زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم السابع عشر
حلب وملكشاه السلجوقي التركي
سليمان حولى حلب
وأما سليمان بن قطلمش فإنه حاصر حلب مدة، ثم ترددت الرسل إلى أهل حلب
في التسليم، فاستقرت الحال بينهم على موادعة مدة.
وسير سليمان بن قطلمش قطعة من عسكره لاتباع العرب الذين كانوا
مع شرف الدولة، فهربوا، ولحقهم شدة عظيمة من دخول البرية في حزيران.
وتوجه سليمان إلى معرة النعمان وكفر طاب، وتسلمهما، ثتم سار إلى شيزر،
فقاتلهما وقرر أمرها على مال يحمل إليه، وأخذ لطمين، وشحنها بالرجال،
وعدل أصحابه بالشام عما عرف من سيرة العرب.
وجرت بالمعرة أسباب وصل لأجلها حسن بن طاهر وزير سليمان، في النصف من
جمادى الأولى، يطلب أصحابه فثارت فتنة بالبلد، وأخرجوه منه فخرج لوقته،
وأصبح قاتل البلد، وقتل جماعة من أهله في الحرب، وأمن الناحية الغربية،
وأمن الباقي منها وجعل على أهل البلد عشرة آلاف دينار.
وأما بلاد شرف الدولة فملكها بعده أخوه إبراهيم، ما خلا حلب، وكاتب من
بحلب في تسليمها إليه فلم يرده الخبر.
وأما الشريف حسن الحتيتي فإنه كان متقدم الأحداث ورئيسهم، فعمر لنفسه
في صفر من سنة ثمان وسبعين قلعة الشريف المنسوبة إليه، وبنى عليها
سوراً دائراً، وفصل بينها وبين المدينة بسور وخندق خوفاً على نفسه أن
يسلمه أهل حلب، وكانوا يبغضونه، ويكرهون ولايته عليهم
(1/217)
واتفق الشريف وسالم بن مالك صاحب القلعة
الكبيرة على أن كاتبا السلطان ملك شاه يبذلان له تسليم حلب إليه،
ويحثانه على الوصول أو وصول نجدة تدفع سليمان بن قطلمش.
وعمر سليمان بن قطلمش قلعة قنسرين وتحول إليها وتزوج منيعة بنت محمود
ابن صالح زوجة مسلم بن قريش.
ونزل على حلب وطال انتظار الشريف حسن لنجدة تصله من السلطان، فاجتمع
بمبارك بن شبل أمير بني كلاب، واتفقا على أن سار مبارك بن شبل إلى تاج
الدولة تتش يستدعيه إلى حلب ليتسلمها.
وعرفه ما استقر بينه وبين الشريف الحتيتي عن تسليمه حلب، ورغبة الكافة
في مملكته ففرح بدلك وجمع العسكر، وخرج من دمشق في المحرم من سنة تسع
وسبعين وأربعمائة إلى حلب، فحصر حصن سليمان بن قطلمش في قنسرين ووصل
إلى تاج الدولة جماعة من بني كلاب، ورحل إلى الناعورة وعول على مراسلة
الشريف حسن فإن سلم إليه تغلب وإلا عاد لحربه فبادر سليمان وهو نازل في
عسكره على حلب، وعارضه في طريقه على عين سيلم وتراءى العسكران، فدبر
أرتق عسكر تاج الدولة أحسن تدبير، والتقوا فانهزم عسكر سليمان.
مقتل سليمان بن قطلمش
وقتل سليمان وأسر وزيره الحسن بن طاهر وخلق من عسكره في يوم الأربعاء
الثامن عشر من صفر، فأطلق تاج الدولة الوزير ومن أسر، وغنم عسكره
والعرب الذين معه جميع ما كان في العسكر.
واختلف في قتل سليمان، فقيل: عارضه فارس من فرسان تاج الدولة فرماه في
صدغه بسهم فقتله.
