حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة
ذكر إقليم مصر:
قال ابن حوقل (1) في كتاب الأقاليم: اعلم أن حد ديار مصر الشمالي بحر
الروم رفح من العريش ممتدًا على الجفار إلى الفرما، إلى الطينة، إلى
دمياط، إلى ساحل رشيد، إلى الإسكندرية وبرقة إلى الساحل، آخذًا (2)
جنوبًا إلى ظهر الواحات، إلى حدود النوبة، والحد الجنوبي من حدود
النوبة المذكورة، آخذًا شرقًا (3) إلى أسوان، إلى بحر القلزم،. والحد
الشرقي من بحر القلزم قبالة أسوان إلى عيذاب، إلى القصير، إلى القلزم،
إلى تيه بني إسرائيل، ثم يعطف شمالا إلى بحر الروم، إلى رفح، حيث
ابتدأنا، وبقاعها كثيرة.
وقال غيره: مصر هي إقليم العجائب، ومعدن الغرائب، وكانت مدنًا متقاربة
على الشطين؛ كأنها مدينة واحدة، والبساتين خلف المدن متصلة كأنها بستان
واحدًا، والمزراع من خلف البساتين، حتى قيل: إن الكتاب كان يصل من
إسكندرية إلى أسوان في يوم واحد، يتناوله قيم البساتين واحد إلى واحد.
وقد دمر الله تلك المعالم، وطمس على تلك الأموال والمعادن.
حُكي أن المأمون لما دخل مصر، قال: قبح الله فرعون إذ قال: {أَلَيْسَ
لِي مُلْكُ مِصْرَ} (4) ، فلو رأى العراق! فقال له سعيد بن عفير: لا
تقل هذا يا أمير المؤمنين
_________
(1) هو أبو القاسم محمد بن حوقل البغدادي الموصلي، التاجر الرحالة
المؤرخ، المتوفى سنة 367. واسم كتابه: "المسالك والمفاوز والمهالك" طبع
مرارا في أوربًا.
(2) ح: "أخذ".
(3) ح، ط: "شرقيًّا".
(4) سورة الزخرف: 51.
(1/23)
فإن الله تعالى قال: {وَدَمَّرْنَا مَا
كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (1)
، فما ظنك بشيء دمره الله هذه بقيته! فقال ما قصرت يا سعيد. قال سعيد:
ثم قلت: يا أمير المؤمنين، لقد بلغنا أنه لم تكن أرض أعظم من مصر،
وجميع الأرض يحتاجون إليها، وكانت الأنهار بقناطر وجسور بتقدير؛ حتى إن
الماء يجري تحت منازلهم وأفنيتهم يحبسونه متى شاءوا، ويرسلونه متى
شاءوا، وكانت البساتين بحافتي النيل من أوله إلى آخره ما بين أسوان إلى
رشيد لا تنقطع؛ ولقد كانت المرأة تخرج حاسرة ولا تحتاج إلى خمار لكثرة
الشجر، ولقد كانت المرأة تضع المكتل على رأسها فيمتلئ مما يسقط فيه من
الشجر، وكان أهل مصر ما بين قبطي ويوناني وعمليقي؛ إلا أن جمهورهم قبط،
وأكثر ما يملكها الغرباء. وكانت خمسًا وثمانين كورة، منها أسفل الأرض
خمس وأربعون كورة، ومنها بالصعيد أربعون كورة؛ وكان في كل كورة رئيس من
الكهنة -وهم السحرة- وكانت مصر القديمة اسمها أقسوس، وكانت منف مدينة
الملوك قبل الفراعنة وبعدهم إلى أن خربها بخت نصر؛ وكان لها سبعون
بابًا، وحيطانها مبنية بالحديد والصفر، وكان يجري تحت سرير الملك أربعة
أنهار، وكان طولها اثني عشر ميلًا. وكان جباية مصر تسعين ألف ألف دينار
مكررة مرتين بالدينار الفرعوني، وهو ثلاثة مثاقيل.
وقال صاحب مباهج الفكر ومناهج العبر (2) : حد مصر طولًا من ثغر أسوان،
وهو تجاه النوبة إلى العريش، وهو مدينة على البحر الرومي، ومسافة ذلك
ثلاثون مرحلة، وحده عرضًا من مدينة برقة التي على ساحل البحر الرومي
إلى أيلة التي على
_________
(1) سورة الأعراف: 137.
(2) هو محمد بن عبد الله الكتبي المعروف بالوطواط. توفي سنة 718. الدرر
الكامنة 3: 298.
(1/24)
بحر القلزم، ومسافة ذلك عشرون مرحلة. وتنسب
إلى مصر. وقيل: مصر بن بيصر بن حام، ويسمي اليونان بلد مصر مقدونية،
وأول مدينة اختطت بمصر مدينة منف، وهي في غربي النيل، وتسمى في عصرنا
بمصر القديمة. ولما فتح عمرو بن العاص مصر أمر المسلمين أن يحيطوا حول
فسطاطه، ففعلوا، واتصلت العمارة بعضها ببعض، وسمي مجموع ذلك الفسطاط.
ولم يزل مقرًّا للولاية والجند إلى أن وليه أحمد بن طولون، فضاق بالجند
والرعية، فبنى في شرقيه مدينة، وسماها القطائع، وأسكنها الجند، يكون
مقدارها ميلًا في ميل. ولم تزل عامرة إلى أن هدمها محمد بن سليمان
الكاتب في أيام المكتفي، حنقًا على بني طولون سنة اثنتين وتسعين
ومائتين، وأبقى الجامع. ثم ملك العبيديون مصر في سنة ثمان وخمسين
وثلاثمائة، فبنى جوهر القائد مولى المعز مدينة شرقي مدينة ابن طولون،
وسماها القاهرة، وبنى فيها القصور لمولاه، فصارت بعد ذلك دار الملك
ومقر الجند.
قال في السكردان (1) : وكان جوهر لما بنى القاهرة سماها المنصورة (2) ،
فلما قدم المعز غير اسمها، وسماها القاهرة؛ وذلك أن جوهرًا لما قصد
إقامة السور جمع المنجمين، وأمرهم أن يختاروا طالعًا لحفر الأساس،
وطالعًا لري حجارته، فجعلوا قوائم من خشب، بين القائمة والقائمة حبل
فيه أجراس، وأعلموا (3) البنائين أنه ساعة
_________
(1) كتاب سكردان السلطان، لأبي العباس أحمد بن يحيى بن أبي بكر الشهير
بابن حجلة، والمتوفى سنة 776؛ كتاب أدبي تاريخي، يشتمل على أنواع من
الجد والهزل؛ ألفه للسلطان الملك الناصر بن أبي المحاسن في سنة 757؛ في
خواص السبعة التي هي أشرف الأعداد طبع، والسكردان في الأصل: خوان يوضع
فيه الشراب، ذكره صاحب شفاء الغليل.
(2) في السكردان: "المنصورية"، وبعدها: "وذلك في سنة ثمان وخمسين
وثلاثمائة، من الهجرة النبوية الشريفة".
(3) السكردان: "وأفهموا".
(1/25)
تحريك الأجراس يرمون ما بأيديهم من الطين
والحجارة، فوقف المنجمون لتحرير هذه الساعة، وأخذ الطالع، فاتفق وقوع
غراب على خشبة من ذلك الخشب (1) فتحركت الأجراس، فظن الموكلون بالبنا
أن المنجمين حركوها، فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة في الأساس،
فصاح المنجمون: "لا لا"، القاهر في الطالع، فمضى ذلك فلم يتم لهم ما
قصدوه (2) ؛ وكان الغرض أن يختاروا طالعًا لا يخرج عن نسلهم (3) ، فوقع
أن المريخ كان في الطالع؛ وهو يسمى عند المنجمين القاهر؛ فعلموا أن
الأتراك لا بد أن يملكوا هذه القرية (4) ، فلما قدم المعز، وأُخبر بهذه
القضية -وكان له خبرة تامة بالنجمة- وافقهم على ذلك وأن الترك تكون لهم
الغلبة على هذه البلدة، فسماها القاهرة، وغير اسمها الأول (5) .
قال صاحب مباهج الفكر ومناهج العبر: ولما انقضت دولة العبيدين وملك
المعز مصر سنة أربع وستين وخمسمائة، بنى صلاح الدين يوسف بن أيوب سورًا
جامعًا بين مصر والقاهرة ولم يتم؛ يبتدئ من القلعة وينتهي إلى ساحل
النيل بمصر، فطول هذا السور تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع
بالهاشمي،
وعمل ديار مصر مقسوم بين المصريين؛ فالذي في حصة مصر من الكور أربع
وعشرون كورة، تشتمل على تسعمائة وست وخمسين قرية، قد جعلت هذه الكور
صفقات، كل صفقة منها وإلى حرب وقاص وعامل خراج، كل صفقة تشتمل على
ولايات.
منها الجيزية؛ منسوبة إلى مدينة تسمى الجيزة على ضفة النيل الغربية
تجاه الفسطاط،
_________
(1) السكردان: "من تلك الخشب".
(2) السكردان: "فخانهم ما قصدوه".
(3) السكردن: "لا تخرج البلد عن نسلهم".
(4) السكردان: "هذا الإقليم".
(5) السكردان: 42-43؛ وآخر الخبر: "فكان الأمر كما قال، وملكها الترك
إلى يومنا هذا".
(1/26)
وولايتها وسيم، ومنية القائد غربي النيل
وإطفيح شرقية.
والفيومة تنسب إلى مدينة الفيوم.
والهنسي وولايتها الغرسة وناق الميمون، وشمسطا، ودهروط، وقلوسنا،
وشرونة، وأهناس، والأشمونين.
ومنية بني خصيب وولايتها طحا، ودروة، وسريام، ومنفلوط (1) .
والأسيوطية لمدينة أسيوط وولايتها بوتيج، وأبويط.
والإخميمية لمدينة أخميم وولايتها ساقية قلته، والبيارات، وسلاق،
وسوهاي، وجزيرة شندويد، وسمنت، وقلفا، والمنشية، والمراغة.
والقوصية لمدينة قوص؛ وولايتها مرج بني هميم، وقصر ابن شادي، وفاو،
ودشنا، وقنا، وأبنوب (2) ، وقفط -وكانت المصير قبل قوص- ودمامين،
والأقصر، وطود، وأسوان، وفرجوط، والبلينا، وسمهود، وهو، ودندرة، وقمول،
وأرمنت، والدمقران، وأصفون، وإسنا، وإدفا، وعيذاب، وهي على ساحل بحر
القلزم، ولها فرضة تسمى القصير.
والذي في حصة القاهرة من الكور ست وثلاثين كورة، تشتمل على ألف
وأربعمائة وتسع وثلاثين قرية، يجمع ذلك من الصفق صفقة القليوبية، تنسب
لمدينة عامرة كثيرة البساتين، تضاهي دمشق في التفاف شجرها، واختلاف
ثمارها؛ وليس لها ولايات.
والشرقية، وقصبتها مدينة بلبيس وولايتها المشتولية، والسكونية،
والدقدوسية، والعباسية، والصهرجتية.
وصفقة المنوفية، وولايتها تلوانة، وسبك الضحاك، والبتنون، وشبين الكوم.
_________
(1) ط: "أبيرط".
(2) حاشية ح: "وأيتود - من نسخة".
(1/27)
وصفقة إيبار؛ وليس لها ولاية؛ وهذه المدينة
دمشق الصغرى لكثرة ما بها من الفواكه.
وصفقة الغربية؛ وقصبتها مدينة المحلة، وتعرف بمحلة دنقلا، وولايتها
السنهورية، والسخاوية، والدنجاوية، والدميرتان، والطمويسية،
والبرماوية، والطندتاوية، والسمنودية؛ وجزيرة قويسنا، ومنية زفتى.
وصفقة الدقهلية والمرتاحية، وولايتها طناح، وتلبانة، وبارنبالة،
والمنزلة، والمنصورة، ومنية بني سليل، وشارمساح، وقصبتها أشموم.
وصفقة البحيرة وقصبتها دمنهور الوحش، وولايتها لقانة، وتروجة، والعطف،
ودرشابة، والزاوية، ودميسا، والطرانة، وفوه، ورشيد.
ومما هو معدود في كور إقليم مصر: كورة القلزم على ثلاثة أيام من مصر
-خربت- وكورة فاران، وكورة الطور، وكورة أيلة -خربت.
ومن أعمال مصر الجليلة واحات تحيط بها المفاوز بين الصعيد والمغرب،
ونوبة، والحبشة؛ وهي ثلاث واحات: أولى، وهي الخارجة وقصبتها تسمى
المدينة.
ووسطى، وفيها المدينتان القصر وهندي.
والثالثة تسمى الداخلة، وفيها مدينتان، أريس وميمون.
ولإقليم مصر من الثغور على ساحل بحر الروم الفرما وتنيس، وكانت مدينة
عظيمة لها بحيرة مالحة يصاد بها السمك البوري وقد خربت وذهبت آثارها،
هدمها الملك الكامل سنة أربع وعشرين وستمائة خوفًا من استيلاء الفرنج
عليها، فتجاوره في ديار مصر، وكانت من العظم بحيث إنه ألف في أخبارها
كتاب في مجلدين، فيه قضاتها وولاتها وسراتها؛ ذكر فيه أن خراجها في
أيام أحمد بن طولون خمسمائة ألف دينار، وأنه
(1/28)
كان بها ثلاثة وثمانون ألف محتلم يؤدون
الجزية -خربت- وسطا -خربت- ودبيق. ودمياط، ولها من الولايات فارسكور،
والبرلس، وبورة -خربت- ورشيد، والإسكندرية، ولها فيما بينها بين برقة
كورتان على ساحل بحر الروم: كورة كونية (1) وكورة مراقبة.
هذا كله كلام صاحب مباهج الفكر في إقليم مصر وكوره. وسأعقد بابًا في
سرد أسماء البلاد والقرى التي بإقليم مصر على سبيل الاستيفاء، وأذكر ما
في كل بلد من نادرة، ومن خرج منها من النبلاء، وما قيل فيها من الشعر.
وقال ابن زولاق: كل كورة بمصر فإنما هي مسماة باسم ملك جعلها له أو
لولده أو زوجته، كما سُميت مصر باسم ملكها مصر بن بيصر.
وقال أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز قاضي العراق: سألت محمد بن
المدبر عن مصر قال: كشفتها، فوجدت غامرها أضعاف عامرها، ولو عمرها
السلطان لوفت له بخراج الدنيا. قال: وقلت: كيف عمرت ولاية مصر حتى عقدت
على مصر تسعين ألف ألف دينار مرتين كما مر؟ قال: في الوقت الذي أرسل
فرعون بويبة قمح إلى أسفل الأرض والصعيد فلم يوجد لها موضع تُبذر فيه
لشغل سائر البلاد بالزرع.
أورده ابن زلاق.
_________
(1) حاشية ح "بوريه - من نسخة"، وفي ط: "كوبية".
(1/29)
ذكر من نزل مصر من
أولاد آدم عليه الصلاة والسلام:
قال أحمد بن يوسف التيفاشي (1) في كتابه سجع الهديل في أوصاف النيل:
ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث، فكان فيه
وفي بنيه النبوة، وأنزل الله عليه تسعًا وعشرين صحيفة، وأنه جاء إلى
أرض مصر، وكانت تدعى باب لون، فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق
الجبل وسكن أولا قابيل أسفل الوادي. واستخلف شيث ابنه أنوش، واستخلف
أنوش ابنه قينان، واستخلف قينان ابنه مهليائيل واستخلف مهليائيل ابنه
يرد، ودفع الوصية إليه، وعلمه جميع العلوم، وأخبره بما يحدث في العالم،
ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم، وولده ليرد أخنوخ، وهو
هرمس، وهو إدريس النبي عليه الصلاة والسلام؛ وكان الملك في هذا الوقت
محويل بن خنوخ بن قابيل، وتنبأ إدريس وهو ابن أربعين سنة، وأراده الملك
محويل بن أخنوخ بن قابيل بسوء فعصمه الله، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة،
ودفع إليه أبوه وصية جده، والعلوم التي عنده. وولده بمصر، وخرج منها،
وطاف الأرض كلها، وكانت ملته الصابئة، وهي توحيد الله والطهارة والصلاة
والصوم وغير ذلك من رسوم التعبدات. وكان في رحلته إلى المشرق أطاعه
جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرهائم ثم عاد إلى مصر
فأطاعه ملكها، وآمن به، فنظر في تدبير أمرها، وكان النيل يأتيهم سيحًا،
فينحازون من مساله إلى أعالي الجبل والأرض العالية حتى ينقص، فينزلون
فيزرعون حيثما وجدوا الأرض ندية وكان
_________
(1) هو أحمد بن يوسف بن أبي بكر التيفاشي؛ توفي سنة 651، ذكره صاحب
الديباج المذهب ص74.
(1/30)
يأتي في وقت الزراعة وفي غير وقتها، فلما
عاد إدريس جمع أهل مصر، وصعد بهم إلى أول مسيل النيل، ودبر وزن الأرض
ووزن الماء على الأرض، وأمرهم بإصلاح ما أرادوا من خفض المرتفع ورفع
المنخفض وغير ذلك مما رآه في علم النجوم والهندسة والهيئة.
وكان أول من تكلم في هذه العلوم وأخرجها من القوة إلى الفعل ووضع فيها
الكتب ورسم فيها العلوم، ثم سار إلى بلاد الحبشة والنوبة وغيرها، وجمع
أهلها، وزاد في مسافة جري النيل ونقصه بحسب بطئه، وسرعته في طريقه، حتى
عمل حساب جريه ووصوله إلى أرض مصر في زمن الزراعة على ما هو عليه الآن،
فهو أول من دبر جري النيل إلى مصر، ومات إدريس بمصر.
والصابئة تزعم أن هرمي مصر؛ أحدهما قبر شيث، والآخر قبر إدريس.
والأصح ما هو إدريس؛ إنما هو مصر بن بيصر بن حام بن نوح.
هذا كلام التيفاشي.
(1/31)
ذكر من ملك مصر قبل
الطوفان:
قال المسعودي (1) : أول من ملك مصر بعد تبديل الألسن نقراوس، وكان
عالما بالكهانة والطلسمات، ويقال إنه بنى مدينة أمسوس (2) ، وعمل بها
عجائب كثيرة منها أنه عمل صنمين من حجر أسود في وسط المدينة إذا قدمها
سارق لم يقدر أن يزول عنها حتى يسلك بينهما، فإذا سلك بينهما أطبقا
عليه، فيُؤخذ، وكان مدة ملكه مائة وثمانين سنة.
فلما مات ملك بعده ابنه نقراوس؛ وكان كأبيه في علم الكهانة والطلسمات،
وبنى مدينة بمصر وسماها صلحة (3) ، وعمل خلف الواحات ثلاث مدن على
أساطين، وجعل في كل مدينة خزائن من الحكمة والعجائب.
فلما مات ملك بعده أخوه مصرام، وكان حكيما ماهرا في الكهانة والطلسمات
فعمل أعمالا عظيمة، منها أنه ذل الأسد وركبه. ويقال إنه ركب في عرشه
وحملته الشياطين حتى انتهى إلى وسط البحر المحيط، وجعل فيه قلعة بيضاء،
وجعل فيها صنما للشمس وزبر عليها اسمه وصفة ملكه، وعمل صنما من نحاس
وزبر عليه: "أنا مصرام الجبار، كاشف الأسرار، وضعت الطلسمات الصادقة،
وأقمت الصور الناطقة، ونصبت الأعلام الهائلة، على البحار السائلة،
ليعلم من بعدي أنه لا يملك أحد ملكي".
ثم ملك بعده خليفته عيقام الكاهن، ويقال إنه إدريس عليه الصلاة والسلام
رُفِع في أيامه.
ثم ملك بعده ابنه عرياق، ويقال إنه هاروت وماروت كانا في وقته.
ثم ملك بعده لوخيم بن نتراس.
_________
(1) كذا في الأصل، "وفي ح، ط: "محمد بن المسعودي".
(2) ط: "أقسوس".
(3) ط: "حلجة".
(1/32)
وبعده خصليم، وهو أول من عمل مقياسا لزيادة
النيل؛ وذلك أنه جمع أصحاب العلوم والهندسة فعملوا له بيتا من رخام على
حافة النيل، وجعل في وسطه بركة من نحاس صغيرة، فيها ماء موزون، وعلى
حافة البركة عقابان من
نحاس: ذكر وأنثى، فإذا كان أول الشهر الذي يزيد فيه النيل فتح البيت
وجمع الكهان فيه بين يديه، وتكلم رؤساء الكهان بكلام لهم حتى يصفر أحد
العقابين، فإن صَفَر الذكر كان الماء تاما، وإن صفر الأنثى كان الماء
ناقصا، فيعتدون لذلك. وهو الذي بنى القنطرة التي ببلاد النوبة على
النيل.
