زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم الثامن عشر
حلب ورضوان بن تتش
487 - 507 هجرية
تتش في حلب
وعول بوزان وكربوقا على الإعتصام بحلب، وانتظار النجدة من بركيارق، لأن
كتاب الطائر وصل إلى حلب يخبر بوصول النجدة إلى الموصل، وقرروا مع
الأحداث ذلك.
فوصل تاج الدولة بعسكره إلى حلب، وتحير أهلها فيما يفعلونه، فبادر قوم
من الأحداث ممن لا يعرف ولا يذكر ففتحوا باب أنطاكية.
ودخل وثاب بن محمود في مقدمة أصحاب تاج الدولة إلى حلب، وسكن البلد،
فنزل الوالي بقلعة الشريف، وسلمها إلى تاج الدولة فدخلها، وبات بها،
فراسله نوح والي القلعة الكبيرة، وسلمها إليه بعد أن توثق منه، وطلع
تاج الدولة إليها في الحادي عشر من جمادى الأولى من السنة.
مقتل بوزان ثم تتش
وقبض تاج الدولة على بوزان فضرب رقبته صبراً، وأخذ كربوقا واعتقله
بحمص، وأقطع الشام لعسكره، وأقطع معرة النعمان واللاذقية ليغي سيان،
ورتب أبا القاسم بن بديع وزيراً بحلب.
وأقام ثلاثة أيام ثم توجه فقطع الفرات، وتسلم حران، وسار إلى الرها
فتسلمها، وقيل: بأن واليها امتنع من تسليمها إلا بعلامة من بوزان، وأن
بوزان كان محبوساً بحلب،
(1/229)
فأنفذ إليه من قطع رأسه ورماهم به، فسلموا
الرها إليه، وتسلم ديار بكر.
وسار إلى ميافارقين فقتل بني جهير بعد أن قطع رؤوس أولادهم وعلقها في
رقابهم.
وعدل عن الموصل، وسار للقاء زوجة أخيه خاتون الجلالية لإتمام ما كان
استقر بينهما فماتت في الطريق.
وتوجه تاج الدولة إلى الري، فوصله خلق كثير من التركمان وعساكر أخيه،
وملك كل بلدة مر بها، وخطب له على منابر الإسلام: الشام والفرات،
وبغداد وعند وصوله إلى همذان كتب إلى ولده الملك رضوان يستدعيه من دمشق
فتوجه إليه ومعه بقية من تخلف من أصحابه بالشام ودخل تاج الدولة الري
وملكها في المحرم سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وخرج بركيارق من أصبهان،
والتقوا على خمسة فراسخ من
الري في يوم الأحد السابع عشر من صفر فانهزم عسكر تاج الدولة تتش
واستبيح ونهب، وقتل ذلك اليوم تاج الدولة وخواصه في الحرب.
وقتل تاج الدولة بعض أصحاب قسيم الدولة، بعد أن اصطنعه وقربه، ضربه
بنشابة في ترقوته اليسرى فوقع، وقطع رأسه وطيف به العسكر، ثم حمل إلى
بغداد فطيف به، وتفرق من سلم منهم إلى مواضعهم.
رضوان في حلب
ووصل الخبر إلى ولده الملك رضوان، وهو نازل على الفرات بعانة متوجهاً
إلى والده، فقلق وخاف من وصول من يطلبه فحط خيمه في الحال.
(1/230)
ورحل مجدا حتى وصل حلب في جماعة من غلمانه
وحاشيته، وترك باقي عسكره من ورائه، فسلم وزير أبيه أبو القاسم بن بديع
إليه المدينة والقلعة، وصعد إليها، وأخذوا الأهبة لمن يقصدها.
ووصل إليه إلى حلب من الفل أخوه أبو نصر دقاق وجناح الدولة حسين،
فاستولى جناح الدولة على تدبير ملك رضوان، وكان تاج
الدولة قد جعله مدبراً له، وهو أتابكه في حياته، وجعل دقاق مع أتابك
ظهير الدين.
ولما افتتح ديار بكر سلمها إلى ظهير الدين، وشمس الملوك دقاق معه، ولم
يزل بها إلى أن سار إلى الري فسارا معه.
دقاق في دمشق
وعاد دقاق إلى حلب فأقام بها مدة يسيرة، وراسله الأمير ساوتكين الخادم
وكان نائب تاج الدولة بدمشق في حفظ القلعة والبلد، وقرر لدقاق مملكة
دمشق سرا، وخاف من أخيه رضوان، فخرج من حلب وهرب إلى دمشق من غير أن
يعلم به أحد، وجد في السير، وتبعه رضوان، وأنفذ خلفه عدة من الخيل
ففاتهم، فدخل دمشق فسارع ساوتكين إلى طاعته، وصارت دمشق وبلادها بحكمه.
وقتل رضوان أخويه أبا طالب وبهرام ابني تتش، وكان أتابك طغتكين معتقلاً
عند السلطان بركيارق، وقبض في الوقعة فطلبوا منه كربوقا والجماعة الذين
معه،
(1/231)
وكانوا في يد رضوان فاتفق رأيهم أن يسيروا
عضب الدولة أبق بن عبد الرزاق إلى رضوان لاستخلاص كربوقا وكان أبق
أيضاً من جملة من قبض عليه من الجماعة الذين كانوا مع تتش فخاطبوا
السلطان في إطلاقه وتسييره فأجابهم إلى ذلك، وسيره إلى حلب، فلما وصله
أكرمه رضوان وأطلق كربوقا في شعبان وسيره مكرماً.
فأطلق بركيارق أتابك طغتكين وجميع من كان في اعتقاله من خواص تاج
الدولة، ووصل دمشق فابتهج دقاق بوصوله وقويت نفسه، وألقى تدبير أموره
إليه فقام فيها أحسن قيام.
فاستأذن عضب الدولة الملك رضوان في الوصول إليه فأذن له، وقرر معه قرب
العودة إلى حلب وترك اقطاعه بحلب على حاله، فوصل دمشق واختار المقام
بها، وكتب إلى أصحابه بعزاز يأمرهم بتسليمها إلى رضوان فسلموها.
خلف بن ملاعب
ولما وصلت هذه الأخبار وثب أهل أفامية على حصنها فأخذوه من الأتراك،
وقتلوا بعضهم، وكان تاج الدولة قد أخذه من ابن منقذ، وسار جماعة من
أهلها إلى مصر يستدعون والياً من قبلهم لميلهم إلى الإسماعيلية ونفورهم
من الترك.
ووصل خلف بن ملاعب في سنة تسع وثمانين وأربعمائة وتسلمها، وعاد إلى
الفساد وقطع الطريق، وقتل خلقاً من أفامية.
المؤامرة على جناح الدولة
وأما الملك رضوان فإنه خرج في سنة ثمان وثمانين من حلب، ومعه جناح
الدولة حسين ووصله يغي سيان ويوسف بن أبق من أنطاكية بعسكرهما، وتوجهوا
إلى الرها، ومعهم رهائن أهلها ليتسلمها الملك رضوان من المقيمين فيها
من أصحاب والده.
فلما نزلوا الرها أراد يغي سيان ويوسف أن يقبضا جناح الدولة ويتفردا
بتدبير رضوان، فهرب منهما، وقطع الفر ات، ووصل حلب، وتبعه رضوان، فدخل
حلب،
(1/232)
وهرب رهائن الرها من العسكر ودخلوها. وعاد
يغي سيان ويوسف بن أبق، وقد استوحش رضوان منهما.
من سروج إلى بيت المقدس
وكتب رضوان إلى سكمان، وإقطاعه سروج، يستدعيه إلى حلب لمعونته، فسار
وقطع الفرات فلقيه يوسف بن أبق في عدة وافرة فخافه سكمان، فأظهر
موافقته وصار معه.