(1/218)
وقيل: بأنه لما يئس من النصرة نزل عن فرسه،
وقتل نفسه بسكين خفه. وقيل: إن المصامدة تتبعت أسلاب القتلى فظفروا
بدرع مرصع بالياقوت والعقيان النفيس.
ونمى الخبر إلى تاج الدولة، فأحضره فقال: هذا يشبه سلب الملوك وسار إلى
الموضع وإذا به مختلط بدمه فقال: يشبه أن يكون هذا وقد كان قال لهم: لا
تبينوه لي حتى أركموه من بين القتلى فقيل له: ومن أين علمت ذلك فقال:
قدمه تشبه قدمي، وأقدام بني سلجوق تتشابه.
ثم قال بلسانه: ظلمناكم، وأبعدناكم ونقتلكم ثم مسح عينيه واغتم لقتله،
وترحم عليه، وأحضر أكفانا نفيسة فكفنه، وصلى عليه، وحمله إلى حلب فدفنه
إلى جانب مسلم بن قريش قبل أن ينقل مسلم إلى سر من رأى وقيل: دفن معه
في قبر واحد.
تتش في حلب
ولما جرى ما جرى من قتل سليمان وسار تاج الدولة إلى حلب عدل الشريف حسن
الحتيتي عما كان اتفق عليه مع مبارك بن شبل، وامتنع من تسليم حلب إلى
تاج الدولة، واحتج بأن كتب ملك شاه وصلته بتجهيز العساكر إليه.
فأقطع تاج الدولة بلد حلب وأعمالها لعسكره إلا ما كان لبعض العرب الذين
وفدوا عليه، فإنه أقره في أيديهم، ثم رحل إلى مرج دابق وأقام أياماً.
ثم عاد ونازل حلب، فعمد رجل من تجار حلب يجرف بابن البرعوني الحلبي،
وراسل تاج الدولة في تسليم حلب إليه، ورفع بعض أصحابه بحبال إلى بحض
أبراج السور، وساعده قوم من الأحداث ونادوا بشعار تاج الدولة في ذلك
الموضع وتسامع الناس فنادوا بشعاره في البلد جميعه وذلك في ليلة السبت
السادس والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة.
فانهزم هبة الله أبو الشريف حسن من قلعة ابنه إلى القلعة الكبيرة إلى
سالم بن
(1/219)
مالك، وبقي الشريف حسن في قلعته المجددة،
ومعه فيها رجال من أحداث حلب، فخافوا على أهلهم بحلب، فخرجوا منها وبقي
الشريف حسن في قلعته في نفر قليل، فطلب الأمان فأمنه تاج الدولة بوساطة
ظهير الذين أرتق.
وخرج أرتق وصار عنده بماله وأهله، وسلم القلعة إلى تاج الدولة تتش
وسيره أرتق إلى بيت المقدس بماله فأقام به.
وعصى سالم بن مالك بالقلعة الكبيرة، وكان شرف الدولة بن قريش
لما ولاه فيها أوصاه أن لا يسلمها إلا إلى السلطان ملكشاه، فالتزم
بوصيته، وامتنع أن يسلمها إلى تتش وأقام تتش بمدينة حلب إلى اليوم
السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر، وأحسن إلى أهلها، وخلع على
أحداثها، فوصله الخبر أن السلطان ملك شاه وصلت عساكره إل نهر الجوز
قاصدين مدينة حلب، فسار تاج الدولة إلى دمشق، وترك بعض أصحابه بقلعة
الشريف ومعه عدة في اليوم المذكور، ومعه قوم من بياض حلب، فأقام نائبه
أياماً يسيرة، ثم سار ولحقه في دمشق.
ملكشاه في حلب
ووصلت عساكر ملك شاه حلب مع برسق واياز وبوزان وغيرهم، ونزل بعضهم إلى
بلد الروم، وامتدوا فيما بينها وبين أنطاكية، ووصل بعضهم إلى حلب،
وسارع أهل حلب وسالم بن مالك ومبارك بن شبل إلى طاعة الواصل وخدمته.
