زبدة الحلب في تاريخ حلب

القسم الرابع والعشرون
الخطبة والحداد
وقام الملك الصالح بالملك بعده. وكان عمره إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء بدمشق. وخطب له الملك الناصر صلاح الدين بمصر، وأرسل إليه رسولاً يعزيه، ومعه دنانير مصرية عليها اسمه، ويعلمه أنه في طاعته، وأن الخطبة أقيمت له بمصر.
وأما حلب فكان الوالي بقلعتها جمال الدين شاذبخت الخادم الهندي، عتيق نور الدين وهو الذي بنى المدرسة، لأصحاب أبي حنيفة بحلب، وقبر بها، فوصله كتاب الطير بوفاة نور الدين، فأمر في الحال بضرب الدبادب، والكوسات، والبوقات. وأحضر المقدمين والأعيان بحلب، والفقهاء والأمراء، وقال: قد وصل كتاب الطائر، يخبر أن مولانا الملك العادل قد ختن ولده، وولاه العهد بعده، ومشى بين يديه.
فأظهروا السرور بذلك، وحمدوا الله تعالى، فقال لهم: تحلفون لولده الملك الصالح، كما أمر الملك العادل بأن حلب له، وأن طاعتكم له وخدمتكم، كما كانت لأبيه. فحلف الناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، في ذلك اليوم، ولم يترك أحداً منهم يزول من مكانه.

(1/359)


ثم قام إلى مجلس آخر، ولبس ثياب الحداد، وخرج إليهم وقال: يحسن الله عزاءكم في الملك العادل، فإن الله قد نقله إلى جنات النعيم. وتوجه المؤيد بن العميد، وعثمان زردك، وهمام الدين إلى حلب، لإثبات ما في الخزائن بحلب، وختمها بخاتم الملك الصالح.
وكان وزير الملك العادل نور الدين: موفق الدين خالد بن محمد بن نصر بن القيسراني، رسولاً عنه بمصر. فاتفق رأي الجماعة على أن ولوا وزارة الملك الصالح: شهاب الدين أبا صالح عبد الرحيم بن أبي طالب بن العجمي، وكان عدلاً على خزائن نور الدين.
وكان شمس الدين علي، ابن داية نور الدين، أخو مجد الدين لأمه، من أكبر الأمراء النورية، وأمر حلب راجع إليه وإلى إخوته في أيام نور الدين. وكان بحلب عند موت نور الدين، وسابق الدين عثمان وبدر الدين حسن أخواه، فتولى شمس الدين علي تدبير حلب، وصعد إلى القلعة، وحصل بها مع شاذبخت، والأمير بدر الدين حسن متولي الشحنكية بالمدينة.

استقلال سيف الدين غازي ببلاد الجزيرة
وكان نور الدين قد سير إلى الموصل وغيرها من البلاد يستدعي العساكر، بحجة الغزاة، ومقصوده الطلوع إلى مصر، فسار سيف الدين غازي بعسكر الموصل، وعلى مقدمته سعد الدين كمشتكين الخادم، وكان قد جعله نور الدين والياً من قبله بالموصل. فلما كانوا ببعض الطريق، وصلتهم الأخبار بموت نور الدين فهرب سعد الدين كمشتكين إلى حلب جريدة.
وأما سيف الدين فإنه أخذ بلاد الجزيرة جميعها، سوى قلعة جعبر، فأرسل

(1/360)


شمس الدين علي ابن الداية يطلب الملك الصالح إلى حلب، ليمنع سيف الدين ابن عمه من البلاد الجزرية. فلم يمكنه الأمراء الذين معه بدمشق من الانتقال إلى حلب خوفاً أن يغلبهم عليه شمس الدين علي.
وكان شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم قد صار متولي تدبيره بدمشق، وكمال الدين بن الشهزروري وجماعة من الأمراء معه. وكان قد أشار كمال الدين على الأمراء بمشاورة الملك الناصر فيما يفعلونه، لئلا يجعل ذلك حجة عليهم، فخافوا منه ولم يفعلوا.

حصار بانياس الداخل
وخرج الفرنج، وحصروا قلعة بانياس فراسلهم ابن المقدم، وبذل لهم مالاً، وخوفهم بالاستنجاد بصلاح الدين وسيف الدين، فعادوا. وبلغ ذلك كله الملك الناصر صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين إلى الملك الصالح، وعتب عليه حيث لم يعلمه بما تجدد من سيف الدين في أخذ الجزيرة ليحضر ويكفه. وأنكر صلح الفرنج وبذل المال لهم، وبذل من نفسه قصد الفرنج، وكفهم عن التطاول إلى شيء من بلاد الملك الصالح.
وكتب إلى كمال الدين وابن المقدم، والأمراء، وقال: لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من يقوم مقامي، أو يثق بي مثلي لسلم إليه مصر، ولو لم يعجل عليه الموت لعهد إلي بتربية ولده. وأراكم قد تفردتم بمولاي وابن مولاي دوني،

(1/361)


وسوف أصل إلى خدمته، وآكافي إنعام أبيه، وأجازي كلا منكم على فعله.