وملك بعده رجل يقال له هوصال؛ ويقال إن نوحا عليه الصلاة والسلام كان
في وقته.
وملك بعده ولده قدرسان.
وملك بعده سرقاق.
وملك بعده ابنه سلقوف.
وملك بعده ابنه سوريد؛ وهو أول من جبى الخراج بمصر؛ وهو الذي بنى
الهرمين، ولما مات دفن في الهرم، ودفن معه جميع أمواله وكنوزه.
وملك بعده ابنه هوجيت، ودفن أيضا في الهرم.
وملك بعده ابنه مناوس ويقال منقاوس.
وملك بعده ابنه أفروس.
وبعده ابنه مالينوس.
وبعده ابن عمه فرعان. وفي أيامه جاء الطوفان، فخرّب ديار مصر كلها،
وزالت معالمها وعجائبها، وأقام الماء ستة أشهر حتى نضب (1) .
وذكر بعض من ألف في أخبار مصر أن سفينة نوح طافت بمصر وأرضها فبارك نوح
عليه السلام فيها.
_________
(1) نضب: أي غار.
(1/33)
ذكر من ملك مصر بعد
الطوفان:
قال ابن عبد الحكم: أنبأنا عثمان بن صالح، أخبرنا ابن لهيعة، عن عياش
بن عباس العتباني، عن حنش بن عبد الله الصنعاني، عن عبد الله بن عباس
-رضي الله عنهما، قال: كان لنوح عليه الصلاة والسلام أربعة من الولد:
سام، وحام، ويافث، ويحطون. وإن نوحا رغب لله (1) ، وسأله أن يرزقه
الإجابة في ولده وذريته حتى يتكاملوا بالنماء والبركة، فوعده ذلك،
فنادى نوح ولده، وهم نيام عند السحر، فنادى ساما، فأجابه يسعى، وصاح
سام في ولده فلم يجبه أحد منهم إلا ابنه أرفخشذ، فانطلق به "معه" (2)
حتى أتياه، فوضع نوح يمينه على سام، وشماله على أرفخشذ، وسأل الله أن
يبارك في سام أفضل البركة، وأن يجعل الملك والنبوة في ولد أرفخشذ.
ثم نادى حاما فتلفت يمينا وشمالا ولم يجبه، ولم يقم إليه ولا أحد من
أولاده، فدعا الله نوح أن يجعل ولده أذلاء، وأن يجعلهم عبيدا لولد سام.
قال: وكان مصر بن بيصر بن حام نائما إلى جنب جده حام، فلما سمع دعاء
نوح على جده وولده، قام يسعى إلى نوح فقال: يا جدي، قد أجبتك إذ لم
يجبك أبي، ولا أحد من ولده، فاجعل لي دعوة من دعوتك. ففرح نوح، فوضع
يده على رأسه، وقال: اللهم إنه قد أجاب دعوتي؛ فبارك فيه وفي ذريته
وأسكنه الأرض المباركة، التي هي أم البلاد، وغوث العباد، التي نهرها
أفضل أنهار الدنيا، واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الأرض
وذللها لهم، وقوهم عليها (3) .
قال صاحب مباهج الفكر: يقال إن سبب سكنى مصر الأرض التي عرفت به وقوع
الصرح ببابل فإنه لما وقع، تفرق من كان حوله ممن تناسل من أولاد نوح
فأخذ بنو حام جهة المغرب، إلى أن وصلوا إلى البحر المحيط.
_________
(1) الفتوح: "إلى الله".
(2) من فتوح مصر.
(3) فتوح مصر ص7.
(1/34)
وأخرج ابن عبد الحكم، عن ابن لهيعة وعبد
الله بن خالد، قالا: كان أول من سكن مصر بعد أن أغرق الله قوم نوح بيصر
بن حام بن نوح، وهو أبو القبط كلهم، فسكن منفا -وهي أول مدينة عمرت بعد
الغرق- هو وولده وهم ثلاثون
نفسا، قد بلغوا وتزوجوا، فبذلك سميت ماقة -وماقة بلسان القبط ثلاثون-
وكان بيصر بن حام بن نوح قد كبر وضعف، وكان مصر أكبر ولده، وهو الذي
ساق أباه وجميع إخوته إلى مصر، فنزلوا بها، فبمصر بن بيصر سميت مصر
مصرا، فحاز "له ولولده" (1) ما بين الشجرتين خلف العريش إلى أسوان
طولا، ومن برقة إلى أيلة عرضا. ثم إن بيصر بن حام توفي فدفن في موضع
أبي هرميس، فهي أول مقبرة قبر فيها بأرض مصر، واستخلف ابنه مصر، وحاز
كل واحد من إخوة مصر قطعة من الأرض لنفسه؛ سوى أرض مصر التي حازها
لنفسه وولده. فلما كثر أولاد مصر وأولاد أولادهم، قطع مصر لكل واحد من
أولاده قطيعة (2) يحوزها لنفسه ولولده، وقسم لهم هذا النيل، فقطع لابنه
قِفْط موضع قِفْط، فسكنها، وبه سُميت، وما فوقها إلى أسوان وما دونها
إلى أشمون في الشرق والغرب، وقطع لأشمن من أشمون فما دونها إلى منف في
الشرق والغرب، فسكن أشمن أشمون، فسميت به. وقطع لأتريب ما بين منف إلى
صا؛ فسكن أتريب، فسميت به، وقطع لصا ما بين صا إلى البحر، فسكن صا،
فسميت به؛ فكانت مصر كلها على أربعة أجزاء: جزأين بالصعيد، وجزأين
بأسفل الأرض. قال: ثم توفي مصر بن بيصر، فاستخلف ابنه قِفط (3) .
وفي بعض التواريخ: لما مات مصر، كتب على قبره: "مات مصر بن بيصر بن
_________
(1) من فتوح مصر.
(2) في الأصول: "قطعة"، وما أثبته عن فتوح مصر.
(3) فتوح مصر 9.
(1/35)
حام بن نوح بعد ألفين وستمائة عام من
الطوفان، مات ولم يعبد الأصنام، ولا هرم ولا أسقام"؛ وإن قفط به سميت
القبط؛ وهو الذي بنى أهرام دهشور؛ وإن هودا بعث في أيامه، وإنه أقام في
ملكه أربعمائة وثمانين سنة.
رجع إلى حديث ابن لهيعة وعبد الله بن خالد: ثم توفي قفط، فاستخلف أخاه
أشمن، ثم توفي أشمن، واستخلف أخاه أتريب، ثم توفي أتريب، فاستخلف أخاه
صا، ثم توفي صا، فاستخلف ابنه تدارس.
وقال غيره: وفي زمنه بعث صالح عليه الصلاة والسلام.
ثم توفي تدارس، فاستخلف ابنه ماليق، ثم توفي [ماليق] (1) ، فاستخلف
ابنه [خربتا بن ماليا] (2) ، فاستخلف ابنه كلكن؛ فملكهم نحوا من مائة
سنة، ثم توفي ولا ولد له، فاستخلف أخاه ماليا، ثم توفي ماليا فاستخلف
ابنه طوميس، وهو الذي وهب هاجر لسارة امرأة إبراهيم الخليل عليه الصلاة
والسلام، ثم توفي فاستخلف ابنته خروبا؛ ولم يكن له ولد غيرها وهي أول
امرأة ملكت، ثم توفيت، فاستخلفت ابنة عمها زالفا بنة ماموم بن ماليا،
فعمرت دهرا طويلا، فكثروا ونموا، وملئوا أرض مصر كلها، فطمعت فيهم
العمالقة -وهم من ولد عملاق بن لاوز بن سام- فغزاهم الوليد بن دومغ،
فقاتلهم قتالا شديدا، ثم رضوا أن يملكوه عليهم؛ فملكهم نحوا من مائة
سنة، فطغى وتكبر، وأظهر الفاحشة، فسلط الله عليه سبعا، فافترسه فأكل
لحمه (3) .
وقال غيره: إن الوليد بن دومغ آذاه ضرسه، فنزع؛ فكان وزنه ثمانية عشر
منًّا وثلثي منًّ، وإنه رئي بعد فتح مصر يوزن به في ميزان الوكالة.
انتهى.
فملكهم من بعده الريان بن الوليد -وهو صاحب يوسف عليه الصلاة والسلام-
_________
(1) فتوح مصر.
(2) فتوح مصر.
(3) فتوح مصر 11-12.
(1/36)
فلما رأى الملك رؤياه التي رآها وعبرها
يوسف، أرسل إليه فأخرجه من السجن، ودفع إليه خاتمه، وولاه ما خلف
آباؤه، وألبسه طوقا من ذهب وثياب حرير، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة
الملك، وضرب بالطبل بمصر أن يوسف خليفة الملك (1) .
وما أحسن قول بعضهم:
أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوسا على الظلم والإفك
أقم جميل الصبر في الحبس برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
قال ابن عبد الحكم: حدثنا أسد بن موسى، حدثني الليث بن سعد، حدثني بعض
مشيخة لنا، قال: اشتد الجوع على أهل مصر، فاشتروا الطعام من يوسف
بالذهب حتى لم يجدوا ذهبا، فاشتروا بالفضة حتى لم يجدوا فضة، فاشتروا
بأغنامهم حتى لم يجدوا غنما؛ فلم يزل يبيعهم الطعام حتى لم يبق لهم فضة
ولا ذهبا ولا شاة ولا بقرة (2) في تلك السنتين، فأتوه في الثالثة،
فقالوا له: لم يبق لنا شيء إلا أنفسنا وأهلونا وأرضونا. فاشترى يوسف
أرضهم كلها لفرعون، ثم أعطى لهم يوسف طعاما يزرعونه على أن لفرعون
الخمس (3) .
قال ابن عبد الحكم: وفي ذلك الزمان استنبطت الفيوم، وكان سبب ذلك كما
حدثنا هشام بن إسحاق أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما ملك مصر، وعظمت
منزلته من فرعون، وجاوزت سنه (4) مائة سنة، قال وزراء الملك له: إن
يوسف قد ذهب علمه، وتغير عقله، ونفدت حكمته، فعنفهم فرعون، ورد عليهم
مقالتهم، فكفوا: ثم عاودوه بذلك القول بعد سنين، فقال لهم: هلموا ما
شئتم من أي شيء أختبره به.
_________
(1) فتوح مصر 12-13 مع اختلاف في النص.
(2) ابن عبد الحكم: "حتى لم يبق لهم فضة ولا ذهب".
(3) فتوح مصر 13-14.
(4) كذا في الأصل وفتوح مصر، وفي ح، ط: "وجاوزت منه سنة".
(1/37)
وكانت الفيوم تدعى يومئذ الجوبة؛ وإنما
كانت لمصالة (1) ماء الصعيد وفضوله فاجتمع رأيهم على أن تكون هي المحنة
التي يمتحنون بها يوسف عليه الصلاة والسلام، فقالوا لفرعون: سل يوسف أن
يصرف ماء الجوبة عنها، ويخرجه منها، فتزداد بلدا إلى بلدك، وخراجا إلى
خراجك. فدعا يوسف فقال: قد تعلم مكان ابنتي فلانة مني، وقد رأيت إذا
بلغت أن أطلب لها بلدا، وإني لم أصب إلا الجوبة؛ وذلك أنه بلد بعيد
قريب، لا يؤتى من وجه إلا من غابة أو صحراء، فالفيوم وسط مصر كمثل مصر
في وسط البلاد؛ لأن مصر لا تؤتى من ناحية من النواحي إلا من صحراء أو
مفازة، وقد أقطعتها (2) إياها فلا تتركن وجها ولا نظرا إلا بلغته، فقال
يوسف: نعم أيها الملك، متى أردت ذلك فابعث لي؛ فإني إن شاء الله فاعل؛
فقال: إن أحبه إلي وأوفقه أعجله، فأُوحي إلى يوسف أن يحفر ثلاثة خلج:
خليجا من أعلى الصعيد من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا شرقيا من موضع
كذا إلى موضع كذا، وخليجا غربيا من موضع كذا إلى موضع كذا؛ فوضع يوسف
العمال، فحفر خليج المنهى من أعلى أشمون
إلى اللاهون، وحفر خليج الفيوم وهو الخليج الشرقي، وحفر خليجا بقرية
يقال لها تنهمت من قرى الفيوم، وهو الخليج الغربي. فخرج ماؤها من
الخليج الشرقي فصب في النيل، وخرج من الخليج الغربي فصب في صحراء تنهمت
إلى الغرب، فلم يبق في الجوبة ماء. ثم أدخلها الفعلة، فقطع ما كان فيها
من القصب والطرفاء وأخرجه منها، وكان ذلك ابتداء جري النيل، وقد صارت
الجوبة أرضا برية، وارتفع ماء النيل، فدخلها في رأس المنهى، فجرى فيه
حتى انتهى إلى اللاهون، فقطعه إلى الفيوم، فدخل خليجها فسقاها، فصارت
لجة من النيل. وخرج إليها الملك ووزراؤه، وكان هذا في سبعين يوما.
_________
(1) مصالة الماء: بقيته.
(2) فتوح مصر: "ريفية برية".
(1/38)
فلما نظر إليها الملك قال لوزرائة. هذا عمل
ألف يوم، فسميت الفيوم، فأقامت تزرع كما تزرع غوائط مصر (1) .
قال: ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك، وأنه إنما كان ذلك منهم على المحنة
منهم له، فقال للملك: إن عندي من الحكمة والتدبير غير ما رأيت؛ فقال
الملك: وما ذاك؟ فقال: أنزل الفيوم من كل كورة من مصر أهل بيت، وآمر
أهل كل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية -وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر-
فإذا فرغوا من بناء قراهم صيرت لكل قرية من الماء بقدر ما أصير لها من
الأرض، لا يكون في ذلك زيادة عن أرضها ولا نقصان، وأصير لكل قرية شربا
في زمان لا ينالهم الماء إلا فيه، وأصير مطاطئا للمرتفع، ومرتفعا
للمطاطئ بأوقات من الساعات في الليل والنهار، وأصير لها مصاب (2) فلا
يقصر بأحد دون حقه، ولا يزداد فوق قدره. فقال له فرعون: هذا من ملكوت
السماء؟ قال: نعم، فبدأ يوسف فأمر ببنيان القرى، وحد لها حدودا، فكانت
أول قرية عمرت بالفيوم قرية يقال لها شانة، وهي القرية التي كانت
تنزلها بنت فرعون. ثم أمر بحفر الخليج وبنيان القناطر، فلما فرغوا من
ذلك استقبل الأرض ووزن الماء؛ ومن يومئذ أحدثت (3) الهندسة، ولم يكن
الناس يعرفونها قبل ذلك.
قال: وكان أول من قاس النيل بمصر يوسف عليه الصلاة والسلام، ووضع
مقياسا بمنف (4) .
أخرج ابن عبد الحكم من طريق الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: فوض
الريان إلى يوسف تدبير ملك مصر، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة.
وأخرج عن عكرمة أن فرعون قال ليوسف: إني قد سلطنتك على مصر، إني
_________
(1) الغوائط: جمع غوطة، وهي الأرض المتسعة إلى منحدر.
(2) فتوح مصر: "قبضات".
(3) كذا في الأصل وابن عبد الحكم، وفي ح، ط: "أخذت".
(4) فتوح مصر 16.
(1/39)
أريد أن أجعل كرسي أطول من كرسيك بأربع
أصابع، قال يوسف: نعم.
قال ابن عبد الحكم: وحدثنا هشام بن إسحاق، قال: في زمان الربان بن
الوليد، دخل يعقوب عليه الصلاة والسلام وولده مصر؛ وهم ثلاثة وتسعون
نفسا، بين رجل وامرأة، فأنزلهم يوسف ما بين عين الشمس إلى الفرما وهي
أرض ريفية برية. قال: فلما دخل يعقوب على فرعون، فكلمه -وكان يعقوب
شيخا كبيرا حليما حسن الوجه واللحية، جهير الصوت- فقال له فرعون: كم
أتى عليك أيها الشيخ؟ قال: عشرون ومائة سنة، وكان بمين (1) ساحر فرعون
قد وصف صفة يعقوب ويوسف وموسى عليهم الصلاة والسلام في كتبه، وأخبر أن
خراب مصر وهلاك ملكها على يديهم، ووضع الرايات (2) وصفات من تخرب مصر
على يديه. فلما رأى يعقوب قام إلى مجلسه، فكان أول ما سأله عنه، أن قال
له: من تعبد أيها الشيخ؟ قال يعقوب: أعبد الله إله كل شيء، قال: كيف
تعبد ما لا ترى؟ قال يعقوب: إنه أعظم وأجل من أن يراه أحد، قال بمين:
فنحن نرى آلهتنا، قال يعقوب: إن آلهتكم من عمل أيدي بني آدم، ممن يموت
ويبلى، وإن إلهي أعظم وأرفع، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد؛ فنظر بمين
إلى فرعون، فقال: هذا الذي يكون هلاك بلادنا على يديه، قال فرعون: في
أيامنا أو في أيام غيرنا؟ قال: ليس في أيامك ولا أيام بنيك، قال الملك:
هل تجد هذا فيما قضى به إلهكم؟ قال: نعم. قال: فكيف نقدر أن نقتل من
يريد إلهه هلاك قومه على يديه! فلا نعبأ بهذا الكلام (3) .
وأخرج ابن عبد الحكم عن طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال:
_________
(1) في الأصول: "عين"، تحريف، صوابه من فتوح مصر.
(2) فتوح مصر: "البربايات".
(3) فتوح مصر 17-18.
(1/40)
دخل مصر يعقوب وولده، وكانوا سبعين نفسًا،
وخرجوا وهم ستمائة ألف نفس.
وأخرج عن مسروق، قال: دخل أهل يوسف وهم ثلاثة وتسعون إنسانًا، وخرجوا
وهم ستمائة ألف نفس.
وأخرج عن كعب الأحبار أن يعقوب عاش في أرض مصر ست عشرة سنة، فلما حضرته
الوفاة قال ليوسف: لا تدفني بمصر، فإذا (1) مت فاحملوني فادفنوني في
مغارة جبل حبرون (2) فلما مات لطخوه بمر وصبر، وجعلوه في تابوت من ساج،
وأعلم يوسف فرعون أن أباه قد مات، وأنه سأله أن يقبره في أرض كنعان،
فأذن له، وخرج معه أشراف أهل مصر حتى دفنه وانصرف (3) .
قال ابن عبد الحكم: وحدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عمن حدثه،
قال: قبر يعقوب عليه الصلاة والسلام بمصر، فأقام بها نحوا من ثلاث
سنين، ثم حمل إلى بيت المقدس؛ أوصاهم بذلك عند موته (4) .
وأخرج من طريق الكلبي، عن أبي صالح، قال: حبرون مسجد إبراهيم اليوم،
بينه وبين بيت المقدس ثمانية عشر ميلًا.
رجع إلى حديث ابن لهيعة وعبد الله بن خالد: قالا: ثم مات الريان بن
الوليد، فملكهم من بعده ابنه دارم؛ وفي زمانه توفي يوسف عليه الصلاة
والسلام.
أخرج ابن عبد الحكم، عن كعب قال: لما حضرت يوسف الوفاة، قال: إنكم
ستخرجون من أرض مصر إلى أرض آبائكم، فاحملوا عظامي معكم. فمات فجعلوه
في تابوت ودفنوه.
_________
(1) فتوح مصر: "وإذا".
(2) في الأصول: "جبرون"، وما أثبته من فتوح مصر.
(3) فتوح مصر 18.
(4) فتوح مصر 18.
(1/41)
وأخرج عنه قال: لما مات يوسف استعبد أهل
مصر بني إسرائيل.
وأخرج عن سماك بن حرب، قال: دفن يوسف عليه الصلاة والسلام في أحد جانبي
النيل، فأخصب الجانب الذي كان فيه، وأجدب الجانب الآخر، فحولوه إلى
الجانب الآخر، فأخصب الجانب الذي حولوه إليه، وأجدب الجانب الآخر؛ فلما
رأوا ذلك جمعوا عظامه فجعلوها في صندوق من حديد،
وجعلوه في سلسلة، وأقاموا عمودًا على شاطئ النيل، وجعلوا في أصله سكة
من حديد؛ وجعلوا السلسلة في السكة، وألقوا الصندوق في وسط النيل، فأخصب
الجانبان جميعًا (1) .
رجع إلى حديث ابن لهيعة، وعبد الله بن خالد: قالا: ثم إن دارما طغى بعد
يوسف وتكبر، وأظهر عبادة الأصنام، وركب النيل في سفينة، فبعث الله عليه
ريحًا عاصفًا، فأغرقته ومن كان معه فيما بين طرا إلى موضع حلوان؛
فملكهم من بعده كاشم "بن معدان" (2) وكان جبارًا عاتيا. ثم هلك كاشم
"بن معدان"، فملكهم من بعده فرعون موسى من العماليق، فأقام خمسمائة
سنة، حتى أغرقه الله (3) .
