تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء

أخبار أبي الحسن المنثورة
حدث أبو علي عبد الرحمن بن عيسى قال: كان محمد بن جعفر العبرتائي من عمال أبي الحسن بن الفرات وخواصه، وكان يعامل أخي أبا الحسن علي بن عيسى فيما ضمنه من طساسيج طريق الجارية في الخاصة، فاستوفى عليه استيفاءً تشدد فيه، واجتهد في إصلاح نيته وقبول مبرته بكل ما يجتهد مثله مع مثله، وأخي يمتنع ويقول: يا هذا الرجل إنما بيننا أمر هذا الضمان فإن وفيت به وخرجت منه فأنت أجل الناس عندي وأقربهم مني، وإن أقمت على أمرك في المغاورة والمدافعة فأنت أبعدهم من قلبي وأشقاهم بي. فحضر عنده في بعض الأيام وكان يوم ثلاثاء، وأخي خال من العمل؛ وجرى ذكر البلدان وما خص به كل واحد منها من الطرف والألوان، فقيل: لمصر دهن البلسان وللبصرة النخل والبساتين، ولسكسكر زكاء الأرض جودة الغلات

(1/344)


وللكوفة القسوب وللأهواز القند، ولتستر الديباج والفاكهة، ولجند يسابور الدستنبو ولنهاوند الكمثرى والزعفران، ولقطربل الشراب. وذكر محمد ابن جعفر كلواذي ووصف أُترجها وتجاوزه في القد والكبر ما في السوس منه، فقال أخي على مجاز القول: أحب أن أراه. وتقوض المجلس. فلما كان وقت المغرب حضر باب أخي رسول لمحمد بن جعفر. قال عبد الرحمن فحدثني ماهر الخدام وكان عاقلاً محصلاً قال: جاءني البواب فقال: بالباب من يطلبك. فخرجت فإذا صاحب العبرتائي قد حضر، ومعه قماطر ما رأيت أدق ولا أحسن منها، وفيها أترج قد أنفذه، ومعه رقعة إلى مولاي، ورقعة إلي يسألني إيصال القماطر ووضعها بين يدي مولاي، وإذا معه خمسون ديناراً لي على التوصل إلى القبول. فدعوت بالغلمان وأشالوها إلى حضرته، وأوصلت رقعته فقرأها وقال: إفتح. ففتحنا بعض القماطر، وأخرجنا منها أترجاً مثل المساور اللطيفة لم ير مثلها حسناً ونبلاً وكبراً. فقال بعض الخدم: فيها شيء أثقل من شيء. فقال: تأمولها. فتأملناها، وإذا فيها عشر أترجات مقورة مخيطة، فسللنا الخيوط وإذا في كل أترجة ديباج فيه ألف دينار. والجميع عشرة آلاف دينار، فتقدم بردها كما كانت، ودعا بالرسول وأمر بتسليمها إليه بحضرته، فتسلمها وقال له: قل له: لم يذهب علي ما أردته بهذا الفعل، وأنت عارف بمذهبي وستعرف خبرك. قال ماهر: فبادرت مع الرسول حتى خرج ورددت عليه الخمسين دينار. فقال: أنت قد فعلت ما يجب عليك فلم ترد

(1/345)


الدنانير وهي يسيرة في جنب استحقاقات. فقلت: ما أجسر على قبول شيء مع ما جرى. وبكر أخي إلى الديوان، وابتدأ بالنظر في أمور الأعمال التي في ضمان محمد ابن جعفر، وأخرج إليه ما ألزمه فيه عند المناظرة نحو خمسين ألف دينار.
وحدث أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي قال: حدثني أبو الحسن بن ظفر الكرخي بمصر قال: كنت أكتب لأبي علي الحسين بن أحمد المادرائي. ووافى أبو الحسن علي بن عيسى من مكة في أيام وزارة أبي القاسم عبد الله بن محمد ابن خاقان للإشراف على مصر والشام، فدخل إلى مصر وتحته حمار وعليه طيلسان. وكان المتولي للمعونة تسكين، فتلقاه وترجل له، وعظمت هيبته في النفوس جداً. وجلس ونظر. ثم ركب في بعض الأيام متفرجاً وعاد، فحين دخل من باب الدهليز ونحن مجتمعون في داره لإنتظاره صاح: اللصوص. ففزعنا كلنا خوفاً من أن يكون قد وقف لنا على خيانة. فلما استقر في مجلسه قال: يا معشر الناس اجتزت الساعة على جسر قارون وهو بزند من البزندات، وتسمى البزندات بمصر جسوراً فقدرت النفقة عليه عشرة دنانير ووجدت العمال يحتسبون عنه على السلطان ستين ألف دينار كل سنة. وكرر ذلك وأكثر التعجب منه والقول فيه، وكان أبو علي حاضراً، فلم يجبه عن كلامه، فقال: الشأن أنني أقول ما أقوله فلا تجيبني عنه يا أبا علي! فنهض وانصرف. واغتاظ أبو الحسن علي ابن عيسى من ذلك، وأطبق دواته وقال: لعن الله أمر السلطان إذا انتهي إلى هذا الحد. وقام ودخل، وانصرف الناس، ومضيت إلى أبي علي قلقاً بما شاهدته وسمعته، ووجدته قد أنفذ خادماً إلى علي بن عيسى يستأذنه في حضوره عنده على خلوة. فأذن له، ومضى وأطال، فجلست أنتظره. فلما عاد سألته عما جرى

(1/346)


فقال: دخلت إليه وقلت له: لم أترك جوابك سوء أدب عليك، ولا استهانةً بقولك، وإنما كرهت أن أعترف بحضرة الناس فأُلزم نفسي ما لا يلزمها، أو أجيبك بما حضرت الآن لذكره فيكون ما عليك فيه أكثر مما علي فيه، فامتنعت إكراماً لك وصيانة. ثم قلت: كم جاري؟ فقال: ثلاثة آلاف دينار في الشهر. فقلت: يمكنني وأنا عامل مصر أن أكون بغير كتاب ولا عمال ولا كراع ولا جمال ولا إعطاء ولا إفضال؟. قال: لا. قلت: أفلا تعلم أن لي حرماً وأولاداً وأقارب وأهلاً أحتاج لهم إلى مؤونة؟. قال: بلى. قلت: فأخلو من أن يرد علي زوار بكتبك وكتب أمثالك من الرؤساء فتقتضي المروءة أن أبرهم وأصلهم؟. قال: بلى لعمري. قلت: فهذا الجبار الذي أجاوره وفائق خادمه له ثمانون مرقداً وهو متسلط على الأمر كله يمكنني أن أقيمه على الطاعة وأمنعه إدخال اليد في الضياع إلا بمؤونة أتكلفها له وأولاده وخدمه وكتابه حتى يستقيم ما بيني وبينه؟. قال: هذا ما لا بد منه. قلت: فالخليفة والسيدة والخالة والقهرمانة ومؤنس ونصر الحاجب وكتابهم وأسبابهم يجوز أن لا أهاديهم في كل سنة؟.. قال: هذا رسم لا يمكن الإخلال به. قلت: فالوزراء إذا تقلد الواحد منهم هل يدخل داره شيء قبل ما يحمله خليفتي إليه؟ وإذا نكب فهل يؤدي من مال مصادرته شيئاً قبل ما يستدعيه مني؟ وهذا أنت أيدك الله وأنت أعف الوزراء ومن لا يعرف له نظير ألم أحمل إليك في وقت كذا وكذا وفي وقت كذا وكذا؟ وأُجر على عيالك في مدة كذا وكذا؟! فقال: أنا والله شاكر لذاك. فقلت: ما ذكرت هذا اعتداداً عليك، وإنما ذكرته لتعلم أنه يلزمني لغيرك مثله وأكثر منه. وهذا حق بيت المال في ضياعك بمصر والشام وهو بضعة عشر ألف دينار في السنة أديت منها درهماً واحداً؟. فقال: ما أدري، فقلت: هذا مال عظيم ولست أبرح أو أعلم أنه

(1/347)


قد حصل لك، أو كان أصحابك خانوك فيه حتى أرتجعه منهم للسلطان؟ فأعاد الشكر. فقلت يا سيدي فمصادرتي في كل وقت تزيد على ألف ألف دينار هل من الثلاثة الآلاف الدينار الجاري تكون؟. فقال: دع هذا يا أبا علي فإن كبار الرجال يغضي لهم السلطان عن كثير الأموال. وما سمعناه بعد ذلك أعاد في شيء من أمور أعمالنا قولاً.
وحدث أبو محمد الصلحي قال: حدثني بعض أصحابنا قال: قال لي أبو القاسم الخاقاني في وزارته: أشرت على المقتدر بالله بتقليد أبي الحسن علي ابن عيسى الإشراف على مصر والشام، فرأيته متكرهاً لذاك ثم قال: افعل ما ترى. فأقبلت أصفه بالموالاة والثقة لأعرف ما عنده في أمره على حقيقة، فقال: هو كما تصف ولكن أحفظني عليه أن سمته تقلد وزارتي في أيام حامد ابن العباس فامتنع، وثقل علي امتناعه، وشاورته فيمن يراه لهذا الأمر فقال: أبو عمر محمد بن يوسف القاضي. فعلمت أنه غشني ولم ينصح لي. فقلت: وما لمحمد ابن يوسف يا أمير المؤمنين؟ فقال: لعمري إنه عالم ثقة إلا أنني لو فعلت ذاك لافتضحت عند ملوك الإسلام والكفر، لأنني كنت بين أمرين إما أن تتصور مملكتي بأنها خالية من كاتب يصلح للوزارة فيصغر الأمر في نفوسهم، أو أنني عدلت عن الوزراء إلى أصحاب الطيالس، فأُنسب إلى سوء الاختيار.
وحدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي قال: حدثنا أبو طاهر المحسن ابن محمد بن الحسن الجوهري المعروف بالمقنعي أحد الشهود قال: حدثني أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى أنه كان يرتفع لأبيه من ضياعه في كل سنة عند الاعتزال والعطلة بعد ما يتصرف في النفقة ثلاثون ألف دينار. ويرتفع من ضياع

(1/348)


أبي الحسن علي بن محمد ابن الفرات إذا قبضت عنه ألف ألف دينار، وإذا وزر وردت عليه أُضعفت.
قال القاضي: واتفق أن حضر هذا الحديث منه أبو الحسن أحمد بن يوسف ابن الأزرق الأنباري فقال: حدثني جماعة من أصحاب أبي الحسن علي بن عيسى أن جميع ما كان يرتفع له في السنة نيف وثمانون ألف دينار يخرج منها في أبواب البر وسبل الخير وتفقد الطالبيين والعباسيين والأنصار وأولاد المهاجرين ومصالح الحرمين نيف وأربعون ألف دينار، ويبقى الباقي لنفقاته. وأنه كان يسمع الكتاب يقولون في ضياع أبي الحسن بن الفرات: إنها ترتفع في وزارته بألف ألف دينار وعند القبض عليه ودخول يد العمال فيها بثمانمائة ألف دينار وأقل وأكثر.
وحكى أبو الحسن ثابت بن سنان قال: قال لي أبو الحسن علي بن عيسى يوماً، وهو متعطل في أيام الراضي بالله في عرض حديث كان يجارينيه بعد إقرائي العمل الذي عمله في سنة ست وثلاثمائة لارتفاع الدنيا ونفقاتها: قال لي ابن الفرات يوماً وقد أُخرجت إليه من دار السلطان بعد صرفه إياي: أبطلت الرسوم وهدمت الارتفاع. فقلت: أي رسم أبطلت وارتفاع هدمت، قال: المكس بمكة فقلت له: قد أزلت هذه وأشياء كثيرة، منها ومنها وعددت الأبواب التي رفعتها وكان مال ذلك في السنة خمسمائة ألف دينار فلم أستكثرها مع ما حططته عن أمير المؤمنين من الأوزار بها، وغسلته من الأدران عن دولته فيها. ولكن انظر ما حططت وأبطلت إلى ارتفاعي وارتفاعك ونفقاتي ونفقاتك.

