حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة

ذكر الحوادث الغريبة الكائنة بمصر في ملة الإسلام من غلاء ووباء وزلازل وآيات وغير ذلك:
في سنة أربع وثلاثين من الهجرة، قال سيف بن عمر: إن (1) رجلا يقال له: عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأظهر الإسلام، وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلامًا اخترعه من عند نفسه، مضمونه أنه كان يقول للرجل: أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا (2) ؟ فيقول الرجل: بلى، فيقول له: رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفضل منه، فما يمنع أن يعود إلى هذه الدنيا وهو أشرف من عيسى! ثم يقول: وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب؛ فمحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. ثم يقول: فهو أحق بالأمر من عثمان، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له. فأنكروا عليه، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر وكان ذلك مبدأ تألبهم على عثمان.
وفي سنة ست وستين وقع الطاعون بمصر (3) .
وفي سنة سبعين كان الوباء بمصر، قاله الذهبي (4) .
وفي سنة أربع وثمانين قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي،
_________
(1) الخبر في الطبري 4: 340.
(2) كذا في الأصول، وعبارة الطبري: "العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمدًا يرجع، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى".
(3) النجوم الزاهرة 1: 179: "وفيها كان الطاعون بمصر، ومات فيه خلائق عظيمة، وهذا خامس طاعون مشهور في الإسلام".
(4) في العبر 1: 78.

(2/274)


وقطع رأسه، فأمر الحجاج فطيف به في العراق، ثم بعث به إلى عبد الملك بن مروان، فطيف به في الشام، ثم بعث به إلى عبد العزيز بن مروان وهو بمصر، فطيف به فيها، ودفن بمصر، وجثته بالرخج (1) ، فقال بعض الشعراء في ذلك:
هيهات موضع جثة من رأسها ... رأس بمصر وجثة بالرخج
وفي سنة خمس وثمانين كان الطاعون بالفسطاط، ومات فيه عبد العزيز بن مروان أمير مصر.
وفي سنة خمس وأربعين ومائة، انتثرت الكواكب من أول الليل إلى الصباح، فخاف الناس. ذكره صاحب المرآة.
وفي سنة ثمانين ومائة كان بمصر زلزلة شديدة سقطت منها رأس منارة الإسكندرية.
وفي سنة ست عشرة ومائتين، وثب رجل يقال له: عبدوس الفهري في شعبان ببلاد مصر، فتغلب على نواب أبي إسحاق بن الرشيد (2) ، وقويت شوكته، واتبعه خلق كثير، فركب المأمون من دمشق في ذي الحجة إلى الديار المصرية، فدخلها في المحرم سنة سبع عشرة، وظفر بعبدوس، فضرب عنقه، ثم كر راجعا إلى الشام (3) . وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين ظهر في السماء شيء مستطيل دقيق الطرفين، عريض الوسط، من ناحية المغرب إلى العشاء الآخرة، ثم ظهر خمس ليل وليس بضوء كوكب، ولا كوكب له ذنب، ثم نقص. قاله في المرآة.
وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين، أقبلت الروم في البحر في ثلثمائة مركب، وأبهة عظيمة، فكبسوا دمياط، وسبوا وأحرقوا وأسرعوا الكسرة في البحر، وسبوا ستمائة امرأة، وأخذوا من الأمتعة والأسلحة شيئًا كثيرا، وفر الناس منهم في كل جهة،
_________
(1) الرخج: كورة أو مدينة من نواحي كابل.
(2) هو أبو إسحاق المعتصم، وكان من ولاته على مصر عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافقي، مولى بني نصر بن معاوية، وليها بعد عزل عبدويه بن جبلة عنها. النجوم الزاهرة 2: 215.
(3) الحادثة مفصلة في النجوم الزاهرة 2: 215، 216.

(2/275)


فكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسر، ورجعوا إلى بلادهم، ولم يعرض لهم أحد (1) .
وفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين، زلزلت الأرض ورجمت السويداء "قرية بناحية مصر" من السماء، ووزن حجر من الحجارة فكان عشرة أرطال.
وفي سنة أربع وأربعين ومائتين، اتفق عيد الأضحى وعيد الفطر لليهود، وشعانين النصارى في يوم واحد. قال ابن كثير: وهذا عجيب غريب (2) . وقال في المرآة: لم يتفق في الإسلام مثل ذلك.
وفي سنة خمس وأربعين ومائتين زلزلت مصر، وسمع بتنيس ضجة دائمة طويلة، مات منها خلق كثير (3) .
وفي سنة ست وستين ومائتين قتل أهل مصر عاملهم الكرخي.
وفي سنة ثمان وستين ومائتين، قال ابن جرير: اتفق أن رمضان كان يوم الأحد وكان الأحد الثاني الشعانين، والأحد الثالث الفصح، والأحد الرابع السرور، والأحد الخامس انسلاخ الشهر.
وفي سنة تسع وستين في المحرم، كسفت الشمس وخسف القمر، واجتماعهما في سهر نادر. قاله في المرآة.
وفي سنة ثمان وسبعين ومائتين، قال ابن الجوزي: لليلتين بقيتا من المحرم طلع نجم ذو جمة، ثم صارت الجمة ذؤابة. قال: وفي هذه السنة وردت الأخبار أن نيل مصر غار، فلم يبق منه شيء، وهذا شيء لم يعهد مثله، ولا بلغنا في الأخبار السابقة، فغلت الأسعار بسبب ذلك. وفي أيام أحمد بن طولون تساقطت النجوم، فراعه ذلك فسأل
_________
(1) النجوم الزاهرة 2: 296.
(2) تاريخ ابن كثير 10: 346.
(3) ابن كثير 10: 346.

(2/276)


العلماء والمنجمين عن ذلك، فما أجابوا بشيء، فدخل عليه الجمل الشاعر وهم في الحديث، فأنشد في الحال:
قالوا تساقطت النجو ... م لحادث فظ عسير
فأجبت عند مقالهم ... بجواب محتنك خبير
هذي النجوم الساقطا ... ت نجوم أعداء الأمير
فتفاءل ابن طولون بذلك، ووصله.
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين، زفت قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، من مصر إلى الخليفة المعتضد، ونقل أبوها في جهازها ما لم ير مثله، وكان من جملته ألف تكة بجوهر وعشرة صناديق جوهر، ومائة هون ذهب، ثم بعد كل حساب معها مائة ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه مما لا يتهيأ مثله بالديار المصرية. وقال بعض الشعراء:
يا سيد العرب الذي وردت له ... باليمن والبركات سيدة العجم
فاسعد بها كسعودها بك إنها ... ظفرت بما فوق المطالب والهمم
شمس الضحى زفت إلى بدر الدجى ... فتكشفت بهما عن الدنيا الظلم
وفي سنة أربع وثمانين ومائتين ظهر بمصر ظلمة شديدة، وحمرة في الأفق حتى جعل الرجل ينظر إلى وجه صاحبه فيراه أحمر اللون جدًّا، وكذلك الجدران، فمكثوا كذلك من العصر إلى الليل، فخرجوا إلى الصحراء يدعون الله ويتضرعون إليه حتى كشف عنهم. حكاه ابن كثير (1) .
وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين، ظهر رجل بمصر يقال له: الخلنجي (2) ، فخلع الطاعة واستولى على مصر، وحارب الجيوش، وأرسل إليه الخليفة المكتفي جيشًا فهزمهم
_________
(1) تاريخ ابن كثير 11: 76.
(2) هو محمد بن علي، قال صاحب النجوم الزاهرة: "شاب من الجند المصريين".

(2/277)


ثم أرسل إليه جيشًا آخر عليهم فاتك المعتضدي، فهزم الخلنجي، وهرب، ثم ظفر به وأمسك، وسير إلى بغداد (1) .
وفي سنة تسع وتسعين ومائتين، ظهر ثلاثة كواكب مذنبة، أحدها في رمضان، واثنان في ذي القعدة تبقى أياما، ثم تضمحل حكاه ابن الجوزي (2) . وفيها استخرج من كنز مصر خمسمائة ألف دينار من غير موانع، ووجد في هذا الكنز ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا وعرضه شبر، فبعث به إلى الخليفة المقتدر (3) ، وأهدى معه من مصر تيسًا له ضرع يحلب لبنا، حكى ذلك الصولي صاحب المرآة وابن كثير (4) .
وفي سنة إحدى وثلاثمائة، سار عبد الله المهدي المتغلب على المغرب. في أربعين ألفا ليأخذ مصر، حتى بقي بينه وبين مصر أيام، ففجر تكين (5) الخاصة
النيل فحال الماء بينهم وبين مصر، ثم جرت حروب فرجع المهدي إلى برقة بعد أن ملك الإسكندرية والفيوم.
وفي سنة اثنتين وثلاثة مائة عاد المهدي إلى الإسكندرية، وتمت وقعة كبيرة، ثم رجع إلى القيروان (6) .
وفي سنة ست وثلاثمائة أقبل القائم بن المهدي في جيوشه، فأخذ الإسكندرية وأكثر الصعيد، ثم رجع.
وفي سنة سبع كانت الحروب والأراجيف الصعبة بمصر، ثم لطف الله وأوقع المرض بالمغاربة، ومات جماعة من أمرائهم، واشتدت علة القائم.
_________
(1) انظر تفصيل الخبر في النجوم الزاهرة 3: 147-150، وكان ذلك الحادث في ولاية عيسى بن محمد الأمير أبو موسى النوشري.
(2) المنتظم 6: 109.
(3) ابن كثير: "وذكر أنه من قوم عاد".
(4) تاريخ ابن كثير 11: 116.
(5) تكين: والي مصر للمرة الرابعة، من قبل المقتدر.
(6) النجوم الزاهرة 3: 184.

(2/278)


وفيها انقض كوكب عظيم، وتقطع ثلاث قطع، وسمع بعد انقضاضه صوت رعد شديد هائل من غير غيمٍ.
وفي سنة ثمان ملك العبيديون جزيرة الفسطاط، فجزعت الخلق، وشرعوا في الهرب والجفل.
وفي سنة تسع استرجعت الإسكندرية إلى نواب الخليفة، ورجع العبيدي إلى المغرب.
وفي سنة عشر وثلثمائة في جمادى الأولى ظهر كوكب له ذنب طوله ذراعان، وذلك في برج السنبلة، وفي شعبان منها أهدى نائب (1) مصر إلى الخليفة المقتدر هدايا من جملتها بغلة معها فلوها يتبعها، ويرجع معها، وغلام يصل لسانه إلى طرف أنفه. حكاه صاحب المرآة وابن كثير (2) .
وفي سنة ثلاث عشرة وثلثمائة في آخر المحرم انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال قبل مغيب الشمس، فأضاءت الدنيا منه، وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد.
وفي سنة ثلاث وثلثمائة في المحرم ظهر كوكب بذنب رأسه إلى المغرب وذنبه إلى المشرق، وكان عظيما جدًّا وذنبه منتشر، وبقي ثلاثة عشر يوما إلى أن اضمحلّ.
وفي سنة أربع وأربعين زلزلت مصر زلزلة صعبة هدمت البيوت، ودامت ثلاث ساعات، وفزع الناس إلى الله بالدعاء.
وفي سنة تسع وأربعين رجع حجيج مصر من مكة، فنزلوا واديا، فجاءهم سيل فأخذهم كلهم، فألقاهم في البحر عن آخرهم.
وفي سنة خمس وخمسين قطعت بنو سليم الطريق على الحجيج من أهل مصر، وأخذوا منهم عشرين ألف بعير بأحمالها، وعليها من الأموال والأمتعة ما لا يقوم كثرة، وبقي الحاج في البوادي، فهلك أكثرهم. وفي أيام كافور الإخشيدي كثرت
_________
(1) في ابن كثير: "وهو الحسين بن المارداني".
(2) تاريخ ابن كثير 11: 145.

(2/279)


الزلازل بمصر، فأقامت ستة أشهر، فأنشد محمد بن القاسم بن عاصم قصيدة منها:
ما زلزلت مصر من سوء يراد بها ... لكنها رقصت من عدله فرحا (1)
كذا رأيته في نسخة عتيقة، من كتاب مذهب الطالبيين، تاريخ كتابتها بعد الستمائة، ثم رأيت ما يخالف ذلك كما سأذكر.
وفي سنة تسع وخمسين انقض كوكب في ذي الحجة، فأضاء الدنيا حتى بقي له شعاع كالشمس، ثم سمع له صوت كالرعد.
وفي سنة ستين وثلثمائة، سارت القرامطة في جمع كثير إلى الديار المصرية، فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالًا شديدا بعين شمس، وحاصروا مصر شهورا؛ ومن شعر أمير القرامطة الحسين بن أحمد بن بهرام:
زعمت رجال الغرب أني هبتهم ... فدمي إذن ما بينهم مطلول
يا مصر إن لم أسق أرضك من دم ... يروي ثراك فلا سقاني النيل
وفي هذه السنة سار رجل من مصر إلى بغداد، وله قرنان، فقطعهما وكواهما وكانا يضربان عليه. حكاه صاحب المرآة.
وفي سنة ثلاث وستين، خرج بنو هلال وطائفة من العرب على الحجاج، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وعطلوا على من بقي منهم الحج في هذا العام، ولم يحصل لأحد حج في هذه السنة سوى أهل درب العراق وحدهم.
وفي سنة سبع وستين كان أمير الحاج المصري الأمير باديس بن زيري، فاجتمع إليه اللصوص، وسألوا منه أن يضمنهم الموسم هذا العام بما شاء من الأموال، فأظهر لهم الإجابة، وقال: اجتمعوا كلكم حتى أضمنكم كلكم، فاجتمع عنده بضع وثلاثون لصًّا،
_________
(1) تمام المتون 67، وقبله:
بالحاكمِ العدْلِ أضحَى الدينُ معتليا ... نجل العلا وسليل السادة الصلحا

(2/280)


فقال: هل بقي منكم أحد؟ فحلفوا أنه لم يبق منهم أحد، فعند ذلك أمر بقطع أيديهم كلهم. ونعما فعل!
وفي سنة أربع وثمانين انفرد بالحج أهل مصر، ولم يحج ركب العراق ولا الشام لخوف طريقهم، وكذا في سنة خمس وثمانين والتي بعدها.
وفي سنة ست وثمانين قدمت مصر أربع عشرة قطعة من الأسطول، فقتلت ونهبت، وأحرقت أموال التجار، وأخذت سرايا العزيز وحظاياه، وكان حالًّا لم ير أعظم منه. ذكره ابن المتوج.
وفي سنة تسعين أمر الحاكم بمصر بقتل الكلاب فقتلت كلها.
وفي سنة اثنتين وتسعين ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة انقض كوكب أضاء كضوء القمر ليلة التمام، ومضى الضياء، وبقي جرمه يتموج (1) نحو ذراعين في ذراع برأي العين، وتشقق بعد ساعة. وفي هذه السنة انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أحد من بغداد وبلاد المشرق لعبث الأعراب بالفساد، وكذا في سنة ثلاث وتسعين.
وفي سنة ثلاث وتسعين أمر الحاكم بقطع جميع الكروم التي بديار مصر والصعيد، والإسكندرية ودمياط، فلم يبق بها كرم، احترازًا من مصر الخمر. وفي هذه السنة أمر الحاكم الناس بالسجود إذا ذكر اسمه في الخطبة.
وفي سنة سبع وتسعين انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أهل العراق لفساد الطريق بالأعراب، وكسا الحاكم الكعبة القباطي البيض.
وفي سنة ثمان وتسعين هدم الحاكم الكنائس التي ببلاد مصر، ونادى: من لم يسلم وإلا فليخرج من مملكتي، أو يلتزم بما أمر، ثم أمر بتعليق صلبان كبار على صدور النصارى، وزن الصليب أربعة أرطال بالمصري، وبتعليق خشبة على
تمثال رأس
_________
(1) ط: "متموج".

