زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم الثالث والعشرون
حلب ونور الدين زنكي
نور الدين زنكي في حلب والرها
وملك الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكي بن أق سنقر حلب،
عند ذلك في شهر ربيع الآخر يوم الثلاثاء عاشر الشهر، سنة إحدى وأربعين
وخمسمائة.
ووصل إليه صلاح الدين الياغيسياني يدبر أموره ويقوم بحفظ دولته، فحينئذ
راسل جوسلين الفرنجي أهل الرها وعامتهم من الأرمن، وحملهم على العصيان
وتسليم البلد، فأجابوه إلى ذلك، وواعدوهم يوماً يصل إليهم فيه.
وسار إليها فملك البلد، وامتنعت القلعة فقاتلها، فبلغ الخبر إلى نور
الدين محمود بن زنكي، وهو بحلب، فسار إليها في عسكره، فخرج جوسلين
هارباً إلى بلده.
ودخلها نور الدين فنهبها وسبى أهلها، وخلت منهم، فلم يبق بها منهم إلا
القليل.
وأرسل نور الدين من سبيها جارية في جملة ما أهداه إلى زين الدين علي
كوجك، نائب أبيه بالموصل، فلما رآها دخل إليها، وخرج من عندها وقد
اغتسل،
(1/329)
وقال لمن عنده: تعلمون ما جرى لي يومنا
هذا؟ لا، قال: لما فتحنا الرها مع الشهيد وقع بيدي من النهب جارية
رائقة أعجبني حسنها ومال قلبي إليها، فلم يكن بأسرع من أن أمر الشهيد
فنودي برد السبي والمال المنهوب، وكان مهيباً مخوفاً، فرددتها وقلبي
متعلق بها، فلما كان الآن جاءتني هدية نور الدين وفيها عدة جوار منهن
تلك الجارية، فوطئتها خوفاً أن يقع مثل تلك الدفعة.
نصر المسلمين في العريمة ويغري
وشرع نور الدين رحمه الله في صرف همته إلى الجهاد، فدخل في سنة اثنتين
وأربعين وخمسمائة، إلى بلد الفرنج، ففتح أرتاح بالسيف، ونهبها. وفتح
حصن ما بولة، وبسرفوث، وكفرلاثا وهاب.
وكان الفرنج بعد قتل والده قذ طمعوا وظنوا أنهم يستردون ما أخذه، فلما
رأوا من نور الدين الجد في أول أمره، علموا بعدما أملوه.
وخرج ملك الألمان ونزل على دمشق، في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وسار
لنجدتها سيف الدين غازي من الموصل، ونور الدين محمود، فوصلا إلى حمص.
وتوجه نور الدين إلى بعلبك، واجتمع بمعين الدين أنر بها، ورحل ملك
الألمان عن دمشق، وكان صحبته ولد الفنش، وكان جده قد أخذ طرابلس من
المسلمين. فأخذ ولد الفنش هذا حصن العريمة من الفرنج، وعزم على أخذ
طرابلس من القمص، فأرسل القمص إلى نور الدين إلى بعلبك يقول له في قصد
حصن العريمة وأخذه من ولد الفنش.
(1/330)
فسار نور الدين ومعين الدين آنر معه، وسيرا
إلى سيف الدين غازي إلى حمص، يستنجدانه فأمدهما بعسكر كثير مع الدبيسي
صاحب الجزيرة، فنازلوا الحصن، وحصروه وبه ولد الفنش.
فزحف المسلمون إليه مراراً، ونقب النقابون السور فطلب من به من الفرنج
الأمان، فملكه المسلمون، وأخذوا كل من به من فارس وراجل، وصبي، وامرأة،
وفيهم ابن الفنش، وأخربوا الحصن، وعادوا إلى حمص.
ثم عاد سيف الدين غازي إلى الموصل.
وتجمع الفرنج ليقصدوا أعمال حلب، فخرج إليهم نور الدين بعسكره والتقاهم
بيغري، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الفرنج، وأسر منهم جماعة وقتل
خلق، ولم ينج إلا القليل.
