. فألبسوه الجبة حينئذ، وقال له: لم يبق إلا المكروه
فإن استجبت وإلا امتثلت أمر أمير المؤمنين في إيقاعه بك، وكنت أنت الذي
توقعه بنفسك. فقال: إذا كتبت بما لا أتمكن منه وقع المكروه بحجة، وإن
وقع بي الآن كنت مظلوماً. فدعا المحسن بعشرة غلمان كان قد واقفهم على
أن يشددوا المكروه به، وأمرهم بصفعه، فصفعه كل واحد صفعةً عظيمة، فصاح
في ثلاث: أوه. وقال في الباقي: أستغفر الله من ذنب مكن مثلك من مثلي.
وكان مفلح قد قام ودخل إلى حضرة المقتدر بالله قبل ما جرى على علي بن
عيسى وكان قريباً من الموضع. فلما سمع المقتدر قوله واستغفاره باللفظ
الذي وصله به رق له ورحمه وقال: ما أشك في أن علي بن عيسى خير عند الله
من المحسن، وقد وقع السرف فيما عومل به وبلغ منه. فأخرج وحل بين المحسن
ومكروهه. ورده إلى محبسه. وقامت القيامة على السيدة وزيدان بما جرى
وقالتا: إنما صنا ابن الفرات ومنعنا أعداءه منه لما كان يصون الوزراء
ويعرف حقوقهم، والآن فقط بسط هذا المجنون ابنه لما يخالف العادة ويورث
القباحة والشناعة.
(1/324)
وانصرف المحسن إلى أبيه وعرفه ما جرى، وقد
كان أخر طعامه انتظاراً لحضوره. فلما وقف من الصورة على ما أخبره به
قلق من ذلك قلقاً شديداً وقال: كان يجب يا بني ألا تفعل ما فعلته وتقبل
ما أُمرت به كله، وأنت حدث لم تجرب الأمور، ومغرور لم تتدرب، وقد أفسدت
أمر علي بن عيسى علينا. ووالله لا سلم بعد هذا إلينا. ووجه من وقته إلى
هشام بن عبد الله فاستحضره، وأعلمه ما كان من المحسن وجنايته في أمر
علي بن عيسى، وقال له: ستعظم زيدان على الخليفة والسيدة ما جرى، وتجعل
ذلك طريقاً إلى نزع جبته وفك قيده، وألا يسلم إلينا، فما الرأي عندك؟
قال: أن تكتب الساعة إلى الخليفة رقعة بخطك لا بخط كاتب من كتابك،
وتذكر له ما انصرف به إليك أبو أحمد من خبر علي بن عيسى، وأن ذلك أقلقك
وأزعجك، وشق عليك وبلغ منك، حتى دعاك إلى ترك الأكل، وتنسب المحسن إلى
الحداثة وركوب الخطأ فيما فعله، وتقرظ علي بن عيسى، وتستعطف رأيه له،
وتذكره ما سلف من حقوقه وحرماته، وتسأله الصفح عنه، والتجاوز عما أنكره
منه، وترغب إليه في فك قيده ونزع الجبة عنه. لتوهمه بذلك إنكارك للقصة،
وتشيع أن تنحية قيده وجبته بشفاعتك، وتمن على علي بن عيسى بما صدر عنك.
فأما متى لم تفعل هذا فعل بغير مرادنا، وخسرنا الحمد والمنة، وحصلنا
على القباحة والشناعة. فقال ابن الفرات: صدقت وأصبت الرأي. وكتب الرقعة
وأنفذنا مع صافي الخادم، وكان يحمل رقاعه إلى المقتدر بالله، فأخذها
مفلح منه، وأوصلها، وعاد الجواب
(1/325)
من وقته بخط نعمة الكاتبة، يتضمن شكر
المحسن على ما كان منه، وذم علي ابن عيسى، واستصغار ما جرى عليه، وأن
المحسن لو لم يمتثل ما أُمر به فيه لأفسد حاله عنده، وأنه مع ذلك قد
شفع أبا الحسن بن الفرات في علي بن عيسى، ووهبه له وأمر بنزع الجبة
والقيد عنه. ومضت عشرة أيام، وأُنفذ علي بن عيسى إلى ابن الفرات، وقيل
له: قد حمل إليك لتطالبه بالمال المقرر عليه. وكان الباطن أن زيدان
قالت لابن الفرات: لولا ما استعمله المحسن ابنك بعلي بن عيسى لسلم إليك
إقامةً لجاهك لئلا يظهر من منعك عنه ما تضعف به يدك. وأشارت عليه بنقله
إلى دار شفيع اللؤلؤي من وقته، وأن يظهر اختيار علي بن عيسى لذاك
وسؤاله إياه. ووعدها ابن الفرات بالعمل على رأيها. وأُحضر علي بن عيسى
دار ابن الفرات وهو في دار حرمه، فجلس في رواق بقرب من مجلس ابن
الفرات، ومعه فائق وجه القصعة وفلفل، وكانا يشهدان عند القضاة. ولما
رأى كتاب ابن الفرات علي بن عيسى قاموا إليه، وسلموا عليه، وأُذن بصلاة
العصر، فقام علي بن عيسى وصلى بقوم اجتمعوا خلفه، ودخل هشام إلى ابن
الفرات وقال له: أُهنئ الوزير أيده الله. فقال: بأي شيء؟ قال: تقلد علي
بن عيسى في دارك، ونمس على الخدم والعامة بذلك. فقال ابن الفرات: ما
أراد إلا التفاؤل بأن يقيم حقاً في هذه الدار ويأمر وينهي.