(1/349)


قلت: فبأي شيء أجاب. قال: خرج الخادم ففرق بيننا قبل أن يجيب.
وحدث أبو عمر أحمد بن محمد بن الحسين البصري قال: لما توفي القاضي أبو الحسن بن أبي عمر ركب أبو الحسن علي بن عيسى إلى أبي نصر وأبي محمد ابنيه يعزيهما به. فلما نهض منصرفاً قال: مصيبة وجب أجرها خير من نعمةً لا يؤدى شكرها.
وحدث أبو الحسن أحمد بن يوسف بن الأزرق الأنباري قال: كان أبو عيسى أخو أبي صخرة جاراً لنا ببغداد، وكان عظيم الحال، كثير المال، كامل الجاه، معدوداً في شيوخ الكتاب، وقد تقلد كبار الأعمال، وخلف إسماعيل ابن بلبل على الوزارة فلما وزر أبو علي محمد بن عبيد الله الخاقاني قلده ديوان السواد، ثم صرف أبو علي وورد أبو الحسن علي بن عيسى من مكة وزيراً. فلم يره أهلاً لهذا الديوان لنقصان صناعته، وكان يغض منه إذا حضر في مجلسه، ولا يوفيه ما يقتضيه عمله، وإذا أراد عملاً أو خراجاً أو حساباً استدعاه من كتابه وواقفهم وخاطبهم عليه بمشهد منه فلا يترك له هذا الفعل جاهاً. ثم إن عرض عمل يعلم أن كتابة أبي عيسى لا تنهض به وقوله لا يعبر عن غرضه فيه خاطبه عليه على رؤوس الأشهاد ليتبين له نقصه وعجزه، فطال ذلك على أبي عيسى وزاد احتماله له فجلس عنده يوماً إلى أن تقوض مجلسه ولم يبق فيه غيره وغير إبراهيم بن عيسى أخي أبي الحسن، فقال له أبو الحسن ألك حاجة؟ قال: نعم، إذا خلا مجلس الوزير ذكرتها.
فأُخبرت عن إبراهيم أنه قال: فلما سمعت قوله نهضت وانصرفت وعدت من غد إلى مجلس أخي فوجدت أبا عيسى متصدراً فيه بأمر ونهي وتبسط وعمل، وخطاب الوزير معه دون الكتاب، وقد انتقل من الثرى إلى الثريا، فدعتني نفسي

(1/350)


إلى مسألة الوزير عن أمره حتى إذا خلا قال: تقول يا بني شيئاً؟. قلت: أسأل عن فضول. قال: إن كان فضولاً فلا تسل عنه. قلت: لا بد. قال: فقل. قلت: خلا بك أبو عيسى أمس لما لم أعرفه. ثم رأيتك اليوم مقبلاً عليه ومعاملاً له بضد ما كنت تعامله به، فما سبب ذلك؟ قال: نعم، إنه خاطبني خطاباً عظم في نفسي به، وعلمت صدقه فيه فرجعت له. قال: وقد خلا بي، أنا أيد الله الوزير رجل من شيوخ الكتاب، أعرف قدر صناعتي في الكتابة، وإنني في جملة المتأخرين عن الغاية، وما يخفى علي سوء رأي الوزير في واعتماده الغض مني، وطلب فضيحتي بالرجوع إلى الكتاب في أمور ديواني وقصدي بمعضلات الأمور إبانةً لعجزي وقصوري. ويجب أن يعلم أيده الله أن باطن حالي ومالي أوفر من ظاهرها على كثرته ووفوره، وما أتصرف طلباً لفائدة، ولا حاجةً إلى مكسب، وإنما أريد قيام الجاه ونفوذ الأمر، وقد عشت طول ما مضى من عمري مستوراً في أمري مقدماً عند السلطان على كثير من نظرائي، وخلفت إسماعيل بن بلبل على الوزارة، وتقلدت كبار الأعمال واحداً بعد آخر، وسلمت على الوزراء وسلموا علي، وقد نمكن في النفوس من موضعي ومنزلتي ما لا يخرج منها، ولا يمكن أحداً إزالته عنها. وأنا بين أمور مما لحقتني الغضاضة به، إما أن توصلت إلى إزالته بما يثقل على الوزير فيزداد سوء رأيه؛ أو استعفيت ولزمت منزلي فلم أكن خاملاً؛ وجعلت نفسي حينئذ بحيث أختاره من الكون في أولياء الوزير أو أعدائه، أو عاد إلى الأولى به ووفاني حقوق ما قلدنيه. فقلت له: ليس ترى بعد ذلك يا أبا عيسى شيئاً تنكره، وسأرجع في معاملتك إلى أفضل ما تؤثره. وبكر إلي ليمتحن وعدي ويختبر ما عندي، فكان ما رأيت.
وحدث القاضي أبو علي التنوخي عن أبيه وأبي الحسين بن عياش قالا: كان

(1/351)


أبو الحسن علي بن عيسى يجعل في كل باب من ورائه مستورةً ويسبل عليها ستراً طويلاً يغطيها، فإذا جلس في أُخريات النهار مجلساً حافلاً ألصق بها ظهره من وراء الستر لئلا يشاهد مستنداً، تمسكاً بالوقار. وقيل: إنه ما رئي قط متبذلاً في مجلسه، ولا متخففاً في ملبسه، ولا فارق الدراعة إلا والقميص من دونها، والمبطنة من دونه ولا الخف في أكثر أوقاته إلا إذا أوى إلى فراشه أو قعد مع حرمه. وقد فعل أبو الحسن علي ابن عيسى مع أبي علي بن مقلة مشبهاً بما فعله مع أبي عيسى أخي أبي صخرة، وذلك أنه بلغه عمل المقتدر بالله على صرفه بأبي علي وكان متقلداً له إذ ذاك على عدة دواوين فاستدعاه وطالبه بأعمال يعملها له، فوعده بها. وحضر مجلسه بعد أيام فاعتمد الغض منه بأن قال له على ملاء من الناس: كنت التمست منك أعمالاً فأخرتها، فإن كنت عاجزاً عنها وغير ناهض بها فاصدق عن نفسك. فقال أبو علي: قد أحضرتها وها هي. ووضعها بين يديه وأخذ يقرؤها ويواقفه على غلط بعد غلط فيها، ويقبل على مشايخ الكتاب فيعجبهم من ضعف صناعته وقلة بصيرته، وحتى قال له في بعض القول: هذه حياكة لا كتابة. وضرب على عمل، بعد عمل ورسم في تضاعيفه ما يجب أن يبنى عليه نظمه وترتيبه، والكتاب الحاضرون يثنون عليه بحسن الكفاية، ويغمزون على أبي علي بضعف المعرفة. ثم رمى بها إليه وقال له: قم فاعملها على هذا المثال وحررها وجئني بها، فقام يجر رجليه. فلما ولى قال أبو الحسن: إن أمراً عجز عنه ابن الفرات ونحن فيه مرتبكون، ويدعي هذا القيام به لأمر عجيب، فما مضى على هذا المجلس أربعة أو خمسة أيام حتى قبض على أبي الحسن علي بن عيسى

(1/352)


وسلم إلى أبي علي بن مقلة. فأراد الغض من علي بن عيسى بأمر يظهره وشيء يقدح فيه به، فلم يستطع ذلك، ولا قدر على أكثر من تلقيه بالقبيح، ومعاملته بالمكروه الفظيع. فحدث أبو أحمد الفضل ابن عبد الرحمن بن جعفر قال: كنت بحضرة أبي علي بن مقلة في وزارته، وقد دخل إليه علي بن عيسى، فجلس بين يديه. وكان أبو عبد الله الموسوي العلوي وأبو علي الحسن بن هارون حاضرين، فقال أبو علي بن مقلة للحسن بن هارون: اكتب رقعةً عن أبي عبد الله يشكو فيها إخلال ضيعته وقصور مراده منها وفائدته. ومثل له إيجاب مظلمة وإطلاق معونة. فكتبها الحسن وعرضها فوقع على ظهرها بإخراج الحال، وأنفذ التوقيع إلى الكاتب. فأخرج ما صدق فيه دعوى أبي عبد الله، ووقع أبو علي تحت ذلك بأن يطلق له عشرون كراً حنطة وعشرون كراً شعيراً معونةً، ويحتسب له بكذا منسوباً إلى المظلمة. فاستحسن الحاضرون فعله وما تكرم به على رجل علوي، وأخذ أبو الحسن علي بن عيسى يشكره. فقال له مجيباً. فلم لم تفعل مثل هذا يا أبا الحسن في وزارتك؟ فنهض أبو الحسن وقال: أستودع الله الوزير. وانصرف. وقيل: إن أبا عمر دخل إلى أبي الحسن علي بن عيسى يوماً وعليه قميص دبيقي شقيري مرتفع الثمن جداً، فأراد أبو الحسن أن يخجله فقال له: بكم اشتريت أيها القاضي شقة هذا القميص؟ قال: بمائة دينار. فقال أبو الحسن: ولكنه اشتريت لي شقة هذه الدراعة والقميص الذي تحتها بعشرين ديناراً. فقال له أبو عمر

(1/353)


مسرعاً: الوزير أعزه الله يجمل الثياب فلا يحتاج إلى المبالغة فيها، ويخدمه الخواص الذين يعلمون أنه يدع الكثير عن قدرة، ونحن نتجمل بالثياب ونغالي فيها، ونلاقي العوام الذين يساسون بما يروق عيونهم من جلالتها، وتقام الهيبة بما يكبر في صدورهم من فخامتها. فكأنما ألقم أبا الحسن حجراً فما، أعاد عليه قولاً ولا رد جواباً.
وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو بكر محمد بن عبد الرحمن ابن قريعة قال: حدثني مكرم بن بكر بن عمر أبو يحيى بن مكرم القاضي قال: كنت أختص بأبي الحسن علي بن عيسى وربما شاورني في أموره. فدخلت له يوماً فرأيته، مهموماً فقدرت أنه بلغه عن المقتدر بالله ما يشغل قلبه فاقتضى تقسمه فقلت: أرى الوزير؟ أيده الله مفكراً، فهل حدث شيء؟ وأومأت إلى جهة الخليفة. فقال: ليس ما أنا مغموم به من ذلك الجنس، بل لما هو أعظم في نفسي منه. فقلت: إن جاز أن يعرفنيه الوزير فليفعل، فلعله يجد عندي فيه رأياً أو قولاً. قال: نعم. كتب إلي عاملنا بالثغر بأن أسارى المسلمين كانوا في بلد الروم على حال رفاهة وصيانة إلى أن ولى ملك الروم آنفاً حدثان منهم، فعسفا وعاقباهم وأجاعاهم وأعرياهم، وطالباهم بالتنصر، وأنهم في بلاء وجهد، وهذا أمر لا حيلة فيه، ولا مقدرة على دفع ما أظل هؤلاء المساكين، ولو ساعدني الخليفة على إنفاق الأموال وتجهيز الجيوش إلى هؤلاء الكفار لفعلت في ذلك غاية ما أوجبه الله علينا من بذل الوسع والإمكان. فقلت: عندي أيها الوزير رأي في هذا الأمر ربما نفع وكان أسهل مما تحسب وتقدر. قال: قل يا مبارك. قلت: بأنطاكيه عظيم للنصارى يدعى البطرك

(1/354)


وببيت المقدس آخر يقال له الجاثليق، وأمرهما ينفذ على ملك الروم، لأن أمورهم لا تتم إلا بهما، والطاعة لا تلزم جمهور رعيتهم إلا بقولهما، وربما حرما الواحد منهم فيحرم عندهم. والرجلان في ذمتنا وتحت سلطاننا، فيأمر الوزير بمكاتبة عاملي البلدين بإحضارهما وإعلامهما ما يجري على الأسارى في بلد الروم وأنه مما لم تجر به عادة، ومتى لم يزل ذلك عنهم وتستأنف حسن المعاملة معهم طولبا بجريرة ما يفعل هناك، وسلك في معاملة النصارى مثل ذلك، وننظر ما يكون الجواب. فاستدعي في الحال كاتباً وأملى عليه كتاباً في هذا المعنى وكيدةً، وأنفذها وقال لي: سريت عني قليلاً، وخففت عن قلبي شغلاً. فلما كان بعد شهرين وأيام وقد أُنسيت الحديث جاءني فرانق من بابه يستدعيني. فركبت وأنا متشوق إلى معرفة ما يريدني له، فدخلت وهو مسرور، ووجهه مسفر، فحين رآني قال لي: أحسن الله جزاءك عن نفسك ودينك وعني. فقلت: ما الخبر؟ قال: كان رأيك في أمر الأسارى ببلد الروم أصوب رأي وأصحه، وهذا رسول العامل وأومأ إلى رجل بحضرته قد ورد لذكر ما جرى في بابهم. وقال له علي بن عيسى: عرفنا الصورة. فقال الرجل: أنفذني العامل مع رسول البطرك والقاثليق الذي أنفذاه إلى قسطنطينية، وكتبا على يده إلى ملكي الروم: بأنكما قد فعلتما بأسارى المسلمين عند كما ما هو محرم عليكما ومخالف لوصية المسيح عليه السلام في أمثالهم، وأمره فيمن جرى مجراهم. فإما زلتما عن هذه