وخاف جناح الدولة من اجتماعهم، وكان عقيب وصول رضوان من الرها قد سير
جماعة من عسكر حلب إلى معرة النعمان مع عضب الدولة لأخذها من يغي سيان،
وكاتب وثاب بن محمود فوصل ببني كلاب لمساعدته على أخذ المعرة، فأخرجوا
ابن يغي سيان وأصحابه منها، وتسلموها.
وعاد عضب الدولة ووثاب، فلما وصلا حلب حدث ما ذكرناه من أمر سكمان
ويوسف بن أبق، فخرج جناح الدولة بالعسكر، فلقيه يوسف بالقرب من مرج
دابق فهرب يوسف ونهبوا عسكره، وأعانهم على ذلك
وسكمان، ودخل يوسف أنطاكية وعاد جناح الدولة وسكمان ووثاب وأبق إلى
حلب.
وأقطع الملك رضوان معرة النعمان سكمان بن أرتق وأعمالها، ثم سار رضوان
وسكمان لقصد دمشق وانتزاعها من أخيه دقاق، وترك جناح الدولة بحلب.
فلما نزلا دمشق وصل إليهما أن دقاق قبض على نجم الدين إيلغازي بن أرتق،
واعتقله لتهمة وقعت به، فعاد الملك رضوان إلى حلب، وسار سكمان إلى بيت
المقدس وتسلمها من نواب أخيه وأقام بها.
وراسل يوسف بن أبق الملك رضوان واستأذنه في الوصول إلى خدمته فأذن له،
ووصل حلب وسكنها.
المجن ويوسف بن أبق
ثم خاف رضوان وحسين منه فتقدما إلى بركات بن فارس رئيس حلب المعروف
بالمجن بقتله، فهجم عليه وأصحابه فقتلوه ونهبوا داره وأخذوا رأسه،
(1/233)
وسيروه إلى بزاعا ومتبج، فتسلموها من
أصحابه، وقبضوا على اقطاع أخيه وأصحابهما، وهربوا من حلب وكان الملك قد
توهم منه الارتداد عن الاسلام.
ثم أن رضوان وجناح الدولة خرجا في سنة تسع وثمانين إلى تل باشر، وشيح
الدير، وفتحاها بالسيف من أصحاب يغي سيان، وأغارا على
أعمال أنطاكية، وعادا إلى حلب، وسارا في أول شهر رمضان منها إلى دمشق.
الحرب بين دقاق ورضوان
فسار يغي سيان متجداً لدقاق فضعفت نفس رضوان ولم يتمكن من العودة، فسار
إلى بيت المقدس، فتبعه دقاق وطغتكين ويغي سيان وأقاموا متحابسين مدة.
وأشرف عسكر رضوان على التلف فانفصل عنه جناح الدولة، وهرب على طريق
البرية إلى حلب، وتبعه الملك رضوان بعد مدة وحصلا بجميع العساكر بحلب.
وعاد دقاق وطغتكين إلى دمشق ويغي سيان إلى أنطاكية وعاد سكمان بن أرتق
من القدس على البرية حتى وصل حلب على البرية في المحرم من سنة تسعين
وأربعمائة.
واجتمع بجناح الدولة واتفقا على قصد بلاد يغي سيان فخرج دقاق وطغتكين،
فوصلا حماة وعاد العسكر في بلدها ووصلهما يغي سيان، وساروا إلى كفرطاب
في الثاني من ربيع الأول، فقاتلوها، ونهبوها، وقرروا على أهلها مالاً.
وهرب أصحاب سكمان من المعرة فتسلمها يغي سيان وقرر عليها مالاً، وتنقل
العسكر في الجزر وغيرها من أعمال حلب، فاستنجد رضوان
بسليمان بن إيلغازي صاحب سميساط فوصل بعسكر كثير إلى حلب.
وجمع رضوان من قدر عليه من الترك والعرب وأحداث حلب، ونزل عسكر دقاق
بقنسرين
(1/234)
ونزل عسكر حلب بحاضر قنسرين فاتفق الأمر
على أن يجتمعوا على نهر قويق ويتحدثوا، فاجتمعوا وتحدثوا، والنهر
بينهم، فلم يتفق الصلح، فقال يغي سيان لسكمان: " هؤلاء الملوك يقتتلون
على ملكهم، أنت يا بياع اللبن دخولك معهم لأي صفة قال: غداً تبصر ايش
أنا.
فأصبحوا والتقوا يوم الاثنين خامس شهر ربيع الآخر من سنة تسعين
وأربعمائة فأبلى سكمان بلاء حسناً.
ولم تزل الحرب بينهم إلى آخر النهار، فانهزم يغى سيان إلى أنطاكية،
ودقاق وطغتكين إلى دمشق، وأسر في الحرب اصباوه، فاعتقل بحلب ثم أطلق،
فهرب إلى دمشق ولم يقتل من العسكر إلا القليل.
وقتل الفلاحون في الطريق وقت الهزيمة من الأرمن الذين كانوا مع يغي
سيان جماعة كثيرة، وتغيرت نية الملك رضوان على جناح الدولة حسين
فهرب من حلب إلى حمص، وخرج من حلب ليلاً ومعه زوجته أم الملك رضوان،
وأقام بحمص لأنها كانت في يده وحصنها.
ووصل يغي سيان إلى حلب عقيب ذلك، وخدم رضوان، ودبر أمره، وتزوج رضوان
ابنة يغي سيان خاتون جنجك.
الخطبة للفاطميين
وعول رضوان على قصد جناح الدولة بحمص، وقصد دقاق بدمشق، ووصله رسول
آلاف الأفضل من مصر يدعوه إلى طاعة المستعلي وإقامة الدعوة له، وعلى
يده هدية سنية من مصر، ووعده بأن يمده بالعساكر والأموال.
فتقدم بالدعوة للمصريين على سائر منابر الشام التي في يده، ودعا الخطيب
(1/235)
أبو تراب حيدرة بن أبي أسامة بحلب للمستعلي
ثم للأفضل ثم لرضوان، في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من هذه
السنة.
وكان قد ولى الخطابة أبا تراب وعزل جد أبي أبا غانم محمد بن هبة الله
بن أبي جرادة عن القضاء والخطابة بحلب، لأن توليته كانت على قاعدة أبيه
من بغداد في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
وكان أبوه القاضي أبو الفضل هبة الله قد مات في هذه السنة المذكورة،
وهو على القضاء والإمامة بحلب،
وولى رضوان قضاء حلب في سنة تسعين القاضي فضل الله الزوزني العجمي
الحنفي، وسيره رسولاً إلى مصر، وناب عنه في القضاء حال غيبته أبو الفضل
أحمد ابن أبي أسامة الحلبي ودامت الدعوة بحلب إلى رجب من سنة اثنتين
وتسعين وأربعمائة وقيل: لم تدم أكثر من أربع جمع وأعادها رضوان للإمام
المستظهر ثم بركيارق ثم لنفسه، ولم يصح له مما التمسه من المصريين شيء.
وأعاد القضاء والخطابة إلى جد أبي غانم على قاعدته الأولى، في سنة خمس
وتسعين وأربعمائة، حين قتل الزوزني، وكان خرج من بين يدي رضوان، فقتل
في بعض الدروب، وكان أزرى على الباطنية وعلى معتقدهم فقيل إنهم قتلوه.
الفرنج في الشام
ولما سار رضوان ويغي سيان وصلا إلى شيزر متوجهين إلى حمص لقصد حمص،
فتواصلت الأخبار بوصول خلق من الفرنج قاصدين أنطاكية، فقال يغي سيان:
عودنا إلى أنطاكية ولقاء الفرنج أولى، وقال سكمان: مسيرنا إلى بكر
وأخذها من المتغلبين عليها ونتقوى بها، وأنزل أهلي بها ونعود إلى حمص
أولى، واختلفوا.
