زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم الرابع عشر
محمود بن نصر بن صالح
ودخلها محمود بن نصر يوم السبت النصف من شهر رمضان سنة سبع وخمسين
وأربعمائة، واستقرت ألقابه: الأجل، شرف أمراء العرب، سيف لخلافة، معز
الدولة وفخرها، وعضدها، ناصر الملك، ذو الحسبين.
ومضى عطية إلى الرحبة وكانت ألقاب عطية خالصة الأمراء، عمدة الإمامة،
عضد الخلافة، أسد الدولة وسيفها، ذو العزيمتين.
وأقطع محمود معرة النعمان الملك هارون بن خان ملك الترك، فدخل
المعرة يوم الأربعاء السابع عشر من شوال، سنة ثمان وخمسين وأربعمائة،
ووصل معه إليها من الترك، والديلم، والكرد، والأوج مقدار آلف رجل مع
حاشيتهم فنزل بالمصلى.
فما روي أعص منهم عن البساتين والكروم وغيرها، ولم يكونوا يأخذون من حد
شيئاً إلا بثمنه، وسقوا دوائهم الماء بثمنه. وفزعت العرب منه فزعاً
عظيماً، ثم استدعي إلى حلب وعوض معرة النعمان.
وخرج محمود بن نصر بابن خان والتركمان، في سنة تسع وخمسين، ومعه بنو
عوف من بني أبي بكر بن كلاب، فنزل المعشيرة، من بلد حماة، ثم أتى حماة،
وطىء جميع العرب وأذلها.
وكانت العرب تطلب فتنة تقع بينه وبين عمه عطية بن صالح، وكان بحمص،
فظنت بنو كلاب إنه يحاربه، فلم يفعل عطية، لمعرفته بغدر العرب به مرة
بعد أخرى، وأراد أن لا ينهدم مجد آل مرداس.
وفي هذه السنة سلم حسين بن كامل بن الدوح " حصن أسفونا " إلى نواب
(1/169)
المصريين، بعد أن نهب عسكر الترك حناك،
وجميع ضياعه بالشام.
ووقع الوباء العظيم بحلب، حتى إنه مات في رجب من هذه السنة زهاء عن
أربعة آلاف فضلاً عن سائر الشهور.
وفيها طلعت طائفة كبيرة من الترك، فنزل بعضها على دلوك وتقدم منهم نحو
ألف، فنهبوا بلد أنطاكية عن آخره، وأخذوا نحو أربعين آلف جاموس. وقيل
أكثر، حتى أن الجاموس كان يباع بدينار، وأكثره بدينارين وثلاثة. وأما
البقر، والغنم، والمعز، والحمير، والجواري، فلم يقع على ذلك إحصاء من
الكثرة. وكانت الجارية تباع بدينارين والصبي بتطبيقة نعال للخيل.
هزيمة الروم
وخرب بلد الروم خراباً لم يسمع بمثله، وبقيت الغلات في البيادر ما لها
من يرفغها منهم، حتى كان الفلاحون وسائر العوام يمضي الواحد منهم ويأخذ
ما يريد، فلا يجد من يدافعه عن ذاك، لأن الروم تحصنوا في الحصون
والجبال، والمغاير، وتركوا بيوتهم على حالها لم يأخذوا منها شيئاً، لأن
الترك أتوهم على غفلة، وكان ذلك في شوال.
وكان مقدمهم أفشين بن بكجي، وكان قد غضب عليه العادل ألب أرسلان بسبب
خادم كان زعيم بعض عساكره، فقتله الأفشين. وقطع الفرات إلى بلد الروم،
ثم خرج إلى أعمال حلب، وباع الغنائم التي كانت معه.
ونزل في سنة ستين حول أنطاكية، وضاق الشيء فيها حتى بلغت
الحنطة قفيزين بدينار. فلما لم يبق شيء دون فتحها أتته كتب العادل ألب
أرسلان من العراق بالرضا عنه. وقيل إن أصحاب مؤونة السوق بحلب حصل في
دفاترهم نحو سبعين آلف مملوك ومملوكة سوى ما بيع بغير مؤونة في بلد
الروم وسائر البلدان، وأخذ من أصحاب أنطاكية مائة آلف دينار، ومثلها من
ثياب الديباج والآلة. وسار إلى العراق في جمادى الآخرة من السنة.
(1/170)
وفي هذه السنة سلم أمير من أمراء المغاربة
يعرف بابن المرأة حصن أسفوناً إلى الأمير عز الدولة محمود بن نصر بن
صالح. وتولى ذلك الأمير سديد الملك أبو الحسن علي بن متقذ.
بين المرداسيين والروم
وفي يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شعبان، فتحت أرتاح بالسيف، ونهب
جميع ما فيها وما في حصنها من الأموال والذراري، وكان فيها خلق عظيم من
النصرانية لأن جميع من كان في تلك المواضع منهم حصل بها لأنها كانت
الكرسي لهم هناك. وقتل من رجالها نحو ثلاثة آلاف رجل، وقد كان الملك
ابن خان حاصرها زهاء خمسة أشهر.
وأتى عسكر عظيم من عساكر الروم، فنزل على باب أنطاكية ليصالح الملك ابن
خان عن أرتاح وغيرها من بلادهم، فلم يتم بينهم صلح. وإنما كان غرض
العسكر أن يدس إلى أنطاكية غلة حملت إلى السويداء لتقويتها.