(1/355)


الطريقة وعدلتما عنها إلى ما تقتضيه السنة المأثورة وأحسنتما إلى من في أيديكما، وتركتماهم على أديانهم، ولم تكرهاهم على خلاف آرائهم، وإلا لعنا كما وتبرأنا منكما وحرمناكما. فلما وصلنا إلى القسطنطينية أوصل رسول البطرك والقاثليق إلى الملكين وحجبت وخلوا به ووقفا على ما ورد معه، وتركانا أياماً ثم أحضراني إليهما، فسلمت عليهما وقال لي ترجمانهما: الملكان يقولان: الذي أُدي إلى ملك العرب من فعلنا بأسارى المسلمين كذب وشناعة، وقد أذنا في دخولك دار البلاط لتشاهدهم وتسمع شكرهم وتعلم استحالة ما ذكر لكم في أمرهم. وحملت إلى دار البلاط فرأيتهم كأنهم خارجون من القبور، وقائمون إلى النشور، ووجوههم دالة على ما كانوا فيه من الضر والعذاب، إلا أنهم في حال صيانة مستأنفة، ورفاهة مستجدة، وتأملت ثيابهم فكانت جدداً كلها، فتبينت أنني أخرت ذلك التأخير حتى غير أمرهم وجدد زيهم، وقالوا لي: نحن شاكرون للملكين فعل الله لهما وصنع مع إيمائهم إلي بأن حالهم كانت على ما تأدى إلينا، وإنما خفف عنهم وأحسن إليهم بعد حصولي هناك. وقالوا لي في عرض قولهم: كيف عرفت صورتنا؟ ومن تنبه على مراعاتنا حتى أنفذك من أجلنا؟ فقلت: ولي الوزارة الوزير أبو الحسن علي ابن عيسى وبلغه خبركم، فأنفذ وفعل كذا وكذا. فضجوا بالدعاء له، وسمعت امرأة منهم تقول: قر يا علي بن عيسى، لا نسي الله لك هذا الفعل. قال أبو يحيى بن مكرم: فلما سمع الوزير ذلك بكى بكاء شديداً، ثم سجد لله تعالى شاكراً وحامداً، وبر الرسول وصرفه. وقلت لعلي بن عيسى: أسمعك
أيها الوزير تتبرم بالوزارة في خلواتك، وترغب في الانصراف عنها تحرجاً من آثامها، فلو كنت معتزلاً لها ومتخلياً منها هل كنت تقدر على مثل هذه الحال الجامعة لجمال الدنيا وثواب الآخرة وطيب السمعة وحسن العاقبة؟ أيها الوزير تتبرم بالوزارة في خلواتك، وترغب في الانصراف عنها تحرجاً من آثامها، فلو كنت معتزلاً

(1/356)


لها ومتخلياً منها هل كنت تقدر على مثل هذه الحال الجامعة لجمال الدنيا وثواب الآخرة وطيب السمعة وحسن العاقبة؟ وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني الفضل بن أحمد الحياني قال: قال لي أبو بكر الشافعي صاحب أبي الحسن علي بن عيسى: كان المحسن بن علي ابن محمد بن الفرات قبض علي في نكبة أبي الحسن علي بن عيسى، وصادرني وأوقع بي مكروهاً، وجعل التأول على اختلاطي بأبي الحسن وصحبتي إياه. فلما أُخرجنا من المحنة، وعاد أبو الحسن إلى الوزارة، طلبت الانتفاع بأمور أُخاطب فيها، وأُخلف بعض المصادرة منها، فتصديت لأخذ الرقاع بالحوائج، وعرضها على أبي الحسن. فاتفق أن عرضت عليه في بعض الأيام شيئاً استكثره وضجر علي به، فقلت: أيها الوزير إذا كان حظنا من أعدائك في أيام نكبتك الصفع، ومنك في أيام ولايتك المنع، فمتى ليت شعري يكون النفع؟ فضحك ووقع لي في جميع الرقاع، وما استثقل شيئاً رفعته إليه بعد ذلك.
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو السري عمر بن محمد القارئ قال: حدثني أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى قال: قال لي أبي: عرض علي أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي في بعض أيام وزارتي رقعةً التمس فيها محالاً، وقبل يدي، وتركتها من يدي مفكراً فيما أفعله مما أبلغ به غرضه ولا يلحقني عيب فيه. وعرض لي رأي في الركوب، فنهضت، فلما رأى ذلك قبض على يدي وقال: أنا نفي من العباس إن تركت الوزير يركب إلا بعد أن يوقع في رقعتي أو يقبل يدي كما قبلت يده. فوقعت له قائماً بما أراد، وعجبت من سوء أدبه وشدة وقاحته.
قال القاضي أبو علي: وشاهدت أنا أبا بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز هذا

(1/357)


في سنة خمسين وثلاثمائة، وقد تقلبت به الأيام وبأهل بيته، وهو بحضرة أبي محمد المهلبي، وقد كان العيارون ثاروا بمدينة السلام وأوقعوا فتناً عظيمة، أصلها أن عربد رجل عباسي على رجل علوي في خندق طاهر وهما على نبيذ، فقتل العلوي، ونفر أهله واستغاثوا لأجله، ودخل العامة بين الفريقين، وشرفت القصة إلى ما احتيج معه إلى إقامة الديلم في الأرباع وترتيبهم في كثير من الأصقاع، وحتى أغلق العباسيون باب المسجد الجامع بالمدينة، ومنعوا من صلاة الجمعة، وزادوا في إشعال النائرة. ودبر أبو محمد الأمر بأن قبض على جماعة من وجوه العباسيين وكثير من المستورين والعيارين، وأدخل فيهم عدة قضاة وشهود وصلحاء عباسيين، وكان منهم أبو بكر بن عبد العزيز. ثم جلس لهم وأحضرهم وناظرهم، وسامهم أن يسموا له العيارين وحملة السكاكين ليقتصر على أخذهم، ويفرج عن الباقين، وأن يضمن أهل الصلاح منهم أهل الريبة، ويأخذوا على أيديهم أخذاً يحسم به مواد الفتنة. فأخذ القاضي أبو الحسن محمد بن صلح الهاشمي يقول قولاً سديداً لطيفاً في دفع ذلك واستعطاف أبي محمد المهلبي وترقيقه، والرفق به وتسكينه، واعترض أبو بكر بن عبد العزيز الخطاب، وقال قولاً فيه بعض الجفاء والغلظة. فقال له أبو محمد: يا ماض كذا وكذا، ما تدع جهلك وتبسطك، ولا تخرج هذه الخيوط من رأسك، كأني لا أعرفك قديماً وحديثاً أعرف حمقك وحمق أبيك وتدرعك في مجالس الوزراء وإيثارك أن تقول: قال الوزير وقلت. ولعلك تقدر أن المقتدر بالله على السرير، وأنني أحد وزرائه، ليس ذاك كذلك، السلطان اليوم الأمير معز الدولة الذي يرى سفك دمك قربة إلى الله تعالى وينزلك منزلة

(1/358)


الكلب. يا غلمان برجله. فجر برجله ونحن حاضرون. فقال القاضي: فلقد رأيت قلنسوة كانت على رأسه وقد سقطت. ثم قال: طبقوا عليه زورقاً وانفوه إلى عمان. فقبلت الجماعة يده وسألته الصفح عنه، وراسله المطيع لله رحمه الله عليه في أمره مراسلات ترددت إلى أن تركه وألزمه بيته. وأخذ خطوط العباسيين بجميع ما كان سامهم إياه وامتنعوا منه، وقبض من بعد على جماعة كثيرة من أحداث العباسيين وأهل العيارة والدعارة منهم ومن العامة، وجعلهم في زواريق مطبقة مسمرة، وأنفذهم إلى بيروذ وبصني، وحبسهم هناك في دور بقيتهم بعد وفاة أبي محمد المهلبي بسنين، وزالت الفتن في تلك الأيام.
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش القاضي قال: كانت عادة أبي الحسن بن الفرات في كلامه أن يقول للإنسان: بارك الله عليك. ومن عادة أبي الحسن علي بن عيسى أن يقول: والك أو واك فكان الناس يقولون: لو لم يكن من الفرق بين الرجلين إلا حسن اللقاء وصرف ما بين القولين.
وحكي أبو محمد الصلحي قال: لما صرف الراضي بالله أبا علي عبد الرحمن ابن عيسى عن وزارته ونكبه ونكب أبا الحسن علي بن عيسى وصادر أبا الحسن على ألف ألف درهم وعبد الرحمن على ثلاثة آلاف دينار وكان ذلك طريقاً وحصل أبو الحسن معتقلاً في دار الخلافة، وخاف أبو الحسن أن يكون في نفس

(1/359)


الراضي بالله عليه ما يريد معه قتله، فراسلني يقول: هذا أبو محمد وكان إذ ذاك كاتب أبي بكر بن رائق يسألني خطاب الراضي بالله عن صاحبي في نقله إلى دار وزيره إلى أن يؤدي ما قرر عليه أمره. قال: فجئت إلى الراضي بالله وقلت له: يا أمير المؤمنين، علي بن عيسى خادمك وخادم آبائك، ومن قد عرفت محله من الصناعة، وموقعه من جمال المملكة، ومن حاله وأمره كذا وكذا. فقال: هو كذلك، ولكن له عندي ذنوب. وأخذ يعدد ذنوب عبد الرحمن: فقلت له: يا مولانا، وأي درك يلزمه فيما قصر فيه أخوه؟ قال: سبحان الله، وهل دبر عبد الرحمن إلا برأيه وأمضى شيئاً أو وقفه إلا عن أمره أو أمري إياه بألا يحل ولا يعقد إلا بموافقته؟ وأقبلت أعتذر له وأجعل بإزاء كل ذنب حجة. قال: دع ذا، ما خاطبني قط إلا قال واك فهل يتلقى الخلفاء بمثل ذاك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إن هذا طبع له قد ألف منه وحفظ عليه، وعيب به في أيام خدمته للمقتدر بالله رحمة الله عليه وما استطاع أن يفارقه مع شبه عليه وتعوده إياه. فقال: أعمل على أنه خلق، أما كان يمكنه أن يغيره مع ما وصفته من فضله وعقله، أو يتحفظ معي خاصة فيه مع قلة اجتماعي معه ومخاطبتي إياه؟ وما يفعل ما يفعله إلا عن تهاون وقلة مبالاة. فقبلت الأرض مراراً بين يديه وقلت: الله الله أن يتصور مولانا ذلك فيه، وإنما هو عن سوء توفيق، والعفو من أمير المؤمنين مطلوب. ولم أزل إلى أن أمر بنقله إلى دار وزيره، ونقل وصحح ما أُخذ به خطه، وصرف إلى منزله. وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني جماعة من أهل الحضرة أن رجلاً

(1/360)


عطاراً مشهوراً بالستر والصيانة ركبه دين، فقام عن دكانه ولزم منزله، وأقبل على الصلاة والدعاء عدة ليال، فبينما هو قد صلى ذات ليلة ودعا، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول له: امض إلى علي بن عيسى الوزير، فقد أمرته بأن يدفع إليك أربعمائة دينار تصلح حالك بها. قال العطار: وكان علي ستمائة دينار ديناً، وأصبحت فقلت: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي فلم لا أمضي إلى الوزير وأعرف ما عنده؟ قال: فمضيت، فلما وقفت على بابه منعت الوصول وجلست إلى أن ضاق صدري، وهممت بالانصراف، فأنا على ذاك إذ خرج الشافعي صاحبه وكان يعرفني معرفةً قريبة فقمت إليه وعرفته خبري فقال: يا هذا إن الوزير يطلبك منذ السحر، وإلى الآن قد سأل عنك كل واحد، والرسل مبثوثة في التماسك، فكن بمكانك. قال: ودخل، فما كان بأسرع من أن دعي بي، فدخلت إلى الوزير أبي الحسن، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: فلان بن فلان العطار. قال: من أهل الكرخ؟ قلت: نعم، قال: أحسن الله يا هذا جزاؤك في قصدك إياي، فوالله ما تهنأت عيشاً منذ البارحة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي في منامي: أعط فلان بن فلان العطار بالكرخ أربعمائة دينار يصلح بها شأنه. فكنت اليوم منذ الغداة وإلى هذه الغاية أسأل عنك، وما عرفنيك أحد. يا غلام هات ألف دينار. فجيء به عيناً، فقال: خذ منه أربعمائة دينار امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والستمائة الباقية هدية مني إليك. فقلت: أيها الوزير ما أحب أن أزداد شيئاً من عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أرجو البركة فيه. فبكى وقال: ما أحسن هذا اليقين؛ خذ ما بدا لك. فأخذت