وأخرج ابن عبد الحكم، عن ابن لهيعة والليث بن سعد، قالا: كان فرعون
قبطيًّا من قبط مصر، اسمه طلما (4) .
وأخرج عن هانئ بن المنذر، قال: كان فرعون من العماليق، وكان يكنى بأبي
مرة (5) .
وأخرج عن أبي بكر الصديق، قال: كان فرعون أثرم (6) .
_________
(1) فتوح مصر 18-19.
(2) فتوح مصر.
(3) فتوح مصر 19.
(4) كذا في فتوح مصر 19، وفي الأصول: "ظلمى".
(5) فتوح مصر 20.
(6) فتوح مصر 20، وبعدها: "ويقال: بل هو رجل من لخم، والله أعلم".
(1/42)
وقال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا عبد الله
بن أبي فاطمة، عن مشايخه، أن ملك مصر توفي، فتنازع الملك جماعة من
أبناء الملك -ولم يكن الملك عَهد- ولما عظم الخطب بينهم تداعوا إلى
الصلح، فاصطلحوا على أن يحكم بينهم أول من يطلع من الفج فج الجبل، فطلع
فرعون بين عديلتي نطرون، قد أقبل بهما (1) ليبيعهما، وهو رجل من فران
بن بلى -[واسمه الوليد بن مصعب، وكان قصيرًا أبرص، يطاطئ في لحيته] (2)
- فاستوقفوه، وقالوا: إنا جعلناك حكمًا بيننا فيما تشاجرنا فيه من
الملك، وآتوه مواثيقهم على الرضا. فلما استوثق منهم، قال: إني قد رأيت
أن أملك نفسي عليكم؛ فهو أذهب لضغائنكم، وأجمع لأموركم،
والأمر من بعد إليكم. فأمّروه عليهم لمنافسة بعضهم بعضًا، وأقعدوه في
دار الملك بمنف، فأرسل إلى صاحب أمر كل رجل منهم، فوعده ومناه أن يملكه
على ملك صاحبه، ووعدهم ليلةً يقتل فيها كل رجل منهم صاحبه، ففعلوا ودان
له أولئك بالربوبية، فملكهم نحوًا من خمسمائة سنة، وكان من أمره وأمر
موسى ما قص الله تعالى من خبرهم في القرآن (3) .
وأخرج ابن عبد الحكم عن أبي الأشرس، قال: مكث فرعون أربعمائة سنة،
الشباب يغدو عليه ويروح (4) .
وأخرج عن إبراهيم بن مقسم، قال: مكث فرعون أربعمائة سنة لم يصدع له
رأس، وكان يملك ما بين مصر إلى إفريقية.
وأخرج من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان يقعد على
كراسي فرعون مائتان عليهم الديباج وأساور الذهب (5) .
_________
(1) كذا في ابن عبد الحكم، وفي الأصول "بينهما"
(2) ساقط من فتوح مصر.
(3) فتوح مصر 20.
(4) فتوح مصر 20.
(5) فتوح مصر 21.
(1/43)
وأخرج ابن عبد الحكم، عن عبد الله بن عمر
بن العاص؛ أن فرعون استعمل هامان على حفر خليج سردوس، فلما ابتدأ حفره
أتاه أهل كل قرية يسألونه أن يجري الخليج تحت قريتهم، ويعطوه مالًا؛
فكان يذهب به إلى هذه القرية من نحو المشرق، ثم يرده إلى قرية (1) في
المغرب، ثم يرده إلى أهل قرية في القبلة، ويأخذ من أهل كل قرية مالًا؛
حتى اجتمع له في ذلك مائة ألف دينار، فأتى بذلك كله إلى فرعون، فسأله
فرعون عن ذلك، فأخبره بما فعل في حفره. قال له فرعون: ويحك! ينبغي
للسيد أن يعطف على عباده، ويفيض عليهم ولا يرغب فيما بأيديهم، ورد على
أهل كل قرية ما أُخذ منهم. فرده كله على أهله. قال: فلا يُعلم بمصر
خليج أكثر عطوفًا منه لما فعل هامان في حفره.
قال ابن عبد الحكم: وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الذي كان يُعمل به بمصر
على عهد ملوكها، أنهم كانوا يُقرون القرى في أيدي أهلها، كل قرية بكراء
معلوم، لا ينقض عليهم إلا في كل أربع سنين من أجل الظمأ وتنقل اليسار؛
فإذا مضت أربع سنين نقض ذلك، وعدل تعديلًا جديدًا، فيرفق بمن استحق
الرفق،
ويزداد على من يحتمل الزيادة، ولا يحمل عليهم من ذلك ما يشق عليهم؛
فإذا جُبِيَ الخراج وجمع، كان للملك من ذلك الربع خالصًا لنفسه يصنع
فيه ما يريد، والربع الثاني لجنده ومن يقوى به على حربه وجباية خراجه
ودفع عدوه، والربع الثالث في مصلحة الأرض وما يحتاج إليها من جسورها
وحفر خلجها، وبناء قناطرها؛ والقوة للمزارعين على زرعهم وعمارة أرضهم،
والربع الرابع يخرج منه ربع ما يصيب كل قرية من خراجها فيدفن ذلك فيها
لنائبة تنزل، أو جائحة بأهل القرية؛ فكانوا على
_________
(1) بعدها في ط: "من نحو دبر القبلة، ثم يرده إلى قرية"، والصواب ما في
الأصل.
(1/44)
ذلك. وهذا الربع الذي يدفن في كل قرية من
خراجها، هو كنوز فرعون التي يُتحدث بها أنها ستظهر، فيطلبها الذين
يتبعون الكنوز.
حدثنا أبو الأسود نصر بن عبد الجبار، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي قبيل،
قال: خرج وردان من عند مسلمة بن مخلد -وهو أمير على مصر- فمر على عبد
الله بن عمرو مستعجلًا، فناداه: أين تريد؟ قال: أرسلني الأمير مسلمة أن
آتي منفًا، فأحضر له من كنز فرعون، قال: فارجع إليه، وأقرئه مني السلام
وقل له: إن كنز فرعون ليس لك ولا لأصحابك، إنما هو للحبشة، إنهم يأتون
في سفنهم يريدون الفسطاط، فيسيرون حتى ينزلوا منفًا، فيظهر لهم كنز
فرعون، فيأخذون ما يشاءون، فيقولون: ما نبتغي غنيمة أفضل من هذه،
فيرجعون، ويخرج المسلمون في آثارهم فيقتتلون، فيهزم الجيش فيقتلهم
المسلمون ويأسرونهم؛ حتى إن الحبشي ليباع (1) بالكساء.
قال أهل التاريخ: كان فرعون إذا كمل التخضير في كل سنة ينفذ مع قائدين
من قواده إردب قمح، فيذهب أحدهما إلى أعلى مصر، والآخر إلى أسفلها،
فيتأمل القائد أرض كل قرية، فإن وجد موضعًا بائرًا عطلًا قد أغفل بذره،
كتب إلى فرعون بذلك، وأعلمه باسم العامل على تلك الجهة، فإذا بلغ فرعون
ذلك، أمر بضرب عنق ذلك العامل، وأخذ ماله، فربما عاد القائدان ولم يجدا
موضعًا لبذر الإردب لتكامل العمارة واستظهار الزرع.
وأخرج الحاكم في المستدرك، وصححه عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "إن موسى حين أراد أن يسير
ببني إسرائيل، ضل عنه
الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: إن
يوسف حين حضره
_________
(1) ح: "يباع".
(1/45)
الموت، أخذ علينا موثقًا من الله ألا نخرج
من مصر حتى ننقل عظامه معنا، فقال موسى: أيكم يدري أين قبره. فقالوا:
ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى، فقال:
دلينا على قبر يوسف، قالت: لا والله حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟
قالت: أن أكون معك في الجنة؛ فكأنه كره ذلك، فقيل له: أعطها حكمها،
فأعطاها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء، فقالت لهم: نضِّبوا
عنها الماء، ففعلوا، قالت: احفروا، فحفروا، فاستخرجوا عظام يوسف؛ فلما
أن أقلوه من الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار".
وأخرج ابن عبد الحكم، عن سماك بن حرب، مرفوعًا نحوه، وفيه: "فقالت: إني
أسأل أن أكون أنا وأنت في درجة واحدة في الجنة، ويُرد عليَّ بصري
وشبابي، حتى أكون شابة كما كنت، قال: فلك ذلك".
وأخرج من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس نحوه، وفيه: "فقالت
عجوز يقال لها سارح (1) ابنة آشر بن يعقوب: أنا رأيت عمي حين دفن، فما
تجعل لي إن دللتك عليه؟ فقال: حكمك، قالت: أكون معك حيث كنت في الجنة".
وأخرج عن ابن لهيعة عمن حدثه، قال: قبر يوسف بمصر، فأقام بها نحوا من
ثلاثمائة سنة، ثم حمل إلى بيت المقدس.
رجع إلى حديث ابن لهيعة وعبد الله بن خالد: قالا: ثم أغرق الله فرعون
وجنوده، وغرق معه من أشراف أهل مصر وأكابرهم ووجوههم أكثر من ألفي ألف،
فبقيت مصر من بعد غرقهم؛ ليس فيها من أشراف أهلها أحد، ولم يبق بها إلا
العبيد والأجراء والنساء، فأعظم أشراف من بمصر من النساء أن يولين منهن
أحدًا، وأجمع رأيهن على أن يولين امرأة منهن يقال لها دلوكة بنت
_________
(1) ط: "شادح".
(1/46)
زباء، وكان لها عقل ومعرفة وتجارب، وكانت
في شرف منهن وموضع، وهي يومئذ بنت مائة سنة وستين سنة، فملكوها، فخافت
أن يتناولها ملوك الأرض فجمعت نساء الأشراف، فقالت لهن: إن بلادنا لم
يكن يطمع فيها أحد، ولا يمد عينيه إليها،
وقد هلك أكابرنا وأشرافنا، وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم، وقد رأيت
أن أبني حصنًا أحدق به جميع بلادنا، فأضع عليه المحارس من كل ناحية،
فإننا لا نأمن أن يطمع فيها الناس، فبنت جدارًا أحاطت به على جميع أرض
مصر كلها المزارع والمدائن والقرى، وجعلت دونه خليجًا يجري فيه الماء،
وأقامت القناطر والترع، وجعلت فيه محارس ومسالح على كل ثلاثة أميال
محرس ومسلحة، وفيما بين ذلك محارس صغار على كل ميل، وجعلت في كل محرس
رجالًا، وأجرت عليهم الأرزاق، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس، فإذا أتاهم
أحد يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض بأجراس، فأتاهم الخبر من كل وجه كان في
ساعة واحدة، فنظروا في ذلك، فمنعت بذلك مصر من أرادها، وفرغت من بنائه
في ستة أشهر، وهو الجدار الذي يقال له جدار العجوز، وقد بقيت بالصعيد
منه بقايا "كثيرة" (1) .
وكان ثم عجوز ساحرة، يقال لها تدورة، وكانت السحرة تعظمها وتقدمها في
السحر، فبعثت إليها دلوكة: إنا قد احتجنا إلى سحرك، وفزعنا إليك،
فاعملي لنا شيئًا نغلب به من حولنا، فقد كان فرعون يحتاج إليك، فعملت
بربى (2) من حجارة في وسط مدينة منف، وجعلت له أربعة أبواب، كل باب
منها إلى جهة القبلة، والبحر والشرق والغرب، وصورت فيه صورة الخيل
والبغال والحمير والسفن والرجال، وقالت لهم: قد
_________
(1) فتوح مصر 27-28، وانظر معجم البلدن 3: 204.
(2) قال ياقوت: "البرابي: جمع بربى؛ كلمة قبطية؛ وأظنه اسمًا لموضع
العبادة أو البناء المحكم أو موضع السحر. ثم قصة تدورة. معجم البلدان
2: 59.
(1/47)
عملت لكم عملا يهلك به من أرادكم من كل جهة
تؤتون منها برا أو بحرا، وهذا يغنيكم عن الحصن، ويقطع عنكم مؤنته؛ فمن
أتاكم من أي جهة، فإنهم إن كانوا في البر على خيل أو بغال أو إبل أو في
سفن أو رجالة تحركت هذه الصورة من جهتهم التي يأتون منها، فما فعلتم
بالصور من شيء أصابهم ذلك في أنفسهم على ما يفعلون بهم. فلما بلغ
الملوك حولهم أن أمرهم قد صار إلى ولاية النساء، طمعوا فيهم، وتوجهوا
إليهم، فلما دنوا من عمل مصر، تحركت تلك الصور التي في البر، فطفقوا لا
يهيجون تلك الصور، ولا يفعلون بها شيئا إلا أصاب ذلك الجيش الذي أقبل
إليهم مثله؛
من قطع رءوسها أو سوقها أو فقء عينها، أو بقر بطونها. وانتشر ذلك،
فتناذرهم الناس، وكان نساء أهل مصر حين غرق أشرافهم ولم يبق إلا العبيد
والأجراء لم يصبروا عن الرجال، فطفقت المرأة تعتق عبدها وتتزوجه،
وتتزوج الأخرى أجيرها، وشرطن على الرجال ألا يفعلوا إلا بإذنهن،
فأجابوهن إلى ذلك؛ فكان أمر النساء على الرجال (1) .
قال ابن لهيعة: فحدثني يزيد بن أبي حبيب، أن القبط على ذلك إلى اليوم،
اتباعا لما مضى منهم؛ لا يبيع أحدهم ولا يشتري إلا قال: أستأذن امرأتي.
فملكتهم دلوكة بنت زباء عشرين سنة تدبر أمرهم بمصر، حتى بلغ من أبناء
أكابرهم وأشرافهم رجل يقال له دركون بن بلوطس (2) ، فملكوه عليهم؛ فلم
تزل مصر ممتنعة بتدبير تلك العجوز نحو أربعمائة سنة. ثم مات دركون "بن
بلطوس" (3) ، فاستخلف ابنه بودس، ثم توفي فاستخلف أخاه لقاس، فلم يمكث
إلا ثلاث سنين حتى مات، ولم يترك ولدا، فاستخلف أخاه مرينا، ثم توفي،
فاستخلف ولده استمارس، فطغى وتكبر وسفك، وأظهر الفاحشة، فأعظموا ذلك،
وأجمعوا على خلعه فخلعوه، وقتلوه وبايعوا رجلا من
_________
(1) فتوح مصر 27-28.
(2) في الأصول: "بلطوس"، وما أثبته من فتوح مصر.
(3) من فتوح مصر.
(1/48)
أشرافهم يقال له بلوطس بن مناكيل، فملكهم
أربعين سنة ثم توفي، فاستخلف ابنه مالوس، ثم توفي، فاستخلف أخاه مناكيل
فملكهم زمانا ثم توفي، فاستخلف ابنه بولة، فملكهم مائة وعشرين سنة؛ وهو
الأعرج الذي سبا ملك بيت المقدس، وقدم به إلى مصر. وكان بولة قد تقدم
(1) في البلاد، وبلغ مبلغا لم يبلغه أحد ممن كان قبله بعد فرعون، وطغى
فقتله الله، صرعته دابته، فدقت عنقه فمات (2) .
أخرج ابن عبد الحكم، عن كعب الأحبار، قال: لما مات سليمان بن داود
عليهما الصلاة والسلام، ملك بعده عمه مرحب، فسار إلى ملك مصر، فقاتله،
وأصاب الأترسة الذهب التي عملها سليمان، فذهب بها.
ثم استخلف مرينوس بن بولة فملكهم زمانا ثم توفي، فاستخلف ابنه قرقورة،
فملكهم ستين سنة، ثم توفي فاستخلف أخاه لقاس؛ وكان كلما انهدم من تلك
البربى شيء لم يقدر أحد على إصلاحه إلا تلك العجوز وولد ولدها، فكانوا
أهل البيت لا يعرف ذلك غيرهم، فانقطع أهل ذلك البيت، وانهدم من البربى
موضع في زمان لقاس، فلم يقدر أحد على إصلاحه ومعرفة علمه، وبقي على
حاله، وانقطع ما كان يقهرون به الناس. ثم توفي لقاس، فاستخلف ابنه
قومس، فملكهم دهرا. فلما ظهر بخت نصر على بيت المقدس وسبى بني إسرائيل،
وخرج بهم إلى أرض بابل، أقام بإيليا وهي خراب؛ فاجتمع إليه بقايا بني
إسرائيل كانوا متفرقين، فقال لهم أرميا: أقيموا بنا في أرضنا لنستغفر
الله، ونتوب إليه، لعله أن يتوب علينا، فقالوا: إنا نخاف أن يسمع بنا
بخت نصر، فيبعث إلينا، ونحن شرذمة قليلون؛ ولكنا نذهب إلى ملك مصر
فنستجير به، وندخل في ذمته، فقال لهم أرميا: ذمة الله أوفى لكم، ولا
يسعكم أمان
_________
(1) فتوح مصر: "تمكن".
(2) فتوح مصر 28-29.
(1/49)
أحد من أهل الأرض، إذا أخافكم. فسار أولئك
النفر من بني إسرائيل إلى قومس، واعتصموا به، فقال: أنتم في ذمتي،
فأرسل إليه بخت نصر أن لي قبلك عبيدا أبقوا مني، فابعث بهم إلي. فكتب
إليه قومس: ما هم بعبيدك؛ هم أهل النبوة والكتاب وأبناء الأحرار،
اعتديت عليهم وظلمتهم؛ فحلف بخت نصر: لئن لم تردهم لأغزون بلادك. وأوحى
الله إلى أرميا إني مظهر نصر على هذا الملك الذي اتخذوه حرزا، ولو أنهم
أطاعوك، وأطبقت عليهم السماء والأرض، لجعلت لهم من بينهما مخرجا.
فرحمهم أرميا، وبادر إليهم، وقال لهم: إن لم تطيعوني أسركم بخت نصر
وقتلكم؛ وآية ذلك أنى رأيت موضع سريره الذي يضعه بعد ما يظفر بمصر
ويملكها. ثم عمد فدفن أربعة أحجار في الموضع الذي يضع فيه بخت نصر
سريره، وقال: يقع كل قائمة من قوائم سريره على حجر منها. فلجوا في
رأيهم، وسار بخت نصر إلى قومس، فقاتله سنة، ثم ظفر به. فقتل وسبى جميع
أهل مصر، وقتل من قتل. فلما أراد قتل من أسر منهم، وُضع له سريره في
الموضع الذي وصف أرميا، ووقعت كل قائمة من قوائم سريره على حجر من تلك
الحجارة التي دفن؛ فلما أتوا بالأسارى، أُتي معهم بأرميا. فقال له بخت
نصر: ألا أراك مع أعدائي بعد أن أمنتك وأكرمتك! فقال له
أرميا: إني أتيتهم محذرا، وأخبرتهم خبرك، وقد وضعت لهم علامة تحت
سريرك، وأريتهم موضعه، فقال بخت نصر: وما مصداق ذلك؟ قال أرميا: ارفع
سريرك، فإن تحت كل قائمة حجرا دفنته، فلما رفع سريره، وجد مصداق ذلك،
فقال لأرميا: لو أعلم أن فيهم خيرا لوهبتهم لك. فقتلهم وأخرب مدائن مصر
وقراها، وسبى جميع أهلها، ولم يترك بها أحدا حتى بقيت مصرا أربعين سنة
خرابا ليس فيها أحد؛ يجري نيلها، ويذهب لا يُنتفع به. وأقام أرميا
بمصر، واتخذ زرعا يعيش به فأوحى الله إليه: إن لك عن الزرع والمقام
شغلا، فألحق بإيليا. فخرج أرميا حتى أتى
(1/50)
بيت المقدس. ثم إن بخت نصر رد أهل مصر
إليها بعد أربعين سنة، فعمروها، فلم تزل مصر مقهورة من حينئذ (1) .
ثم ظهرت الروم وفارس على سائر الملوك الذين في وسط الأرض، فقاتلت الروم
أهل مصر ثلاث سنين يحاصرونهم. وصابروهم القتال في البر والبحر؛ فلما
رأى ذلك أهل مصر صالحوا الروم، على أن يدفعوا لهم شيئا مسمى في كل عام،
على أن يمنعوهم ويكونوا في ذمتهم، ثم ظهرت فارس على الروم، فلما غلبوهم
على الشام، رغبوا في مصر، وطمعوا فيها، فامتنع أهل مصر، وأعانتهم
الروم، وقاتلت دونهم، وألحت عليهم فارس، فلما خشوا ظهورهم عليهم صالحوا
فارس، على أن يكون ما صالحوا عليه الروم بين الروم وفارس، فرضيت الروم
بذلك حين خافت ظهور فارس عليها، فكان ذلك الصلح على مصر، وأقامت مصر
بين الروم وفارس سبع سنين، ثم استجاشت الروم، وتظاهرت على فارس، وألحت
بالقتال والمدد، حتى ظهروا عليهم وخربوا مصانعهم أجمع، وديارهم التي
بالشام ومصر، وكان ذلك في عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وفيه نزلت: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ} (2) الآية، فصارت الشام كلها صلحًا ومصر خالصًا للروم، وليس
لفارس في الشام ومصر شيء (3) .