(2/281)


عجل وزنها ستة أرطال في عنق اليهود. وفي هذه السنة كان سيل عظيم حتى غرق الخندق، ذكره ابن المتوج.
وفي سنة تسع وتسعين انفرد المصريون بالحج.
وفي سنة أربعمائة بنى الحاكم دار للعلم وفرشها، ونقل إليها الكتب العظيمة مما يتعلق بالسنة، وأجلس فيها الفقهاء والمحدثين، وأطلق قراءة فضائل الصحابة، وأطلق صلاة الضحى والتراويح، وبطل الأذان بحي على خير العمل، فكثر الدعاء له، ثم بعد ثلاث سنين هدم الدار، وقتل خلقا ممن كان بها من الفقهاء والمحدثين وأهل الخير والديانة، ومنع صلاة الضحى والتراويح.
وفي سنة إحدى وأربعمائة انفرد المصريون بالحج.
وفي سنة اثنتين وأربعمائة كتب محضر ببغداد في نسب خلفاء مصر الذين يزعمون أنهم فاطميون وليسوا كذلك، وكتب فيه جماعة من العلماء والقضاة والفقهاء، والأشراف والأماثل والمعدلين والصالحين، شهدوا جميعا أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار المتلقب بالحاكم -حكم الله عليه بالبوار والدمار، والخزي والنكال والاستئصال- ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد -لا أسعده الله- فإنه لما صار إلى المغرب تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، ومن تقدم من سلفه من الأرجاس الأنجاس -عليه وعليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين- أدعياء خوارج، ولا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، ولا يتعلقون منه بسبب، وأنه منزه عن باطلهم، وان الذي ادعوه من الانتساب إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أن أحدا من أهل بيوت الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج أنهم أدعياء، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعًا في الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم إلى تصديقهم، وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه كفار وفساق فجار وملحدون زنادقة،

(2/282)


معطلون وللإسلام جاحدون، ولمذهب الثنوية (1) والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمر، وسفكوا الدماء، وسبوا الأبناء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية. وكتب في ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة.
وقد كتب خطه في المحضر خلق كثيرون، فمن العلويين المرتضى، والرضي وابن الأزرق الموسوي وأبو طاهر بن أبي الطيب، ومحمد بن محمد بن عمرو بن أبي يعلي، ومن القضاة أبو محمد بن الأكفاني، وأبو القاسم الحريري وأبو العباس بن السيوري. ومن الفقهاء أبو حامد الإسفراييني وأبو محمد بن الكشفلي، وأبو الحسين القدوري وأبو عبد الله الصيمري، وأبو عبد الله البيضاوي وأبو علي بن حمكان. ومن الشهود أبو القاسم التنوخي، في كثير.
وفي سنة ثلاث وأربعمائة، قال ابن المتوج: رسم الحاكم بألا تقبل الأرض بين يديه، ولا يخاطب مولانا ولا بالصلاة عليه، وكتب بذلك سجل في رجب. قال: وفيها حبس النساء ومنعهن من الخروج في الطرقات، وأحرق الزبيب وقطع الكرم، وغرق العسل. قال ابن الجوزي: وفي رمضان انقض كوكب من المشرق إلى المغرب غلب ضوءه على ضوء القمر، وتقطع قطعًا، وبقي ساعة طويلة.
وفي سنة خمس وأربعمائة زاد الحاكم في منع النساء من الخروج من المنازل، ومن دخول الحمامات ومن التطلع من الطاقات، والأسطلحة ومنع الخفافين من عمل الخفاف لهن، وقتل خلقا من النساء على مخالفته في ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، وغرق خلقا.
وفي سنة سبع وأربعمائة ورد الخبر بتشعيث الركن اليماني من المسجد الحرام، وسقوط جدار بين قبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبسقوط القبة الكبيرة على صخرة
_________
(1) ط: "النبوية" تحريف.

(2/283)


بيت المقدس. قال ابن كثير: فكان ذلك من أغرب الاتفاقات وأعجبها (1) .
وفي سنة سبع أيضا انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أحد من بلاد العراق لفساد الطرقات بالأعراب؛ وكذا في سنة ثمان.
وفي سنة إحدى عشرة وأربعمائة، قال ابن المتوج: عز القوت، ثم هان بعد أراجيف عظيمة. وفي أيام الحاكم، قال ابن فضل الله في المسالك: زلزلت مصر حتى رجفت أرجاؤها، وضجت الأمة لا تعرف كيف جارها، فقال محمد بن قاسم بن عاصم شاعر الحاكم:
بالحاكم العدل أضحى الدين معتليًا ... نجل الهدى وسليل السادة الصلحا
ما زلزلت مصر من كيد يراد بها ... وإنما رقصت من عدله فرحا
وكانت أيام الحاكم من سنة ست وثمانين وثلثمائة إلى سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
وفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. قال ابن كثير: جرت كائنة غريبة ومصيبة عظيمة؛ وهي أن رجلا من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر سوء، فلما كان يوم الجمعة، وهو يوم النفر الأول، طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود، جاء ليقبله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات، وقال: إلى متى يعبد هذا الحجر؟! ولا محمد ولا علي يمنعني عما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت، فاتقاه أكثر الحاضرين، وتأخروا عنه، وذلك أنه كان رجلًا طويلا جسيما، أحمر أشقر، وعلى باب المسجد جماعة من الفرسان وقوف ليمنعوه ممن أراده بسوء، فتقدم غليه رجل من أهل اليمن، معه خنجر، وفاجأه بها، وتكاثر عليه الناس فقتلوه، وقطعوه قطعًا، وتتبعوا أصحابه، فقتل منهم جماعة ونهب أهل مكة ركب المصريين، وجرت فتنة عظيمة جدًّا، وسكن الحال، وأما الحجر
_________
(1) 12: 5.

(2/284)


الشريف فإنه سقط منه ثلاث فلق مثل الأظفار، وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة، محببًا، مثل الخشخاش، فأخذ بنو شيبة تلك الفلق، فعجنوها بالمسك واللك (1) وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، "وذلك ظاهر فيه إلى الآن" (2) .
وفي سنة سبع عشرة منع الظاهر صاحب مصر من ذبح البقر السليمة من العيوب التي تصلح للحرث، وكتب عن لسانه كتاب قرئ على الناس، فيه: "إن الله بسابغ نعمته، وبالغ حكمته، خلق ضروب الأنعام، وعلم بها منافع الأنام، فوجب أن تحمى البقر المخصوصة بعمارة الأرض المذللة لمصالح الخلق، فإن ذبحها غاية الفساد، وإضرار بالعباد والبلاد".
وفيها انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أهل العراق والمشرق لفساد الأعراب، وكذا في سنة ثمان عشرة وفي سنة تسع عشرة لم يحج أحد من أهل المشرق، ولا من أهل الديار المصرية أيضًا، إلا أن قوما من خراسان ركبوا في البحر من مدينة مكران، فانتهوا إلى جدة، فحجوا.
وفي سنة عشرين حج أهل مصر دون غيرهم.
وفيها في رجب انقضت كواكب كثيرة شديدة الصوت، قوية الضوء.
وفي سنة إحدى وعشرين تعطل الحج من العراق أيضا، وقطع على حجاج مصر الطريق، وأخذت الروم أكثره.
وفي سنة ثلاث وعشرين تعطل الحج من العراق أيضا. وفيها قال ابن المتوج: استحضر خليفة مصر الظاهر بن الحاكم كل من في القصر من الجواري، وقال لهم: تجتمعون لأصنع لكم يومًا حسنا لم ير مثله بمصر، وأمر كل من كان له جارية فليحضرها، ولا تجيء جارية إلا وهي مزينة بالحلي والحلل، ففعلوا ذلك حتى لم تترك جارية إلا أحضرت، فجعلهن في مجلس، ودعا بالبنائين، فبنى أبواب المجلس عليهن، حتى
_________
(1) الملك نبات يصبغ به.
(2) ابن كثير 12: 14 "فاستمسك الحجر، واستمر على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمله".

(2/285)


ماتوا عن آخرهن، وكان يوم جمعهن يوم الجمعة لست من شوال، وعدتهن ألفان وستمائة وستون جارية، فلما مضى لهن ستة أشهر أضرم النار عليهن، فأحرقهن بثيابهن وحليهن، فلا رحمه الله ولا رحم الذي خلفه!.
وفي سنة خمس وعشرين كثرت الزلازل بمصر. وفيها انقض كوكب عظيم، وسمع له صوت مثل الرعد وضوء مثل المشاعل. ويقال: إن السماء انفرجت عند انقضاضه. حكاه في المرآة. ولم يحج أحد سوى أهل مصر، وكذا في سنة ست وعشرين وسنة ثمان وعشرين.
وفي سنة ثمان وعشرين بعث صاحب مصر بمال لينفق على نهر الكوفة إن أذن الخليفة العباسي في ذلك، فجمع القائم بالله الفقهاء، وسألهم عن هذا المال، فأفتوا بأن هذا فيء للمسلمين يصرف في مصالحهم، فأذن في صرفه في مصالح المسلمين.
وفي سنة ثلاثين وأربعمائة تعطل الحج من الأقاليم بأسرها، فلم يحج أحد، لا من مصر ولا من الشام، ولا من العراق ولا من خراسان.
وفي سنة إحدى وثلاثين والتي تليها تفرد بالحج أهل مصر، وكذا في سنة ست وثلاثين وسبع وثلاثين وتسع وثلاثين وثلاث وستين بعدها.
وفي سنة إحدى وأربعين في ذي الحجة ارتفعت سحابة سوداء ليلًا، فزادت على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضيئة، فانزعج الناس لذلك، وأخذوا في الدعاء والتضرع، فانكشفت بعد ساعة.
وفي سنة خمس وأربعين وثلاث تليها انفرد أهل مصر بالحج.
وفي سنة ثمان وأربعين. قال في المرآة: عم الوباء والقحط مصر والشام وبغداد والدنيا، وانقطع ماء النيل. واتفقت غريبة، قال ابن الجوزي: ورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور، فوجدوا عند الصباح موتى؛ أحدهم على

(2/286)


باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب المكورة. وفيها، في العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر نجم له ذؤابة بيضاء، طولها في رأي العين نحو ذراع، ولبث على هذه الحال إلى نصف رجب ثم اضمحل.
وفي سنة إحدى وخمسين وسنتين بعدها، انفرد أهل مصر بالحج.
وفي شوال من هذه السنة لاح في السماء في الليل ضوء عظيم كالبرق يلمع في موضعين؛ أحدهما أبيض، والآخر أحمر إلى ثلث الليل، وكبر الناس وهللوا. حكاه في المرآة.
وفي سنة ثلاث وخمسين في جمادى الآخرة لليلتين بقيتا منه، كسفت الشمس كسوفا عظيما، جميع القرص، فمكثت أربع ساعات حتى بدت النجوم، وأوت الطيور إلى أوكارها لشدة الظلمة.
وفي سنة خمس وخمسين وقع بمصر وباء شديد، كان يخرج منها في كل يوم ألف جنازة.
وفي سنة ست وخمسين وقعت فتنة عظيمة بين عبيد مصر والترك، واقتتلوا. وغلب العبيد على الجزيرة التي في وسط النيل بين مصر والجيزة، واتصل الحرب بين الفريقين.
وفي سنة ثمان وخمسين، في العشر الأول من جمادى الأولى ظهر كوكب كبير، له ذؤابة عرضها نحو ثلاثة أذرع وطولها أذرع كثيرة، وبقي إلى أواخر الشهر، ثم ظهر كوكب آخر عند غروب الشمس، قد استدار نوره عليه كالقمر، فارتاع الناس وانزعجوا، فلما اعتم الليل، رمى ذؤابة نحو الجنوب، وأقام إلى أيام في رجب، وذهب.
وفي سنة ستين وأربعمائة كان ابتداء الغلاء العظيم بمصر، الذي لم يسمع بمثله في

(2/287)


الدهور؛ من عهد يوسف الصديق عليه الصلاة السلام، واشتد القحط
والوباء سبع سنين متوالية بحيث أكلوا الجيف والميتات، وأفنيت الدواب، وبيع الكلب بخمسة دنانير والهر بثلاثة دنانير، ولم يبق لخليفة مصر سوى ثلاثة أفراس بعد العد الكثير، ونزل الوزير يوما عن بغلته، فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها، فأخذوا فصلبوا وأصبحوا وقد أكلهم الناس، ولم يبق إلا عظامهم. وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء ويبيع لحومهم، ويدفن رءوسهم وأطرافهم فقتل. وبيعت البيضة بدينار، وبلغ الأردب القمح مائة دينار ثم عدم أصلًا، حتى حكى صاحب المرآة أن امرأة خرجت من القاهرة، ومعها مد جوهر، فقالت: من يأخذه بمد قمح؟ فلم يلتفت إليها أحد، وقال بعضهم يهنئ القائم ببغداد:
وقد علم المصري أن جنوده ... سنو يوسف هولا وطاعون عمواس
أقامت به حتى استراب بنفسه ... وأوجس منها خيفة أي إيجاس
وفي سنة اثنتين وستين، زلزلت مصر حتى نفرت إحدى زوايا جامع عمرو. وفيها ضرب صاحب مصر اسم ابنه ولي العهد على الدينار، وسمي الآمري، ومنع التعامل بغيره.
وفي سنة خمس وستين اشتد الغلاء، والوباء بمصر حتى إن أهل البيت كانوا يموتون في ليلة، وحتى إن امرأة أكلت رغيفا بألف دينار، باعت عروضها قيمته ألف دينار، واشترت بها جملة قمح، وحمله الحمال على ظهره فنهبه الناس، فنهبت المرأة مع الناس فصح لها رغيف واحد، وكان السودان يقفون في الأزقة، يصطادون النساء بالكلاليب، فيأكلون لحومهن، واجتازت امرأة بزقاق القناديل، فعلقها السودان بالكلاليب، وقطعوا من عجزها قطعة، وقعدوا يأكلونها وغفلوا عنها، فخرجت من الدار، واستغاثت، فجاء الوالي وكبس الدار، فأخرج منها ألوفًا من القتلى.

(2/288)


وفي سنة ست وثمانين وسنتين بعدها انفرد المصريون بالحج.
وفي سنة إحدى وتسعين حدثت بمصر ظلمة عظيمة، غشيت أبصار الناس، حتى لم يبق أحد يعرف أين يتوجه!
وفي سنة سبع وتسعين عز القمح بمصر، ثم هان. وفيها تولى الآمر بمصر فضرب الفضة السوداء المشهورة بالآمرية.
وفي سنة خمس عشرة وخمسمائة هبت ريح سوداء بمصر، فاستمرت ثلاثة أيام، فأهلكت خلقًا كثيرًا من الناس، والدواب والأنعام. قاله ابن كثير (1) .
وفي سنة سبع عشرة بلغ النيل ستة عشر ذراعًا سواء بعد توقف.
وفي سنة ثمان عشرة أوفى النيل بعد النيروز بتسعة أيام، وزاد عن الستة عشر ذراعا أحد عشر إصبعا لا غير، وعز السعر ثم هان. وفي حدود هذه السنين احترق جامع عمرو.
وفي سنة خمس وستين حاصرت الفرنج دمياط خمسين يوما، بحيث ضيقوا أهلها، وقتلوا منهم، فأرسل نور الدين محمود الشهيد إليهم جيشًا عليهم صلاح الدين يوسف بن أيوب، فأجلوهم عنها، وكان الملك نور الدين شديد الاهتمام بذلك؛ حتى إنه قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءًا فيه حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه أن يبتسم ليتصل التسلسل، فامتنع من ذلك، وقال: إني لأستحيي من الله أن يراني متبسمًا، والمسلمون تحاصرهم الفرنج بثغر دمياط. وذكر أبو شامة أن بعضهم رأى في تلك الليلة التي أجلي فيها الفرنج عن دمياط رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يقول له: سلم على نور الدين، وبشره بأن الفرنج قد رحلوا عن دمياط، فقال له الرائي: يا رسول الله، بأي علامة؟
_________
(1) تاريخ ابن كثير 12: 188.

(2/289)


فقال: بعلامة لما سجد يوم كذا، وقال في سجوده: اللهم انصر دينك ومن هو محمود الكلب! فأصبح الرائي، وبشر نور الدين بذلك، وأعلمه بالعلامة، ففرح، ثم جاء الخبر بإجلائهم تلك الليلة (1) . فرحم الله هذا الملك وأمثاله!
وفي سنة ثلاث وثمانين، قال ابن الأثير في الكامل: كان أول يوم منها يوم السبت، وكان يوم النيروز؛ وذلك أول سنة الفرس، واتفق أنه أول سنة الروم أيضا، وفيه نزلت الشمس برج الحمل، وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضا، قال: وهذا شيء يبعد وقوع مثله (2) .
وفي سنة ثلاث وتسعين ورد كتاب من "القاضي" الفاضل من مصر إلى القاضي محيي الدين بن الذكي يخبره فيه بأن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة، وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوي أهويتها، واشتد هبوبها، فتدافعت لها أعنة مطلقات، وارتفعت لها صواعق مصعقات، فرجفت لها الجدران واصطفقت، وتلاقت على بعدها واعتنقت، وثار بين السماء والأرض عجاج فقيل: لعل هذه على هذه أطبقت، ولا نحسب إلا أن جهنم قد سال منها واد، وعدا منها عاد، وزاد عصف الرياح إلى أن انطفأت سرج النجوم، ومزقت أديم السماء ومحت ما فوقه من الرقوم؛ فكنا كما قال الله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} ، وكما قلنا: ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم من الخطف للأبصار، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار، وفر الناس نساء ورجالا وأطفالا، ونفروا من دورهم خفافًا وثقالا، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة، ووجوه عاينة، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرف خفي، ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم، وعيت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم قادمون، وقاموا إلى
_________
(1) كتاب الروضتين 1: 181.
(2) الكامل لابن الأثير 9: 175.