وكان فتح أرتاح فتحاً عظيماً لأن عملها قريب من أعمال الشام، من
الفرات الى العاصي إلى أفامية إلى باب أنطاكية إلى الأثارب. وقيل بأنهم
أحصوا إلى شهر رمضان من هذه السنة أنه افتقد من الروم في الدرب إلى
أفامية بحساب قتلا وأسراً ثلاثمائة آلف نفر.
وخرج ملك الروم في سنة إحدى وستين وأربعمائة إلى ديار الشام فأخذ
كثيراً من أهل منبج، وهرب أهلها من حصنها فأخذه، وشحنه رجالاً وغلة
وعدة. وسار إلى عزار فوقف عليها ساعة، ورجع جاولاً، وسلط الله عليه
وعلى أصحابه الغلاء، والعلة، والوباء. فذكر ملك الروم للقاضي القضاعي
رسول المصريين أنه ومات له في يوم واحد ثلاثة آلاف من خيله سوى عسكره.
وقيل: إن منبج بقيت في بلد الروم سبع سنين، وهذا الملك هو ديوجانس. ولا
يبعد عندي أنه الذي عناه هرقل بقوله: " لا يعود إليك رومي إلا خائفاً
حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد ".
(1/171)
وفي يوم السبت أول شعبان من هذه السنة، جمع
قطبان أنطاكية ودوقسها المعروف بالنحت جموعاً كثيرة. وطلع إلى حصن
أسفونا بعملة عملها عليه قوم يعرفون ببني ربيع من أهل جوزن ففتحوه،
وقتلوا كثيراً من رجاله وكانوا ثمانين رجلاً، وأسروا الباقين. وكان
الوالي به رجلاً من الأتراك يعرف بنادر.
وبلغ الخبر إلى الأمير عز الدولة محمود بن نصر بن صالح، وهو يسير في
الميدان بظاهر مدينة حلب، فسار في الوقت يوم الإثنين في الترك والعرب،
ولم يدخل البلد، واجتمع عليه خلق عظيم سمع من يحزرهم بخمسين ألفاً،
فحاصره سبعة أيام، وفتحه يوم السبت وقتل جميع رجاله، وكانوا ألفين
وسبعمائة، وفي ذلك يقول أبو محمد الخفاجي:
إن أظهرت لعلاك " أنطاكية " ... حزناً فقد ضحكت على قطبانها
بعث البريد مخبراً عن وثبة ... ما كان أحوجه إلى كتمانها
لما أطل له لواؤك خافقاً ... عرفت وجوه الذل في صلبانها
وفيه يقول أبو الفضل عبد الواحد بن محمد الحلبي الربعي:
رددت على الإسلام شرخ شبابه ... وكادت عليه أن تقام المآتم
وظن طغاة الروم منذ أغبهم ... نزالك أنا حين ذاك نسالم
ثم إن محموداً هادن الروم في هذه السنة على أن اقترض منهم أربعة عشر
ألف دينار، وعلى أن يجعل ولده نصراً رهناً عليها، ويهدم حصن أسفونا.
فأخرج ثابت ابن عمه معز الدولة وشبل بن جامع، وجمعا الناس من معرة
النعمان وكفرطاب وأعمالها، وخربا حصن أسفونا.
ووقعت فتنة بحلب بين الحلبيين والأتراك، وقتل من الأتراك نحو أربعين
رجلاً ومن الحلبيين عشرة. ووصل في سنة اثنتين وستين وأربعمائة صندق
التركي خارجاً من بلد الروم، ومعه عسكر عظيم، ودخل إلى بلد
حلب من الأرتيق إلى الجزر إلى بلد معرة النعمان وكفرطاب إلى حماة وحمص
إلى رفنية.
(1/172)
وشتوا في هذه السنة فنهبوا الضياع وسبوا
منها، وعاقبوا من وجد هناك، وفتحوا جباب الغلة ومدافنها. وقطع القطائع
الكثيرة على مواضع امتنعت عليه ولقي أهل الشام من عسكره شدة عظيمة، وهو
أول نهب وفساد جرى بالشام من الأتراك. ولما انقضى زمن الشتاء عاد إلى
بلد الروم بعد أن أكرمه محمود بن نصر بتحف وهدايا حملها إليه.
السلطان العادل ومحمود
ثم إن محمود بن نضر بن صالح راسل في هذه السنة السلطان العادل ألب
أرسلان، واستقر الأمر بينهما على أن يخطب محمود بحلب للإمام القائم
خليفة بغداد وبعده للسلطان العادل ألب أرسلان وبعده لنفسه، فوصل إليه
نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بن علي الزينبي لإقامة الدعوة العباسية،
ومعه الخلع من القائم بأمر الله ومن السلطان.
.فجمع محمود أهل حلب وقال لهم: " قد ذهبت دولة المصريين وهذه دولة
جديدة، ومملكة سديدة ونحن تحت الخوف منهم، وهم يستحفون دماءكم لأجل
مذهبكم والرأي أن نقيم الخطبة خوفاً من أن يجيئنا وقت لا ينفعنا فيه
قول ولا بذل ".
فأجاب مشايخ البلد إلى ذلك فلبس المؤذنون والخطيب السواد، وخطب الإمام
القائم وبعده للسلطان ألب أرسلان، وبعمه لمحمود، ولقب الأمير الأجل
حسام الدولة العباسية، وزعيم جيوشها الشامية تاج الملوك، ناصر الدين،
شرف الأمة، ذو الحسبين خالصة أمير المؤمنين.