(1/361)


أربعمائة دينار وانصرفت، وقصصت قصتي على صديق لي، ورجيته الدنانير وكلفته أن يخبر غرمائي بأمري، ويتوسط ما بنيهم وبيني. ففعل، وبذلوا له تأخيري بما لهم ثلاث سنين، فقلت: لا بل يأخذون مني الثلث وينظروني بالباقي. ففرقت عليهم مائتي دينار وفتحت دكاني وأدرته بالمائتين الباقية معي، فما حال الحول إلا وقد بلغ مالي ألف دينار، فوفيت غرمائي ما بقي لهم، وما زالت حالي تنمو ومالي يزيد ولله الحمد.
وكان الحنابلة بنوا مسجداً، وجعلوه طريقاً إلى المشاغبة والفتنة، فتظلم إلى أبي الحسن علي بن عيسى من أمره، فوقع على ظهر القصة: أحق بناء بهدم، وتعفية رسم، بناء أُسس على غير تقوى من الله. فليلحق بقواعده إن شاء الله.
وكان أبو الحسن بن نيداد يتقلد كور الأهواز، فتربص بأُزر من ارتفاع الناحية، فوقعت فيه النار واحترق، فكتب إلى علي بن عيسى كتاباً أقام به عذره، وسجع في كتابة سجعاً زاد فيه، فوقع علي بن عيسى على ظهر الكتاب: أنت يا أبا الحسن تكتب فتجيد، والاسم الحميد خير من الكلام السديد، ضيعت علينا أرزاً حصلته، وعولت بنا على كلام ألفته، وخطاب سجعته، أوجب صرفك عما توليته، والسلام. فقال أبو الحسن بن نيداد: ما صرفني غير السجع. وكتب إليه. وصل كتاب سيدنا الوزير أطال الله بقاءه مشتملاً على وصف وصرف. فأما الوصف فهو منه أدام الله تأييده مع محله من الصناعة نهاية الفخر والسعادة. وأما الصرف عن الاعتذار، بما جرى به المقدار، فما جزاء من اعتذار من حال لأدرك عليه فيها أن يصرف عن ولاية لا جناية منه عليها، والاعتذار بلفظ الصواب، أولى من الاحتجاج بسوء الخطاب.

(1/362)


فوقع علي بن عيسى عن جوابه: قد أدته البلاغة إلى الإرادة، فليكتب بإقراره على العمل، وإسعافه بالأمل، إن شاء الله. وورد الحضرة قوم من أهل ديار ربيعة يتظلمون من حيف لحقهم في معاملاتهم، فكتب على أيديهم إلى المحسن بن محمد بن عينونة العامل هناك كتاباً نسخته. بسم الله الرحمن الرحيم. في علمك أكرمك الله بما أمر الله به من العدل والإحسان، ونهى عنه من الجور والعدوان، وعاقب به الظالمين في سالف الأزمان، غني لك عن التنبيه والتوقيف، والوعظ والتخويف: وفيما رسمته لك مشافهة ومكاتبة في إنكار الظلم وإزالته، وإظهار العدل وإفاضته، كفاية وبلاغ. وقد ورد الحضرة أكرمك الله جماعة من وجوه التناء والمزارعين بديار ربيعة متظلمين مما عوملوا به في سني إحدى واثنتين وثلاث عشرة وثلاثمائة، من إكراههم على تضمن غلات بيادرهم بالحزر والتقدير وإلزامه حق الأعشار في ضياعهم على التربيع، واستخراج الخراج منهم على أوفر عبر قبل إدراك غلاتهم وثمارهم، وإكراه وجوههم وتجارهم على ابتياع الغلات السلطانية بأسعار مسرفة مجحفة. فأقلقني ما أفاضوا فيه من الشكوى، وآلمني ما انتهى إلي وصفه من عظيم البلوى، ووجدته مع قبيح ذكره وعظيم وزره عائداً بخراب الضياع، ونقصان الارتفاع. فينبغي أكرمك الله أن تجري سائر رعيتك على المعاملات القديمة، وتحملهم على الرسوم السليمة، حتى يعودوا إلى أفضل حال عهدوها، وأجمل سيرة حمدوها، وتزيل السنن الجائرة وتبطلها، وتقطع أسبابها وتحسمها، وتكتب إلي بما يكون منك في ذلك فإنني على اهتمام به، ومراعاة له، إن شاء الله.

(1/363)


وكتب إلى عبد الله بن علي الجرجرائي عامل الصلح والمبارك.
وصل كتابك أكرمك الله جواباً عن الكتب النافذة إليك فيما تظلم منك فيه جماعة من الرعية، وواصلوه من الشكية، بما دللت عليه من بطلان أقوالهم، وشدة أطماعهم، وحكيت من وجوبه عليهم بالحجج الواضحة، والشواهد اللائحة، وفهمته. فأما ما وصفته من استعمالك الحق في قولك وفعلك، وحلك وعقدك، فانظر أي دعوى أدعيتها لنفسك، وماذا تحتج به غداً عند ربك. واعلم أن أقبح الناس في الدنيا ذكراً، وأعظمهم عند الله وزراً، من وصف عدلاً وأتى جوراً، وأحسن قولاً وأساء فعلاً. وأما ما ذكرت أن هؤلاء المتظلمين أوقعوا فيه المغابنة، وابتاعوه من أراضي المزارعات مصابرة، فارتجعته منهم لتبيعه بالثمن الوافر، والنقد الحاضر، فقد عدلت في أمرهم عن طريق الحكم، ألى أشنع جهات الظلم. ولو بانت دعواك وظهرت، وقامت البينة عليها ووضحت، لما جاز أن تمنعهم عما ملكوه، ولا تحول بينهم وبين ما ابتاعوه، إلا بعد أن يختاروا فسخ البيع ويرضوه، ويؤثروه ولا يأبوه، وترد عليهم من الثمن ما وزنوه، وتدفع فيما بينك وبينهم بنظر محمد بن محمد ابن حمدون ووساطته، ولا تعدل عن قبول رأيه ومشورته. وأما ما أنفذته من العمل لبقايا سنة ثمان وثلاثمائة وما قبلها وبينت أن معظمه على الطائفة المتظلمة منك، فقد وقفت عليه، وأحوال هذه البقايا مختلف، والحكم فيها واضح منكشف، وسبيل ما كان منها على الجهابذة والبلدية، وسكان المستغلات السلطانية، أن تستخرجه في أسرع الأوقات، وتستوفيه على تصرف الحالات. وما نقاه المحملون وأصحاب المناثر

(1/364)


عن نقائض قناب الحاصل، ووصفوا أن تصحيحه واجب على أرباب البيادر، فسبيلك أن تجريه مجرى أسلاف البذور التي تستنظفها، مع التوثق منها بعد شهور. وما بقي من الأسماء المجهولة ولا أشك أنه من خراج نخل وخضر في أقرحة معروفة فيجب أن تطالب مزارعي تلك الأقرحة حتى يصححوه، أو يكشفوا حاله ويوضحوه، فاعمل في ذلك بما رسمته، ولا تتجاوز ما حددته، إن شاء الله. وأما ما ذكرت أن ابن المرف الذراع أشار عليك بإيقاع المساحة عليه من حريم الأنهار، المحفوف بالنخل والأشجار، لتطالب بابتياعه، من تجده قد فاز بارتفاعه، فقد غشك هذا الذراع في مشورته، ودلك على سوء سريرته. وجميع نواحي واسط أصلحك الله من السواد المفتتح عنوة، وليس يملكه السلطان أعزه الله فيباع، لأنه فيء للمسلمين يقوم مقام الوقف على جميعهم، وإنما تبايع أهليه فيه يجري مجرى السكني لأجل ما أدوه ويؤدونه من الخراج وهو الكراء، ومن غرس في هذا الحريم نخلاً أو شجراً، أو زرعه غلةً أو خضراً، فقد نفع سلطانه أعزه الله وانتفع، وثمر ماله بما صنع. فاحذر أن يخطر هذا الباب ببالك، أو يجري ذكره على لسانك، وارجع عما يعزب عنك فهمه ويشكل عليك حكمه إلى الفقهاء، لتسلم من سمه المسبة، وتأمن سوء المغبة، إن شاء الله.
وحدث أبو الحسن علي بن هشام قال: أقرأني أبو عبد الله أحمد بن محمد الحليمي كتاباً بخط أبي الحسن علي بن عيسى ذكر أنه كتبه إليه في وزارته الأخيرة وهو يتقلد طساسيج طريق خراسان، يحثه فيه على حمل المال وكانت نسخته:

(1/365)


قد كنت أكرمك الله عندي بعيداً من التقصير، غنياً عن التنبيه والتبصير راغباً فيما خصك بالجمال، وقدمك على نظرائك من العمال، واتصلت بك ثقتي، وانصرفت نحوك عنايتي، ورددت الجميل من العمل إليك، واعتمدت في المهم عليك. ثم وضح عندي من أثرك، وصح عندي من خبرك، ما اقتضى استزادتك، وردفه ما استدعى استبطاءك ولائمتك، وأنت تعرف صورة الحال، وتطلعي مع شدة الضرورة إلى ورود المال. وكان يجب أن تبعثك العناية، على الجد في الجباية، حتى ترد حمولك، ويتوصل ما نتوقع وروده من جهتك. ونشدتك بالله لما تجنبت مذاهب الإغفال والإهمال، وقرنت الجواب على كتابي هذا بمال تميزه من سائر جهاته وتحصله، وتبادر به وتحمله، فإن العين إليه ممدودة، والساعات لوروده معدودة، والعذر في تأخره ضيق، وأنا عليك من سوء العاقبة مشفق، والسلام.
وحدث أبو الحسين علي بن هشام قال: سمعت أبا عبد الله الباقطائي يقول: لما غلب السجزية على فارس، جلا قوم من أرباب الخراج عنها لسوء المعاملة، ففض خراجهم على الباقين، وكمل بذلك قانون فارس القديم، ولم تزل هذه التكملة تستوفى على زيادة تارةً، ونقصان أُخرى. وافتتح أبو الحسن ابن الفرات فارس في وزارته الأولى سنة ثمان وتسعين ومائتين على يد وصيف كامه، ومحمد

(1/366)


ابن جعفر العبرتاوي فأجرى الأمر على رسمه، وفعل مثل ذلك محمد بن عبيد الله الخاقاني وعلي بن عيسى في صدر وزارته الأولى. فلما مضى منها مديدة، ورد عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي إلى الحضرة، فتكلم علي محمد بن أحمد بن أبي البغل، وقدح فيه، وكان يتقلد فارس إذ ذاك، وخطب العمل، وبذل توفير جملة من المال، فعقد علي بن عيسى الضمان عليه، وصرف ابن أبي البغل وقلده أصبهان ثم أخر عبد الرحمن بن جعفر المال واحتج بتظلم أهل فارس من التكملة المذكورة، وامتناعهم من أدائها، فكتب علي بن عيسى إلى أبي المنذر النعمان بن عبد الله وهو يتقلد كور الأهواز بالاستخلاف على عمله، والنفوذ إلى فارس، ومطالبة عبد الرحمن بما حل عليه من المال، والنظر في أمر التكملة التي وقعت الظلامة منها، وشرح أمرها وحل ضمان عبد الرحمن، وعقد البلد على أحمد بن محمد ابن رستم، وكتب إلى ابن رستم بأن يصير من أصبهان إلى فارس، ليعقد له عليه.
فلما وصل النعمان إلى هناك وجد قطعة من التكملة على عبد الرحمن. وقد رام أن يكسرها، فعسفه وباع شيئاً من أملاكه حتى استوفى ما عليه، واستخرج مال التكملة من الناس، وكتب إلى علي بن عيسى بأن العمال يستضعفون قوماً من أرباب الخراج فيلزمونهم من التكملة أكثر مما يلزمهم ويرهنون آخرين فيحملونهم أقل مما يخصهم. وقال هو وابن رستم: وإن من طرائف ما يجري بفارس مطالبة الناس بهذه التكملة وهي ظلم لا شك فيه ولا شبهة، ومما سنه الخوارج جوراً