وفي هذه الوقعة يقول الشيخ أبو عبد الله القيسراني من قصيدة:
وكيف لا نثني على عيشنا ال ... محمود والسلطان محمود
وصارم الإسلام لا ينثني ... إلا وشلو الكفر مقدود
مكارم لم تك موجودة ... إلا ونور الدين موجود
بناء المدارس
وشرع نور الدين في تجديد المدارس والرباطات بحلب، وجلب أهل العلم
والفقهاء إليها، فجدد المدرسة المعروفة بالحلاويين، في سنة ثلاث
وأربعين وخمسمائة، واستدعى برهان الدين أبا الحسن علي بن الحسن البلخي
الخفي وولاه تدريسها، فغير الأذان بحلب، ومنع المؤذنين من قولهم: حي
على خير العمل وجلس تحت المنارة ومعه الفقهاء، وقال لهم: من لم يؤذن
الأذان المشروع فألقوه
(1/331)
من المنارة على رأسه. فأذنوا الأذان
المشروع، واستمر الأمر من ذلك اليوم.
وجدد المدرسة العصرونية على مذهب الشافعي، وولاها شرف الدين بن أبي
عصرون، ومدرسة النفري، وولاها القطب النيسابوري، ومسجد الغضائري وقف
عليه وقفاً، وولاه الشيخ شعيب، وصار يعرف به. وبقي برهان الدين البلخي
بحلب مدرساً بالحلاوية إلى أن أخرجه مجد الدين بن الداية، لوحشة وقعت
بينهما، ووليها علاء الدين عبد الرحمن بن محمود الغزنوي ومات ووليها
ابنه محمود، ثم وليها الزضي صاحب المحيط، ثم وليها علاء الدين
الكاشاني.
وتوفي سيف الدين غازي بن زنكي بالموصل في سنة أربع وأربعين وترك ولداً
صغيراً، فرباه عمه نور الدين، وعطف عليه.
اقتسام مناطق النفوذ
واتفق الوزير جمال الدين وزين الدين علي على أن ملكوا قطب الدين مودود
ابن زنكي الموصل، وكان نور الدين أكبر منه، وكاتبه جماعة من الأمراء
وطلبوه. وفيمن كاتبه المقدم عبد الملك والد شمس الدين محمد، وكان
بسنجار، فكتب إليه يستدعيه ليتسلم سنجار.
فسار جريدة في سبعين فارساً من أمراء دولته فوصل سنجار مجدا، ونزل
بظاهر البلد، وأرسل إلى المقدم يعلمه بوصوله، فرآه الرسول وقد سار إلى
الموصل، وترك ولده شمس الدين محمداً بالقلعة، فسير من لحق أباه في
الطريق، وأعلمه بوصول نور الدين، فعاد إلى سنجار، وسلمها إليه، وأرسل
إلى قرا أرسلان
(1/332)
صاحب الحصن يستدعيه لمودة كانت بينهما،
فوصل إليه.
ولما سمع قطب الدين والوزير جمال الدين، وزين الدين بالموصول، جمعوا
العساكر، وعزموا على قصد سنجار وساروا إلى تل أعفر، فأشار الوزير جمال
الدين بمداراته، وقال: إننا نحن قد عظمنا محله عند السلطان، وجعلنا
محلنا دونه، وهو فيعظمنا عند الفرنج، ويظهر أنه تبع لنا، ويقول: إن
كنتم كما نحب وإلا سلمت البلاد إلى صاحب الموصل، وحينئذ يفعل بكم
ويصنع، فإن هزمناه طمع فينا السلطان ويقول: إن الذي كانوا يعظمونه،
ويخوفوننا به أضعف منهم، وقد هزموه، وإن هو هزمنا طمع فيه الفرنج،
ويقولون: إن الذي كان يحتمي بهم أضعف منه، وبالجملة فهو إبن أتابك
الكبير، وأشار بالصلح.
وسار إلى نور الدين بنفسه، فوفق بينهما على أن يسلم سنجار إلى قطب
الدين، ويتسلم الرحبة، ويتسلم نور الدين بالشام جميعه، وقطب الدين
بالجزيرة ما خلا الرها، فإنها لنور الدين.
انتصارات نور الدين وضم دمشق
وعاد نور الدين إلى الشام، وأخذ ما كان قد ادخره أبوه أتابك من
الخزائن، وكانت كثيرة جداً.
فغزا نور الدين محمود بن زنكي بلد الفرنج من ناحية أنطاكية، وقصد حصن
حارم وهو للفرنج، فحصره، وخرب ربضه، ونهب سواده، ثم رحل إلى حصن إنب
فحصره أيضاً.
