حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة
ذكر النيل:
مدخل
قال التيفاشي في كتاب سجع الهديل: لم يسم نهر من الأنهار في القرآن سوى
النيل في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ
أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} (1)
قال: أجمع المفسرون على أن اليم هنا نيل مصر.
أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: "النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة".
قال ابن عبد الحكم (2) : حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، عن يزيد
بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن كعب الأحبار، أنه كان يقول: أربعة أنهار
من الجنة وضعها الله في الدنيا؛ فالنيل نهر العسل في الجنة والفرات نهر
الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في
الجنة. أخرجه الحارث في مسنده والخطيب في تاريخه.
وقال: حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن وهب بن عبد الله
المعافري، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، أنه قال: نيل مصر سيد
الأنهار، سخر الله له كل نهر بالمشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجري
نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له
الأرض عيونا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله، أوحى الله إلى كل ماء
أن يرجع إلى عنصره (3) . أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره.
وقال: حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن
معاوية بن أبي سفيان سأل كعب الأحبار: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله
خبرا؟ قال:
_________
(1) القصص: 7.
(2) فتوح مصر 149، 105.
(3) فتوح مصر 149.
(2/340)
أي والذي فلق البحر لموسى، إني لأجده في
كتاب الله يوحى إليه في
كل عام مرتين، يوحى إليه عند جريه: إن الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب
الله، ثم يوحى إليه بعد ذلك: يا نيل عد (1) حميدًا (2) .
وأخرج الخطيب في تاريخه وابن مردويه في تفسيره والضياء المقدسي في صفة
الجنة عن ابن عباس مرفوعًا: أنزل الله تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة
أنهار: سيحون، وجيحون، ودجلة، والفرات والنيل؛ أنزلها الله من عين
واحدة من عيون الجنة، من أسفل درجة من درجاتها، على جناحي جبريل،
واستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس، فذلك قوله
تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ
فِي الْأَرْضِ} (3) ، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، أرسل الله
جبريل، فرفع من الأرض القرآن والعلم والحجر من البيت، ومقام إبراهيم
وتابوت موسى بما فيه؛ وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء؛
فذلك قوله: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (3) ، فإذا
رفعت هذه الأشياء من الأرض عدم أهلها خيرها.
وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن عبد الحكم في تاريخ مصر،
والخطيب في تاريخ بغداد، والبيهقي في البعث عن كعب الأحبار، قال: "نهر
النيل العسل في الجنة، ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة، ونهر الفرات نهر
الخمر في الجنة، ونهر سيحان نهر الماء في الجنة" (4) .
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: غار
النيل على عهد فرعون، فأتاه أهل مملكته، فقالوا: أيها الملك أجر لنا
النيل، قال: إني لم أرض عنكم، فذهبوا ثم أتوه، فقالوا: أيها الملك، أجر
لنا النيل، قال: إني لم أرض عنكم، فذهبوا ثم أتوه، فقالوا: أيها الملك
ماتت البهائم، وهلكت الأبكار، لئن لم
_________
(1) فتوح مصر: "غز".
(2) فتوح مصر 239.
(3) المؤمنون: 18.
(4) فتوح مصر: 150.
(2/341)
تجر لنا النيل لنتخذن إلهًا غيرك، قال:
اخرجوا إلى الصعيد، فخرجوا فتنحى عنهم حيث لا يرونه، ولا يسمعون كلامه،
فألصق خده بالأرض، وأشار بالسبابة لله، ثم قال: اللهم إني خرجت إليك
مخرج العبد الذليل إلى سيده، وإني أعلم أنه لا يقدر على إجرائه أحد
غيرك فأجره. قال: فجرى النيل جريًا لم يجر قبله مثله، فأتاهم فقال: إني
قد أجريت لكم النيل، فخروا له سجدا، وعرض له جبريل، فقال: أيها الملك
أعدني على عبدي، قال: وما قصته؟ قال: عبد لي ملكته على عبيدي، وخولته
مفاتيحي، فعاداني، فأحب من عاديت، وعادى من أحببت، قال: بئس العبد
عبدك! لو كان لي عليه سبيل لغرقته في بحر القلزم! فقال: يا أيها الملك،
اأكتب لي كتابًا، فدعا بكتاب ودواة: ما جزاء العبد الذي خالف سيده فأحب
من عادى وعادى من أحب إلا أن يغرق في بحر القلزم. قال: يا أيها الملك
اختمه لي، فختمه ثم دفعه إليه، فلما كان يوم البحر، أتاه جبريل
بالكتاب، فقال: خذ هذا ما حكمت به على نفسك.
(2/342)
أثر متصل الإسناد في
أمر النيل:
أخبرني أبو الطيب الأنصاري إجازة، عن الحافظ أبي الفضل عبد الرحيم بن
الحسين العراقي، عن أبي الفتح محمد بن محمد الميدومي، أخبرتنا أمة الحق
شامية بنت الحافظ صدر الدين الحسن بن محمد بن محمد سماعا، أخبرنا أبو
حفص عمر بن طبرزد سماعًا، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد
السمرقندي، وغيره سماعا، قالوا: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن
القنور سماعا، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحيم المخلص سماعًا،
أخبرنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن عيسى السكري، حدثنا أبو إسماعيل
محمد بن إسماعيل الترمذي، وأبو بكر محمد بن صالح بن عبد الرحمن الحافظ
الأنماطي، قالا: حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح بن محمد، كاتب الليث،
قال: حدثني الليث بن سعد، قال: بلغني أنه كان رجل من بني العيص يقال
له: حائد بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، خرج
هاربًا من ملك من ملوكهم؛ حتى دخل أرض مصر، فأقام بها سنين، فلما رأى
أعاجيب نيلها وما يأتي به، جعل الله تعالى عليه ألَّا يفارق ساحلها حتى
يبلغ منتهاه؛ من حيث يخرج أو يموت قبل ذلك، فسار عليه -قال بعضهم: سار
(1) ثلاثين سنة في الناس وثلاثين في غير الناس. وقال بعضهم: خمسة عشر
كذا، وخمسة عشر كذا- حتى انتهى إلى بحر أخضر، فنظر إلى النيل ينشق
مقبلًا، فصعد على البحر، فإذا رجل قائم يصلي تحت شجرة من تفاح، فلما
رآه استأنس به، وسلم عليه، فسأله الرجل صاحب الشجرة، فقال له: من أنت؟
قال: أنا حامد (2) بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه
السلام، فمن أنت؟ قال: أنا عمران بن فلان بن العيص بن إسحاق بن
إبراهيم، قال: فما الذي جاء بك إلى هنا يا عمران؟ قال: جاء بي الذي جاء
بك، حتى انتهيت إلى هذا الموضع؛ فأوحى الله إلي أن أقف في هذا الموضع،
حتى يأتيني أمره،
_________
(1) ساقط من ط.
(2) ط، ح: "حائد".
(2/343)
قال له حامد: أخبرني يا عمران، ما انتهى
إليك من أمر هذا النيل؟ وهل
بلغك في الكتب أن أحدًا من بني آدم يبلغه؟ قال له عمران: نعم، بلغني أن
رجلا من بني العيص يبلغه، ولا أظنه غيرك يا حامد، قال له حائد: يا
عمران، أخبرني كيف الطريق إليه؟ قال له عمران: لست أخبرك بشيء إلا أن
تجعل لي ما أسألك! قال: وما ذاك يا عمران؟ قال: إذا رجعت إلي وأنا حي
أقمت عندي حتى يوحي الله تعالى إلي بأمره، أو يتوفاني فتدفنني؛ فإن
وجدتني ميتًا دفنتني وذهبت، قال: ذلك لك علي، قال له: سر كما أنت على
هذا البحر؛ فإنك تأتي دابة ترى آخرها ولا ترى أولها، فلا يهولنك أمرها،
اركبها؛ فإنها دابة معادية للشمس، إذا طلعت أهوت إليها لتلتقمها حتى
يحول بينها وبينها حجبتها، وإذا غربت أهوت إليها لتلتقمها؛ فتذهب بك
إلى جانب البحر، فسر عليها راجعًا حتى تنتهي إلى النيل، فسر عليه، فإنك
ستبلغ أرضًا من حديد، جبالها وأشجارها وسهولها من نحاس، فإن أنت جزتها
وقعت في أرض من فضة؛ جبالها وأشجارها وسهولها من فضة، فإن أنت جزتها
وقعت في أرض من ذهب جبالها وأشجارها وسهولها من ذهب، فيها ينتهي إليك
علم النيل.
فسار حتى انتهى إلى أرض الذهب، فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب
شرفة من ذهب، وقبة من ذهب، لها أربعة أبواب؛ فنظر إلى ما ينحدر من فوق
ذلك السور حتى يستقر في القبة ثم ينصرف في الأبواب الأربعة؛ فأما ثلاثة
فتغيض في الأرض، وأما واحد فيسير على وجه الأرض؛ وهو النيل. فشرب منه
واستراح، وأهوى إلى السور ليصعد، فأتاه ملك فقال له: يا حامد قف مكانك،
فقد انتهى إليك علم هذا النيل؛ وهذه الجنة؛ وإنما ينزل من الجنة، فقال:
أريد أن أنظر إلى الجنة، فقال: إنك لن تستطيع دخولها اليوم يا حامد،
قال: فأي شيء هذا الذي أرى؟ قال:
(2/344)
هذا الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر، وهو
شبه الرحا، قال: إني أريد ان اركبه فأدور فيه- فقال بعض العلماء: إنه
قد ركبته؛ حتى دار الدنيا وقال بعضهم: لم يركبه- فقال له يا حامد: إنه
سيأتيك من الجنة رزق، فلا تؤثر عليه شيئًا من الدنيا، فإنه لا ينبغي
لشيء من الجنة أن يؤثر عليه شيء من الدنيا عن لم تؤثر عليه شيئًا من
الدنيا بقي ما بقيت.
قال: فبينا هو كذلك واقف، إذ نزل عليه عنقود من عنب فيه ثلاثة أصناف
لون كالزبرجد الأخضر، ولون كالياقوت الأحمر، ولون كاللؤلؤ الأبيض، ثم
قال له: يا حامد، أما إن هذا من حصرم الجنة، وليس من طيب عنبها، فارجع
يا حامد، فقد انتهى إليك علم النيل، فقال: هذه الثلاثة التي تغيض في
الأرض، ما هي؟ قال: أحدهما الفرات، والآخر دجلة، والآخر جيحان، فارجع.
فرجع حتى انتهى إلى الدابة التي ركبها، فركبها، فلما أهوت الشمس لتغرب
قذفت به من جانب البحر، فأقبل حتى انتهى إلى عمران، فوجده ميتًا فدفنه،
وأقام على قبره ثلاثا، فأقبل شيخ متشبه بالناس أغر من السجود، ثم أقبل
إلى حامد، فسلم عليه، ثم قال له: يا حامد، ما انتهى إليك من علم هذا
النيل؟ فأخبره، فلما أخبره، قال له: هكذا نجده في الكتب، ثم أطرى (1)
ذلك التفاح في عينيه، وقال: ألا تأكل منه؟ قال: معي رزقي، قد أعطيته من
الجنة ونهيت أن أوثر شيئًا من الدنيا، قال: صدقت يا حامد، هل ينبغي
لشيء من الجنة أن يؤثر بشيء من الدنيا، وهل رأيت في الدنيا مثل هذا
التفاح؟ إنما أنبتت له في الأرض ليس من الدنيا، وإنما هذه الشجرة من
الجنة، أخرجها الله لعمران يأكل منها، وما تركها إلا لك، ولو قد وليت
عنها رفعت، فلم يزل يطريها في عينيه، حتى أخذ منها تفاحة، فعضها، فلما
عضها عض
_________
(1) ح، ط: "طرى"، وما أثبته من الأصل.
(2/345)
يده، ثم قال: أتعرفه؟ هو الذي أخرج أباك من
الجنة؛ أما إنك لو سلمت بهذا الذي كان معك لأكل منه أهل الدنيا قبل أن
ينفد، وهو مجهودك إن تبلغه فكان مجهوده أن بلغه.
وأقبل حامد حتى دخل أرض مصر، فأخبرهم بهذا؛ فمات حامد بأرض مصر.