قال الليث بن سعد: وكانت الفرس قد أسست بناء الحصن الذي يقال له سبيل،
أليون (4) ، وهو الحصن الذي بفسطاط مصر اليوم؛ فلما انكشفت جموع فارس
وأخرجتهم الروم من الشام، أتمت الروم بناء ذلك الحصن، وأقامت به،
وأرسل هرقل المقوقس أميرا على مصر، وجعل إليه حربها وجباية خراجها،
فنزل الإسكندرية، فلم تزل في ملك الروم حتى فتحها الله تعالى على
المسلمين (5) .
قال صاحب مباهج الفكر: هذا الحصن يُسمى قصر الشمع.
_________
(1) فتوح مصر 30-31.
(2) سورة الروم: 1، 2.
(3) فتوح مصر 35.
(4) فتوح مصر: "باب أليون".
(5) فتوح مصر 35.
(1/51)
ذكر من دخل مصر من
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
قال أبو عمر محمد بن يوسف الكندي في كتاب فضائل مصر: دخل مصر من
الأنبياء إدريس وهو هرمس، وإبراهيم الخليل، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف،
واثنا عشر نبيا من ولد يعقوب وهم الأسباط، ولوط، وموسى وهارون، ويوشع،
ابن نون، ودانيال، وأرميا، وعيسى بن مريم؛ عليهم الصلاة والسلام.
قلت: أما إبراهيم فقال ابن عبد الحكم: كان سبب دخوله مصر كما حدثنا به
أسد بن موسى وغيره، أنه لما أمر بالخروج عن أرض قومه، والهجرة إلى
الشام، خرج ومعه لوط وسارة؛ حتى أتوا حران، فنزلها، فأصاب أهل حران
جوع، فارتحل بسارة يريد مصر، فلما دخلها ذُكر جمالها لملكها، ووُصِف له
أمرها (1) ، فأمر بها، فأدخلت عليه، وسأل إبراهيم: ما هذه المرأة منك؟
فقال: أختي؛ فهم الملك بها، فأيبس الله يديه ورجليه، فقال لإبراهيم:
هذا عملك فادع الله لي؛ فوالله لا أسوءك فيها. فدعا الله فأطلق يديه
ورجليه، وأعطاهما غنما وبقرا. وقال: ما ينبغي لهذه أن تخدم نفسها، فوهب
لها هاجر (2) .
وأما إسماعيل فرأيت أيضا عدة من الكتب المؤلفة في مصر، ولم أقف في شيء
من الأحاديث والآثار على ما يشهد لذلك، وأنا أستبعد صحته، فإنه منذ
أقدمه أبوه إلى مكة وهو رضيع مع أمه، لم ينقل أنه خرج منها، ولم يدخل
أبوه مصر إلا قبل أن يملك أمه.
_________
(1) في ابن عبد الحكم: "وكان حسن سارة حسن حواء".
(2) فتوح مصر 10.
(1/52)
وأما يعقوب ويوسف وإخوته فدخولهم مصر منصوص
عليه في القرآن.
وكذا موسى وهارون وقد ولدا بها.
وأما لوط فيمكن دخلوه مع إبراهيم؛ ولكن لم أر التصريح به في حديث ولا
أثر.
وأما يوشع فهو ابن نون بن أفرائيم بن يوسف. ولد بمصر، وخرج مع موسى إلى
البحر لما سار ببني إسرائيل، ورد في أثر عن ابن عباس.
وأما أرميا فتقدم دخوله في قصة بخت نصر.
وأما عيسى فتقدم في قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} (1)
إنها مصر على قول جماعة، ورأيت في بعض الكتب أن عيسى ولد بمصر بقرية
أهناس، وبها النخلة التي في قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ
النَّخْلَةِ} (2) ، وأنه نشأ بمصر، ثم سار على سفح المقطم ماشيا، وهذا
كله غريب لا صحة له، بل الآثار دلت على أنه ولد ببيت المقدس، ونشأ به،
ثم دخل مصر.
وأما دانيال، فلم أقف فيه على أثر إلى الآن، وعده ابن زولاق فيمن ولد
بمصر.
والخلاف في نبوة إخوة يوسف شهير، ولي في ذلك تأليف مستقل؛ وهم مدفونون
بمصر بلا خلاف؛ وهذه أسماؤهم لتستفاد!
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن السدي، قال: بنو يعقوب: يوسف،
وبنيامين، وروبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوى، ودان، وقهاث، وكودى،
وبانيون. هكذا سمى عشرة وبقي اثنان.
_________
(1) سورة المؤمنون: 50.
(2) سورة مريم: 25.
(1/53)
وتقدم عن ابن عباس أن العجوز التي دلت موسى
على قبر يوسف ابنة أشي بن يعقوب؛ فهذا أحدهما، والآخر بقيا.
وبقي من الأنبياء الذين دخلوا مصر، يوسف المذكور في سورة غافر، على أحد
القولين أنه غير يوسف بن يعقوب، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا
جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ
مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} (1) قال جماعة: هو يوسف بن إفراييم بن يوسف بن
يعقوب؛
لأن يوسف بن يعقوب لم يدرك زمن فرعون موسى حتى يبعثه الله تعالى؛ فإن
صح هذا القول فهو نبي رسول، ولد بمصر ومات بها. ولا نظير له في ذلك.
ومن الأنبياء الذين دخلوا مصر سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام،
وسيأتي في بناء الإسكندرية ما يدل على ذلك.
ورأيت حديثا يدل على أن أيوب عليه السلام دخلها، أخرج ابن عساكر في
تاريخه عن عقبة بن عامر مرفوعا، قال: قال الله لأيوب: أتدري لم
ابتليتك؟ قال: لا يارب، قال: لأنك دخلت على فرعون، فداهنت عنده
بكلمتين؛ يؤيد ذلك أن زوجته بنت ابن يوسف؛ أخرج ابن عساكر، عن وهب بن
منبه قال: زوجة أيوب رحمة بنت منشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
ثم رأيت أثرا صريحا في دخول أيوب وشعيب عليهما الصلاة والسلام مصر؛
أخرج ابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني، قال: أجدب الشام، فكتب فرعون
إلى أيوب: أن هلم إلينا، فإن لك عندنا سعة، فأقبل بخيله وماشيته وبنيه،
فأقطعهم؛
_________
(1) سورة غافر: 34.
(1/54)
فدخل شعيب على فرعون، فقال: يا فرعون، أما
تخاف أن يغضب الله غضبه، فيغضب لغضبه أهل السماوات والأرض والجبال
والبحار! فسكت أيوب، فلما خرجا من عنده أوحى الله تعالى إلى أيوب: أو
سَكَتَّ عن فرعون لذهابك إلى أرضه! استعد للبلاء.
وعد بعضهم ممن دخلها من الأنبياء لقمان؛ وفي مرآة الزمان حكاية قول إنه
من سودان مصر، وفي نبوته خلاف، والقول بأنه نبي قول عكرمة وليث.
وعد الكندي وغيره فيمن دخلها من الصديقين الخضر وذا القرنين. وقد قيل
بنبوتهما. والقول بنبوة الخضر حكاه أبو حيان في تفسيره عن الجمهور،
وجزم به الثعلبي، وروي عن ابن عباس. وذهب إسماعيل بن أبي زياد ومحمد بن
إسحاق أنه نبي مرسل؛ ونصر هذا القول أبو الحسن بن الرماني، ثم ابن
الجوزي.
والقول بنبوة ذي القرنين أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الله بن
عمرو بن العاص. ودخول ذي القرنين مصر، ورد في حديث مرفوع سيأتي في بناء
الإسكندرية.
ودخول الخضر غير بعيد؛ فإنه كان في عسكر ذي القرنين، بل أحد الأقوال في
الخضر أنه ابن فرعون لصلبه، حكاه الكندي وجماعة، آخرهم الحافظ ابن حجر
في كتاب الإصابة في معرفة الصحابة (1) ؛ فعلى هذا يكون مولده بمصر.
وقال ابن عبد الحكم: حدثني شيخ من أهل مصر، قال: كان ذو القرنين من
_________
(1) الإصابة: 1: 428، ونقله عن النقاش.
(1/55)
أهل لوبية، كورة من كور مصر الغربية. قال
ابن لهيعة: وأهلها روم (1) .
وأخرج ابن عبد الحكم أيضا عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني من يسوق الحديث
عن الأعاجم فيما توارثوا من علمه، أن ذا القرنين رجل من أهل مصر اسمه
مرزبا بن مرزبة اليوناني، من ولد يونان بن يافث بن نوح عليه الصلاة
والسلام (2) .
وذكر صاحب مرآة الزمان (3) : أن ذا القرنين مات بأرض بابل، وجعل في
تابوت وطلي بالصبر والكافور، وحمل إلى الإسكندرية، فخرجت أمه في نساء
الإسكندرية حتى وقفت على تابوته، وأمرت به فدفن. وقيل: إنه عاش ألف
سنة، وقيل: ألفا وستمائة سنة، وقيل: ثلاثة آلاف سنة.
وقد قيل بنبوة نسوة دخلن مصر: مريم، وسارة زوج الخليل، وآسية امرأة
فرعون، وأم موسى.
وحكى ذلك الشيخ تقي الدين السبكي (4) في فتاويه المعروفة بالحلبيات؛
قال: ويشهد لذلك في مريم ذكرها في سورة الأنبياء مع الأنبياء، وهو
قرينة. وأم موسى اسمها يوكابد.
_________
(1) فتوح مصر 38؛ وذكر بعده: "ويقال: بل هو رجل من حمير، قال تبع:
قد كن ذو القرنين جدي مسلما ... ملكًا تدين له الملوك وتحشد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي ... أسباب علم من حكيم مرشد
قرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد
(2) فتوح مصر 37.
(3) هو يوسف بن قزأ علي بن عبد الله، سبط أبي الفرج بن الجوزي، مؤرخ
واعظ، وكتابه مرآة الزمان كسره على تاريخ الأعيان: توفي سنة 754،
الأعلام 9: 324.
(4) هو علي بن عبد الكافي بن علي الخزرجي، المعروف بتقي الدين السبكي،
شيخ الإسلام في عصره، والد التاج السبكي صاحب الطبقات. توفي سنة 756.
الأعلام 6: 116.
(1/56)
وقد تقدم أن شيث بن آدم نزل مصر وهو نبي،
وأن نوحا طافت به سفينته بأرض مصر.
فتمت عدة من دخل مصر باتفاق واختلاف اثنين وثلاثين نبيا غير النسوة
الأربع. وقد نظمت ذلك في أبيات فقلت:
قد حل مصر على ما قد رووا زمر ... من النبيين زادوا مصر تأنيسا
فهاك يوسف والأسباط مع أبه ... وحافدا وخليل الله إدريسا
لوطا وأيوب ذا القرنين خضر سليمـ ... ـان أرميا يوشعا هارون مع موسى
وأمه سارة لقمان آسية ... ودانيال شعيبا مريما عيسى
شيثا ونوحا وإسماعيل قد ذكروا ... لا زال من ذكرهم ذا المصر مأنوسا
قال أبو نعيم (1) في الحلية: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا
أحمد بن هارون، حدثنا روح، حدثنا أبو سعيد الكندي، حدثنا أبو بكر بن
عياش، قال: اجتمع وهب بن منبه وجماعة، فقال وهب: أي أمر الله أسرع؟ قال
بعضهم: عرش بلقيس حين أُتِيَ به سليمان، قال وهب: أسرع أمر الله أن
يونس بن متى كان على حرف السفينة، فبعث الله إليه حوتا من نيل مصر؛ فما
كان أقرب من أن صار من حرفها في جوفه.
وقال صاحب مرآة الزمان: وأما موسى بن يوسف، فنبي آخر، قبل: موسى بن
عمران. ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر.
قلت: والقصة في صحيح البخاري.
_________
(1) هو أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، أبو نعيم الحافظ المؤرخ،
صاحب كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ توفي سنة 430هـ. الأعلام 1:
15.
(1/57)
ذكر من كان بمصر من
الصديقين كماشطة ابنة فرعون وابنها ومؤمن آل فرعون:
أخرج الحاكم في المستدرك، وصححه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لم يتكلم في المهد إلا عيسى،
وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة ابنة فرعون".
وأخرج أحمد والبزار والطبراني عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لما كانت ليلة أسري بي، أتيت على رائحة
طيبة، فقلت: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: هذه رائحة ماشطة
ابنة فرعون وأولادها، قلت: وما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط ابنة فرعون
ذات يوم؛ إذ سقط المدرى من يدها، فقالت: باسم الله، فقالت لها ابنة
فرعون: أولك رب غير أبي؟ قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله. قالت:
أخبره بذا؟ قالت: نعم، فأخبرته، فدعاها، فقال: يا فلانة، أو أن لك ربا
غيري! قالت: نعم ربي وربك الله، فدعا ببقرة من نحاس، ثم أحميت، ثم أمر
أن تلقى فيها هي وأولادها، فألقوا بين يديها واحدا واحدا إلى أن انتهى
ذلك إلى صبي لها مرضع، فتقاعست من أجله، قال: يا أماه اقتحمي فإن عذاب
الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت".
قال ابن عباس: تكلم في المهد أربع صغار: عيسى بن مريم، وصاحب جريج،
وشاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} (1) . قال: لم يكن من أهل فرعون مؤمن
غيره وغير امرأة فرعون وهو المؤمن الذي أنذر موسى الذي قال: {إِنَّ
الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} (2) .
_________
(1) سورة غافر: 51.
(2) سورة القصص: 20.
(1/58)
ذكر السحرة الذين
آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام:
قال الكندي: أجمعت الرواة على أنه لا يعلم جماعة أسلموا في ساعة واحدة
أكثر من جماعة القبط، وهم السحرة الذين آمنوا بموسى.
وأخرج ابن عبد الحكم، عن يزيد بن أبي حبيب، أن تبيعا كان يقول: ما آمن
جماعة قط في ساعة واحدة مثل جماعة القبط.
وأخرج ابن عبد الحكم، عن عبد الله بن هبيرة السبئي وبكر بن عمرو
الخولاني ويزيد بن أبي حبيب، قال: كان السحرة اثني عشرة ساحرا رؤساء،
تحت يد كل ساحر منهم عشرون عريفا، تحت كل عريف منهم ألف من السحرة؛
فكان جميع السحرة مائتي ألف وأربعين ألفا ومائتين واثنين وخمسين
إنسانا، بالرؤساء والعرفاء، فلما عاينوا ما عاينوا، أيقنوا أن ذلك من
السماء، وأن السحر لا يقاوم لأمر الله، فخر الرؤساء الاثنا عشر عند ذلك
سجدا فاتبعهم العرفاء، واتبع العرفاء من بقي، وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (1) .
وأخرج عن يزيد بن أبي حبيب أن تبيعا قال: كان السحرة من أصحاب موسى
عليه الصلاة والسلام، ولم يفتتن منهم أحد مع من افتتن من بني إسرائيل
في عبادة العجل.
وقال ابن عبد الحكم: حدثنا هانئ بن المتوكل، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن
أبي حبيب، عن تبيع، قال: استأذن جماعة من الذين كانوا آمنوا من سحرة
موسى في الرجوع إلى أهلهم ومالهم بمصر، فأذن لهم، ودعا لهم، فترهبوا في
رءوس الجبال، فكانوا أول من ترهب. وكان يقال لهم الشيعة، وبقيت طائفة
منهم مع موسى حتى توفاه الله، ثم انقطعت الرهبانية بعدهم؛ حتى ابتدعها
بعدهم أصحاب المسيح عليه الصلاة والسلام (2) .
_________
(1) سورة الأعراف: 121، 122.
(2) فتوح مصر 44.
(1/59)
ذكر من كان بمصر من
الحكماء في الدهر الأول:
قال الكندي وابن زولاق: كان بمصر هرمس، وهو إدريس عليه الصلاة والسلام؛
وهو المثلث لأنه بني، وملك، وحكيم. وهو الذي صير الرصاص ذهبا بصاصا.
وكان بها أغاثوذيمون، وفيثاغورس، تلاميذ هرمس، ولهم من العلوم صنعة
الكيمياء والنجوم والسحر وعالم الروحانيات والطلسمات والبرابي وأسرار
الطبيعة.
وإوسلاوس وسيزاورس وبندقليس أصحاب الكهانة والزجر.
وسقراط صاحب الكلام على الحكمة.
وأفلاطون صاحب السياسة والنواميس والكلام على المدن والملوك.
وأرسطوطاليس صاحب المنطق.
وبطليموس صاحب الرصد والحساب والمجسطى في تركيب الأفلاك وتسطيح الكرة.
وأراطس صاحب البيضة ذات الثمانية والأربعين صورة في تشكيل صورة الفلك.
وإفليسطهوس صاحب الفلاحة.
وإبرجس صاحب الرصد والآلة المعروفة بذات الحلق.
وثاؤن صاحب الزيج.
ودامانيوس ورابس وإصطقر أصحاب كتب أحكام النجوم.
وإيزل، وأندريه، وله الهندسة والمقادير، وكتاب جر الثقيل والبنكامات
والآلات لقياس الساعات.
وفليون، وله عمل الدواليب والأرحية والحركات بالحيل اللطيفة.
(1/60)
وأرشميدس صاحب المرايا المحرقة والمنجنيقات
التي يُرمى بها الحصون.
ومارية وقلبطرة وهم أصحاب الطلسمات والخواص.
وإبلوسيكوس، وله كتاب المخروطات قطع الخطوط.
وتابوشيش، وله كتاب الأكر.
وقيطس وله كتاب الحشائش.
وأفتوقس وله كتاب الأكرة والأسطوانة.
ودخلها جالينوس، ودينبقورايدش صاحب الحشائش وأساسيوس، وترهونوس ووقس،
وهم من حكماء اليونان.
هذا ما ذكره الكندي وابن زولاق.
قلت: قال الشهرستاني (1) في الملل والنحل:
قيل: أول من شهر بالفلسفة ونسبت إليه الحكمة فلوطرخيس، تفلسف بمصر، ثم
سار إلى ملطية فأقام بها (2) .
وذكر في فيثاغورس أنه ابن منسارخس، وأنه كان في زمن موسى (3) عليه
الصلاة والسلام، وأنه أخذ الحكم من معدن النبوة (4) .
وذكر في سقراط أنه ابن سفرنيسقوس، وأنه اقتبس الحكمة من فيثاغورس.
وأرسلاوس، وأنه اشتغل بالزهد والرياضة وتهذيب الأخلاق، وأعرض عن ملاذ
الدنيا، واعتزل إلى الجبل (5) ، ونهى الرؤساء الذين كانوا في زمنه عن
الشرك وعبادة الأوثان،
_________
(1) هو محمد بن عبد الكريم "الشهرستاني، المتوفى سنة 548، طبع مرارًا.
(2) الملل والنحل 2: 103، وذكر بعدها أنه "قد يعد من الأساطين".
(3) في الملل والنحل: "في زمن سليمان النبي بن داود عليه السلام".
(4) الملل والنحل 2: 78.
(5) بعدها في الملل والنحل: "وأقام في غاربه"، وغارب الجبل: أعلاه.
(1/61)
فثوروا عليه الغاغة، وألجئوا ملكهم إلى
قتله، فحبسه ثم سقاه السم (1) .
وذكر في أفلاطون أنه ابن أرسطن بن أرسطوقليس، وأنه آخر المتقدمين
الأوائل الأساطين؛ معروف بالتوحيد والحكمة، ولد في زمان أزدشير بن
دارا، وأخذ عن سقراط وجلس على كرسيه بعد موته (2) .
وذكر أرسطا ليس أنه ابن نيقوماخوس، وأنه أخذ عن أفلاطون (3) .
وقال ابن فضل الله (4) في المسالك: الهرامسة ثلاثة: هرمس المثلث، ويقال
له إدريس عليه الصلاة والسلام؛ كان نبيا، وحكيما، وملكا. وهرمس لقب،
كما يقال كسرى وقيصر. قال أبو معشر: هو أول من تكلم في الأشياء العلوية
من الحركات النجومية، وأول من بنى الهياكل، ومجد الله فيها، وأول من
نظر في الطب وتكلم فيه، وأنذر بالطوفان؛ وكان يسكن صعيد مصر، فبنى هناك
الأهرام والبرابي، وصور فيها جميع الصناعات، وأشار إلى صفات العلوم لمن
بعده حرصا منه على تخليد العلوم بعده، وخيفة أن يذهب رسم ذلك من
العالم، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، ورفعه إليه مكانًا عليًّا.