فاجتمع الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وحارم، وتلك الأعمال، وساروا إلى
نور الدين ليرحلوه عن إنب، فلقيهم يوم الأربعاء حادي وعشرين من صفر،
سنة أربع وأربعين وخمسمائة، واقتتلوا قتالاً عظيماً، وباشر نور الدين
القتال ذلك اليوم،
(1/333)
فانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم جمع
كثير، وأسر مثله.
وكان ممن قتل ذلك اليوم البرنس صاحب أنطاكية، وكان من عظماء الفرنج
وأقويائهم. ويحكى عنه أنه كان يأخذ الركاب الحديد بيده، فيطبقه بيده
الواحدة، وأنه مر يوماً وهو راكب حصاناً قويا تحت قنطرة فيها حلقة أو
شيء مما يتعلق به، فتعلق بيديه وضم فخذيه على الحصان فمنعه الحركة.
فلما قتل البرنس ملك بعده ابنه بيمند، وتزوجت أمه بابرنس آخر، ليدبر
البلد إلى أن يكبر ابنها، وأقام معها بأنطاكية، فغزاهم نور الدين غزوة
ثانية، فاجتمعوا ولقوه فهزمهم، وقتل منهم خلقاً وأسر كذلك، وأسر البرنس
الثاني زوج أم بيمند، واستقل بيمند بأنطاكية.
وفي ذلك يقول الشيخ أبو عبد الله القيسراني من قصيدة أولها:
هذي العزائم لا ما تدعي القضب ... وذي المكارم لا ما قالت الكتب
صافحت يا ابن عماد الدين ذروتها ... براحة للمساعي دونها تعب
أغرت سيوفك بالأفرنج راجفة ... فؤاد رومية الكبرى لها يحب
ضربت كبشهم منها بقاصمة ... أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب
طهرت أرض الأعادي من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها جنب
وقال ابن منير في ذلك:
صدم الصليب على صلابة عوده ... فتفرقت أيدي سبا خشباته
وسقى البرنس وقد تبرنس ذلة ... بالروج مما قد جنت غدراته
تمشي القناة برأسه وهو الذي ... نظمت مدار النيرين قناته
وسار نور الدين محمود إلى أفامية، في سنة خمس وأربعين، فالتجأ الفرنج
إلى حصنها فقاتله، واجتمع الفرنج وساروا إليه ليرحلوه عنه، فوجدوه قد
ملكه وملأه من
(1/334)
الرجال والذخائر، فسار في طلبهم، فعدلوا عن
طريقه، ودخلوا بلادهم.
وجمع نور الدين العساكر وسار إلى بلاد جوسلين الفرنجي ليملكها وكان
جوسلين من أشجع الفرنج وأسدهم رأياً، فجمع الفرنج وأكثر، وسار إلى نور
الدين والتقيا، وفانهرم المسلمون وقتل منهم وأسر.
وكان سلاحدار نور الدين ممن أسر، فأخذ جوسلين سلاحه، فسيره إلى الملك
مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية، وقال: هذا سلاح زوج ابنتك. فعظم ذلك
على نور الدين، وهجر الراحة إلى أن يأخذ بثأره، وجعل يفكر في حيلة
يحتال بها على جوسلين، وعلم أنه إن قصده احتمى في حصونه.
فأحضر أمراء التركمان، وبذل لهم الرغائب إن ظفروا بجوسلين، فجعلوا عليه
العيون، فخرج إلى الصيد فظفر به طائفة من التركمان، فصانعهم على مال
يؤديه إليهم، فأجابوه إلى إطلاقه إذا أحضر المال، وأرسل في إحضاره.
فمضى بعض التركمان إلى مجد الدين أبي بكر ابن الداية، وكان ابن داية
نور الدين، واستنابه في حلب، وسلم أمورها إليه، فأحسن الولاية فيها
والتدبير، فأعلم ذلك التركماني ابن الداية بصورة الحال، فسير مجد الدين
معه عسكراً، فكبسوا أولئك التركمان، وأخذوا جوسلين أسيراً، وأحضروه إلى
ابن الداية، في محرم هذه السنة.
فسار نور الدين عند ذلك إلى قلاع جوسلين، ففتح عزاز بعد الحصار، في
(1/335)
ثامن عشر ربيع الأول، سنة خمس وأربعين
وخمسمائة، وفتح تل باشر، وتل خالد وفتح عين تاب سنة خمسين، وفتح قورس
والراوندان وبرج الرصاص، وحصن البيرة وكفرسود ومرعش ونهر الجوز.