وبهذا الإسناد إلى عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة عن وهب بن عبد
الله المعافري، عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} (1) قال: كانت
الجنان بحافتي هذا النيل، من أوله إلى آخره في الشقين جميعا من أسوان
إلى رشيد، وكان له سبعة خلج: خليج
الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج
المنهى وخليج سخا، متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، ويزرع ما بين
الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء، وكانت جميع مصر كلها
يومئذ تروى من ستة عشر ذراعا.
وبهذا الإسناد إلى ابن لهيعة، وعن يزيد بن أبي حبيب؛ أنه كان على نيل
مصر فرضة لحفر خليجها، وإقامة جسورها وبناء قناطرها، وقطع جزائرها مائة
ألف وعشرون ألف فاعل، معهم الطور والمساحي والأداة، يعتقبون ذلك، لا
يدعون ذلك شتاء ولا صيفا.
وذكر بعض الإخباريين أن حامدًا هذا لم يتنبأ، وأنه أوتي الحكمة، وأنه
سأل الله أن يريه منتهى النيل، فأعطي قوة على ذلك، فوصل إلى جبل القمر،
وقصد أن يطلع إلى أعلاه، فلم يقدر؛ فسأل الله فيسره عليه، فصعد فرأى
خلفه البحر الزفتي، وهو بحر أسود منتن الريح مظلم، فرأى النيل يجري في
وسطه؛ كأنه السبيكة الفضة.
وقال صاحب مباهج الفكر: ذكر أبو الفرج قدامة أن مجموع ما في المعمور من
_________
(1) الشعراء 57، 58.
(2/346)
الأنهار مائتان وثمانية وعشرون نهرا؛ منها
ما يجري من المشرق إلى المغرب، ومنها ما يجري من الشمال إلى الجنوب،
ومنها ما جريانه كنهر النيل من الجنوب إلى الشمال، ومنها هو مركب من
هذه الجهات كالفرات وجيحون؛ فأما النيل فذكر قدامة أن انبعاثه من جبل
القمر وراء خط الاستواء من عين تجري منها عشرة أنهار؛ كل خمسة منها يصب
إلى بطيحة (1) كبيرة في الإقليم الأول، ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل
(2) .
وذكر صاحب كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" أن هذه البحيرة تسمى
بحيرة كورى منسوبة لطائفة من السودان، يسكنون حولها متوحشين يأكلون من
وقع إليهم من الناس (3) ، فإذا خرج النيل منها يشق بلاد كورى ثم بلاد
ننه "طائفة
من السودان"، بين كانم (4) والنوبة، فإذا بلغ دنقلة مدينة النوبة عطف
من غربيها إلى المغرب، وانحدر إلى الإقليم الثاني، فيكون على شطئه (5)
عمارة النوبة، وفيه هناك جزائر متسعة عامرة بالمدن والقرى، ثم يشرق (6)
إلى الجنادل، وإليها تنتهي مراكب النوبة انحدارًا، ومراكب الصعيد
الأعلى صعودًا (7) وهناك أحجار مضرسة لا مرور للمراكب عليها إلا في
أيام (8) زيادة النيل، ثم يأخذ إلى الشمال، فيكون على شرقيه مدينة
أسوان من الصعيد الأعلى، ثم يمر بين جبلين مكتنفين (9) لأعمال مصر شرقي
وغربي إلى الفسطاط (10) ، فإذا تجاوزها مسافة يوم انقسم إلى قسمين
أحدهما يمر حتى يصب في بحر الروم "عند دمياط، ويسمى بحر الشرق والآخر
وهو عمود النيل، ومعظمه يمر إلى أن يصب" (11) عند رشيد، ويسمى بحر
الغرب، ومسافة النيل من منبعه إلى
_________
(1) الطيحة: مسيل الماء، وفي ط: "البطخة"، تحريف.
(2) نقله في نهاية الأرب 1: 262.
(3) بعدها في نهاية الأرب: "ومن هذه البحيرة يخرج نهر غانة ونهر
الحبشة".
(4) ط: "كانم".
(5) نهاية الأرب: "شطه".
(6) ح، ط: "يشرف".
(7) نهاية الأرب: "انحدارا".
(8) نهاية الأرب: "إبان".
(9) ح: "يكتنفان".
(10) بعدها في نهاية الأرب: "حتى يأتي مدينة مصر فتكون في شرقيه".
(11) من نهاية الأرب.
(2/347)
أن يصب في رشيد سبعمائة فرسخ وثمانية
وأربعون فرسخا.
وقيل: إنه يجري في الخراب أربعة أشهر، وفي بلاد السودان شهرين، وفي
بلاد الإسلام شهرا، وليس في الأرض نهر يزيد حين تنقص الأنهار غيره؛
وذلك أن زيادته تكون في القيظ الشديد في شمس السرطان والأسد والسنبلة.
وروي أن الأنهار تمده بمائها.
وقال قوم: عن زيادته من ثلوج يذيبها الصيف وعلى حسب مدها تكون كثرته
وقلته (1) .
وذهب آخرون إلى أن زيادته بسبب أمطار كثيرة تكون ببلاد الحبشة.
وذهب آخرون إلى أن زيادته عن اختلاف الريح، وذلك أن الشمال إذا هبت
عاصفة يهيج البحر الرومي، فيدفع إليه ما فيه منه، فيفيض على وجه الأرض،
فإذا هبت الجنوب سكن هيجان البحر، فيستريح منه ما دب إليه، فينقص.
وزعم آخرون أن زيادته من عيون على شاطئه، يراها من سافر ولحق أعاليه.
وقال آخرون: إن مجراه من جبال الثلج، وهي بجبل قاف، وأنه يخرق البحر
الأخضر، ويمر على معادن الذهب والياقوت والزمرد والمرجان، فيسير ما شاء
الله إلى أن يأتي إلى بحيرة الزنج. قالوا: ولولا دخوله في البحر الملح،
وما يختلط به منه لم يستطع شربه لشدة حلاوته وزيادته بتدريج وترتيب في
زمان مخصوص مدة معلومة، وكذا نقصه ومنتهى زيادته التي يحصل بها الري
الأرض مصر ستة ذراعا، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا، فإن زاد على الستة
عشر ذراعا إصبعا واحدًا ازداد في الخراج مائة ألف دينار لما يروى من
الأراضي العالية.
والغاية القصوى في الزيادة ثمانية عشر ذراعًا؛ هذا في مقياس مصر، فإذا
انتهى فيه
_________
(1) نهاية الأرب 1: 262، 263.
(2/348)
إلى ذلك كان في الصعيد الأعلى واثنين
وعشرين ذراعا، لارتفاع البقاع التي يمر عليها، ويسوق الري إليها، فإذا
انتهت زيادته فتحت خلجانات وترع، فيخرج الماء يمينًا وشمالا إلى الأرض
البعيدة عن مجرى النيل؛ حكمة دبرت بالعقول السليمة وقدرت، ومنافع مهدت
في الزمن القديم وقررت.
وللنيل ثماني خلجانات: خليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج
المنهى -حفره يوسف عليه السلام- وخليج أشموم طناح، وخليج سردوس -حفره
هامان لفرعون- وخليج سخا، وخليج حفره عمرو بن العاصي زمن عمر بن
الخطاب. ويحصل لأهل مصر يوم وفائه الستة عشر ذراعا التي هي قانون الري
سرور شديد بحيث يركب الملك في خواص دولته الحراريق المزينة إلى
المقياس، ويمد فيه سماطا ويخلق العمود الذي يقاس فيه، ويخلع على
القياس، ويعطيه صلة مقررة له.
وقد ذكر بعض المفسرين أنه يوم الزينة، الذي وعد فرعون موسى بالاجتماع
فيه.
هذا كله كلام مباهج الفكر (1) .
وقد اختلف في ضبط جبل القمر، فقيل: إنه بفتح القاف والميم بلفظ أحد
النيرين.
قال التيفاشي: وإنما سمي بذلك؛ لأن العين تقمر منه، إذا نظرت إليه لشدة
بياضه. قال: ولذلك أيضا سمى القمر قمرا. قال: وهذا الجبل مستطيل من
المشرق إلى المغرب، نهايته في ناحية المغرب إلى حد الخراب، ونهايته في
المشرق إلى مثل ذلك، وهو نفسه بجملته في الخراب من ناحية الجنوب، وله
أعراق في الهواء، منها طوال ومنها دونها.
قال في مختصر المسالك: وذكر بعضهم أن أناسًا انتهوا إلى هذا الجبل
وصعدوه،
_________
(1) نقله صاحب نهاية الأرب 1: 264.
(2/349)
فرأوا وراءه بحرًا ماؤه أسود كالليل، يشقه
نهر أبيض كالنهار، يدخل الجبل من جنوبه، ويخرج من شماله، ويتشعب على
قبة هرمس المبنية هناك.
وزعموا أن هرمس الهرامسة -وهو إدريس عليه السلام فيما يقال- بلغ ذلك
الموضع، وبنى فيه قبة.
وذكر بعضهم أن أناسًا صعدوا الجبل، فصار الواحد منهم يضحك، ويصفق
بيديه، وألقى نفسه إلى ما وراء الجبل، فخاف البقية أن يصيبهم مثل ذلك،
فرجعوا.
وقيل: إن أولئك إنما رأوا حجر الباهت، وهي أحجار براقة كالفضة البيضاء
تتلألأ، كل من نظرها ضحك والتصق بها حتى يموت، ويسمى مغناطيس الناس.
وذكر بعضهم ان ملكا من ملوك مصر الأول، جهز أناسا للوقوف على أول
النيل، فانتهوا إلى جبال من نحاس، فلما طلعت عليها الشمس انعكست عليها،
فأحرقتهم.
وقيل: إنهم انتهوا إلى جبال براقة لماعة كالبلور، فلما انعكست عليهم
أشعة الشمس الواقعة عليهم أحرقتهم.
وقال صاحب مرآة الزمان: ذكر أحمد بن بختيار أن العين التي هي أصل
النيل، هي أول العيون من جبل القمر، ثم نبعث منها عشرة أنهار، نيل مصر
أحدهما، قال: والنيل يقطع الإقليم الأول، ثم يجاوزه إلى الثاني، ومن
ابتدائه، من
جبل القمر إلى انتهائه إلى البحر الرومي، ثلاثة آلاف فرسخ، ويبتدي
بالزيادة في نصف حزيران، وينتهي إلى أيلول.
قال: واختلفوا في سبب زيادته، فقال قوم: لا يعلم ذلك إلا الله.
وقال آخرون: سببه زيادة عيونه.
وقال آخرون، وهو الظاهر: سببه كثرة المطر والسيول ببلاد الحبش والنوبة،
(2/350)
وإنما يتأخر وصوله إلى الصيف لبعد المسافة.
ورد ذلك قوم بأن عيونه التي تحت جبل القمر تتكدر في أيام زيادته، فدل
على أنه فعل الله من غير زيادة بالمطر. قال: وجميع الأنهار تجري إلى
القبلة سواه، فإنه يجري إلى ناحية الشمال. وكان القاضي بحماه قال: ومتى
بلغ ستة عشر ذراعا استحق السلطان الخراج، وإذا بلغ ثمانية عشر ذراعا
قالوا: يحدث بمصر وباء عظيم، وإذا بلغ عشرين ذراعا مات ملك مصر.
وقال ابن المتوج: من عجائب مصر النيل الذي يأتي من غامض علم الله في
زمن القيظ، فيعم البلاد سهلًا ووعرًا، ويبعث الله في أيام مدده الريح
الشمال فيصد له البحر المالح، ويصير له كالجسر، ويزيد. وإذا بلغ الحد
الذي هو تمام الري وأوان الزراعة، بعث الله بالريح الجنوب فكنسته،
وأخرجته إلى البحر الملح، وانتفع الناس بالزراعة.
ومن عجائب هذا النيل سمكة تسمى الرعاد (1) من مسها بيده، أو بعود متصل
بيده أو جذب شبكة هي فيها، أو قصبة أو سنارة وقعت فيها رعدت يده ما
دامت فيها، وبمصر بقلة من مسها بيده، ثم مس الرعاد لم ترعد.
وفي النيل خيل تظهر في بلد النوبة، ويصيدونها، وفي سنة من أسنانها شفاء
من وجع المعدة.