(1/367)


ومجازفة. وإن هناك مما قد أُغضي عنه لأربابه، والمطالبة به أولى وأحق، وهو خراج الشجر، لأن فارس افتتحت عنوة، وهي في أيدي المزارعين على سبيل الإجارة، ولا حجة لهم في دفعهم إلا دعواهم أن المهدي أسقطه عنهم. وعرف أهل بلاد فارس ما يجري من الخوض في هذا الأمر، فورد قوم من أجلادهم إلى حضرة علي بن عيسى، ودخلوا عليه في يوم جلوسه للمظالم وقالوا: نمنع غلاتنا وتعتاق في الكناديج حتى تهلك وتصير هكذا وطرحوا من أكمامهم حنطة محترقة ونطالب بتكملة ما أوجبه الله علينا فتدعونا الضرورة إلى بيع نفوسنا وشعور نسائنا وأدائها حتى تطلق الغلة وهي على هذه الصورة ثم رموا من أكمامهم تيناً يابساً وخوخاً مقدداً ولوزاً وفستقاً وبندقاً وغبيراء ونبقا وعنابا وقالوا: وهذا كله بلا خراج لقوم آخرين، والبلد فتح عنوة فإما تساوينا في العدل أو الجور. فأنهى علي بن عيسى ذلك إلى المقتدر بالله، وجمع القضاة والفقهاء ومشايخ الكتاب والعمال وجلة القواد في دار الوزارة بالمخرم وقد جعلها ديواناً وتناظر الفريقان من أرباب الشجر وقد ورد منهم قوم وأرباب التكملة. فقال أرباب الشجر: هذه أملاك قد أنفقنا عليها أموالنا حتى نبتت الغروس فيها، وحصل لنا بعض الاستغلال منها، ومتى ألزمت الخراج بطلت قيمتها، وقد كان المهدي أزال المطالبة برسم الخراج عنها. وقال المطالبون بالتكملة ما شكوا به حالهم فيها، واستمرار الظلم عليهم بها. ورجع إلى الفقهاء في ذلك فأفنوا بوجوب الخراج وبطلان التكملة. وقال

(1/368)


الكتاب: إن كان المهدي شرط شرطاً لمصلحة رآها في الحال ثم زالت سقط الشرط ورجع الحكم إلى الأصل. وقال لهم علي بن عيسى: أليس احتجاجكم بأن المهدي إمامم رأى رأياً فيه صلاح ففعله؟ قالوا: بلى. قال: فإن أمير المؤمنين الإمام قد رأى أن من الأحوط للمسلمين إلزام الشجر الخراج وإزالة التكملة. فقام الزجاج ووكيع القاضي فدعوا له وأثنيا عليه. وقال وكيع: لقد فعل الوزير في هذه القصة كفعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مطالبته أهل الردة بالزكاة. وأنهى علي ابن عيسى والقضاة ما جرى للمقتدر بالله في يوم الموكب، واستأذنه في كتب الكتاب بإسقاط التكملة عاجلاً إلى أن يتقرر أمر الشجر. فأمره بكتب ذلك في الحال بحضرته، وأحضرت له دواة وكان رسم الوزراء إذا أرادوا كتب كتاب بحضرة الخليفة أن تحضر لهم دواة لطيفة بسلسلة فيمسكها الوزير بيده اليسرى، ويكتب بيده اليمنى وبدأ علي بن عيسى يكتب بغير نسخة، فلما رآه المقتدر بالله وقد شق ذلك عليه أمر بإحضار دواته وأن يقف بعض الخدم معه فيمسكها إلى أن يفرغ من كتابته. وكان أول وزير أُكرم بهذا، ثم صار رسماً للوزراء بعده فكانت نسخة ما كتبه علي بن عيسى:

بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله جعفر الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين إلى النعمان بن عبد الله، سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد فإن أفضل الأعمال قدراً، وأجملها ذكراً، وأكملها أجراً، وأذخرها ذخراً، ما كان للتقى جامعاً، وللهدى تابعاً، وللورى نافعاً، وللبلوى دافعاً، وقد جعل

(1/369)


الله أمير المؤمنين فيما استرعاه من أمور المسلمين مؤثراً ما يرضيه، مثابراً على ما يزلف عنده ويحظيه، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكل، وبه يستعين. وقد عرفت حال السجزية والخرمية الذين تغلبوا على كور فارس وكرمان، واستعملوا الجور والعدوان، وأظهروا العتو والطغيان، وانتهكوا المحارم، وارتكبوا العظائم، حتى أنفذ أمير المؤمنين جيوشه إليهم، وتورد بها عليهم، فأزالهم وأبادهم، وشتتهم وأبارهم بعد حروب تواصلت، ووقائع تتابعت، أحل الله بهم فيها سطوته، وعجل لهم نقمته، وجعلهم عبرةً للمعتبرين، وعظةً للمستمعين. " وَكَذَلِكَ أَخْذ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَديِدٌ " ولما محق الله أمر هؤلاء الكفار، وفرق عدد أوباشهم الفجار، وجد أمير المؤمنين أفظع ما اخترعوه، وأشنع ما ابتدعوه، في مدتهم التي طال أمدها، وعظم ضررها، تكملة اجتبوها بكور فارس في سني غوايتهم لما طالبوا أهلها بالخراج على أوفر عبرتهم من غير اقتصار فيه على الموجودين، حتى فضوا عليهم خراج ما خرب من ضياع المفقودين، فأنكر أمير المؤمنين ما استقر من هذا الرسم الذميم، وأكبر ما استمر به الظلم العظيم، ورأى صيانة دولته عن قبيح معرته، وحراسة رعيته من عظيم مضرته، مع كثرته ووفور جملته. فارفع عن الرعية هذه التكملة رفعاً مشهوراً، فقد جعل الله من سنها مدحوراً. وناد في المساجد الجامعة بإزالتها وإبطال جبايتها. ليذيع ذلك في الجمهور، ويتمكن السكون إليه في الصدور، ويحمد الله الكافة على ما أتاحة الله لها من تعطف أمير المؤمنين ورعايته، وجميل حياطته

(1/370)


وعنايته، وأجب بما يكون منك في ذلك، فإن أمير المؤمنين يتوكفه ويراعيه ويتشوفه إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله. وكتب علي ابن عيسى يوم الخميس النصف من رجب سنة ثلاث وثلاثمائة. وقد كان علي بن عيسى نظر في سنة اثنتين وثلاثمائة الخراجية لأهل هذه التكملة بألف ألف درهم قبل أن يستقر على أرباب الشجر الخراج. ثم تقرر على أن يقارب أهله فيه ويلزموا طسوقاً مخففة عنه، وفعل النعمان في ذلك فعلاً وفق به، وكان ما ارتفع منه قريباً من مال التكملة. وكتب علي بن عيسى في أمر الشجر بما نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله جعفر الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين إلى أحمد بن محمد بن رستم، سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد فأن الله بعظيم آلائه، وقديم نعمائه، وجميل بلائه، وجزيل عطائه، جعل أموال الفيء للدين قواماً، وللحق نظاماً، وللعز تماماً، فأوجب للأئمة جبايتها وحرم عليهم إضاعتها، إذا كان ما يجتبى منها عائداً بصلاح العباد، وحراسة البلاد، وحماية البرية، وحياطة الحوزة والرعية، ولذلك يعمل أمير المؤمنين فكره ورويته، ويستفرغ وسعه وطاقته في حراستها وحياطتها، وقبض كل يد عن تحيفها وتنقصها، والله ولي معونته بمنه ورحمته. ولما فتح الله كور فارس على المسلمين، وأزال عنها أيدي المتغلبين، وجد أمير المؤمنين أهلها قد احتالوا في أسقاط خراج

(1/371)


الشجر بأسره، مع كثرته وجلالة قدره، فأمر بإشخاص وجوههم إلى حضرته، واتصلت المناظرة لهم بمشهد من قضاته وخاصته، إلى أن اعترفوا به مذعنين، والتزموه طائعين، وضمنوا أداء ما أوجبه الله فيه من حقوقه على ما تقرر من وضائعه وطسوقه فطالب بخراج الشجر، في سائر الكور، على استقبال سنة ثلاث وثلاثمائة. فاستخرجه واستوف جميعه واستنظفه واكتب بما يرتفع من مساحته ويتحصل من مبلغ جبايته، متحرياً للحق، متوخياً للرفق إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله. وكتب علي بن عيسى يوم الاثنين لعشر ليال خلون من شعبان سنة ثلاث وثلاثمائة. وحدث أبو الحسن أحمد بن محمد بن سمعون الجرجرائي قال: كنت أخلف أبا ياسر الجرجرائي على النهروانات، فمسحنا على الناس ما يجري على الطسق من غلاتهم فإذا أحد التناء. قد أصعد إلى دار الوزير أبي الحسن علي بن عيسى ونحن لا نعلم فتظلم من أننا زدنا عليه في مساحة قراح له. فلم نشعر إلا وقد جاءنا ابن البذال العامل، وهو من وجوه العمال، ومعه فوج من مساح بادوريا، فرسان ورجالة، فلم نشك أنه صارف لنا. فقال لي صاحبي: أحب أن تتلقاه وتعرف الخبر. فتلقيته فوجدته منفذاً لاعتبار مساحة القراح الذي للرجل، وعدت إلى صاحبي

(1/372)


بذلك، فقال لي: ما تدري كيف جرى أمر مساحته؟ قلت: لا. قال: فاخرج حتى تواقف وتجتهد. قال: فخرجت ومعي مساح البلد الذين مسحنا بهم، وواقفنا واستقصينا، وما زلت ألطف حتى استقرت مساحة القراح على أحد وعشرين جريباً وقفيز وكنا مسحناه اثنين وعشرين جريباً. واحتججت بأن المساحة وقعت أولاً والغلة قائمة فيه، ومسح الآن بعد حصادها، وليس بمنكر أن يكون بين المساحة على الحالتين هذا القدر. وانصرف القوم وطالعوا علي بن عيسى بالصورة، فوردت علينا كتبه بالصواعق في الإنكار والتوعد وقال: والله لئن عادت ظلامة أو تحيف أحد من الرعية في معاملة أو مساحة لأقابلن على ذلك أشد مقابلة. فتحرزنا وتحفظنا وحرسنا الناس ونفوسنا، وزاد الارتفاع في السنة الآتية ثلاثةً في كل عشرة لأن العدل شاع، والحيف زال، فتوفرت العمارة.
وحدث أبو محمد ثابت بن أحمد بن المشرف كاتب بادوريا قال: كان أهل بادوريا معروفين بالجلد، وكانت لهم مظالم وقوف. ومظالم رسوم، ومظالم تدعى مظالم القرطاس. فتقلد عليهم ابن أبي السلاسل العامل وفي قلبه أحقاد، فأراد الاستقصاء عليهم والتشفي منهم. وأخرج ما عليهم من البقايا، وأضاف إليها ما رده من هذه المظالم، وحبسهم وطالبهم فامتنعوا عليه، وصبروا على الحبس، فقيدهم واحتملوا القيد، ولم يجسر على أن يوقع بهم مكروهاً خوفاً من علي بن عيسى. فأملى في بعض الأيام على كاتبه بحضرتهم رقعةً إلى علي بن عيسى يغريه فيها بهم كل إغراء ويقول: هؤلاء قوم يدلون بالجلد، وعليهم أموال قد ألطوا بها وصبروا

(1/373)


على الحبس والقيد، ومتى لم تطلق اليد في تقويمهم واستخراج المال منهم كسروه، وتأسى بهم أهل السواد فبطل الارتفاع، والوزير أيده الله أعلى عيناً فيما يراه من الإذن في معاملتهم بما يضطرهم إلى الخروج من الحق. قال: فجزع القوم وخافوا أن يعدو الجواب بإطلاق يده فيهم فيبلغ منهم مبلغاً يهلكون به، وهموا بالانقياد له إلى ما يريده. ثم سبروا، فورد الجواب على ظهر الرقعة بخط علي ابن عيسى: الخراج عافاك الله دين لا يجب فيه غير الملازمة فلا تتعد ذلك إلى غيره. ففرج الله عنهم، وأمضيت رسومهم، ولم يؤدوا إلا البقايا الصحيحة، وزاد ارتفاع بادوريا في السنة الثانية اثنين في كل عشرة.
وحدث أبو محمد عبد الله بن أحمد بن داسة قال: حدثني أبو سهل بن زياد القطان قال: كان أبو الحسن علي بن عيسى يدخل إلى حجرة زوجته والدة أبي القاسم ابنه في كل اسبوع. فلما نشأ أبو القاسم وترجل جاء إلى حجرة أمه في يوم نوبتها من أبيه فأقفلها عليها، وأخذ المفتاح وانصرف، ووافى علي بن عيسى على رسمه، فلما رأى الباب مقفلاً سأل عن ذلك فقيل: فعله أبو القاسم ابنك. فاستحيا وعرف غرضه، فلم يدخل من وحدث أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى قال: حدثني أبي قال: لما حبسني المقتدر بالله كنت مكرماً في محبسي، فدخلت إلي القهرمانة بعد ثمانية عشر شهراً من القبض علي وقالت: يريد الخليفة أن يجيئك فتأهب لذلك. فما مضت ساعة حتى دخل إلي مؤنس القشوري وابن الحواري وقالا لي: أراد أمير المؤمنين أن يجيئك