وأمر ابن خان الأتراك بالوقوف على باب الجامع، وقتل كل من يخرج ممتنعاً
من الصلاة وسماع الخطبة، فسأله الشيوخ إلا يفعل خوفاً من وقوع
فتنة. وأخذت العامة الحصر التي في الجامع، وقالوا: " هذه حصر علي بن
أبي طالب فيجيء أبو
(1/173)
بكر بحصر حتى يصلي عليها الناس وكان ذلك
يوم الجمعة التاسع عشر من شوال سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
ومدحه الشيخ أبو محمد بن سنان الخفاجي الحلبي بقصيدة طويلة، يقول فيها:
ما يصنع الحسب الكريم بعاجز ... يبنى له الشرف الرفيع ويهدم
وكان ناصر الدولة بن حمدان قد تغلب على مصر، ووقع بينه وبين جماعة من
الأمراء بمصر وحشة، فأنفذ إليه الفقيه أبا جعفر محمد بن أحمد البخاري
المعروف بقاضي حلب وأظن ناصر الدولة قلده قضاء حلب حين وردها، ووقعت به
وقعة الفنيدق، والسلطان ألب أرسلان حين حاصر حلب وهو معه فعرف بذلك
أرسله ابن حمدان رسولاً إلى السلطان ألب أرسلان
يستدعي عساكره ليسلم إليه ديار مصر ويغير الدعوة، وذلك في سنة اثنتين
وستين.
فلما ورد عليه الرسول إلى خراسان جهز العساكر العظيمة التي تملأ
الفضاء، ووصل معها على طريق ديار بكر، ونزل الرها في أول سنة ثلاث
وستين، وأقام عليها نيفاً وثلاثين يوماً.
وسير الفقيه أبا جعفر قاضي حلب المذكور رسولاً إلى محمود بن نصر بن
صالح يستدعيه إلى وطء بساطه وخدمته أسوة بمن وفد عليه من الملوك مثل:
شرف الدولة مسلم بن قريش، وابن مروان، وابن وثاب، وابن مزيد، وأمير
الترك والديلم. فلم يجب محمود إلى ذلك، وخاف منه.
فسار عن الرها إلى الشام قاصداً محمود بن نصر، فقطع الفرات في النصف من
شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة، من نهر الجوز، ونزل على بعض
المروج فأعجبه، فقال له الفقيه أبو جعفر قاضي حلب: " يا مولانا أحمد
الله تعالى على هذه النعمة، وهي أن هذا النهر لم يقطعه قط تركي إلا
مملوك. وأنت قد قطعته ملكاً ". فأحضر الأمراء والأتراك وأمره بإعادة
القول. قال: فأعدته، فحمد الله تعالى حمداً كثيراً.
ونزل بنقرة بني أسد إلى أرض قنسرين إلى الفنيدق. وكان نقيب النقباء
(1/174)
بحلب لم ينفصل عنها بعد إقامة الدعوة،
فسأله محمود أن يخرج إلى
السلطان، ويصلح أمره معه، فخرج مستفسراً ومتوسلاً. وتلطف الأمر، وأحسن
السفارة، وخاطب السلطان بأنه قريب العهد بالخطبة للخليفة، وقد لبس
تشريفه.
فقال السلطان: " أي شيء تساوي خطبته للخليفة ولبى تشريفه، مع ما سبق من
شقه العصا وخروجه عن الطاعة " وأبى قبول الشفاعة فيه بدون وطء محمود
بساطه.
فخاف محمود ولم يجب إلى ذلك، وتمادى الأمر نحو شهرين. وحضن محمود حلب
وجفل الناس من سائر الشام إليها، وحصل الرعب في قلوبهم هيبة له، لما
اجتمع إليه من العساكر الجمة، والجيوش الكثيفة الضخمة. وكان الأمر
بخلاف ما ظن الناس، فإنه لما أيس من خروج محمود إليه عاد من الفنيدق
وكانت خيمته على ذلك التل فعرف بتل السلطان من ذلك اليوم.
ونزل على حلب في آخر جمادى الآخرة من السنة، وكانت الخيام والعساكر من
حلب إلى نقرة بني أسد، إلى عزاز، إلى الأثارب، متقاربة بعضها من بعض،
ولم يتعرض أحد من العسكر بمال أحد، ولا سبيت حرمة، ولا قاتل حصناً.
وبلغني أن عسكره العظيم لم يأخذ عليقة تبن من فلاح إلا بثمنه، وأقام
محاصراً حلب شهراً ويومين. ولم يقاتلها غير يوم واحد، وقصد المطاولة
بالبلد بعد أن أشرف على الأخذ، وقال: " أخشى أن أفتح هذا الثغر بالسيف
فيصير إلى الروم ". ونقب برج الغنم، وعلق، فظفر أهل حلب بمن دخل ذلك
النقب وأخذوا بعضهم، ووقع الردم على الباقين.
وعصب الحلبيون برج الغنم بشقة أطلس، وكان السلطان نازلاً بميدان باب
قنسرين، فسأل عن ذلك فقيل: " هولاء الحلبيون يقولون على سبيل المزح: قد
صدع البرج رأسه من حجارة المنجنيق فقد عصبوه!. فغضب، وفرق في تلك
الليلة ثمانين آلف فردة نشاب خلنج، غير ما رماه بقية العسكر.
وأصبح وأمر بالزحف فجد الناس في قتال البلد، وحمل السلطان بنفسه في ذلك
اليوم، فوقعت يد فرسه في خسف كان هناك، وأصاب في الحال رأس فرسه
(1/175)
حجر المنجنيق فركب غيره، وعاد، وصرف الناس
عن الحرب بعد أن أشرف البلد على الأخذ إبقاء لحرمة البلد، وكان عسكره
دائرا بالبلد من جميع وجوهه.