(2/290)


صلاتهم، وودوا أن لو كانوا من الذين هم عليها دائمون، إلى أن أذن الله في الركود، وأسعف الهاجدين بالهجود، واصبح كل ليسلم على رفيقه، ويهنئه بسلامة طريقه، ويرى أنه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رد له الكرة، وأدبه بعد أن كان يأخذه على الغرة. وودت الأخبار بأنها كسرت المراكب في البحار والأشجار في القفار، وأتلفت خلقا كثيرا من السفار، ومنهم من فر فلم ينفعه الفرار. إلى أن قال: ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرَّفًا، والقول مجزفا، فالأمر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجو أن يكون الله قد أيقظنا بما وعظنا، ونبهنا بما ولهنا، فما من عباده من رأى القيامة عيانا، ولم يلتمس عليها من بعده برهانا، إلا أهل بلد يافا، اقتص الأولون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات، والحمد لله الذي من فضله جعلنا نخبر عنها ولا تخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا، عارضي الحرص والغرور إذا عنا.
وفي سنة ست وتسعين، قال الذهبي، في العبر: كسر النيل من ثلاثة عشر ذراعا إلا ثلاثة أصابع، فاشتد الغلاء، وعدمت الأقوات، ووقع البلاء وعظم الخطب، إلى أن آل بهم الأمر إلى أكل الآدميين الموتى (1) . قال ابن كثير في هذه السنة والتي بعدها: كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك الغني والفقير، وعم الجليل والحقير، وهرب الناس منها نحو الشام، ولم يصل منها إلا القليل من الفئام (2) ، وتخطفتهم الفرنج من الطرقات، وعزوهم في أنفسهم، واغتالوهم بالقليل من الأقوات. وكان الأمير لؤلؤ أحد الحجاب بالديار المصرية (3) يتصدق في هذا الغلاء في كل يوم باثني عشر ألف رغيف على اثني عشر ألف فقير (4) .
_________
(1) العبر 4: 290.
(2) الفئام: الجماعة من الناس.
(3) قال ابن كثير: "كان من أكابر الأمراء في أيام صلاح الدين، وهو الذي كان متسلم الأسطول في البحر".
(4) ابن كثير 13: 23، 24.

(2/291)


وفي سنة سبع وتسعين، قال الذهبي في العبر: كان الجوع والموت المفرط بالديار المصرية، وجرت أمور تتجاوز الوصف، ودام ذلك إلى نصف العام الآتي، فلو قال القائل: مات ثلاثة أرباع أهل الإقليم لما بعد، والذي دخل تحت قلم الحصرية (1) في مدة اثنين وعشرين شهرا مائة ألف وأحد وعشرون ألفا بالقاهرة، وهذا نزر في جنب ما هلك بمصر والحواضر، وفي البيوت والطرقات ولم يدفن، وكله نزر في جنب ما هلك بالأقاليم. وقيل: إن مصر كان فيها تسعمائة منسج للحصر، فلم يبق إلا خمسة عشر منسجًا، فقس على هذا؛ وبلغ الفروج مائة درهم، ثم عدم الدجاج بالكلية، لولا ما جلب من الشام، وأما أكل لحوم الآدميين فشاع وتواتر، هذا كلام الذهبي (2) .
وقال صاحب المرآة: في هذه السنة كان هبوط النيل، ولم يعهد ذلك في الإسلام إلا مرة واحدة في دولة الفاطميين، ولم يبق منه إلا شيء يسير، واشتد الغلاء والوباء بمصر، فهرب الناس إلى المغرب والحجاز واليمن والشام، وتفرقوا وتمزقوا كل ممزق. قال: وكان الرجل يذبح ولده، وتساعده أمه على طبخه وشيه؛ وأحرق السلطان جماعة فعلوا ذلك ولم ينتهوا، وكان الرجل يدعو صديقه وأحب
الناس إليه إلى منزله ليضيفه، فيذبحه ويأكله، وفعلوا بالأطباء ذلك، وفقدت الميتات والجيف، وكانوا يخطفون الصبيان من الشوارع فيأكلونهم، وكفن السلطان في مدة يسيرة مائتي ألف وعشرين ألفا، وامتلأت طرقات المغرب والحجاز والشام برمم الناس، وصلى إمام جامع إسكندرية في يوم واحد على سبعمائة جنازة.
قال العماد الكاتب: في سنة سبع وتسعين وخمسمائة اشتد الغلاء، وامتد الوباء وحدثت المجاعة، وتفرقت الجماعة، وهناك القوي فكيف الضعيف! ونحف السمين فكيف العجيف! وخرج الناس حذر الموت من الديار، وتفرقت فرق مصر في
_________
(1) كذا في ح، وفي ط والأصل والعبر: "الحشرية".
(2) العبر 4: 295، 296.

(2/292)


الأمصار، ولقد رأيت الأرامل على الرمال، والجمال باركة تحت الأحمال، ومراكب الفرنج واقفة بساحل البحر على اللقم، تسترق الجياع باللقم.
قال صاحب المرآة وغيره: وكان في هذه السنة، في شعبان، زلزلة هائلة من الصعيد، هدمت بنيان مصر، فمات تحت الهدم خلق كثير.
وفي سنة تسع وتسعين في ليلة السبت سلخ المحرم ماجت النجوم في السماء شرقًا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا، ودام ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق، وضجوا بالدعاء، ولم يعهد مثل ذلك إلا في عام البعث وفي سنة إحدى وأربعين ومائتين. قاله صاحب المرآة وغيره.
وفي سنة ستمائة، كانت زلزلة عظيمة كانت زلزلة عظيمة بديار مصر، قاله ابن الأثير في الكامل. وفيها أخذت الفرنج قوة واستباحوها، دخلوا من فم رشيد في النيل. ذكره الذهبي "في العبر" (1) .
وفي سنة سبع وستمائة، دخلت الفرنج من البحر من غربي دمياط، وساروا في البر فاخذوا قرية بورة، واستباحوها قتلًا وسبيا، وردوا في الحال، ولم يدركهم الطلب (2) .
وفي سنة ثمان وستمائة، كانت زلزلة شديدة، هدمت بمصر والقاهرة دورا كثيرة، ومات خلق تحت الهدم.
وفي سنة خمس عشرة وستمائة، في جمادى الأولى، نزلت الفرنج على دمياط، وأخذوا برج السلسلة (3) ، ثم استحوذوا على دمياط في سنة ست عشرة، فاستمرت بأيديهم إلى أن استردت منهم في سنة ثمان عشرة.
_________
(1) العبر 4: 311.
(2) العبر: 5: 21.
(3) في العبر 5: 53: "وأخذت برج السلسلة من دمياط، وكان قفل ديار مصر، وهو في وسط النيل، فكان يمد منه سلسلة على وجه النيل إلى دمياط وأخرى إلى برج آخر، فلا يمكن المراكب أن تعبر من البحر في النيل".

(2/293)


قال الذهبي في العبر: في سنة ست عشرة وستمائة، حاصر الفرنج أهل دمياط، ووقعت حروب كثيرة يطول شرحها، وجدت الفرنج في المحاصرة، وعملوا عليهم خندقًا كبيرا، وثبت أهل البلد ثباتا لم يسمع بمثله، وكثر فيهم القتل والجرح والموت، وعدمت الأقوات، ثم سلموها بالأمان في شعبان، وطار عقل الفرنج، وتسارعوا إليها من كل فج، وشرعوا في تحصينها، وأصبحت دار هجرتهم، ورجوا بها أخذ ديار مصر، وأشرف الإسلام على خطة خسف، وأقبل التتار من المشرق والفرنج من المغرب، وعزم المصريون على الجلاء؛ فثبتهم الكامل إلى أن سار إليه أخوه الأشرف والمعظم، وحصل الفتح ولله الحمد (1) .
وفي سنة ثمان وعشرين وستمائة، كان غلاء شديد بديار مصر، قاله ابن كثير (2) . وبلغ النيل ستة عشر ذراعًا وثلاثة أصابع فقط، بعد توقف عظيم، ووصل القمح خمسة دنانير الإردب، فرسم السلطان بفتح الأهراء وشون الأمراء، وأن يباع بثمانين درهما الإردب من غير زيادة، فانحط السعر إليه. ذكره ابن المتوج.
وفي سنة تسع وعشرين، وصل النيل ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع، وتأخر نزوله حتى خاف الناس من عدم نزوله، فغلا السعر، ثم نزل، فانحط السعر.
وفي سنة إحدى وثلاثين، قدم إلى الملك الكامل هدية من الإفرنج، فيها دب ابيض وشعره مثل شعر السبع، ينزل البحر فيصعد بالسمك فيأكله.
وفي سنة اثنتين وثلاثين كان الوباء العظيم بمصر.
وفي سنة ثلاث وأربعين كان الغلاء بمصر، وقاسى أهلها شدائد.
وفي سنة سبع وأربعين نزلت الفرنج دمياط برًّا وبحرا، وملكوها، ثم استنقذت منهم.
_________
(1) العبر: 59، 60.
(2) البداية والنهاية 13: 128.

(2/294)


وفي سنة تسع وأربعين، قال ابن كثير: صليت صلاة العيد يوم الفطر بعد العصر، قال: وهذا اتفاق غريب (1) .
وفي سنة سبع وخمسين، حصلت بديار مصر زلزلة عظيمة جدًّا.
وفي سنة إحدى وستين، جهز الظاهر بيبرس -رحمه الله تعالى- أخشابًا وآلات كثيرة لعمارة المسجد النبوي بعد حريقه، فطيف بها بالديار المصرية، فرحًا بها، وتعظيمًا لشأنها ثم ساروا بها إلى المدينة.
وفي سنة اثنتين وستين كان بديار مصر غلاء عظيم، وفرق الظاهر الفقراء على الأمراء والأغنياء، وألزمهم بإطعامهم، وفرق هو قمحا كثيرًا، ورتب كل يوم للفقراء مائة إردب تخبز، وتفرق عليهم.
وفي هذه سنة ولد بمصر ولد ميت، له رأسان وأربعة أعين وأربعة أيد وأربعة أرجل.
وفي سنة ثلاث وستين وقع حريق عظيم ببلاد مصر، اتهم به النصارى، فعاقبهم السلطان عقوبة عظيمة، وفيها استجد الظاهر بمصر القضاة الثلاثة، من كل مذهب قاض.
وفي سنة أربع وستين، قال ابن المتوج: حفر الظاهر بحر مصر بنفسه، وعسكره ما بين الروضة والمنشأة.
وفي سنة خمس وستين كبا الفرس بالملك الظاهر، فانكسرت فخذه، وحصل له عرج.
وفي سنة ست وستين كانت كائنة الحبيس (2) النصراني، كان كاهنًا ثم ترهب وأقام بمفازة بجبل حلوان، فقيل: إنه ظفر بكنز للحاكم صاحب مصر، فواسى منه
الفقراء
_________
(1) تاريخ ابن كثير 13: 181.
(2) في ح: "الجيش".

(2/295)


والمستورين من كل ملة، واشتهر أمره وشاع ذكره، وأنفق في ثلاث سنين أموالًا عظيمة، فأحضره السلطان، وتلطف به، فأبى عليه أن يعرفه بجلية أمره، وأخذ يراوغه ويغالطه، فلما أعياه حنق عليه، وبسط عليه العذاب فمات. قال الذهبي: وقد أفتى غير واحد بقتله خوفًا على ضعفاء الإيمان من المسلمين أن يضلهم ويغويهم (1) .
وفي سنة سبع وستين، رسم السلطان بإراقة الخمور، وإبطال المفسدات والخواطئ من الديار المصرية والشامية، وحبست الخواطئ حتى يتزوجن، وكتب إلى جميع البلاد بذلك، وأسقطت الضرائب التي كانت مرتبة عليها (2) .
وفي هذه السنة حج السلطان فأحسن إلى أهل الحرمين، وغسل الكعبة بماء الورد بيده. وفي أواخر ذي الحجة من هذه السنة هبت ريح شديدة بديار مصر، غرقت مائتي مركب في النيل، وهلك فيها خلق كثير، ووقع مطر شديد جدًّا، وأصابت الثمار صعقة أهلكتها، حكاه ابن كثير (3) .
وفي سنة تسع وستين شدد السلطان في أمر الخمور، وهدد من يعصرها بالقتل، وأسقط الضمان في ذلك، وكان ألف دينار كل يوم بالقاهرة وحدها، وكتب بذلك توقيع قرئ على منبر مصر والقاهرة، وسارت البرد بذلك إلى الآفاق.
وفي سنة سبعين، قال قطب الدين: في جمادى الآخرة ولدت زرافة بقلعة الجبل، وأرضعت من بقرة، قال: وهذا شيء لم يعهد مثله.
وفي سادس (4) عشر شوال سنة خمس وسبعين، قال ابن كثير: طيف بالمحمل، وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة، وكان يوما مشهودا (5) .
قلت: كان هذا مبدأ ذلك، واستمر ذلك كل عام إلى الآن.
وفي سنة تسع وسبعين، في يوم عرفة وقع ببلاد مصر برد كبار، أتلف كثيرا من
_________
(1) العبر: 285.
(2) ابن كثير 13: 254.
(3) ابن كثير 13: 255.
(4) ابن كثير: "في حادي عشرة".
(5) ابن كثير 13: 271.

(2/296)


الغلال، ووقعت صاعقة بالإسكندرية، وأخرى تحت الجبل الأحمر على حجر فأحرقته، فأخذ ذلك الحجر وسبك، فخرج منه من الحديد أواق بالرطل المصري.
وفي سنة ثمان وستمائة تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل اتجاه قرية بولاق واللوق، وانقطع بسببها مجرى البحر، ما بين قلعة المقس وساحل باب البحر، واشتد ونشف بالكلية، واتصل ما بين المقس وجزيرة الفيل بالمشي، ولم يعهد فيما تقدم، وحصل لأهل القاهرة مشقة من نقل الماء لبعد النيل، فأراد السلطان حفره، فقالوا: إنه لا يفيد، ونشف إلى الأبد.
وفي سنة إحدى وثمانين في شعبان، طافوا بكسوة الكعبة، ولعبت مماليك الملك المنصور أيام الكسوة بالرماح والسلاح؛ وهو أول ما وقع ذلك بالديار المصرية، واستمر ذلك إلى الآن، يعمل سنين ويبطل سنين.
وفي سنة إحدى وتسعين في الرابع والعشرين من المحرم، وقع حريق عظيم بقلعة الجبل، أتلفت شيئًا كثيرًا من الذخائر والنفائس والكتب.
وفي سنة ثلاث وتسعين، قال ابن المتوج: كثرت النفوس وردها أرباب المعائش، وجعلت بالميزان بربع نقرة كل أوقية، ثم بسدس الأوقية، وتحرك السعر بسبب ذلك. وكان القمح في أول السنة بثلاثة عشرة درهمًا الإردب، فانتقل إلى ستين درهما الإردب. وفيها، قال ابن المتوج: كانت زلزلة بديار مصر.
وفي سنة أربع وتسعين، أوفى النيل في السادس من أيام النسيء وكسر، وبلغ مجموع زيادته ستة عشرة ذراعا وسبعة عشر إصبعا، وحصل في هذه السنة بديار مصر غلاء شديد. واستهلت سنة خمس وتسعين وأهل الديار المصرية في قحط شديد ووباء مفرط، حتى أكلوا الجيف، ونفدت حواصل السلطان من العليق، فأقامت خيول السلطان ثلاثة أيام حتى أحضرت التقاوي المخلد في البلاد، وبلغ الإردب القمح مائة وسبعين درهما

(2/297)