وتجمع الفرنج وساروا إليه وهو ببلاد جوسلين ليمنعوه عن فتحها، في سنة
سبع وأربعين وخمسمائة، فلما قربوا منه رجع إليهم، ولقيهم عند دلوك،
فاقتتلوا فانهرم الفرنج، وقتل منهم وأسر كثير، وعاد إلى دلوك ففتحها.
وأما تل باشر فإنه تسلمها منهم بعد فتحه دمشق، لأنهم لما علموا أنه فتح
دمشق، وأنه يقصدهم ولا طاقة لهم به راسلوه، وبذلوا له تسليمها إليه،
فسير إليهم الأمير حسان صاحب منبج لقربها من منبج فتسلمها منهم،
وحصنها.
وكان فتحه دمشق في صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة لأن الفرنج أخذوا
عسقلان من المصريين في سنة ثمان وأربعين، ولم يكن له طريق إلى إزعاجهم
عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان.
وطمع الفرنج في دمشق، وجعلوا عليها قطيعة يأخذونها منهم في كل سنة،
فخاف نور الدين أن يملكها الفرنج، فاحتال في أخذها لعلمه أن أخذها
بالقهر يصعب
(1/336)
لأنه متى نارلها راسل صاحبها الفرنج
مستنجداً بهم، وأعانوه خوفاً من نور الدين أن يملكها فيقوى بها عليهم.
فراسل مجير الدين أبق بن محمد بن محمد بن بوري صاحبها، واستماله
وهاداه، وأظهر له المودة حتى وثق به، فكان يقول له في بعض الأوقات: "
إن فلانا قد كاتبني في تسليم دمشق يعني بعض أمراء مجير الدين فكان يبعد
ذلك عنه، ويأخذ أقطاعه، فلما لم يبق عنده أحد من الأمراء قدم أميراً
يقال له عطاء بن حفاظ الخادم، وكان شجاعاً وفوض إليه أمور دولته، فكان
نور الدين لا يتمكن من أخذ دمشق منه، فقبض عليه مجير الدين وقتله.
فسار نور الدين حينئذ إلى دمشق، وكان قد كاتب أهلها واستمالهم، وكان
الناس يميلون إليه، لما هو عليه من العدل والديانة والإحسان، فوعدوه
بالتسليم إليه. فلما حصر دمشق أرسل مجير الدين إلى الفرنج يبذل لهم
الأموال وتسليم قلعة بعلبك إليهم، لينجدوه ويرحلوا نور الدين عنه،
فشرعوا في جمع فارسهم وراجلهم لذلك.
فتسلم نور الدين دمشق، وخرج الفرنج وقد قضي الأمر فعادوا خائبين،
وسلمها إليه أهلها من باب شرقي، والتجأ مجير الدين إلى القلعة، فراسله
وبذل له عوضاً عنها حمص، وغيرها، فسلمها إليه وسار إلى حمص، ثم أنه
راسل أهل دمشق، فعلم نور الدين، فخاف منه، فأخذ منه حمص، وعوضه ببالس،
فلم يرض بذلك، وسار إلى بغداد فمات بها.
وسار نور الدين إلى حارم، وهي لبيمند صاحب أنطاكية، وحصرها في سنة إحدى
وخمسين، وضيق على أهلها، فتجمع الفرنج وعزموا على قصده فأرسل والي
(1/337)
حارم إلى الفرنج، وقال: لا تلتقوه فإنه إن
هزمكم أخذ حارم وغيرها، ونحن في قوة والرأي مطاولته فأرسلوا إلى نور
الدين، وصالحوه على أن يعطوه نصف أعمال حارم، ورجع نور الدين إلى حلب.
الزلازل في بلاد الشام
ووقعت الزلازل في شهر رجب في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، بالشام،
فخربت حماة، وشيزر، وكفر طاب، وأفامية، ومعرة النعمان، وحمص، وحصن
الشميمس عند سلمية، وغير ذلك من بلاد الفرنج وتهدمت أسوار هذه البلاد
فجمع نور الدين العساكر، وخاف على البلاد من الفرنج، وشرع في عمارتها
حتى أمن عليها.