المراسلات في شأن الملك الصالح
وكثر خوف شمس الدين علي ابن الداية من سيف الدين غازي، وأن يعبر الفرات إلى حلب فيملكها، فأرسل سعد الدين كمشتكين إلى دمشق، ليحضر الملك الصالح، فلما قارب دمشق سير إليه شمس الدين بن المقدم عسكراً، فنهبوه، وعاد منهزماً إلى حلب، فأخلف عليه شمس الدين علي ابن الداية، عوضاً عما أخذ منه.
ثم إن الأمراء بدمشق، اتفقوا على إرسال الملك الصالح إلى ابن الداية بحلب لأنها أم البلاد، فأنفذوا إليه يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح، فوصل إليهم سعد الدين كمشتكين، واتفقوا على أن يكون شمس الدين علي أتابكاً للملك الصالح. وحلف شمس الدين وجمال الدين شاذبخت للأمراء على أقطاعهم، ونفذت النسخة مع سابق الدين عثمان إلى دمشق.
وسار الملك الصالح وأمه مع سعد الدين كمشتكين والأمراء الذين أقطاعهم بحلب، ولما وصلوا ما بين حماه وحلب وصل من جمال الدين شاذبخت من خوف الأمراء من بني الداية، فقبضوا سابق الدين عثمان، بقنسرين، وكتموا الحال، ووصلوا إلى باب حلب، فخرج بدر الدين حسن، فقبضوه، ودخلوا من باب الميدان وقد عمل به الخوان، فلم يلتفتوا إليه، وبادروا بالملك الصالح، وصعدوا به إلى القلعة.
وكان بشمس الدين علي نقرس، فحمل في محفة، وحضر بين يدي الملك الصالح، فزندوا يديه، وقيدوا أخويه، وجعلوا الجميع في المطمورة، بالمركز.

(1/362)


وكان شاذبخت قد احتاط، واستخدم جماعة من الأجناد، فصار في مقدار خمسمائة راجل، وشمس الدين في مقدار مائة، وأمر اسباسلار باب القلعة أبا بكر بن مقبل: أن يمنع من يصعد إلى القلعة من أصحابه وأصحاب إخوته، ما خلا سابق الدين وبدر الدين. فكانا يصعدان، ومع كل واحد منهما غلام واحد ووكل بباب شمس الدين ثلاثين رجلاً كل ليلة، فعتب على شاذبخت فقال له: أنا أبعث الرجال إليك، ليقوموا في الخدمة. وكان يوكل بالأجناد الدين خالفوه حفظة يمنعون من يدخل منهم أو يخرج، وكان هذا حال القلعة، في غيبة الملك الصالح.

الفتنة الطائفية
وأما حال المدينة فإن السنة من أهل البلد مالوا إلى المجدية، لتعصبهم للسنة على الشيعة، وجمعهم بدر الدين حسن شحنة حلب، واستخلصهم في الليل. وكان فيهم بنو العجمي، والشيخ أبو يعلى بن أمين الدولة، وبنو قاضي بالس على ما ذكر وطلب القاضي أبا الفضل بن الخشاب وبني الطرسوسي، فأبوا أن يحضروا.
وكان أهل حلب من الشيعة، يتوالون أبا الفضل بن الخشاب ويقدمونه عليهم، فوافقوه على حفظ البلد للملك الصالح، وعلى مخالفة بني الذاية. فسير بدر الدين حسن إلى ابن الخشاب، وقال له: إن جماعة عندي قذفوك، وتحدثوا بأنك تطعن في الدولة، وأنك تريد أن تملك حلب.
وكان بدر الدين وأخواه أرادوا أن تقع الفتنة بحلب بين السنة والشيعة، ليستقيم أمرهم، فثار الغوغاء من الشيعة ونهبوا دار قطب الدين بن العجمي بالقرب من الزجاجين، ودار أبي يعلى بن أمين الدولة، بالجرن الأصفر. وكان فيها أموال الأيتام. وانتقل ابن العجمي بعد ذلك إلى البلاط، وابن أمين الدولة إلى تحت القلعة بالقرب من مسجد السيدة.
وقتل في ذلك اليوم في مدرسة الزجاجين الشيخ أبو العباس المغربي، وكان مقرئاً محدثاً.
وثارت الفتنة بين الطائفتين، وطلب الفقراء دور الأغنياء فنهبت دار أبي جعفر ابن المنذر بالعقبة، فجمع بدر الدين حسن جماعة من الأجناد ومن أهل البلد السنة ومن العسكر، وألبسهم السلاح، وصعد إلى شاذبخت، وقال له: إن أبا الفضل بن

(1/363)