ثم إن السلطان راسل الأمراء من بني كلاب وأحضرهم من البرية، فوصلوا
إليه، وعول على تقليد بعضهم وتركه في مقابلة محمود وعوده لأجل ما بلغه
من ظهور ملك الروم إلى بلاد أرمينية عازماً على قصد خراسان.
ولما علم محمود بأن البلد قد أشرف على الفتح، وعلم بوصول الأمراء من
بني كلاب، وأنه إن تم ذلك خرج الشام من يده، فراسل السليماني
وكان يتردد إليه في الرسالة يعلمه إنه قد عزم على وطء بساط السلطان
وخدمته خوفاً مما أشرف عليه. فخرج إلى السلطان بنفسه، ومعه والدته
علوية، المعروفة بالسيدة، في أول شعبان، وأخذ مفاتيح البلد معه، فدخلا
والعسكر سماطان بين يديه، فخدماه، وسلما عليه، فأكرمهما، وأحسن اليهما،
وقال للسيدة: أنت السيدة. قالت: " سيدة قومي "، وقد ذكرنا إنه جرى لها
ذلك مع المستنصر.
وأطلق له البلد، وشرفه، وخلع عليه، وكتب له توقيعاً بحلب، وتردد خروج
محمود إلى خدمته مرة بعد أخرى، وقرر معه السلطان أن يخرج بعسكره، ويضيف
إليه السليماني، وأن يتوجها إلى بلاد دمشق والأعمال المصرية لفتحها
ففعل ما أمره به، وعاد السلطان إلى بلاده.
وقعة منازكرد
وقيل: إنه خفف ابنه مع فوج من عساكره بكورة حلب، وقصد ملك الروم، وأسرع
في السير لأنه بلغه أن ملك الروم خرج في جموع لا تحصى، وأنه وصل إلى
قاليقلا، وهي أرزن الروم. فوصل السطان إلى أذربيجان حين بلغه أن ملك
(1/176)
الروم قد أخذ على سمت خلاط، وكان السلطان
في خواص جنده، وجموع عساكره بعيدة عنه، ولم ير العود إلى بلاده، فسير
وزيره نظام الملك وزوجته الخاتون إلى تبريز مع أثقاله.
وبقي في خمسة عشر آلف فارس من نخبة عسكره مع كل واحد فرسه وجنيبه،
والروم في زهاء ثلاثمائة آلف أو يزيدون ما بين فارس وراجل، من جموع
مختلفة من الروم، والروس، والخزر، واللان، والغز، والقفجق، والكرج
الأبخاز، والفرنج، والأرمن. وفيهم خمسة آلاف جرخي، وفيهم ثلاثون آلف
مقدم ما بين دوقس، وقومص، وبطريق.
فرأى السلطان أن الإمهال للحشد والجمع مضر، فركب في نخبته وقال: أنا
أحتسب نفسي عند الله، وهي إما السعادة بالشهادة، وإما النصر كما قال
تعالى " ولينصرن الله من ينصره " ثم سار مرتباً جيشه قاصداً جموع
الروم.
وكان ملك الروم قدم مقدماً في عشرين آلف مدرع من شجعان عسكره، ومعه
صليبهم الأعظم، فوصل إلى خلاط، فنهب وسبى، فخرج إليه عسكر خلاط، ومعه
صندق التركي الخارج إلى بلد حلب، في سنة اثنتين وستين على ما قدمنا
ذكره فكسره صندق، وأسره، وصادف ذلك وصول السلطان، فأمر بجدع أنفه.
وعجل إنفاذ الصليب الذي كان في صحبته إلى نظام الملك، وأمره بتعجيل
(1/177)
إنفاذه إلى دار السلام مبشراً بالفتح،
وتلاحق عسكر الروم، فنزلوا على خلاط محاصرين لها، ونزل الملك على
منازكرد فسلموها إليه بالأمان خوفاً
من معرة جيوشه إن استولوا عليهم، وذلك في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة،
سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
فلما كان يوم الأربعاء سير أهل منازكرد، وخرج بنفسه ليشيعهم وهو في
جموعه وحشوده ووافق ذلك وصول العسكر السلطاني، ووقعت العين في العين،
فحمل المسلمون حملة رجل واحد، فردوهم على أعقابهم.
وشرع أهل منازكرد يتسللون من بينهم فقتل الروم بعضهم، ونجا الباقون،
وترك الروم طريقهم الذي كانوا سالكيه، وعاد ملكهم فنزل في مضاربه بين
خلاط ومنازكرد، وباتوا ليلتهم على أعظم قلق وأشده.
فلما أصبحوا بكرة الخميس وصل السلطان ألب أرسلان في بقية عساكره، فنزل
على النهر، وملك الروم على موضع يعرف بالزهوة في مائتي آلف فارس،
والسلطان في خمسة عشر ألف، فأرسل السلطان رسولاً حمله سؤالاً وضراعة،
ومقصوده أن يكشف أمرهم، ويختبر حالهم ويقول لملك الروم: " إن كتت ترغب
في الهدنة أتممناها، وإن كنت تزهد فيها وكلنا الأمر إلى الله عز وجل ".
فظن الزومي أنه إنما أرسله عن ضرورة فأبى واستكبر، وأجاب بأني سوف أجيب
عن هذا الرأي بالري، فغاظ السلطان جوابه، وانقطعت المراسلة بينهما.