ثم خرج ابن الفرات من دار حرمه إلى مجلسه، وقام إليه فائق وفلفل وأوصلا
رقعة المقتدر بالله إليه بإنفاذه علي بن عيسى ليؤدي ما قرر عليه وكان
فيها: إن علياً وإن كان قد أخطأ وأذنب فله خدمة وحرمة، وأريد أن تراعيه
(1/326)
في مطعمه ومشربه، وتتفقده أجمل تفقد
وأحوطه، فقد ضمن الإسراع إلى أداء المال.
فلما قرأ ابن الفرات الرقعة استدعي علي بن عيسى، وقربه حتى صارت ركبته
مع مرفع الدواة، واجتمع الناس ينظرون، ووافى المحسن، فقام علي بن عيسى،
وقد كان الأمراء والقواد وسائر الطبقات يقومون للمحسن في مجلس أبيه،
فلم ينكر ابن الفرات قيام علي بن عيسى لابنه. وأعاد ابن الفرات قراءة
الرقعة الواردة، ودفعها إلى المحسن حتى وقف عليها وردها بعد ذلك إلى
أبيه. فأقبل ابن الفرات على الخادمين وقال: ما أقبح ما وصيت به من تفقد
أبي الحسن في مطعمه ومشربه، فإن كان ذلك لتقصير يظن بي فيما هذه سبيله
فما أبعدني عن مثله، وإن كان لكناية عن أمر آخر فأرجو ألا أكون في
منزلة من يستجيزه أو يطلقه. وقد سلم حامد إلي مع تناهيه في العداوة لي
واستعمال القبيح معي فعاملته بالجميل الذي عرف، ومعلوم فرق ما بينه
وبين أبي الحسن عندي. وقد كان ابن الفرات قطع لحامد لما سلم إليه
ثياباً بعشرة آلاف درهم، وأصلح له فرشاً وثيرة، وأجلسه في دار كبيرة،
وأخدمه عدة غلمان وخدم، وكان يبخره في كل يوم دفعات، ويقدم إليه أحسن
وأوسع طعام فاستخرج بذلك منه ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار لا يعلم بها
أحد غير حامد، كان منها أربعمائة ألف وكسر من آبار بواسط ومائة ألف
دينار وكسر من ودائع. وإنما جرى عليه المكروه من المحسن بغير إيثار ابن
الفرات، ولأن المقتدر بالله أقام على أنه لا بد من تسليمه إلى المحسن،
فإنه ضمنه منه بعد ما أخذه أبوه منه بخمسمائة ألف دينار. وخرج من
المكروه إلى حد علم به أن الغرض نفسه لا ماله فأقام على التبلج ولم يؤد
على يد المحسن درهماً واحداً. وجرى عليه بواسط ما أدى إلى هلاكه، وقيل:
(1/327)
إنه طلب في الطريق ما يأكله فأتوه ببيض
مسموم فأكله، ولم يزل يقوم حتى مات في دار البزوفري. وكان قول ابن
الفرات ما قاله قبل تسليم حامد إلى المحسن. ونرجع إلى استتمام حديث علي
بن عيسى. وقال له ابن الفرات: والله لقد استأذنني حامد في الفصد عندي
لوجع لحقه في ضرسه فخفت أن يجتمع عليه الفصد وعلو السن فيضعف ويتلف،
فلم آذن له ومنعته. مالنا ولهذا إذا كنا نخاف على النفوس؟ فوالله لا
أقام هذا الرجل في داري. وقع يا أبا عبد الله وأومأ إلى زنجي إلى شفيع
الكبير يعني اللؤلؤي بالحضور، فوقع إليه، وقد كان شفيع عرف الخبر من
دار السلطان فلما جاءه التوقيع أنفذ قيصراً خادمه فأجاب بالاعتذار
وقال: قد انفذت ثقتي وهو يقوم مقامي، فما يراد مني؟ فرد إليه الوزير:
بأن لا بد من حضورك. وحضر، فسلم إليه علي بن عيسى، ووصاه بحفظه ليؤدي
المال المقرر عليه عنده. وقبل ذلك أعطي علي بن عيسى ابن الفرات تذكره
له كان أولها: الكتاب إلى العمال بالإفراج عن وقوفي. فلما قرأ ذلك دعا