نقرة، وذلك عبارة عن ثمانية مثاقيل ذهب ونصف مثقال، والخبز كل رطل وثلث بالمصري بدرهم نقرة، وأكلت الضعفاء الكلاب، وطرحت الأموات في الطرقات، وكانوا يحفرون الحفائر الكبار، فيلقون
فيها الجماعة الكثيرة. وبيع الفروج بالإسكندرية بستة وثلاثين درهما نقرة، وبالقاهرة بتسعة عشر، والبيض كل ثلاثة بدرهم، وفنيت الحمر والخيل والبغال والكلاب، ولم يبق شيء من هذه الحيوانات يلوح، وفي جمادى الآخرة خف الأمر، وأخذ بالرخص، وانحط سعر القمح إلى خمسة وثلاثين درهما الإردب.
وفي سنة ست وتسعين، بلغت زيادة النيل إلى أول توت خمسة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا، ثم نقص ولم يوف.
وفي سنة سبع وتسعين توقف النيل، ثم أوفى آخر أيام النسيء.
وفي سنة ثمان وتسعين في المحرم، ظهر كوكب له ذؤابة.
وفي سنة تسعين، أوفى النيل في ثالث عشر توت.
وفي شعبان سنة سبعمائة، أمر بمصر والشام اليهود بلبس العمائم الصفر، والنصارى بلبس الزرق، والسامرة بلبس الحمر، واستمر ذلك إلى الآن.
وقال الشعراء في ذلك، فقال العلاء الوادعي:
لقد ألزموا الكفار شاشات ذلة ... تزيدهم من لعنة الله تشويشا
فقلت لهم: ما ألبسوكم عمائمًا ... ولكنهم قد ألبسوكم براطيشا
وقال آخر:
تعجبوا للنصارى واليهود معًا ... والسامريين لما عمموا الخرقا
كأنما بات بالأصباغ منسهلا ... نسر السماء فأضحى فوقهم فرقا
وفي سنة اثنتين وسبعمائة في ذي الحجة، كانت الزلزلة العظمى بمصر، وكان تأثيرها

(2/298)


بالإسكندرية أعظم من غيرها، وطلع البحر إلى نصف البلد، وأخذ الحمال والرجال، وغرقت المراكب، وسقطت بمصر دور لا تحصى، وهلك تحت الردم خلق كثير.
وفي هذه السنة، قال البرزالي في تاريخه: قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادى الآخرة، ظهرت دابة عجيبة
الخلقة من بحر النيل إلى أرض المنوفية، وصفتها: لونها لون الجاموس بلا شعر، وآذانها كآذان الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذنبها، طوله شبر ونصف، طرفه كذنب السمك، ورقبتها مثل غلظ المسند المحشو تبنًا، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب، اثنان من فوق واثنان من أسفل، طولها دون الشبر، وعرض إصبعين، وفي فمها ثمانية وأربعون ضرسا وسنا، مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الأرض شبران ونصف، ومن ركبتها إلى حافرها مثل بطن الثعبان، أصفر مجعد ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما، وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر، وزفرته مثل السمك، وطعمه كطعم الجمل، وغلظ جلدها أربعة أصابع، ما تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة أجمال في مقدار ساعة، من ثقله على جمل بعد جمل، وأحضروه إلى القلعة بين يدي السلطان، وحشوه تبنا، وأقاموه بين يديه.
وفي هذه السنة أبطل الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عيد الشهيد بمصر، وذلك أن النصارى كان عندهم تابوت فيه إصبع، يزعمون أنه من أصابع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يلق فيه هذا التابوت، وكان يجتمع النصارى من سائر النواحي إلى شبرا، ويقع هناك أمور فظيعة؛ من سكر وغيره، فأبطل ذلك إلى يومنا هذا، ولله الحمد.
وفي سنة أربع وسبعمائة ظهر من معدن الزمرد قطعة زنتها مائة وخمسة وسبعون

(2/299)


مثقالا، فأخفاها الضامن، ثم حملها إلى بعض الملوك، فدفع له فيها مائة ألف وعشرين ألف درهم، فأبى أن يبيعها بذلك، فأخذها الملك منه غصبًا، وبعث بها إلى السلطان، فمات الضامن غمًّا.
وفيها أوفى النيل رابع توت، وكذا في سنة خمس.
وفي سنة تسع وسبعمائة توقف النيل، واستسقى الناس فلم يسقوا، وانتهت زيادته في سابع عشري توت إلى خمسة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا، ثم زاد.
وأوفى ستة عشر ذراعا في تاسع عشر بابه، وتشاءم الناس بسلطنة بيبرس، وغنت العامة في ذلك:
سلطاننا ركين، ونائبنا، يجيئنا الماء من أين!
يجيب لنا الأعرج، يجيء الماء ويدحرج.
وفي هذه السنة لما عاد ابن قلاوون تكلم الوزير ابن الخليلي في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبعمائة ألف في كل سنة زيادة على الجالية، فسكت أهل المجلس، وقام الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وتكلم كلاما عظيما، ورد على الوزير مقالته، وقال للسلطان: حاشاك أن تكون ممن ينصر أهل الذمة! فأصغى إليه السلطان، واستمر لبسهم للأصفر والأزرق، ثم عمد ذلك ببغداد أيضا في سنة أربع وثلاثين اقتداء بملك مصر.
وفي سنة خمس عشرة وسبعمائة وقع الشروع في رَوْك (1) الإقطاعات بمصر، وأبطل السلطان مكوسا كثيرة، وأفردت الجهات التي بقيت من المكس، وأضيفت
_________
(1) الروك في كتب المؤرخين معناه مسح أرض الزراعة في بلد من البلاد لتقدير الخراج المستحق عليه لبيت المال، ومنه تصرف أعطية الجند ورواتب الولاة، وموظفي دواوين الدولة، وما زاد عن ذلك يودع بيت المال. حواشي السلوك 1: 841.

(2/300)


للوزير. وأفرد لكل راتب من الدولة، ولكل فريق جهة من البلاد، ولم يكن الوزير يتعلق به جهة مكس قديما، ولذا كان يتولاه العلماء وقضاة القضاة.
وفي سنة عشرين وسبعمائة حصل بالديار المصرية مرض كثير، قل أن سلمت منه دار، وغلت الأدوية والأشربة، وبيعت الرمانة الحامضة بثلاثة أرباع نقرة، والعناب الرطل المصري بستة دراهم نقرة، وكذلك الإجاص والقراصيا والقلب اللوز، وتمت مدة عظيمة؛ ولكن كان المرض سليما والموت قليلا. ذكره في العبر.
وفي سنة إحدى وعشرين، كان بالقاهرة حريق كبير متتابع خارج عن الوصف، ودام أياما في أماكن، وأحرق جامع ابن طولون وما حوله بأسره، ثم ظفر بفاعليه، وهم جماعة من النصارى يعملون قوارير النفط، فقتلوا وأحرقوا، وهدم غالب كنائس النصارى بمصر، ونهب الباقي، وبقيت القاهرة أيامًا لم يظهر فيها أحد من النصارى، وبقي لا يظهر نصراني إلا ضربه العوام، وربما قتلوه.
وفي هذه السنة، قال الذهبي في العبر: نقلت من خط بدر الدين العزازي أن كلبة ولدت بالقاهرة ثلاثين جروًا، وإنها أحضرت بين يدي السلطان، فعجب منها وسأل المنجمين عن ذلك، فلم يكن عندهم علم منه.
وفي سنة اثنتين وعشرين أبطل السلطان المكس المتعلق بالمأكول بمكة، وعوض صاحبها ثلثي بلد دمامين (1) ، من صعيد مصر.
وفي سنة أربع وعشرين رسم السلطان بإبطال الملاهي بالديار المصرية، وحبس جماعة من النساء الزواني، وحصل بالديار المصرية موت كثير.
وفي هذه السنة، نودي على الفلوس أن يتعامل بها بالرطل، كل رطل بدرهمين، ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم.
_________
(1) تقع شرقي النيل على شاطئه فوق قوص. ذكرها ياقوت.

(2/301)


وفي سنة خمس وعشرين، وقع بالقاهرة مطر كثير، قل أن وقع مثله، وجاء سيل إلى النيل حتى تغير لونه، وزاد نحو أربعة أصابع.
وفي هذه السنة حضر السلطان القاسم بن قلاوون عند قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، فسمع عليه عشرين حديثا من تساعياته، وخلع عليه خلعة عظيمة، وفرق من الذهب والفضة على الفقراء نحو ثلاثين ألف درهم.

(2/302)


وفي سنة سبع وعشرين، رسم بقتل الكلاب بالديار المصرية.
وفي سنة تسع وعشرين، رسم بألا يباع مملوك تركي لكاتب ولا لعامي.
وفي سنة أربعين، نودي على الذهب كل دينار بخمسة وعشرين درهما، وكان بعشرين درهما، وأن يتعاملوا به ولا يتعاملوا بالفضة، فشق ذلك على الناس، ثم بطل ذلك.
وفي سنة أربع وأربعين، اشتد آل ملك نائب السلطنة على وادي القاهرة في إراقة الخمر، ومنع المحرمات، وعاقب جماعة كثيرة على ذلك، وأخرب خزانة النبوذ، وكانت دار فسق وفجور، وبنى مكانها مسجدًا، ونادى: من أحضر سكرانا، أو من معه جرة خمر خلع عليه. فقعد العامة لذلك بكل طريق، وأتوه بجندي سكران، فضربه وقطع خبزه، وأخلع على الآتي به، وصار له مهابة عظيمة، وكف الناس عن أشياء كثيرة، حتى أعيان الأمراء، فقال بعض الشعراء في ذلك:
آل ملك الحاج غدا سعده ... يملأ ظهر الأرض فيما سلك
فالأمر أمن دونه سوقة ... والملك الظاهر هو آل ملك
وفي سنة سبع وأربعين قل ماء النيل، حتى صار ما بين المقياس ومصر يخاض، وصار من بولاق إلى المنشية طريقا يمشى فيه، وبلغت راوية الماء درهمين، وكانت بنصف درهم.
وفي سنة تسع وأربعين كان الطاعون بمصر وغيرها.
وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة أمر بأن يكون إزار النصرانية ازرق وإزار اليهودية أصفر، وإزار السامرية أحمر.
وفي سنة سبع وخمسين في ربيع الآخر، هبت ريح من جهة المغرب، وامتدت من مصر إلى الشام في يوم وليلة، وغرقت ببولاق نحو ثلاثمائة مركب، واقتلعت من النخيل، والجميز ببلاد مصر وبلبيس شيئًا كثيرا.
وفي سنة إحدى وستين وقع الوباء بالديار المصرية.
وفي سنة أربع وستين كان الطاعون بديار مصر.
وفي سنة خمس وستين وقع الفناء في البقر، فهلك منه شيء كثير.
وفي سنة سبع وستين أخذت الفرنج مدينة إسكندرية، وقتلوا وأسروا، فخرج السلطان والعسكر لقتالهم، ففروا وتركوها.
وفي سنة تسع وستين وقع الوباء بالديار المصرية.
وفي سنة ثلاث وسبعين رسم للأشراف بالديار المصرية والشامية أن يسموا عمائمهم علامة خضراء، تمييزا لهم عن الناس، ففعل ذلك في مصر والشام وغيرهما، وفي ذلك يقول أبو عبد الله بن جابر الأندلسي الأعمى نزيل حلب:
جعلوا لأبناء الرسول علامة ... إن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوههم ... يغنى الشريف عن الطراز الأخضر
وقال في ذلك جماعة من الشعراء ما يطول ذكره؛ ومن أحسنها قول الأديب
شمس الدين محمد بن إبراهيم الدمشقي:
أطراف تيجان أتت من سندس ... خضر بأعلام على الأشراف
والأشرف السلطان خصصهم بها ... شرفًا ليعرفهم من الأطراف

(2/303)


وفي هذه السنة زاد النيل زيادة مفرطة، وثبت إلى أيام من هاتور، فاجتمع جماعة بالجامع الأزهر، وجامع عمرو، وسألوا الله في هبوطه، وعمل ابن أبي حجلة مقامته المشهورة.
وفي هذه السنة أراد السراج الهندي قاضي الحنفية أن يساوي قاضي الشافعية في لبس الطرحة، وتولية القضاة في البلاد، وتقرير مودع الأيتام، فأجيب إلى ذلك؛ فاتفق أنه توعك عقب ذلك، وطال مرضه إلى أن مات ولم يتم الذي أراده.
وفي سنة أربع وسبعين وقعت صاعقة على القلعة، فأحرقت منها شيئًا كثيرا، واستمر الحريق أياما، وفي هذه السنة عقد الجائي مجلسًا بالعلماء في إقامة خطبة بالمنصورية، فأفتاه البلقيني وابن الصائغ بالجواز، وخالف الباقون، وصنف البلقيني كتابا في الجواز، وصنف العراقي كتابا في المنع، وجمع أيضا القاضي برهان الدين بن جماعة جزءا في المنع.
وفي سنة خمس وسبعين، توقف النيل عن الزيادة، وأبطأ إلى أن دخل توت، واجتمع العلماء والصلحاء بجامع عمرو، واستسقوا، وكسر الخليج تاسع توت عن نقص أربعة أصابع من العادة، ثم نودي بصيام ثلاثة أيام، وخرجوا إلى الصحراء مشاة، وحضر غالب الأعيان ومعظم العوام وصبيان المكاتب، ونصب المنبر، فخطب عليه شهاب الدين القسطلاني خطيب جامع عمرو، وصلى صلاة الاستسقاء، ودعا وابتهل، وكشف رأسه واستغاث وتضرعوا، وكان يوما مشهودا، وابتدأ الغلاء وزادت الأسعار.
وفي هذه السنة في أول جمادى الأولى حدثت زلزلة لطيفة، فيها ابتدئت قراءة البخاري في رمضان بالقلعة بحضرة السلطان، ورتب الحافظ زين الدين العراقي قارئًا، ثم اشترك معه شهاب الدين العرياني يوما بيوم، وأمر السلطان مشايخ العلم أن يحضروا عنده سامعين ليتباحثوا، فحضر جماعة من الأكابر.
وفيها أبطل ضمان المغاني ومكس القراريط التي كانت في ربيع الدور، وقرئ بذلك

(2/304)


مرسوم على المنابر، وكان ذلك بتحريك البلقيني، وأعانه أكمل الدين والبرهان ابن جماعة.
وفي سنة ست وسبعين وقع الفناء بالديار المصرية، وبيع كل رمانة بستة عشر درهما وهي قريب من دينار، وكل فروج بخمسة وأربعين، وكل بطيخة بسبعين.
وفي هذه السنة أحضر والي الأشمونين إلى الأمير منجك بنتا عمرها خمس عشرة سنة، فذكر أنها لم تزل بنتًا إلى هذه الغاية، فاستد الفرج وظهر لها ذكر وأنثيان، واحتلمت، فشاهدوها وسموها محمدا، ولهذه القضية نظير، ذكرها ابن كثير في تاريخه.
قال الحافظ ابن حجر: ووقع في عصرنا نظير ذلك في سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة.
وفي سنة سبع وسبعين وصلت هدايا إسطنبول من الروم، وفي جملة الهدايا صندوق فيه شخوص له حركات، وكلما مضى ساعة من الليل ضربت تلك الشخوص بأنواع الملاهي، وكلما مضت درجة سقطت بندقة.
وفي سنة ثمان وسبعين، في شعبان، خسف الشمس والقمر جميعا، فطلع القمر خاسفًا ليلة السبت رابع عشرة، وكسفت الشمس بين الظهر والعصر يوم السبت ثامن عشرينه.
وفي سنة ثمانين كان بمصر حريق عظيم ودام أياما. وفي هذه السنة، في ذي القعدة عقد برقوق أتابك العساكر مجلسًا بالقضاة والعلماء. وذكر أن أراضي بيت المال أخذت منه بالحيلة، وجعلت أوقافا من بعد الناصر بن قلاوون، وضاق بيت المال بسبب ذلك، فقال الشيخ سراج الدين البلقيني: أما ما وقف على خديجة وعويشة وفطيمة فنعم، وأما ما وقف على المدارس والعلماء والطلبة فلا سبيل إلى نقضه؛ لأن لهم في الخمس أكثر من ذلك. فانفصل الأمر على مقالة البلقيني.

(2/305)


وفي هذه السنة ظهر كوكب له ذؤابة، وبقي مدة يرى في أول النهار من ناحية الشمال.
وفي هذه السنة أمر بتبطيل الوكلاء من دور القضاة.
وفي سنة إحدى وثمانين رسم الأمير بركة بنفي الكلاب من مصر، ورسم بأن يعمل على قنطرة فم الغور سلسلة تمنع المراكب من الدخول وإلى بركة الرطلي، فقال بعض الشعراء في ذلك:
أطلقت دمعي على خليج ... مذ سلسلوه فراح مقفل
من رام من دهرنا عجيبًا ... فلينظر المطلق المسلسل
وفي ربيع الآخر من هذه السنة أحدث السلام على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عقب أذان العشاء ليلة الاثنين مضافا إلى ليلة الجمعة، ثم أحدث بعد عشر سنين عقب كل أذان إلا المغرب.
وفي سنة ثلاث وثمانين ابتدأ الطاعون بالقاهرة. وفيها أمطرت السماء مطرًا عظيمًا، حتى صار باب زويلة خوضًا إلى بطون الخيل، وخرج سيل عظيم إلى جهة طرى، فغرق زرعها، وأقام الماء أياما، ولم يعهد الناس ذلك بالقاهرة. وفيها ظهر نجم له ذؤابة قد رمحين من جهة القبلة.
وفي سنة أربع وثمانين وقع الغلاء بمصر. وفيها شرع جركس الخليلي في عمل جسر بين الروضة ومصر، وطوله مائتا قصبة في عرض عشرة عند موردة الحبش، وعمل على النيل طاحونا تدور الماء.
وفي هذه السنة قال الحافظ ابن حجر: توجه الظاهر برقوق إلى بولاق التكرور، فاجتاز من الصليبة وقناطر السباع وفم الخور. قال: وكانت عادة السلاطين قبله من زمن الناصر لا يظهرون إلا في الأحيان، ولا يركبون إلا من طريق الجزيرة الوسطى.