وقال التيفاشي: سبب زيادة النيل هبوب ريح يسمى الملثن، وذلك لسببين
أحدهما أنها تحمل السحاب الماطر خلف خط الاستواء، فتمطر ببلاد السودان
والحبشة والنوبة، والآخر أنها تأتي في وجه البحر الملح، فيقف ماؤه في
وجه
النيل، فيتراجع حتى يروي البلاد. وفي ذلك يقول الشاعر:
اشفع فللشافع أعلى يد ... عندي وأسنى من يد المحسن
والنيل ذو فضل ولكنه ... الشكر في ذلك للملثن
وقال صاحب سجع الهديل: ذكر جماعة من المنجمين وأرباب الهيئة أن النيل
يجيء
_________
(1) معجم البلدان 8/ 365.
(2/351)
من خلف خلف الاستواء بإحدى عشرة درجة ونصف،
ويأخذ نحو الجنوب إلى أن ينتهي إلى دمياط والإسكندرية وغيرهما عند عرض
ثلاثين في الشمال، قالوا: فمن بدايته إلى نهايته اثنتان وأربعون ومائة
درجة؛ كل درجة ستون ميلا وثلث بالتقريب، فيكون طوله من الموضع الذي
يبتدئ منه إلى الموضع الذي منه إلى البحر الملح ثمانية ألف ميل،
وستمائة وأربعة عشر ميلا وثلثا ميل على القصد والاستواء، وله تعريجات
شرقًا وغربًا، يطول بها ويزيد على ما ذكرناه.
ونقلت من خط الشيخ عز الدين بن جماعة من كتاب له في الطب، قال: منبع
النيل من جبل القمر وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة ونصف، وامتداد
هذا الجبل خمس عشرة درجة وعشرون دقيقة، يخرج منه عشرة أنهار من أعين
فيه ترمي كل خمسة إلى بحيرة عظيمة مدورة بعد مركزها عن أول العمارة
بالمغرب سبع وخمسون درجة، والبعد عن خط الاستواء في الجنوب سبع درج
وإحدى وثلاثون دقيقة، وهاتان البحيرتان متساويتان، وقطر كل واحدة خمس
درج، ويخرج من كل واحدة أربعة أنهار ترمي إلى بحيرة صغير مدورة في
الإقليم الأول بعد مركزها عن أول العمارة بالمغرب ثلاث وخمسون درجة
وثلاثون دقيقة، وعن خط الاستواء من الشمال درجتان من الإقليم الأول،
وقطرها درجتان، ومصب كل واحد من الأنهار الثمانية في هذه البحيرة غير
مصب الآخر، ثم يخرج من البحيرة نهر واحد؛ وهو نيل مصر، ويمر ببلاد
النوبة، ويصب إليه نهر آخر ابتداؤه من غير مركزها على خط الاستواء، في
بحيرة كبيرة مستديرة قطرها ثلاثة درج، وبعد مركزها عن أول العمارة
بالمغرب إحدى وسبعون درجة، فإذا تعدى النيل مدينة مصر إلى مدينة يقال
لها: شطنوف، تفرق هناك إلى نهرين يرميان إلى البحر المالح أحدهما يعرف
ببحر رشيد، والآخر بحر دمياط، وهذا البحر إذا وصل إلى المنصورة تفرع
منه نهر يعرف ببحر أشمون، يرمي إلى بحيرة هناك وباقيه إلى البحر المالح
عند دمياط، وهذه صورة ذلك:
(2/352)
وذكر الجاحظ في كتاب الأمصار، أن مخرج نهر
السند والنيل من موضع واحد، واستدل على ذلك اتفاق زيادتهما، وكون
التمساح فيهما، وأن سبيل زراعتهم في البلدين واحد.
وقال المسبحي في تاريخ مصر: في بلاد تكنة أمة من السودان أرضهم تنبت
الذهب، يفترق النيل فيصير نهرين أحدهما أبيض وهو نيل مصر، والآخر أخضر
يأخذ إلى المشرق فيقطع البحر الملح إلى بلاد السند، وهو نهر ميران.
قال ابن عبد الحكم: حدثنا عثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، عن قيس بن
الحجاج، عمن حدثه، قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر، أتى أهلها إليه حين
دخل بؤونة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنة
لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان لثنتي عشرة ليلة
تخلو من هذا الشهر، عَمَدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها،
وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا
النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما
قبله، فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى لا يجري قليلا ولا كثيرا، حتى هموا
بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه
عمر: قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك بطاقة (1)
فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي. فلما قدم الكتاب على عمرو، فتح
البطاقة فإذا فيها:
من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري من قبلك،
فلا تجر، وإن كان الواحد القهار يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن
يجريك.
فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيا أهل مصر
للجلاء
_________
(1) فتوح مصر: "بطاقة".
(2/353)
والخروج منها؛ لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها
إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعا، وقد زالت
تلك السنة السوء عن أهل مصر (1) .
حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن موسى
عليه السلام دعا على آل فرعون، فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء
حتى طلبوا إلى موسى أن يدعو الله رجاء أن يؤمنوا، فدعا الله، فأصبحوا
وقد أجراه الله في تلك الليلة ستة عشر ذراعا. فاستجاب الله بتطوله لعمر
بن الخطاب كما استجاب لنبيه موسى عليه السلام (2) .
ذكر مزايا النيل:
قال التيفاشي: اتفق العلماء على أن النيل أشرف الأنهار في الأرض
لأسباب:
منها عموم نفعه، فإنه لا يعلم نهر من الأنهار في جميع الأرض المعمورة
يسقي ما يسقيه النيل.
ومنها الاكتفاء بسقيه، فإنه يزرع عليه بعد نضوبه، ثم لا يسقى الزرع حتى
يبلغ منتهاه؛ ولا يعلم ذلك في نهر سواه.
ومنها أن ماءه أصح المياه وأعدلها وأعذبها وأفضلها.
ومنها مخالفته أنهار الأرض في خصال هي منافع فيه، ومضار في غيره.
ومنها أنه يزيد عند نقص سائر المياه، وينقص عند زيادتها؛ وذلك أوان
الحاجة إليه.
ومنها أنه يأتي أرض مصر في أوان اشتداد القيظ، والحر ويبس الهواء وجفاف
_________
(1) فتوح مصر: 150.
(2) فتوح مصر: 151.
(2/354)
الأرض، فيبل الأرض، ويرطب الهواء، ويعدل
الفصل تعديلا زائدا.
ومنها أن كل نهر من الأنهار العظام، وإن كل فيه منافع، فلا بد أن
يتبعها مضار في أوان طغيانه بإفساد ما يليه ونقص ما يجاوره، والنيل
موزون على ديار مصر بوزن معلوم، وتقدير مرسوم لا يزيد عليه، ولا يخرج
عن حده {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (1) .
ومنها أن المعهود في سائر الأنهار أن يأتي من جهة المشرق إلى المغرب،
وهو يأتي من جهة المغرب إلى الشمال، فيكون فعل الشمس فيه دائمًا،
وأثرها في
إصلاحه متصلا ملازما؛ وفي ذلك يقول الشاعر:
مصر ومصر ماؤها عجيب ... ونهرها يجري به الجنوب
ومنها أن كل الأنهار يوقف على منبعه وأصله، والنيل لا يوقف له على أصل
منبع. وليس في الدنيا نهر يصب في بحر الصين والروم غيره؛ وليس في
الدنيا نهر يزيد ثم يقف، ثم ينقص ثم ينضب على الترتيب والتدريج غيره؛
وليس في الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل، ولا يجيء من خراج غلة
زرعه ما يجيء من خراج غلة زرع النيل.
قال صاحب مباهج الفكر: النيل أخف المياه وأحلاها، وأرواها وأمراها،
وأعمها نفعا، وأكثرها خراجا؛ ويحكى أنه جبي في أيام كنعاوس؛ أحد ملوك
القبط الأول مائة ألف ألف وثلاثون ألف دينار، وجباه عزيز مصر مائة ألف
ألف دينار، وجباه عمرو بن العاص اثني عشر ألف ألف دينار، وجباه عبد
الله بن أبي سرح أربعة عشر ألف ألف دينار، ثم رذل إلى أن جبي أيام جوهر
القائد ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف دينار؛ وسبب تقهقره أن الملوك لم
تسمح نفوسهم بما كان ينفق في الرجال الموكلين
_________
(1) الأنعام: 96.
(2/355)
لحفر خلجه وإصلاح جسوره، ورم قناطره، وسد
ترعه، وقطع القضب وإزالة الحلفاء؛ وكانوا مائة ألف وعشرين ألف رجل
مرتبين على كور مصر سبعين ألفًا للصعيد، وخمسين ألفا لأسفل الأرض.
ويحكى أنها مسحت أيام هشام بن عبد الملك، فكان ما يركبه الماء مائة ألف
ألف فدان، والفدان أربعمائة قصبة والقصبة عشرة أذرع.
وأما أحمد بن المدبر، فإنه اعتبر ما يصلح للزرع بمصر في وقت ولايته،
فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان، والباقي قد استبحر وتلف، واعتبر مدة
الحرث فوجدها ستين يوما، والحراث الواحد يحرث خمسين فدانا، فكانت
محتاجة إلى أربعمائة ألف وأربعين ألف حراث.
وقال صاحب مرآة الزمان: ذكر أحمد بن بختيار أن في الليل عجائب منها
التمساح، ولا يوجد إلا فيه، ويسمى في مصر التمساح، وفي بلاد النوبة
الورل، ووراء النوبة الشوشار.
قال: والتمساح لا دبر له، وما يأكله يتكون في بطنه دودا، فإذا آذاه خرج
إلى البرية فينقض عليه طائر فيأكل ما بين أسنانه، وما يظهر من الدود،
وربما يطبق عليه التمساح، فيبلعه.
وذكر ابن حوقل أن بنيل مصر أماكن لا يضر التمساح فيها، كعدوة بوصير
والفسطاط.
قال: وفي النيل السقنقور، ويكون عند أسوان، وفي حدودها. وقيل: إنه من
نسل التمساح إذا وضعه خارج الماء، فما قصد الماء صار تمساحا، وما قصد
البر صار سنقنقورا. وله قضيبان كالضب.
(2/356)
وفيه السمك الرعاد إذا وقع في شبكة الصياد،
لا يزال ترتعد يداه، ورجلاه حتى يلقيها أو يموت، وهي نحو الذراع.
وفيه سمكة على صورة الفرس. والمكان الذي يكون فيه لا يقربه التمساح.
وفيه شيخ البحر سمكة على صورة آدمي، وله لحية طويلة، ويكون بناحية
دمياط وهو مشؤوم، فإذا رئي في مكان دل على القحط والموت والفتن.
ويقال: إن دمياط ما تنكب حتى يظهر عندها.
(2/357)
ذكر ما قيل في النيل
من الأشعار:
قال التيفاشي: قد ذكرت العرب النيل في أشعارها، وضربت به الأمثال، قال
قيس بن معدي كرب، فيما أورده الجاحظ في كتاب الأمصار:
ما النيل أصبح زاخرًا بمدوده ... وجرت له ريح الصبا فجرى بها
قال بعضهم:
واهًا لهذا النيل أي عجيبة ... بكر بمثل حديثها لا يسمع (1)
يلقي الثرى في العام وهو مسلم ... حتى إذا ما مل عاد يودع
متنقل (2) مثل الهلال فدهره ... أبدا يزيد كما يريد ويرجع
ظافر الحداد:
والنيل مثل عمامة (3) ... شرب محشاة بأخضر
والجسر فيها كالطراز ... وموجه رقم مصور
تفريكه ما درجته ... له الرياح من التسكر
وقال يصف افتراقه عند رأس الروضة:
لله يوم أناله النيل ... لحسنه جملة وتفصيل
في منظر مشرف على خضر ... كأنه في الظلام قنديل
تبدي لنا جانبا جزيرته ... أشيا بها للعين تأميل
ورقمه جسره وتفريكه الموج ... وفي نكته للخليج تجميل
_________
(1) خطط المقريزي 1: 101.
(2) المقريزي: "مستقبل".
(3) ط، ح: "غمامة".
(2/358)
ابن الساعاتي:
ولما توسطنا على النيل غدوة ... ظننت وقلت اليوم باللهو ملآن
عشارية أنشا لها الماء مقلة ... وليس لها إلا المجاذيف أجفان
محيي الدين بن عبد الظاهر:
نيل مصر لمن تأمل مرأى ... حسنه معجز وبالحسن معجب
كم به شاب فودها وعجيب ... كيف شابت بالنيل والنيل يخضب!