فسار الملك رضوان نحو حلب حفلاً وكان معه وزيره أبو النجم بن بديع أخو
(1/236)
وزير أبيه تتش أبي القاسم، وكان قد ولاه
وزارته حين ملك
حلب، فاتهماه أنه هو الذي يفسد حال رضوان، فطلع إلى حصن شيزر، وأقام به
عند ابن منقذ خشية من يغي سيان وسكمان، فلما سارا عن شيزر سار إلى حلب
ولحق بالملك رضوان بها. ولما عاد رضوان مغاضباً ليغي سيان وسكمان عاد
والأمراء من شيزر إلى أنطاكية، وبلغهم نزول الفرنج البلانة ونهبها.
ولما دخل يغي سيان أنطاكية أخرج ولديه شمس الدولة ومحمداً، فسار أحدهما
إلى دقاق وطغتكين يستنجدهما، وبث كتبه إلى جناح الدولة ووثاب بن محمود
وبني كلاب، وسار محمد ابنه إلى التركمان وكربوقا وأمراء الشرق وملوكه،
وسارت كتبه إلى جميع أمراء المسلمين وفي ثامن شهر رمضان، وصل من قبرس
إلى ميناء اللاذقية اثنتان وعشرون قطعة في البحر، فهجموه وأخذوا منه
جميع ما كان للتجارة ونهبوا اللاذقية، عادوا، ووصلت الفرنج إلى الشام،
واعتبروا عسكرهم فكانوا ثلاثمائة آلف وعشرين ألف إنسان، لأنهم وصلوا من
جهة الشمال.
وفي اليوم الثاني من شوال نزلت عساكر الفرنج على بغراس وأغاروا على
أعمال أنطاكية، فعند ذلك عصى من كان في الحصون والمعاقل المجاوره
لأنطاكية، وقتلوا عن كان بها، وهرب من هرب منها.
وفعل أهل أرتاح مثل ذلك واستدعوا المدد من الفرنج وهذا كله لقبح سيرة
يغي سيان وظلمه في بلاده.
ونزل الفرنج على أنطاكية لليلتين بقيتا من شوال من سنة تسعين
وأربعمائة.
وخرج في المحرم من سنة إحدى وتسعين وأربعمائة نحو ثلاثين ألفاً من
الفرنج إلى أعمال المسلمين ببلد حلب، فأفسدوا ونهبوا وقتلوا من وجدوا.
وكان قد وصل الملك دقاق وأتابك ومعهما جناح الدولة، ونزلوا أرض شيزر،
(1/237)
ومعهم ابن يغي سيان وهم سائرون لإنجاد
أبيه، فبلغهم خبر هذه السرية، فساروا إليها بقطعة من العسكر، فلقوهم في
أرض البارة فقتلوا منهم جماعة.
وعاد الفرنج إلى الروج، وعرجوا منه إلى معرة مصرين، فقتلوا من وجدوا
وكسروا منبرها، وحين عاد العسكر الدمشقي من البارة فارقهم ابن يغي سيان
ووصل إلى حلب يستنجد بالملك رضوان، فأخذ عسكر حلب وسكمان، ودخل بهما
إلى أنطاكية فلقيهم من الفرنج دون عدتهم، فانهزم
عسكر المسلمين إلى حارم وذلك في آخر صفر، وتبعهم عسكر الفرنج إلى حارم
فانهزموا إلى حلب، وغلب أهل حارم من الأرمن عليها.
وفي شهر ربيع الأول من السنة وصل خلق من الأرمن إلى تل قباسين بناحية
الوادي فقتلوا من فيه، وخرج المسلمون الذين بالوادي وجماعة من الأتراك
تبعوهم وقتلوا منهم جماعة، والتجأ الباقون إلى بعض الحصون الخربة،
فأدركهم عسكر حلب فقاتلهم يومين، وأخذوهم فقتلوا بعضهم، وحمل الباقي
أسرى إلى حلب فقتلوا، وكانو يزيدون عن آلف وخمسمائة.
الخيانة ودخول أنطاكية
ولما نزل الفرنج لعنهم الله، بأنطاكية جعلوا بينهم وبين البلد خندقاً
لأجل غارات عسكر أنطاكية عليهم وكثرة الظفر بهم، ولا يكاد يخرج عسكر
أنطاكية ويعود إلا ظافراً.
وجعل يغي سيان الناس على البعد والقرب وكان حسن التدبير في سياسة
العسكر وجمع كربوقا صاحب الموصل عسكراً عظيماً، وقطع به الفرات ووصل
دقاق وطغتكين وجناح الدولة، ووصل سكمان بن أرتق، وفارق رضوان وسار مع
دقاق.
(1/238)
ووصل وثاب بن محمود ومعه جماعة من العرب
ووصلوا تل منس وقاتلوها لأنه بلغهم أنهم كاتبوا الفرنج وأطمعوهم في
الشام، وقرر عليهم
دقاق مالاً أخذ بعضه ورهائن على الباقي، وسيرهم إلى دمشق.
وسار دقاق بالعساكر إلى مرج دابق، واجتمع بكربوقا فيه في آخر جمادى
الآخرة، ورحلوا منه نحو أنطاكية، فلما كان ليلة الخميس أول ليلة من رجب
واطأ رجل يعرف بالزراد من أهل أنطاكية وغلمان له على برج كانوا يتولون
حفظه، وذلك أن يغي سيان كان قد صادر هذا الزراد وأخذ ماله وغلته، فحمله
الحنق على أن كاتب بيمند وقال له: أنا في البرج الفلاني، وأنا أسلم
إليك أنطاكية أن أمنتني وأعطيتني كذا وكذا. فبذل له ما طلب، وكتم أمره
عن باقي الفرنج
وكان بعسكر الفرنج تسعة قوامص مقتمين عليهم كندفري، وأخوه القمص،
بيمند، وابن أخته طنكريد وصنجيل وبغدوين وغيرهم. فجمعهم بيمند وقال
لهم: هذه أنطاكية إن فتحناها لمن تكون فاختلفوا، وكل طلبها لنفسه،
فقال: الصواب أن يحاصرها كل رجل منا جمعة، فمن فتحت في جمعته فهي له،
فرضوا بذلك.
فلما كانت نوبته دلى لهم الزراد لعنه الله، حنلاً، فطلعوا من السور،
وتكاثروا، ورفع بعضهم بعضاً وجاءوا إلى الحراس، فقتلوهم، وتسلمه بيمند
بن الانبرت.
وطلع الفرنج في سحرة هذه الليلة إلى البلد وصاح الصائح من ناحية جبل،
فتوهم يغي سيان أن القلعة قد أخذت فخرج من البلد في جماعة منهزمين فلم
يسلم منهم أحد.
ولما حصل بالقرب من أرمناز ومعه خادم من غلمانه وقع عن ظهر فرسه،
(1/239)
فحمله الخادم الذي كان معه، وأركبه، فلم
يثبت على ظهر الفرس، وعاد فسقط، وأدركه الأرمن، فهرب الخادم عنه، وقتله
الأرمن وحملوا رأسه إلى الفرنج، واستشهد في ذلك اليوم بأنطاكية ما يفوت
الإحصاء ويجاوز العدد، ونهبت الأموال والآلات والسلاح، وسبي من كان
بأنطاكية ووصل هذا الخبر إلى عم وانب، فهرب من كان بها من المسلمين
وتسلمها الأرمن.
وبلغ الخبر إلى دقاق وكربوقا ومن كان معهما، فرحلوا إلى أرتاح، وسار
بعضهم إلى جسر الحديد وقتلوا من كان فيه من الفرنج، وتوجهوا نحو
أنطاكية، فعرفوا أن قلعتها باقية في أيدي المسلمين، فأعلموا العساكر
الإسلامية بذلك، فوصلوا إلى أنطاكية سحرة يوم الثلاثاء سادس رجب،
فانهزم من كان بظاهر البلد من الفرنج إليها.
