زبدة الحلب في تاريخ حلب

القسم التاسع
حلب والفاطميون
فتح القلعي مبارك الدولة
وأما فتح القلعي أبو نصر فإنه نادى بشعار الحاكم صاحب مصر، وصالح صالح بن مرداس على نصف الارتفاع ظاهراً وباطناً، وسلم إليه حرم منصور وحرم إخوته وأولاده، ليسيرهم إلى ابن لؤلؤ إلى أنطاكية، وفي الجملة بنته التي وعده أن يزوجه بها، فأخرجهم صالح إلى الحلة وضبط عنده بنته التي وعده بتزويجها منه، ودخل إليها وأنفذ إليه بقية الحرم.
وتسلم صالح الأعمال والضياع التي تقرر مع ابن لؤلؤ أن يدفعها إليه. واستدعى والي أفامية أبا الحسن علي بن أحمد العجمي المعروف بالضيف، فأنزله بالمدينة بالقصر بباب الجنان، في أوائل شعبان من سنة ست وأربعمائة.
وبقي فتح بالقلعة فأحسن الضيف السيرة، ورد على الحلبيين ما كان قد اغتصبه سيف الدولة وولده من أملاكهم، وبالغ في العدل.
وكاتب فتح الحاكم يخبره بما فعل، فوردت مكاتبة الحاكم إليه يتضمن شكره على ما فعل، ولقبه مبارك الدولة وسعيدها.
وكتب إلى أبي الحسن الضيف يأمره بمعاضدته، ولقبه سديد الدولة، وكتب إلى صالح بن مرداس يأمره بالإتفاق معهما، ولقبه أسد الدولة.
وكتب لأهل حلب توقيعاً بإطلاق المكوس والمظالم، والصفح عن الخراج، وهو عندي متوج بعلامة الحاكم عليه: الحمد لله رب العالمين.

(1/121)


بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا من أمر الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين لجميع أهل حلب وأعمالها.
إنه لما انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنتم فيه من الظلمة المدلهمة، وقبيح ظفر من يتولى أموركم في المعاملات وزيادتهم عليكم في الخراج والجبايات، إضعافاً لكم، وعدولاً عن سنن الحق بكم، أمر زاد الله أمره علواً ونفاذاً بإطلاق المؤن من دار كوره ونظائرها، والصفح عن الواجب عليكم من مال الخراج لاستقبال سنة سبع وأربعمائة، لتعلموا أن ضياء الدولة النبوية قد لمع وظهر، وأن حندس الظلام قد انجاب ودثر.
وذكر تمامه.
ووصل من قبل الحاكم والي طرابلس مختار الدولة بن نزال الكتامي، ووالي صيدا مرهف الدولة بحكم التركي، وكانوا جميعاً في البلد من قبل الحاكم.
ثم كتب الحاكم إلى حسان بن المفرج بن الجزاح الطائي وعشيرته، وسنان بن عليان الكلبي وعشيرته، بالاحتياط على حفظ حلب، وأتبع ذلك بمكاتبة إلى فتح، يمنيه ويعده الجميل إذا سلم القلعة. فأجاب إلى ذلك تسليمها، وأخذ جميع ما كان بها من الذخائر لمنصور من عين، وورق، ومتاع، وسلاح.

فاتك الحاكمي عزيز الدولة
وكتب بولاية صور، فسلم القلعة إلى الأمير عزيز الدولة أبي شجاع فاتك، في شهر رمضان من سنة سبع وأربعمائة. وكان الحاكم قد خلع عليه في جمادى الأولى من سنة سبع وأربعمائة. وحمله على عدة من الخيل بسروج محلاة بذهب مصفحة، وقلده سيفاً ومنطقه بمنطقه وسيره إلى حلب.
وتوجه فتح إلى صور. وولى الضيف بحلب في سنة سبع
وأربعمائة، حين تولى، القاضي أبا جعفر محمد بن أحمد السمناني الحنفي القضاء بحلب.
وكان عزيز الدولة غلاماً أرمنياً لبنجوتكين مولى العزيز صاحب مصر. وكان

(1/122)