الخشاب يريد أن يملك البلد وقد مال إليه الشيعة وبعض السنة، فتعينني بنقابين وزراقين حتى أقبض عليه، وأعتقله، إلى أن يحضر الملك الصالح.
فأمر الأجناد بلبس السلاح والخروج معه، وصار بهم إلى تل فيروز وهو موضع سوق الصاغة الآن وكان إذ ذاك تلا. وأخذوا الفلايج والأبواب، وسدوا بها الدروب، وزحفوا من الطرق والأسطحة، إلى دار ابن الخشاب. ووقع قتال شديد، وقتل بين الفريقين جماعة كثيرة، وانتهى إلى الدار، فأحرقها ونهبها، ونهب أدر جماعة من المجاورين له.
وانهزم القاضي أبو الفضل، واختفى في دار فخرا وابن كياعميد بالقرب من حمام شراحيل، فأقام بها إلى أن وصل الملك الصالح في المحرم، من سنة سبعين وخمسمائة، وصعد إلى القلعة، وقبض على بني الداية كما ذكرنا وصار الأمر والتدبير إلى سعد الدين كمشتكين الخادم، وهو الذي بني الخانكاه المنسوبة إليه بحلب، في جوارنا، وهي كانت دار أبي الطيب المتنبي، بحلب.
وكان شمس الدين علي قد عزم على أن الملك الصالح إذا قدم أخذه بمفرده، وصعد به إلى القلعة. ولا يمكن أحداً من الأمراء من الصعود، ويطردهم، ويستقل بالأمور.
فسير شاذبخت من أسر ذلك إلى الأمراء الدين كانوا في صحبة الملك الصالح فاتفق رأيهم في قنسرين على قبض أولاد الداية، وتحالفوا على أن قدموا كمشتكين، فلما رحلوا من قنسرين، بدأوا بسابق الدين، وكان قد وجه إلى دمشق في تقرير الأمور، فقبضوه، وحفظوا الطرق لئلا يصل إلى حلب من يخبر أخويه، إلى أن صعدوا إلى القلعة كما ذكرنا.
وأما أبو الفضل بن الخشاب، فإن الملك الصالح أمنه، وسير له خاتماً، وركب إلى القلعة، ومعه خلق كثير من أهل حلب، وعوامها، يمشون في خدمته، وأكد أمره، وقرر على أن يقتل. فلما دخل إلى القلعة، ووصل قدام الفرن بالقلعة، ضربه علي أخو عز الدين جورديك فرماه. وجاء بعض أجناد القلعة فاحتز رأسه، وجعلوه على باب القلعة. ثم رفع على رمح إلى برج بالقلعة، يقال له برج الزيت وتفرق أصحابه من تحت القلعة، عند ذلك.
واستو لى على دولة الملك الصالح أمير لالا المجاهد ياقوت، وهو الحاكم

(1/364)


عليه، وهو الذي رباه، وجمال الدين شاذبخت الهندي وهو والي القلعة والحاكم بها، وسعد الدين كمشتكين مقدم العساكر ومتولي إقطاعهم، وشهاب الدين أبو صالح بن العجمي، وزير الملك الصالح، فخاف. وولوا رئاسة حلب الريس صفي الدين طارق ابن الطريرة، وعزلوا أبا محمد الحكم، وكان يتولى الرئاسة في أيام نور الدين.
فخاف ابن المقدم والأمراء، الدين بدمشق، أن يستقر أمر كمشتكين بحلب، فيأخذ الملك الصالح، ويسير إلى دمشق، ويفعل كما فعل بأولاد الداية. فكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل، ليصل إليهم، ويسلموا إليه دمشق، فخاف أن تكون مكيدة منهم، فامتنع من ذلك. وراسل سعد الدين كمشتكين والملك الصالح، وصالحهما على الجزيرة، وإبقائها في يده.

استدعاء صلاح الدين الأيوبي إلى دمشق
فخات الأمراء، بدمشق من اتفاق سيف الدين والملك الصالح عليهم، فكاتبوا الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، واستدعوه من مصر ليملكوه عليهم، فسار من مصر في سمبعمائة فارس، والفرنج في طريقه، فلم يبال بهم. فخرج إليه صاحب بصرى وكان ممن كاتبه.
ولما وصل إلى دمشق خرج كل من كان بها من العسكر، والتقوه ودخل البلد، ونزل في دار أبيه المعروفة بدار العقيقي، وعصى عليه في القلعة خادم اسمه ريحان، فأعلمه أنه إنما جاء في خدمة الملك الصالح، فسلم إليه القلعة، وصعد الملك الناصر إليها، وأخذ ما فيها من الأموال، فاستعان به، وتزوج خاتون بنت معين الدين، وكانت زوجة نور الدين، واستخلف أخاه طغتكين سيف الإسلام.

(1/365)


مسيره إلى حمص وحماه وحلب
وسار إلى حمص وحماة، وهما في أقطاع فخر الدين مسعود بن الزعفراني.
وكان ظالماً، فسار منها بعد موت نور الدين، فملك الملك الناصر في حادي عشر جمادى الأولى، من سنة سبعين، مدينة حمص. وبقيت القلعة، وكان الولاة في القلاع من جهة نور الدين، فترك في البلد من يحفظه، ويمنع من في القلعة من النزول.
وسار إلى حماة، فملك مدينتها مستهل جمادى الآخرة، وكان بالقلعة عز الدين جورديك، فأرسل إليه، وقال له: إني في طاعة الملك الصالح، والخطبة له في البلاد التي في يدي على حالها، والمقصود اتفاق الكلمة على طاعة الملك الصالح، وأن تسعد البلاد الجزرية وتحفظ بلاده. فاستحلفه جورديك على ذلك، وسيره إلى حلب في اجتماع الكلمة، وفي إطلاق شمس الدين علي وأخويه من السجن، وكان إقطاعهم قد قبض من نوابهم، ولم يبق في أيديهم غير شيزر وقلعة جعبر.
واستخلف جورديك بقلعة حماة أخاه ليحفظها، فلما وصل جورديك قبض عليه كمشتكين، وسجنه، فعلم أخوه بذلك، فسلم قلعة حماه إلى الملك الناصر.
وسار الملك الناصر إلى حلب، فوصلها في ثالث جمادى الآخرة من سنة سبعين، وحصرها. فركب الملك الصالح، وهو صبي عمره اثنتا عشرة سنة، وجمع أهل حلب، وقال لهم: أنا يتيمكم، وقد عرفتم إحسان أبي إليكم، وقد جاء هذا الظالم ينترع ملكي. وقال أقوالاً كثيرة. وبكى فأبكى الناس، وبذلوا أنفسهم وأموالهم له، واتفقوا على القتال دونه، والذب عنه.
فجعل الحلبيون يخرجون، ويقاتلون الملك الناصر عند جبل جوشن فلا يقدر أن يتقرب إلى البلد وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية،