وقال:
كم قطع الطرق نيل مصر ... حتى لقد خافه السبيل
بالسيف والرمح من غدير ... ومن قناة لها نصول
ابن نباته:
زادت أصابع نيلنا ... وطغت وطافت في البلاد
وأتت بكل مسرة ... ماذي أصابع ذي أيادي
النصير الحمامي:
عن عجل النيروز قبل الوفا ... عجل للعالم صفع القفا
فقد كفى من دمعهم ما جرى ... وما جرى من نيلهم ما كفى
ناصر الدين حسن بن النقيت:
كأن النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه (1)
فيأتي عند حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه
آخر:
النيل قال وقوله ... إذ قال ملء مسامعي
_________
(1) المقريزي 1: 101، نهاية الأرب 1: 281.
(2/359)
في غيظ من طلب العلا ... عم البلاد منافعي
وعيونهم بعد الوفا ... قلعتها بأصابعي
شمس الدين بن دانيال الحكيم:
كأنما النيل الخضم إذ بدا ... يروى حديثا وهو ذو تسلسل
لما رأى الأرض بها شقيقه ... ضمخها بمائه المصندل
آخر:
يا نيل اجر على حسن العوائد في ... أرجاء مصرك واجبر كل مرتزق
واعلم بأنك مصري فلست ترى ... حلو الفكاهة ما لم تأت بالملق
خليل بن الكفتي:
مولاي إن البحر لما زرته ... حياك وهو أخو الوفا بالإصبع
فانظر لبسطته فرؤيتك التي ... هي مشتهاه وروضة المتمتع
أرخى عليه الستر لما جئته ... خجلا ومدت تضرعا بالأذرع
آخر:
سد الخليج بكسره جبر الورى ... طرا فكل قد غدا مسرورا
الماء سلطان فكيف تواترت ... عنه البشائر إذ غدا مكسورا
شمس الدين سبط الملك الحافظ:
لله در الخليج إن له ... تفضلًا لا نزال نشكره
حسبك منه بأن عادته ... يجبر من لا يزال يكسره
الصلاح الصفدي:
رأيت في أرض مصر مذ حللت بها ... عجائبًا ما رآها الناس في جيل
تسود في عيني الدنيا فلم أرها ... تبيض إلا إذا ما كنت في النيل
(2/360)
وقال:
ركبت في النيل يومًا مع أخي أدب ... فقال: دعني من قال ومن قيل
شرحت يا بحر صدري اليوم قلت له: ... لا تنكر الشرح يا نحوي للنيل
وقال:
قالوا علا نيل مصر في زيادته ... حتى لقد بلغ الأهرام حين طما
فقلت: هذا عجيب في بلادكم ... أن ابن ستة عشر يبلغ الهرما
وقال:
قد زاد هذا النيل في عامنا ... فأغرق الأرض بإنعامه
وكاد أن يعطف من مائه ... عرى على أزرار أهرامه
تميم بن المعز العبيدي:
يوم لنا بالنيل مختصر ... ولكل يوم لذاذة قصر (1)
والسفن تجري كالخيول بنا ... صعدًا وجيش الماء منحدر (2)
فكأنما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر
آخر:
مد نيل الفسطاط فالبر بحر ... زاخر فيه كل سفن تعوم
فكأن الأرضين منه سماء ... وكأن الضياع فيها نجوم
ظافر:
ولله مجرى النيل فيها إذا الصبا ... أرتنا به في سيرها عسكرا مجرى
فشط يهز السمهرية ذبلا ... ونهر يهز البيض هندية بترا
_________
(1) المقريزي 1: 102.
(2) ديوانه: 255.
(2/361)
إذا مد حاكي الورد غضا وإن صفا ... حكى
ماؤه لونا ولم يعده بسرا
أيدمر التركي:
كيمياء النيل خالصة ... قد أتتنا منه بالعجب
كان من ذوب اللجين فقد ... عاد بالتدبير من ذهب
راقص بالحسن مبتهج ... فهو في عجب وفي طرب
ومغاني مصر تسمعه ... نغمة الشادي بلا صخب
ونسيم الريح لاعبة ... في خلال الروض بالقضب
إبراهيم بن عبدون الكاتب:
والنيل بين الجانبين كأنما ... صبت بصفحته صفيحة صقيل
يأتيك من كدر الزواخر مده ... بممسك من مائه ومصندل
فكان ضوء البدر في تمويجه ... برق يموج في سحاب مسبل
وكأن نور السرج من جنباته ... زهو الكواكب تحت ليل أليل
مثل الرياض مصنفا أنوارها ... يبدو لعين مشبه وممثل
آخر:
أرى أبدًا كثيرا من قليل ... وبدرًا في الحقيقة من هلال (1)
فلا تعجب فكل خليج ماء ... بمصر مشبه بخليج مال
زيادة إصبع في كل مد ... زيادة أذرع في كل حال
الأمير تميم بن المعز:
نظرت إلى النيل في مده ... بموج يزيد ولا ينقص (2)
كأن معاطف أمواجه ... معاطف جارية ترقص
_________
(1) المقريزي 1: 102.
(2) ديوانه: 255.
(2/362)
أيدمر التركي:
انظر إلى النيل السعيد المقبل ... والماء في أنهاره كالسلسل
أضحى يريك الحسن بين مورد ... من لونه حينًا وبين مصندل
ويمر في قيد الرياح مسلسلًا ... يا حسنه من مطلق ومسلسل
وترى زوارقه على أمواجه ... منسوبة للناظر المتأمل
مثل العقارب فوق حيات غدت ... يسعى بها في عدوها ما يأتلي
وكأنما أسماكه من فضة ... من جمد ذائب مائه من أول
بعضهم:
أتطلب من زمانك ذا وفاء ... وتأمل ذاك جهلًا من بنيه
لقد عدم الوفاء به وإني ... لأعجب من وفاء النيل فيه
ومن كلام القاضي الفاضل في وصف النيل المصري الذي يكسو الفضاء ثوبا
فضيًّا، ويدلي من الأرض ماءه سراجا من النور مضيا، ويتدافع تياره واقفا
في صدر
الجدب بيد الخصب، ويرضع أمهات خلجه المزارع فيأتي أبناؤها بالعصف والأب
(1) .
وقال فيه أيضا:
وأما النيل فقد امتدت أصابعه، وتكسرت بالموج أضالعه، ولا يعرف الآن
قاطع طريق سواه، ولا من يرجى ويخاف إلا إياه (2) .
وقال أيضًا:
وأما النيل المبارك فقد ملأ البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذراع،
فكأنما غار على الأرض فغطاها، وأغار عليها فاستقعد وما تخطاها (3) .
_________
(1) مسالك الأبصار 2: 67.
(2) مسالك 1: 67.
(3) المقريزي 1: 102، نهاية الأرب 1: 281.
(2/363)
ومن كتاب السجع الجليل فيما جرى من النيل:
وأما البحر الذي بنى عليه عنوان هذه العبودية، فلا تسأل عما جرى منه،
وما نقلت الرواة من العجائب عنه؛ وذلك أنه عم قدومه بالنفع البلاد،
وساوى بين بطون الأودية وظهورها الوهاد. وقدم المفرد مبشرا بوفائه في
جمع لا نظير له في الآحاد، واحمرت على ما طلب الغلاء عيونه، وتكفل
للمصر بأن يوفي بعد وفائه ديونه، ونزل السعر حين أخذ منه طالع
الارتفاع، وأحدق بالقرى فأصبح كأنه سماوات كواكبها الضياع؛ فلم يكن بعد
ذلك إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى عسل (1) في شوارع مصر كما عسل
الطريق الثعلب، وجاس خلال ديارها فأصبح على زرائبها المبثوثة بسطة،
وأحاط بالمقياس إحاطة الدائرة بالنقطة. ثم علت أمواجه، واشتد اضطرابه،
وكاد يمتزج بنهر المجرة الذي الغمام زبده والنجوم حبابه.
وشرق حتى ليس للشرق مشرق ... وغرب حتى ليس للغرب مغرب
إلى أن قال: أما دير الطين فقد ليس سقوف حيطانه، واقتلع أشجار غيطانه،
وأتى على ما فيه من حاصل وغلة، وتركه ملقة فكان كما قيل: زاد الطين
بلة.
وأما الجيزة فقد طغى الماء على قناطرها وتجسر، ووقع بها القصب من قامته
حين علا عليه الماء وتكسر، فأصبح بعد اخضرار بزته شاحب الإيهاب، ناصل
الخضاب، غارقًا في قعر {بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} ، وقطع طريق زاويتها على من
بها من المنقطعين والفقراء، وترك الصالح كالصالح يمشي على الماء
{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا
يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} وأدركهم الغرق فأيسوا
من الخلاص، {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} فنادوا
{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} ، {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ
فَوْقِهِمْ} فانهدت قواهم، واستغاثوا من كثرة الماء بالذين آمنوا
وعملوا الصالحات وقليل ما هم.
وأما الروضة فقد أحاط بها إحاطة الأكمام بزهره، والكأس بحباب خمره:
فكأنها فيه بساط أخضر ... وكأنه فيها طراز مذهب
_________
(1) عسل، أي سار مسرعًا.
(2/364)
فكم بها من متهم ومنجد، ومسافر مما حصل له
من المقيم المقعد. وحائك أصبح حول نوله ينير، وجعل من غزله بل من غيظه
على أجيره يحمل ويسير. ومنجم وصل الماء من منزله إلى العتبة الخارجة
فأصبح في أنحس تقويم، ودخل إلى بيت أمراضه {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي
النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} ، فأصبح في الطريق وعليه كآبة
وصفرة، ودموعه في المحاجر كالحصى لها اجتماع وحمرة. وشاعر أوقعه في
الضرورة بحره المديد، واشتغل بهدم داره عن بيت القصيد، وعروضي ضاقت
عليه الدائرة: هذه الفاصلة، وقلع من عروض بيته وتدًا أزعج بقلعه
مفاصله. ونحوي اشتغل عن زيد وعمرو يبل كتبه، وذهل حين استوى الماء
والخشبة، عن المفعول معه والمفعول به، وطار عقله ولا سيما عن تصانيف
ابن عصفور، وأخبر أن البحر وأثاث بيته جار ومجرور.
وأما الجزيرة الوسطى فقد أفسد جل ثمارها، وأتى على مقاتيها فلم يدع
شيئًا من رديها وخيارها، وألحق موجدها بالمعدوم، وتلا علي التكروري
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} ، وأخلق ديباج روضها الأنف، وترك
قلقاسها بمده وجزره على شفا جرف.
وأما المنشأة فقد أصبحت للهجر مقرة، بعد أن كانت للعيون قرة، وقيل
لمنشيها: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، فقال:
{يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّة} . ومال على ما فيها من شون الغلات كل الميل، وتركها تتلو بفمها
الذي شقتاه مصراعا الباب: {يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْل} .
وأما بولاق فقد أصبحت صعيدًا زلقًا من الملق، وقامت قيامة المار بها
حين التفت الساق بالساق من الزلق، فكم اقتلع بها شجرة لبت رءوسها، وترك
ساقية تنوح على أختها التي أصبحت خاوية على عروشها.
وأما الخليج الحاكمي فقد خرج عسكر موجه بعد الكسر على حمية، ومرق من
قسي قناطره كالسهم من الرمية، وتواضع حين قبل بحارة زويلة عتاب غرفها
العالية وترك الساقين في حالة العجز عن وصفها صريع الدلاء وحماد
الراوية. فأصبحوا من الكساد وقد سئموا الإقامة، قائلين في شوارع مصر:
يا الله السلامة.
(2/365)
ذكر البشارة بوفاء
النيل:
جرت العادة كل سنة إذا وفي النيل أن يرسل السلطان بشيرًا بذلك إلى
البلاد لتطمئن قلوب العباد، وهذه عادة قديمة، ولم يزل كتاب الإنشاء
ينشئون في ذلك الرسائل البليغة؛ فمن إنشاء القاضي الفاضل في وفاء النيل
عن السلطان صلاح الدين بن أيوب:
نعم الله سبحانه وتعالى من أضوئها بزوغا، وأخفاها سبوغًا، وأصفاها
ينبوعا، وأسناها منفوعا، وأمدها بحر مواهب، وزختمها حسن عواقب. النعمة
بالنيل المصري الذي يبسط الآمال، ويقبضها مده وجزره، ويرمي النبات
حجره، ويحيي مطلعه الحيوان، ويجني ثمرات الأرض صنوانا وغير صنوان،
وينشر مطوي حريريها وينشر مواتها، ويوضح معنى قوله تعالى: {وَبَارَكَ
فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} (1) .