بنجوتكين شديد الشغف به، وكان أديباً عاقلاً، كريماً كبير الهمة. فولاه الحاكم حلب وأعمالها، ولقبه أمير الأمراء، عزيز الدولة، وتاج الملة. ودخل حلب يوم الأحد الثاني من شهر رمضان من سنة سبع وأربعمائة.
وكان محباً للأدب والشعر. وصنف له أبو العلاء بن سليمان رسالة الصاهل والشاحج، وكتاب القائف.
وفيه يقول القائد أبو الخير المفضل بن سعيد العزيزي، شاعره يمدحه، ويذكر وقود قلعة حلب ليلة الميلاد، وكان الغيم قد ستر النجوم:
ابق للمعروف والأدب ... آمناً من صولة النوب
يا عزيز الدولة الملك ال ... منتضى للمجد والحسب
كيف يخشى الدين حادثة ... وعزيز الدين في حلب
سد منه ثغرها بفتى ... لا يشوب الجد باللعب
أضرم العنقاء قلعته ... فبدت في منظرعجب
لزت الأرض السماء بها ... فثنت كشحاًعلى وصب
ورمتها بالشرار كما ... رمت الغبراء بالشهب
أوقدت تحت الغمام فما ... يلقها من مزنة يذب
سخنت حوض الحيا فهمى ... بجحيم عنه منسكب
لو تدوم النار نشفه ... حر ما يلقى فلم يصب
ليلة غابت كواكبها ... خجلاً منا فلم تؤب
طلعت شمس النهار بها ... والدجى مسدولة الحجب
فلو أن النار لاحقة ... بالنجوم الزهر من كثب
حكت الشماء غانية ... حليت بالدر والذهب
حاربتها الريح فاضطرمت ... غضبة من شدة الغضب
جاذبتها في تغيظها ... شعلاً محمرة العذب
ضوءها عمن ألم على ... نأي شهر غير محتجب
يا أمير الآمرين ويا ... مستجار القصد والطلب
قد نفيت الليل عن حطب ... نفي مظلوم بلا سبب

(1/123)


وتركت الشمس حائرة ... في دجى الظلماء لم تغب
وعزيز الدولة هذا، هو الذي جدد القصر تحت قلعة حلب، وتناهى في عمارته، وحمام القصر كانت له، وجعله ملاصقاً لسفح القلعة، وقصد بعمارته قربه إلى القلعة، خوفاً ممن جرى لمرتضى الدولة. وكان متصلاً بالقلعة وهو الذي أمر بعمارة القناديل الفضة للمسجد الجامع، وهي باقية إلى الآن واسمه عليها.
وكلف عزيز الدولة أسد الدولة صالح بن مرداس أن يحمل والدته إلى حلب، لتسكن الأنفس ويعلم العوام التئام الكلمة والتضافر على الأعداء، ففعل ذلك في سنة ثمان وأربعمائة.
ثم إن عزيز الدولة تغير عليه الحاكم فعصى عليه، وضرب الدينار والدرهم باسمه بحلب، ودعا لنفسه على المنبر، فأرسل الحاكم إلى الجيوش، وأمرها أن تتجهز إليه في سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
فلما بلغ عزيز الدولة ذلك أرسل إلى باسيل ملك الروم يستدعيه ليسلم إليه حلب، فخرج باسيل الملك، فلما بلغ موضعاً يعرف بمرج الديباج، بلغ عزيز الدولة وفاة الحاكم، فأرسل إلى باسيل يعلمه إنه قد انتقض ما كان بينهما من الشرط، وأنه إن ظهر كان هو وبنو كلاب حرباً له.
فعدل باسيل إلى منازكرد فأخذها من الخزر، وكان الناس قد أجفلوا من ملك الروم إلى حلب، فكانت هذه الجفلة تسمى جفلة عزيز الدولة لأنها بسببه.
ولما اطمأن عزيز الدولة بموت الحاكم، ووصلته من الظاهر الخلع من مصر، ودخل غلام له يدعى تيزون، وكان هندياً، وكان يميل إليه، ودخل في أول الليل عليه، وهو نائم في المركز، وفي يده سيف مجرد مستور في كمه ليقتله، فوجد صبياً من رفقته يغمزه فلما رآه الصبي حرك مولاه ليوقظه، فبادر الهندي، وضرب عزيز الدولة فقتله، وثئى بالصبي، وقتل الهندي. وذلك كله لأربع ليال خلت من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.