ثم إن السلطان وصل بعدهم إلى الرها فسلمها إليه الفلاردوس وأسلم على
يده، وسار منها إلى قلعة دوسر وهي المعروفة بجعبر فتسلمها في طريقه من
جعبر بن سابق القشيري، وقتله لما بلغه عنة من الفساد وقطع الطريق.
وسار حتى وصل حلب في الثالث والعشرين من شعبان من سنة تسع وسبعين
وأربعمائة وتسلم حلب وقلعتها وسائر قلاع الشام، وعوض سالم بن مالك عن
قلعة
(1/220)
حلب بقلعة دوسر، وأقطعه معها الرقة وعدة
ضياع وتوجه السلطان إلى أنطاكية فتسلمها من الحسن بن طاهر وزير سليمان
بن قطلمش، ورتب بأنطاكية يغي سيان بن ألب في عسكر واستخدم حسن بن طاهر
في ديوانها، وتم إلى السويدية، وصلى على البحر، وحمد الله على ما أنعم
علمه مما تملكه من بحر المشرق إلى بحر المغرب.
آق سنقر وال على حلب
وعاد إلى حلب، ورتب بها الأمير قسيم الدولة أق سنقر ومعه عسكر، واستخدم
بها تاج الرؤساء ابن الحلال في جمع الأموال.
ووصل إليه الشريف حسن الحتيتي وهو بحلب يلتمس العودة إلى حلب، ويذكر
خدمته وما جرى عليه، فتظلم منه أهل حلب فلم يأذن له السلطان فيما
التمسه.
وكان هذا السلطان من أعظم الناس هيبة وأكثر الملوك عدلاً حتى أن أحداً
لا يقول: إن أحداً من ذلك العالم العظيم من عسكره وحزره أربعمائة
آلف أخذ لأحد من الرعايا قسراً وظلماً ما يساوي درهماً واحداً، حتى أن
البازيار الذي له اقتنص طائرين من الدجاج من الأثارب طعماً للبزاة في
الطريق، فعلم بذلك فعظم عليه حين رآه وهدده حتى أعادها إلى صاحبها بعد
عوده من أنطاكية.
وخرج هذا السلطان إلى ضياع معرة النعمان يتصيد، وبات بضيعة بينها وبين
المعرة ثلاثة فراسخ، فابتاع منها أصحابه ما احتاجوه بأوفى ثمن، ووضع
السلطان في هذه السنة المكوس من جميع بلاده، ولم يبق من يستخرج مكساً
في مملكته.
وأقام السلطان بحلب إلى أن عيد بها عيد الفطر، وعاد منكفئاً إلى
الجزيرة،
(1/221)
وقد قرر ولاية حلب، وولى بقلعتها نوحاً
التركي، وبلغه عصيان تكش بترمذ فسار السلطان، وقطع ما بين حلب ونيسابور
في عشرة أيام، وعاد منكفئاً إلى الجزيرة وقد قرر ولاية حلب لقسيم
الدولة أق سنقر التركي في سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وجعل معه أربعة
ألاف فارس ومكنه فيها.
وقيل إنه مملوك لملكشاه، وقيل إنه لصيق وإن اسم أبيه النعمان، وولى على
جمع المال بحلب في الديوان تاج الرؤساء أبا منصور بن الخلال
الرحبي وقال شاعر حلبي فيه وفي الوزير ابن النحاس:
قد زنجر العيش على الناس ... ما بين خلال ونحاس
فأحسن قسيم الدولة في حلب السيرة وأجمل السياسة وأقام الهيبة وأفنى
قطاع الطريق، وتتبع الذعار في كل موضع فاستأصل شأفتهم.
وعمرت حلب في أيامه بسبب ذلك لورود التجار والجلابين إليها من كل مكان.