وكان وفاء النيل المبارك تاريخ كذا، فأسفر وجه الأرض وإن كان تنقب،
وأمن يوم بشراه من كان خائفا يترقب، ورأينا الإبانة عن لطائف الله التي
خفقت الظنون، ووفت بالرزق المضمون، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) . وقد أعلمناك لتستوفي حقه من الإذاعة،
وتبعده من الإضاعة، وتتصرف على ما نصرفك من الطاعة، وتشهر ما أورده
البشير من البشرى بإبانته، وتمده بإيصال رسمه مهنى على عادته (3) .
وكتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر عن السلطان إلى نائب
السلطنة يحلب بشارة بوفاء النيل:
_________
(1) سورة فصلت آية: 10.
(2) سورة الأنعام آية: 99.
(3) ثمرات الأوراق "على هامش المستطرف" 2: 60، 61.
(2/366)
أعز الله أنصار المقر وسره بكل مبهجة،
وهنأه بكل مقدمة سرور تفد وللخصب والبركة منتجه، وبكل نعمى لا تصبح
لمنة السحاب محوجة، وبكل
رحمى لا يستعد لأيامها الباردة ولا للياليها المثلجة. هذه المكاتبة
تفهمه أن نعم الله وإن كانت متعددة، ومنحه وإن غدت بالبركات مترددة،
ومنته وإن أصبحت إلى القلوب متوددة، فإن أشملها وأكملها، وأجملها
وأفضلها، وأجزلها وأنهلها، وأتمها وأعمها، وأضمها وألمها، نعمة أجزأت
المن والمنح، وأنزلت في برك سفح المقطم أغزر سفح. وأتت بما يعجب
الزراع، ويعجل الهراع، ويعجز البرق اللماع، ويعل القطاع، ويغل الأقطاع،
وتنبعث أفواهه وأفواجه، ويمد خطاها أمواهه وأمواجه، ويسبق وفد الريح من
حيث ينبري، ويغيط مريخه الأحمر القمر؛ لأن بيته السرطان كما يغبط
الحوت؛ لأنه بيت المشتري، ويأتي عجبه في الغد بأكثر من اليوم وفي اليوم
بأكثر من الأمس، ويركب الطريق مجدًّا فإن ظهر بوجهه حمرة فهي ما يعرض
للمسافر من حر الشمس. ولو لم تكن شقته طويلة لما قيست بالذراع، ولولا
أن مقياسه أشرف البقاع لما اعتبر ما تأخر من ماء حوله الماضي بقاع،
بينا يكون في الباب إذا هو في الطاق، وبينا يكون في الاحتراق إذا هو في
الاختراق للإغراق، وبينا يكون في المجاري، إذا هو في السواري، وبينا
يكون في الجباب إذا هو في الجبال، وبينا يقال لزيادته: هذه الامواه إذ
يقال لغلاته: هذه الأموال. وبينا يكون ماء إذ أصبح حبرا، وبينا هو يكسب
تجارة قد أكسب بحرًا، وبينا يفسد عراه قد أتى بعرار جسور على الجسور
جيشه الكرار، وكم أمست التراع منه تراع والبحار منه تحار. كم حسنت
مقطعاته على مر الجديدين، وكم أعانت مرارة مقياسه على الغرو من بلاد
سيس على العمودين (1) . أتم الله لطفه في الإتيان به على التدريج،
وأجراه بالرحمة إلى نقص العيون بالتفرج، والقلب بالتفريج، فأقبل جيشه
بمواكبه، وجاء يطاعن الجدب بالصواري من مراكبه، ويصافف
_________
(1) كذا في الأصول.
(2/367)
لجاجة الجسور في بيداء لججه، ويثاقف القحط
بالتراس من بركه والسيوف من خلجه.
ولما تكامل إيابه، وصح في ديوان الفلاح والفلاحة حسابه، وأظهر ما عنده
من ذخائر التيسير وودائعه، ولفظ (1) عموده حمل ذلك على أصابعه. وكانت
الستة عشر ذراعًا تسمى ماء السلطان، نزلنا وحضرنا مجلس الوفاء المعقود،
واستوفينا شكر الله تعالى بفيض ما هو من زيادته محسوب، ومن صداقاتنا
مخرج ومن القحط
مردود، ووقع تياره بين أيدينا سطورًا تفوق، وعلت يدنا الشريفة بالخلوق،
وحمدنا السير كما حمد لنا السري، وصرفناه في القرى للقرى، ولم نحضره في
العام الماضي فعملنا له من الشكر شكرانا وعمل هو ما جرى.
وحضرنا إلى الخليج وإذا به أمم قد تلقونا بالدعاء المجاب، وقرظونا
فأمرنا ماءه أن يحثو من سده في وجوه المداحين التراب، ومر يبدي المساد
ويعيدها، ويزور منازل القاهرة ويعودها، وإذا سئل عن أرض الطبالة، قال:
جننا بليلى، وعن خلجها، وهي جنت بغيرنا. وعن بركة الفيل قال: وأخرى بنا
مجنونة لا نريدها. وما برح حتى تعوض عن القيعان البقيعة، من المراكب
بالسرر المرفوعة، ومن الأراضي المحروثة، من جوانب الأدرب بالزرابي
المبثوثه.
وانقضى هذا اليوم عن سرور لمثله فليحمد الحامدون، وأصبحت مصر جنة فيها
ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين وأهلها في ظل الأمن خالدون. فليأخذ حظه
من هذه البشرى التي ما كتبنا بها كتبت بها الرياح إلى نهر المجرة إلى
البحر المحيط، ونطقت بها رحمة الله تعالى إلى مجاوري بيته من لابسي
التقوى ونازعي المخيط، وبشرت بها مطايا المسير الذي يسير من قوص غير
منقوص، ويتشارك بها الابتهاج في العالم فلا مصر دون مصر بها مخصوص.
_________
(1) كذا في الأصول.
(2/368)
والله تعالى يجعل الأولياء في دولتنا
يبتهجون بكل أمر جليل، وجيران الفرات يفرحون بجريان النيل.
وكتب الصلاح الصفدي بشارة إلى بعض النواب في بعض الأعوام:
ضاعف الله نعمة الجناب وسر نفسه بأنفس بشرى، وأسمعه من الهناء كل آية
أكبر من الأخرى، وأقدم عليه من المسار ما يتحرز ناقله ويتحرى، وساق
إليه كل طليعة إذا تنفس صبحها تفرق الليل وتفرى، وأورد لديه من أنباء
الخصب ما يتبرم به محل المحل ويتبرى.
هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تخصه بسلام يرى كالماء انسجامًا، ويروق
كالزهر ابتساما، ونتحفه بثناء جعل المسك له ختاما، وضرب له على الرياض
النافحة خياما، ونقص عليه من أنباء النيل الذي خص الله البلاد المصرية
بوفادة وفائه، وأغنى به قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مد كافه وفائه،
ونزهه عن منة
الغمام الذي إن جاد فلا بد من شهقة رعده ودمعة بكائه، فهي الأرض التي
لا يذم للأمطار في جوها مطار، ولا يزم للقطار في نفعها قطار، ولا ترمد
الأنواء فيها عيون النوار، ولا تشيب بالثلوج مفارق الطرق ورءوس الجبال،
ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس،
ولا يتمسك في سنائها المساكين كما قيل بحبال الشمس، وأين أرض يخد
عجاجها بالبحر العجاج، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج، من أرض لا
تنال السقيا إلا بحرب؛ لأن القطر سهام والضباب عجاج قد انعقد، ولا يعم
الغيث بقاعها؛ لأن السح لا تراها إلا بسراج البرق إذا اتقد. فلو خاصم
النيل مياه الأرض لقال: عندي قبالة كل عين إصبع، ولو فاخرها لقال: أنت
بالجبال أثقل وأنا بالملق أطبع. والنيل له الآيات الكبر، وفيه العجائب
والعبر، منها وجود الوفا، عند عدم الصفا، وبلوغ الهرم، إذا احتد
واضطرم، وأمن كل فريق، إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان إذا كسر وهو
كما يقال: سلطان.
(2/369)
وهو أكرم منتدى، وأعزب محتبى، وأعظم مجتدى،
إلى غير ذلك من خصائصه، وبراءته مع الزيادة من نقائصه.
وهو أنه في هذه العام المبارك جذب البلاد من الجدب وخلصها بذراعه،
وعصمها بخنادقه التي لا تراع من تراعه، وحضها بسواري الصواري تحت قلوعه
وما هي إلا عمد قلاعه، وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة بمطالعتنا في كل
يوم بحر قاعه في رقاعه، حتى إذا أكمل الستة عشر ذراعا، وأقبلت سوابق
الخيل سراعا، وفتح أبواب الرحمة بتغليقه، وجد في طلب تخليقه، تضرع بمد
ذراعه غلينا، وسلم عند الوفاء بأصابعه علينا. ونشر علم ستره، وطلب لكرم
طباعه جبر العالم بكسره، فرسمنا بأن يخلق، ويعلم تاريخ هنائه ويعلق،
فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فوق موجه، ويهيل كئيب سده هول هيجه، ودخل
يدوس زرابي الدور المبثوثة، ويجوس خلال الحنايا كان له فيها خبايا
موروثة. ومرق كالسهم من قسي قناطره المنكوسة، وعلاه زبد حركته ولولاه
ظهرت في باطنه من بدور إناثه أشعتها المعكوسة. وبشر بركة الفيل ببركة
الفال، وجعل المجنونة من تياره المنحدر في السلاسل والأغلال، وملأ أكف
الرجا بأموال الأمواه، وازدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه. وأعلم
الأقلام بعجزها عما يدخل من خراج البلاد، وهنأت طلائعه بالطوالع التي
نزلت بركاتها من الله على العباد.
وهذه عوائد الألطاف الإلهية بنا لم نزل نجلس على موائدها، ونأخذ منها
ما نهبه لرعايانا من فوائدها. ونخص بالشكر قوادمها فهي تدب حولنا
وتدرج، وتخص قوادمها بالثناء والمدح، والحمد فهي تدخل إلينا وتخرج.
فليأخذ الجناب العالي حظه من هذه البشرى التي جاءت بالمن والمنح،
وانهلت أياديها المغدقة بالسح والسفح، وليتلقاها بشكر يضيء به في الدجى
أديم الأفق، ويتخذها عقدًا تحيط منه بالعنق إلى النطق، وليتقدم الجناب
العالي بألا يحرك الميزان في هذه البشرى بالجباية لسانه، وليعط كل عامل
في بلادنا بذلك أمانه، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم
(2/370)
حتى لا يرى في إسقاط الجباية خيانة، والله
يديم الجناب العالي لقص الأنباء الحسنة عليه، ويمتعه بجلاء عرائس
التهاني والأفراح لديه.
وكتب الأديب تقي الدين أبو بكر بن حجة بشارة عن الملك المؤيد شيخ، سنة
تسع عشرة وثمانمائة.
ونبدي لعلمه الكريم ظهور آية النيل الذي عاملنا الله فيه بالحسنى
وزيادة، وأجراه لنا في طرق الوفاء على أجمل عادة، وخلق أصابعه ليزول
الإيهام فأعلن المسلمون بالشهادة، كسر بمسرى (1) فأمسى كل قلب بهذا
الكسر مجبورا، وأتبعناه بنوروز (2) وما برح هذا الاسم بالسعد المؤيدي
مكسورا، دق قفا السودان فالراية البيضاء من كل قلع عليه، وقبل ثغور
الإسلام فأرشفها ريقه الحلو فمالت أعطاف غصونها إليه، وشبب خريره في
الصعيد بالقصب، ومد سبائكه الذهبية إلى جزيرة الذهب، فضرب الناصرية
واتصل بأم دينار، وقلنا: لولا أنه صبغ بقوة (3) لما جاء وعليه ذلك
الاحمرار.
وطال الله عمر زيادته فتردد إلى الآثار، وعمته البركة فأجرى سواقي ملكه
إلى أن غدت جنة تجري من تحتها الأنهار، وحضن (4) مشتهي الروضة في صدره،
وحنا عليها حنو المرضعات على الفطيم.