(2/306)


قال: ثم تكرر ذلك منه، وشق القاهرة مرارا، وجرى على ما ألف في زمن الإمرة، وأبطل كثيرا من رسوم السلطنة، وأخذ من بعده بطريقته في ذلك إلى أن لم يبق من رسمها في زماننا إلا اليسير جدا.
وفي هذه السنة بنى السلطان قناطر بني منجة، فأحكم عمارتها.
وفي سنة خمس وثمانين نزل السلطان إلى النيل، فخلق المقياس، وكسر
الخليج بحضرته. قال ابن حجر: ولم يباشر ذلك السلطان قبله في زمن الظاهر بيبرس.
وفي سنة سبع وثمانين زلزلة مصر والقاهرة زلزلة لطيفة، في ليلة الثالث عشر من شعبان. وفيها أحضرت صغيرة ميتة لها رأسان وصدر واحد ويدان فقط، ومن تحت السرة (1) صورة شخصين كاملين، كل شخص بفرج أنثى، فشاهدها الناس، ودفنت. وفيها وقع الغلاء بمصر.
وفي سنة ثمان وثمانين في جمادى الآخرة زلزلت الأرض زلزلة لطيفة، وفي هذه السنة عز الفستق عزة شديدة إلى أن بيع الرطل منه بمثقال ذهب ونصف.
وفي سنة تسع وثمانين ضربت الدراهم الظاهرية، وجعل اسم السلطان في دائرة، فتفاءلوا له من ذلك بالحبس، فوقع عن قريب، ووقع نظيره لولده الناصر فرج في الدنانير الناصرية.
وفي سنة تسعين أصاب الحاج في رجوعهم عند ثغرة حامد سيل عظيم، أهلك خلقا كثيرا. وفي هذه السنة وقع الطاعون بالقاهرة.
وفي سنة إحدى وتسعين في شعبان أمر نجم الدين الطنبدي المحتسب أن يزاد بعد كل أذان الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما يصنع ذلك ليلة الجمعة بعد العشاء، فصنعوا ذلك إلا في المغرب لضيق وقتها.
وفي سنة اثنتين وتسعين عطش الحاج بعجرود؛ حتى بلغت القربة مائة درهم فضة.
_________
(1) ساقط من ط.

(2/307)


وفي سنة ثلاث وتسعين أمر كتبغا نائب الغيبة ألا تخرج النساء إلى الترب بالقرافة وغيرها، ومنع النساء من لبس القمصان الواسعة الأكمام وشدد في ذلك.
وفي هذه السنة في جمادى الآخرة ظهر كوكب كبير بذؤابة طول رمحين.
وفي سنة أربع وتسعين وقع الوباء في البقر، حتى كاد إقليم مصر أن يفنى منها. وفي هذه السنة أمر أصحاب العاهات والقطعات أن يخرجوا من القاهرة.
وفيها ضربت بالإسكندرية فلوس ناقصة الوزن عن العادة طمعا في الربح، فآل الأمر إلى أن كانت أعظم الأسرار في فساد الأسرار ونقص الأموال.
وفي سنة تسع وتسعين استأذن كاتب السر بدر الدين الكلستاني السلطان له ولجميع المتعممين أن يلبسوا الصوف الملون في المواكب، فأذن لهم، وكان لا يلبسون إلا الأبيض خاصة. وفيها ولدت امرأة بظاهر القاهرة أربعة ذكور أحياء.
وفي سنة ثمانمائة هبت ريح شديدة بالقاهرة، حتى اتفق الشيوخ العتق على أنهم لم يسمعوا بمثلها.
وفي سنة إحدى وثمانمائة، ذكر أهل الهيئة أنه يقع في أول يوم منها زلزلة، وشاع ذلك في الناس فلم يقع شيء من ذلك. وفي رجب سنة أربع ظهر كوكب قدر الثريا، له ذؤابة ظاهرة النور جدًّا فاستمر يطلع ويغيب، ونوره قوي يرى مع ضوء القمر، حتى رئي بالنهار في أوائل شعبان، فأوله بعضهم بظهور ملك الشيخ المحمودي.
وفي سنة؟؟ وثمانمائة، نودي على الفلوس بأن يتعامل بها بالميزان، سعرت كل رطل ستة دراهم، وكانت فسدت إلى الغاية بحيث صار وزن الفلوس ربع درهم بعد أن كان مثقالا.
وفي سنة عشر، وقع الطاعون بالديار المصرية.
وفي سنة خمس عشرة ضربت الدراهم الخالصة، زنة الواحد نصف درهم والدينار ثلاثين منه، وفرح الناس بها، وبطلت الدراهم النقرة، وكان ضربها قديما في كل درهم عشرة فضة، وتسعة أعشاره نحاس.

(2/308)


وفي سنة ست عشرة فشا الطاعون بمصر.
وفي سنة سبع عشرة أمر المؤيد بضرب الدراهم المديدية.
وفي سنة ثمان عشرة كان الطاعون بالقاهرة.
وفي سنة تسع عشرة كان الطاعون بالقاهرة، وكثر الوباء بالصعيد والوجه البحري. وفي هذه السنة أمر الملك المؤيد الخطباء إذا وصلوا إلى الدعاء إليه في الخطبة أن يهبطوا من المنبر درجة، ليكون اسم الله ورسوله في مكان أعلى من
المكان الذي يذكر فيه السلطان، وصنع ذلك الحافظ ابن حجر بالجامع الأزهر، وابن النقاش بجامع ابن طولون. قال ابن حجر: وكان مقصد السلطان في ذلك جميلا.
وفي سنة عشرين ولدت جاموسة ببلبيس مولودا برأسين وعنقين وأربعة أيد وسلسلتي ظهر واحد ورجلين اثنتين لا غير، وفرج واحد أنثى، والذنب مفروق باثنتين، فكانت من بديع صنع الله.
وفي هذه السنة أمسك نصراني زنا بامرأة مسلمة، فاعترفا، فحكم برجمهما، فرجما خارج باب الشعرية وأحرق النصراني ودفنت المرأة.
وفي سنة اثنتين وعشرين فشا الطاعون بالديار المصرية.
وفي سنة خمس وعشرين زلزلت القاهرة زلزلة لطيفة.
وفي سنة سبع وعشرين جدد للمشايخ الذين يحضرون سماع الحديث بالقلعة فراجي سنجاب، وهو أول ما فعل بهم ذلك.
وفي سنة ثمان وعشرين وقع بدمياط حريق عظيم حتى احترق قدر ثلثها، وهلك من الدواب والناس شيء كثير.
وفي سنة ثلاث وثلاثين كان الطاعون العظيم بالديار المصرية.
وفي سنة إحدى وأربعين كان الطاعون بالديار المصرية.

(2/309)


ذكر الطريق المسلوك من مصر إلى مكة شرفها الله تعالى:
قال ابن فضل الله: المحامل السلطانية وجماهير الركبان لا تخرج إلا من أربع جهات: مصر، ودمشق، وبغداد، وتعز (1) .
قال: فيخرج الركب من مصر بالمحمل السلطاني، والسبيل والمسبل (2) للفقراء والضعفاء والمنقطعين بالماء والزاد والأشربة والأدوية، والعقاقير والأطباء والكحالين والمجبرين، والإدلاء والأئمة والمؤذنين والأمراء، والجند والقاضي والشهود والدواوين والأمناء ومغسل الموتى؛ في أكمل زي، وأتم أهبة، وإذا نزلوا منزلا أو رحلوا مرحلا تدق الكوسات (3) ، وينفر النفير (4) ليؤذن الناس بالرحيل والنزول، فإذا خرج الراكب من القاهرة نزل البركة (5) على مرحلة واحدة، فيقيم بها ثلاثة أيام أو أربعة، ثم يرحل إلى السويس في خمس مراحل، ثم إلى نخل في خمس مراحل. وقد عمل فيها الأمير آل ملك الجوكندار المنصوري أحد أمراء المشورة في الدولة الناصرية بن قلاوون بركا، واتخذ لها مصانع، ثم يرحل إلى أيلة في خمس مراحل وبها العقبة العظمى، فينزل منها إلى حجز (6) بحر القلزم، ويمشي على حجزه حتى يقطعه من الجانب الشمالي إلى الجانب الجنوبي، ويقيم به أربعة أيام أو خمسة، وبه سوق عظيم فيه أنواع المتاجر، ثم يرحل إلى حفل مرحلة واحدة، ثم إلى بر مدين في أربع مراحل وبه مغارة شعيب عليه الصلاة والسلام،
_________
(1) تعز، بالفتح ثم الكسر والزاي مشددة: قال ياقوت: "قلعة عظيمة من قلاع اليمن المشهورات".
(2) أسلبت الطريق: كثرت سابلتها.
(3) الكوسات: صنوجات من نحاس شبه الترس الصغير، يدق أحدها على الآخر بإيقاع مخصوص؛ ويتولى ذلك الكوسي. صبح الأعشى 4: 1329، وانظر حواشي السلوك 1: 126.
(4) النفير: الناس الذين يحجون.
(5) هي بركة الحبش؛ كانت مشرفة على نيل مصر خلف القرافة؛ وكانت من أجل متنزهات مصر، قال ياقوت: "رأيتها، وليست بركة ماء؛ وإنما شبهت بها".
(6) الحجز، بالضم أو الكسر: الناحية.

(2/310)


ويقال: إن ماءها هو الذي سقى عليه موسى عليه الصلاة والسلام غنم بنات شعيب، ثم يرحل إلى عيون القصب في مرحلتين، ثم إلى المويلحة في ثلاث مراحل، ثم إلى الأزلم في
أربع مراحل. وماؤه من أقبح المياه، وهناك خان بناه الأمير آل ملك الجوكندار، وعمل هناك بئرا أيضا، ثم إلى الوجه في خمس مراحل، وماؤه من أعذب المياه، ثم إلى أكرى في مرحلتين وماؤه أصعب ماء في هذه الطريق، ثم إلى الحوراء، وهي على ساحل بحر القلزم في أربع مراحل، وماؤها شبيه بماء البحر لا يكاد يشرب، ثم إلى نبط في مرحلتين وماؤه عذب، ثم إلى ينبع في خمس مراحل ويقيم عليه ثلاثة أيام، ثم إلى الدهناء في مرحلة، ثم إلى بدر في ثلاث مراحل، وهي مدينة حجازية وبها عيون وجداول وحدائق، وبها الجار فرضة المدينة الشريفة، ثم يرحل إلى رابغ في خمس مراحل، وهي بإزاء الجحفة التي هي الميقات، ثم يرحل إلى خليص في ثلاث مراحل، وبها بركة عملها الأمير أرغون الناصري، ثم إلى بطن مر في ثلاث مراحل، وفي طريقه بئر عسفان، ثم يرحل من بطن مر إلى مكة المشرفة مرحلة واحدة.
ثم يرجع في منازله إلى بدر، فيعطف إلى المدينة الشريفة، فيرحل إلى الصفراء في مرحلة، ثم إلى ذي الحليفة في ثلاث مراحل، ثم إلى المدينة الشريفة في مرحلة، ثم يرجع إلى الصفراء، ويأخذ بين جبلين في فجوة تعرف نقب علي؛ حتى يأتي الينبع في ثلاث مراحل، ثم يستقيم على طريقه إلى مصر.

(2/311)


ذكر قدوم المبشر سابقا يخبر بسلامة الحاج:
كان ذلك في عهد الخلفاء الراشدين: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فمن بعدهم، وله حكمة لطيفة قل من يعرفها، قال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه في قصة حصر عثمان -رضي الله عنه؛ واستمر الحصار بالديار المصرية حتى مضت أيام التشريق، ورجع البشير من الحج، فأخبر بسلامة الناس، وأخبر أولئك أن أهل الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفوهم عن أمير المؤمنين.
وأخرج مالك في الموطأ عن ابن دلان عن أبيه أن رجلًا من جهينة كان يشتري الرواحل فيتغالى بها، ثم يسرع السفر فيسبق الحاج، فأفلس، فرفع أمره إلى عمر، فقال: أما بعد أيها الناس، إن الأسيقع أسيقع جهينة رضي من دينه، وأمانته أن يقال: سبق الحاج، ألا وإنه أدان معرضا، فأصبح وقد دين به فهمد، فمن كان له عليه دين فليأته بالغداة. فقسم ماله بين غرمائه، ثم كمل الدين.
وأخرج الخطيب البغدادي في تالي التلخيص من طريق عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، قال: تخرج الدابة من جبل أجياد في أيام التشريق والناس بمنى، قال: فلذلك جاء سابق الحاج يخبر بسلامة الناس.

(2/312)


ذكر حمائم الرسائل:
قال ابن كثير في تاريخه: في سنة سبع وستين وخمسمائة اتخذ السلطان نور الدين الشهيد الحمام الهوادي، وذلك لامتداد مملكته، واتساعها، فإنها من حد النوبة إلى همذان (1) ، فلذلك اتخذ قلعة، وحبس الحمام التي تسري الآفاق في أسرع مدة، وأيسر عدة، وما أحسن ما قال فيهن القاضي الفاضل: الحمام ملائكة الملوك، وقد أطنب في ذلك العماد الكاتب وأظرف وأطرب، وأعجب وأغرب (2) .
وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، اعتنى الخليفة الناصر لدين الله بحمام البطاقة اعتناء زائدا، حتى صار يكتب بأنساب الطير المحاضر إنه من ولد الطير الفلاني. وقيل: إنه بيع بألف دينار.
وقد ألف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في أمور هذه الحمام كتابا سماه "تمام الحمائم" (3) ، وذكر فيه فصلا فيما ينبغي أن يفعله المنطق، وما جرت العادة به في ذلك فقال:
كان الجاري به العادة أنها لا تحمل البطاقة إلا في جناحها، لأمور منها، حفظها من المطر ولقوة الجناح؛ والواجب أنه إذا انطلق من مصر لا يطلق إلا من أمكنة معلومة، فإذا سرحت إلى الإسكندرية، فلا تسرح إلا من منية عقبة بالجيزة، وإلى الشرقية، فمن مسجد التين ظاهر القاهرة، وإلى دمياط فمن بيسوس بشط بحر منجي. والذي استقرت قواعد الملك عليه، أن طائر البطاقة لا يلهو الملك عنه ولا يغفل، ولا يمهل لحظة واحدة، فتفوت مهمات لا تستدرك، إما من واصل وإما من هارب، وإما من متجدد في الثغور.
_________
(1) بعدها في ابن كثير: "لا يتخللها إلا بلاد الإفرنج، وكلهم تحت قهره وهدنته".
(2) تاريخ ابن كثير 12: 269.
(3) قال في كشف الظنون: "صنفه حين حافظ عليها الفاطميون بمصر، وبالغوا فيها حتى أفردوا لها ديوانا، وجرائد بأنساب الحمائم".

(2/313)


ولا يضع (1) البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة أحد؛ فإن كان يأكل لا يمهل حتى يفرغ، وإن كان
نائمًا لا يمهل حتى يستيقظ بل ينبه. وينبغي أن تكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك.
قال: ورأيت الأوائل لا يكتبون في أوائلها بسملة.
قال: وأنا ما كتبتها قط إلا ببسملة للبركة، وتؤرخ بالساعة واليوم، لا السنين؛ وينبغي ألا يكثر في نعوت المخاطب فيها، ولا يذكر في البطائق حشو الألفاظ، ولا يكتب إلا لب الكلام وزبدته. ولا بد أن يكتب شرح الطائر ورفيقه إن كانا طائرين قد سرحا حتى إن تأخر الطائر الواحد رقب حضوره، أو يطلق لئلا يكون قد وقع في برج من أبراج المدينة، ولا يعمل للبطائق هامش ولا يحمدي، وجرت العادة بأن يكتب في آخرها: "وحسبنا الله ونعم الوكيل"، وذلك حفظ لها.
ومن فصل في وصفها لتاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب الإنشاء: طالما جادت بها فأوضحت مخلفة وراءها تبكي عليه السحب، وصدق من سماها أنبياء للطير؛ لأنها مرسلة بالكتب.
وفيها يقول أبو محمد أحمد بن علوي بن أبي عقال القيرواني:
خضر تفوت الريح في طيرانها ... يا بعد بين غدوها ورواحها
تأتي بأخبار الغدو عشية ... لمسير شهر تحت ريش جناحها
وكأنما الروح الأمين بوحيه ... نفث الهداية منه في أرواحها
وقال غيره:
يا حبذا الطائر الميمون يطرقنا ... في الأمر بالطائر الميمون تنبيها
فاقت على الهدهد المذكور إذ حملت ... كتب الملوك وصانتها أعاليها
_________
(1) ط: "يقع".