(1/366)


وبذل له أموالاً كثيرة ليقتل الملك الناصر، فقفزوا عليه، فحماه الله منهم، وقتلوا.
وبقي محاصراً حلب إلى سلخ جمادى الآخرة، وكان كمشتكين قد أرسل إلى سيف الدين غازي يستنجده، وكان ريمند صاحب طرابلس الذي أسره نور الدين قد أطلقه كمشتكين بمائة ألف وخمسين ألفا صورية، في هذه السنة. وصار موضع مري ملك الفرنج، فأرسل من بحلب إليه يطلبون منه أن يقصد بعض البلاد التي بيد الملك الناصر، ليرحل عنهم، فسار إلى حمص ونازلها، فرحل الملك الناصر عن حلب، مستهل شهر رجب. فلما نزل الرستن رحل الفرنج عن حمص، ووصل الملك الناصر إليها، وحصر قلعتها إلى أن تسلمها.

من بعلبك إلى قرون حماة
وسار إلى بعلبك، فتسلمها وقلعتها، فى رابع شهر رمضان، من سنة سبعين وخمسمائة.
وأما سيف الدين غازي فإنه جمع عساكره، وكاتب أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار، لينزل إليه بعساكره ليجتمعا على نصرة الملك الصالح، فامتنع. وكان الملك الناصر قد كاتبه، وأطمعه في ملك الموصل، لأنه الكبير من أولاد أبيه، فمضى سيف الدين إلى سنجار محاصراً لها، وسير عسكراً كثيراً إلى حلب مع أخيه عز الدين مسعود، مع أكبر أمرائه زلفندار، فوصل عز الدين إلى حلب،

(1/367)


واجتمعت عساكر حلب معه، وساروا إلى حماه، فقاتلوها.
فأرسل الملك الناصر، وبذل لهم تسليم حمص وحماة، وأن يقر بيده دمشق، وأن يكون فيها نائباً عن الملك الصالح، فلم يجيبوه إلى ذلك. وقالوا. لا بد من تسليم جميع ما أخذه من الشام، وعوده إلى مصر.
فسار الملك الناصر إلى عز الدين وزلفندار، فالتقوا في تاسع عشر شهر رمضان، على قرون حماة. فانهزم عسكر الموصل، وثبت عز الدين بعد الهزيمة، فقال الملك الناصر: إما أن يكون هذا أشجع الناس، أو أنه لا يعرف الحرب. وأمر أصحابه فحملوا عليه حتى أزالوه عن موقفه، وتمت الهزيمة، وتبعهم الملك الناصر، وغنموا غنائم كثيرة، وأسر جماعة كثيرة، فأطلقهم.

بعد صلح تحرك صاحب الموصل
ونزل الملك الناصر على حلب، محاصراً لها، وقطع حينئذ خطبة الملك الصالح، وأزال اسمه عن السكة في بلاده، فلما طال الأمر عليهم راسلوه في الصلح، على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام، ولهم ما بأيديهم، وأخذ المعرة، وكفر طاب، وانتظم الحال بينهم على ذلك.
ورحل عن حلب، في العشر الأول من شوال، إلى حماة، فوصلته خلع الخليفة بها مع رسوله. ووصل خبر الكسرة إلى سيف الدين، وهو محاصر سنجار، فصالح عماد الدين على ما بيده، ورحل إلى الموصل، وشرع في جمع العساكر. وسار الملك الناصر من حماة إلى بارين، وفيها نائب عز الدين ابن الزعفراني، ولم يبق بيده غيرها، فحصرها إلى أن سلمها واليها إليه بالأمان، فعاد إلى حماة، وأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، وأقطع حمص ناصر الدين محمد ابن عمه أسد الدين، وعاد إلى دمشق.

(1/368)


وخرج سيف الدين غازي صاحب الموصل، في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وسار إلى نصيبين، واستنجد صاحب حصن كيفا وصاحب ماردين، فاجتمع معه عسكر كثير بلغت عدتهم ستة آلاف فارس. وأقام بنصيبين حتى خرج الشتاء، فضجرت العساكر وفنيت نفقاتهم.
ثم سار إلى حلب، فعبر ب البيرة وخيم على جانب الفرات الشامي، وراسل كمشتكين والملك الصالح، لتستقر قاعدة يصل عليها إليهم. ووصل كمشتكين إليه، وجرت مراجعات كثيرة، عزم فيها على العود مرارا، حتى استقر اجتماعه بالملك الصالح، وسمحوا به، فسار ووصل إلى حلب.
وخرج الملك الصالح للقائه بنفسه، فالتقاه قريب القلعة، واعتنقه، وضمه إليه، وبكى، ثم أمره بالعود إلى القلعة فعاد، وسار هو، فنزل بعين المباركة، وأقام بها مدة، وعسكر حلب تخرج إلى خدمته في كل يوم، وصعد إلى قلعة حلب جريدة، وأكل فيها شيئاً، ونزل، وسار منها إلى تل السلطان، ومعه عسكر حلب، مضافاً إلى العساكر الواصلة معه.
وخرج رجل ادعى أنه المنتظر، وادعى النبوة بجبل ليلون، واستغوى أهل تلك الناحية، وأظهر لهم زخارف، ومحالاً، وقال لهم: إذا جاء العسكر إليكم، فسوف أرميهم بكف من تراب فأهلكهم وأغاروا على تركمان بجبل سمعان وكان مقيماً بأتباعه بكفرند، فخرج طمان من العسكر، وسعد الدين كمشتكين بجماعة من العسكر، ووصلوا إليهم، فجعل أتباعه يصيحون: وعدك يا مولانا! والسيف يعمل فيهم، فألقى التراب، فزحف إليه العسكر، وقتل الرجال وسبى