وأرشفنا على ظمأ زلالًا ... ألذ من المدامة للنديم
وراق مديد بحره لما انتظمت عليه تلك الأبيات، وسقى الأرض سلافته
الخمرية فخدمته بحلو النبات، وأدخله إلى جنات النخيل والأعناب فالق
النوى والحب، فأرضع "في أحشاء الأرض" (5) جنين النبت، وأحيا له أمهات
العصف والأب. وصافحته كفوف الموز فختمتها
_________
(1) ط: "جسره".
(2) ط: "بنوروزه".
(3) حلية الكميت: "ملئه".
(4) ط: "وحصن".
(5) من حلية الكميت.
(2/371)
بخواتمه العقيقية ولبس الورد تشريفه، وقال:
أرجو أن تكون شوكتي في أيامه قوية، ونسي الزهر بحلاوة لقائه مرارة
النوى، وهامت به مخدرات الأشجار فأرخت ضفائر فروعها عليه من شدة الهوى،
واستوفى النبات ما كان له في ذمة الري من الديون، ومازج الحوامض
بحلاوته فهام الناس بالسكر والليمون، وانجذب إليه الكباد وامتد، ولكن
قوي قوسه لما حظي منه بسهم لا يرد، ولبس شربوش الأترج وترفع إلى أن لبس
بعده التاج، وفتح منثور (1) الأرض لعلامته بسعة الرزق وقد نفذ أمره
وراج، فتناول مقالم الشنبر وعلم بأقلامها، ورسم (2) لمحبوس كل سد
بالإفراج، وسرح بطائق السفن فخفقت أجنحتها بمخلق بشائره، وأشار بأصابعه
إلى قتل المحل فبادر الخصب إلى امتثال أوامره، وحظي بالمعشوق وبلغ من
كل منية مناه، فلا سكن على البحر إلا تحرك ساكنه بعد ما تفقه، وأتقن
باب المياه، ومد شفاه أمواجه إلى تقبيل فم الخور (3) ، وزاد مترعه (4)
فاستحلى المصريون زائده على الفور، ونزل في بركة الحبش فدخل التكرور في
طاعته، وحمل على الجهات البحرية فكسر المنصورة وعلا على الطويلة
بشهامته، وأظهر في مسجد الخضر عين الحياة فأقر الله عينه، وصار أهل
دمياط في برزخ بين المالح وبينه، وطلب المالح رده بالصدر وطعن في حلاوة
شمائله، فما شعر إلا وقد ركب عليه ونزل في ساحله.
وأما المحاسن فدارت دوائره على وجنات الدهر عاطفة، وثقلت أرداف أمواجه
على خصور (5) الجواري واضطربن كالخائفة، ومال شيق النخيل إليه فلثم
ثغر طلعه وقبل سالفه، وأمست سود الجواري كالحسنات على حمرة وجناته،
وكلما زاد زاد الله في حسناته؛ فلا فقير سد إلا حصل له من فيض نعماه
فتوح، ولا ميت خليج إلا عاش به
_________
(1) الثمرات: "منشور".
(2) ح: "لكل سد".
(3) الثمرات: "الجسر".
(4) ح: "زاد بسرعة".
(5) في الأصول: "حضور" وصوابه من الثمرات.
(2/372)
ودبت فيه الروح، ولكنه احمرت عينه على
الناس بزيادة وترفع، فقال له المقياس: عندي قبالة كل عين إصبع. ونشر
أعلام قلوعه وحمل وله على ذي الجزيرة زمجرة، ورام أن يهجم على غير
بلاده فبادر إليه عزم (1) المؤيدي وكسره.
وقد آثرنا الجناب بهذه البشرى التي سرى فضلها برًّا وبحرًا، وحدثناه عن
البحر ولا حرج وشرحنا له حالًا وصدرًا، ليأخذ حظه من هذه البشارة
البحرية بالزيادة الوافرة، وينشق من طيبها (2) نشرا، فقد حملت له من
طيبات ذلك النسيم أنفاسًا عاطرة. والله تعالى يوصل بشائرنا الشريفة
لسمعه الكريم ليصير بها في كل وقت مشنفا، ولا برح من نيلها المبارك
وإنعامنا الشريف على كلا الحالين في وفا (3) .
_________
(1) في الأصول: "عزمنا"، وما أثبته من الثمرات.
(2) الثمرات: "طيبات".
(3) ثمرات الأوراق 2: 63، 64، حلية الكميت 266، 267.
(2/373)
ذكر المقياس:
قال ابن عبد الحكم: كان أول من قاس النيل بمصر يوسف عليه السلام، ووضع
مقياسا بمنف، ثم وضعت العجوز دلوكة ابنة زباء مقياسا بأنصنا؛ وهو صغير
الذرع ومقياسا بأخميم. ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وهو
صغير، ووضع أسامة بن زيد التنوخي في خلافة الوليد بالجزيرة؛ وهي
المسماة الآن بالروضة، وهو أكبرها؛ حدثنا يحيى بن بكير، قال: أدركت
القياس يقيس في مقياس منف ويدخل بزيادته إلى الفسطاط.
هذا ما ذكره ابن عبد الحكم (1) .
قال التيفاشي: ثم هدم المأمون مقياس الجزيرة، وأسسه ولم يتمه، فأتم
المتوكل بناءه وهو الموجود الآن.
وقال صاحب مباهج الفكر: المقياس الذي بأنصنا ينسب لأشمون بن قفطيم بن
مصر ويقال: إنه من بناء دلوكة، وبناؤه كالطيلسان، وعليه أعمدة بعدد
أيام السنة من الصوان الأحمر.
ورأيت (2) في بعض المجاميع ما نصه: قال ابن حبيب (3) : وجدت في رسالة
منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم، قال: لما فتحت مصر عرف عمر بن
الخطاب ما يلقى أهلها من الغلاء عن وقوف النيل عن مده (4) في مقياس لهم
فضلا عن تقاصره، وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، ويدعو
الاحتكار إلى تصاعد الأسعار بغير
_________
(1) فتوح مصر 16.
(2) نقله المقريزي 4: 93 عن القضاعي.
(3) في المقريزي: "يزيد بن حبيب".
(4) المقريزي: "حده".
(2/374)
قحط، فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن
العاص، يسأله عن شرح الحال،، فأجابه فقال عمرو (1) : إني وجدت ما تروى
به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحد الذي يروى منه سائرها
حتى يفضل عن حاجتهم
ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتين (2) المخوفتين في
الزيادة والنقصان -وهو الظمأ والاستبحار- اثنتا عشر ذراعا في النقصان
وثماني عشرة ذراعا في الزيادة؛ هذا والبلد في ذلك محفور الأنهار، معقود
الجسور، عندما تسلموه من القبط وخمير العمارة فيه.
فاستشار عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب في ذلك، فأمره أن يكتب إليه أن
يبني مقياسا، وأن ينقص (3) ذراعين على اثنتي عشرة ذراعا، وأن يقر ما
بعدها على الأصل، وأن ينقص من ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين.
ففعل ذلك وبناه بحلوان، فاجتمع له ما أراد من حال الإرجاف، وزال ما منه
كان يخاف، بأن يجعل الاثنتي عشرة ذراعا أربع عشرة ذراعا؛ لأن كل ذراع
أربعة وعشرون إصبعا، فجعلها ثمانية وعشرين من أولها إلى الأثنتي عشرة
ذراعا، تكون مبلغ الزيادة على الاثنتي عشرة ثمانية وأربعين إصبعا؛ وهي
الذراعان، وجعل الأربع عشرة ست عشرة والستة عشرة ثماني عشرة والثماني
عشرة عشرين ذراعا، وهي المستقرة الآن (4) .
وقال بعضهم: كتب الخليفة جعفر المتوكل إلى مصر يأمر ببناء المقياس
الجديد الهاشمي في الجزيرة سنة سبع وأربعين ومائتين؛ وكان الذي يتولى
أمر المقياس النصارى، فورد كتاب أمير المؤمنين المتوكل في هذه السنة
على بكار بن قتيبة قاضي مصر، بألا يتولى ذلك إلا مسلم يختاره؛ فاختار
القاضي بكار لذلك الرداد عبد الله بن
_________
(1) في الأصول: "عمر" وهو خطأ.
(2) المقريزي: "والنهايتان".
(3) في ط: "يغض"، وما أثبته من المقريزي والأصل.
(4) المقريزي 1: 54.
(2/375)
عبد السلام المؤدب، وكان محدثا فأقامه
القاضي بكار لمراعاة المقياس، وأجرى عليه الرزق، وبقي ذلك في ولده إلى
اليوم.
وقال صاحب المرآة: المقياس الظاهر الآن بناه المأمون، وقيل: إنما بناه
أسامة بن زيد التوخي في خلافة سليمان بن عبد الملك، ودثر فجدده
المأمون. وبنى أحمد بن طولون مقياسين؛ أحدهما بقوص وهو قائم اليوم،
والآخر بالجزيرة وقد انهدم.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في العود الذي يطلع به المقسي
قياس النيل في كل يوم بزيادة النيل:
قد قلت لما أتى المقسي وفي يده ... عود به النيل قد عودي وقد نودي
أيام سلطاننا سعد السعود وقد ... صح القياس بجري الماء في العود
(2/376)
ذكر جزيرة مصر وهي
المسماة الآن بالروضة:
قال المقريزي: اعلم أن الروضة تطلق في زماننا على الجزيرة التي بين
مدينة مصر وبين مدينة الجيزة، وعرفت في أول الإسلام بالجزيرة وجزيرة
مصر، ثم قيل لها: جزيرة الحصن، وعرفت الروضة من زمن الأفضل بن أمير
الجيوش إلى اليوم. انتهى.
والجزيرة كل بقعة في وسط البحر لا يعلوها البحر، سميت بذلك؛ لأنها
جزرت، أي قطعت وفصلت من تخوم الأرض، فصارت منقطعة.
وفي الصحاح: الجزيرة: واحدة جزائر البحر؛ سميت بذلك لانقطاعها عن معظم
الأرض.
وقال ابن المتوج في كتابه إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمل: إنما سميت
جزيرة مصر بالروضة؛ لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها وبحر النيل حائز
لها ودائر عليها، وكانت حصينة، وفيها من البساتين والثمار ما لم يكن في
غيرها.
ولما فتح عمرو بن العاصي مصر تحصن الروم بها مدة، فلما طال حصارها وهرب
الروم منها خرب عمرو بن العاص بعض أبراجها وأسوارها، وكانت مستديرة
عليها، واستمرت إلى أن عمر حصنها أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين، ولم
يزل هذا الحصن حتى خربه النيل.
وقال المقريزي: اعلم أن الجزائر التي هي الآن في بحر النيل كلها حادثة
في الإسلام ما عدا الجزيرة التي تعرف اليوم بالروضة تجاه مدينة مصر؛
فإن العرب لما دخلوا مع عمرو بن العاص إلى أرض مصر، وحاصروا الحصن الذي
يعرف اليوم بقصر الشمع في مصر؛ حتى فتحه الله عنوة على المسلمين، كانت
هذه الجزيرة حينئذ تجاه القصر، لم يبلغني إلى
(2/377)
الآن متى حدثت، وأما غيرها من الجزائر كلها
فقد تجددت بعد فتح مصر، وإلى هذه الجزيرة التجأ المقوقس لما فتح الله
على المسلمين القصر، وصار بها هو ومن معه من جموع الروم والقبط.
وقال ابن عبد الحكم: كان بالجزيرة في أيام عبد الملك بن مروان أمير مصر
خمسمائة فاعل عدة لحريق إن كان في البلاد أو هدم.
وقال الكندي: بنيت بالجزيرة الصناعة في سنة أربع خمسين -والصناعة اسم
لمكان قد أعد لإنشاء المراكب البحرية- وأول صناعة عملت بأرض مصر التي
بنيت بالروضة في سنة أربع وخمسين من الهجرة، فاستمرت إلى أيام الإخشيد،
فأنشأ صناعة بساحل فسطاط مصر، وجعل موضع الصناعة التي بالروضة بستانا
سماه المختار.