وأقام الفريقان يوم الخميس على تعبئة الصفوف، فقال أبو نصر محمد بن عبد
الملك البخاري الحنفي فقيه السلطان وإمامه: " أنت تقاتل عن
دين الله الذي وعد بإظهاره على الأديان، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال،
والناس يدعون لك على المنابر في أقطار الأرض ".
فلما أصبحوا يوم الجمعة ركب السلطان بجموعه وركبت الروم فتواقفوا، فلما
(1/178)
حان وقت الزوال نزل السلطان عن فرسه، وأحكم
مد حزامه، وتضرع بالدعاء إلى الله تعالى، ثم ركب وفرق أصحابه فرقاً كل
فرقة منهم لها كمين، ثم استقبل بوجهه الحرب.
وحمل ملك الروم بجمعه، فاستطرد المسلمون بين أيديهم، واستجروا الروم
إلى أن صار الكمين من ورائهم، ثم خرج الكمين من خلفهم، ورد المسلمون في
وجوههم، فأتزل الله نصره، وكسرت الروم، وأسر الملك، واستولى المسلمون
على عساكرهم، وغنموا ما لا يعد كثرة ولا يحصى عدداً وعدة.
وقيد الملك أسيراً إلى بين يدي السلطان، فأقامه بين يديه ومعه بازي
وكلب صيد.
وكانت مع الروم ثلاثة آلاف عجلة تحمل الأثقال والمنجنيقات، وكان من
جملتها منجنيق بثمانية أسهم تحمله مائة عجلة، ويمد فيه ألف ومائتا رجل،
وزن حجره بالرطل الكبير قنطار، وحمل العسكر من أموالهم ما قدروا عليه.
وسقطت قيمة المتاع والسلاح والكراع، حتى بيعت اثنتا عشرة خوذة بسدس
دينار، ولم يسلم من عسكر الروم إلا العسكر الذي كان محاصراً
خلاط، فلما بلغتهم الكسرة رحلوا عن البلد جافلين، فاتبعهم المسلمون
وتخطفوا أطرافهم، فلم يلو أولهم على أخرهم.
فمن عجيب الإتفاق ما حكي: أنه كان لسعد الدولة كوهرائين مملوك أهداه
لنظام الملك، فرده عليه فجعل يرغبه فيه، فقال نظام الملك: " وماذا عسى
أن يكون من هذا المملوك، يأتينا بملك الروم أسيراياً، مستهزئاً به.
ثم أنسي هذا الحديث إلى أن كان في هذه الحادثة فاتفق وقوع ملك الروم في
أمر ذلك الغلام، فخلع السلطان عليه، وبالغ في إكرامه، وحكمه في طلبه
واقتراحه، فطلب بشارة غزنة، فكتب له بذلك.
ثم رحل السلطان إلى أذربيجان، والملك في قيده، فأحضره السلطان بين
يديه، وسأله عن سبب خروجه وتعريضه نفسه وعسكره لهذا الأمر، فذكر أنه لم
يرد إلا حلب، وكل ما جرى علي كان محمود السبب فيه والباعث عليه، فقال:
(1/179)
" اصدقني عما كنت عازماً عليه لو ظفزت بي "
فقال: لاكنت أجعلك مع الكلاب في ساجور.
فقال السلطان: ما الذي توثر أن يفعل بك. فقال: " انظر عاقبة فساد نيتي
واختر لنفسك "، فرق له قلب السلطان، فمن عليه، وأطلقه، وأكرمه، وخلع
عليه بعد أن شرط عليه أن لا يتعرض بشيء من بلاد الإسلام، وأن يطلق أسرى
المسلمين كلهم، وسيره إلى بلاده، وسير معه قطعة من العساكر توصله.
فلفا انصرف ديوجانس إلى قسطنطينية خلعوه من الملك، ولم يتم له ما أراد.
وقيل: إنه كحل، ومات بعد مدة. ولم ينقل إنه أسر للروم ملك في الإسلام
قبل هذا.
وأما محمود بن نصر بن صالح فإنه سار بعسكره بعد رحيل السلطان عن حلب،
ومعه بنو كلاب والسليماني، في شعبان من هذه السنة، فنزلوا بالقرب من
بعلبك قاصدين دمشق وبلادها وبها يومئذ ابن منزو الكتامي، حسب ما تقدم
السطان إليه، وأقام محمود ليتبين ما يفعل.
خبر عطية بن صالح
وكان عمه عطية بن صالح قد صار مع الروم مستنجداً بهم على ابن أخيه
محمود، وبعد أن قصد المصريين فلم يحصل على شيء منهم. فخرج عطية مع
النحت دوقس أنطاكية وعسكر الروم، فهجموا معه معرة مصرين وأحرقوا بعضها،
وقتلوا من قدروا عليه.
وبلغ الخبر محموداً وهو في أرض بعلبك فعاد إلى حلب، وسار السليماني
(1/180)
ليلحق بالسلطان ألب أرسلان، واتصلت غارات
الروم على الشام، فاستنجد محمود " بقر لو التركي " ومن معه من الأمراء
بفلسطين، وهم: ابن أخي الملك ابن خان، وأتسز بن أوق وإخوته. وكانوا أول
من طلع من الترك إلى بلاد فلسطين، وفتحوها، وأقاموا بها فنزلوا إلى
محمود متجدين له، وأقاموا إلى أن تفرق عسكر الروم.
