زبدة الحلب في تاريخ حلب

القسم الثالث عشر
عطية بن صالح بن مرداس
عطية وابن أخيه
وجلس أخوه أسد الدولة عطية بن صالح بن مرداس في منصبه يوم الجمعة، فبلغ ذلك محمود بن نصر بن صالح وهو في حلته فلم يرض بالوصية، وأرسل إلى عطية يقول له: " إن معز الدولة شرط على نفسه أن يرد علي البلد عند موته لما تسلمه مني، وأنا أخذته بسيفي من المصريين عن غلبة وقهر، وهو إرثي عن أبي. وعرف ذلك مشايخ العشيرة واجتمعوا على صحة ما ذكره، وساعدوه على منازلة حلب، فكان في كل وقت يقصدها ويرعى زرعها ويأخذ ما في ضواحيها ويرحل عنها.
فجاء في رجب من سنة خمس وخمسين وأربعمائة، ونزل بحلته على عين سليم، فخرج إليه أسد الدولة عطية فكسره، ونهب حلته وانهزم محمود
ثم إنه تجمع إليه شبل الدولة بن جامع، ومحمد بن زغيب، وغيرهما من بني كلاب، ونزلوا على قنسرين وعطية نازل على السعدي بباب حلب فلم يقدروا على التزول على حلب.
فسار إليهم سيف الدولة منيع بن مقلد بن كامل فقوي جأش محمود به لأنه كان ذا مال عظيم. وكان كريماً يطعم العرب ويعلق على خيلهم، ويخلع ويهب، فلما حصل معهم نزلوا على حلب. وحاصروا حلب شهوراً فضرب حجر المنجنيق منيع بن مقلد فقتله.
وقيل: إن رجلاً حقيراً ضرب صدغه بمقلاع فيه حجر، فبقي أياماً، ومات، وذلك في العشر الأول من شوال سنة خمس وخمسين وأربعمائة.

(1/165)


وأوصى منيع بجميع ماله وما يملكه لخاله أسد الدولة أبي ذؤابة عطية الذي كان يحاربه. وكان إقطاعه يرتفع منه كل سنة ثمانون ألف دينار، وكان له في حصن يقال له المجدد، ثلاثمائة ألف دينار، وسلاح وآلة بمال عظيم.
وكان أبو الحسن علي بن محمد بن عيسى العمري الحلبي وزير منيع، وكان عطية قد دعاه إلى خدمته فامتنع، فلما مات منيع عاد أبو الحسن العمري إلى حلب فقبض عليه عطية، وقتله لحقده على ما فعله من امتناعه من خدمته.
ولعله احتج بأنه حمل منيعاً على حصار حلب مع محمود، وبعد أن قتله صلبه، ورثاه أبو محمد الخفاجي بأبياته التي يقول فيها:
ومعذل جار على غلوائه ... يروى حديث نداه عن أعدائه
واستوزر عطية أبا الحسن علي بن يوسف بن أبي الثريا الذي داره الآن مدرسة ابن أبي عصرون بحلب. ثم صالح عطية بن مرداس ابن أخيه محموداً، على أن يدفع لمحمود إقطاعاً بخمسة وعشرين آلف دينار، من ذلك: سرمين وباقي الإقطاع في بلد حلب من الأرتيق، وتحالفاً على ذلك وتمماه.
وفي نصف جمادى الأولى سنة ست وخمسين وأربعمائة، سلم ثابت بن معز الدولة إلى ابن عمه محمود معرة النعمان وكفرطاب وحماة، وكان فيها من قبل عمه. وذلك أن بني كلاب تجمعوا بأرض شيزر: شبل بن جامع بن زائدة، ومحمود ابن زائدة، ومنصور بن محمد بن زغيب، وحسين بن كامل بن حسين بن سليمان بن الدوح، وجماعة معهم من سبيعة وذؤيبة، وأجمع رأيهم على الوثوب على بلدان أسد الدولة عطية.
فأخذوا حماة وكفرطاب، وأتوا إلى معرة النعمان وفيها شهم الدولة خليفة بن جبهان، فأخذ منهم أماناً وسلمها، وساروا حتى نزلوا قريباً من
حلب، فسار عطية من حلب يكبس محموداً، وكان بمالد، فظفر به محمود، وعاد عطية منهزماً إلى حلب. ونزل محمود ببني كلاب على حلب، ومنعوا منها الميرة، وحصروها، وقاتلوها قتالاً كثيراً، وأشرفت على أمر عظيم من الجوع وقلة ما يدخلها. وكان أسد الدولة عطية قد أرزق أحداثها، فمنعوا باقي أهلها من التسليم.