وقال القضاعي: حصن الجزيرة بناه أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين
ومائتين، ليحرز فيه حريمه وماله، وكان سبب ذلك مسير موسى بن بغا من
العراق واليًا على مصر، وجميع أعمال ابن طولون، وذلك في خلافة المعتمد
على الله، فلما بلغ أحمد بن طولون مسيره تأمل مدينة فسطاط مصر، فوجدها
لا تأخذ إلا من جهة النيل، فبنى الحصن بالجزيرة التي بين الفسطاط
والجيزة ليكون معقلًا لحريمه وذخائره، واتخذ مائة مركب حربية سوى ما
يضاف إليها من العشاريات وغيرها؛ فلما بلغ موسى بن بغا بالرقة تثاقل عن
المسير لعظم شأن ابن طولون وقوته، ثم لم يلبث موسى أن مات، وكفى ابن
طولون أمره.
وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون:
لما قضى ابن بغا بالرقتين ملا ... ساقيه درقًا إلى الكعبين والعقب
بنى الجزيرة حصنًا يستجن به ... بالعسف والضرب، والصناع في تعب
وواثب الجيزة القصوى فخندقها ... وكاد يصعق من خوف ومن رعب
(2/378)
له مراكب فوق النيل راكدة ... لما سوى
القار للنظار والخشب
ترى عليها لباس الذل مذ بنيت ... بالشط ممنوعة من عزة الطلب
فما بناها لغزو الروم محتسبًا ... لكن بناها غداة الروع للهرب
وقال سعيد القاص من أبيات:
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأملًا ... إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرًا لم يبق من يستطيعه ... من الناس في بدو البلاد ولا حضر
وما زال حصن الجزيرة هذا عامرًا أيام بني طولون؛ حتى أخذه النيل شيئًا
فشيئًا، وقد بقيت منه بقايا متقطعة إلى الآن.
وكان نقل الصناعة من الجزيرة إلى ساحل مصر في شعبان سنة خمس وعشرين
وثلثمائة، وبنى مكانها البستان المختار، وصرف على بنائه خمسة آلاف
دينار؛ فاتخذه الإخشيد متنزهًا به، وصار يفاخر به أهل العراق، ولم يزل
متنزها إلى أن زالت الدولة الإخشيدية والكافورية، وقدمت الدولة
العبيدية؛ فكان يتنزه فيه المعز والعزيز، وصارت الجزيرة مدينة عامرة
بالناس، بها وال وقاض. وكان يقال: القاهرة ومصر والجزيرة؛ فلما استولى
الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الدين، أنشأ في بحري الجزيرة
بستانًا نزهًا سماه الروضة، وتردد إليه ترددات كثيرة؛ ومن حينئذ صارت
الجزيرة كلها تعرف بالروضة.
قال ابن ميسر في تاريخ مصر: أنشأ الأفضل الروضة بحري الجزيرة، وكان
يمضي كل يوم إليها في العشاريات الموكبية، وكان قتل الأفضل في سنة خمس
عشرة وخمسمائة.
قال: وفي سنة ست عشرة وخمسمائة، نقل المأمون البطائحي الوزير عمارة
المراكب الحربية من الصناعة التي تجري بجزيرة مصر إلى الصناعة القديمة
بساحل مصر، وبنى عليها منظرة كانت باقية إلى آخر أيام الدولة العلوية،
فلما استبد الخليفة الآمر بالأمر، أنشأ بجوار البستان
(2/379)
المختار من جزيرة الروضة مكانًا لمحبوبته
البدوية عرف بالهودج، وذلك لما صعب عليها السكنى في القصور، ومفارقة ما
اعتادته من الفضاء. وكان الهودج على شاطئ النيل في شكل غريب، ولم يزل
الآمر يتردد إليه للنزهة فيه، إلى أن ركب إليه يوما، فلما كان برأس
الجسر، وثب عليه قوم كانوا كمنوا له بالروضة، فضربوه بالسكاكين حتى
أثخنوه، وذلك يوم الأربعاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة،
ونهب سوق الجزيرة ذلك اليوم.
قال ابن المتوج: اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب
جزيرة مصر المشهورة بالروضة من بيت المال المعمور في شعبان سنة ست
وعشرين وخمسمائة، وبقيت على ملكه إلى أن سير السلطان صلاح الدين يوسف
بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر، ومعه عمه الملك العادل، وكتب
إلى الملك
المظفر أن يسلم لهما البلاد، ويقدم عليه إلى الشام، فلما ورد عليه
الكتاب، ووصل ابن عمه الملك العزيز وعمه الملك العادل، شق عليه خروجه
من الديار المصرية، وتحقق أنه لا عود له إليها أبدًا، فوقف مدرسته التي
تعرف في مصر بالمدرسة التقوية؛ وكانت قديمًا تعرف بمنازل العز على
الفقهاء الشافعية، ووقف عليها جزيرة الروضة بكمالها، ووقف أيضا مدرسة
بالفيوم، وسافر إلى عمه صلاح الدين إلى دمشق، فملكه حماة، ولم يزل
الحال كذلك إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب، فاستأجر الجزيرة
من القاضي فخر الدين أبي محمد عبد العزيز بن قاضي القضاة عماد الدين
أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن السكري مدرس المدرسة
المذكورة لمدة ستين سنة في دفعتين؛ كل دفعة قطعة، فالقطعة الأولى من
جامع عين إلى المنظر طولا وعرضا من البحر إلى البحر، واستأجر القطعة
الثانية، وهي باقي أرض الجزيرة الدائر عليها بحر النيل حينذاك، واستولى
على ما كان للجزيرة من النخل
(2/380)
والجميز والغروس، فكأنه لما عمر الملك
الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطعت النخل، ودخلت في العمائر.
وأما الجميز فإنه كان بشاطئ بحر النيل صف جميز يزيد على أربعين شجرة،
وكان أهل مصر فرجهم تحتها في زمن النيل والربيع، قطعت جميعها في الدولة
الظاهرية، وعمر بها شواني عوض الشواني التي كان سيرها إلى جزائر قبرص،
وتكسرت هناك، واستمر تدريس المدرسة التقوية بيد القاضي فخر الدين إلى
حين وفاته، ثم وليها بعده ولده القاضي عماد الدين أبو الحسن علي، وفي
أيامه تسلم له القطعة المستأجرة من الجزيرة أولا، وبقي بيد السلطنة
القطعة الثانية إلى الآن، وكان الإفراج عنهما في شهور سنة ثمان وتسعين
وستمائة في الدولة الناصرية، ولم يزل القاضي عماد الدين مدرسها إلى حين
وفاته، فوليها ولده وهو مدرسها الآن في شعبان سنة أربع عشرة وسبعمائة.
هذا كله كلام ابن المتوج.
ولم تزل الروضة متنزها ملوكيًّا، ومسكنا للناس إلى ان تسلطن الملك
الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد، فأنشأ بالروضة قلعة، واتخذها
سرير ملك، فعرفت بقلعة المقياس، وبقلعة الروضة، وبقلعة الجزيرة
وبالقلعة الصالحية. وكان الشروع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان
سنة ثمان وثلاثين وستمائة، ووقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي
كانت بجزيرة الروضة، وتحول الناس من مساكنهم التي كانت بها، وهدم كنيسة
كانت لليعاقبة بجانب
المقياس، وأدخلها في القلعة، وأنفق في عمارتها أموالا جمة، وبنى فيها
الدور والقصور، وعمل لها ستين برجًا، وبنى بها جامعا، وغرس بها جميع
الأشجار، ونقل إليها من البرابي العمد الصوان والعمد الرخام، وشحنها
بالأسلحة وآلات الحروب وما يحتاج إليها من الغلال، والأقوات خشية من
محاصرة الفرنج فإنهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر.
(2/381)
وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة؛ حتى قيل:
إنه استقام كل حجر فيها بدينار، وكل طوبة بدرهم، وكان الملك الصالح يقف
بنفسه، ويرتب ما يعمل، فصارت تدهش من كثرة زخرفها، ويحير الناظر إليها
حسن سقوفها المقرنصة، وبديع رخامها. ويقال: إنه قطع من الموضع الذي
أنشا فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة، وكان رطبها يهدى إلى ملوك مصر
لحسن منظره، وطيب طعمه. وخرب البستان المختار والهودج، وهدم ثلاثة
وثلاثين مسجدًا كانت بالروضة، وأدخلت في القلعة.
واتفق له في بعض هذه المساجد خبر عجيب؛ قال الحافظ جمال الدين يوسف بن
أحمد اليغموري: سمعت الأمير جمال الدين موسى بن يغمور بن جلدك، يقول:
من عجيب ما شاهدته من الملك الصالح، أنه أمرني أن اهدم مسجدا بجزيرة
مصر، فأخرت ذلك، وكرهت أن يكون هدمه على يدي، فأعاد الأمر، وأنا كاسر
عنه؛ فكأنه فهم عني ذلك، فاستدعى بعض خدمه وأنا غائب، وأمره أن يهدم
ذلك المسجد، وأن يبنى في مكانه قاعة، وقدر له صفتها، فهدم ذلك المسجد،
وعمر تلك القاعة مكانه وكملت. وقدم الفرنج على الديار المصرية، وخرج
الملك الصالح مع عساكره إليهم، ولم يدخل تلك القاعة التي بنيت في مكان
المسجد، فتوفي السلطان بالمنصورة، وجعل في مركب، وأتي به إلى الروضة
فجعل في تلك القاعة التي بنيت مكان المسجد مدة إلى أن بنيت له التربة
التي في جنب مدرسته بالقاهرة. وكان النيل في القديم محيطا بالروضة طول
السنة، وكان فيما بين ساحل مصر والروضة جسر من خشب، وكذلك فيما بين
الروضة، والجيزة جسر من خشب يمر عليهما الناس والدواب من مصر إلى
الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة؛ وكان هذان الجسران من مراكب مصطفة
بعضها بحذاء بعض، وهي موثقة، ومن فوق المراكب أخشاب ممتدة فوقها تراب.
وكان عرض الجسر ثلاث قصبات، ولم يزل هذا الجسر قائما إلى أن قدم
المأمون
(2/382)
مصر، فأحدث جسرا جديدا، فاستمر الناس يمرون
عليه، وكان عبور العساكر التي قدم من المعز مع جوهر القائد على هذين
الجسرين، وكان الجسر المتصل بالروضة كرسيه حيث المدرسة الخروبية قبلي
دار النحاس، وكان النيل عندما عزم الملك الصالح على عمارة قلعة الروضة
قد أنطرد عن بر مصر، ولا يحيط بالروضة إلا في أيام الزيادة، فلم يزل
يغرق السفن في ناحية الجيزة، ويحفر فيما بين الروضة ومصر ما كان هناك
من الرمال، حتى عاد ماء النيل إلى بر مصر، واستمر هناك، فأنشأ جسرا
عظيما ممتدا من بر مصر إلى الروضة، وجعل عرضه ثلاث قصبات. وكان كرسيه
حيث المدرسة الخروبية قبلي دار النحاس، وصار أكثر مرور الناس بأنفسهم
ودوابهم في المراكب؛ لأن الجسرين قد اجترما بحصولهما في حيز قلعة
السلطان، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة إلى السلطان
بقلعة الروضة يترجلون عن خيولهم عند البر، ويمشون في طول الجسر إلى
القلعة، ولا يمكن أحد من العبور عليه راكبا، سوى السلطان فقط.
ولما كملت تحول إليها بأهله وحريمه، واتخذها دار ملك، وأسكن معه فيها
مماليكه البحرية؛ وكانت عدتهم نحو الألف. وما برح الجسر قائما إلى أن
خرب المعز أيبك قلعة الروضة بعد سنة ثمان وأربعين وستمائة، فأهمل، ثم
عمره الظاهر بيبرس على المراكب، وعمله من ساحل مصر إلى الروضة، ومن
الروضة إلى الجيزة، لأجل عبور العسكر عليه لما بلغه حركة الإفرنج.