ونزل المسلمون بظاهرها مما يلي الجبل، ودخلوا البلد من ناحية القلعة،
وقاتلوا الفرنج في جبل المدينة، وأشرف الفرنج على التلف فبنوا سوراً
على بعض الجبل يمنع المسلمين من النزول إليهم، وأقاموا أياماً، وعدم
القوت عندهم، واحتوى كربوقا على كثير مما كان في قلعة أنطاكية، وولى
فيها أحمد بن مروان، وترادفت رسل الملك رضوان في أثناء ذلك إلى كربوقا،
فتوهم دقاق من ذلك، وخاف جناح الدولة من أصحاب يوسف بن أبق وأخيه.
وجرت بين الأتراك والعرب الذين مع وثاب منافرة عادوا لأجلها، وتفرق
كثير من التركمان بتدبير الملك رضوان ورسالته.
وتحيل بعض الأمراء من بعض ثم اجتمع رأيهم على التحول إلى المنازلة في
السهل بظاهر أنطاكية، فنزلوا باب البحر، وجعل المسلمون بينهم وبين
البلد خندقاً.
(1/240)
وأكل الفرنج بأنطاكية الميتات والدواب،
فخرجوا من أنطاكية يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر رجب.
فأشار وثاب بن محمود أن يمنعوا من الخروج، وأشار بعض الأمراء أن لا
يمكنوا من الخروج بأجمعهم ويقتلوا أولاً فأولاً، فلم يعرج المسلمون على
شيء من: ذلك لأنهم أيقنوا بالظفر بالفرنج، وخرجوا بأجمعهم في خلق عظيم،
وعاث التركمان في العسكر فانهزم، وتوهم الفرنج أن ذلك مكيدة
فتوقفوا عن تبعهم، فكان ذلك سبباً لسلامة من أراد الله سلامته، ولم يبق
غير كربوقا ومعه أكثر عسكره، فأحرق سرادقه وخيامه وانهزم نحو حلب.
وقتل من المطوعة والغلمان والسوقة خلق كثير، ولم يقتل مذكور، ونهب من
المسلمين من الآلات والخيام والكراع والغلات ما لا يحصى، ومن انقطع من
العسكر نهبه الأرمن وعاد الفرنج إلى قلعة أنطاكية، وبها أحمد بن مروان،
فراسله الفرنج وأمنوه، ومن كان معه، وسلمها إليهم يوم الأحد الثاني من
شعبان من السنة، وأنزلوه في دار بأنطاكية، وأطلقوا أصحابه وسيروا معهم
من يوصلهم إلى أعمال حلب، فخرج الأرمن فأخذوا بعضهم وقتلوا بعضهم، ولم
يسلم منهم إلا القليل.
ولما وصل كربوقا إلى حلب خرج إليه الملك رضوان، وحمل له خياماً وغيرها،
ورحل عنها وعاد عسكر دمشق إليها وتفرقت العساكر.
وبعد أيام من هذه الوقعة خرج جماعة من الفرنج في شعبان، وزحفوا مع أهل
تلمنس وجميع نصارى بلد المعرة على المعرة وقاتلوها، فوصلت قطعة من عسكر
حلب إليهم، فالتقوا بين تل منس والمعرة، فانهزم الفرنج وبقي الرجالة
منهم، فقتل منهم زائداً عن ألف رجل، وحملت رؤوسهم إلى معرة النعمان.
وفي هذه السنة وهي سنة إحدى وتسعين في جمادى الأولى عزل الملك رضوان
وزيره أبا النجم هبة الله بن محمد بن بديع، وولى وزارته أبا الفضل هبة
بن
(1/241)
عبد القاهر بن الموصول وكان أبو الفضل حسن
السيرة جواداً كثير المعروف والصدقات. ووافق ذلك شدة الغلاء والجوع
بحلب، حتى أكلوا الميتات، فأخرج غلة كثيرة، وتصدق بها على الناس وقيل:
إنه كان يخرج في كل سنة صدقة وبرا ثلاثة آلاف مكوك غلة سوى ما يطلقه
لمن يسأله معونته من الوفود والضيوف، وغير ما يطلقه من العين والورق
وغير ما كان يعتمد من افتكاك الأسرى من المسلمين.
المجن الفوعي
وفيها قتل الملك رضوان رئيس حلب بركات بن فارس الفوعي المعروف بالمجن،
وكان هذا المجن أولا من جملة اللصوص الشطار وقطاع الطريق الذعار
فاستتابه قسيم الدولة أن سنقر، وولاه رئاسة حلب لشهامته وكفايته
ومعرفته بالمفسدين، وكان في حال اللصوصية يصلي العشاء الآخرة بالفوعة،
ويسري إلى حلب ويسرق منها شيئاً ويخرج، ويصلي الفجر بالفوعة فإذا اتهم
بالسرقة أحضر من يشهد له أنه صلى العشاء بالفوعة والصبح فيبرئونه.
واستمر على رئاسة حلب في أيام قسيم الدولة وأيام تاج الدولة وبعده في
أيام رضوان، وامتدت يده وحكم على القضاة والوزراء ومن دونهم، وهو الذي
قتل الوزير أبا نصر بن النحاس في أيام قسيم الدولة.
وبلغني أنه حنق عليه بسبب حضر أراد شراءها فاشتراها المجن، فشق على أبي
نصر، فسيرها المجن إليه، فردها عليه أبو نصر، وتكلم في حقه بكلام قبيح
فحنق بسببها على ابن النحاس، فاعتقله بعد ذلك عنده وخنقه.
وكان كثير السعاية في قتل النفوس وسفك الدماء وأخذ الأموال وارتكاب
الظلم، فعصى على الملك رضوان، ثم ضعف واختفى بعد أن حصر رضوان في قلعة
حلب في سنة تسعين وأربعمائة.
فأمر رضوان منادياً نادى بالقلعة بأن الملك قد ولى رئاسة حلب صاعد بن
بديع فانقلب الأحداث عنه لبغضهم إياه، ومضوا إلى صاعد فاختفى المجن، ثم
ظهر عليه فعجل الله المكافأة له على قبيح فعله.
(1/242)
وسلط عليه الملك رضوان فسجنه في ذي القعدة
من سنة تسعين وعذبه عذاباً مديداً بأنواع شتى، وأراد بذلك أن يستصفي
ماله، فمما عذبه به أنه أحمى الطست حتى صار كالنار، ووضعه على رأسه،
ونفخ في دبره بكير الحذاد، وثقبت كعابه، ضرب فيها الرزز والحلق.
ولما وضع التجار المثقب على كعبه قطع الجلد واللحم ولم يدر المثقب،
فلطمه المجن وقال: ويلك لا تعرف، أحضر خشبة، وضعها على الكعب. فأحضر
خشبة ووضعها على كعبه، فدار المثقب ونزل ونزل، وثقب الكعب.
فلما فرخ قيل له: كيف تجد طعم الحديد، فقال: قولوا للحديد كيف يجد
طعمي. ولم يقر المجن مع هذا كله بدرهم واحد، ولم يحصل للملك رضوان من
ماله إلا ما أقربه غلام أو جارية، وذلك شيء يسير واستغنى جماعة من أهل
حلب من ماله.
ولما طال الأمر على رضوان أشير عليه بقتله، فأخرج إلى ظاهر باب الفرج
من نحو الشرق، ومعه ابنان له شابان مقتبلا الشباب، فقتلا قبله، وهو
ينظر إليهما ولا تتكلم.
ثم قتل بعد ذلك في سنة إحدى وتسعين وسلمت رئاسة حلب إلى صاعد بن بديع
ولما قدم المجن للقتل صاح بصوت عال: يا معشر أهل حلب، من كان لي عنده
مال، فهو في حل منه.