وأما شيزر، فانقلبت القلعة على صاحبها وأهله، فهلكوا كلهم، وكان قد ختن
ولداً له وعمل وليمة، وأحضر أهله في داره، وكان له فرس يحبه ولا يكاد
يفارقه، وإذا كان في مجلس أقيم ذلك الفرس على بابه، فكان ذلك اليوم على
الباب، فجاءت الزلزلة فقام الناس ليخرجوا من الدار فخرج واحد من الباب
فرمحه ذلك الفرس فقتله، فامتنع الناس من الخروج، فسقطت الدار عليهم
فهلكوا.
وبادر نور الدين، ووصل إلى شيزر، وقد هلك تاج الدولة بن متقذ وأولاده،
ولم يسلم منهم إلا الخاتون أخت شمس الملوك زوجة تاج الدولة، ونبشت من
تحت
(1/338)
الردم سالمة، فتسلم القلعة وعمر أسوارها
ودورها، وكان نور الدين قد سأل أخت شمس الملوك عن المال وهددها، فذكرت
له أن الدار سقطت عليها وعليهم، ونبشت هي دونهم، ولا تعلم بشيء، وإن
كان لهم شيء فهو تحت الردم.
وكان شرف الدولة إسماعيل غائباً، فلما حضر وعاين قلعة شيزر، ورأى زوجة
أخيه في ذلك الذل بعد العز، عمل قصيدة أولها:
ليس الصباح من المساء بأمثل ... فأقول لليل الطويل ألا انجلى
قال فيها:
يا تاج دولة هاشم بل يا أبا الت ... يجان بل يا قصد كل مؤمل
لو عاينت عيناك قلعة شيزر ... والستر دون نسائها لم يسبل
لرأيت حصناً هائل المرأى غدا ... متهلهلاً مثل النقا المتهيل
لايهتدي فيه السعاة لمساك ... فكأنما تسري بقاع مهول
ذكر فيها زوجة أخيه، فقال:
نزلت على رغم الزمان ولو حوت ... يمناك قائم سيفها لم تنزل
فتبدلت عن كبرها بتواضع ... وتعوضت عن عزها بتذلل
وأقامت الزلازل تتردد في البلاد سبع سنين، وهلك فيها خلق كثير.
وفي هذه السنة أبطل الملك العادل نور الدين، وهو بشيزر، مظالم ومكوساً
ببلاده كلها مقدارها مائة وخمسون ألف دينار.
ثم إن نور الدين تلطف الحال مع ضحاك البقاعي، وراسله، وهو ببعلبك، وكان
قد عصى فيها بعد فتح دمشق، ولم ير أن يحصره بها لقربه من الفرنج،
فسلمها إلى نور الدين في هذه السنة.
وجرت وقعة بين نور الدين وبين الفرنج بين طبرية وبانياس، فكسرهم نور
الدين كسرة عظيمة في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
(1/339)
مرض وعافية
ثم عاد نور الدين إلى حلب، فمرض بها في سنة أربع وخمسين مرضاً شديداً،
بقلعتها، وأشفى على الموت، وكان بحلب أخوه الأصغر نصر الدين أمير
أميران محمد بن زنكي، وأرجف بموت نور الدين، فجمع أمير أميران الناس،
واستمال الحلبيين، وملك المدينة دون القلعة، وأذن للشيعة أن يزيدوا في
الأذان: حي على خير العمل محمذ وعلي خير البشر، على عادتهم من قبل،
فمالوا إليه لذلك.
وثارت فتنة بين السنة والشيعة، ونهب الشيعة مدرسة ابن عصرون وغيرها من
أدر السنة، وكان أسد الدين شيركوه بحمص، فبلغه ذلك فسار إلى دمشق ليغلب
عليها، وكان بها أخوه نجم الدين أيوب فأنكر عليه ذلك، وقال: أهلكتنا
والمصلحة أن تعود إلى حلب، فإن كان نور الدين حياً خدمته في هذا الوقت،
وإن كان مات فأنا في دمشق، وتفعل ما تريد.
فعاد مجدا إلى حلب، فوجد نور الدين وقد ترجح إلى الصلاح، فأجلسه في
طيارة مشرفة إلى المدينة، بحيث يراه الناس كلهم، وهو مصفر الوجه من
المرض، ونادوا إلى الناس: هذا سلطانكم. فقال بعضهم: ما هذا نور الدين،
بل هو فلان يعنون رجلاً كان يشبهه وقد طلى وجهه بصفرة، ليخدعوا الناس
بذلك ولما تحقق أمير أميران عافية أخيه خرج من الدار التي كان بها تحت
القلعة، وبيده ترس يحميه من النشاب، وكان الناس قد تفرقوا عنه، فسار
إلى حران، فملكها.