وحكى لي والدي رحمه الله: أنه استأصل أرباب الفساد إلى حد بلغ به أن
نادي في قرى حلب وضياعها أن لا يغلق أحد بابه، وأن يتركوا آلاتهم التي
للحرث في البقاع في الليل والنهار فخرج متصيداً فمر على فلاح وقد فرغ
من عمله، وأخذ آلة الحرث معه إلى منزله، فانفرد من عسكره وقال له: ألم
تسمع مناداة قسيم الدولة بأن لا يرفع أحد من أهل القرى شيئاً من آلة
الحرث فقال: بلى والله حفظ الله قسيم الدولة والله لقد أمنا في أيامه
من كل ذاعر ومفسد، وما رفعت هذا خوفاً عليها ممن يأخذها، وإنما ههنا
دويبة يقال لها ابن آوى إذا تركنا هذه العدة ههنا جاءت وأكلت هذه
الجلود التي عليها.
فلما عاد قسيم الدولة أمر بالصيادين وبثهم في أقطار بلد حلب لصيد بنات
آوى حتى أفنوها من ضواحي حلب وكان ذلك سبباً لقلتها في بلد حلب إلى
يومنا هذا، دون غيرها من البلاد.
وفي أيام قسيم الدولة جدد عمارة منارة حلب الموجودة في زماننا هذا،
وجددت في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.
(1/222)
وجرى خلف بين أهل لطمين وبين نصر بن علي بن
منقذ في سنة إحدى وثمانين، فخرج أن سنقر إلى شيزر، وقاتلها، وقتل من
أهلها مائة وثلاثين رجلاً، وعاد إلى حلب بعد أن نهب ربضها، واستقرت
الموادعة بينه وبين نصر صاحب شيزر.
وكان أق سنقر قد تزوج خاتون داية السلطان ملك شاه، وكانت جالسة معه في
بعض الأيام في داره بحلب، وفي يده سكين فأومأ بها إليها على سبيل
المداعبة االمزاح، فوقعت في قلبها للقضاء المحتوم غير متعمد لها، فماتت
وحزن عليها حزناً شديداً وتأسف لفقدها، وحملها في تابوت لتدفن في مقابر
لها بالشرق، وخرج من حلب لتوديع تابوتها في مستهل جمادى الآخرة وتسلم
أق سنقر حصن برزويه، في شعبان اثنتين وثمانين وأربعمائة، من لأرمن، وهو
آخر ما كان قد بقي في أيدي الكفار من أعمال أنطاكية وأقام في يده تسعة
أشهر، وهدمه في ربيع الأول من سنة ثلاث وثمانين.
وكتب ولاة الشام إلى السلطان ملك شاه يشكون ما يلقونه من خلف بن ملاعب
بحمص من قطع الطريق وإخافة السبيل، فكتب إلى قسيم الدولة وتاج الدولة
ويغي سيان وبوزان صاحب الرها، فساروا في عساكرهم، فحاصروها وضايقوها
ففتحوها، وأعطاها السلطان تاج الدولة تتش ونزل قسيم الدولة على أفامية،
فأخذها من خلف بن ملاعب وسلمها إلى نصر بن منقذ ثم إن السلطان أمر بحمل
ابن ملاعب في قفص حديد إلى أصبهان، فحبسه إلى أن مات ملك شاه، وتوجه
إلى مصر وعاد إلى الشام، واحتال حتى ملك أفامية بالحيلة بعد ذلك.
ولما فتحت حمص تسلمها قسيم الدولة إلى أن ورد عليه أمر السلطان
بتسليمها إلى تتش.
(1/223)
وفاة السلطان ملكشاه
ومات السلطان ملك شاه ببغداد في الليلة السادسة عشر من شوال سنة خمس
وثمانين وأربعمائة وكان أن سنقر قد خرج من حلب وافداً عليه، فلما بلغه
الخبر عاد إلى حلب، وخطب لابنه محمود مدة يسيرة، ثم إنه خطب بعد ذلك
لتاج الدولة تتش، على ما يذكر.
انتصار تتش
ولما عاد إلى حلب قبض على شبل بن جامع أمير بني كلاب وعلى ولده مبارك،
واعتقلهما بالقلعة. وراسل تاج الدولة قسيم الدولة ويغي سيان وبوزان
وجذبهم إلى طاعتهم، والكون في جملته ليسيروا معه إلى بلاد أخيه
ليفتحها، ويأخذ المملكة فأجابوه إلى ذلك، وخطبوا له في أعمالهم.