وكان ابن بديع من أولاد الديلم الذين كانوا في أيام سيف الدولة، وولد
أبوه بحلب.
صنجيل في عزاز والبارة والمعرة وشيزر
وفي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة عصى عمر والي عزاز على الملك رضوان فخرج
عسكر حلب وحصره، فاستنجد بالفرنج، فوصل صنجيل بعسكر كبير، فعاد عسر حلب
فنهب صنجيل ما قد عليه وعاد إلى أنطاكية، وأخذ ابن عمر رهينة،
(1/243)
فم عنده فوقع الملك رضوان على عمر إلى أن
أخذه من تل هراق فسلم إليه عزاز وأقام عنده بحلب مدة، ثم قتله.
وخرج صنجيل في ذي الحجة، وحصر البارة فقل الماء فأخذها بالأمان، وغدر
بأهلها، وعاقب الرجال والنساء، واستصفى أموالهم وسبي بعضاً وقتل بعضاً،
ثم خرج بقية الفرنج من أنطاكية والأرمن الذين في طاعتهم والنصارى،
وانضموا إليه، ووصلوا إلى معرة النعمان لليلتين بقيتا من ذي الحجة في
مائة ألف.
وحصروا معرة النعمان في سنة اثنتين وتسعين، وقطعوا الأشجار، واستغاث
أهلها بالملك رضوان وجناح الدولة فلم ينجدهم أحد. وعمل الفرنج برجاً من
خشب يحكم على السور وزحفوا إلى البلد، وقاتلوه من جميع نواحيه حتى لصق
البرج بالسور فكشفوه وأسندوا السلالم إلى السور وثبت الناس في الحرب من
الفجر إلى صلاة المغرب، وقتل على السور وتحته خلق كثير، ودخلوا البلد
بعد المغرب ليلة الأحد الرابع والعشرين من محرم سنة اثنتين وتسعين
وأربعمائة.
ودخل عسكر الفرنج جميعه إلى البلد، وانهزم بعض الناس إلى دور حصينة،
وطلبوا الأمان من الفرنج فأمنوهم، وقطعوا على كل دار قطيعة، واقتسموا
الدور، وهجموها وناموا فيها، وجعلوا يهدئون الناس حتى أصبح الصبح،
فاخترطوا سيوفهم، ومالوا على الناس، وقتلوا منهم خلقاً، وسبوا النساء
والصبيان.
وقتل فيها أكثر من عشرين آلف رجل وامرأة وصبي، ولم يسلم إلا القليل ممن
كان في شيزر وغيرها من بني سليمان وبني أبي حصين
وغيرهم، وقتلوا تحت العقوبة جمعاً كثيراً، فاستخرجوا ذخائر الناس،
ومنعوا الناس من الماء، وباعوه منهم فهلك أكثر الناس من العطش، وملكوها
ثلاثة وثلاثين يوماً بعد الهجمة، ولم يبقوا ذخيرة بها إلا استخرجوها
(1/244)
وهدموا سور البلد وأحرقوا مساجده ودوره
وكسروا المنابر، وعاد بيمند إلى أنطاكية وقمص الرها إليها وفي هذه
السنة فتحوا بيت المقدس وفعلوا فيها كما فعلوا بالمعرة.
وفي سنة ثلاث وتسعين، وصل مبارك بن شبل أمير بني كلاب في جمع كثير من
العرب فحالف الملك رضوان، ورعوا زرع المعرة، وكفرطاب، وحماة، وشيزر،
والجسر، وغير ذلك وخلت البلاد، ووقع الغلاء في بلد حلب، ولم يزرع شيء
في بلدها، وسلط الله الوباء على العرب، فمات شبل ومبارك ولده، واضمحلت
دولة العرب.
حلب والفرنج
وتوجه الملك رضوان في سلخ رجب من هذه السنة إلى الأثارب وأقام عليها
أياما، وتوجه إلى " كلا " في الخامس والعشرين من شعبان لإخراج الفرنج
منها، فاجتمع من كان في الجزر وزردنا وسرمين من الفرنج
والتقوا، فانهزم رضوان، واستبيح عسكره، وقتل خلق وأسر قريب من خمسمائة
نفس وفيهم بعض الأمراء، وعاد الفرنج إلى الجزر وأخذوا برج كفرطاب وبرج
الحاضر، وصار لهم من كفرطاب إلى الحاضر، ومن حلب غرباً سوى تل منس فإن
أصحاب جناح الدولة كانوا بها.
وسار رضوان عقيب هذه النكبة إلى حمص مستنجداً بجناح الدولة فأجابه،
وعاد إلى حلب ومعه جناح الدولة، وقد عاد الفرنج إلى أنطاكية، فأقام
جناح الدولة بظاهر حلب أياماً، فلم يلتفت إليه رضوان فعاد عنه إلى حمص.
وتجمع الفرنج بالجزر وسرمين وأعمال حلب وجمعوا العدد والغلال لحصار
حلب، وعولوا على حصارها في سنة خمس وتسعين، وقيل قبلها، ووصل بيمند
وطنكريد إلى قرب حلب فنزلوا المشرفة، من الجانب القبلي
(1/245)
على نهر قويق لما بلغهم من ضغف رضوان
وتمزيق عسكره، وعزموا أن يبنوا مشهد الجف، ومشهد الدكة، ومشهد قرنبياً
حصوناً، وأن يقيموا على حلب ويستغلوا بلدها.
فأقاموا في تدبير ذلك يوماً أو يومين فبلغه خروج أنوشتكين
الدانشمند، وأنه قد نازل بعض معاقل الفرنج، وهي ملطية فعادوا للدفع
عنها.
فخرج الدانشمند فلقي بيمند وجمعاً من الفرنج بأرض مرعش فأسره، وقتل
عسكره، ولم يفلت منهم أحد، فخيب الله ظن الفرنج، وهربوا من أعمال حلب،
وتركوا جميع ما كانوا أعدوه، فخرج رضوان وأخذ الغلال التي جمعوها، ونزل
سرمين.
تحرك جناح الدولة ومقتله
وسار جناح الدولة إلى أسفونا وبه جماعة من الفرنج فهجمه وقتل جميع من
فيه، وسار إلى سرمين فكبس عسكر الملك رضوان ونهبه، وانهزم رضوان وأكثر
عسكره وأسر الوزبر أبا الفضل بن الموصول وجماعة وحملهم إلى حمص.
وطلب الحكيم المنجم الباطني فلم يظفز به، وكان هذا الحكيم قد أفسد ما
بينه وبين رضوان واستمال رضوان إلى الباطنية جداً، وظهر مذهبهم في حلب،
وشايعهم رضوان وحفظ جانبهم، وصار لهم بحلب الجاه العظيم والقدرة
الزائدة، وصارت لهم دار الدعوة بحلب في أيامه، وكاتبه الملوك في أمرهم،
فلم يلتفت ولم يرجع عنهم، فوصل هذا الحكيم حلب سالماً في جملة من سلم
في هذه الوقعة.
واستغل جناح الدولة سرمين ومعرة النعمان وكفرطاب وحماة، وفدى الوزير
ابن الموصول نفسه من جناح الدولة بأربعة آلاف دينار، وفدى أصحاب الملك
نفوسهم أيضاً بمال حملوه إليه
ولم يبق في أيدي المسلمين في سنة خمس وتسعين إلا حصن بسرفوث، من عمل
بني عليم.
(1/246)
وتسلم دقاق الرحبة في سنة ست وتسعين
وأربعمائة، وكان المقيم بها زوج آمنة بنت قيماز، وكان قيماز من أصحاب
كربوقا فمات، وكانت الرحبة له، وكان جناح الدولة قد خرج إليها فوجد
الأمر قد فات، فعاد ونزل النقرة وخرج إليه رضوان إلى النقرة واصطلحا،
وأخذه معه إلى ظاهر حلب، وضرب له خياماً، وأقام في ضيافته عشرة أيام،
ولم يصف قلب أحد منهما لصاحبه.