بساكن صاحب دواته وقال: هات الكتب التي كتبت أمس من ديوان المقبوضات
وأمرتك بحفظها. فأحضرها، وإذا هي بالإفراج لعلي ابن عيسى عن وقوفه
وقال: قد فعلت ذلك قبل أن تسأله، وعملت فيه ضد
(1/328)
ما عاملتني به، لأن أمير المؤمنين أيده
الله أمرك في نكبتي بالإفراج عن بعض وقوفي فرجعت ودافعت، حتى إذا ما لم
تجد مدفعاً استخرجت ما فيها ورددتها فارغة وأنا قد أطلقتها لك بغلاتها
وأموالها، وما استحللت إطلاق أيدي العمال في وقوف. فشكره علي بن عيسى
وقال: أيها الوزير فني الحديث إلا هذا. ودخل المحسن في القول في
الزيادة من توبيخ علي بن عيسى في فعله، فقال له قولاً لاطفه فيه وفي
عرضه: أنا والله أستحليك فغلظت هذه اللفظة على المحسن وغاظته. فأجابه
المحسن جواباً حشمه فسكته أبوه. ثم أقبل على علي بن عيسى فقال له: أبو
أحمد كاتب أمير المؤمنين وصنيعته ووصف موضعه منه، وتفويضه إليه فاعتذر
علي ابن عيسى من كلمته أشد اعتذار، ورجع أبو الحسن إلى قراءة التذكرة.
وكان الباب الثاني منها: الإفراج عن دوري وعقاري ببغداد. فقال له ابن
الفرات أما دورك وولدك فما عرض لهم. وأما عقارك فأنا أطلقه. ووقع بذلك.
وكان الباب الثالث: كتب أمان لأولادي وأسبابي. فقال له ابن الفرات: أما
أولادك فلا علقة عليهم، لأنك ما صرفتهم في أيامك ولا قلدتهم شيئاً من
أعمالك، ولكني أستظهر لك ولهم بالأمان، وأما أسبابك فسم من تريد ممن لا
تبعة عليه. فأسمي جماعةً. وكتب الأمان لهم ولأولاده.
(1/329)
وكان الباب الرابع: إطلاق غلة إن كانت بقيت
في ضياعي. قال ابن الفرات: هذا لا يجوز لأنني لا أطلق الضياع ولا الغلة
إلا بعد ان تؤدي مال التعجيل، ولكني أكتب إلى العمال بأن يحصلوا موجود
الارتفاع ليحسب ذلك من مال التعجيل، فهو أعود. وكان الباب الخامس:
إطلاق ضياعي بديار ربيعة والموصل والشام. فقال ابن الفرات: أما ما كان
بديار ربيعة والموصل فأنا أطلقه بعد أن تؤدي ثلاثين ألف دينار، وأما ما
بالشام فهو مختلط ولا أعرف ارتفاعه، ولكن عرفني مبلغه لأقفه عنك، فإنني
أثق فيه بقولك: فقال: هو في هذه السنة ناقص العمارة ومقداره مائة ألف
درهم، فقال: أنا أقف هذا القدر عنك. والباب السادس: إطلاق ضيعتي بالسود
إذا أديت ثلاثين ألف دينار. فامتنع أبو الحسن من ذلك، ووقع في الأبواب
الأول بما ذكرناه. وعرض فائق وفلفل عليه رقاعاً في حوائج لهما، فشغل
بهما وبمن جرى مجراهما من أرباب المطالب. وأقبل المحسن على علي بن عيسى
وقال له: ألست زعمت أن حامد بن العباس أسقط عن المادرائيين ألفي ألف
ومائتي ألف دينار مصابرة، وكتب لهم مؤامرةً بذلك إلى الخليفة، وأخذ
توقيع الخلافة فيها؟ وأنت وإن كنت إذ ذاك من قبله فقد جحد حامد هذا
القول منك. فقال له علي بن عيسى: يجحد وهو الناظر الآمر! فقال له: فألا
عارضته ومنعته؟ لأن الخليفة أقامك للاستظهار عليه. فقال: ما كنت في
الوقت ألا من قبله، فلما ضمن اعتمد الخليفة علي في استيفاء ما
استوفيته، ومع هذا فصناعتك ترتفع عن أن تلزمني في مثل ذلك دركاً لو كنت
فعلته متعمداً، فإن المال يلزم من هو عليه.