(1/166)


فلما رأى أسد الدولة ضعف البلد صالح ابن أخيه محموداً. فكان لعطية حلب والرحبة وبالس ومنبج وعزاز وقنسرين. وسلم بعد ذلك ما كان في يده غير هذه المواضع المذكورة إلى ابن أخيه محمود بن نصر بن صالح، ووقع الصلح على ذلك.

استنجاد المرداسيين بالترك
واستدعى عطية بن خان وكان في ديار بني مروان مغاضباً لأبيه ملك الترك، وكانت الروم تمده بالخلع والدنانير إكراماً لأسد الدولة عطية لأنه كان مهادنهم، فقدم ابن خان إلى عطية في آلف قوس فأكرمهم وأضافهم.
فلما حصل ابن خان على باب حلب وكان هذا أول دخول الترك إلى الشام اتجمعت بنو كلاب إلى محمود بن نصر بن صالح، وقصدوا حلب فرأى محمود أنه لا طاقة لهم بالترك فانهزم.
ومشى السفراء بين محمود وبين عطية، فانعقد الصلح بينهما على أن يأخذ عطية حلب والرحبة ومنبج وعزاز وبالس وأعمال ذلك، ويأخذ محمود
ابن أخيه من الأثارب قبلة واقطاعه الذي كان قديماً وما كان في يده في أيام معز الدولة ثمال. وتم ذلك في المحرم من سنة سبع وخمسين وأربعمائة.
وخرج عطية بالأتراك وأحداث حلب إلى الغزو، ففتح كمنون، وسبى أهلها، وعاد إلى حلب غانماً. ودخل ابن خان حلب فخاف الحلبيون وعطية منه، فأغرى عطية بهم الأحداث من أهل حلب فنهبوهم ليلاً، في صفر من سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وقتلوا منهم جماعة، ونهبوا خيولهم وسلاحهم وما قدروا عليه من رحلهم.
وركب ابن خان منهزماً وكان ظاهر البلد وصاح تحت القلعة: " أليس قد غدرت بي وبأصحابي يا عطية، والله لأنزلك منها على أقبح قضية ". وسار إلى الشرق

(1/167)


فعبرت طائفة منهم إلى الجزيرة فنهبتهم بنو نمير، ورجع الباقون فصادفوا عسكرا للروم في بطريق لهم يعرف بالنحت، فلم يجدوا أبداً من شق عسكر الروم، وكان في عشرين ألفاً ففتح لهم الروم طريقاً بينهم ليطبقوا عليهم فعبروا سالمين.
وقتلوا من الروم خلقاً عظيماً، وكان السالم منهم نحوا من مائة وخمسين رجلاً، فركبت عليهم العرب بنو قريظ وربيعة بن كعب وغيرهم، فأشار أمير منهم يقال له قمار على الملك أن يموت كريماً، ولا يثق بالعرب فلم يفعل. والتجأ إلى منصور بن جابر فغدر به بعد أن كان أعطاه مقنعة زوجته ومخصرته، وقتل قمار وجماعة.

حلب من عطية إلى محمود
وسلم ابن خان في جماعة فلحق بمحمود، ونزل عليه وهو بسرمين،
فأمنهم، وبعث بهم إلى معرة النعمان. ثم أن محموداً سير ولده إلى أنطاكية رهينة، فوجهوا قطعة منهم، وتلقاه بالجنايب في كل منزل بمراكبها، وجعلوا له كل يوم خمسين ديناراً، وخلعوا عليه وعلى أصحابه خلعاً سنية، ووهبوا له في جملة ما وهبوا دبوس ذهب وزنه ثلاثمائة مثقال.
وسار محمود بمن جمعه من العرب، ومعه ابن خان التركي ومن انضوى إليه من التركمان، إلى مرج دابق، فخرج عطية إليهم، وجمع جموعاً كثيرة من العوفيين وغيرهم، وقصد محموداً والتركمان، في يوم الخميس حادي عشر جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين، فالتقوا، فانهزم عطية إلى حلب، وتبعه محمود بمن معه.
ونزل على حلب محاصراً لها وفيها عمه عطية وجاءه ظفر المستفادي رسولاً من المستنصر، وهو محاصر حلب، ولقبوه عظيم أمراء العرب عضد الدولة، سيف الخلافة، ذو الفخرين، وكان يلقب أولاً عز الدولة، وشمسها، فبقي محاصراً حلب مائة يوم ويومين.
ثم سلمها إليه عمه أسد الدولة بن صالح بعد حصار شديد وجوع عظيم، وأخذ عمه عطية الرحبة، وعزاز ومنبج، وبالس، وجميع الضياع التي شرقي حلب وشماليها، وأخذ محمود حلب وقبليها، واصطلحا صلحاً خالصاً ذلت به لهما العرب.

(1/168)