وسير نور الدين إلى قاضي حلب، جدي أبي الفضل هبة الله بن أبي جرادة،
وكان يلي بها القضاء والخطابة والإمامة، وقال له: تمضي إلى الجامع،
وتصلي بالناس، ويعاد الأذان إلى ما كان عليه.
(1/340)
فنرل جدي، وجلس بشمالية الجامع تحت
المنارة، واستدعى المؤذنين، وأمرهم بالأذان المشروع على رأي أبي حنيفة،
فخافوا فقال لهم: ها أنا أسفل منكم ولي أسوة بكم.
فصعد المؤذنون وشرعوا في الأذان، فاجتمع تحت المنارة من عوام الشيعة
وغوغائهم خلق كثير فقام القاضي إليهم، وقال: يا أصحابنا، وفقكم الله،
من كان على طهارة فليدخل وليصل، ومن كان محدثاً فليجدد وضوءه ويصلي،
فإن المولى نور الدين بحمد الله في عافية، وقد تقدم بما يفعل، فانصرفوا
راشدين. فانصرفوا وقالوا: ايش نقول لقاضينا! ونزل المؤذنون وصلى
بالناس، وسكنت الفتن.
فلما عوفي نور الدين قصد حران، فهرب نصرة الدين أمير أميران، وترك
أولاده بالقلعة بحران فتسلمها، وأخرجهم منها، وسلمها إلى زين الدين علي
كوجك، نائب أخيه، قطب الدين.
ثم سار إلى الرقه وبها أولاد أميرك الجاندار، وقد مات أبوهم، فشفع إليه
بعض الأمراء في إبقائها عليهم، فغضب، وقال: هلا شفعتم في أولاد أخي لما
أخذت منهم حران، وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلي، وأخذها منهم.
تحرك الفرنج وانتصارهم في البقيعة
وخرج مجد الدين ابن الداية من حلب إلى الغزاة، في شهر رجب من سنة خمس
وخمسين، فلقي جوسلين بن جوسلين، فكسره، وأخذه أسيراً، ودخل به إلى قلعة
حلب.
ثم إن الفرنج أغاروا على بلد عين تاب، فأخذوا التركمان، ونهبوا
أغنامهم، وعادوا يريدون أنطاكية، فخرج إليهم مجد الدين، ولقيهم
بالجومة، وكسرهم،
(1/341)
وقتل منهم خلقاً عظيماً، وأسر البرنس
الثاني وخلقاً معه، ودخل بهم إلى حلب في مستهل ذي الحجة من سنة ست
وخمسين وخمسمائة.
وفي سنة سبع، ولى نور الدين كمال الدين أبا الفضل محمد بن الشهرزوري
قضاء ممالكه كلها، وأمر القضاة ببلاده أن يكتبوا في الكتب بالنيابة
عنه، وكان قد حلف له على ذلك وعاهده عليه، وكان ذلك بدمشق في السنة
المذكورة، فامتنع زكي الدين قاضي دمشق، فعزل، وكتب إلى جدي أبي الفضل
بحلب، فامتنع أيضاً.
ووصل نور الدين ومعه مجد الدين ابن الداية، واستدعاه نور الدين إلى
القلعة، وقال: كنا قد عاهدنا كمال الدين، وحلفنا له على هذا الأمر، وما
أنت إلا نائبي، وله اسم قضاء البلاد لا غير فامتنع وقال: لا أنوب عن
مكانين فولى قضاء حلب محيي الدين أبا حامد ابن كمال الدين، وأبا
المفاخر عبد الغفور بن لقمان الكردي، وذلك بأشارة مجد الدين لوحشه كانت
بينه وبين جدي.
ثم إن نور الدين جمع العساكر بحلب، في سنة سبع، وسار إلى حارم،
وقاتلها، فجمع الفرنج جموعهم، وساروا إليه. فطلب منهم المصاف فلم
يجيبوه، وتلطفوا معه حتى عاد إلى حلب.
ثم جمع العساكر في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، ودخل إلى بلاد الفرنج،
ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد محاصراً له، وعازماً على أن يقصد
طرابلس.