وأما هرمس الثاني فإنه من أهل بابل.
وأما هرمس الثالث، فإنه سكن مدينة مصر؛ وكان بعد الطوفان. قال ابن
_________
(1) الملل والنحل 2: 89.
(2) الملل والنحل 2: 94.
(3) الملل والنحل 2: 138.
(4) مسالك الأبصار في عجائب الأمصار؛ لأحمد بن يحيى المعروف بابن فضل
الله العمري، المتوفى سنة 749؛ قال ابن شاكر: كتاب حافل ما أعلم أن
لأحد مثله، طبع الجزء الأول منه بمطبعة دار الكتب المصرية.
(1/62)
أبي أصيبعة: وهو صاحب كتاب الحيوان ذوات
السموم، وكان طبيبا فيلسوفا، وله كلام حسن في صنعة الكيمياء.
وقال عن صاعدين بن أحمد في بندقليس: إنه كان في زمن داود، أخذ الحكمة
عن لقمان بالشام وفي فيثاغورس إنه أخذ الحكمة عن سليمان عليه الصلاة
والسلام بمصر حين دخلوا إليها من بلاد الشام، وأخذ الهندسة عن
المصريين، ثم رجع إلى بلاد اليونان وأدخل عندهم علم الهندسة وعلم
الطبيعة، واستخرج علم الألحان وتوقيع النغم. وفي أفلاطون إنه لما مات
دخل مصر للقاء أصحاب فيثاغورس.
(1/63)
ذكر قتل عوج بمصر:
قال ابن عبد الحكم: يقال إن موسى عليه الصلاة والسلام قتل عوجا بمصر؛
حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير بن (1) معاوية، حدثنا أبو إسحاق عن نوف
(2) ، قال: كان طول سرير عوج الذي قتله موسى ثمانمائة ذراع، وعرضه
أربعمائة ذراع، وكانت عصا موسى عليه السلام عشرة أذرع، ووثبته حين وثب
إليه عشرة أذرع؛ وطول موسى كذا وكذا، فضربه فاصاب كعبه، فخر على نيل
مصر، فجسره (3) للناس يمشون (4) على صلبه وأضلاعه (5) .
وقال صاحب مرآة الزمان: حكى جدى عن ابن إسحاق، أن عوج بن عنق عاش ثلاثة
آلاف سنة وستمائة سنة، ولم يعش أحد هذا العمر.
وقال ابن جرير: عاش ألف سنة.
وقيل: إنه ولد في عهد آدم وسلم من الطوفان.
وقال الثعلبي: لما وقع على نيل مصر جسرهم سنة.
_________
(1) في الأصول: "عن" وصوابه من فتوح مصر.
(2) في الأصول: "نوق"، وفي فتوح مصر: قال زهير: أراه عن نوق.
(3) جسره؛ أي جعله جسرًا عليه.
(4) فتوح مصر: "يمرون على صلبه وأضلاعه".
(5) فتوح مصر 26.
(1/64)
ذكر عجائب مصر
القديمة:
قال الجاحظ وغيره: عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة: عشرة منها بسائر
البلاد، وهي مسجد دمشق، وكنيسة الرها، وقنطرة سنجة، وقصر غمدان، وكنيسة
رومية، وصنم الزيتون، وإيوان كسرى بالمدائن، وبيت الريح بتدمر،
والخورنق بالحيرة، والثلاثة أحجار ببعلبك. والعشرون الباقية بمصر، وهي:
1- الهرمان؛ وهما أطول بناء وأعجبه، ليس على الأرض بناء أطول منهما،
وإذا رأيتهما ظننت أنهما جبلان موضوعان؛ ولذلك قال بعض من رآهما: ليس
شيء إلا وأنا أرحمه من الدهر إلا الهرمان، فأنا أرحم الدهر منهما.
2- وصنم الهرمين وهو بهلويه، ويقال بلهنيت، وتسمية العامة أبو الهول.
ويقال: إنه طلسم للرمل لئلا يغلب على الجيزة.
3- وبربى سمنود (1) ، قال الكندي: رأيته وقد خزن فيه بعض العمال قرطا،
فرأيت الجمل إذا دنا منه بحمله وأراد أن يدخله سقط كل ودبيب (2) من
القرط، ولم يدخل منه شيء إلى البربى، ثم خرب عند الخمسين وثلاثمائة.
4- وبربى إخيم؛ كان فيه صور الملوك الذين ملكوا مصر؛ قال صاحب مباهج
الفكر: وهي مبنية بحجر المرمر، طول كل حجر خمسة أذرع في سمك ذراعين،
وهي سبعة دهاليز. ويقال إن: كل دهليز على اسم كوكب من الكواكب السبعة،
وجدرانها منقوشة بعلوم الكيمياء والسيمياء والطلسمات والطب؛ ويقال: إنه
كان بها جميع ما يحدث
_________
(1) ح، ط: "سمهود"، والصواب ما أثبته من الأصل.
(2) القرط: علف الدواب، وفي المقريزي 1: 48، ومعجم البلدان 5: 133:
"دبيب".
(1/65)
في الزمان؛ حتى ظهور رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه كان مصورا فيها راكبا على ناقة.
5- وبربى دندرة، كان فيها مائة وثمانون كوة، تدخل الشمس كل يوم من كوة
منها ثم الثانية، ثم الثالثة؛ حتى تنتهي إلى آخرها؛ ثم تكر راجعة إلى
موضع بدأت.
6- وحائط العجوز؛ من العريش إلى أسوان، محيط بأرض مصر شرقا وغربا. وقد
مر ذكره.
7- والفيوم، وهي مدينة دبرها يوسف عليه الصلاة والسلام بالوحي، وكانت
ثلاثمائة وستين قرية، تمير كل قرية منها مصر يوما، كانت تروى من اثني
عشر ذراعا؛ وليس في الدنيا بلد بني بالوحي غيرها. قاله الكندي.
8- ومنف، وما فيها من الأبنية والدفائن والكنوز وآثار الملوك والأنبياء
والحكماء، وكان فيها البربى الذي لا نظير له، الذي بنته الساحرة
لدلوكه، وقد تقدم ذكره.
9- وجبل الكهف.
10- وجبل الطيلمون.
11- وجبل زماخير الساحرة (1) ، فيه حلقة ظاهرة مشرفة على النيل، لا يصل
إليها أحد، يلوح فيه خط مخلوق: "باسمك اللهم".
12- وجبل الطير بصعيد مصر الأدنى، مطل على النيل، مقابل منية بني خصيب،
قال السكردان: فيه أعجوبة لم ير مثلها في سائر الأقاليم؛ وهي باقية إلى
يومنا هذا؛
_________
(1) المقريزي 1: 49، صبح الأعشى 3: 285.
(1/66)
وذلك أنه إذا كان آخر فصل الربيع قدم إليه
طيور كثيرة بلق، سود الأعانق، مطوقات الحواصل، سود أطراف الأجنحة، في
صياحها بحاحة، يقال لها طير البح، لها صياح عظيم يسد الأفق، فتقصد
مكانا في ذلك الجبل، فينفرد منها طائر واحد فيضرب بمنقاره في مكان
مخصوص في شعب الجبل عال، لا يمكن الوصول إليه، فإن علق تفرق الطيور
عنه، وإن لم يعلق تقدم غيره وضرب بمنقاره في ذلك الموضع، وهكذا واحد
بعد واحد إلى أن يعلق واحد منهم بمنقاره، فتفرق عنه الطيور حينئذ،
وتذهب إلى حيث جاءت، فلا يزال معلقا إلى أن يموت، فيضمحل في العام
القابل فيسقط، فتأتي الطيور على عادتها في السنة القابلة، فتعمل العمل
المذكور. قال صاحب السكردان: وقد أخبرني بهذا غير واحد من المصريين ممن
شاهد ذلك. وهو مشهور معروف إلى يومنا هذا (1) .
قال أبو بكر الموصلي: سمعت من أعيان أهل الصعيد أنه إذا كان العام
مخصبا قبض على طائرين، وإن كان متوسطا قبض على واحد، وإن كان جدبا لم
يقبض على شيء.
قال السكردان: وحكى بعضهم أنه رأى في بعض السنين طيرا تعلق بمنقاره،
وتفرقت عنه الطيور، ثم اضطرب اضطرابا شديدا، وأطلق نفسه، والتحق
بالطيور، فدارت عليه، وجعلت تنقره بمناقيرها إلى أن عاد، وتعلق بمنقاره
في ذلك الموضع (2) .
13- وعين شمس؛ وهي هيكل الشمس. قال صاحب مباهج الفكر: وقد خربت، وبقي
منها عمودان من حجر صلد، فكان طول كل عمود منهما أربعا وثمانين ذراعا،
على رأس كل عمود منهما صورة إنسان على دابة، وعلى رأسهما شبه الصومعة
من نحاس، فإذا جرى النيل قطر من رأس كل واحد منهما ماء، لا يجاوز نصف
_________
(1) السكردان 27.
(2) السكردان 28.
(1/67)
العمود، والموضع الذي يصل إليه الماء لا
يزال أخضر رطبا. قال: وقد وقع العمودان في عصرنا بعد الخمسين وستمائة،
ونشرت حجارتهما، وفرشت بها الدور.
14- وصنم من نحاس كان على باب القصر الكبير عند الكنيسة المعلقة على
خلقة الجمل، وعليه رجل راكب، عليه عمامة، متنكب قوسا وفي رجليه نعلان؛
كانت الروم والقبط وغيرهم إذا تظالموا بينهم، واعتدى بعضهم على بعض
جاءوا إليه، فيقول المظلوم للظالم: أنصفني قبل أن يخرج هذا الراكب
الجمل، فيأخذ الحق لي منك -يعنون بالراكب الجمل محمدا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما قدم عمرو بن العاص غيب الروم ذلك الجمل لئلا
يكون شاهدا عليهم.
15- والنيل، وسيأتي خبره مبسوطا.
16- وحوض كان مدورا من حجر يركب فيه الواحد والأربعة، ويحركون الماء
بشيء فيعدون في البحر من جانب إلى جانب لا يعلم من عمله، فأحضره كافور
الإخشيدي إلى مصر، فنظر إليه، ثم أُخرج من الماء، وأُلقي في البر وكان
في أسفله كتابة لا يُدرى ما هي، ثم أعيد إلى البحر فغرق وبطل فعله.
17- والإسكندرية؛ فإنها مدينة على مدينة ثلاث طبقات، وليس على وجه
الأرض مدينة على مدينة على مدينة، على هذه الصفة سواها، ويقال: إنها
إرم ذات العماد، سميت بذلك لأن عمدها ورخامها من الديجنا والأصطفيدس
المخطط طولا وعرضا.
والمنارة التي بها، وسيأتي ذكرها.
18- ومنارة بناحية أبيط من بلاد البهنسا، محكمة البناء، إذا هزها
الإنسان مالت يمينا وشمالا، لا يرى ميلها ظاهرا، وفيء ظلها في الشمس.
19- والملعب الذي كان بالإسكندرية يجتمعون فيه، فلا يرى أحد منهم يلقى
وجه
(1/68)
الآخر إن عمل أحدهم شيئا، أو تكلم، أو قرأ
كتابا، أو لعب لونا من الألوان، سمعه الباقون، ونظر القريب والبعيد فيه
سواء، وكانوا يترامون فيه بالأكرة، فمن دخلت كمه ولي مصر ... قال صاحب
مباهج الفكر: وقد بقيت منه بقايا عمد قد تكسرت، غير عمود منها يسمى
عمود السواري، في غاية الغلظ والطول من حجر الصوان الأحمر.
20- والمسلتان، وهما شخصان من صوان، طول أحدهما ثلاثمائة وثمانون
ذراعا، وهما مسلتا فرعون للشمس، منصوبتان، فإذا حلت الشمس أول درجة من
الجدي -وهو أقصر يوم في السنة- انتهت إلى المسلة الجنوبية، وطلعت على
قمة رأسها، ثم إذا حلت أول درجة من السرطان -وهو أطول يوم في السنة-
انتهت إلى المسلة الشمالية، وطلعت على رأسها؛ وهي منتهى المسلتين، وخط
الاستواء في الوسط بينهما، ثم تتردد بينهما ذاهبة وجائية سائر السنة.
فهذه عشرون أعجوبة (1) .
ويقال: إنه ليس من بلد فيه شيء غريب إلا وفي مصر شبهه أو مثله، ثم
تفضُل مصر على البلدان بعجائبها التي ليست في بلد سواها.
_________
(1) ذكر المقريزي هذه العجائب في الخطط 1: 48-63، مع اختلاف في
تفصيلها.
(1/69)
ذكر الأهرام:
قال ابن عبد الحكم: في زمان شداد بن عاد، بنيت الأهرام كما ذكر عن بعض
المحدثين. قال: ولم أجد عند أحد من أهل المعرفة من أهل مصر في الأهرام
خبرا يثبت، وفي ذلك يقول الشاعر:
حسرت عقول أولي النهى الأهرام ... واستصغرت لعظيمها الأحلام (1)
ملس منبقة (2) البناء شواهق ... قصرت لعال دونهن سهام
لم أدر حين كبا التفكر دونها ... واستوهمت لعجيبها الأوهام (3)
أقبور أملاك الأعاجم هن أم ... طلسم رمل كن أم أعلام؟
قال: ولا أحسب إلا أنها بنيت قبل الطوفان لأنها لو بنيت بعد الطوفان
لكان علمها عند الناس (4) .
قال جماعة من أهل التاريخ: الذي بنى الأهرام سوريد بن سلهوق بن شرياق
ملك مصر؛ وكان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة؛ وسبب ذلك أنه رأى في منامه
كأن الأرض انقلبت بأهلها، وكأن الناس هاربون على وجوههم، وكأن الكواكب
تساقطت، ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة، فأغمه ذلك وكتمه، ثم رأى بعد
ذلك كأن الكواكب الثابتة نزلت إلى الأرض في صورة طيور بيض، وكأنها تخطف
الناس وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين انطبقا عليهم، وكأن
الكواكب النيرة مظلمة؛ فانتبه مذعورا، فجمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال
مصر -وكانوا مائة وثلاثين كاهنا
_________
(1) فتوح مصر 1 من نسخة بحاشية الأصل: "الأجرام".
(2) ياقوت: "يعجيبها".
(3) في الأصول: "صلاصم رجل"، والصواب ما أثبته من فتوح مصر.
(4) فتوح مصر 42، معجم البلدان 7: 457.
(1/70)
وكبيرهم يقال له أفليمون- فقص عليهم،
فأخذوا في ارتفاع الكواكب، وبالغوا في استقصاء ذلك، فأخبروا بأمر
الطوفان. قال: أويلحق بلادنا؟ قالوا: نعم، وتخرب وتبقى عدة سنين. فأمر
عند ذلك ببناء الأهرام، وأمر بأن يعمل لها مسارب يدخل منها النيل إلى
مكان بعينه، ثم يفيض إلى مواضع من أرض المغرب وأرض الصعيد، وملأها
طلسمات
وعجائب وأموالا وخزائن وغير ذلك، وزبر فيها جميع ما قالته الحكماء،
وجميع العلوم الغامضة وأسماء العقاقير ومنافعها ومضادها وعلم الطلسمات
والحساب والهندسة والطب، وكل ذلك مفسر لمن يعرف كتابتهم ولغاتهم. ولما
أمر ببنائها قطعوا الأسطوانات العظام والبلاطات الهائلة، وأحضروا
الصخور من ناحية أسوان، فبنى بها أساس الأهرام الثلاثة، وشدها بالرصاص
والحديد والصفر، وجعل أبوابها تحت الأرض بأربعين ذراعا، وجعل ارتفاع كل
واحد مائتي ذراع بالملكي، وهي خمسمائة ذراع بذارعنا الآن، وجعل ضلع كل
واحد من جميع جهاته مائة ذراع بالملكي أيضا. وكان ابتداء بنائها في
طالع سعيد؛ فلما فرغ منها كساها ديباجا ملونا من فوق إلى أسفل، وجعل
لها عيدا حضره أهل مملكته كلها، ثم عمل في الهرم الغربي ثلاثين مخزنا
مملوءة بالأموال الجمة، والآلات، والتماثيل المعمولة من الجواهر
النفيسة، وآلات الحديد الفاخر، والسلاح الذي ما يصدأ، والزجاج الذي لا
ينطوي ولا ينكسر، والطلسمات الغريبة، وأصناف العقاقير المفردة
والمؤلفة، والسموم القاتلة، وغير ذلك. وعمل في الهرم الشرقي أصناف
القباب الفلكية والكواكب، وما عمل أجداده من التماثيل والدخن التي
يتقرب بها إليها ومصافحها، وجعل في الهرم الملون أخبار الكهنة في
توابيت من صوان أسود، مع كل كاهن مصفحة. وفيها عجائب صنعته وحكمته
وسيرته، وما عمل في وقته وما كان وما يكون من أول الزمان إلى آخره،
وجعل لكل هرم خازنا، فخازن الهرم الغربي من حجر صوان واقف، ومعه شبه
الحربة، وعلى رأسه حية مطوقة،
(1/71)
من قرب منه وثبت إليه من ناحية قصده، وطوقت
على عنقه فتقتله، ثم تعود إلى مكانها. وجعل خازن الهرم الشرقي صنمًا من
جزع أسود، وله عينان مفتوحتان براقتان، وهو جالس على كرسي، ومعه شبه
حربة إذا نظر إليه ناظر سمع من جهته صوتًا يفزع قلبه، فيخر على وجهه،
ولا يبرح حتى يموت، وجعل خازن الهرم الملون صنمًا من حجر البهت (1) على
قاعدة، من نظر إليه اجتذبه الصنم حتى يلتصق به، ولا يفارقه حتى يموت.
وذكر القبط في كتبهم أن عليها كتابة منقوشة وتفسيرها بالعربية: "أنا
سوريد الملك، بنيت الأهرام في وقت كذا وكذا، وأتممت بناءها في ست سنين،
فمن أتى
بعدي، وزعم أنه مثلي فليهدمها في ستمائة سنة، وقد علم أن الهدم أيسر من
البناء، وإني كسوتها عند فراغها بالدبياج، فليكسها بالحصر".
ولما دخل الخليفة المأمون مصر، ورأى الأهرام، أحب أن يعلم ما فيها،
فأراد فتحها، فقيل له: إنك لا تقدر على ذلك، فقال: لا بد من فتح شيء
منها، ففتحت له الثلمة المفتوحة الآن بنار توقد وخل يرش وحدادين يحدون
الحديد ويحمونه، ومناجيق يرمى بها. وأنفق عليها مالًا عظيمًا حتى
انفتحت، فوجد عرض الحائط عشرين ذراعًا؛ فلما انتهوا إلى آخر الحائط،
وجدوا خلف النقب مطمرة من زبرجد أخضر، فيها ألف دينار، وزن كل دينار
أوقية من أواقينا؛ فتعجبوا من ذلك، ولم يعرفوا معناه. فقال المأمون:
ارفعوا إليَّ حساب ما أنفقتم على فتحها، فرفعوه؛ فإذا هو قدر الذي
وجدوه، لا يزيد ولا ينقص، ووجدوا داخله بئر مربعة، في تربيعها أربعة
أبواب، يُفضي كل باب منها إلى بيت فيه أموات بأكفانهم، ووجدوا في رأس
الهرم بيتًا فيه حوض من الصخر، وفيه صنم كالآدمي من الدهنج (2) ، وفي
وسطه إنسان عليه
_________
(1) البهت: نوع من الأحجار.
(2) الدهنج: جوهر كالزمرد.
(1/72)
درع من ذهب مرصع بالجواهر، وعلى صدره سيف
لا قيمة له، وعند رأسه حجر ياقوت كالبيضة، ضوءه كضوء النهار، عليه
كتابة بقلم الطير، لا يعلم أحد في الدنيا ما هي. ولما فتحه المأمون،
أقام الناس سنين يدخلونه وينزلون من الزلاقة التي فيه، فمنهم من يسلم،
ومنهم من يموت.
وقال صاحب المرآة: من عجائب مصر الهرمان، سمك كل واحد خمسمائة ذراع في
ارتفاع مثلها، كلما ارتفع البناء دق رأسهما حتى يصير مصل مفرش حصير،
وهما من المرمر، وعليهما جميع الأقلام السبعة: اليونانية، والعبرانية،
والسريانية، والسندية، والحميرية، والرومية، والفارسية. قال: وحكى جدي
عن ابن المناوي، أنه قال: حسبوا خراج الدنيا مرارًا فلم يف بهدمها.