(1/124)


وعمل شاعره المفضل بن سعيد:
لحمامه المقضي ربي عبده ... ولنحره المفري حد حسامه
وكان الوالي بالقلعة، ومن قبل عزيز الدولة، أبا النجم بدراً التركي مملوكاً كان لبنجوتكين مولى عزيز الدولة فاتك، وكانت بينهما في أيام بنجوتكين صداقة ومودة بحكم المرافقة.
فلما تقدم عزيز الدولة قربه واصطفاه، وولاه القلعة بحلب من قبله. وقيل: إنه مملوك لعزيز الدولة، ويعرف ببدر الكبير. وقيل: إنه هو الذي حمل تيزون على قتل عزيز الدولة: فلما قتل استولى على البلد، يوم الأحد العاشر من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ولقب وفّي الدولة وأمينها. وكان كاتب بدر رجلاً يقال له ابن مدبر إلى أن وردت العساكر المصرية من جهة الطاهرة وزعيمها سديد الدولة علي بن أحمد الضيف، فتسلم حلب من وفّي الدولة بدر.

محمد الكتامي صفي الدولة
ولما دخل الضيف على بحر بكتاب الطاهر، لطف به، واسترسل إليه، وطرح القيد في رجله، وقبض عليه، وأنزله من القلعة، وتسلمها منه، فسلمها إلى صفي الدولة أبي عبد الله محمد ابن وزير الوزراء أبي الحسن علي بن جعفر بن فلاح الكتامي، يوم الأربعاء الحادي عشر من شهر رجب سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.
وكان صفي الدولة هذا شاعراً أديباً، وأبوه علي وزر للحاكم، وجده جعفر بن فلاح أحد قواد المصريين، ووليت القلعة يمن الدولة سعادة الخادم
المعروف بالقلانسي، وكان تخادماً بلحية بيضاء، وكان من أفاضل المسلمين، فيه الدين والعلم، وجعل الطاهر في المدينة والياً، وفي القلعة والياً خوفاً أن يبدو من والي حلب ما بدا من عزيز الدولة فاتك.
وعزل صفي الدولة بن فلاح عن حلب، يوم الاثنين النصف من المحرم سنة أربع عشرة وأربعمائة.

(1/125)


ابن ثعبان سند الدولة
وولي حلب الأمير سند الدولة أبو محمد الحسن بن محمد بن ثعبان الكتامي الجيملي، وكان وأهله من وجوه كتامة، وكان والياً بحصن أفامية. وهو الذي كتب إليه أبو العلاء بن سليمان " الرسالة السندية " في مجلد واحد، وكان وزيره أبو سعيد مسبح.
وتوفي سند الدولة بمرض ناله بحلب، يوم الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وأربعمائة.

ثعبان سديد الملك
وكان خبر مرضه قد وصل إلى الظاهر، فكتب إلى أخيه سديد الملك أبي الحارث ثعبان بن محمد بن ثعبان إلى تنيس، وكان يليها، أن يسير والياً إلى حلب.
فخرج من تنيس في البحر إلى طرابلس، وسار من طرابلس جريدة فورد إلى حلب، وقد توفي أخوه. وكان وصوله إلى حلب، يوم الأحد السابع عشر من جمادى الأولى سنة خمس عشرة وأربعمائة.
وكان قاضي حلب، في سنة خمس عشرة وأربعمائة أبا أسامة عبد الله بن أحمد ابن علي أبي أسامة، نيابة عن ابن أبي العوام قاضي مصر عن الظاهر. وولي القلعة أبو الحارث موصوف الخادم الصقلابي الأبيض الحاكمي، من قبل الطاهرة وكان شجاعاً، عاقلاً، وأقاما فيها واليين أحدهما بالمدينة، والآخر بالقلعة، إلى أن حالف الأمير أبو علي

صالح بن مرداس بن إدريس الكلابي سنان بن عليان الكلبي، وحسان ابن المفرج بن الجراح الطائي على الظاهرة وتحالفوا على احتواء الشام، وتقاسموا البلاد. فتكون فلسطين وما برسمها لحسان، ودمشق وما ينسب إليها لسنان، وحلب

(1/126)


وما معها لصالح. فأنفذ الظاهر إلى فلسطين أنوشتكين الدزبري والياً، فاجتمع الأمراء الثلاثة على حربه، فهزموه إلى عسقلان.
وفتح حسان الرملة بالسيف، في رجب سنة خمس عشرة وأربعمائة. وأحرق أكثرها، ونهبها، وسبى خلقاً من النساء والصبيان.

(1/127)