فسار في أول سنة ست وثمانين، وسار إليه قسيم الدولة ويغي سيان وبوزان،
ووثق به أن سنقر، وفتح تاج الدولة الرحبة ونصيبين، فجمع إبراهيم بن
قريش وتأهب للقاء تاج الدولة والتقى العسكران على دارا، وعاد كل فريق
إلى موضعه، فركب الأمير قسيم الدولة في خلق من العسكر، وحمل حتى توسط
عسكر إبراهيم فلم يثبت العرب، وتبعه باقي العسكر، فقتل منهم ما يقارب
عشرة آلاف.
وأسر إبراهيم بن قريش وعمه مقبل وغيرهم فقتلهم تاج الدولة صبراً وسبيت
الحرم، وقتل جماعة من نساء العرب نفوسهن.
وأمر تاج الدولة بعد ذلك يجمع الأسرى ووهبهم من محمد بن شرف الدولة
وكان قد صار في جملته قبل الحرب، وأقطعه نصيبين.
(1/224)
وعظمت هيبة تاج الدولة بعد هذه الوقعة،
وراسلته زوجة أخيه تحثه
على الوصول، واستقر الحال على أن تتزوجه، فسار عند ذلك بعد أن تسلم من
ابن جهير آمد وجزيرة ابن عمر، حتى وصل إلى تبريز، ففسخ عنه قسيم الدولة
أن سنقر صاحب حلب وعماد الدولة بوزان وسارا إلى بر كيارق ليكونا في
خدمته، وكان بالقرب من الري.
وكان سبب نفار قسيم الدولة وبوزان تقريب تاج الدولة يغي سيان وميله
إليه، وقيل: لأنه لم يولهما شيئاً من البلاد التي افتتحها، فرجع تاج
الدولة إلى ديار بكر، وشحنها بالرجال، وسار منها إلى سروج فأخذها وولى
فيها بعض ثقاته.
ووصله الخبر بوصول أن سنقر وبوزان إلى باب السلطان بركيارق، وإكرامه
لهما، وأنهما وجدا خاله مستولياً على أمره، فقتلاه وبعض الأمراء.
فانبسطت يد بركيارق، واستقامت أحواله، وخاطبه أق سنقر وبوزان أن يسير
معهما إلى بلادهما حلب والرها وحران، لئلا يجري عليهما حادث من تاج
الدولة عند عودته، وضمنا له أن يكونا بينه وبين تاج الدولة، فسار معهما
إلى الرحبة، وعقد بينهما وبين علي بن شرف الدولة حلفاً.
السلطان بركيارق في حلب
وسار علي بن قريش، ومعه جماعة من بني عقيل وقطعة من عسكر السلطان
بركيارق مع قسيم الدولة، فأوصلوه إلى حلب، فدخلها في شوال من سنة ست
وثمانين وأربعمائة.
وسار بوزان إلى بلاده، وعاد من كان معهما إلى السلطان وأما تتش فإنه
قطع الفرات وتوجه إلى أنطاكية، وأقام بها مع يغي سيان مدة، فغلت بها
الأسعار فسار إلى دمشق في ذي القعدة من هذه السنة.
وكان وثاب بن محمود مع نفر يسير من بني كلاب، فأنفذ أن سنقر بعد مسير
تتش إلى دمشق من أحرق حصن أسفونا وحصن القبة، وقبض أقطاع وثاب.
(1/225)
وفي سنة سبع وثمانين، قبض على الوزير أبي
نصر محمد بن الحسين بن النحاس بسعاية المجن بركات الفوعي به إلى قسيم
الدولة. ولم يزل به إلى أن أمره بخنقه، وهو معتقل عنده، فخنقه في هذه
السنة.