فاجتمع الفرنج، وخرج معهم الدوقس الرومي، وكان قد خرج في جمع كثير من
الروم واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهاراً، فإنهم يكونون آمنين،
فركبوا لوقتهم ولم يتوقفوا، وساروا مجدين إلى أن قربوا من يزك
المسلمين، فلم يكن
(1/342)
لهم بهم طاقة وأرسلوا إلى نور الدين
يعرفونه الحال فرهقهم الفرنج بالحملة عليهم فلم يثبت المسلمون وعادوا
منهزمين إلى نور الدين والفرنج في ظهورهم، فوصلوا جميعاً إلى عسكر نور
الدين، ولم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخذ السلاح، حتى خالطهم
الفرنج، فقتلوا، وأسروا، قتلاً عظيماً وأسراً كبيراً.
وكان الدوقس أشدهم على المسلمين، فلم يبق أصحابه على أحد، وقصدوا خيمة
نور الدين، وقد ركب فيها فرسه، فنجا بنفسه، ولسرعته ركب الفرس والشبحة
في رجله، فنرل إنسان كردي، وفداه بنفسه، فقطع الشبحة، ونجا نور الدين،
وقتل الكردي فأحسن إلى مخلفيه، ووقف عليهم الوقوف.
ووصل نور الدين إلى بحيرة قدس، وبينه وبين المعركة نحو أربعة فراسخ،
وتلاحق به من سلم من العسكر، فقال له بعضهم: المصلحة أن نسير، فإن
الفرنج ربما طمعوا وجاؤوا إلينا، ونحن على هذه الحال، فوبخه وأسكته،
وقال: إذا كان معي ألف فارس التقيتهم، ووالله لا أستظل بسقف حتى أخذ
بثأري وثأر الإسلام.
وأرسل إلى حلب ودمشق، وأحضر الأموال الثياب والخيام والسلاح والخيل،
فأعطى الناس عوضاً عما أخذ منهم بقولهم، وأصبح عسكره كأن لم يهزم ولم
ينكب، وكل من قتل أعطى أولاده أقطاعه.
ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خرجه قال له بعض صحابة السوء: إن لك في
بلادك إدرارات وصلات ووقوفاً كثيرة على الفقهاء، والفقراء، والقراء،
(1/343)
والصوفية وغيرهم، فلو استعنت بها في هذا
الوقت لكان أصلح فغضب من ذلك وقال: والله إنني لا أرجو النصر إلا بدعاء
أولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني
وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطىء، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت
المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم!.
وقيل: إن برهان الدين البلخي قال لنور الدين: أتريدون أن تنصروا وفي
عسكركم الخمور والطبول والزمور، كلا والله. فلما سمع نور الدين كلامه
عاهد الله على التوبة، ونزع عنه ثيابه تلك التي كان يلبسها، والتزم
بلبس الخشن، وبطل جميع ما كان بقي في بلاده من الأعشار والمكوس
والضرائب، ومنع من ارتكاب الفواحش، وكتب إلى البلاد إلى زهادها وعبادها
يذكر لهم ما نال المسلمين من القتل والأسر، ويستمد منهم الدعاء، وإن
يحثوا المسلمين على الغزاة، وكاتب الملوك الإسلامية يطلب منهم النجد
والإستعداد، وامتنع من النوم على الوطيء وعن جميع الشهوات.
نور الدين وشيركوه
وراسله الفرنج في طلب الصلح فامتنع، فبينا هو في الاستعداد للجهاد إذ
ورد عليه في شهر ربيع الأول، من سنة تسع وخمسين وخمسمائة، شاور وزير
العاضد بمصر إلى دمشق، ملتجئاً إليه، ومستجيراً به على ضرغام، وكان قد
نازعه في الوزارة وغلب عليها.
وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه، ويكون لنور الدين
ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر، ويكون نائبه مقيماً بعساكره في
مصر،
(1/344)
ويتصرف بأمر نور الدين واختياره، فبقي
متردداً بين أن يفعل ذلك وبين أن يجعل جل قصده إلى الفرنج.
ثم قوي عزمه وسير أسد الدين شيركوه بن شادي، في عسكر معه، في جمادى
الأولى من سنة تسع وخمسين، وتقدم إلى أسد الدين أن يعيد شاور إلى
منصبه.
وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق، بما بقي من العساكر
ليمنع الفرنج من التعرض لأسد الدين وشاور في طريقهما، فاشتغل الفرنج
بحفظ بلادهم من نور الدين عن التعرض لهما، ووصل أسد الدين وشاور إلى
بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين، ولقيهم فانهزم
وعاد إلى القا هرة.