ودخل عطية عم محمود إلى قسطنطينية، فسقط من سطح كان نائماً
عليه وهو سكران، فمات سنة أربع وستين، وسار محمود إلى الرحبة فأخذها،
وحمل إلى حلب ودفن بها غربي باب الجنان، في مشهد أمه طرود قبلي بستان
النقرة، وصلى عليه ابن أخيه محمود. ثم عاد الأتراك بعد أن حمل إليهم
محمود مالاً وخيلاً.
الوزير أبو بشر
وفي سنة أربع وستين وأربعمائة، تغيرت أخلاق محمود بعد رحيل السلطان،
وتنكر لأصحابه، وتغير على وزيره أبي بشر النصراني، وكان هو الذي ساعده
بماله حتى ملك حلب، واستجذب العرب إليه، وكان القائد أبو الحسن بن أبي
الثريا الذي كان وزير عطية قد سعى به ليلي وزارة محمود، وطالبه بمال
جليل.
وكان محمود قد رغب في جمع المال، وغلب عليه حب الدنيا فذكر له أبو بشر
أنه عاجز عن أداء ما طولب به، وأنه مما لا تصل يده إليه ولا إلى بعضه.
فأمر محمود بقتل ولد كان لأبي بشر وبقتل أخيه، فقتلا وقطع رأساهما،
وعلقا في عنقه، فسمع أبو بشر وهو يقول:
ويح دهري ما أمره ... ما وفي خير بشره
وحلف أبو بشر أنه بعد ما فعله بابنه وأخيه لا يظهر له شيئاً من ماله.
وقال: كل من عنده شيء مودع فهو في حل منه وسعة.
وندم محمود على ما فعل، وأراد الرجوع له، وأرسل إليه شافع بن الصولي أن
يقرر عليه شيئاً ويطلقه فامتنع.
واتفق أن محموداً اصطبح، وقدم إليه طعام بعد سكره، فأنفذ منه لأبي بشر
مع
(1/181)
فراشه، فقام قائماً، وقئل الأرض، وشكر
ودعا. فعرف ابن أبي الثريا، فركب، ولقي الفراش ودفع إليه مائة دينار،
وسأله أن يقول لمحمود: إن هذا شيخ خرف لأنه لم يقبل طعام مولانا، وقال:
كافأه الله وعجل عليه لما. ففعل الفراش ذلك.
ودخل ابن أبي الثريا عقيبه على محمودث وجاراه في حديث لا يتعقق بأبي
بشر فلم يقبل عليه، ووجده مملوء القلب غيظاً من جواب الفراش. فقال ابن
أبي الثريا: " الله لا يشغل لمولانا خاطراً، فما أراه منبسطاً في مجلسه
ولا مصغياً إلى المملوك لما. فحدثه بما قال الفراش، فقال يا مولانا: لم
تزل إليه محسناً ويقابلك بالإساءة فكيف يكون بعدما جرى عليه وعلى ابنه
وأخيه ما جرى. وأنا أدري أنك تريد ماله، وقد تكرر قوله إنه لا يعطيك
شيئاً. قال محمود: " هذا سيفي وخاتمي، خذهما وامض إليه فان لم يقر بشيء
فاقتله.
فقام ابن أبي الثريا من عنده بذلك، واشتغل محمود بالشرب فنهم منه،
وأحضر ابن أبي الثريا أبا بشر فلم يطالبه بمال بل قال له، " ما زلت
تتجلد حتى صرت إلى هذه الحال ". فقال: " يا قائد السوء قد علمت أن هذا
كله من سعيك، والأجل لا مرد له، وهذا موت الشمهداء، ولكن استعد لرجلك
بحبل، فستموت ميتة الكلاب، وتجر جيفتك إلى الخندق.
وقتل أبو بشر، ورمي وسط بئر بستان القصر. وصعد الوزير أبو نضر بن
النخاس ثاني يوم قتل أبي بشر إلى خدمة محمود، فقال له سراً:
" تمضي إلى أبي بشر لتقرير ما عليه، ويطلق لما. فقال: " يا مولانا وما
قد قتلته. فأطرق محمود ساعة وقال: تمت علي وعليه الحيلة، ويجب يا أبا
نصر أن تكتم هذا الأمر " قال أبو نصر: فما حدثت به إلا بعد موت محمود،
واستقل أبن أبي الثريا بوزارة محمود.
ابن منقذ
وأما سديد الملك أبو الحسن بن متقذ فإنه استشعر من تاج الملوك أن يقبضه
وكان أخاه من الرضاعة فاجتمع باسباسلار أبي حرب، المعروف، بخريبة
الفايا، وكان صاحب سر محمود ونديمه، وكان لابن منقذ إليه إحسان كثير
وصنائع جمة، فمال له:، قد استشعرت من تاج الملوك فانظز ما تعمله معي،
فقال: " تكلفني أن يقول الأمير أريد اقبض على فلان فأخبرك بذلك، لا
والله، ولكن أنا أنفذ إليك مع عجوز عندي ألفي دينار، فإذا نفدت طلبتها
منك فشأنك ونفسك
(1/182)
" فبقيت تلك الدنانير عنده مئة ثم نفذ
العجوز لطلبها، وكان قد أصلح حاله للسفر، فدفع إليها الدنانير، وركب من
يومه، وخرج من حلب إلى كفرطاب، فاستصحب منها ما أراد.