وفي شهر ربيع الأول من سنة سبع وثمانين وأربعمائة، خرج تاج الدولة تتش
من دمشق، ومعه خلق عظيم من العرب، ولقيه يغي سيان بعسكر أنطاكية بالقرب
من حماة وأقاموا هناك أياماً، وزوج ولده الملك رضوان من ابنة يغي سيان،
وسيره عائداً إلى دمشق.
وسار تاج الدولة بعساكره فنزل تلمس، وأقام بها أياماً، فوصله الخبر
بوصول كربوقا صاحب الموصل وبوزان صاحب الرها، ويوسف بن
أبق صاحب الرحبة، في ألفين وخمسمائة فارس إلى حلب، لنجدة أن سنقر، فعدل
تاج الدولة إلى الحانوتة، ورحل إلى الناعورة، وعول على قصد الوادي، وأن
يسير منه إلى أعمال أنطاكية، وأخذ العسكر دواب النقرة وبعض زرعها.
موقعة سبعين ومقتل أق سنقر
فخرج أق سنقر ومن وصله من النجدة وجماعة كثيرة مع شبل بن جامع ومبارك
ابن شبل من بني كلاب وكان قد أطلقهما من الإعتقال في هذه السنة ومحمد
بن زائدة في جماعته وجماعة من أحداث حلب والديلم والخراسانية، وعدة
عسكره تزيد عن ستة آلاف فارس وراجل، في أحسن أهبة وأكمل عدة.
وقصد عسكر الملك تاج الدولة، يوم السبت تاسع جمادى الأولى من السنة،
والتقوا على سبعين، وكان أول من قطع السواقي التي كانت بين العسكرين
وبرز للحرب أن سنقر، ورتب مصاف عسكره.
وبقي عسكر بوزان وكربوقا لم يتمكن من قطع السواقي، فيختلطون بالعسكر،
(1/226)
ولم يستنصح أن سنقر العرب الذين معه، وخاف
ميلهم إلى تاج الدولة، وكان عسكر تاج الدولة في مثل هذه العدة من العرب
والرجالة،
وكان الترك معه في قلة لأق أصحابه وخواصه كانوا متفرقين في البلاد التي
افتتحها.
وحمل عسكر تاج الدولة على عسكر أن سنقر فلم يثبت لحظة واحدة، وانهزمت
العرب وبوزان وكربوقا نحو حلب فدخلاها، واستأمن يوسف بن أبق إلى تاج
الدولة.
وأسر أن سنقر وجماعة من خواصه ووزيره أبو القاسم بن بديع، وأحضر بين
يدي تاج الدولة أسيراً، فقتله صبراً، وقال له تاج الدولة: لو ظفرت بي
ما كنت صنعت. قال: كنت أقتلك، فقال له: فأنا أحكم عليك بما كنت تحكم
علي، فقتله.
وحكى وثاب بن محمود قال: جلس تاج الدولة، وطلب قسيم الدولة، فأحضر
مكشوف الرأس، مكتوفاً، فقام تاج الدولة، وكلمه كلاماً كثيراً، فلم يرد
عليه جواباً، فضربه بيده أطار رأسه
وحمل رأسه إلى حلب والي دمشق، ودفن جسده في القبة التي على سطح جبل
قرنبيا، غربي المشهد الذي ابتناه بقرنبيا، ثم نقله ابنه زنكي لما فتح
حلب إلى مدرسة الزجاجين، ووقف شامر قرية من بلد حلب، على من يقرأ على
قبره.
واختار قسيم الدولة وقتاً للخروج إلى اللقاء، وهو وقت قران زحل للمريخ
في بزج الأسد وهو طالع بيت السلطان بحلب وكان موقناً بالظفر، فخرج
وأمرهم أن يلحقوه بالحبال لكتافهم بها، وكان تاج الدولة قد عزم على ما
ذكرناه، ولم يكن موثراً لقاءه، فنصره الله تعالى كما شاء وأراد، لا راد
لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا تأثير لشيء في ملكوته.
وأسر شبل بن جامع أمير بني كلاب فوهبه تاج الدولة لابن أخيه وثاب بن
محمود.
(1/227)
|