(1/374)


فاستحيا منك. قال: فقمت وقبلت الأرض ودعوت له ثم قالا: ويقول لك لولا علمنا بزهدك في الوزارة لما عدلنا بها عنك، ولكننا نشاورك فيمن نقلده، اذكر هنا الناظر في الأمور، فقلت: الوزارة محتاجة إلى رجل كاتب كاف ممش للأمور عارف بسياسة الجند، وقد قل الناس الذين هذه حالهم، وما أعرف من أذكره اقتضاباً من غير روية، ولكن أنظروني حنى أراجع فكري وأقول ما عندي. فقالا: قل على كل حال. فقلت لهما: بالحضرة رجلان وعلى البعد رجلان. فأما الحاضران فأبو عيسى أحمد بن محمد بن خالد أخو أبي صخرة وأبو عبد الله حمد بن محمد القنائي. وأما الغائبان وهما أوفق وأصلح فأبو علي الحسين بن أحمد المعروف بأبي زنبور وأبو بكر محمد بن علي المادرائيان، فإنهما قد دبرا أمور بني طولون في المال والرجال، ولهما في الكتابة قدم، والتدبير دربة، فاستدعوا أحدهما. قالا: هما بمصر، والمسافة بعيدة، ونريد ما هو أقرب. فقلت: إما أبو عيسى أو حمد، قالا: فما تقول في حامد بن العباس. قلت: هو عامل يصلح لعمارة وحفظ ارتفاع، وما الوزارة من عمله ولا سياسة الملك والرجال وتدبير الأمور مما يعرفه. فالاله: فاعلم أن أمير المؤمنين قد قلده وخلع عليه، ونظر مذ ثلاثة أيام. قلت: فما معنى المشاورة بعد الإمضاء؟ فقالا: لأنه قد تلوح لنا عجز حامد وكدنا نفتضح به، ولم يؤثر الخليفة صرفه في إثر تقليده فيقبح ذلك في السياسة، ونريد أن نشده بمن يقوم بهذا الأمر ويسدده ليبقى عليه اسم الوزارة، وقد رأى أن يندبك لذلك فتكون كاتبه وخليفته ظاهراً وأنت الوزير باطناً والتدبير إليك، والمعاملة بين أمير المؤمنين وبينك. قال: فاسترحت إلى الإجابة لتطاول حبسي وخرجت ونظرت وكان ما كان.
وحدث أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن الأزرق

(1/375)


قال: حدثني أبو يعقوب أخي قال: حدثني أبو بكر بن مقاتل ونحن بمصر قال: ابتعت من السلطان قديماً، وأنا تاجر، غلةً على إكراه وبقي علي من ثمنها عشرون ألف دينار، وأحضرني أبو الحسن علي بن عيسى وطالبني بذلك، فلم يكن لي وجهة، وعدلت إلى جحده وترك الاعتراف به. وقال لي اعمل حساباً بأصل ما ابتعته وما أديته ليبين الباقي بعده. ودافعت فاعتقلني في الديوان، وأمرني بعمل الحساب فيه. فأخذت أعلل وأطاول إشفاقاً من أن تتحقق البقية فأحصل تحت المطالبة بغير عذر ولا حجة، ثم أرهقني ودعاني إلى حضرته، فدخلت ومعي كيس حسابي لأريه ما ارتفع منه، وأسأله إنظاري بإتمامه واستكماله. وفتحت الكيس بين يديه، وكنت أستطيب خبز البيت ولا آكل غيره، ويحمل إلي من منزلي في كل يومين أو ثلاثة ما أريد منه، وبحسن الاتفاق تركت في الكيس منه رغيفين استظهاراً لئلا يتأخر عني ما يحمل إلي، وبينما أُقلب الحساب وقعت عين الوزير أبي الحسن على الرغيفين، فلما رآهما قال لي: اضمم إلي حسابك، مراراً. فضممته وشددته وقال لي: قم إلى بيتك. فانصرفت ولم يطالبني بعد ذلك بشيء، ولا تنبه من نظر بعد على أمري، فانكسر المال والله، وكان سببه الرغيفين لأن علي بن عيسى لما رآهما وقد كنت أشكو الخسارة والفقر حملني على أن حملي للرغيفين مع الحساب لضعف حال وشدة فاقة.
وحدث أبو القاسم عيسى بن علي قال: حدثني أبي قال: لما استهل ذو الحجة من سنة أربع وثلاثمائة، وقد قاربت استيفاء السنة الرابعة من وزارتي الأولى للمقتدر بالله، بلغني ما قد عمل عليه من صرفي، فدخلت إليه وخلوت به وقلت: يا أمير المؤمنين قد أظل العيد عرفك الله بركته ووجب أن ننظر في أمر خواصك وجندك، فمن كان له رزق متأخر، واستحقاق حاضر، أطلقناه له ليصرفه

(1/376)


في نفقة عيده. فقال: نعم. قلت: نراسل السادة وأشرت إلى السيدة والخالة والأمراء والحرم ونستعلم منهم الصورة فيما يتعلق بهم. ففعل وقالوا: قد راجت أموالنا وما بقي لنا ما نطالب به أو نقتضيه. قال: فقلت: إن خدم الدار وحواشيها وأصحاب الجرايات والمرتزقة والغلمان الحجرية والرجالة المصافية، وأصحاب مؤنس وأصحاب الحجاب وأصحاب الشرطة جارون هذا المجرى في الاستيفاء، وقد أزحت عللهم فيما استحقوه منذ نظرت ومكرر إلى هذه الغاية، ولم يبق علينا شيء لأحد إلا ما كان لبعض رجال القواد التفاريق، وقد تقدمت بإخراج الحال فيه فكان مائة وثلاثين ألف دينار، وحملت إلى مجلس العطاء اليوم منه مائة ألف دينار وقدرت أن الثلاثين ألفاً ستتوفر من جاري من مات أو غاب أو أُسقط، وفضول الأوزان والرسوم التي كان يرتفق بها قبل هذا الوقت. وإنما أردت في إعلام أمير المؤمنين من ذلك ما أعلمته ليتحقق استقامة أمره وأمر أهل دولته. قال: فأظهر السرور بما أخبرته به وشكرني على ما فعلته فيه وقلت: يا أمير المؤمنين إن ابن الفرات نظر لك قبلي أربع سنين فأنفق ارتفاع الدنيا ومال المصادرات، وكذا وكذا ألف دينار من بيت مال الخاصة لم يسم أبو القاسم عيسى بن على ما ذكر مبلغه ثم نظر لك بعده محمد بن عبيد الله الخاقاني، فأخرج من بيت مال الخاصة ألف ألف دينار زائدة على ما أخرجه ابن الفرات بعد الذي أنفقه من الارتفاع والمصادرة، وقد وفيت الناس أموالهم كما رأيت وما مسست من بيت مال الخاصة درهماً واحداً، وإن تركتني حتى أدبر أمورك في هذه السنة المقبلة ولم تغير لي أمراً قمت بجميع الخرج، وحملت إلى بيت مال الخاصة ألف ألف دينار أُوفرها. فقال: معاذ الله أن أعتقد لك صرفاً أو اعتاض عنك أحداً، وأنت ... وأنت ... وجعل يقرظني ويصفني ويحمدني ويشكرني. فانصرفت من بين يديه وعندي أنني

(1/377)


قد كفيت الصرف فما مضى على هذا المجلس سبعة أيام حتى قبض علي في اليوم الثامن وكان يوم التروية، ونكبني.
وحدث أبو علي عبد الرحمن بن عيسى قال: سمعت الوزير أبا الحسن أخي يقول: قل ما ظفر أحد ببغي فلم يبطر، وقل من حرص على النساء فلم يفتضح، وقل من أكثر من الطعام فلم يتخم؛ وقل من ابتلى بوزراء السوء فلم يقع في المهالك. وهذه الكلمة عمدة القول.
وحدث عبد الرحمن قال: كان أبو بكر بن مقاتل يتولى كيل ما يرد من الشعير للقضيم واستيفاءه، فيبقى عليه من أسافل الزواريق من الرطب والعفن ما يباع بثمن بخس، ويورد الحسبانات على الأوقات. فاتفق أن حضر الناظر في أمور الجوارح والطيور يلتمس إطلاق علوفة البط في البرك والزبيدية وقدر ذلك ثلاثون قفيزاً شعيراً في كل شهر فأحضر أخي أبو الحسن علي بن عيسى ابن مقاتل وناظره على أمر الشعير الرطب والمبلول وما يحصل من ثمنه، وموقعه من ثمن الشيلم، والتفاوت بينهما، إلى أن عرف التوفير بين إطلاق الشعير الجيد والشعير الرطب، ثم تقدم بإقامة العلوفة من الرطب. فخرج ابن مقاتل متعجباً من دقة نظر أبي الحسن فيما نظر فيه حتى وفر ما وفره منه بعد طول المجاورة وذهاب شطر من الزمان في المناظرة، وعرج ابن مقاتل إلى أحمد ابن يحيى بن حاني كاتب الوزير أبي الحسن علي خاصة فقال له: كم يرتزق الوزير في الشهر؟ قال: سبعة آلاف دينار. فقال: قسط اليوم فيها مائتان وثلاثون ديناراً، وقسط الساعة نحو عشرين ديناراً، وقد نظر الوزير في أكثر من ساعة توفيراً لا يبلغ ما استحقه من الرزق. وأخرج القول

(1/378)


مخرج التنادر، وسمع صاحب الخبر ذلك، فكتب به إلى الوزير، ودعاه من وقته، فلما وقف بين يديه قال له: أعد قولك في معنى الرزق. فاضطرب وتحير، فقال له، أعد ويل لك. فقال: إنما كان قولي على وجه التعجب من نظر الوزير الدقيق في الأمر القليل: فقال: لا تتعجب من ذلك فإن لكل أمر حظاً من النظر والتفقد، ولو لم نتفقد الصغير لأضعنا الكبير، وهذه أمانة لا بد من أدائها في قليل الأمور وكثيرها. وكما أنا نظرنا في هذا الدقيق ساعة فكذلك ننظر في الجليل ساعةً نظراً يؤدي إلى استخلاص البلد العظيم، وتحصيل المال الجسم وإعادة الشاذ إلى الطاعة، ونأتي من التوفير بما يضعف على أرزاقنا للسنين الكثيرة. وإذا علم معاملونا أنا نراعي أمورهم هذه المراعاة لزموا الأمانة وخافو الخيانة. أخرج ودع الفضول. فخرج وعمامته في يده.
وحدث عبد الرحمن بن عيسى قال: حدثني أحد الخدم الخاصة قال: حضر أبو الحسن علي بن عيسى دار السلطان في يوم شديد البرد، وليس بيوم موكب، وعرف المقتدر بالله خبره، فجلس له في بعض الصحون على كرسي ورأسه مكشوف. فخاطبه في معنى ما حضر له، فلما فرغ قال له: يا أمير المؤمنين تبرز في مثل هذه الغداة الباردة، وتجلس في هذا الصحن الواسع، ورأسك بغير غطاء، والناس في مثلها يجلسون في المواضع الكنينة، ويستعملون من الدثار ما يستعملونه، وأحسبك تسرف في أخذ الأشربة الحارة، والأطعمة الكثيرة المسك. فقال المقتدر بالله: لا والله ما أفعل ولا آكل طعاماً فيه مسك ولا يطرح لي في شيء إلا يسير يكون في الخشكنانج، وربما أكلت في الأيام واحدة منه. فقال له الوزير: فإنى أطلق يا أمير المؤمنين في كل شهر في جملة نفقات المطبخ لثمن المسك نحو ثلاثمائة دينار. وانقضى كلامهما، ونهض المقتدر بالله وخرج الوزير. فلما صار في الصحن وقف