قال صاحب المرآة: هذا وهم؛ فإن صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر بأن يؤخذ
منها حجارة يُبنى بها قنطرة وجسرًا، فهدموا منها شيئًا كثيرًا.
قال: وحكى لي من دخل الهرم المفتوح، أنه وجد فيه قبرًا، وأن فيه
مهالك، وربما خرج الإنسان في سراديب إلى الفيوم. قال: والظاهر أنها
قبور ملوك الأوائل، وعليها أسماؤهم وأسرار الفلك والسحر وغير ذلك. قال:
واختلفوا فيمن بنى الأهرام، فقيل: يوسف، وقيل: نمرود، وقيل: دلوكة
الملكة، وقيل: بناها القبط قبل الطوفان، وكانوا يرون أنها مأمن، فنقلوا
أموالهم وذخائرهم إليها، فما أغنى عنهم شيئًا.
وحكى بعض شيوخ مصر أن بعض من يعرف لسان اليونان، حل بعض الأقلام التي
عليها، فإذا هي: "بنى هذا الهرمان، والنسر الواقع في السرطان". قال:
ومن ذلك الوقت إلى زمان نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ستة وثلاثون ألف سنة. وقيل:
(1/73)
اثنان وسبعون ألفًا، وقيل: إن القلم الذي
عليها تاريخه قبل بناء مصر بأربعة آلاف سنة ولا يعرفه أحد.
قال: ولما ملك أحمد بن طولون مصر، حفر على أبواب الأهرام فوجدوا في
الحفر قطعة مرجان مكتوبًا عليها سطورًا باليوناني، فأحضر من يعرف ذلك
القلم، فإذا هي أبيات شعر، فترجمت فكان فيها:
أنا من بنى الأهرام في مصر كلها ... ومالكها قدمًا بها والمقدم
تركت بها آثار علمي وحكمتي ... على الدهر لا تبلى ولا تتثلم
وفيها كنوز جمة وعجائب ... والدهر لين مرة وتهجم
وفيها علومي كلها غير أنني ... أرى قبل هذا أن أموت فتعلم
ستفتح أقفالي، وتبدو عجائبي ... وفي ليلةٍ في آخر الدهر تنجم
ثمان وتسع واثنتان وأربع ... وسبعون من بعد المئين فتسلم
ومن بعد هذا جزء تسعين برهةً ... وتلقى البرابي صخرها وتهدم
تدبر فعالي في صخور قطعتها ... ستبقى، وأفنى قبلها ثم تُعدم
فجمع أحمد بن طولون الحكماء، وأمرهم بحساب هذه المدة، فلم يقدروا على
تحقيق ذلك، فيئس من فتحها.
قال صاحب مباهج الفكر: ومن المباني التي يبلى الزمان ولا تبلى، وتدرس
معالمه وأخبارها لا تدرس ولا تبلى، الأهرام التي بأعمال مصر، وهي أهرام
كثيرة، أعظمها الهرمان اللذان بجيزة مصر، ويقال: إن بانيها سوريد بن
سهلوق بن شرياق، "بناهما" (1) قبل الطوفان لرؤيا رآها، فقصها على
الكهنة، فنظروا فيما تدل عليه الكواكب النيرة من أحداث تحدث في العالم،
وأقاموا مراكزها في وقت المسيلة فدلت على أنها
_________
(1) ساقطة من الأصل، وهي في ح، ط.
(1/74)
نازلة من السماء، تحيط بوجه الأرض، فأمر
حينئذ ببناء البرابي والأهرام العظام، وصور فيها صور الكواكب ودرجها
وما لها من الأعمال وأسرار الطبائع، والنواميس وعمل الصنعة. ويقال: إن
هرمس المثلث الموصوف بالحكمة -وهو الذي تسميه العبرانيون أخنوخ، وهو
إدريس عليه الصلاة والسلام- استدل من أحوال الكواكب على كون الطوفان
يوجد، فأمر ببناء الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم وما يخاف
عليه من الذهاب والدثور، كل هرم منها مربع القاعدة مخروط الشكل، ارتفاع
عموده ثلاثمائة ذراع وسبعة عشر ذراعًا، يحيط به أربعة سطوح متساويات
الأضلاع؛ كل ضلع منها أربعمائة ذراع وستون ذراعًا، ويرتفع إلى أن يكون
سطحه مقدار ستة أذرع في مثلها. ويقال إنه كان عليه حجر شبه المكبة،
فرمته الرياح العواصف وهو مع هذا العظم؛ من إحكام الصنعة؛ وإتقان
الهندسة، وحسن التقدير؛ بحيث إنه لم يتأثر الآن بعصف الرياح، وهطل
السحاب، وزعزعة الزلازل؛ وهذا البناء ليس بين حجارته ملاط إلا ما يتخيل
أنه ثوب أبيض، فرش بين حجرين، أو ورقة، ولا يتخلل بينهما الشعرة، وطول
الحجر منها خمسة أذرع في سمك ذراعين. ويقال: إن بانيهما جعل لهما
أبوابًا على أدراج مبنية بالحجارة في الأرض؛ طول كل حجر منها عشرون
ذراعًا، وكل باب من حجر واحد يدور بلولب، إذا أطبق لم يعلم أنه باب،
يدخل من كل باب منها إلى سبعة بيوت، كل بيت على اسم كوكب من الكواكب
السبعة، وكلها مقفلة بأقفال، وحذاء كل بيت صنم من ذهب مجوف، إحدى يديه
على فيه، في جبهته كتابة بالمسند، اذا قرئت انفتح فوه، فيؤخذ منه مفتاح
ذلك القفل فيفتح به.
والقبط تزعم أنهما والهرم الصغير الملون قبور، فالهرم الشرقي فيه سوريد
الملك، وفي الهرم الغربي أخوه هرجيب، والهرم الملون فيه أفريبون (1)
ابن هرجيب.
والصائبة تزعم أن أحدهما قبر شيث، والآخر قبر هرمس، والملون قبر صاب
_________
(1) ط: "أفريدون".
(1/75)
بن هرمس؛ وإليه تنسب الصابئة، وهم يحجون
إليها، ويذبحون عندها الديكة والعجول السود، ويبخرون بدخن. ولما فتحه
المأمون، فتح إلى زلاقة ضيقة من الحجر الصوان الأسود الذي لا يعمل فيه
الحديد، بين حاجزين ملتصقين بالحائط، قد نقر في الزلاقة حفر يتمسك
الصاعد بتلك الحفر، ويستعين بها على المشي في الزلاقة لئلا يزاق، وأسفل
الزلاقة بئر عظيمة بعيدة القعر. ويقال: إن أسفل البئر أبواب يدخل منها
إلى مواضع كثيرة، وبيوت ومخادع وعجائب، وانتهت بهم الزلاقة إلى موضع
مربع في وسطه حوض من حجر جلد مغطى، فلما كشف عنه غطاؤه لم يوجد فيه إلا
رمة بالية.
وقال ابن فضل الله في المسالك (1) : قد أكثر الناس القول في سبب بناء
الأهرام؛ فقيل: هياكل الكواكب، وقيل: قبور ومستودع مال وكتب، وقيل:
ملجأ من الطوفان. قال: وهو أبعد ما قيل فيها؛ لأنها ليست شبيهة
بالمساكن.
قال: وقد كانت الصابئة تأتي فيحج الواحد ويزور الآخر، ولا تبلغ فيه
مبلغ الأول في التعظيم.
قال: وأما أبو الهول [فهو صنم بقرب الهرم الكبير] (2) في وهدة منخفضة
(3) ، وعنقه، أشبه شيء برأس راهب حبشي، على وجهه صباغ أحمر، لم يحل على
طول الأزمان؛ يقال إنه طلسم يمنع الرمل عن المزارع. قال: وسجن يوسف
شمالي الأهرام على بعد منه في ذيل خرجة من جبل في طرف الحاجر (4) .
_________
(1) مسالك الأبصار 1: 235-236.
(2) مسالك الأبصار: "وهو اسم لصنم يقارب الهرم الكبير".
(3) بعدها في مسالك الأبصار: "يقع دونه شرقا بغرب، لا يبين من فوق سطح
الأرض إلا رأس ذلك الصنم".
(4) مسالك الأبصار 1: 237-238؛ مع تصرف واختصار.
(1/76)
قال صاحب مباهج الفكر: وبدهشور من أعمال
الجيزة أهرام بناها شداد بن عديم بن البرشير بن قفطيم بن مصر بن مصرايم
باني مصر.
وقال بعضهم: ذكر عبد الله بن سراقة أنه لما نزلت العماليق مصر حين
أخرجتها جرهم من مكة، نزلت مصر، فبنت الأهرام واتخذت بها المصانع، وبنت
بها العجائب؛ فلم تزل بمصر حتى أخرجها مالك بن ذعر الخزاعي.
وقال سعيد بن عفير: لم تزل مشايخ مصر يقولون: إن الأهرام بناها شداد،
وكانوا يقولون بالرجعة؛ فكان أحدهم إذا مات دفن معه ماله كله؛ وإن كان
صانعًا دفنت معه آلته.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: كان من وراء الأهرام إلى الغرب
أربعمائة مدينة من مصر إلى الغرب في غربي الأهرام.
وقال ابن المتوج (1) في كتابة من عجائب مصر: ما بجانبها الغربي من
البنيان المعروف بالأهرام وعددها ثمانية عشر هرمًا؛ منها ثلاثة بالجيزة
مقابل الفسطاط.
ولما فتح المأمون أحدها انتهى إلى حوض مغطى، بلوح من رخام مملوء من
ذهب، واللوح مكتوب فيه أسطر، فطلب من يقرؤها، فإذا فيه: "إنا عمرنا هذا
الهرم في ألف يوم، وأبحنا لمن يهدمه في ألفي يوم؛ والهدم أسهل من
العمارة، وجعلنا في كل جهة من جهاته من المال بقدر
_________
(1) هو محمد بن عبد الوهاب بن المتوح بن صالح الزبيري، تاج الدين،
وصاحب كتاب: "اتعاظ المتعمل واتعاظ المتأمل"، في أحوال مصر وخططها:
توفي سنة 730. الأعلام 7: 136.
(1/77)
ما يصرف على الوصول إليه، لا يزيد ولا
ينقص".
وعند مدينة فرعون يوسف هرم دوره ثلاثة آلاف ذراع، وعلوه سبعمائة ذراع.
وعند مدينة فرعون أهرام أُخر أحدها يعرف بهرم ميدوم؛ كأنه جبل، وهو خمس
طبقات، والطبقة العليا كأنها قلعة على جبل.
وقال الزمخشري: الهرمان بالجيزة على فرسخين من الفسطاط، كل واحد
أربعمائة ذراع عرضًا، والأساس زائد على جريب (1) مبني بالحجارة المرمر،
وهي
منقولة من مسافة أربعين فرسخًا، من موضع يُعرف بذات الحمام، فوق
الإسكندرية، ولا يزالان ينخرطان في الهوى حتى يرجع مقداره إلى مقدار
خمسة أشبار في خمسة، وليس على وجه الأرض بناء أرفع منهما منقور فيها
بالمسند سحر وطلسم وطب، وفيه: "إني بنيتهما، فمن أدعى قوة في ملكه
فليهدمها، فإن خراج الأرض لا يفي بهدمها".
وقالوا: لا يُعرف من بناهما.
وقال المسعودي: طول كل واحد وعرضه أربعمائة ذراع، وأساسهما في الأرض
مثل طولهما في العلو، وكل هرم منها سبعة بيوت، على عدد السبع كواكب
السيارة، كل بيت منها باسم كوكب ورسمه، وجعل في جانب كل بيت منها صنم
من ذهب مجوف، وإحدى يديه موضوعة على فيه، في جبهته كتابة كاهنية، إذا
قرئت فتح فاه، وخرج من فيه مفتاح ذلك القفل، ولتلك الأصنام قوانين
وبخورات، ولها أرواح موكلة بها، مسخرة لحفظ تلك البيوت والأصنام، وما
فيها من التماثيل والعلوم والعجائب
_________
(1) الجريب: الوادي.
(1/78)
والجواهر والأموال، وكل هرم فيه ملك وطاوس
من الحجارة مطبق عليه، ومعه صحيفة فيها اسمه وحكمته، مطلسم عليه لا يصل
إليه أحد إلا في الوقت المحدود.
وذكر بعضهم أن فيها مجاري الماء يجري فيها النيل، وأن فيها مطامير تسع
من الماء بقدرها، وأن فيها مكانًا ينفذ إلى صحراء الفيوم وهي مسيرة
يومين (1) .
ودخل جماعة في أيام أحمد بن طولون الهرم الكبير، فوجدوا في أحد بيوته
جامعًا من زجاج غريب اللون والتكوين، فحين خرجوا فقدوا منهم واحدًا،
فدخلوا في طلبه فخرج إليهم عريانًا وهو يضحك، وقال: لا تتعبوا في طلبي.
ورجع هاربًا إلى داخل الهرم، فعلموا أن الجن استهوته، وشاع أمرهم، فبلغ
ذلك ابن طولون، فمنع الناس من الدخول وأخذ منهم الجام، فملأه ماء،
ووزنه ثم صب ذلك الماء ووزنه؛ فكان وزنه ملآنًا كوزنه وهو فارغ.
وقيل: إن الروحاني الموكل بالهرم البحري في صفة امرأة عريانة مكشوفة
الفرج، ولها ذوائب إلى الأرض، وقد رآها جماعة تدور حول الهرم وقت
القيلولة، والموكل بالهرم الذي إلى جانبه في صورة غلام أصفر أمرد
عريان، وقد رُئي بعد المغرب يدور حول الهرم، والموكل بالثالث في صورة
شيخ في يده مبخرة وعليه ثياب الرهبان، وقد رُئي يدور ليلًا حول الهرم.
حكى ذلك صاحب المرآة.
وقال القاضي الفاضل: الهرمان فرقدا الأرض، وكل شيء يخشى عليه من الدهر
إلا الهرمان؛ فإنه يخشى على الدهر منهما.
_________
(1) انظر مروج الذهب 1: 350.
(1/79)
ذكر ما قيل في
الهرمين اللذين في الجيزة من الأشعار:
قال المتنبي:
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟ (1)
تتخلف الآثار عن سكانها ... حينًا، ويدركها الفناء فتتبع
وقال أبو الفضل أمية بن عبد العزيز "الأندلسي" (2) :
يعيشك هل أبصرت أحسن منظرًا ... على ما رأت عيناك من هرمي مصر (3)
أنافا بأعنان السماء وأشرفا ... على الجو إشراف السماك أو النسر
وقد وافيا نشزًا من الأرض عاليًا ... كأنهما نهدان قاما على صدر
وقال الفقيه عمارة اليمني الشاعر:
خليلي ما تحت السماء بنية ... تماثيل في إتقانها هرمي مصر (4)
بناء يخاف الدهر منه، وكل ما ... على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
تنزه طرفي في بديع بنائها ... ولم يتنزه في المراد بها فكري
وقال آخر:
انظر إلى الهرمين إذ برزا ... للعين في علو وفي صعد (5)
وكأنما الأرض العريضة إذ ... ظمئت لفرط الحر والومد (6)
_________
(1) ديوانه 2: 271.
(2) من نهاية الأرب.
(3) بدائع البدائة 136، المقريزي 1: 191، مسالك الأبصار 1: 237، نهاية
الأرب 1: 391.
(4) المقريزي 1: 195، نهاية الأرب 1: 390.
(5) المقريزي 1: 195-196، ونهاية الأرب 1: 391.
(6) الومد: الحر الشديد.
(1/80)
حسرت عن الثديين بارزة ... تدعو الإله
لفرقة الولد
فأجابها بالنيل يوسعها ... ريًّا ويشفيها من الكمد
وقال ظافر الحداد:
تأمل هيئة الهرمين وانظر ... وبينهما أبو الهول العجيب (1)
كعمار يبتن على رحيل ... لمحبوبين بينهما رقيب
وماء النيل بينهما دموع ... وصوت الريح عندهما نحيب
ودونهما المقطم وهو يحكي ... ركاب الركب أبركها اللغوب
وظاهر سجن يوسف مثل صب ... تخلف وهو محزون كئيب
وقال ابن الساعاتي:
ومن العجائب، والعجائب جمة ... دقت عن الإكثار والإسهاب (2)
هرمان قد هرم الزمان وأدبرت ... أيامه، وتزيد حسن شباب
لله أي بنية أزليةٍ ... تبغي السماء بأطوال الأسباب
وكأنما وقفت وقوف تبلد ... أسفًا على الأيام والأحقاب
كتمت على الأسماع فصل خطابها ... وغدت تشير به إلى الألباب
وقال سيف الدين بن حبارة:
لله أي غريبة وعجيبة ... في صنعة الأهرام للألباب (3)
أخفت عن الأسماع قصة أهلها ... ونضت عن الإبداع كل نقاب (4)
فكأنما هي كالخيام مقامة ... من غير ما عمد ولا أطناب
_________
(1) بدائع البدائة 136.
(2) نهاية الأرب 1: 391.
(3) المقريزي 1: 196، نهاية الأرب 1: 392.
(4) ورد البيت محرفًا في الأصول وتصويبه من نهاية الأرب والمقريزي.
(1/81)
وقال بعضهم:
تبين أن صدر الأرض مصر ... ونهداها من الهرمين شاهد
فواعجبا وقد ولدت كثيرًا ... على هرم وذاك النهد ناهد
ولما عدى القاضي شهاب الدين (1) بن فضل الله إلى الأهرام، كتب إلى
الأمير الجائي الداوادار، وذلك سنة تسعة وعشرين وسبعمائة، قال:
لي البشارة إذا أمسيت جاركم ... في أرض مصر بأني غير مهتضم
حفظتمو لي شبابي في ظلالكم ... مع أنكم قد وصلتم بي إلى الهرم
ويقبل الأرض، ويحمد الله على أن شرح له في ظل مولانا صدرًا، وأوجد
النجح لأمانيه التي قيل لها اهبطي مصرًا؛ حتى أقرت بها منتهى الرحلة،
واتخذ بها بيوتًا جعل أبوابها من قصر مولانا إلى قبله. ويُنهِي أنه كان
يستهول البحر أن يركب لججه، أو أن يصعد في أمواجه العالية درجة، ثم ترك
لما يقر به من خدمة مولانا الوجل، وأفكر فيما أحاط به من كرمه، فقال:
"أنا الغريق فما خوفي من البلل" (2) .
فركب حراقة لا يطفئ لهيبها الماء القراح، ولا تثبت منها العيون سوى ما
تدرك من هفيف الرياح، ثم أفضى إلى غدران تحف بها رياض تملأ العين،
وتتخلى منها بماء جمد عليه الزمرد وذاب اللجين، وختم يومه بالنزول في
جيزة مولانا التي أمن بها من النوب، وبلغت منها إلى هرمين، علم بهما أن
هذه الأيام الشريفة أعراس وهما بعض ما تزينت به من اللعب.
ومن ذلك رسالة لضياء الدين بن الأثير في وصف مصر:
_________
(1) ح، ط: "الفضل بن فضل الله".
(2) تضمين بين للمتنبي، صدره:
والهجر أقتل لي مما أراقبه
(1/82)
ولقد شاهدت منها بلدًا يشهد بفضله على
البلاد، ووجدته هو المصر وما عداه فهو السواد، فما رآه راء إلا ملأ
عينه وصدره، ولا وصفه واصف إلا علم أنه لم يقدره قدره. وبه من عجائب
الآثار ما لا يضبطها العيان، فضلًا عن الإخبار،
من ذلك الهرمان اللذان هرم الدهر وهما لا يهرمان، قد اختص كل منهما
بعظم البناء، وسعة الفناء، وبلغ من الارتفاع غاية لا يبلغها الطير على
بعد تحليقه، ولا يدركها الطرف على مدة تحديقه؛ فإذا أضرم برأسه قبس ظنه
المتأمل نجمًا، وإذا استدار عليه قوس السماء كان له سهمًا (1) .
وقال صاحبنا الشهاب المنصوري:
إن جزت بالهرمين قل كم فيهما ... من عبرة للعاقل المتألم
شبهت كلا منهما بمسافرٍ ... عرف المحل فبات دون المنزل
أو عاشقين وشى لوصلهما أبو ... الهول الرقيب فخلفاه بمعزل
أو حائرين استهديا نجم السما ... فهداهما بضيائه المتهلل
أو ظامئين استسقيا صوب الحيا ... فسقاهما عذبًا روي المنهل
يفنى الزمان وفي حشاه منهما ... غيظ الحسود وضجرة المستثقل
_________
(1) نهاية الأرب 1: 391.