(1/369)


النساء، والتجأ جماعة إلى المغاير، فاستخرجوهم ولم يبقوا إلا على من أسلم منهم، ودخنوا على جماعة في المغاير، فماتوا، ثم عاد العسكر إلى تل السلطان، بعد أن قتل وصلب.
وكان الملك الناصر بدمشق في قل من العسكر، لانه كان قد سيرها إلى مصر، وأنفذ إليها يستدعيها، فلو عاجله سيف الدين لبلغ منه غرضاً لكنه تأخر، فوصل عسكر مصر إلى الملك الناصر.

صلاح الدين وسيف الدين في تل السلطان
فسار من دمشق إلى ناحية حلب، ليلقى سيف الدين، فالتقاه بتل السلطان، وكان سيف الدين قد سبقه إلى تل السلطان، فوصل الملك الناصر العصر، وقد تعب هو وأصحابه وعطشوا، فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس فيهم حركة.
فأشير على سيف الدين بلقائهم في تلك الحالة، فقال زلفندار: ما بنا حاجة إلى القتال في هذه الساعة، وغداً بكرة نأخذهم كلهم. فترك القتال إلى الغد، فلما أصبحوا اصطفوا للقتال، فجعل زلفندار الأعلام في وهدة من الأرض، لا يراها إلا من هو قريب منها.
فلما التقى الفريقان، ظن أكثر الناس أن سيف الدين قد انهزم، لأنهم لم يروا الأعلام، فانهزموا بعد أن كان مظفر الدين بن زين الدين وهو في الميمنة قد كسر ميسرة الملك الناصر. وولوا الأدبار، وأسر منهم جماعة فأطلقهم الملك الناصر، منهم: فخر الدين عبد المسيح، وأمسك عن تتبع العسكر، فلم يقتل غير رجل واحد، وذلك في يوم الخميس العاشر من شوال، سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.

(1/370)


ونزل الملك الناصر وعسكره، في بقية ذلك اليوم في خيم القوم، واستولوا على جميع ما فيها، وفرق الاصطبلات والخزائن، ووهب خيمة سيف الدين عز الدين فروخشاه. ووصل سيف الدين إلى حلب، وترك أخاه عز الدين في جماعة من العسكر، وعبر الفرات، وسار إلى الموصل.

بزاعا ومنبج وعزاز ومحاولة قتل صلاح الدين
ووصل الملك الناصر إلى حلب، يوم الأحد ثالث عشر شوال، فأقام عليها أربعة أيام، ورحل عنها، يوم الجمعة ثامن عشر شوال، فنزل بزاعا فحصرها وتسلمها يوم الاثنين العشرين من شوال.
ورحل فنزل منبج، فحصرها، في التاسع والعشرين من شوال، وبها قطب الدين ينال بن حسان، وكان شديد العداوة للملك الناصر، وكان قد حنق عليه لذلك، فملك المدينة، ونقبت القلعة، فحصره بها، ونقبها النقابون، وملكها عنوة، وأخذ كل ما كان فيها، وأخذ صاحبها أسيراً، ثم أطلقه، فسار إلى الموصل، فأقطعه سيف الدين الرقة.
ورحل الملك الناصر إلى عزاز فنازلها ثالث ذي القعدة وحصرها ونصب عليها المنجنيقات.
وجلس يوماً في خيمة بعض أمرائه، ويقال له جاولي مقدم الأسدية، فوثب عليه باطني، فجرحه بسكين في رأسه، فرد المغفر عنه، وأمسك الملك الناصر يدي الباطني بيديه، إلا أنه لا يقدر على منعه من الضرب بالكلية، بل يضرب ضرباً ضعيفاً، فبقي الباطني يضربه بالسكين في رقبته، وكان عليه كراغند، فكانت

(1/371)


الضربات تقع في ريقه، والزرد يمنعها من الوصول. وجاء سيف الدين يازكج فأمسك السكين، فجرحه الباطني، ولم يطلقها من يده إلى أن قتل. وجاء باطنيان آخران فقتلا.
وركب الملك الناصر إلى خيمته، ولازم حصار عزاز، حتى تسلمها بعد قتال شديد، في بكرة الأربعاء، ثاني عشر ذي الحجة. ورحل عنها إلى مرج دابق.

حصار حلب والصلح
ثم سار فنزل حلب، يوم الجمعة، منتصف ذي الحجة، وحصرها، وبها جماعة من العسكر، ومنع أهل البلد الملك الناصر من التقرب إلى البلد، وكانوا يخرجون إلى خيم المعسكر فيقاتلوه، وإذا مسك واحد منهم شرحت قدماه، فيمتنع من المشي، ولا يكفون عن القتال، وقام في نصرته السنة والشيعة من الحلبيين، وأعطي الشيعة الشرقية في المسجد الجامع، فكانوا يجتمعون بها للصلاة.
واتفق أن الحلبيين اجتمعوا تحت القلعة، شاكين في السلاح، يستأذنون الملك الصالح في الخزوج إلى قتال العسكر، فدخل رسول من الملك الناصر، يقال له سعد الدين أبو حامد العجمي الكاتب، فصاح عوام الحلبيين: ما نصالح يا رسول، رح، ودع عنك الفضول. ورجموه بالحجارة، فخرج، واتبعوه إلى قريب من الخيام.
ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح بين الملك الصالح، وسيف الدين صاحب الموصل، وصاحب الحصن، وصاحب ماردين، وبين الملك الناصر. وتحالفوا، واستقرت على أن يكونوا كلهم عوناً على الناكث الغادر، واستقر الصلح. ورحل الملك الناصر، في السادس عشر من محرم، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.