وسار جناح الدولة إلى حمص فسير الحكيم المنجم الباطني ثلاثة أعجام من
الباطنية فاغتالوه، وقد نزل يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رجب،
لصلاة الجمعة فقتلوه، وقتلوا بعض أصحابه وقتلوا وقيل: إن ذلك كان بأمر
رضوان ورضاه.
وبقي المنجم الباطني بعده أربعة وعشرين يوماً ومات، وقام بعده بأمر
الدعوة الباطنية بحلب رفيقه أبو طاهر الصائغ العجمي.
ووصل صنجيل الفرنجي وترك حمص بعد قتل جناح الدولة بثلاثة أيام فسيرت
زوجته خاتون أم الملك رضوان تستدعيه لتسلم إليه حمص ويدفع الفرنج، فكره
المقدمون ذلك، وخافوا منه لسوء رأيه فيهم، وسيروا
إلى بواب دقاق إلى دمشق، وكان دقاق بالرحبة فسار أيتكين الحلبي من دمشق
ودخلها وطلع القلعة. ووصل رضوان إلى القبة فبلغه الخبر وعاد ورحل صنجيل
عنها بعد أن قرر عليهم مالاً، ووصل دقاق فتسلم حمص وأحسن إلى أهلها
ونقل أهل جناح الدولة وأولاده إلى دمشق، وسلم حمص إلى طغتكين.
الفرنج حول حلب
وسار والي عزاز وأغار على الجومة، وهي من عمل أنطاكية، فخرج عسكر
(1/247)
أنطاكية وعسكر الرها فنزلوا المسلمية،
وقتلوا بعض أهلها، وقطعوا على عدة مواضع قطائع أخذوها، وأقاموا ببلد
حلب أياماً، وراسلوا الملك رضوان.
واستقر الحال على سبعة آلاف دينار وعشرة رؤوس من الخيل، ويطلقون الأسرى
ما خلا من أسروه على المسلمية من الأمراء، وذلك في سنة ست وتسعين ثم
خرج الفرنج من تل باشر وأغاروا على بلد حلب الشمالي والشرقي، وأحرقوه،
وتكرر ذلك منهم، ونزلوا على حصن بسرفوث، وفتحوه بالأمان، ووصلوا إلى
كفرلاثا، فكبسهم بنو عليم فانهزموا إلى بسرفوث.
ووقع بين الفرنج وبين سكمان وجكرمش وقعة عظيمة استظهر فيها المسلمون،
وهلك الفرنج وأسر القمص، وغنم المسلمون غنيمة عظيمة.
انتصارات رضوان وموت دقاق
وكان الملك رضوان قد سار إلى الفرات ينتظر ما يكون من خبر الفرنج، فلما
وصله الخبر أنفذ إلى الجزر وغيره من أعمال حلب التي في أيدي الفرنج،
فأمرهم بالقبض على من عندهم من الفرنج، فوثب أهل الفوعة وسرمين، ومعرة
مصرين وغيرها، ففعلوا ذلك.
وطلب بعض الفرنج الأمان من رضوان فأمنهم من القتل، وحملهم أسرى، ولم
يبق بأيدي الفرنج غير الجبل و " هاب " وحصون المعرة، وكفرطاب، وصوران.
فوصل شمس الخواص وفتح صوران، فهرب من كان بلطمين وكفرطاب وبلد المعرة
والبارة إلى أنطاكية، وسلموها إلى رضوان وأصحابه ما خلا " هاب "
واسترجع رضوان بالس والفايا ممن كان بهما من أصحاب جناح الدولة
وجرى
(1/248)
بحماة خلف، وخافوا من شمس الخواص، فكاتبوا
رضوان، وسلموها إليه وسلمية، فأمنت أعمال حلب وتراجع أهلها إليها وقوي
جأش رضوان.
واتصلت غارات عسكر حلب إلى بلد أنطاكية، وعرف بيمند ضعفه عن حفظ البلد،
وأنه لم يفلت من وقعة سكمان إلا في نفر قليل، وخاف من المسلمين فصار لى
بلاده في البحر يستنجد بمن يخرج بهم إلى البلاد، واستخلف ابن أخته
طنكريد دبر أمر أنطاكية والرها.
ومات الملك دقاق سنة سبع وتسعين في رمضان وأوصى بالملك لولد له صغير
اسمه تتش، وجعل التدبير إلى أتابك طغتكين، فتوتجه الملك رضوان نحو
دمشق، وحاصرها، وقرر له الخطبة والسكة، فلم تستتب أموره وعاد إلى حلب.
نكبة المسلمين
ثم إنه خرج في شهر رجب من سنة ثمان وتسعين، وجمع خلقاً كثيراً، وعزم
على قصد طرابلس معونة لفخر الملك بن عمار على الفرنج النازلين عليه.
وكان الأرمن الذين في حصن أرتاح قد سلموه إلى الملك رضوان لجور
الأفرنج، فخرج طنكريد من أنطاكية لاستعادة أرتاح، وخرج جميع من في
أعماله من الفرنج معه، ونزل عليها، فتوجه نحوه رضوان في عساكره وجموعه
وجميع من أمكنه من عمل حلب والأحداث.
فلما تقاربا نشبت الحرب بين الفريقين فثبت راجل المسلمين وانهزمت
الخيل، ووقع القتل في الرجالة فلم يسلم منهم إلا من كتب الله سلامته،
ووصل الفل إلى حلب، وقتل من المسلمين مقدار ثلاثة آلاف ما بين فارس
وراجل، وهرب من بأرتاح من المسلمين.
وقصد الفرنج بلد حلب فأجفل أهله، ونهب من نهب وسبى من سبى، وذلك في
الثالث من شعبان.
(1/249)
واضطربت أحوال بلد حلب من ليلون إلى شيزر،
وتبدل الخوف بعد الأمن والسكون، وهرب أهل الجزر وليلون إلى حلب،
فأدركهم خيل الفرنج فسبوا أكثرهم، وقتلوا جماعة. وكانت هذه النكبة على
أعمال حلب أعظم من النكبة الأولى على كلا.
ونزل طنكريد على تل أغدي، من عمل ليلون، وأخذه وأخذ بقية الحصون التي
في عمل حلب ولم يبق في يد الملك رضوان من الأعمال القبلية إلا حماة ومن
الغربية إلا الأثارب، والشرقية والشمالية في يديه، وهي غير آمنة.
الباطنية
وسير أبو طاهر الصائغ الباطني جماعة من الباطنية من أهل سرمين إلى خلف
ابن ملاعب بتدبير رجل يعرف بأبي الفتح السرميني، من دعاة الإسماعيلية،
فقتلوه ووافقهم جماعة من أهل أفامية، ونقبوا سور الحصن، ودخلوا منه،
وطلع بعضهم إلى القلة فأحس بهم، فخرج فطعنه أحدهم
بخشت فرمى بنفسه، فطعن أخرى فمات، ونادوا بشعار الملك رضوان.