(1/379)


المقتدر بالله وأمر برده. فعاد وقال له: أظنك تنصرف الساعة وتفتتح نظرك بإحضار المتولي لأمر المطبخ وتوقفه على ما جرى بيننا في معنى المسك وتسقطه. وقال: كذلك هو يا أمير المؤمنين. فضحك وقال: أحب أن لا تفعل ذلك، فلعل هذه الدنانير تنصرف في أقوات ونفقات قوم، ولا أريد قطعها عنهم. قال: السمع والطاعة.
وحدث عبد الرحمن قال: كان أحمد بن محمد بن المعلي الكاتب يتولى للوزير أبي الحسن علي بن عيسى زمام النفقات، فقال له في بعض الأيام: يا أبا الحسين قد نقص الليل ثلاث ساعات هي ربعه فانقص الفراشين من الزيت والشمع ربع الإقامة. فقال له: هذا أعز الله الوزير استقصاء ما عرفوه، واستيفاء ما عهدوه. فقال: أليس إذا احتاجوا إلى زيادة طلبوها وزيدوا؟ قال: بلى. قال: وكذلك إذا وقع نقصان فليوفروه.
وحدث عبد الرحمن قال تأخر الوزير أبو الحسن في دار السلطان تأخراً طال وقد كان الخبر ورد بتورد المغربي مصر، وبلوغه الجيزة، وهي في جانبها الغربي، وأخذه الفيوم والإسكندرية، ووقع الانزعاج من ذلك وضاقت به الصدور وأعمل الفكر والنظر في تدبيره ثم وافى وقد تجاوزت صلاة الظهر في يوم صائف. فقلنا له: ما سبب هذا التأخر؟ فقد اعتورتنا الظنون فيه. فقال: نعم، كنا والله في أعجوبة لم يسمع بمثلها. قلنا: ما هي؟ قال: كنت مع مؤنس ومانس وغريب الخال ونصر الحاجب وشفيع وغيرهم من الخاصة، نتجارى ما ورد من أمر مصر، ونجيل الرأي فيما يدبر به مع ما يعبر من رأى الخليفة في السفر، إذ خرجت أم موسى

(1/380)


القهرمانة فجلست على مسورة، واستدعت من خادمها منديل حوائجها، فابتدأت تعرض رقعة لبعض الحشم في زيادة دينار في نزله، ولبعض الخدم في زيادة يسيرة في رزقه، وأنا والجماعة نتميز غيظاً من قطعها إياناً عن مثل هذا الأمر العظيم الحديث بمثل هذه الصغائر المضرة بالمال، ثم رميت بالرقعة، وعطفت على القوم ومشاورتهم، فقالت: هكذا يفعل بحوائج السادة؟ فقلت: يا هذه، نحن في حراسة الأرواح وحفظ أصول الملك، وقد شغلتنا عنه بما لا فائدة فيه. فقالت: وما هذا الشغل كله؟ قلت: مصر قد أشرفت على الذهاب والخروج عن يد السلطان وغلب المغربي منها على مواضع الارتفاع، وإن تم ونعوذ بالله من ذاك ما نخاف فقد مضى المغرب كله، ثم لا قرار على البساط بعده. فقالت: بظر أم مصر، ومتى كانت في يد السلطان حتى يغم عليها إذا أُخذت؟ فورد علي من قولها ما أدهشني. فقلنا له: فما كان الجواب عن هذا الجل؟ قال: قلت لها: بمثل هذا أدبر أمر الدنيا. ونهضت مغضباً، وتفرق القوم، وقد شاهدوا وسمعوا عجباً.
وحدث عبد الرحمن قال: حدثني محمد بن يحيى الصولي الشطرنجي قال: لما مضت مدة من وزارة الوزير أبي الحسن علي بن عيسى وانتقل الحواشي وخدم الدار عما ألفوه مع أبي الحسن بن الفرات وأبي علي الخاقاني من بسطهم وبلوغ أغراضهم وزياداتهم في أنزالهم وأرزاقهم إلى ما رأوه في أيام أبي الحسن من الضبط وتجعد الكف واليد، ووضع الأمور مواضعها وحفظ الأموال عما يتخرمها ويتحفيها، نقل على الجماعة أمره واتفق أن دخل في بعض الأيام إلى دار السلطان فحذف في بعض الممرات برقعة وقعت في صدره، ولم يدر من رماه بها،

(1/381)


فأخذها، ودخل إلى المقتدر بالله، وخرج فجلس في دار الوزارة وقرأها، فإذا فيها أبيات قد هجي فيها واستبعد موته ومدته، فقلبها وكتب على ظهرها:
لي مدّة لا بدّ أبلغها ... معلومةٌ فإذا انقضت متّ
لو ساورتني الأسد ضاريةً ... لغلبتها ما لم يجي الوقت
ثم قال لبعض خدمه: ارم بهذه الرقعة في الممر الذي رمينا بها فيه، ففعل.
وحدث أبو الحسن علي بن يحيى بن سليمان البصري الكاتب قال: كان أبو الحسن علي بن عيسى أيام تدبيره الأمور في وزارة حامد بن العباس قد عمل عملاً بالفضل في ضياع أبي الحسين بن أبي البغل، وسلمه إلى حامد ليناظره عليه بما شاء من الأمر، فناظره حامد واعتقله ووكل به، وعرفت أم موسى القهرمانة خبره، فطالعت المقتدر بالله، وخرج أمره بالإفراج عنه. فلما علم علي بن عيسى بما جرى كتب إلى ابن أبي البغل رقعةً يذكر فيها اغتمامه لما لحقه، وسروره بما ظهر من حسن رأي السلطان فيه، فأجابه في تضاعيفها:
الصّعو بصفر آمناً ومن أجله ... حبس الهزار لأنه يترنم
لو كنت أجهل ما علمت لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم
لم أستفد أدبي لدولة ظالمي ... لكنه يجني عليّ ويظلم
ذنبي إليه على ركاكة فهمه ... أني لأعلم أنه لا يعلم
وحدث أبو الحسن علي بن عيسى قال: كان عبيد الله بن سليمان والقاسم ابنه بعده ينكران على عمالهما الاستتار عنهما ويقولان: إنما يقع الاستتار مع الإشفاق

(1/382)


من الظلم، فأما مع الإنصاف في المعاملة واعتماد الحق في المحاسبة فهو طمع في السلطان وإرادة لكسر ماله. فاتفق أن صرف القاسم عاملاً من عمال الأهواز فاستتر، فغلظ عليه ذلك، وقال لي وللجماعة: أذكوا العيون عليه حتى تثيروه، وجدوا في طلبه حتى تحضروه. وقال علي بن عيسى: فبكرت يوماً بكوراً أقضى فيه حقاً وأعود ألى دار القاسم بن عبيد الله. فإذا العامل قد خرج من موضع يريد موضعاً، فرآه غلماني فأمسكوه وجاءوني به. فقلت له: تستتر عن الوزير وعنا والإنصاف مبذول لك؟ فقال: إذا كان الأمر على هذا ظهرت وجئتك. فتذممت من أن أحمله في الحال بالإكراه إلى دار القاسم فتلحقني في هذا الفعل قباحة. فقلت له: لا تتأخر فإنني من وراء معاونتك وتمشية أمرك. وأمرت بتركه وتخلية سبيله، ومضيت إلى مقصدي وعدت إلى دار القاسم ودخلت إلى مجلسه، فلم أجد عنده من البشاشة والإكرام ما كنت أعهده. ثم سلم إلي فضلاً من رقعة صاحب خبر وقد ذكر فيه حالي مع الرجل، وقال لي: كان عندي أنك عون لي وللسلطان على استيفاء حقوقه وإصلاح أموره، ولم أعلم أنك على خلاف ذلك. فأشفقت من أن أجيبه جواباً ربما رد علي عنه ما يقدح في الجاه ويستمع على ملأ من الناس. فقلت: إذا خلا الوزير عرفته ما عندي في ذلك. وأمسك، وبقيت حيران لا أعلم بأي عذر أعتذر، وعدلت إلى أن سألت الله كفايتي وتخليصي، وكنت إذا رأيت المجلس قد خف أحسست بتقطع أعضائي. فأنا في ذلك إذ تقدم إلي صاحب دواتي وأعطاني رقعةً من وكيلي في داري، وقد وقع عليها اسمه،

(1/383)


وبعده: مهم. فظننت أن القاسم بنزقه وغيظه قد أنفذ إلى داري قوماً ووكل بهم. فأسرعت إلى فضها وعقلي زائل، وروعي زائد، فإذا فيها: صار إلى بابنا نسوة وطلبن من يكلمهن، وخرجت إليهن، فدخلن الدهليز وكشفت إحداهن عن وجهها فإذا هو فلان العامل فنحى إزاره وخفه، وفعل غلام كان معه مثل فعله، وجلسا في الدار، وانصرف من كان معهما من النساء، وأمرني بأن أطالعك بخبره وأقول لك عنه: قد سلمت نفسي إليك جزاءً لفعلك اليوم، وثقةً بوعدك وأخذك بيدي ومعاونتي على أمري، فافعل ما تراه. فحين قرأتها عادت نفسي واشتد سروري، وتقوض المجلس، وقال لي القاسم: هات ما عندك في جواب قولي لك. قلت: نعم، ما الأمر على ما وقع لك في بابي، بل عندي من المعاونة والمعاضده والخدمة والطاعة وبذل القدرة والاستطاعة واطراح الديانة والأمانة في كل ما يخفف عنك، ويقرب منك أكثر مما يجب لمثلك على مثلي، ولكنك أيها الوزير تستقصر الفعل، وتريد زيادة على ما في الوسع، وإن كان هذا العامل ينصف في مواقفته ومحاسبته أحضرته الساعة. فأسفر وجهه وقال: أنكرت أن يكون منك إلا ما تقتضيه الثقة بك، والآن فقد رددت أمره إليك ورضيت بحكمك فيه، فرح به عشياً إلى حضرتي واعمل من ديوانك عملاً لما يجب عليه. وقال لكتاب الدواوين جميعاً أن يعملوا مثل ذلك.
وانصرفت إلى داري، وقلت للرجل كل ما سكنت به نفسه، وأزلت معه إشفاقه، وجعلته على ثقة من تكفلي بأمره، وأمرته بأن يروح معي. فلبس أحسن لباس وتطيب أكثر طيب وجاء معي، فقلت له: قد أسرفت في لباسك وطيبك لي: حالي على جملتها، وما ألزمت ما شعثها، ولأن يرى الوزير مني مروءة يستدل بها على كثرة كلفي ومؤني أولى من غير ذلك.