(2/314)


تلقي بكل كتاب نحو صاحبه ... تصون نظرته صونًا وتخفيها
فما تمكن عين الشمس تنظره ... ولا تجوز أن تلقيه من فيها
منسوبة لرسالات الملوك فب ... المنسوب تسمو ويدعوها تسميها
أكرم بجيش سعيد ما سعادته ... مما يشكيك فيها فكر حاكيها (1)
حما حمى الغار يوم الغار حرمته ... فيالها وقعة عزت مساعيها!
وقوفه عند ذاك الباب شرفه ... وللسعادة أوقات تؤاتيها
ويوم فتح رسول الله مكته ... عند الدخول إليها من بواديها
صفت تظلل من شمس كتيبته الـ ... خضر أمطره فيها تواليها
فظللته بما كانت تود هوى ... لو قابلتها بأشواق فتنهيا
فعندما حظيت بالقرب أمنها ... فشرفت بعطايا جل مهديها
فما يحل لدى صيد تناولها ... ولا ينال المنى بالنار مصليها
ولا تطير بأوراق الفرنج ولا ... يسير عنها بما فيه امانيها
سمت بملك المعاني غير ذي دنس ... لا ترضيهم، ولو جزت نواصيها
وانظر لها كيف تأتي للخلائق من ... آل رسول بحب كامن فيها
من المقام إلى دار السلام فلم ... يمض النهار بعزم في دواعيها
وربما ضل عنه الهند ملتقطاً ... حبات فلفله وارتد مبطيها
فجاء في يومه في إثر سابقه ... حفظاً لحق يد طابت أياديها
مناقب لرسول الله أيسرها ... لدى نبوته الغراء تكفيها

ومن إنشاء القاضي الفاضل في وصف حمائم الرسائل: سرحت لا تزال أجنحتها محملة من البطائق أجنحة، وتجهز جيوش المقاصد والأقلام أسلحة، وتحمل من الأخبار ما تحمله الضمائر، وتطوى الأرض إذا نشرت الجناح الطائر،
_________
(1) ط: "جاليها".

(2/315)


وتزوى لها الأرض حتى يرى ملك هذه الأمة، وتقرب من السماء حتى ترى مالا يبلغه وهم ولا همة، وتكون مراكب للأغراض وكانت والأجنحة قلوعاً، وتركب الجو بحر تصفق فيه هبوب الرياح موجاً مرفوعاً، وتعلق الحاجات على اعجازها، ولا تفوق الإرادات عن إنجازها، ومن بلاغات البطائق استفادت ما هي مشهورة به من السجع، ومن رياض كتبها الفت الرياض فهي إليها دائمة الرجع. وقد
سكنت البروج فهي أنجم، وأعدت في كنائنها فهي للحاجات أسهم، وكادت تكون ملائمة؛ لأنها رسل فإذا نيطت بالرقاع، صارت أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقد باعد الله بين أسفارها وقربها، وجعلها طيف خيال اليقظة الذي صدق العين وما كذبها، وقد أخذت عهود الأمانة في رقابها أطواقا، فأدتها من فأذنابها أوراقا، وصارت خوافي من وراء الخوافي، وغطت سرها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافي، ترغم النوى بتقريب العهود، وتكاد العيون تلاحظها تلاحظ أنجم السعود؛ وهي أنبياء الطير لكثرة ما تأتي به من الأنباء، وخطباؤها؛ لأنها تقوم على الأغصان مقام الخطباء (1) .
وقال في وصفها شيخ الكتاب ذو البلاغتين السديد أبو القاسم شيخ القاضي الفاضل:
وأما حمام الرسائل؛ فهي من آيات الله المستنطقة الألسن بالتسبيح، العاجز عن وصفها إعجاز البليغ الفصيح، فيما تحمله من البطائق، وترد به مسرعة من الأخبار الواضحة الحقائق، وتعاليه في الجو محلقا عند مطاره، وتهديه على الطريق التي عليها ليأمن من فوت الإدراك وأخطاره، ونظره إلى المقصد الذي يسرح إليه من علي، ووصوله إلى أقرب الساعات بما يصل به البريد في أبعد الأيام من الخبر الجلي، ومجيئه معادلًا لرءوس السفار مسامتا، وإيثاره بالمتجددات فكأنه ناطق وإن كان صامتا، وكونه يمضي محمولا على ظهر المركوب، ويرجع عاملا على ظهره للمكتوب، ولا يعرج على تذكار الهدير، ولا يسأم من الدأب في الخدمة زائدا على التقدير، وفي تقدمه البشائر، يكون
_________
(1) نهاية الأرب 10: 280.

(2/316)


المعنى بقولهم: أيمن طائر؛ ولا غرو أن فارق رسل أهل الأرض وفاتهم وهو مرسل والعنان عنانه، والجو ميدانه، والجناح مركبه، والرياح موكبه، وابتداء الغاية شوطه، والشوق إلى أهله سوطه؛ مع أمنه ما يحدث لمنتاب السفار، ومخبآت القفار، من مخاوف الطوارق وطوارق المخاوف، ومتلف الغوائل وغوائل المتالف، إلا ما يشد من اعتراض خارج (1)
وانقضاض كاسب كاسر، فتكف سعادة الدولة تأمينه، وتصد عنه تصميمه؛ لأنه أخذ جيشها من الطيرين اللذين يحدثان في أعدائها؛ هذا بالإنذار الجاعل كيدهم في تضليل، وذلك بما ترى رأيتها المنصورة عليهم من تضليل.
وقال القاضي محيي الدين بن الظاهر رحمه الله تعالى:
ولما وقفت على ما أنشأه القاضي الفاضل، على ما أنشأه الشيخ السديد أردت أن أجر الخاطر، فأنشات وأنا غير مخاطب أحدًا بل مخاطر، وأين الثرى من الثريا، وما الحسن لكل أحد يتهيا، وعلي أن أجيب وما علي أن أجيد، وما كل والد يدرك شأو الوليد، ولا كل كاتب عبد الرحيم ولا عبد الحميد، فقلت:
وأما حمائم الرسائل فكم أغنت البرد عن جوب القفار، وكم قدت جيوبها على أسرى أسرار؛ وكم أعارت السهام أجنحة فأحسنت بتلك العارية المطار، وكم قال جناحها لطالب النجاح: لا جناح، وكم سرت فحمدت المساء إذا حمد غيرها من السارين الصباح، وكم ساوقت الصبا والجنائب فقاقتهما ولم تحوج سلام المشتاقين إلى امتطاء كاهل الرياح.
كم حسن ملك كل منهما ملك، وكم قال مسرحها لمجيئه بها: قرة عين لي ولك، كم أجملت في الهوى تقلبًا، وإذا غنت الحمائم على الغصون صمتت عن الهديل والهدير تأدبا، كم دفعت شكا بيقينها، ورفعت شكوى بتبيينها، وكم أدت أمانة ولم تعلم أجنحتها
_________
(1) ح، ط: "جارح"، وما أثبته من الأصل.

(2/317)


بما في شمالها ولا شمالها بما في يمينها. كم التفت منها الساق بالساق، فأحسنت لربها المساق، وكم أخذت عهود الأمانة فبدت أطواقا في الأعناق، ويقال: ما تضمنته من البطائق بعض ما تعلق منها في الرياض من الأوراق، تسبق اللمح، وكم استفتح بها بشير إذا جاء بالفتح، تفوت (1) الطرف السابق، والطرف الرامي الرامق، وما تلت سورة البروج إلا وتلت سورة الطارق. كم أنسى مطارها عدو السلكة والسليك، وكم غنيت في خدمة سلطانها عن الغناء وقال كل منهما لرفيقه: إليك عن الأيك.
ما أحوج تصديقهما في رسالتهما إلى الإعزاز بثالث، وكم قيل في كل منهما لمن سام هذا حام في خدمة أبناء يافث، كم سرحا بإحسان، وكم طارا بأفق فاستحق أن يقال لهما: فرسا سحاب إذا قيل لأحدهما فرسا رهان، حاملة علم لمن هو أعلم به منها، يغني السفار والسفارة فلا تحوجهم إلى الاستغناء عنها.
تغدو وتروح، وبالسر لا تبوح، فكم غنيت باجتماعها بإلفها عن أنها تنوح. كم سارت تحت أمر سلطانها أحسن السير، وكم أفهمت أن ملك سليمان إذ سخر له منها في مهماته الطير، أسرع من السهام المفوقة، وكم من البطائق مخلقة وغير مخلقة، كم ضللت من كيد، وكم بدت في مقصورة دونها مقصورة ابن دريد.
ومن إنشاء الأديب تقي الدين أبو بكر بن حجة في ذلك:
سرح فما سرح العيون إلا دون رسالته المقبولة، وطلب السبق فلم يرض البرق سرحا ولا استظل صفحته المصقولة؛ وكم جرى دونه النسيم فقصر وأمست أذياله بعرف السحب ملولة. وأرسل فأقر الناس برسالته وكتابه المصدق، وانقطع كوكب الصبح خلفه فقال عند التقصير: كتب يجاب وعلى يدي يخلق، يؤدي ما جاء على يده من الترسل فيهيج الأشواق، وما برحت الحمام تحسن الأداء في الأوراق، وصحبناه على الهدى فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} ، ومن روى عنه الحديث المسند فعن عكرمة قد روى، يطير مع
_________
(1) ح، ط: "تسبق".

(2/318)


الهوى لفرط صلاحه، ولم يبق على السر المصون جناح إذا دخل تحت جناحه؛ إن برز من مقفصه لم يبق للصرح الممرد قيمة، بل ينعزل بتدبيج أطواقه ويعلق عليه من العين تلك التميم، ما سجن إلا صبر على السجن وضيقة الأطواق، ولهذا حمدت عاقبته على الإطلاق، ولا غنى على عود إلا أسال دموع الندى من حدائق الرياض، ولا أطلق من كبد الجو إلا كان سهما مريشا تبلغ به الأغراض. كم علا فصاد بريش القوادم كالأهداب لعين الشمس، وأمسى عند الهبوط لعيون الهلال كالطمس؛ فهو الطائر الميمون والغاية السباقة، والأمين الذي إذا أودع أسرار الملوك حملها بطاقة؛ فهو من الطيور التي خلا لها الجو فنقرت ما شاءت من حبات النجوم، والعجماء التي من أخذ عنها شرح المعلقات فقد أعرب من دقائق المفهوم، والمقدمة والنتيجة للكتاب الحجلي في منطق الطير، وهي من حملة الكتاب الذي إذا وصل القارئ منه إلى الفتح يتهلل لحبه الخير؛ إن يصدر البازي بغير علم فكم جمعت بين طرفي كتاب، وإن سألت العقبان على بديع السجع أحجمت عن رد الجواب.
رعت النسور بقوة جيف الفلا ... ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف
ما قدمت إلا وأرتنا من شمائلها اللطيفة نعم القادمة، وأظهرت لنا من خوافيها ما كانت له خير كاتمة. كم أهدت من مخلبها وهي غادية رائحة، وكم حنت إليها الجوارح وهي أدام الله إطلاقها عز جارحة، وكم أدارت من كؤوس السجع ما هو أرق من قهوة الغنشا، وأبهج على زهر المنثور من صبح الأعشى. وكم عامت بحور الفضاء ولم تحفل بموج الجبال، وكم جاءت ببشارة وخضبت الكف من تلك الأنملة قلامة الهلا، وكم زاحمت النجوم بالمناكب حتى ظفرت بكل كف خضيب، وانحدرت كأنها دمعة سقطت على خد الشقيق لأمر مريب، وكم لمع في أصيل الشمس خضاب كفها الوضاح، فصارت بسموها وفرط البهجة كمشكاة مصباح. والله تعالى يديم بأفنان أبوابه العالية الحان السواجع، ولا برح تغريدها بين البادئ والراجع.

(2/319)


ذكر عادة المملكة في الخلع والزي:
قال ابن فضل الله: وأما القضاة والعلماء فخلعهم من الصوف بغير طراز، فلهم الطرحة، وأصل الصوف أن يكون أبيض وتحته أخضر.
وأما زي القضاة والعلماء فدلق (1) متسع بغير تفريق، فتحته على كتفه، وشاش كبير منه ذؤابة بين الكتفين، ويميلها إلى الكتف الأيسر.
وأما من دون هؤلاء فالفرجية الطويلة الكم بغير تفريج، "وأما زاهدهم فيقصر الذؤابة" (2) ويميلها إلى الكتف الأيسر. ومنهم من يلبس الطيلسان.
وأما قاضي القضاة الشافعي -رضي الله تعالى عنه، فرسمه الطرحة، وبها يمتاز ومراكبهم البغال، ويعمل بدلا من الكنبوش (3) الزناري، وهو من الجوخ بالعباء المجوفة الصدر مستدير من وراء الكفل.
وألبسه الخطباء دلق مدور أسود للشعار العباسي، وشاش أسود وطرحة سوداء.
وأما زي الأمراء والجند، فتقدم عند ذكر السلطان.
وأما خلعهم وخلع الوزراء ونحوهم فأسقطتها من كلام ابن فضل الله؛ لأنها ما بين حرير وذهب؛ وذلك محرم شرعا، وقد التزمت ألا أذكر في هذا الكتاب شيئًا أسأل عنه في الآخرة، إن شاء الله تعالى.
_________
(1) الدلق: نوع من الملابس الصوفية.
(2) كذا في الأصل وفي ح، ط: "والذؤابة أيضا ويميلها"، وكلاهما غير واضح.
(3) الكنبوش: من معانيه اللثام الذي يستعمله أهل المغرب لتغطية الوجه من الدقن إلى الخيشوم اتقاء لبرودة الصباح. وانظر حواشي السلوك 1: 452.

(2/320)


ذكر عادة السلطان في الكتابة على التقاليد:
قال ابن فضل الله: عادته إذا كتب لأحد من النواب يكتب اسمه فقط، فإن كان من كبارهم، وهو من ذوي السيوف، كتب "والده فلان"، وإن كان من القضاة والعلماء كتب: "أخوه فلان".

ذكر معاملة مصر:
قال ابن فضل الله في المسالك: معاملة مصر الدراهم، ثلثاها فضة وثلثها نحاس، والدرهم ثمان عشرة حبة (1) خرنوبة، والخرنوبة ثلاث قمحات، والمثقال أربعة وعشرون خرنوبة، والدرهم منها قيمته ثمانية وأربعون فلسا، والدينار الحبشي ثلاثة عشر درهما وثلث الدرهم. وأما الكيل فيختلف (2) بمصر: الإردب، وهو ست ويبات، الويبة أربعة أرباع، الربع أربعة أقداح، القدح مائتان واثنان وثلاثون درهما؛ هذا إردب مصر، وفي أريافها يختلف الإردب من هذا المقدار إلى أنهى ما ينتهي ثلاث ويبات. والرطل اثنا عشر أوقية، والأوقية اثنا عشر درهما.
قال صاحب المرآة: في سنة خمس وسبعين من الهجرة ضرب عبد الملك بن مروان على الدنانير والدرهم اسم الله تعالى، قال الهيثم: وسببه أنه وجد دراهم ودنانير تاريخها قبل الإسلام بأربعمائة سنة، عليها مكتوب "باسم الأب والابن وروح القدس"، فسبكها ونقش عليها اسم الله تعالى وآيات من القرآن واسم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واختلف في صورة ما كتب، فقيل: جعل في وجه "لا إله إلا الله" وفي الآخر "محمد رسول الله"
_________
(1) ساقطة من ح، ط.
(2) ح، ط: "فمختلف في مصر".

(2/321)


وأرخ وقت ضربها. وقيل: جعل في وجه "قل هو الله أحد" وفي الآخر "محمد رسول الله".
وقال القضاعي: كتب على أحد الوجهين "الله أحد من غير قل"، ولما وصلت إلى العراق أمر الحجاج فزيد فيها في الجانب الذي فيه محمد رسول الله
في جوانب الدرهم مستديرا: "أرسله بالهدى ودين الحق ... " الآية. واستمر نقشها كذلك إلى زمن الرشيد، فأراد تغييرها فقيل له: هذا أمر قد استقر وألفه الناس، فأبقاها على ما هي عليه اليوم، ونقش عليها اسمه.
وقيل: أول من غير نقشها المنضور، وكتب عليها اسمه.
وأما الوزن فما تعرض أحد لتغييره. انتهى كلام صاحب المرآة.