(1/330)
وعلا صوتاهما بالقول: فأقبل ابن الفرات
عليهما وقال: في أي شيء أنتما؟ فعرفه المحسن الصورة. فقال ابن الفرات:
المادرائي وابن أخيه واردان، وإذا وردا كان الخطاب معهما والمناظرة
لهما، وقد أسقطت المصادرة عن أبي الحسن كل تبعة، وكفاك ما عاملته به
فأمسك عنه. فقال المحسن: هو شيخي، وقد علم الله أنني ما آثرت ما جرى.
فقال له علي بن عيسى: كذلك الظن بك يا سيدي. ثم رجع ابن الفرات إلى
قراءة ما بقي من التذكرة التي لعلي بن عيسى، فإذا فيها: يؤذن للكتاب
وأصحاب الدواوين الولاة والمعطلين والقواد وكتابهم في الاجتماع معي ولا
يمنع واحد منهم عني. فقال ابن الفرات: أما أصحاب الدواوين الولاة فلا
يجسرون على لقائك فزعاً مني إلا رجلاً واحداً هو جار الموضع الذي أنت
فيه يعني ابن الصريفيني صاحب الجيش لأن داره كانت مجاورة لدار شفيع
اللؤلؤي التي في مشرعة القصب على دجلة، وانتقلت من بعد إلى أبي بكر
محمد بن بدر الحمامي وسيصير إليك سراً. وأما القواد فعليك في مجيئهم
إليك شناعة. فقال: إنما أريدهم لابتياع ضياعي، ومنهم داود بن حمدان،
وهو يرغب فيما بديار ربيعة منها، ولا شناعة في مثل ذلك. فقال: بلى.
وربما صار منه حديث، وكتابهم يجيئونك، وفيهم كفاية. ووقع بهذا. وتبع
هذا الباب من التذكرة: كتاب يكون في يدي بما تقررت عليه مصادرتي، وأنه
مزيل لكل تبعة وتأول عني وعن كتابي وأسبابي. فضحك ابن الفرات وقال: ما
أطرف هذا بين أن تضج وتتظلم وتقول: إنه لا يجب على مثلك مصادرة، ثم
تحتاط لنفسك في التبعة بأن تتنجز بها كتاباً. فقال: إي لعمري ما هي
واجبة علي، ولا ارتزقت في مدة خمس سنين إلا مثل مال التعجيل وهو مائة
ألف، ولكن إذا وقعت المصادرة فلي ولأسبابي في هذا الكتاب حجة في نفوسنا
وأملاكنا.