وسير حسين بن كامل بن الدوح إلى سديد الملك بن منقذ يسأله الاجتماع
فاجتمعا، فقال: له حسين: " ايش رأيك في الدخول إلى حلب "
فقال: ما أقول لك شيئاً لأن لك مالاً عظيماً، فإن أشرت عليك بتركه كنت
ملوماً عندك، ولكني أقول لك ما أعمل، وأنت ترى رأيك والله لا نظرت
محموداً أبداً " وسار إلى طرابلس فكتب محمود إلى ابن عمار يأمره بالقبض
عليه، ويبذل له ثلاثة آلاف درهم ورقية فلم يظفر به.
وسار ابن منقذ حتى وصل إلى طرابلس في سنة خمس وستين، فلقي ابن عمار
وأخاه، فكاتبهما محمود فتنكرا له.
وعزم ابن منقذ على الطلوع إلى مصر، فاتفق موت أمين الدولة ابن عمار فشد
ابن منقذ من جلال الملك علي بن عمار وعاضده بمماليكه ومن طلع معه أهل
كفرطاب، فأخرجوا أخا أمين الدولة، وتولى جلال الملك، وعظم محل منقذ
عنده حتى كان حكمه في طرابلس مثله وكاتبه محمود بتطييب قلبه، فلم به،
ولم يعد إلى حلب حتى مات.
وقيل: إن ابن النحاس، كاتب محمود، كتب إليه كتاباً من نفسه يضمن له
الرضا عن محمود، وكتب في آخره: إن شاء الله " وشدد النون من إن، ففطن
منقذ بأنه أراد قوله تعالى: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك "، فكتب
جوابه: وكتب إن الخادم، وكسر الألف، وشدد النون من إنا، ففطن أبن
النحاس بأنه أراد قوله تعالى: " إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ".
وأما محمود فإنه لما يئس من عود أبي الحسن بن منقذ قبض على أملاكه
(1/183)
جميعها وأقام حسين بن الدوح فإنه دخل إلى
حلب فقتله محمود ولم يمهله.
خبر الخفاجي
وكان محمود قد خطر له أن يولي في كل قلعة من قلاعه رجلاً من أهل حلب،
وتكون ذريته وأهله تحت يديه، وطلب من الوزير ابن أبي الثريا أن يختار
له من يوليه عزاز، فقال: " لا أجد لذلك إلا أبا محمد بن سنان الخفاجي "
وكان أبو نصر بن النحاس حاضراً، فصوب الرأي فيه فأحضره محمود وولاه بعد
أن امتنع ثم أجاب.
ثم إنه استوحش عليه فاستدعاه محمود عدة دفعات إلى حلب، فتعلل عليه ولم
يحضر، وكان أبو نصر بن النحاس صديقه وكان كاتب محمود، فكان يكتب إليه
ويحذره.
فأمره في بعض الأيام أن يكتب إليه كتاباً يتلطفه ويأمره بالحضور
والكتاب عن أبي نصر، لأنه كان يعلم ما بينهما من المودة، وأمره أن يضمن
له عن محمود كل خير، وأمره أن يكتب الكتاب بين يديه، ولم يقع له أن
يلغز فيه شيئاً.
قال أبو نصر: " فما قدرت أن أعمل فيه سوى أن شددت النون من إن شاء
الله، وتناهيت في لفظ الكتاب، وقلت: لو عرفت ضد ما كتبت لما كنت بصورة
من يغشه " وأخذ محمود الكتاب ووقف عليه، وكرر فيه نظره فرآه كافياً
شافياً، فأمر بإلصاقه وعنوانه، ودفعه لبعض أصحابه ووصاه أن يقول: " هذا
كتاب دفعه إلي أبو نصر بداره " وسار الفراش.
فلما وقف أبو محمد عليه كرر فيه نظره، وبقي متعجباً منه، ويقول: " أخي
أبو نصر أعطاك الكتاب بداره أم بالديوان أم بالقلعة قدام الأمير "
فقال: " بل بداره " فقال: ما هذا صحيح، فحلف له فلم يصدقه إلى أن قال:
" وقعت على المعنى. وكتب جوابه يذكر فيه شكر أبي نصر، وأنه مهتنم
بالحضور عند زوال حمى جسمه ثم إنه كاتب أبا نصير خفية، وأعلمه أنه عثرر
على المعنى في تشديد " إن ".
وقد ذكرنا أنه جرى له ذلك مع ابن منقذ فيحتمل أن يكون وقع ذلك معهما
جميعاً.
ثم إن محموداً أنكر وقال: " ما أعرف قتله إلا منك "، فقال: " كيف "
قال: تمضي إليه اليوم ومعك ثلاثون فارساً يقفون لك في بعض الطريق،
وتقدم منك إليه
(1/184)
من يعلمه بوصولك ومعك في رانك هذه
الخشكنانة ومعك أنت خشكنان غيره، فإذا فعلت ذلك لا بد أن ينزل ويلتقيك
من قلعة عزاز، ويعرض عليك الصعود والنزول عنده، فقال له: أنا موجل
ومستحلف أن لا أنزل على الأرض، ولا آكل لك طعاماً، وطول الحديث معه إلى
أن تعلم أنه قد جاع، ثم اذكر أنت الجوع واخرج لك خشكنانة من الذي معك،
ثم أخرج المسمومة فادفغها إليه، وكل أنت التي لك وتحدث معه ويكون
حديثكما على فرسيكما وأنتما بمعزل من أصحابكما، وطول معه الحديث ولا
تبرح حتى يستوفي أكلها، وعلامة صدقك موته، وإلا ضربت عنقك.