(2/322)


ذكر كوكب الذنب:
قال صاحب المرآة: إن أهل النجوم يذكرون أن كوكب الذنب طلع في وقت قتل قابيل، وهابيل، وفي وقت الطوفان، وفي وقت نار إبراهيم الخليل، وعند هلاك قوم هاد وثمود وقوم صالح، وعند ظهور موسى وهلاك فرعون، وفي غزوة بدر، وعند قتل عثمان وعلي، وعند قتل جماعة من الخلفاء، منهم الرضي والمعتز والمهتدي والمقتدر.
وقال: وأدنى الأحداث عند ظهور هذا الكوكب الزلازل والأهوال.
قلت: يدل لذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه من طريق ابن أبي مليكة، قال: غدوت على ابن عباس، فقال: ما نمت البارحة! قلت: لم؟ قال: طاح الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدجال قد طرق.

(2/323)


ذكر بقية لطائف مصر:
قال الكندي: ذكر يحيى بن عثمان، عن أحمد بن الكريم، قال: جلت للدنيا، ورأيت آثار الأنبياء والملوك والحكماء، ورأيت آثار سليمان بن داود عليهما السلام ببيت المقدس، وتدمر والأردن، وما بنته الشياطين، فلم أر مثل برابي مصر ولا مثل حكمتها، ولا مثل الآثار التي بها، والأبنية التي لملوكها وحكمائها. ومصر ثمانون كورة، ليس منها كورة إلا وفيها ظرائف وعجائب من أصناف الأبنية والطعام والشراب والفاكهة والنبات وجميع ما ينتفع به الناس، ويدخره الملوك، وصعيدها أرض حجازية، حرها كحر الحجاز، تنبت النخل والأراك والقرظ والدوم والعشر، وأسفل أراضي مصر شامية تمطر مطر الشام، وتنبت نبات الشام من الكرم والتين والموز وسائر الفاكهة، والبقول والرياحين. ويقع به الثلج، ومنها لوبية ومراقية (1) برابي وجبال وغياض، وزيتون وكروم برية بحرية جبلية، بلاد إبل وماشية، ونتاج وعسل ولبن. وكل كورة (2) من مصر مدينة، قال تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} ، وفي كل مدينة منها آثار عجيبة من الأبنية والصخور والرخام والبرابي، وتلك المدن كلها تأتي منها السفن، تحمل المتاع والآلة إلى الفسطاط، تحمل السفينة الواحدة ما تحمله خمسمائة بعير.
قال الكندي: وليس في الدنيا بلد يأكل أهله صيد البحر طريًّا غير أهل مصر.
قال: وذكر بعض أهل العلم أنه ليس في الدنيا شجرة إلا وهي بمصر، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
_________
(1) قال ياقوت: "مراقية بالفتح والقاف والياء مخففة؛ إذا قصد القاصد من الإسكندرية إلى إفريقية فأول بلد يلقاه مراقية، ثم لوبية".
(2) الكورة في اصطلاح القدماء: كل صقع يشتمل على عدة قرى، ولا بد لتلك القرى من قصبة أو مدينة أو نهر يجمع اسمها، وانظر معجم البلدان 1: 36.

(2/324)


ويوجد بمصر في كل وقت من الزمان من المأكول والمأدوم، والمشموم وسائر البقول والخضر؛ جميع ذلك في الصيف والشتاء، لا ينقطع منها شيء لبرد ولا حر (1) .
وذكر أن بخت نصر قال لابنه بلسطان: ما أسكنتك مصر إلا لهذه الخصال. وبلسطان هو الذي بنى قصر الشمع.
وقال بعض من سكن مصر: لولا ماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بؤونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى، ورطب توت، ورمان بابة، وموز هاتور، وسمك كيهك، ما أقمت بمصر.
وأخرج ابن عساكر من طريق الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: ثلاثة أشياء، دواء للداء الذي لا دواء له، الذي أعيا الأطباء أن يداووه: العنب، ولبن اللقاح، وقصب السكر، ولولا قصب السكر ما أقمت بمصر.
وقال بعضهم: يجتمع بمصر في وقت واحد ما لا يجتمع بمدينة؛ وذلك البنفسج والورد والسوسن، والمنثور والنرجس وشقائق النعمان والبهار والياسمين والنسرين، واللينوفر والنمام والمرزنجووش والريحان والنارنج، والليمون والتفاح الشامي والأترج والباقلي الأخضر، والعنب والتين والموز واللوز الأخضر والسفرجل، والكمثرى والرمان والنبق والقثاء والخيار، والطلع والبلح والبسر الرطب واللفت، والقنبيط والأسفاناخ والقرع والجزر والباذنجان؛ كل ذلك يجتمع في وقت واحد من السنة.
وقال بعض من صنف في فضائل مصر: بمصر الحمير المريسية، والبقر الحسينية، والنجب النجارية، والأغنام النوبية، والدجاج الحبشية، والمراكب الحربية، والسفن الزيبقية، والمناسف الحملية، والستور البهنساوية، والغلائل القصبية، والحرم
_________
(1) ح: "لحر".

(2/325)


السمطاوية، والنعال السندية، والسلال الوهبانية، والمضارب السلطانية. ويحمل إلى العراق وغيرها من مصر زيت الفجل والعسل النحل، ويفخر به على أعسال الدنيا.
ويروى أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بارك فيه لما أهداه إليه المقوقس.
وبمصر يزرع البلسان، ودهنه يستعمل في أكثر العلاج، والنفط وهو من آلة الحرب التي بها قهر الأعداء، ودهن الخروع وزيت البزر والدهن الصيني، وزيت الخردل وزيت الخس، ودهن القرطم، وزيت السلجم، وخشب اللبخ، وهو أصلح من الأبنوس اليوناني.
وفي صعيد مصر خشب الأبنوس الأبلق، وسائر العقاقير التي تدخل في الطب والعلاج. وكل ما زرع في أرض مصر ينبت.
وفيها من نبات الهند والسند مثل الأهليلج والخيار شنبر والتمر هندي وغيره مما لا يوجد في بلد من البلاد الإسلامية.
وبها الشب الواحي؛ وهو أبلغ من اليماني، والأفيون والشاهترج والصفر والزجاج والجزع الملون والصوان؛ وهو حجر لا يعمل فيه الحديد؛ وكانت الأوائل تعمده وتقطعه بأسوان؛ ومنه العمد الجافية، التي لا تكون بسائر الدنيا، وكل حمامات مصر بالرخام لكثرته عندهم، وكذلك صحون دورهم.
وبها الحجارة المسماة بالكذان؛ يبلط بها الدور ويعقد بها الدرج.
وبها من الحصر العبداني، ومن سائر أصناف الحصر ما لا يوجد في غيرها، ويجلب من مصر البز الأبيض من الديبقي وغيره الذي يعمل بدمياط وتنيس. وبالإسكندرية يعمل الوشى الذي يقوم مقام وشي الكوفة.
وبالصعيد يعمل من الجلود الأنطاع، وبالبهنسا الستور التي هي أحسن ستور الأرض

(2/326)


والبسط وأجلة الدواب والبراقع وستور النسوان في المضارب والأكسية والطيالسة.
وكان يعمل بإخميم الفرش التي تسمى نطوع الخز.
وبمصر من أصناف الرقيق ما ليس ببلد من البلدان، وأصناف الطير الحسن الصوت (1) في صعيدها مثل القمري والنوبي، والنواح والدبسي الأحمر والأبلق، والكروان الذي ليس مثله في بلد.
ومنها يحمل الطير إلى البلدان في الشرق والغرب، والأشماع المتخذة من الشهد وعسل الأسطروس والنبيذ المعمولة من القمح والقند والأباليج والطبرزد، وماء طوبة الذي لا يعدله شيء، ولا يتغير على ممر الايام، والسمك الذي هو ملك الأسماك، والبوري الطري والمملوح، والبلاطي الذي كأنه دروع من الفضة، وطير الماء، وطير الحوصل يعمل من جلده الخفاف الناعمة والفراء الأبيض الذي يقوم مقام الفنك في لينه ورقته. وبها الكتان، ومنها يحمل إلى سائر الأرض، والقراطيس، وبها من العلم القديم ما ليس ببلد، كعلم الطب اليوناني والمساحة، والنجوم والحساب القبطي، واللحون والشعر الرومي.
وفيها من سائر الثمار والأشجار، والمشمومات والعقاقير والنبات والحشائش ما لا يحصى. والعصفور يفرخ بمصر في كانون، وليس ذلك في بلد إلا بها.
وقال الكندي: بمصر معدن الزمرد، وليس في الدنيا زمرد إلا معدن بمصر، ومنها يحمل إلى سائر الدنيا.
قال: وبها معدن الذهب، يفوق على كل معدن.
قال: وفيها القراطيس، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.
وقال غيره: من خصائص مصر القراطيس، وهي الطوامير، وهي أحسن ما كتب
_________
(1) ح: "الصورة".

(2/327)


فيه، وهو من حشيش أرض مصر، ويعمل طوله ثلاثون ذرعا وأكثر في عرض شبر. وقيل: إن يوسف عليه السلام أول من اتخذ القراطيس، وكتب فيها.
قال الكندي: وبها من الطرز والقصب التنيسي والشرب والدبيقي ما ليس بغيرها، وبها الثياب الصوف والأكسية المرعز (1) ، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.
ويحكى أن معاوية لما كبر كان لا يدفأ، فاتفقوا أنه لا يدفئه إلا أكسية تعمل في مصر، من صوفها المرعز العسلي غير مصبوغ، فعمل له منها عدد، فما احتاج منها إلا إلى واحد. وبها طراز البهنسا من الستور والمضارب ما يفوق ستور الأرض.
وبها من النتاج العجيب من الخيل والبغال، والحمير ما يفوق نتاج أهل الدنيا، وليس في الدنيا فرس في نهاية الصورة في العنق غير الفرس المصري، وليس في الدنيا فرس لا يردف غير المصري، وسبب ذلك قصر ساقيه وبلاغة صدره وقصر ظهره. ويحكى أن الوليد عزم على إجراء الحلبة، فكتب إلى الأمصار أن يوجه إليه بخيار خيل كل بلد، فلما اجتمعت عرضت عليه، فمرت عليه المصرية، فلما رآها دقيقة العصب، لينة المفاصل والأعطاف، قال: هذه خيل ما عندها طائل، فقال له عمر بن عبد العزيز: وأين الخير كله إلا لهذه! فقال له: ما تترك تعصبك لمصر يا أبا حفص! فلما أجريت الخيل جاءت المصرية كلها سابقة ما خالطها غيرها.
قال: وبها زيت الفجل ودهن البلسان والأفيون والأبرميس وشراب العسل والبسر البرني الأحمر، واللبخ والخس والكبريت والشمع والعسل وخل الخمر والترمس، والجلبان والذرة والنبيذ والأترج الأبلق والفراريج الزبلية. وذكر أن مريم عليها السلام شكت إلى ربها قلة لبن عيسى، فألهمها أن غلت النيدة فأطعمته إياها.
وذكر بعضهم أن رهبان الشام لا يكادون يرون إلا عمشا من أكل العدس، ورهبان مصر سالمون من ذلك لأكلهم الجلبان.
_________
(1) في اللسان: "المرعز كالصوف، يخلص من بين شعر العنز".

(2/328)


والبقر الذي بمصر أحسن البقر صورة، وليس في الدنيا بقر أعظم خلقا منها، حتى إن العضو منها يساوي أكبر ثور من غيرها.
وبها الحطب الصنط والأبنوس الأبلق والقرط الذي تعلفه الدواب.
وذكر أنه يوقد بالحطب الصنط عشرين سنة في الكانون أو التنور، فلا يوجد له رماد طول هذه المدة.
وجيزتها في وقت الربيع من أحسن مناظر الدنيا.
وقال صاحب مباهج الفكر: يقال: إن بمصر سبعمائة وخمسين معدنًا، توجد بجبل المقطم: الذهب والفضة والخارصين والياقوت؛ إلا أنه لطيف جدًّا، يستعمل في الأكحال والأدوية، وفي أسوان يغاص على السنفاوح ومعدن الزمرد؛ وليس في الدنيا غيره، وبجبال القلزم المتصلة بجبل المقطم حجر المغناطيس.
ومن خصائص مصر بركة النطرون. وينبت في أرض مصر سائر ما ينبت في الأرض. انتهى.
وقال صاحب غرائب العجائب: بمصر بئر البلسم بالمطربة، يسقى بها شجر البلسان، ودهنه عزيز والخاصية في البئر؛ فإن المسيح عليه السلام اغتسل فيها، وليس في الدنيا موضع ينبت فيه البلسان إلا هذا الموضع، وقد استأذن الملك الكامل أباه العادل أن يزرعه فأذن له، ففعل ولم ينجح، ولم يخلص منه دهن، فسأل أباه أن يجري له ساقية من المطرية إليه، ففعل فلم ينجح.
قال: بأرض مصر حجر القيء، إذا أخذه الإنسان بيده غلب عليه الغثيان، حتى يتقيأ جميع ما في بطنه، فإن لم يلقه من يده خيف عليه التلف.
وقال الكندي: جعل الله مصر متوسطة الدنيا، وهي في الإقليم الثالث والرابع، فسلمت من حر الإقليم الأول والثاني، ومن برد الإقليم الخامس والسادس، فطاب

(2/329)


هواؤها وبقي حرها. وضعف حرها، وخف بردها، فسلم أهلها من مشاتي الجبال ومصائف عمان وصواعق تهامة، ودماميل الجزيرة وجرب اليمن، وطواعين الشام وغيلان العراق، وعقارب عسكر مكرم، وطلب البحرين وحمى خيبر، وأمنوا من غارات الترك، وجيوش الروم وطوائف العرب، ومكابرة الديلم، وسرايا القرامطة، وبثوق الأنهار، وقحط الأمطار، وقد اكتنفها معادن رزفها؛ وقرب تصرفها، فكثر خصبها، ورغد عيشها، ورخص سعرها.
وقال الجاحظ في مصر: إن أهلها يستغنون عن كل بلد، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا سور لغني أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا، وفيها ما ليس بغيرها، وهو حيوان السقنقور والنمس، ولولاه لأكلت الثعابين أهلها، وهو لها كقنافذ سجستان لأفاعيها، والسمك الرعاد والحطب الصنط الذي أوقد منه يوما أجمع ما وجد من رماده ملء كف، صلب العود، سريع الوقود، بطيءالخمود. ويقال: إنه الأبنوس؛ لكن البقعة قصرت عن الكتان، فجاء أحمر شديد الحمرة، ودهن البلسان، والأفيون وهو عصارة الخشخاش واللبخ، وهو ثمر في قدر اللوز الأخضر؛ إلا أن المأكول منه الظاهر، والأترج الأبلق والزمرد. وأهلها يأكلون صيد بحر الروم وبحر فارس طريًّا، وفي كل شهر من شهورها القبطية صنف من
المأكول والمشروب والمشموم، يوجد فيه دون غيره، فيقال: رطب توت، ورمان بابة، وموز هتور، وسمك كيهك، وماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بئونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى. وإن صيفها خريف، وشتاءها ربيع، وما يقطعه الحر في سائر البلاد من الفواكه يوجد فيها في الحر والبر؛ إذ هي في الإقليم الثالث والإقليم الرابع، فسلمت من حر الأول والثاني وبرد الخامس والسادس. ويقال: لو لم يكن من فضل

(2/330)


مصر إلا أنها تغني في الصيف عن الخيش والثلج وبطون الأرض، وفي الشتاء عن الوقود والفراء لكفاها.
ومما وصفت به أن صعيدها حجازي كحر الحجاز، ينبت النخل والدوم وهو شجر المقل، والعشر، والقرظ والإهليلج والفلف والخيار شنبر، وأسفل أرضها شامي يمطر مطر الشام، ويقع فيه الثلوج، وينبت التين والزيتون والعنب والجوز واللوز والفستق وسائر الفواكه، والبقول الرياحين وهي ما بين أربع صفات، فضة بيضاء أو مسكة (1) سوداء، أو زبرجدة خضراء أو ذهبة (2) صفراء، وذلك أن نيلها يطبقها فتصير كأنها فضة بيضاء، ثم ينضب عنها فتصير مسكة سوداء، ثم تزرع فتصير زبرجدة خضراء، ثم تستحصد فتصير ذهبة صفراء.
وحكى ابن زولاق في كتابه، أن أمير مصر موسى بن عيسى كان واقفًا بالميدان عند بركة الحبش، فالتفت يمينا وشمالا، وقال لمن معه من جنده: أترون ما أرى؟ قالوا: وما يرى الأمير؟ قال: أرى عجبًا، ما في شيء من الدنيا مثله، فقالوا: يقول الأمير، فقال: ارى ميدان أزهار، وحيطان نخل وبستان شجر، ومنازل سكنى، وجبانة أموات، ونهرًا عجاجًا وأرض زرع ومراعي ماشية، ومرابط خيل، وساحل بحر، وقانص وحش، وصائد سمك، وملاح سفينة، وحادي إبل، ومقابر (3) ورملا وسهلا وجبلا، فهذه سبعة عشر؛ مسيرها في أقل من ميل في ميل، ولهذا قال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي يصف الرصد الذي بظاهر مصر:
يا نزهة الرصد التي قد نزهت ... عن كل شيء خلا (4) في جانب الوادي
فذا غدير وذا روض وذا جبل ... فالضب والنون والملاح والحادي
_________
(1) المسكة: نوع من الطيب.
(2) كذا في ح، ط، وفي الأصل: "ذهبية".
(3) ط: "معاير"، وصوابه ما في الأصل.
(4) كذا في الأصل، وفي ط، ح: "حلا".