(1/372)


ولما تقرر الصلح، أخرج الملك الصالح إلى الملك الناصر أخته بنت نور الدين، وكانت طفلة صغيرة، فأكرمها، وحمل لها شيئاً كثيراً، وقال لها ما تريدين؟ قالت: أريد قلعة عزاز وكانوا قد علموها ذلك فسلمها إليهم.

أخبار الإسماعيلية
ورحل إلى بلد الإسماعيلية، وحصرهم، ثم صالحهم بوساطة خاله محمود بن تكش، وسار بعساكره إلى مصر. وكان في شروط الصلح أن يطلق عز الدين جورديك، وشمس الدين علي ابن الداية، وأخواه سابق الدين، وبدر الدين. فسار أولاد الداية إلى الملك الناصر، فأكرمهم، وأنعم عليهم. وأما جورديك، فأقام في خدمة الملك الصالح، وعلم الجماعة براءته مما ظنوا به.
وعصىغزس الدين قلج في تل خالد لأنه نسب إليه أمر أوجب وحشته، فحصل فيها بماله، وحصنها، فخرج إليه سعد الدين كمشتكين بالعسكر، ومعه طمان، فحصره مدة، فسير، واستشفع بالملك الناصر، فشفع فيه إلى الملك الناصر، فقبل الشفاعة وأمنه، فخرج بماله وأهله، وحاشيته، ومضى إلى منبج، فنزل بها عند الدويل، وكان الملك الناصر قد أقطعه إياها، وكان ذلك في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
وفي هذه السنة، أظهر أهل جبل السماق الفسق والفجور، وتسموا بالصفاة، واختلط النساء والرجال في مجالس الشرب، ولا يمتنع أحدهم من أخته ولا بنته، ولبس النساء ثياب الرجال، وأعلن بعضهم بأن سناناً ربه. فسير الملك الصالح إليهم عسكر حلب، فهربوا من الجبل وتحصنوا في رؤوس الجبال، فأرسل سنان، وسأل فيهم، وأنكر حالتهم، وكانوا قد نسبوا ذلك إليه، وأنهم فعلوا ذلك بأمره، فأشار سعد الدين بقبول شفاعته فيهم، وعاد العسكر عنهم.

(1/373)


وشرع سنان في تتبع المقدمين منهم، فأهلكهم، وكان في الباب منهم جماعة فثار بهم البنوية من أهل ذلك البلد، وقاتلوهم من التركمان، فانهزموا واختبئوا في المغاير، فنهبوا دورهم، وعروا نساءهم، ودخنوا عليهم في المغاير، وقتلوا من أمكنهم قتله.
ثم إن الاسماعيلية قزروا على الوزير شهاب الدين أبي صالح بن العجمي، يوم الجمعة رابع شهر ربيع الأول، من سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وكان السبب في ذلك أن أبا صالح كان يواطىء المجاهد اللالا وجمال الدين شاذبخت، على سعد الدين كمشتكين، ويحاولون حطه عن مرتبته. فعلم كمشتكين ذلك، فكتب كتاباً إلى سنان مقدم الإسماعيلية بالحصون، على لسان الملك الصالح، يلتمس منه قتل أبي صالح، واللالا، وشاذبخت. وكان قد أحضر الكتاب إلى الملك الصالح، وهو خارج إلى الصيد، وطلب خطه، وهو أبيض، لم يكتب فيه شيء أصلاً، وقال له: المولى خارج، ويحتاج أن يكتب كتاباً في أمر كذا وكذا، فيكتب المولى علامته. فكتب ثقة بأن الأمر كما ذكر.
فكتب كمشتكين إلى سنان بالأمر الذي أراده، وسيره إليه، فلم يشك سنان في أن الأمر وقع من الملك الصالح، ليستقل بأموره وملكه. فندب جماعة لقتل المذكورين، فوثبوا على شهاب الدين أبي صالح، عندما خرج من باب الجامع الشرقي، بالقرب من داره، وقتل الإسماعيليان اللذان وثبا عليه.
ثم وثب بعد ذلك بمدة ثلاثة منهم على اللالا، بالقرب من خانكاه القصر،. وتعلق بذيل بغلتاقه ليضربه بالسكين، فرفس اللالا الفرس، وخرج من البغلتاق!، فنجا. وأحاط الناس بالجماعة الذين قفزوا عليه، وفيهم اثنان كانا يترددان إلى ركابدار اللالا، فقتل أحدهما وصلب، وصلب الركابدار أيضاً، وكتب على صدره: هذا جزاء من يؤوي الملحدة.