قال أبو نصر بن النحاس: فنزل علي من ذلك أمر تمنيت الموت معه فخرجت
وأنا على غاية من الجزع والتأسف كيف قضى الله ذلك على يدي، وجعلت دقعة
أعول على الهرب، ثم إني أفكر في أولادي وأهلي، وإنني إن فعلت ذلك
أهلكتهم لعلمي بظلم صاحبي، ثم إن الفرسان متوكلة بي.
فلما اجتمعت به فعلت ما ذكره لي، ثم ودعته عند استيفاء أكل الخشكنانة
ورجعت من موضعي مبادراً، وأبعدت من أرض عزاز، وركنت جنيباً كان معي
وجديت في السير خوفاً من الطلب وصعد أبو محمد إلى المركز، فوجد مغصاً
شديداً ورعدة، ثم قال: لاقتله أخي أبو نصر، اطلبوه فركبت الخيل خلفه
فلم تلحقه.
ووصل أبو نصر فاجتمع بمحمود، فعرفه ما جرى فلما كان من ذلك الغد وصل
رسول من عزاز يستدعي الشريف النقيب أبا المعالي الفضل بن موسى وابنه
سنان بن أبي محمد الخفاجي، وجماعة من أهله وذكر الرسول أنه في السياق
فمنع محمود ولده من الخروج، وأمر الشريف أن يتولى القلعة إلى أن ينفذ
إليها والياً، فولاها بعد خمسة أيام وأحداً من أصحابه.
وتوفي أبو محمد في قلعة عزاز في سنة لست وستين وأربعمائة، وقيل سنة
أربع وستين وهو الصحيح، وحمل إلى حلب، وصفى عليه الأمير محمود بن صالح
وقيل: إنه توفي في سنة ثلاث وستين والأول أصح ولما أحس بالموت عمل:
خف من أمنت ولاتركن إلى أحد ... فما نصحتك إلا بعد تجريب
إن كانت الترك فيهم غير وافية ... فما تزيد على غدر الأعاريب
تمسكوا بوصايا اللؤوم بينهم ... وكاد أن يدرسوها في المحاريب
(1/185)
وقيل: إنه كان كتبها أبو محمد من عزاز إلى
سديد الملك بن منقذ، ويذكر له في كتابه أخواله ولجاج محمود في طلبه،
وتغير نيته فيه، وخوفه من غائلته وظلمه.
الشاعر ابن حيوس
وفي سنة خمس وستين وأربعمائة وقيل في شوال سنة أربع وستين وفد أبو
الفتيان بن حيوس على محمود بن نصر بن صالح، وكان سديد الملك بن منقذ
اجتمع به بطرابلس، ورأى نفور بني عمار منه لأجل ميله إلى الدولة
المصرية، فأشار عليه أن يقصد محموداً بحلب، فقصده صحبة نصر بن سديد
الملك بن منقذ، فأحضره محمود.
وكان قد جلس في مجلسه وأمر بإحضار الشراب فشرب أقداحاً، ثم قال: ارفعوا
الخمر فإن ابن حيوس يحضرني ممتدحاً، وفي نفسي أن أهبه جائزة سنية فإن
كان الشراب في مجلسي قيل وهبه وهو سكران " فرفع وحضر الأمير أبو
الفتيان فأنشده قصيدته الميمية التي أولها:
قفوا في القلى حيث انتهيتم تذمماً، ... ولا تقتفوا من جار لما تحكما
أرى كل معوج المودة يصطفى ... لديكم، ويلقى حتفه من تقوما
وهي قصيدة طويلة، أحسن فيها كل الإحسان، وذكر إشارة ابن منقذ عليه
بقصده فقال:
سأشكر رأياً منقذياً أحلني ... ذراك فقد أولى جميلا وأنعما
فوهب له آلف دينار ذهباً في صينية فضة، وجعلها له رسماً علية في كل
سنة.
واحتفر الخندق بحلب فجاءه أبو الفتيان فقال: " هذه أعمال يعجز عنها
كسرى وذو الأكتاف " فقال محمود: " ما كان الأمير أبو الحسن ينفذك حتى
عملت واجتمع بباب محمود بن نصر جماعة من الشعراء، فلم تصل إلى واحد
منهم جائزة غير ابن حيوس، فكتب إليه ابن الدويدة، المعروف بالقاق:
على بابك الميمون منا عصابة ... مفاليس فانظز في أمور المفاليس
وقد قنعت منك العصابة كلها ... بعشر الذي أعطيته لابن حيوس
(1/186)
وما بيننا هذا التفاوت كله ... ولكن سعيد
لا يقاس بمنحوس
فقال محمود: " والله لو قال بمثل الذي أعطيته لأعطيتهم مثله " ثم أمر
لهم بالجائزة مائة دينار أو أكثر.
وقصد الروم ناحية عزاز في جموعهم، فخرج محمود إليهم في عدة قليلة تناهز
ألف فارس، فاندفع الروم بين أيديهم، وقصدوا أنطاكية واحتموا بها في سنة
أربع وستين وافتتح محمود قلعة السن في تاسع شهر ربيع الآخر سنة ست
وستين.
وفاة محمود بن نصر
ومرض محمود بن نصر بن صالح بحلب في جمادى الأولى من سنة سبع وستين
وأربعمائة وحدثت به قروح في المعا كانت سبب منيته.
وكان محمود في أول ملكه حسن الأخلاق، لين الجانب، كريم النفس، عفيفاً
عن الفروج والأموال، ثم تنكر وزاد عليه حب الذنيا، وجمع المال فلحقه من
البخل ما لا يوصف.
(1/187)
|