(1/384)


ودخلنا إلى القاسم بن عبيد الله معاً فأراد الرجل أن يقبل يده فمنعه وضمه إليه حتى قبل كتفه، وأحضر كتاب الدواوين فقال لهم: ناظروه. فكان يناظر على عمل بعد عمل ويبطل باباً ويصح باباً، وكلما صح شيء أخذ به خطه وأرجه أحد الكتاب إلى أن وجبت صلاة المغرب وصلينا، ثم أقبل على الكاتب وقال له: كم جملة ما أرجته مما كتب به خطه؟ قال: ستة وثلاثون ألف دينار ونيف. قال: وأي شيء بقي من الأعمال؟ قيل له: عمل الديوان الفلاني والديوان الفلاني. فقال لي: يا أبا الحسن أنت الحكم في أمره، فقل ما عندك نقبله. ولا أقل من إتمام المبلغ خمسين ألف دينار. فقلت: أيها الوزير، إذا رجعت إلي حكمي فآثار الرجل جميلة وطريقته مستقيمة، ومن حكمي فيه أن لا يلزم شيئاً. فاغتاظ غيظاً بأن في وجهه وإن لم يبد في قوله وقال: ماذا قلت؟ قلت: يرد إلى عمله، فإنه رفع من الارتفاع ما لم يرفعه غيره. فأطرق ثم رفع رأسه وقال: يرد عليه خطه ويكتب بإعادته إلى عمله. فقال الكاتب: كيف أدعو له؟ قال: لا تدع. وقال للرجل: والله لئن عاودت ما أنكره منك لأعاملنك بما عامل الله به فرعون فإنه جعله نكال الآخرة والأولى. وكتبت الكتب، وأراد توديعه، فبسط رجله إليه حتى قبلها. وقيل للقاسم: قد فلت أيها الوزير في أمره ما لم تفعله البرامكة مع مثله. قال: وجدت كل ما عاملته به واقعاً موقعه مع تسليمه نفسه وأمره إلي.
وحدث أبو عبد الله أحمد بن علي بن المختار الأنماطي وكان قد خدم أبا الحسن علي ابن عيسى واختص به قال: كنت بين يدي الوزير أنا وأخوه وأولاده

(1/385)


وخواصه، وجرى حديث البريدي في إصعاده إلى الحضرة وما هو عليه من الإقدام على أخذ الأموال واستباحة الأحوال وأن الناس على إشفاق منه، وعمل على الهرب من بين يديه، وأشارت الجماعة عليه بأن يخرج هو وحرمه وأولاده وأصحابه عن بغداد، فما أصغى إلى ذلك. ثم أكثروا عليه إكثاراً ثنوه عن رأيه، فأطلق لي مائتي دينار لأستأجر له بها زواريق يصعد فيها هو وعياله إلى ناصر الدولة أبي محمد ابن حمدان. وانصرفت من عنده بعد المغرب، وباكرني رسوله يستدعيني، فبادرت إليه، وسألني عما عملته فقلت: ضاق الوقت البارحة عما أردته وباكرني رسولك فحضرت معه. فقال لي: فكرت فيما أشرتم به فوجدته خارجاً عن الرأي، ومفسداً للدين، لأن الأمر مقدر، والإنسان مدبر، ولا يجب لمخلوق أن يهرب من مخلوق. هات الدنانير. فأعطيته إياها، فأمر بأن يتصدق بها، وأقام. فلما قرب البريدي انحدر إليه متلقياً فأكرمه، وعرف موضعه، ووفاه حقه، ومنعه من أن يخرج عن طياره، وانتقل هو إليه، وخاطبه بما وفاه الجميل والبر فيه. وكان أهل الكوفة تظلموا إلى أبي الحسن علي بن عيسى في أيام القاهر بالله وقد خرج إلى واسط مدبراً لها ولأعمال سقي الفرات في أمر ثمارهم، وحكوا أن أحمد بن محمد بن بشار وكل بها وسامهم حملها إلى البنادره، وأجرى أثمانها في خراجهم ليبقي عليهم عجزاً يطالبهم به، وجرت بينه وبينهم مناظرات ومخاطبات آلت إلى أن كتب إلى ابن بشار بأن يقاسمهم على الثمرة كما يقاسمهم على الغلة.

(1/386)


وحدث أبو عمرو الشرابي قال: لما صرف أبو الحسن لعي بن عيسى بأبي علي محمد بن علي بن مقلة دخلت إليه في محبسه فحادثته وسكنت منه، وسألته عما يريده من الأشربة والأسوقة والطعام لأتقدم بحمله، فوجدته طيب النفس حسن اليقين وقال لي: الآن تم لي ديني وتفرغت لصلاتي وأداء مفترضاتي، وقد كنت أحب العزل وترك هذا الأمر، ولكنني احتسبت قيامي به قيام المجاهد في سبيل الله. فمن تقلد الوزارة؟ قلت: ابن مقلة. قال: حدث يحب الرئاسة ويراعي يومه دون غده، يا أبا عمرو، أليس تدبير الخلافة إلى قوم مبلغ عقولهم أنهم يظنون أن ابن مقلة ينهض بما أعجز أنا عنه، ويستقل بما أتفادى منه؟ إنا لله وإنا إليه راجعون. ذهبت والله الدنيا وضاعت الأمور. فقلت: ما قدروا ذلك ولا توهموه، ولكنهم أرادوا من يأخذ أموال الناس ويعطيهم إياها ويطلقهم فيما منعتهم منه. فقال: الله المستعان.
وحدث عبد الرحمن بن عيسى قال: حدثني هارون الكاتب بن إبراهيم الكاتب قال: لما أحس القاسم بن عبيد الله بحضور منيته جعل يوصي أبا الحسن علي بن عيسى بولده، وأبو الحسن يذكره بالتوبة والإقلاع، فما فارقه حتى تاب توبة جردها وصحح فيها العزيمة. ثم دعا بالعباس بن الحسن في غداة يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين ومائتين قبل أن قضى نحبه بثلاث ساعات فأملى عليه رقعة إلى المكتفي بالله، كان ما حفظناه من ألفاظها ومعانيها: كتبت هذه الرقعة أطال الله بقاء سيدي أمير المؤمنين بإملائي وأنا في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الأخرة. وقد حضر من الأمر ما مضى عليه

(1/387)


الأولون، ويصير إليه الآخرون، والحمد الله الذي لما قضى علي الموت جعله في دولة أمير المؤمنين أيده الله وجعلني ماضياً على أحكام طاعته ودارجاً على أفضل ما درج عليه أحد من أهل ولايته وتمم الكلام وشكر الإنعام ثم قال: ولم أطب نفساً مع ما آلت إليه الحال بأن أُمسك من النصح لمولانا حياً كنت أم ميتاً ولا بد أن يقوم لخدمته من يصلح لها، ويجري مجراي في حراستها والذب عنها والنهوض بأعبائها. وهذا خادم أمير المؤمنين وكاتبه علي بن عيسى بن داود ابن الجراح أحد الكتاب المتقدمين ومن قد خدم آباؤه الخلفاء الماضين وكانوا مرصنين محمودين، وقد عرف مولانا مذهبه في أمانته ومناصحته، وتأدت إليه أخباره في سداده وكفايته. وخادمه العباس بن الحسن كاتب حضرتي، وكان ملازماً لي وقد تقيل أخلاقي في الخدمة، وعرف مذهبي في المدافعة عن الدولة وسلك مذهبي في المبالغة والطاعة. وعلى أيهما اعتمد، ولأيهما آثر وقدم، رجوت ألا يعدم عنده شيئاً مما كان عليه خادمه في المناصحة. وتمم القول وختمه بالوصاة بولده ووالدته وأسبابه والإحسان إليهم ومكافأته بما يستحقه فيهم.
قال عبد الرحمن: فحدثني أبو الحسن أخي قال: لما فرغ القاسم من إملاء هذه الرقعة دفعها إلي وقال: سألتك بحق ما بيننا إلا بادرت وأوصلتها من يدك، واجتهدت في التعجل بما يجري، فإنني أخاف إن تأخرت أن لا تلحقني، وأكبر أملي فيما بقي من مدتي أن أعرف ما يستقر عليه الحال من بعدي. قال أخي: فاستعفيته فلم يعفني، ولم يكن فيه فضل لمعاودتي، وعجبت من شدة نفسه، وزيادة

(1/388)


حرصه على أمور الدنيا مع حضور أجله. فمضيت ومعي العباس إلى دار السلطان وجلسنا على انتظار إذنه، ثم أذن لنا فدخلنا. فلما حصلنا في وسط دهليز الصحن السبعيني استدار العباس فصار في وجهي وقال لي: والله لئن ألقيت هذا الأمر إلي ونزلت عنه لي لأكون فيه من قبلك ومتصرفاً على أمرك. فعجبت من قوله وقلت: ستعلم ما يجري، وأرجو توفيق الله تبارك وتعالى. ووصلنا إلى الخليفة وأوصلت الرقعة. فلما قرأها سأل عن خبره، فعرفته أنه في آخر رمقه وما نقدر أننا نلحقه فدمعت عيناه ثم التفت إلي وجعل يخاطبني مخاطبة من قد رد الأمر إلي واعتمد فيه علي. وقال لي في عرض قوله: أنت يا علي في نفسي مذ كنت بالرقة، وأنا أعرف أخبارك آثارك، وقد آل الأمر الآن إليك ووقع اختياري عليك، فتتجرد في القيام به وإزالة الخلل عنه، وتفعل وتصنع. قلت: أنا يا أمير المؤمنين رجل ضيق العطن وفي استقصاء وشدة لا يصلحان لمتولي هذا الأمر وشغلي بما أخدم فيه طويل عريض، وإن نقلت إلى ما هو أكثر منه بعلت ووقفت. فراجعني القول وراجعته في الاستعفاء وقلت: وهذا العباس أعرف بما كان القاسم عليه من طرق الخدمة، وإن عول عليه كنا أعوانه وأعضاده. قال: فتضمن لي القيام بالشد منه حتى يستقيم ما يناط به؟ قلت: أفعل وأبذل عمن يليني من الكتاب مثل ذلك. فدعا بالدواة وكتب الجواب بالتوجع والدعاء وقال: فإن أعوذ بالله بليت فيك بما لا أقدر على دفعه فلن أعدل عن اختيارك ورد الأمر إلى من أشرت به. فأما الولد والحرم فأولادي وحرمي، والله يصونهم ببقائك ويدفع لنا عن حوبائك.

(1/389)


وختمت الرقعة وتقدم بتسليمها إلي، فأخذتها وقبلنا الأرض وعدنا. فحين بلغنا درجة باب الخاصة من دار القاسم سمعنا الواعية فنزل من أعلمنا أنه قضى في الوقت عند وصولنا إلى الباب، قال عبد الرحمن: وكان حديث أبي الحسن أخي لنا بذلك وإسحاق بن حنين المتطبب في مجلسه فقال: أحدثك يا سيدي حديثه في هذه الحال، وذلك أنه دعاني، وقد حضر اليأس، ولم يبق إلا تردد النفس. فقال لي: يا إسحاق حبس النبض وانظر هل بقي من الذماء ما يفي بانتظار جواب الخليفة؟ فجسسته وكان قد سقط، فقلت: الحال صالحة. فقال: أعيذك بالله، لا والله ما أحسبني ألحق ذلك. ثم قال: انظروا الطيار هل أقبل؟ وتنفس مرة أو مرتين وقضى، وما زال أخي يعجب من أمره قال أخي: فلما عرفنا وفاته عدنا إلى دار السلطان، فوجدنا الخليفة قد خلا، وعرفنا خفيفاً السمرقندي الحاجب الصورة حتى أنهاها، وتقدم إلينا بالبكور في غد، وانصرفنا إلى دار القاسم وأقمنا إلى أن جهز ووري وعزينا والدته ووالده. وشاع أمر العباس، وتقررت الوزارة له واعتماد المكتفي بالله عليه، وحضر الكتاب من غد دار السلطان، وهم: العباس بن الحسن وعلي بن عيسى ومحمد بن داود بن الجراح وعلي بن محمد بن الفرات، ومحمد بن عبدون وهو أكبرهم سناً؛ لأنه ولد في سنة ست وثلاثين ومائتين، وابن الفرات في سنة إحدى وأربعين ومائتين، ومحمد بن داود في سنة ثلاث وأربعين ومائتين وعلي بن عيسى في سنة خمس وأربعين ومائتين والعباس في سنة خمسين ومائتين. ووصل العباس وعلي ابن عيسى إلى الخليفة دون غيرهما، فأمضى أمر العباس، ووصى علي بن عيسى بالضبط والاحتياط، وأدخل الناس بعد ذلك على طبقاتهم فعزوا الخليفة، وسمعوا

(1/390)


قوله في رده وزارته إلى العباس، وإقراره أصحاب الدواوين على دواوينهم. وانصرفت الجماعة مع الوزير إلى منزله، وكان له غرفة في حريم البستان الزاهر المجاور لدار القاسم على دجلة سكنها عند خدمته القاسم في التوقيع بين يديه. وعجب الناس من تقلد العباس عجباً طال، ولم تزل به الحال إلى أن ملك الأمور، وأسرف في التجبر والاستكبار، فأرداه ذاك وأورده شر مورد ونسأل الله حسن العاقبة.
وحدث عبد الرحمن قال: حدثني الوزير أبو الحسن أخي قال: كنت بمكة، فاتفق يوم شديد الحر وحر تهامة إذا اشتد ضرب به المثل قال: فصليت الظهر جماعةً في المسجد الحرام، وطفت وسعيت وركعت عند المقام، ثم انصرفت وقد مسني من الحر ما زاد علي فيه الأمر، فتمنيت في الوقت شربة سويقع بثلج، وأولعت نفسي بالفكر فيها، فزجرتها وقلت: ثلج في تهامة! وحمدت الله تعالى على نعمة العافية، فما لبثت والله أن ظهر في السماء قزع من غيم، ثم اجتمع وانتظم وجاء ببرق ورعد متصل، ثم بمطر وبل، ثم ببرد في غاية الكبر. فجمع الغلمان منه ما ملئوا به حباً من حباب الماء. وكان هذا بعد صلاة العصر، فما كان فطوري إلا على سويق وسكر وثلج وماء مائع، وبقينا على ذلك ثلاثة أيام ولله الحمد.

(1/391)