(1/331)
فأقبل ابن الفرات على المحسن ابنه وقال له:
أنت تتولى لأمير المؤمنين ديوان المصادرين، فاكتب له بما يريد. فقال
أُوقع بأن يكتب له ذلك. قال: لا، بل تكتبه بخطك. قال: فكيف أدعو له؟
قال: بالدعاء التام. فكتب له المحسن بخطه عن نفسه كتاباً بالمصادرة،
ودعا له في صدره، ثلاثة أسطر، وترجمة بالدعاء التام، وكتب: من المحسن
بن أبي الحسن. كما يكتب إلى الناس كلهم، ودفع الكتاب إلى أبي غانم سعيد
بن محمد المعروف بابن الشاشي خليفته على ديوان المصادرين. وبينما ابن
الفرات يحادث علي بن عيسى خرج أبو علي الحسن بن أبي الحسن ابن الفرات،
من دولة، وسنه إذا ذاك بضع عشرة سنين. فقام إليه علي بن عيسى، فأكبر
ذاك أبو الحسن بن الفرات وقال: يا أبا الحسن أعزك الله هذا ولدك. فقال
علي بن عيسى: قد خدمت السيد الماضي أبا العباس رحمه الله وخدمت الوزير
أيده الله، وأرجو أن أعيش حتى أخدم هذا السيد أعزه الله. فشكره ابن
الفرات على قوله، وأخذ قرطاساً ووقع فيه إلى هارون بن عمران بأن يحتسب
عليه من مال ضيعته بألفي دينار يحملها إلى أبي الحسن علي بن عيسى من
غير دعاء معونة له على مصادرته. فقال علي بن عيسى: ما أحب التثقيل على
الوزير أيده الله ولكن لا أرد تفضله مع الحاجة إليه. وأخذ المحسن
الدواة وكتب له بألف دينار. وتقدم ابن الفرات إلى هارون بن عمران بأن
يكتب له قبضاً بهذه الثلاثة الآلاف الدينار من مال مصادرته، ونهض علي
بن عيسى بعد أن قبل يد
(1/332)
أبي الحسن بن الفرات، وضمه ابن الفرات
إليه، وأكب علي بن عيسى على رأس المحسن فتطاول له تطاولاً كالقيام،
وقام معه كل من كان بحضرة ابن الفرات إلا وجوه أصحاب الدواوين، ومشى
بين يديه الحجاب والحواشي، ومضى إلى دار شفيع. ولم يبعد أن قام ابن
الفرات لصلاة المغرب، فلما صلى دعا بهشام وابن جبير وابن فرجويه وقال:
رأيتم مثل رجلة علي بن عيسى وتطأمنه للنكبة واستعانته عليها بالاستعطاف
والتذلل؛ وهذه طريقة لا أحسنها، لأن كبدي في المحن كأكباد الإبل، لا
جرم أنها تزداد وتتضاعف. ثم دعا بالعباس الفرغاني حاجبه وقال له:
حدثهم. فقال: نعم، لما نزل علي ابن عيسى إلى طيار شفيع اللؤلؤي أجلسه
في صدره وجلس بين يديه. فقال ابن الفرات: هذا غير منكر لأنا ما عاملنا
بقبيح فيتصنع لنا شفيع بإذلاله، وهو مع ذلك شيخ قد رأس عليهم، وكان
معظماً في أيام عبيد الله بن سليمان وله أُبوته وصناعته. وأقام علي بن
عيسى في دار شفيع إلى أن أدى ثلاثمائة ألف دينار المصادرة، وأطلقت
ضياعه. ثم أُبعد إلى مكة، وأطلق له ابن الفرات عشرة آلاف درهم نفقة
سلمها إليه، وأعطي في أجر الجمالين ونفقات الموكلين ثمانية آلاف درهم.
فلما حصل بمكة أُعيد قبض الضياع وأمر بإخراجه إلى صنعاء. وإنما تم ذلك
عليه بعد خروج مؤنس إلى الرقة كالمبعد. وذكر أن علي بن عيسى لم يقبل
لأحد من الكتاب في نكبته هذه معونة
(1/333)
من بذلهم ذلك له، إلا بن فرجويه فإنه حمل
إليه ألف دينار. وحمل إليه الفضل والمحسن ابناً ابن الفرات ألف دينار.
وكان أبو الهيجاء بن حمدان أنفذ إليه عشرة آلاف دينار فردها وقال له:
لو كنت متقلداً فارس لقبلتها، وأعلم أنها تجحف بما لك، وما أُحب ثلمك.
فحلف أبو الهيجاء أنها لا ترجع إلى ملكه ففرقت على الطالبيين والضعفاء.
وحمل إليه هارون بن غريب جملة قبلها. وبذل له شفيع ألفي دينار فامتنع
منها وقال له: لا أجمع عليك مؤونتي ومعونتي: ولأبي الميمون سالم بن عبد
الله في علي بن عيسى لما أُخرج إلى مكة:
سيرت الشمسة بالنحس ... فأطلعت سعداً على الأنس
فأبعد الله الذي سيرت ... في الأرض أقصى مطلع الشمس
لمّا غدا أهلوه في مأتم ... أصبحت الأمة في عرس
فلا كلاه الله من ذاهب ... ولا رعاه الله من جبس
أطلع في أيامه كلها ... على البرايا كوكب النحس
وضيّق الدنيا على أهلها ... كأنها العالم في حبس
يضيع الأموال من عجيبة ... وينظر الساقط من فلس
أهلكه الله ولا ردّه ... فهلكه أطيب للنفس
ما يؤمن الشر ولا ينقضي ... حتى يوارى النّذل في رمس
(1/334)
|