(1/374)


وأما الآخر، فصعدوا به إلى القلعة، فضرب ضرباً عنيفاً، وثقب كعبه، ليقرر على السبب الذي أوجب وثوبهم، فقال للملك الصالح: أنت تبعث كتبك إلى مولانا سنان بقتل من أمرنا بقتله، ثم تنكر فعل ذلك؟ فقال: ما أمرت بشيء. وكتب إلى سنان يعتب عليه فيما فعل بأبي صالح واللالا. فقال: أنا ما فعلت شيئاً إلا بأمرك وخطك. وسير إليه كتاباً فيه علامته بقتل الثلاثة المذكورين، فعلم أن ذلك كان ميكدة من كمشتكين.
وكان الإسماعيلية قد اجتهدوا في قتل شاذبخت، فلم يقدروا على الوثوب عليه، لشدة احترازه في القلعة، فعند ذلك وجد أعداء كمشتكين طريقاً للطعن عليه، وقالوا: لا إنما أراد قتل هؤلاء ليستقل بملكك، ويفعل فيه ما لا يقدر أن يفعله معهم، وأنه قد استصغرك، واحتقر أمرك.

تحرك الفرنج بغياب صلاح الدين
وكانت حارم لسعد الدين كمشتكين، أقطعه إياها الملك الصالح، حين أخذها من بدر الدين حسن، فأنهي إلى الملك الصالح أن سعد الدين يريد أن يسلمها إلى الفرنج، لأن أصله فرنجي، وأنه قد قرر معهم أن يبيعها عليهم بمال وافر. والدليل على صدق ذلك أنه أطلق من كان بالقلعة، من أسرى الفرنج، من أيام نور الدين، وأطلق البرنس أرناط، فقطع الطريق بالكرك، وسير أمواله من حلب وغيبها. وكتب إليه رجل من الفرنج يقال له، الفارس بدران بشيء من ذلك، وبعث بعدة كتب من سعد الدين إلى الفرنج، تشهد بما أنهاه، ولعله وضع ذلك كله عليه، حتى نالوا غرضهم منه.
فقبض الملك الصالح على سعد الدين، في التاسع من شهر ربيع الأول، من سنة ثلاث وسبعين، وكان قد جاء يطلب دستوراً إلى حارم، وطلب تسليمها منه، فامتنع. فحمل إليها تحت الحوطة، وجيء به إلى تحت قلعتها، وعذب،

(1/375)


فاستدعى بعض من يثق إليه من المستحفظين بالقلعة، وأسر إليهما أنهم لا يسلمونها، ولو قطع، ثم قال لهما جهراً: بعلامة كذا وكذا، سلموا. فصعد إلى القلعة، وأظهر من فيها العصيان والمقاتلة، فعذب عذاباً شديداً، وعلق برجليه، وسقط بالخل، والكلس. والدخان، وعصر، وأصحابه يشاهدونه، ولا يجيبون إلى التسليم.
وخرج الفرنج من أنطاكية، يطلبون حارم، فتقدم الملك الصالح بخنق كمشتكين، فخنق بوتر، وأصحابه يشاهدونه ولا يسلمون، وكسروا يديه وعنقه، ورموه إلى خندق حارم، فحين علم الفرنج ذلك ساروا إلى شيزر.
ودخل الملك الصالح إلى حلب، وخلف العسكر بأرض عم وجاشر، حول حارم، يمنعونها من الفرنج، ويباكرونها كل يوم لطلب التسليم، ومقدم العسكر طمان بن غازي وكان من أكبر الأمراء.
وعاد الفرنج إلى حماة فحصروها، ولم يظفروا بطائل، وطمعوا في حارم، لعصيان أصحاب كمشتكين بها، وظنوا أن الملك الصالح صبي، وعسكره قليل، والملك الناصر بمصر، فلا ينجدهم إلا بعد أن يأخذوا حارم، فنزلوا عليها، ومعهم كند كبير من الفرنج، كان قد خرج من البحر إلى الساحل، يقال له كند قلنط لماني، ومعهم البرنس، وابن لاون، والقومص صاحب طرابلس، فندم من بحارم، حيث لم يسلموها إلى الملك الصالح.
وحصرها الفرنج، وضايقوها بالمجانيق والسلالم، فصاح من فيها: صلاح الدين يا منصور! فأحضروا خيمة، كانوا أخذوها من خيم الملك الناصر في كسرة الرملة في هذه السنة، وأخبروهم بالكسرة ليضعفوا عزيمتهم، وعسكر حلب بإزائهم من عم إلى تيزين.
ودخلت سنة أربع وسبعين: والفرنج مجدون على قتال حارم، ونقبوا في تل

(1/376)