(1/83)
ذكر بناء
الإسكندرية:
أخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر، والبيهقي في دلائل النبوة، عن عقبة بن
عامر الجهني رضى الله عنه، قال: جاء رجال من أهل الكتاب، معهم كتب إلى
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن شئتم أخبرتكم عما أردتم أن
تسألوني قبل أن تتكلموا، وإن شئتم تكلمتم وأخبرتكم! " قالوا: بل أخبرنا
قبل أن نتكلم، قال: "جئتم تسألونني عن ذي القرنين، وسأخبركم كما تجدونه
مكتوبًا عندكم؛ إن أول أمره أنه كان غلامًا من الروم، أُعطي ملكًا،
فسار حتى أتى ساحل البحر من أرض مصر، فابتنى عنده مدينة يقال لها
الإسكندرية، فلما فرغ من بنائها أتاه مَلَكٌ، فعرج به حتى استقله
فرفعه، فقال: انظر ما تحتك، قال: أرى مدينتي، وأرى مدائن معها، ثم عرج
به، فقال: انظر، فقال: قد اختلطت مع المدائن فلا أعرفها" (1) ...
الحديث بطوله؛ وقد أوردته في التفسير المأثور في سورة الكهف.
وأخرج ابن عبد الحكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كان أول شأن
الإسكندرية أن فرعون اتخذ بها مصانع ومجالس، وكان أول من عمرها وبنى
فيها، فلم تزل على بنائه ومصانعه، ثم تداولها الملوك؛ ملوك مصر بعده،
فبنت دلوكة بنت زباء منارة الإسكندرية ومنارة بوقير بعد فرعون، فلما
ظهر سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام على الأرض اتخذ بها مجلسًا،
وبنى فيها مسجدًا. ثم إن ذا القرنين ملكها، فهدم ما كان فيها من بناء
الملوك والفراعنة وغيرهم، إلا بناء سليمان بن داود، لم يهدمه ولم
_________
(1) فتوح مصر 38-39.
(1/84)
يُغيره، وأصلح ما كان تخارب (1) منه، وأقر
المنارة على حالها. ثم بنى الإسكندرية من أولها بناءً يشبه بعضه بعضًا،
ثم تداولتها الملوك من الروم وغيرهم؛ ليس من ملك إلا يكون له بناء يضعه
بالإسكندرية يُعرف به، ويُنسب إليه (2) .
قال ابن الحكم: ويقال إن الذي بنى منارة الإسكندرية قلبطرة الملكة، وهي
التي ساقت خليجها حتى أدخلته الإسكندرية، ولم يكن يبلغها الماء. قال:
ويقال إن الذي بنى الإسكندرية شداد بن عاد.
وقال ابن لهيعة: بلغني أنه وجد حجر بالإسكندرية مكتوب فيه: "أنا شداد
بن عاد، وأنا الذي نصب العماد، وحيد الأحياد (3) ، وسد بذراعيه الواد،
بنيتها إذ لا شيب ولا موت، إذا الحجارة لي في اللين (4) ، مثل الطين".
قال ابن لهيعة: والأحياد كالمغار (5) .
وأخرج ابن عبد الحكم عن تبيع قال: إن في الإسكندرية مساجد خمسة مقدسة:
مسجد موسى عليه الصلاة والسلام عند المنارة، ومسجد سليمان عليه الصلاة
والسلام، ومسجد ذي القرنين، ومسجد الخضر؛ أحدهما عند القسارية، والآخر
عند باب المدينة، ومسجد عمرو بن العاص الكبير (6) .
قال ابن عبد الحكم: وحدثنا أبي، قال: كانت الإسكندرية ثلاث مدن بعضها
إلى جنب بعض: "منة" (7) ؛ وهي موضع المنارة وما والاها، والإسكندرية
وهي موضع قصبة
_________
(1) فتوح مصر: "رث"، وفي ح، ط: "خرب".
(2) فتوح مصر 40.
(3) كذا في فتوح مصر، وفي الأصول: "جند الأجناد".
(4) تزعم العرب أنه كان هناك زمان، كانت فيه الحجارة رطبة، ويسمونه زمن
الفطحل.
(5) فتوح مصر 40-41، وفي ط: "والأجناد بلا عداد"، وما أثبته من فتوح
مصر.
(6) فتوح مصر 48.
(7) من فتوح مصر.
(1/85)
الإسكندرية اليوم، ونقيطة (1) ؛ وكان على
كل واحدة منهن سور، وسور من خلف ذلك على الثلاث مدن؛ يحيط بهن جميعًا
(2) .
وأخرج ابن عبد الحكم عن عبد الله بن طريف الهمداني، قال: كان على
الإسكندرية سبعة حصون وسبعة خنادق (3) .
وأخرج عن خالد بن عبد الله وأبي (4) حمزة أن ذا القرنين لما بنى
الإسكندرية رخمها بالرخام الأبيض؛ جدرها وأرضها، فكان لباسهم فيها
السواد والحمرة؛ فمن قبل ذلك لبس الرهبان السواد من نصوع بياض الرخام،
ولم يكونوا يُسرجون فيها بالليل من بياض الرخام، وإذا كان القمر أدخل
الرجل الذي يخيط بالليل في ضوء القمر في بياض الرخام الخيط في حجر
الإبرة (5) .
قال: وذكر بعض المشايخ: إن الإسكندرية بُنيت ثلاثمائة سنة، وسُكنت
ثلاثمائة سنة، وخُربت ثلاثمائة سنة؛ ولقد مكثت سبعين سنة ما يدخلها أحد
إلا
وعلى بصره خرقة سواد؛ من بياض جصها وبلاطها، ولقد مكنت سبعين ما يستسرج
فيها (6) .
قال: وأخبرنا ابن أبي مريم، عن العاطف بن خالد، قال: كانت الإسكندرية
بيضاء تضيء بالليل والنهار، وكانوا إذا غربت الشمس لم يخرج أحد منهم من
بيته، ومن خرج اختطف، وكان منهم راع يرعى على شاطئ البحر، وكان يخرج من
البحر شيء فيأخذ من غنمه، فكمن له الراعي في موضع حتى خرج؛ فإذا جارية،
فتشبث بها، فذهب بها إلى منزله فأنست بهم، فرأتهم لا يخرجون بعد غروب
الشمس، فسألتهم، فقالوا: من خرج منا اختطف، فهيأت لهم الطلسمات بمصر في
الإسكندرية.
_________
(1) ط: "ولقيطة".
(2) فتوح مصر 42.
(3) فتوح مصر 42.
(4) ط: "ابن حمزة".
(5) فتوح مصر 42.
(6) فتوح مصر 43.
(1/86)
وأخرج عن عطاء الخراساني، قال: كان الرخام
فد سخر لهم حتى يكون من بكرة إلى نصف النهار بمنزلة العجين، فإذا انتصف
النهار اشتد (1) .
وأخرج عن هشام بن سعد المديني، قال: وُجد بالإسكندرية حجر مكتوب فيه
مثل حديث ابن لهيعة سواء؛ وزاد فيه: "وكنزت في البحر كنزًا على اثني
عشر ذراعًا لن يخرجه أحد حتى تخرجه أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ" (2) .
وقال التيفاشي في كتاب سرور النفس بمدارك الحواس الخمس: كانت
الإسكندرية تسمى قبل الإسكندر رفودة، وبذلك تعرفها القبط في كتبهم
القديمة.
قال ابن عبد الحكم: وحدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، قال:
كانت بحيرة الإسكندرية كرما كلها لامرأة المقوقس؛ فكانت تأخذ خراجها
منهم الخمر بفريضة عليهم، وكثر الخمر حتى ضاقت به ذرعًا، فقالت: لا
حاجة لي في الخمر؛ أعطوني دنانير، فقالوا: ليس عندنا، فأرسلت عليهم
الماء فغرقتها، فصارت بحيرة يصاد فيها الحيتان حتى استخرجها بنو
العباس، فسدوا جسورها وزرعوا فيها (2) .
قال صاحب المرآة: من عجائب مصر عمود السواري بالإسكندرية، وليس في
الدنيا مثله، وقد شاهدته؛ ويقال إن أخاه بأسوان.
قال ابن فضل الله في المسالك: بظاهر الإسكندرية عمود السواري، عمود
_________
(1) فتوح مصر 43.
(2) فتوح مصر 7.
(1/87)
مرتفع في الهواء تحته قاعدة، وفوقه قاعدة،
يقال: إنه لا نظير له في العُمُد في علوة ولا في استدارته.
قلت: قد رأيت هذا العمود لما دخلت الإسكندرية في رحلتي، ودَوْر قاعدته
ثمانية وثمانون شبرًا، ومن المتواتر عن أهل الإسكندرية أن من حاذاه عن
قرب، وغمض عينيه ثم قصده لا يصيبه بل يميل عنه. وذكروا أنه لم تحصل
إصابته لأحد قط مع كثرة تحريتهم ذلك؛ وقد جربت ذلك مرارًا فلم أقدر أن
أصيبه.
وذكر بعض فضلاء الإسكندرية أنها كانت أربعة أعمدة على هذا النمط، وكان
عليها قبة يجلس عليها أرسطو صاحب الرصد. وفي هذا العمود يقول الشاعر:
نزيل سكندريةٍ ليس يُقرى ... سوى بالماء أو عمد السواري
وإن تطلب هنالك حرف خبزٍ ... فلم يوجد لذاك الحرف قاري
وأخرج ابن عساكر في تاريخه، عن أسامة بن زيد التنوخي، قال: كان
بالإسكندرية صنم من نحاس، يقال له شراحيل. على خشفة من خشف البحر، وكان
مستقبلًا بإصبعه القسطنطينية، لا يُدرى أكان مما عمله سليمان أو
الإسكندر؛ فكانت الحيتان تجتمع عنده، وتدور حوله فتصاد، فكتب أسامة إلى
الوليد بن عبد الملك بن مروان يخبره بخبر الصنم، ويقول: الفلوس عندنا
قليلة، فإن رأى أمير المؤمنين أن نقطع الصنم ونضربه فلوسًا. فأرسل إليه
الوليد رجالًا أُمَّنًا، فأنزلوا الصنم فوجدوا عينيه ياقوتتين حمراوين،
ليس لهما قيمة، فذهبت الحيتان ولم تعد إلى ذلك الموضع.
(1/88)
ذكر منارة
الإسكندرية وبقية عجائبها:
قال صاحب مباهج الفكر: من عجائب المباني بأرض مصر منارة الإسكندرية،
وهي مبنية بحجارة مهندمة مضببة بالرصاص، على قناطر من زجاج، والقناطر
على ظهر سرطان من نحاس، وفيها نحو ثلاثمائة بيت، بعضها فوق بعض، تصعد
الدابة بحملها إلى سائر البيوت من داخلها، وللبيوت طاقات تنظر إلى
البحر.
واختلف أهل التاريخ فيمن بناها؛ فقيل: إنها من بناء الإسكندر، وقيل: من
بناء دلوكة الملكة. ويقال: إن طولها كان ألف ذراع، وكان في أعلاها (1)
تماثيل من نحاس، منها تمثال قد أشار بسبابة يده اليمنى نحو الشمس أينما
كانت من الفلك، يدور معها حيثما دارت. ومنها تمثال وجهه إلى البحر، متى
(2) صار العدو منهم على نحو من ليلة سمع له صوت هائل، يعلم به أهل
المدينة طروق العدو. ومنها تمثال كلما مضى من الليل ساعة صوت صوتًا
مطربًا، وكان بأعلاه مرآة ترى منها قسطنطينية، وبينهما عرض البحر،
فكلما جهز الروم جيشًا رُئي في المرآة.
وحكى المسعودي أن هذه المنارة كانت في وسط الإسكندرية، وأنها تعد من
بنيان العالم العجيب، بناها بعض ملوك اليونان، يقال إنه الإسكندر، لما
كان بينهم وبين الروم من الحروب، فجعلوا هذه المنارة مرقبًا، وجعلوا
فيها مرآة من الأحجار المشقفة، تشاهد فيها مراكب البحر إذا أقبلت من
رومية على مسافة تعجز الأبصار عن إدراكها، ولم تزل كذلك إلى أن ملكها
المسلمون، فاحتال ملك الروم لما انتفع بها المسلمون في ذلك على الوليد
بن عبد الملك، بأن أنفذ أحد خواصه، ومعه جماعة إلى بعض ثغور
_________
(1) ح، ط: "أعلاء".
(2) ح، ط: "إذا".
(1/89)
الشام؛ على أنه راغب في الإسلام، فوصل إلى
الوليد، وأظهر الإسلام، وأخرج كنوزًا ودفائن كانت بالشام؛ مما حمل
الوليد على أن صدقه على أن تحت المنارة أموالًا ودفائن وأسلحة، دفنها
الإسكندر. فجهزه مع جماعة من ثقاته إلى الإسكندرية، فهدم ثلث المنارة،
وأزال المرآة، ثم فطن الناس "إلى" أنها مكيدة، فاستشعر ذلك، فهرب في
مركب كانت معدة له، ثم بُني ما تهدم بالجص والآجر.
قال المسعودي: وطول المنارة في وقتنا هذا -وهو سنة ثلاث وثلاثين
وثلاثمائة- ثلاثون ذراعًا، وكان طولها قديمًا نحو أربعمائة ذراع،
وبناؤها في عصرنا ثلاثة أشكال، فقريب من الثلث مربع "مبني" (1)
بالحجارة، ثم بعد ذلك بناء مثمن الشكل مبني بالأجر ومائتان والجص نحو
ستين ذراعًا، وأعلاها مدور الشكل (2) .
قال صاحب مباهج الفكر: وكان أحمد بن طولون بنى في أعلاها قبة من خشب،
فهدمتها الرياح، فبُني مكانها مسجد في أيام الملك الكامل صاحب مصر. ثم
إن وجهها البحري تداعى، وكذلك الرصيف الذي بين يديها من جهة البحر،
وكادا ينهدمان؛ وذلك أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، فرمه (3)
وأصلحه. انتهى.
وذكر ابن فضل الله في مسالكه أن هذه المنارة قد خربت وبقيت أثرًا بلا
عين، وكان هذا وقع في أيام قلاون أو ولده.
وقال ابن المتوج في كتاب إيقاظ المتغفل: من العجائب منارة الإسكندرية
التي بناها ذو القرنين، كان طولها أكثر من ثلاثمائة ذراع، مبنية بالحجر
المنحوت، مربعة الأسفل، وفوق المنارة المربعة منارة مثمنة مبنية
بالآجر، وفوق المنارة المثمنة منارة
_________
(1) من ط.
(2) انظر مروج الذهب 1: 375-376 في الكلام على منارة الإسكندرية،
ويختلف ما نقله المؤلف هنا عما في هناك اختلافًا كثيرًا. وانظر نهاية
الأرب 1: 357.
(3) كذا في ح، ط، وفي الأصل: "فرم".
(1/90)
مدورة وكانت كلها مبنية بالصخر المنحوت على
أكثر من مائتي ذراع، وكان عليها مرآة من الحديد الصيني، عرضها سبعة
أذرع، كانوا يرون فيها جميع من يخرج من البحر من جميع بلاد الروم، فإن
كانوا أعداء تركوهم حتى يقربوا من الإسكندرية، فإذا قربوا منها ومالت
الشمس للغروب أداروا المرآة مقابلة الشمس، فاستقبلوا بها السفن، حتى
يقع شعاع الشمس في ضوء المرآة على السفن في البحر عن آخرها، ويهلك كل
من فيها. وكانوا يؤدون الخراج ليأمنوا بذلك من إحراق المرآة لسفنهم،
فلما فتح عمرو بن العاص الإسكندرية احتالت الروم بأن بعثت جماعة من
القسيسين المستعربين (1) ، وأظهروا أنهم مسلمون،
وأخرجوا كتابًا زعموا أن ذخائر ذي القرنين في جوف المنارة، فصدقتهم
العرب لقلة معرفتهم بحيل الروم، وعدم معرفتهم بمنفعة تلك المرآة
والمنارة، وتخيلوا أنهم إذا أخذوا الذخائر والأموال أعادوا المرآة
والمنارة كما كانت، فهدموا مقدار ثلثي المنارة، فلم يجدوا فيها شيئا،
وهرب أولئك القسيسون، فعلموا حينئذ أنها خديعة، فبنوها بالآجر، ولم
يقدروا أن يرفعوا إليها تلك الحجارة، فلما أتموها نصبوا عليها تلك
المرآة كما كانت، فصدئت ولم يروا فيها شيئا، وبطل إحراقها. والنصف
الأسفل الذي من عمل ذي القرنين، يدخل الآن من الباب الذي للمنارة، وهو
مرتفع من الأرض مقدار ذراعا، يُصعد إليه على قناطر مبنية بالصخر
المنحوت، فإذا دخل من باب المنارة يجد على يمينه بابا، فيدخل منه إلى
مجلس كبير عشرين ذراعا مربعا، يدخل فيه الضوء من جانبي المرآة، ثم يجد
بيتا آخر مثلها، ثم مجلسا ثالثا، ومجلسا رابعا كذلك.
قال: وقد عملت الجن لسليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في
الإسكندرية مجلسا من أعمدة الرخام الملون المجزع كالجزع اليماني،
المصقول كالمرآة، إذا نظر الإنسان إليها يرى من يمشي خلفه لصفائها.
وكان عدد الأعمدة ثلاثمائة عمود، وكل عمود
_________
(1) في الأصل: "المستعربة".
(1/91)
ثلاثون ذراعا، وفي وسط المجلس عمود طوله
مائة وإحدى عشرة ذراعا، وسقفه من حجر واحد أخضر مربع، قطعته الجن. ومن
جملة تلك الأعمدة عمود واحد يتحرك شرقا وغربا، يشاهد ذلك الناس، ولا
يرون ما سبب حركته!
قال: ومن جملة عجائب الإسكندرية السواري والملعب الذي كانوا يجتمعون
فيه (1) في يوم من السنة، ويرمون بأكرة (2) ، فلا تقع في حجر أحد منهم
إلا ملك مصر، وكان يحضر هذا الملعب ما شاء من الناس ما يزيد على ألف
ألف رجل؛ فلا يكون منهم أحد إلا وهو ينظر في وجه صاحبه. ثم إن قرئ كتاب
سمعوه جميعا، أو لعب لون من ألوان اللعب رأوه عن آخرهم (3) .
قال: ومن عجائبها المسلتان، وهما جبلان قائمان على سرطانات من نحاس في
أركانهما، كل ركن على سرطان، فلو أراد أحد أن يُدخل من جانبهما شيئا
حتى يعبر إلى جانبهما الآخر فعل.
قال: ومن عجائبهما عمودا الإعياء، وهما عمودان ملقيان، وراء كل عمود
منهما جبل حصى كحصى الجمار، فمتى أقبل التعب النصب (4) بسبع حصيات من
ذلك الحصى، فاستلقى على أحدهما، ثم يرمي (5) وراءه بالسبع حصيات، ويقوم
ولا يلتفت، ويمضي لطيته، قام كأنه لم يتعب ولم يحس بشيء.
قال: ومن عجائبها القبة الخضراء، وهي أعجب قبة ملبسة نحاسا، كأنه الذهب
الإبريز، لا يبليه القدم، ولا يخلقه الدهر.
_________
(1) ح، ط: "إليه"، وما أثبته من الأصل.
(2) كذا في الأصل، وفي ح، ط: "بالأكرة".
(3) خطط المقريزي 1: 255.
(4) في الأصل: "والنصب"، والأجود ما أثبته من ح، ط.
(5) كذا في الأصل، وفي ح، ط: "رمى". وانظر المقريزي 1: 49.
(1/92)
وقال: ومن عجائبها منية عقبة، وحصن فارس،
وكنيسة أسفل الأرض؛ وهي مدينة على مدينة، وليس على وجه الأرض مثلها،
ويقال إنها إرم ذات العماد، سميت بذلك لأن عمدها لا يُرى مثلها طولا
وعرضا.
وقال صاحب مرآة الزمان: كان للإسكندر أخ يُسمى الفرما، فلما بنى
الإسكندر الإسكندرية، بنى الفرما الفرما، على نعت الإسكندرية. ولم تزل
الإسكندرية بهجة يرتاح إليها كل من رآها، ولم تزل الفرما مذ بُنيت رثة،
فلما فتحت الإسكندرية قال عوف بن مالك لأهلها: ما أحسن مدينتكم!
فقالوا: إن الإسكندر لما بناها قال: هذه مدينة فقيرة إلى الله تعالى
غنية عن الناس، فبقيت بهجتها. ولما فتحت الفرما قال أبرهة بن الصباح
لأهلها: ما أخلق مدينتكم! قالوا: إن الفرما لما بناها قال: هذه مدينة
غنية عن الله، فقيرة إلى الناس، فذهبت بهجتها.