ووصل أبو طاهر الصائغ إلى الحصن عقيب ذلك وأقام به، وسار طنكريد إلى
أفامية، فقطع عليها مالاً أخذه، وعاد فوصله مصبح بن خلف بن ملاعب وبعض
أصحابه، فأطمعوه في أفامية، فعاد ونزلها، وحاصرها فتسلمها في الثالث
عشر من محرم من سنة خمسمائة بالأمان وقتل أبا الفتح السرميني بالعقوبة،
ولم يف لأبي طاهر الصائغ بالأمان، وحمله معه أسيراً فاشترى نفسه بمال،
ودخل حلب، وفي سنة إحدى وخمسمائة، عصى ختلع بقلعة عزاز، واستقر أن
يسلمها إلى طنكريد، ويعوضه عنها موضعاً غيرها، فسار رضوان إليها فتسلم
عزاز منه وبلغ رضوان، في، سنة احدى وخمسمائة، ما ذكر به من مشايعة
الباطنية، وأنه
(1/250)
لعن بذلك في مجلس السطان محمد بن ملكشاه،
فأمر أبا الغنائم ابن أخي أبي الفتح الباطني الذي عمل في قتل ابن ملاعب
ما دبر الخروج من حلب فيمن معه، فانسل وخرج بجماعة من أصحابه بعد أن
قتل أفراد منهم.
الفرنج بين مد وجذر
وفي سنة إحدى وقيل: اثنتين وخمسمائة اجتمع جاولي سقاوه وجوسلين
الفرنجي، على حرب طنكريد صاحب أنطاكية، واستنجد
طنكريد بالملك رضوان، فأمده بعكسر حلب والتقوا، فقتل من الفرنج جماعة.
ووصل إلى جاولي من أخبره أن الفرنج يريدون الاجتماع عليه فمال على
أصحابه من الفرنج وقتل فيهم، وهرب بعد أن قتلهم عن آخرهم وهلك جميع
رجالة طنكريد وأكثر خيله.
وعاد إلى أنطاكية وعاد عسكر حلب إلى رضوان، فتسلم بالس من أصحاب جاولي،
وخرج بيمند من بلاده ومعه خلق عظيم، ثم عاد وتوفي سنة أربع إخمسمائة،
وكفي المسلمون شره.
وفي سنة ثلاث وخمسمائة، كاتب السلطان الأمير سكمان القطبي صاحب أرمينية
ومودود صاحب الموصل، يأمرهما بالمسير إلى جهاد الفرنج، فجمعا وسارا،
وصل إليهما نجم الدين إيلغازي بن أرتق في خلق كثير من التركمان، فرحلوا
إلى الرها فنزلوا عليها وأحدقوا بها في شوال من هذه السنة.
فاتفق الفرنج كلهم، وأزالوا ما كان بينهم من الشحناء، وكان المسلمون في
جمع عظيم، فتصافى طنكريد وبغدوين وابن ضنجيل بعد النفار، وقصدوا إنجاد
من بها من الفرنج، وأحجموا عن العبور إلى الجانب الجزري لكثرة من به من
عساكر المسلمين.
فاندفع المسلمون عن الرها إلى حران ليعبر الفرنج ويتمكنوا منهم ووصلهم
عسكر دمشق
فحين عبر الفرنج وبلغهم خبر المسلمين عادوا ناكصين على الأعقاب إلى
شاطىء الفرات، فنهض المسلمون في أثرهم، وأدركتهم خيول الإسلام، وقد عبر
(1/251)
الأجلاد منهم، فغنم المسلمون جل سوادهم
وأكثر أثقالهم، واستباحوهم قتلاً وأسراً وتغريقاً في الماء، وأقام
المسلمون بإزائهم على الفرات.
ولما عرف الملك رضوان هزيمة الفرنج عن الرها خرج ليتسلم أعمال حلب التي
كانت في أيدي الفرنج، وقاتل ما امتنع عليه منها، وأغار على بلد أنطاكية
وغنم منها ما يجل قدره، وكان بينه وبينهم مهادنة نقضها.
وكاتب الفرنج رضوان يوهنون رأيه في نقض الهدنة، فلما تحقق سلامة طنكريد
وعوده رجع إلى حلب. وعاد الفرنج من الفرات فقصدوا بلد حلب من شرقيها،
فقتلوا من وجدوا، وسبوا أهل النقرة، وأخذوا ما قدروا عليه من المواشي.
وهرب الناس نحو بالس، وعاد طنكريد، فنزل على الأثارب، وطيب قلوب
الفلاحين من المسلمين، وأمنهم، ونصب على الأثارب المناجيق وكبشاً
عظيماً ينطح به شرفات الأسوار فيلقيها، فخرب أسوارها وكان يسمع نطحه من
مسيرة نصف فرسخ.
وبدل رضوان لطنكريد في الموضع عشرين آلف دينار على أن يرحل فامتنع،
وقال: قد خسرت ثلاثين آلف دينار، فإن دفعتموها إلي وأطلقتم
كل عبد بحلب منذ ملكت أنطاكية فأنا أرحل، فاستعظم ذلك واتكل على
الحوادث.
وكان الذي بقي في القلعة مائة دينار، وأخذها الخازن على وسطه، وهرب إلى
الفرنج، وهرب جماعة أخر من المسلمين إليهم فكتبوا إلى الملك رضوان
كتاباً على جناح طائر يخبرونه بما تجدد من قوة الحصار وقلة النفقة وقتل
الرجال وأرسلوا الطائر فسقط في عسكر الفرنج، فرماه أحدهم بنشابة فقتله.
وحمل الكتاب إلى طنكريد، ففرح وقويت نفسه، وبدل رضوان المال المطلوب له
على أن يكون أقساطاً ويضع عليه رهائن فلم يفعل، ويئس من في الأثارب من
نجدة تصل إليهم فسلموها إلى طنكريد في جمادى الآخرة منها، وأمن أهلها
وخرجوا منها
(1/252)
ثم صالح رضوان على عشرين آلف دينار وعشرة
رؤوس من الخيل، وقبضها وعاد إلى أنطاكية.
ثم عاد وخرج إلى الأثارب، وقد أدركت الغلة، وضعفت حلب بأخذ الأثارب
ضغفاً عظيماً، وطلب من حلب المقاطعة التي قررها حلب وأسرى من الأرمن
كان رضوان أخذهم وقت إغارته على بلد أنطاكية، والفرنج على الفرات،
فأعادهم إليه وطلب بعض خيل الملك رضوان فأعطاه، وطلب حرم الفلاحين
المسلمين من الأثارب، وكانوا وقت نزول طنكريد على الأثارب حصلوا بحرمهم
في حلب فأخرجهن إليه.
وضاق الأمر بأهل حلب، ومضى بعضهم إلى بغداد واستغاثوا في أيام الجمع،
ومنعوا الخطباء من الخطبة مستصرخين بالعساكر الإسلامية على الفرنج،
وقلت المغلات في بلد حلب، فباع الملك رضوان في يوم واحد ستين خربة من
بلد حلب لأهلها بالثمن البخس، وطلب بذلك استمالتهم، وأن يلتزموا
بالمقام بها بسبب أملاكهم، وهي ستون خربة معروفة في دواوين حلب إلى
يومنا هذا، غير ما باعه في غير ذلك اليوم من الأملاك.
ولذلك يقال أن بيع الملك من أصح أملاك الحلبيين لأن المصلحة في بيعها
كانت ظاهرة لاحتياج بيت المال إلى ثمنها، ولعمارة حلب ببقاء أهلها فيها
بسبب أملاكهم. ولما استصرخ الحلبيون العساكر الإسلامية ببغداد وكسروا
المنابر، جهز السلطان العساكر للذب عنهم، فكان أول من وصل مودود صاحب
الموصل بعسكره إلى شبختان، ففتح تل قراد، وعدة حصون ووصل أحمديل الكردي
في عسكر ضخم وسكمان القطبي، وعبروا إلى الشام فنزلوا تل باشر، وحصروها
حتى أشرفت على الأخذ، وكان طنكريد قد أخذ
(1/253)
حصن بكسرائيل، وتوجه مغيراً على بلد شيزر
ونازلها.