القلعة، من جهة القبلة نقباً، ومن جهة الشمال آخر. فانهد السور على من تحته، وهو موضع البغلة، التي جددها السلطان الملك الظاهر قدس الله روحه.
وامتنع القتال من تلك الناحية، خوفاً من وقوع شيء آخر. فأخرج المسلمون رجلاً من عندهم إلى طمان، يطلب الأمان من الملك الصالح والنجدة، فسير إلى الملك الصالح، وأعلمه.
فانتخب الملك الصالح رجالاً أجلاداً من الحلبيين، وأعطاهم مالاً جزيلاً، وقال لهم: أريد منكم أن تدخلوا قلعة حارم، فجاءوا، والفرنج محدقون بها، في الليل، فسلكوا خيامهم مفرقين، حتى جاوزوها. وصاحوا بالتكبير والتهليل، وصعدوا القلعة، وصار فيها شوكة من المقاتلة، بعد أن كان قتل من المسلمين بها رجال عدة. والمسلمون أعني عسكر حلب إذ ذاك حول الفرنج جرايد، وأثقالهم بدير سمعان، وهم يتخطفون من يمكنهم أخذه من الفرنج ويحفظون أطراف البلد. وسار العسكر عند ذاك إلى دير أطمة، وصادفوا الفرنج في وطأة أطمة، فحملوا عليهم، فانهزموا وقتل من الفرنج، وأسر جماعة، فدام حصار الفرنج أربعة أشهر. وأرسل الملك الصالح إليهم، وقال: إن الملك الناصر واصل إلى الشام، وربما يسلم من بحارم إلى قلعتها، ويضحي في جواركم. وبذل لهم مالاً بمقدار ما أنفقوا مدة حصارهم لها. وانتظم الصلح، ورحلوا.
وخرج الملك الصالح، فنزل على حارم، فسلمها إليه أصحاب كمشتكين، وصفح عن جرمهم، وولى فيها سرخك جمدار أبيه نور الدين. ودخل حلب وطالب نواب كمشتكين بماله، واعتقل ابن التنبي وزيره، فأحضر بعض المال، وعذب حتى أحضره، ثم هرب من الاعتقال.
وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة، سعى جماعة بالقاضي محي الدين أبي حامد بن الشهرزوري، قاضي حلب، وقدحوا فيه عند جمال الدين شاذبخت،

(1/377)


وأوهموه أنه يميل إلى الملك الصالح، ووضعوا على لسانه أشعاراً نسبوها إليه، فأوجب ذلك استيحاشه، وتوجه إلى الموصل. وعرض القضاء على عمي أبي غانم محمد بن هبة الله بن أبي جرادة فامتنع. فقلد والدي القضاء بحلب وأعمالها، وبقي على قضائها إلى أن مات الملك الصالح، وفي دولة عز الدين، وعماد الدين، ومدة من دولة السلطان الملك الناصر.
وقبض الملك الصالح قرية للإسماعيلية تعرف بحجيرا من ضياع نقرة بني أسد، فكتب سنان إلى الملك الصالح كتباً عدة في إطلاقها، فلم يطلقها، فأرسل جماعة من الرجال معهم النفط والنار، فعمدوا إلى الدكان التي في رأس الزجاجين من الشرق في القرنة، فألقوا فيها النار.
فنهض نائب رئيس البلد بمن معه في المربعة، والجماعة المرتبون لحراسة الأسواق، وأخذوا السقائين ليطفئوا الحريق، فأتى الإسماعيلية من أسطحة الأسواق، وألقوا النار والنفط في الأسواق، فاحترق سوق البز الكبير، وسوق العطارين، وسوق مجد الدين، المعد للبز، وسوق الخليع، وسوق الشراشين وهو الآن يعرف الكتانيين وسوق السراجين، والسوق الذي غربي الجامع، جميعه، إلى أن انتهى الحريق إلى المدرسة الحلاوية.
واحترق للتجار والسوقية، من القماش والآلات شيء كثير، وافتقر كثير منهم بسبب ذلك، ولم يظفروا من الإسماعيلية بأحد، وذلك في سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
ومات سيف الدين غازي، صاحب الموصل، ووليها أخوه عز الدين مسعود، وذلك في سنة ست وسبعين وخمسمائة.

وفاة إسماعيل بن نور الدين زنكي
وكان الملك الصالح في هاتين السنتين رخي البال، مستقرا في مملكته، سالكاً في الإحسان إلى أهل حلب طريق أبيه. عفيف اليد والفرج واللسان، فقدر الله تعالى

(1/378)


أن حضر أجله، وله نحو من تسع عشرة سنة، فمرض بالقولنج، واشتد مرضه. فدخل إليه طبيبه ابن سكرة اليهودي، وقال له سرا: يا مولانا شفاؤك في الخمر، فإن رأيت أن تأذن لي في حمله في كفي، بحيث لا يطلع اللالا، ولا شاذبخت، ولا أحد من خلق الله على ذلك. فقال: يا حكيم، كنت والله أظنك عاقلاً. ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " وما يؤمنني أن أموت عقيب شربها فألقى الله، والخمر في بطني، والله لو قال لي ملك من الملائكة: إن شفاءك في الخمر لما استعملته.
حكي لي ذلك والدي عن ابن سكرة الطبيب.
ولما أيس من نفسه أحضر الأمراء والمستحفظين، وأوصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال لهم بعضهم: إن عماد الدين ابن عمك أيضاً، وهو زوج أختك، وكان والدك يحبه ويؤثره، وهو تولى تربيته، وليس له غير سنجار، فلو أعطيته البلد لكان أصلح، وعز الدين له من البلاد من الفرات إلى همذان، ولا حاجة له إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغب عني، ولكن قد علمتم أن صلاح الدين، قد تغلب على البلاد الشامية، سوى ما بيدي، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين يعجز عن حفظها، وإن ملكها صلاح الدين لم يبق لأهلنا معه مقام، وإن سلمتها إلى عز الدين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وبلاده. فاستحسنوا هذا القول منه، وعجبوا من حسن رأيه مع شدة مرضه، وصغر سنه.
ثم مات يوم الجمعة خامس وعشرين شهر رجب، من سنة سبع وسبعين وخمسمائة. ودفن بقلعة حلب، إلى أن ابتنت والدته الخانكاه تجاه القلعة، ونقل إليها في أيام، فسير الأمراء: جورديك، والبصيري وبرغش، وجمال الدين شاذبخت، النوريون، مع جماعة المماليك النورية، إلى عز الدين، يستدعونه، وجددوا الأيمان فيما بينهم له.

(1/379)