(1/93)
ذكر دخول عمرو بن
العاص مصر في الجاهلية:
أخرج بن عبد الحكم، عن خالد بن يزيد، أنه بلغه أن عمرا قدم إلى بيت
المقدس لتجارة في نفر من قريش، وإذا هم بشماس من شمامسة الروم من أهل
الإسكندرية، قدم للصلاة في بيت المقدس، فخرج في بعض جبالها يسيح، وكان
عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه، وكانت رعية الإبل نوبا بينهم؛ فبينما عمرو
يرعى إبله إذ مر به ذلك الشماس، وقد أصابه عطش شديد في يوم شديد الحر،
فوقف على عمر فاستسقاه، فسقا عمرو من قربة له، فشرب حتى روي، ونام
الشماس مكانه، وكان إلى جانب الشماس حيث نام حفرة، فخرجت منها حية
عظيمة، فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشماس نظر
إلى حية عظيمة قد أنجاه الله منها، فقال لعمرو: ما هذه؟ فأخبره عمرو
أنه رماها بسهم فقتلها، فأقبل إلى عمرو، فقبل رأسه، وقال: قد أحياني
الله بك مرتين: مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية، فما أقدمك هذه
البلاد؟ قال: قدمت مع أصحاب لي نطلب الفضل من تجارتنا، فقال له الشماس:
وكم ترجو أن تصيب من تجارتك؟ قال: رجائي أن أصيب ما أشتري به بعيرا،
فإني لا أملك إلا بعيرين، فأملي أن أصيب بعيرا آخر، فيكون لي ثلاثة
أبعرة. قال له الشماس: أرأيت دية أحدكم بينكم، كم هي؟ قال: مائة من
الإبل، فقال الشماس لسنا أصحاب إبل، نحن أصحاب دنانير، قال: تكون ألف
دينار، فقال له الشماس: إني رجل غريب في هذه البلاد، وإنما قدمت أصلي
في كنيسة بيت المقدس، أسيح في هذه الجبال شهرا، جعلت ذلك نذرا على
نفسي، وقد قضيت ذلك، وأنا أريد الرجوع إلى بلادي فهل لك أن تتبعني إلى
بلادي، ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين؛ لأن الله تعالى قد أحياني
بك مرتين! فقال له عمرو: أين بلادك؟ قال:
(1/94)
مصر في مدينة يقال لها الإسكندرية، فقال له
عمرو: لا أعرفها ولم أدخلها قط، فقال له الشماس: لو دخلتها لعلمت أنك
لم تدخل قط مثلها، فقال له عمرو: تفي لي بما تقول، وعليك بذلك العهد
والميثاق؟ فقال الشماس: نعم لك الله على بالعهد والميثاق أن أفي لك،
وأن أردك إلى أصحابك، فقال عمرو: كم يكون مكثي في ذلك؟ قال: شهرًا
تنطلق معي ذاهبًا عشرًا، وتقيم عندنا
عشرًا، وترجع في عشر؛ ولك عليَّ أنت أحفظك ذاهبًا، وأن أبعث معك من
يحفظك راجعًا. فقال له: أنظرني حتى أشاور أصحابي، فانطلق عمرو إلى
أصحابه، فأخبرهم بما عاهد عليه الشماس، وقال لهم: أقيموا حتى أرجع
إليكم، ولكم عليَّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك، على أن يصحبني رجل منكم
آنس به، فقالوا: نعم، وبعثوا معه رجلًا منهم، فانطلق عمرو وصاحبه مع
الشماس إلى مصر؛ حتى انتهى إلى الإسكندرية، فرأى عمرو من عمارتها وكثرة
أهلها وما بها من الأموال والخير ما أعجبه ذلك، وقال: ما رأيت مثل مصر
قط وكثرة ما فيها من الأموال، ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة
بنائها وكثرة أهلها وما بها من الأموال، فازداد تعجبًا، ووافق دخول
عمرو الإسكندرية عيدًا فيها عظيمًا يجتمع فيها (1) ملوكهم وأشرافهم،
ولهم أكرة من ذهب مكللة، يترامى بها ملوكهم، وهم يتلقونها بأكمامهم؛
وفيما اختبروا من تلك الأكرة على ما وضعها من مضى منهم: إن من وقعت
الأكرة في كمه، واستقرت فيه، لم يمت حتى يملكهم. فلما قدم عمرو
الإسكندرية أكرمه الشماس الإكرام كله، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه،
وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس، حيث يترامون بالأكرة، وهم
يتلقونها بأكملهم، فرمى بها رجل منهم، فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم
عمرو؛ فتعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الأكرة قط إلا هذه المرة،
أترى هذا الأعرابي يملكنا! هذا لا يكون أبدًا!
_________
(1) فتوح مصر: "فيه".
(1/95)
وإن ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية
وأعلمهم أن عمرًا أحياه مرتين، وأنه قد ضمن له ألفي دينار، وسألهم أن
يجمعوا ذلك له فيما بينهم؛ ففعلوا ودفعوها إلى عمرو، فانطلق عمر
وصاحبه، وبعث معهما الشماس دليلًا ورسولًا، وزودهما وأكرمهما؛ حتى رجع
هو وصاحبه إلى أصحابهما؛ فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى منها
ما علم أنها أفضل البلاد وأكثرها مالًا. فلما رجع عمرو إلى أصحابه دفع
إليهم فيما بينهم ألف دينار وأمسك لنفسه ألفًا، قال عمرو: فكان أول مال
"اعتقدته وتأثلته" (1) .
_________
(1) فتوح مصر 53-55.
(1/96)
ذكر كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المقوقس
قال ابن عبد الحكم: حدثنا هشام بن إسحاق وغيره، قال: لما كانت سنة ست
من الهجرة (1) ، ورجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من
الحديبية بعث إلى الملوك، فبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب
الإسكندرية، فمضى حاطب بكتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فلما انتهى إلى الإسكندرية، وجد المقوقس في مجلس يشرف (2)
على البحر، فركب البحر؛ فلما حاذى مجلسه، أشار بكتاب رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين إصبعيه، فلما رآه أمره بالكتاب فقُبِض،
وأمر به فأوصل إليه، فلما قرأ الكتاب (3) قال: ما منعه إن كان نبيًّا
أن يدعو عليَّ فيسلط عليَّ! فقال له: ما منع عيسى بن مريم أن يدعو على
من أبى عليه أن يُفعل به ويُفعل! فوجم ساعة، ثم استعادها فأعادها حاطب
عليه، فسكت، فقال له حاطب: إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى،
فانتقم الله به ثم انتقم منه؛ فاعتبر بغيرك، ولا تعتبر بك. وإن لك
دينًا لن تدعه إلا لما هو خير منه، وهو الإسلام الكافي به الله فَقْدَ
ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك
إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين
المسيح، ولكنا نأمرك به، ثم قرأ الكتاب، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط،
سلام على من اتبع الهدى؛ أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم
تسلم ويؤتك الله أجرك مرتين، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا
اللَّهَ
_________
(1) فتوح مصر: "من مهاجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ".
(2) فتوح مصر: "مشرف".
(3) كذا في فتوح مصر، والأصل وفي ط: "فقرئ".
(1/97)
وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (1) .
فلما قرأه أخذه، فجعله في حق من عاج، وختم عليه، ثم دعا كاتبًا يكتب
بالعربية، فكتب:
لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط. سلام عليك، أما بعد فقد
قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا قد بقي؛
وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما
مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها. والسلام (2) .
وأخرج ابن عبد الحكم، عن أبان بن صالح، قال: أرسل المقوقس إلى حاطب
ليلة، وليس عنده أحد إلا ترجمان له، فقال له: ألا تخبرني عن أمور أسألك
عنها، فإني أعلم أن صاحبك تخيرك حين بعثك لي!
قلت: لا تسألني عن شيء إلا صدقنك، قال: إلام يدعو محمد؟ قال: إلى أن
نعبد الله، ولا نشرك به شيئًا، ونخلع ما سواه، ويأمر بالصلاة. قال: فكم
تصلون؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت،
والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدم. قال: ومن أتباعه؟ قال:
الفتيان من قومه وغيرهم، قال: فهل يقاتل قومه؟ قال: نعم، قال: صفه لي،
فوصفته بصفة من صفاته، ولم آت عليها، قال: قد بقيت أشياء، لم أرك
ذكرتها؛ في عينيه حمرة قلما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوة، يركب
الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزئ بالتمرات والكسر، لا يبالي من لاقى من
عمٍ ولا ابن عم، قلت: هذه صفته، قال: قد كنت أعلم أن نبيًّا قد بقي،
وقد
_________
(1) سورة آل عمران: 61.
(2) فتوح مصر 45-46، مع اختلاف وحذف.
(1/98)
كنت أظن أن مخرجه بالشام، وهناك تخرج
الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في العرب، في أرض جهد وبؤس، والقبط لا
تطاوعني في اتباعه، ولا أحب أن يُعلم بمحاورتي إياك، وسيظهر على
البلاد، وينزل أصحابه "من بعده" (1) بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما
هاهنا، وأنا لا اذكر للقبط من هذا حرفًا، فارجع إلى صاحبك (2) .
وأخرج ابن عبد الحكم، عن عبد الرحمن بن عبد القارئ، قال: لما مضى حاطب
بكتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قبل المقوقس
الكتاب، وأكرم حاطبًا، وأحسن نزله، ثم سرحه إلى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها
وجاريتين، إحداهما أم إبراهيم، ووهب الأخرى لجهم بن قيس العبدي، فهي أم
زكريا بن جهم، الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر.
قال ابن عبد الحكم: ويقال بل وهبها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لحسان بن ثابت، فهي أم عبد الرحمن بن حسان؛ ويقال: بل وهبها
لمحمد بن مسلمة الأنصاري، ويقال: بل لدحية بن خليفة الكلبي (3) .
ثم أخرج من طريق المنذر بن عبيد، عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، عن
عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، عن أمه سيرين، قال: حضرت موت إبراهيم،
فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما صحت أنا وأختي
ما ينهانا؛ فلما مات نهانا عن الصياح. هذا يصحح قول من قال إنه وهبها
لحسان (4) .
وقال ابن الحكم: أنبأنا هانئ المتوكل، أنبأنا ابن لهيعة، عن يزيد بن
أبي حبيب، أن المقوقس لما أتاه كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ضمه إلى صدره، وقال: هذا زمان يخرج فيه النبي الذي نجد نعته
وصفته في كتاب الله، وإنا لنجد صفته أنه
_________
(1) من فتوح مصر.
(2) فتوح مصر 46-47.
(3) فتوح مصر 47.
(4) فتوح مصر 47-48.
(1/99)
لا يجمع بين أختين في ملك يمين ولا نكاح،
وأنه يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة، وإن جلساءه المساكين، وأن خاتم
النبوة بين كتفيه. ثم دعا رجلًا عاقلًا، ثم لم يدع بمصر أحسن ولا أجمل
من مارية وأختها؛ وهما من أهل حفن من كورة أنصنا. فبعث بهما معه إلى
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهدى له بغلة شهباء،
وحمارًا أشهب، وثيابًا من قباطي مصر، وعسلًا من عسل بنها، وبعث إليه
بمال صدقة، وأمر رسوله أن ينظر: مَنْ جلساؤه وينظر إلى ظهره، هل يرى
شامة كبيرة ذات شعر؟ ففعل ذلك الرسول، فلما قدم على رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم إليه الأختين والدابتين والعسل
والثياب، وأعلمه أن ذلك كله هدية. فقبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهدية -وكان لا يردها من أحد من الناس- فلما نظر
إلى مارية وأختها أعجبتاه، وكره أن يجمع بينهما، وكانت إحداهما تشبه
الأخرى، فقال: اللهم اختر لنبيك، فاختار له الله مارية، وذلك أنه قال
لهما: قولا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فبادرت
مارية، فتشهدت وآمنت قبل أختها، ومكثت بعدها أختها ساعة، ثم تشهدت
وآمنت، فوهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أختها لمحمد
بن مسلمة الأنصاري. وكانت البغلة والحمار أحب دوابه إليه، وسمى البغلة
دلدلًا، وسمى الحمار يعفورًا، وأعجبه العسل، فدعا لعسل بنها بالبركة،
وبقيت تلك الثياب حتى كفن في بعضها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(1) .
قال ابن الحكم: ويقال إن المقوقس بعث مع مارية بخصي فكان يأوي إليها
(2) .
ثم أخرج عن عبد الله بن عمرو، قال: دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أم إبراهيم أم ولده القبطية، فوجد عندها نسيبًا
كان لها، قدم معها من مصر؛ وكان كثيرًا
_________
(1) فتوح مصر 48-49.
(2) فتوح مصر 49.
(1/100)
ما يدخل عليها، فوقع في نفسه شيء، فرجع،
فلقيه عمر بن الخطاب، فعرف ذلك في وجهه، فسأله فأخبره، فأخذ عمر السيف،
ثم دخل على مارية فوجده عندها (1) ، فأهوى إليه بالسيف، فلما رأى ذلك
كشف عن نفسه -وكان مجبوبًا ليس بين رجليه شيء- فلما رجع عمر إلى رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، قال: "إن جبريل أتاني،
فأخبرني أن الله قد برأها وقريبها، وأن في بطنها غلامًا مني، وإنه أشبه
الخلق بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم، وكناني بأبي إبراهيم" (2) .
وأخرج ابن عبد الحكم والبيهقي في الدلائل، من طريق يحيى بن عبد الرحمن
بن حاطب، عن أبيه، عن جده، قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المقوقس ملك الإسكندرية، فجئته بكتاب رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزلني في منزل، وأقمت عنده
ليالي، ثم بعث إليّ، وقد جمع بطارقته، فقال: سأكلمك بكلام، وأحب أن
تفهمه عني، قلت: هلم، قال: أخبرني عن صاحبك، أليس هو بنبيّ؟ قال: قلت:
بلى، هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فما له لم
يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها! قال: فقلت له: فعيسى بن
مريم، تشهد أنه رسول الله، فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه،
ألا يكون دعا عليهم، بأن يهلكهم (3) الله حتى رفعه الله إليه في السماء
الدنيا؟ فقال: أنت حكيم، جاء من عند حكيم؛ هذه هدايا أبعث بها معك إلى
محمد؛ وأرسل معك مبذرقة يبذرقونك (4) إلى مأمنك. وأهدى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث جوارٍ، منهن أم إبراهيم، واحدة
وهبها رسول الله صلى
_________
(1) فتوح مصر: "ثم دخل على مارية وقريبها عندها".
(2) فتوح مصر 49.
(3) كذا في فتوح مصر، وفي الأصول: "فأهلكهم".
(4) يبذرقوتك، أي: يخفرونك.
(1/101)
الله عليه وسلم لأبي جهم بن حذيفة العبدري،
وواحدة وهبها لحسان بن ثابت، وأرسل إليه بثياب، مع طرف من طرفهم (1) .
قال ابن أبي مريم: قال ابن لهيعة: وكان اسم أخت مارية قيصرًا ويقال:
سيرين (2) .
قال ابن عبد الحكم: وحدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة، عن
الأعرج، قال: بعث المقوقس بمارية وأختها حنة (2) .
وأخرج ابن عبد الحكم، عن راشد بن سعد، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لو بقي إبراهيم ما تركت قبطيًّا إلا وضعت عنه
الجزية" (3) .
وأخرج ابن عبد الحكم، عن ابن مسعود، قال: قلنا يا رسول الله، فيم
نكفنك؟ قال: "في ثيابي هذه، أو ثياب مصر" (4) .
وأخرج الواقدي وأبو نعيم في الدلائل عن المغيرة بن شعبة، أنه لما خرج
مع بني مالك إلى المقوقس، قال لهم: كيف خلصتم إلي من طائفتكم، ومحمد
وأصحابه بيني وبينكم؟ قالوا: لصقنا بالبحر، وقد خفناه على ذلك، قال:
فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟ قالوا: لم يتبعه منا رجل واحد، قال: ولِمَ
ذاك؟ قالوا: جاءنا بدين مجدد لا تدين به الآباء، ولا يدين به الملك،
ونحن على ما كان عليه آباؤنا. قال: فكيف صنع قومه؟ قال: تبعه أحداثهم
وقد لاقاه من خالفه من قومه وغيرهم من العرب في مواطن، مرة تكون عليهم
الدبرة ومرة تكون له. قال: ألا تخبروني، إلى ماذا يدعو؟ قالوا: يدعو
إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونخلع ما كان يعبد الآباء، ويدعو
إلى الصلاة والزكاة، قال: ألهما وقت يُعرف، وعدد يُنتهى إليه؟ قالوا:
يصلون في
_________
(1) فتوح مصر 49-50، وذكر بعده: "فولدت مارية لرسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبراهيم، فكان من أحب الناس إليه، حتى مات
فوجد به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
(2) فتوح مصر 52.
(3) فتوح مصر 53.
(4) فتوح مصر 53.
(1/102)
اليوم والليلة خمس صلوات كلها بمواقيت
وعدد، ويؤدون من كل ما بلغ عشرين مثقالًا، وكل إبل بلغت خمسًا شاة، ثم
أخبره بصدقة الأموال كلها، قال: أفرأيتم إن أخذها أين يضعها؟ قال:
يردها على فقرائهم، ويأمر بصلة الرحم ووفاء العهد وتحريم الزنا والربا
والخمر، ولا يأكل ما ذُبح لغير اسم الله. قال: هو نبي مرسل إلى الناس
كافة، ولو أصاب القبط والروم تبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى بن مريم؛ وهذا
الذي تصفونه منه بُعِثت به الأنبياء من قبل، وستكون له العاقبة حتى لا
ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى منتهى الخف
والحافر ومنقطع البحور، قلنا: لو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا. فأنغض
رأسه (1) ، وقال: أنتم في اللعب! ثم قال: كيف نسبه في قومه؟ قلنا: هو
أوسطهم نسبًا، قال: كذلك الأنبياء، تبعث في نسب قومها، قال: فكيف صدق
حديثه؟ قلنا: يسمى الأمين من صدقه، قال: انظروا في أموركم، أترونه يصدق
فيم بينكم وبينه، ويكذب على الله! ثم قال: فمن تبعه؟ قلنا: الأحداث،
قال: هم أتباع الأنبياء قبله، قال: فما فعلت يهود يثرب، فهم أهل
التوراة؟ قلنا: خالفوه، فأوقع بهم فقتلهم وسباهم، وتفرقوا في كل وجه،
قال: هم قوم حسدٍ حسدوه، أما إنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف.
قال المغيرة: فقمنا من عنده، وقد سمعنا كلامًا ذللنا لمحمد صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخضعنا، وقلنا: ملوك العجم يصدقونه
ويخافونه على بعد إرجائهم منه، ونحن أقرباؤه وجيرانه لم ندخل معه، وقد
جاءنا داعيًا إلى منازلنا! قال المغيرة: فأقمت بالإسكندرية لا أدع
كنيسة إلا دخلتها، وسألت أساقفها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة
محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أسقف من القبط لم أر
أحدًا أشد منه، فقلت: أخبرني، هل بقي أحد من الأنبياء؟ قال: نعم، هو
آخر الأنبياء، ليس بينه وبين عيسى نبي، قد أمر عيسى باتباعه، وهو النبي
الأمي العربي، اسمه أحمد، ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة،
وليس بالأبيض ولا
_________
(1) أنغص رأسه: أي حركها.
(1/103)
بالآدم، يُعفي شعره، ويلبس ما غلظ من
الثياب، ويجتزئ بما لقي من الطعام؛ سيفه على عاتقه، ولا يبالي من لاقى،
يباشر القتال بنفسه ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم، هم أشد له حبًّا من
آبائهم وأولادهم، من حرم يأتي، وإلى حرم يهاجر، إلى أرض سباخ ونخل،
يدين بدين إبراهيم. قلت: زدني في صفته، قال: يأترز على وسطه، ويغسل
أطرافه، ويُخص بما لم يُخص به الأنبياء قبله. كان النبي يبعث إلى قومه،
وبعث هو إلى الناس كافة وجعلت له الأرض مسجدًا وطهورًا: أينما أدركته
الصلاة تيمم وصلى وكان من قبله مشددًا عليهم لا يصلون إلا في الكنائس
والبيع.
قال المغيرة: فوعيت ذلك كله من قوله وقول غيره، ثم رجعت وأسلمت.
(1/104)
ذكر بعث أبي بكر الصديق رضي الله عنه
حاطبًا إلى المقوقس:
أخرج ابن عبد الحكم، عن علي بن رباح اللخمي، قال: بعث أبو بكر الصديق
رضى الله عنه بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حاطبًا إلى المقوقس بمصر، فمر على ناحية قرى الشرقية، فهادنهم وأعطوه
(1) ، فلم يزالوا على ذلك حتى دخلها عمرو بن العاص، فقاتلوه، وانتقض
ذلك العهد.
قال عبد الملك بن مسلمة: وهي أول هدنة كانت بمصر (2) .
_________
(1) فتوح مصر: "وأعطوه".
(2) فتوح مصر 53.
(1/105)
|