وقال علي بن سعيد في كتاب المغرب -وقد ذكر الروضة: هي أمام الفسطاط
فيما بينها وبين مناظر الجيزة، وبها مقياس النيل، وكانت متنزها لأهل
مصر، فاختارها الصالح بن كامل سرير السلطنة، وبنى فيها قلعة مسورة بسور
ساطع اللون، محكم
(2/383)
البناء، عالي السمك، لم تر عيني أحسن منه،
وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الآمر الخليفة لزوجته البدوية
التي هام في حبها، والمختار بستان الإخشيد وقصره، وله ذكر في شعر تميم
بن المعز وغيره. ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح
بن قادوس الدمياطي:
أرى سرح الجزيرة من بعيد ... كإحداق تغازل في المغازل
كأن مجرة الجوزاء خطت ... وأثبتت المنازل في المنازل
وكنت أبيت بعض الليالي في الفسطاط على ساحلها، فيزدهيني ضحك البدر في
وجه النيل. أما سور هذه الجزيرة الدري اللون، فلم ينفصل عن مصر حتى كمل
سور هذه القلعة، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة
بانيها، وهو من أعظم السلاطين همة في البناء، وأبصرت في هذه الجزيرة
إيوانًا لجلوسه لم تر عيني مثاله، ولا يقدر ما أنفق عليه، وفيه من
الكتابة بصفائح الذهب والرخام الأبنوسي والكافوري والمجزع ما يذهل
الأفكار، ويستوقف الأبصار، ويفصل عما أحاط به السور أرض طويلة في بعضها
حاظر حظر على أصناف الوحوش التي يتفرج فيها السلطان، وبعدها بروج يتقطع
فيها مياه النيل، فينظر فيها أحسن منظر، وقد تفرجت كثيرًا في طرق هذه
الجزيرة مما يلي بر القاهرة، فقطعت بها عشيات مذهبات، لا تزال لأحزان
الغربة مذهبات، وإذا زاد النيل فصل ما بينها وبين الفسطاط بالكلية. وفي
أيام احتراق النيل يتصل برها ببر السلطان من جهة خليج القاهرة، ويبقى
موضع الجسر يكون فيه المراكب.
وركبت مرة في هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب المحسن محيي الدين بن
بندار وزير الجزيرة، وصعدنا إلى جهة الصعيد ثم انحدرنا، واستقبلنا هذه
الجزيرة وأبراجها تتلألأ، والنيل قد انقسم عنها، فقلت:
(2/384)
تأمل لحسن الصالحية إذ بدت ... مناظرها مثل
النجوم تلالا
وللقلعة الغراء كالبدر طالعا ... يفرج صدر الماء عنه هلالا
ووافى إليها الماء من بعد غيبة ... كما زار مشغوفا يروم وصالا
وعانقها من فرط شوق لحسنها (1) ... فمد يمينا نحوها وشمالا
ولم تزل هذه القلعة عامرة، حتى زالت دولة بني أيوب، فلما ملك السلطان
الملك المعز عز الدين أيبك التركماني أول ملوك الترك بمصر، أمر بهدمها،
وعمر
منها مدرسته المعروفة بالمعزية في رحبة الحناء بمدينة مصر، وطمع في
القلعة من له جاه، وأخذ جماعة منها عدة سقوف وشبابيك وغير ذلك، وبيع من
أخشابها ورخامها أشياء جليلة، فلما صارت مملكة مصر إلى السلطان الملك
الظاهر بيبرس البندقداري اهتم بعمارة قلعة الروضة، ورسم للأمير جمال
الدين موسى بن يغمور أن يتولى عمارتها كما كانت. فأصلح بعض ما تهدم
منها، ورتب بها الجاندارية وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة، وأمر
بأبراجها ففرقت على الأمراء، وأعطى برج الزاوية للأمير سيف الدين
قلاوون الألفي، والبرج الذي يليه للأمير عز الدين الحلي، والبرج الثالث
من برج الزاوية للأمير عز الدين أدغان، وأعطى برج الزاوية الغربي
للأمير بدر الدين الشمسي، وفرقت بقية الأبراج على سائر الأمراء. ورسم
أن يكون بيوت جميع الأمراء وإصطبلاتهم فيها، وسلم المفاتيح لهم. فلما
تسلطن الملك المنصور قلاوون، وشرع في بناء المارستان والقبة والمدرسة
المنصورية نقل من قلعة الروضة هذه ما يحتاج إليه من العمد الصوان،
والعمد الرخام التي كانت قبل عمارة القلعة بالبرابي، وأخذ منها رخاما
كثيرا، وأعتابا جليلة، مما كان بالبرابي وغير ذلك. ثم أخذ منها السلطان
الناصر محمد بن قلاوون ما احتاج إليه
_________
(1) ط: "وحسنها".
(2/385)
من العمد الصوان في بناء الإيوان المعروف
بدار العدل من قلعة الجبل، وبالجامع الجديد الناصري ظاهر مدينة مصر،
وأخذ غير ذلك حتى ذهبت كأن لم تكن.
قال المقريزي: وتأخر منها عقد جليل تسمية العامة القوس، كان مما يلي
جانبها الغربي أدركناه باقيا إلى نحو سنة عشرين وثمانمائة، وبقي من
أبراجها عدة قد انقلب كثير منها، وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على
النيل، وعادت الروضة بعد هدم القلعة منها متنزهًا، تشتمل على دور
كثيرة، وبساتين عدة، وجوامع تقام بها الجمعات والأعياد، ومساجد. وفي
الروضة يقول الأسعد بن مماتي:
جزيرة مصر لاعدتك مسرة ... ولا زالت اللذات فيك اتصالها (1)
فكم فيك من شمس على غصن بانة ... يميت ويحيي هجرها ووصالها
مغانيك فوق النيل أضحت هوادجًا ... ومختلفات الموج فيها جمالها
ومن أعجب الأشياء جنة ... ترف على أهل الضلال ظلالها
وقال ظافر الحداد:
انظر إلى الروضة الغراء والنيل ... واسمع بدائع تشبيهي وتمثيلي (2)
وانظر إلى البحر مجموعا ومفترقًا ... هناك أشبه شيء بالسراويل
والريح تطويه أحيانا وتنشره ... نسيمها بين تفريك وتعديل
الأسعد بن مماتي في الروضة، وقد حلها السلطان الملك الكامل:
جزيرة مصر، أنت أشرف موضع ... على الأرض لما حل فيك محمد
وفيك علا البحران لكن كف ذا ... على الناس أندى بالعطاء وأجود
وأصبحت الأغصان من فرح به ... تمايل، والأطيار فيك تغرد
يرق نسيم حين سار وجدول (3) ... ويشدو هزاز حين يرقص أملد
_________
(1) ح: "فما زالت".
(2) حلية الكميت 265.
(3) ح: "فرق نسيم".
(2/386)
ذكر خليج مصر:
قال المقريزي: هذا الخليج بظاهر فسطاط مصر، ويمر من غربي القاهرة، وهو
خليج قديم احتفره بعض قدماء ملوك مصر، بسبب هاجر أم إسمعيل حين أسكنها
إبراهيم عليه السلام بمكة، ثم تمادته الدهور والأعوام، فجدد حفره ثانيا
بعض من ملك مصر من ملوك الروم بعد الإسكندر، فلما فتحت مصر على يد عمرو
بن العاص، جدد حفره بإشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فحفر عام
الرمادة، وكان يصب في بحر القلزم كما تقدم في أول الكتاب، ولم يزل على
ذلك إلى أن قام محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب
بالمدينة، فكتب الخليفة المنصور إلى عامله بمصر أن يطم هذا الخليج حتى
لا تحمل الميرة من مصر إلى المدينة، فطم وانقطع من حينئذ اتصاله ببحر
القلزم، وصار على ما هو عليه الآن.
وكان هذا الخليج يقال له أولا: خليج أمير المؤمنين -يعني عمر بن
الخطاب-؛ لأنه الذي أشار بتحديد حفره، ثم صار يقال له: خليج مصر؛ فلما
بنيت القاهرة بجانبه من شرقيه صار يعرف بخليج القاهرة، والآن تسميه
العامة بالخليج الحاكمي. وتزعم أن الحاكم احتفره، وليس بصحيح. وكان اسم
الذي حفره في زمن إبراهيم عليه السلام طوطيس (1) ، وهو الجبار الذي
أراد أخذ سارة، وجرى له معها ما جرى، ووهب لها هاجر. فلما سكنت هاجر
مكة وجهت إليه تعرفه أنها بمكان جدب، فأمر بحفر نهر في شرقي مصر بسفح
الجبل حتى ينتهي إلى مرفأ السفن في البحر الملح؛ فكان يحمل إليها
الحنطة، وأصناف الغلات، فتنقل إلى جدة، ويحمل من هناك على المطايا،
فأحيا بلد الحجاز مدة. وكان اسم الذي حفره ثانيا أرديان (2) قيصر، وكان
عبد العزيز بن مروان بنى عليه قنطرتين في سنة تسع وستين، وكتب اسمه
عليها، ثم جددهما تكين أمير مصر
_________
(1) في المقريزي: "طوطيس بن ماليا".
(2) في المقريزي: "أندرومانوس".
(2/387)
في سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، ثم جددهما
الإخشيد في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، ثم عمرتا في
أيام العزيز، وكان موضع هاتين القنطرتين خلف خط السبع سقايات، وهي التي
كانت تفتح عند وفاء النيل في زمن الخلفاء، وكان الخليفة يركب لفتح
الخليج. فلما انحسر النيل عن ساحل مصر، وربا الجرف أهملت هذه القنطرة
فدثرت، وعملت قنطرة السد عند فم بحر النيل، وكان الذي أنشأها الملك
الصالح أيوب في سنة بضع وأربعين وستمائة (1) .
قال ابن عبد الظاهر: وأول من رتب حفر خليج القاهرة على الناس المأمون
بن البطائحي، وجعل عليه واليًا بمفرده.
ولأبي الحسن بن الساعاتي في كسر يوم الخليج:
إن يوم الخليج يوم من الحسن ... بديع المرئي والمسموع
كم لديه من ليث غاب صئول ... ومهاة مثل الغزال المروع
وعلى السد عزة قبل ... أن تملكه ذلة المحب الخضوع
كسروا جسره هناك فحاكى ... كسر قلب يتلوه فيض دموع
_________
(1) المقريزي 1: 114 مع تصرف.
(2/388)
ذكر الخليج الناصري:
حفره الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، لما بنى
الخانقاه بسرياقوس، فأراد إجراء الماء من النيل إليها ليرتب عليه
السواقي والزراعات، وفوض أمره إلى أرغون النائب، فحفره في مدة شهرين من
أول جمادى الأولى إلى سلخ جمادى الآخرة، وبنى فخر الدين ناظر الجيش
عليه قنطرة، وبنى قديدار والي القاهرة قنطرة قديدار، وقناطر الأرز
وقناطر الأميرية (1) .
_________
(1) انظر المقريزي 1: 115.
(2/389)
ذكر بركة الحبش:
قال ابن المتوج: هذه البركة مشهورة في مكانها، وقد اتصل وقفها على قاضي
القضاة بدر الدين بن جماعة على أنها وقف على الأشراف الأقارب
والطالبيين نصفين بينهما بالسوية، النصف على الأقارب والنصف على
الطالبيين، وثبت قبله عند قاضي القضاة بدر الدين يوسف السنجاري أن
النصف منها وقف على الأشراف الأقارب بالاستفاضة بتاريخ ثاني عشر ربيع
الآخر سنة أربعين وستمائة، وثبت قبله عند قاضي القضاة عز الدين عبد
العزيز بن عبد السلام بالاستفاضة أيضا أنها وقف على الأشراف،
والطالبيين بتاريخ التاسع والعشرين من ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة.
وفي سنة إحدى وأربعين وسبعمائة أمر الناصر بن قلاوون بحفر خليج من
النيل إلى حائط الرصد ببركة الحبش، وحفر عشر آبار كل بئر أربعون ذراعا،
يركب عليها السواقي ليجري الماء منها إلى القناطر التي تحمل الماء إلى
القلعة، فشق الخليج من مجرى رباط الآثار، وكان مهما عظيما، وأمر الناصر
في هذه السنة بتجديد جامع راشدة، وكان قد تهدم غالبه.
ظافر الحداد في بركة الحبش:
تأملت نهر النيل طولا وخلفه ... من البركة الغناء شكل مقدر
فكان وقد لاحت بشطيه خضرة ... وكانت وفيها الماء باق موفر
غمامة شرب في جواشن خضرة ... أضيف إليها طيلسان مقور
أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي:
لله يوم ببركة الحبس ... والأفق بين الضياء والغَبَش (1)
والنيل بين الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش
ونحن في روضة منوقة ... دبج بالنور عطفها ووُشي
قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نسجها على فُرُشِ
_________
(1) حلبة الكميت: 269.
(2/390)
|