(2/331)


قال ابن فضل الله في المسالك: مملكة مصر من أجل ممالك الأرض لما حوت من الجهات المعظمة، والأرض المقدسة والمساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وقبور الأنبياء والطور والنيل والفرات؛ وهما من الجنة، وبها معدن الزمرد، ولا نظير له في أقطار الأرض. وحسب مصر فخرا ما تفردت به من هذا المعدن واستمداد ملوك الآفاق له منها، وبينه وبين قوص صمانية أيام بالسير المعتدل، والبجاة (1) تنزل حوله لأجل القيام بحفره، وهو في الجبل الآخذ على شرقي النيل في منقطع من البر لا عمارة عنده، ولا قريبا منه، والماء عنه مسيرة نصف يوم؛ وهذا المعدن في صدر مغارة طويلة في حجر أبيض منه، يضرب فيستخرج منه الزمرد؛ وهو كالعروق فيه.
قال: وأكثر محاسن مصر مجلوبة إليها؛ حتى بالغ بعضهم فقال: إن العناصر الأربعة مجلوبة إليها: الماء وهو النيل مجلوب من الجنوب، والتراب مجلوب من حمل الماء؛ وإلا فهي رمل محض لا ينبت، والنار لا توجد بها شجرتها وهو الصوان إلا إذا جلب إليها، والهواء لا يهب إليها إلا من أحد البحرين، إما الرومي وإما الخارج من القزم إليها.
وهي كثيرة الحبوب من القمح والشعير والفول، والحمص والعدس والبسلة واللوبيا والدخن والأرز، وبها الرياحين الكثيرة كالحبق (2) والآس والورد وغيرها، وبها الأترج والنارنج والليمون والحماض والكباد، والموز الكثير وقصب السكر الكثير والرطب والعنب، والتين والرمان والتوت والفرصاد والخوخ، واللوز والجميز والنبق والبرقوق والقراصيا والتفاح. وأما السفرجل والكمثرى فقليل؛ وكذلك الزيتون مجلوب إلا قليلا في الفيوم، وبها البطيخ الأصفر أنواع والأخضر والخيار والقثاء على أنواع، والقلقاس واللفت والجزر والقنبيط والفجل والبقول المنوعة.
_________
(1) البجاة: من القبائل التي كانت تسكن صعيد مصر.
(2) في القاموس: "الحبق، محركة: نبات طيب الرائحة، فارسية: الفوتنج، يشبه الثمام".

(2/332)


وبها أنواع الدواب من الخيل والبغال، والحمير والبقر والجاموس والغنم والمعز. ومما يوصف من دوابها بالجودة الحمر لفراهتها، والبقر والغنم لعظمها، وبها الأوز والدجاج والحمام، ومن الوحش الغزلان والنعام والأرنب؛ وأما من أنواع الطير فكثير كالكركي وغيره.
وأوسط الأسعار في غالب أوقاتها الإردب القمح بخمسة عشر درهما، والشعير بعشرة، وبقية الحبوب على هذا الأنموذج؛ وأما الأرز فيبلغ أكثر من ذلك، وأما اللحم فأقل سعره الرطل بنصف درهم.
ويعمل بمصر معامل كالتنانير، ويعمل بها البيض؛ ويوقد بنار يحاكي بها نار الطبيعة في حضانة الدجاجة البيض، ويخرج في تلك المعامل الفراريج، وهي معظم دجاجهم. وبها ما يستطاب من الألبان والأجبان، وبها العسل بمقدار متوسط بين الكثرة والقلة، وأما السكر فكثير جدًّا، وقيمته المعهودة على الغالب من السعر الرطل بدرهم ونصف، ومنها يجلب السكر إلى كثير من البلاد، وقد نسي بها ما كان يذكر من سكر الأهواز.
وبها الكتان المعدوم المثل المنقول منه، ومما يعمل من قماشه إلى أقطار الأرض.
ومبانيها بالحجر، وأكثرها بالطوب وأفلاق النخل والجريد. وخشب الصنوبر مجلوب إليهم من بلاد الروم في البحر، ويسمى عندهم النقي.
وبها المدارس والخوانق والربط والزوايا، والعمائر الجليلة الفائقة المعدومة المثل المفروشة بالرخام، المسقوفة بالأخشاب، والمدهونة الملمعة بالدهب واللازورد.
قال: وحاضرة مصر تشتمل على ثلاث مدن عظام: الفسطاط، وهو بناء عمرو بن العاص؛ وهي المسماة عند العامة بمصر العتيقة، والقاهرة بناها جوهر القائد لمولاه الخليفة المعز، وقلعة الجبل بناها قراقوش للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب، وأول من سكنها أخوه العادل. وقد اتصل بعض هذه الثلاثة ببعض بسور بناه قراقوش بها

(2/333)


إلَّا أنه قد تقطع الآن في بعض الأماكن، وهذا السور، هو الذي ذكره القاضي الفاضل في كتاب كتبه إلى السلطان
صلاح الدين، فقال: والله يحيي الموتى حتى يستدير بالبلدين نطاقه، ويمتد عليهما رواقه، فهما عقيلة ما كان معصمهما بغير سوار، ولا حضرهما ليجلي بلا منطقة نضار (1) .
قال: وبها المارستان المنصوري المعدوم النظير، لعظم بنائه وكثرة أوقافه. وبها البساتين الحسان والمناظر النزهة والآدار المطلة على البحر، وعلى الخلجاناة الممتدة فيه أوقات مدها.
وبها القرافة تربة عظمى لمدفن أهلها، وبها العمائر الضخمة، وهي من أحسن البلاد إبان ربيعها للغدر الممتدة من مقطعات النيل بها، وما يحفها من زرع أخرجت شطأها وفتقت أزهارها، وبها من محاسن الأشياء ولطائف الصنائع ما تكفي شهرته ومن الأسلحة، والقماش والزركش والمصوغ والكفت (2) وغير ذلك ما لا يكاد يعد تفردها به، والرماح التي لا يعمل في الدنيا أحسن منها. انتهى كلام ابن فضل الله.
وقال الكندي في فضل مصر: بمصر العجائب والبركات، فجلبها المقدس، ونيلها المبارك، وبها الطور الذي كلم الله عليه موسى؛ فإن أهل العلم ذكروا أن الطور من المقطم، وأنه داخل فيما وقع عليه القدس؛ قال كعب: كلم الله موسى عليه السلام من الطور إلى أطراف المقطم من القدس. وبها الوادي المقدس، وبها ألقى موسى عصاه، وبها فلق البحر لموسى، وبها ولد موسى وهارون، وبها ولد عيسى، وبها كان ملك يوسف، وبها النخلة التي ولدت مريم عيسى تحتها بريف من كورة أهناس، وبها اللبخة التي أرضعت عندها مريم عيسى بأشمون، فخرج من هذه اللبخة الزيت، وبها مسجد
_________
(1) ح، ط: "نصار" تحريف.
(2) الكفت: ما تطعم به أواني النحاس من الذهب والفضة.

(2/334)


إبراهيم، ومسجد يعقوب، ومسجد موسى، ومسجد يوسف، ومسجد مارية سرية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حفن (1) ، أوصت أن يبنى بها مسجد فبني، وبها مجمع البحرين وهو البرزخ الذي قال الله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} (2) وقال: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} (3) .
وقال غيره: لأهل مصر القلم المعروف بقلم الطير، وهو قلم البرابي، وهو قلم عجيب الحرف.
قال: ومصر عند الحكماء العالم الصغير، سليل العالم الكبير؛ لأنه ليس في بلد غني غريب إلا وفيها مثله وأغرب منه، وتفضل على البلدان بكثرة عجائبها ومن عجائبها النمس؛ وهو أقتل للثعابين بمصر من القنافد للأفاعي بسجستان.
وبمصر جبل يكتب بحجارته كما يكتب بالمداد، وجبل يؤخذ منه الحجر، فيترك في الزيت فيقد كما يقد السراج.
ويقال: إنه ليس على وجه الأرض نبت ولا حجر إلا وفي مصر مثله، وليس تطلب في سائر الدنيا الأموال المدفونة إلا بمصر.
ويقال: إن بمصر بقلة؛ من مسها بيده ثم مس السمك الرعاد لم ترعد يده، وبها حجر الخل يطفأ على الخل. وبها حجر القيء إذا أمسكه الإنسان بيديه تقيأ كل ما في بطنه، وبها خرزة تجعلها المرأة على حقوقها فلا تحبل. وبها حجر يوضع على حرف التنور فيتساقط خبزه، وكان يوجد بصعيدها حجارة رخوة تكسر فتقد كالمصابيح.
ومن عجائبها حوض كان بدلالات مدون من حجارة.
_________
(1) انظر فتوح مصر.
(2) الرحمن: 20.
(3) الفرقان: 53.

(2/335)


السبب في كون أهل مصر أذلاء يحملون الضيم:
قال محمد بن الربيع الجيزي: سمعت يحيى بن عثمان بن صالح، يقول: قدم سعد بن أبي وقاص في خلافة عثمان رسولا من قبل عثمان إلى أهل مصر أيام ابن أبي حذيفة، فلقوه خارجا من الفسطاط، ومنعوه من دخولها، فقال لهم: فلتسمعوا ما أقول لكم؛ فامتنعوا عليه، فدعا عليهم أن يضربهم الله بالذل. هذا معناه.
قلت: وسعد ممن عرف بإجابة الدعوة؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا له: "اللهم استجب له إذا دعاك".
في تذكرة الصلاح الصفدي: كان الشيخ تاج الدين الفزاري يقول: إن الحكماء وأهل التجارب ذكروا أن من أقام ببغداد سنة وجد في علمه زيادة، ومن أقام بالموصل سنة وجد في عقله زيادة، ومن أقام بحلب سنة وجد في نفسه شحًّا، ومن أقام بدمشق سنة وجد في طباعه غلظة وفظاظة، ومن أقام بمصر سنة وجد في أخلاقه رقةً وحسنًا.
في مباهج الفكر: يروى عن كعب، قال: لما خلق الله الأشياء، قال القتل: أنا لاحق بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك، وقال الخصب أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك، وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصحة: وأنا معك.
وقال محمد بن حبيب: لما خلق الله الخلق خلق معهم عشرة أخلاق: الإيمان والحياء والنجدة والفتنة والكبر، والنفاق والغنى (1) والفقر والذل والشقاء، فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء: وأنا معك، وقالت النجدة: أنا لاحقة بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك، وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النفاق: وأنا معك، وقال الغني: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك، وقال الفقر: أنا لاحق بالبادية، فقال الشقاء: وأنا معك.
_________
(1) في ط، ح: "الفناء"، تحريف.

(2/336)


وقال غيره: إن الله جعل البركة
عشرة أجزاء، فتسعة منها في قريش وواحد في سائر الناس، وجعل الكرم عشرة أجزاء فتسعة منها في العرب وواحد في سائر الناس، وجعل الغيرة عشرة أجزاء فتسعة منها في الأكراد وواحد في سائر الناس، وجعل المكر عشرة أجزاء، فتسعة منها في القبط وواحد في سائر الناس، وجعل الجفاء عشرة أجزاء، فتسعة منها في البربر وواحد في سائر الناس، وجعل النجابة عشرة أجزاء، فتسعة منها في الروم وواحد في سائر الناس، وجعل الصناعة عشرة أجزاء؛ فتسعة منها في الصين وواحد في سائر الناس، وجعل الشهوة عشرة أجزاء، فتسعة منها في النساء وواحد في سائر الناس، وجعل العمل عشرة أجزاء فتسعة منها في الأنبياء وواحد في سائر الناس، وجعل الحسد عشرة أجزاء، فتسعة منها في اليهود وواحد في سائر الناس.
ويحكى أن الحجاج سأل ابن القرية عن طبائع أهل الأرض، فقال: أهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم عنها؛ رجالها حفاة، ونساؤها عراة، وأهل اليمن أهل سمع وطاعة، ولزوم الجماعة، وأهل عمان عرب استنبطوا، وأهل البحرين قبط استعربوا، وأهل اليمامة أهل جفاء، واختلاف آراء. وأهل فارس أهل بأس شديد، وعز عتيد، وأهل العراق أبحث الناس عن صغيرة، وأضيعهم لكبيرة. وأهل الجزيرة أشجع فرسان، وأقتل للأقران. وأهل الشام أطوعهم لمخلوق وأعصاهم لخالق. وأهل مصر عبيد لمن غلب، أكيس الناس صغارًا، وأجهلهم كبارًا.
وعن ابن القرية قال: الهند بحر هادر، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر. وكرمان ماؤها وشل (1) ، وثمرها دقل (2) ، ولصها بطل. وخراسان ماؤها جامد، وعدوها جاهد. وعمان حرها شديد، وصيدها عتيد. والبحرين كناسة بين المصرين. والبصرة ماؤها ملح، وحربها صلح، مأوى كل تاجر، وطريق كل عابر. والكوفة ارتفعت عن
_________
(1) الوشل: الماء القليل.
(2) الدقل: أردأ التمر.

(2/337)


حر البحرين، وسفلت عن برد الشام، وواسط جنة، بين كماة وكنة، والشام عروس، بين نساء جلوس، ومصر هواؤها راكد، وحرها متزائد، تطول الأعمار، وتسود الأبشار.
وقال بعضهم: يقال في خصائص البلاد في الجوهر: فيروزج نيسابور، وياقوت سرنديب، ولؤلؤ عمان، وزبرجد مصر، وعقيق اليمن، وجزع (1) ظفار، وكاري بلخ، ومرجان إفريقية.
وفي ذوات السموم: أفاعي سجستان، وحيات أصبهان، وثعابين مصر، وعقارب شهر زور، وجرارات (2) ، الأهواز، وبراغيث أرمينية، وفار أردن، ونمل ميافارقين، وذباب تل بابان (3) ، وأوزاغ بلد (4) .
وفي الملابس برود اليمن، ووشي صنعاء، وريط (5) الشام وقصب مصر، وديباج الروم، وقز السوس، وحرير الصين، وأكسية فارس، وحلي البحرين وسقلاطون بغداد، وعمائم الأبلة، وملحم (6) مرو، وتكك أرمينية، ومناديل الدامغان، وجوارب قزوين.
وفي المراكيب: عتاق البادية، ونجائب الحجاز، وبراذين طخارستان، وحمير مصر، وبغال برزغة.
وفي الأمراض طواعين الشام، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وحمى خيبر، وجنون حمص، وعرق اليمن، ووباء مصر، وبرسام العراق، والنار الفارسية، وقروح بلخ.
وقال الجاحظ في كتاب الأمصار: الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والتخنيث
_________
(1) الجزع. الخرز اليماني.
(2) الجرارة: ضرب من العقارب الصغار؛ تجرر أذيالها.
(3) بابان: بلد بالبحرين.
(4) بلد، هي مرو الردذ، وانظر ياقوت.
(5) ربط: جمع ربطة، وهي الملاءة.
(6) الملحم: ضرب من الأكسية.

(2/338)


ببغداد، والطرمذة (1) بسمرقند والعي بالري، والجفاء بنيسابور، والحسن بهراة، والمروءة ببلخ، والبلح بمرو، والعجائب بمصر.
وقال غيره: قراطيس سمرقند لأهل المشرق كقراطيس مصر لأهل المغرب.
وقال القاضي الفاضل: أهل مصر على كثرة عددهم وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدأبون في البر، ومن العجائب شجرة العباس في دندار من صعيد مصر، وهي شجرة متوسطة، وأوراقها قصيرة منبسطة، فإذا قال الإنسان: يا شجرة العباس، جال الناس، تجتمع أوراقها، وتحترق لوقتها.
_________
(1) المطرمذ: الذي يقول ما لا يفعل.

(2/339)