وشرع في عمارة تل ابن معشر وضرب اللبن وحفر الجباب ليوعي بها الغلة،
فلما بلغه نزول عساكر السلطان محمد على تل باشر رحل عنها وأما العساكر
الإسلامية النازلة على تل باشر فإن سكمان مات عليها، وقيل: بعد الرحيل
عنها، وأشرف المسلمون على أخذها فتطارح جوسلين الفرنجي صاحبها على
أحمديل الكردي وحمل إليه مالاً، وطلب منه رحيل العسكر عنه فأجابه إلى
ذلك، وكتب الملك رضوان إلى مودود وأحمديل وغيرهما: إنني قد تلفت وأريد
الخروج من حلب فبادروا إلى الرحيل، فحسن لهم أحمديل الرحيل عنها بعد أن
أشرفوا على أخذها، ورحلوا إلى حلب، فأغلق رضوان أبواب حلب في وجوههم،
وأخذ إلى القلعة رهائن عنده من أهلها لئلا يسلموها.
ورتب قوماً من الجند والباطنية الذين في خدمته لحفظ السور ومنع
الحلبيين من الصعود إليه، وبقيت أبواب حلب مغلقة سبع عشرة ليلة. وأقام
الناس ثلاث ليالي ما يجدون شيئاً يقتاتون به، فكثرت اللصوص من الضعفاء،
وخاف الأعيان على أنفسهم.
وساء تدبير الملك رضوان فأطلق العوام ألسنتهم بالسب له وتعييبه،
وتحدثوا بذلك فيما بينهم، فاشتد خوفه من الرعية أن يسلموا البلدة وترك
الركوب بينهم.
وصفر إنسان من السور فأمر به فضربت عنقه ونزع رجل ثوبه ورماه إلى آخر.
فأمر به فألقي من السور إلى أسفل، فعاث العسكر فيما بقي سالماً ببلد
حلب بعد نهب الفرنج له وسبيهم أهله.
وبث رضوان الحرامية يتخطف من ينفرد من العساكر فيأخذونه، فرحلوا إلى
معرة النعمان في آخر صفر من سنة خمس وخمسمائة، وأقاموا عليها أياماً
ووجدوا حولها ما ملأ صدورهم مما يحتاجون إليه من الغلات وما عجزوا عن
حمله.
(1/254)
وكان أتابك طغتكين قد حصل معهم، فراسل
رضوان بعضهم حتى أفسد ما بينه وبينهم، فظهر لأتابك منهم الوحشة، فصار
في جملة مودود صاحب الموصل، وثبت له مودود، ووفى له وحمل لهم أتابك
هدايا وتحفاً من متاع مصر، وعرض عليهم المسير إلى طرابلس والمعونة لهم
بالأموال، فلم يعرجوا، وسار أحمديل وبرسق بن برسق عسكر سكمان نحو
الفرات، وبقي مودود مع أتابك، فرحلا من المعرة إلى العاصي فنزلا على
الجلالي.
فنزل الفرنج أفامية: بغدوين وطنكريد وابن صنجيل، وساروا لقصد المسلمين،
فخرج أبو العساكر بن منقذ من شيزر بعسكره وأهله، واجتمعوا بمودود أتابك
وساروا إليهم.
ونزلوا قبلي شيزر والفرنج شمالي تل ابن معشر، ودارت خيول المسلمين
حولهم ومنعوهم الماء، والأتراك حول الشرائع بالقسي تمنعهم الورد،
فأصبحوا، هاربين سائرين، يحمي بعضهم بعضاً.
الخجندي والباطنية
ووصل إلى حلب في هذه السنة في شهر ربيع الأول من سنة خمس خمسمائة، رجل
فقيه تاجر كبير يقال له أبو حرب عيسى بن زيد بن محمد خجندي، ومعه
خمسمائة حمل عليها أصناف التجارات، وكان شديداً على الباطنية أنفق
أموالاً جليلة على من يقاتلهم، وكان قد صحبه من خراسان باطني يقال له
أحمد ابن نصر الرازي وكان أخوه قد قتله رجال الخجندي.
فدخل أحمد إلى حلب، ومضى إلى أبي طاهر الصائغ العجمي رئيس الباطنية
حلب، وكان متمكناً من رضوان، فصعد إلى رضوان، وأطمعه في مال الفقيه أبي
حرب، وأراه أنه بريء من التهمة في شأنه، إذ هو معروف بعداوة الباطنية.
(1/255)
فطمع رضوان في ماله وطار فرحاً، وبعث
غلماناً له يتوكلون به، وسير أبو طاهر الباطني معه جماعة من أصحابه،
فبينا أبو حرب الخجندي في غلمان له يستعرض أحماله وحوله جماعة من
مماليكه وخدمه إذ هجم عليه أحمد بن نصر الرازي في جماعة من أصحاب أبي
طاهر الباطني، فقال لغلمانه: أليس هذا رفيقنا، فقالوا: هو هو. فوقعوا
عليه فقتلوه.
وقتل الجماعة الذين معه من أصحاب أبي طاهر الباطني العجمي بأسرهم، ثم
قال أبو حرب: الغياث بالله من هذا الباطني الغادر، أمنا المخاوف ورآنا
إلى أن جئنا إلى الأمنة، فبعث علينا من يقتلنا.
فأخبر رضوان بذلك فأبلس، وصار السنة والشيعة إلى هذا الرجل، وأظهروا
إنكار ما تم عليه وعبث أحداثهم بجماعة من أحداث الباطنية فقتلوهم، ولم
يتجاسر رضوان على إنكار ذلك.
وكاتب الفقيه أبو حرب أتابك طغتكين وغيره من ملوك الإسلام فتوافت رسلهم
إلى رضوان ينكرون عليه، فأنكر وحلف أنه لم يكن له في هذا الرجل نية.
وخرج الرجل عن حلب مع الرسل فعاد إلى بلده، ومكث الناس يتحدثون بما جرى
على الرجل ونقص في أعين الناس، فتوثبوا على الباطنية من ذلك اليوم.
نهاية رضوان
ثم إن رضوان حين ضعف أمره بحلب رأى أن يستميل طغتكين أتابك إليه
ويستصلحه، فاستدعاه إلى حلب عندما أراد أن ينزل طنكريد على قلعة عزاز،
وبذل له رضوان مقاطعة حلب عشرين آلف دينار وخيلاً وغير ذلك، فامتنع
طنكريد من ذلك، فوصل طغتكين أتابك، وتعاهدا على مساعدة كل منهما لصاحبه
بالمال والرجال.
واستقر الأمر على أن أقام طغتكين الدعوة والسكة لرضوان بدمشق، فلم يظهر
منه بعد ذلك الوفاء بما تعاهدا عليه.
ومات طنكريد في سنة ست وخمسمائة، واستخلف ابن أخته روجار وأدى إليه
رضوان ما كان يأخذه منه طنكريد وهو عشرة آلاف دينار.
(1/256)
ووصل مودود إلى الشام، واتفق مع طغتكين على
الجهاد، وطلب نجدة من الملك رضوان فتأخرت إلى أن اتفق للمسلمين وقعة
استظهروا فيها على الفرنج،، ووصل عقيبها نجدة للمسلمين من رضوان، دون
المائة فارس، وخالف فيما كان قرره ووعد به، فأنكر أتابك ذلك، وتقدم
بإبطال الدعوة والسكة باسم رضوان من دمشق في أول ربيع الأول من سنة سبع
وخمسمائة.
وكان رضوان يحب المال، ولا تسمح نفسه بإخراجه حتى كان أمراؤه وكتابه
ينبزونه بأبي حبة، وهو الذي أفسد أحواله وأضعف أمره.
ومرض رضوان بحلب مرضاً حاداً وتوفي في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة
سنة سبع وخمسمائة. ودفن بمشهد الملك، فاضطرب أمر حلب لوفاته. وتأسف
أصحابه لفقده، وقيل: إنه خلف في خزانته من العين والآلات والعروض
والأواني ما يبلغ مقداره ستمائة آلف دينار.
(1/257)
|