ووصل أسد الدين إلى القاهرة، فنزل عليها قي آخر جمادى الآخرة، فخرج
ضرغام فقتل، وقتل أخوه، وخلع على شاور وأعيد إلى الوزارة.
وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر شاور، وعاد عما كان قرره مع نور
الدين. وأمر أسد الدين بالعود إلى الشام فامتنع، وطلب ما كان استقر فلم
يجبه إليه، فأرسل أسد الدين نوابه فتسلموا بلبيس، وحكم على البلاد
الشرقية.
فأرسل شاور إلى الفرنج، واستنجد بهم، وخوفهم من نور الدين إن ملك مصر،
فسارعوا إلى تلبيته، وطمعوا في ملك الديار المصرية، وساروا إلى بلبيس،
وسار نور الدين إلى طرف بلادهم ليمنعهم عن المسير، فلم يلتفتوا، وتركوا
في بلادهم من يحفظها.
وسار ملك القدس في الباقين إلى بلبيس، واستعان بجمع كثير كانوا خرجوا
إلى زياره القدس، وأقام أسد الدين ببلبيس، وحصره الفرنج، والعسكر
المصري ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويروحهم، فلم يظفروا منه بطائل،
مع أن سور بلبيس قصير، وهو من طين.
(1/345)
من أمهات المعارك
فعند ذلك خرج نور الدين لقصد بلاد الفرنج، ونزل إلى حلب وجمع العساكر
وأرسل إلى أخيه قطب الدين صاحب الموصل، وإلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب
حصن كيفا، والي نجم الدين ألبى صاحب ماردين وغيرهم من أصحاب الأطراف
واستنجد بهم.
فسار قطب الدين ومقدم عسكره زين الدين علي كوجك، وسير صاحب ماردين
عسكره، وأما صاحب الحصن فقال له خواصه وندماؤه: على أي شيء عزمت؟ فقال:
على القعود، فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة، فهو يلقي
نفسه ومن معه في المهالك.
فلما جاء الغد أمر العسكر أن يتجهز للغزاة فسألوه عما صدفه عن رأيه،
فقال: إن نور الدين إن لم أنجده خرجت بلادي عن يدي، فإنه قد كاتب
زهادها والمنقطعين عن الدنيا يستمد منهم الدعاء، ويطلب منهم أن يحثوا
المسلمين على الغزاة، وقد قعد كل واحد منهم ومعه أتباعه وأصحابه، وهم
يقرؤون كتب نور الدين، ويبكون، فأخاف أن يجتمعوا على لعنتي والدعاء علي
ثم تجهز وسار بنفسه.
ولما اجتمعت العساكر خرج نور الدين إلى حارم، وحصرها، ونصب المجانيق
عليها، وزحف إليها، فخرج البرنس بيمند، والقمص صاحب طرابلس، وابن
جوسلين والدوك مقدم كبير من الروم. وابن لاون ملك الأرمن، وجمعوا جميع
من بقي من الفرنج بالساحل، وقصدوا نور الدين.
فرحل إلى أرتاح ليتمكن منهم إن طلبوه ويبتعدوا عن البلاد إن لقوه، وسير
أثقاله إلى تيزين، فساروا فنزلوا على الصفيف، ثم عادوا إلى حارم،
فتبعهم نور الدين على تعبئة الحرب، فلما تقاربوا اصطفوا للقتال فحمل
الفرنج على ميمنة
(1/346)
المسلمين، وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن،
فانهزم المسلمون حتى وصلوا إلى جدارهم، ونور الدين واقف بازائهم على تل
هناك يتضرع إلى الله، وهو مكشوف الرأس.
وبقي راجل الفرنجك فوق عم، مما يلي حارم بالصفيف، فعطف عليهم زين الدين
علي كوجك، في عسكر الموصل، وكان نور الدين قد جعله كميناً في طرف
العمق، وآجام القصب، فقتلهم عن آخرهم.
ورجعت الخيالة من الفرنج خوفاً على الراجل أن يتبعوا المسلمين، فيقع
المسلمون عليهم، فوجدوا الأمر على ما قدروه، فرأوا الرجالة منهم قتلى
وأسرى، واتبعهم نور الدين مع من انهزم من المسلمين، فأحاطوا بهم من
جميع الجهات، فاشتد الحرب، وكثر القتل في الفرنج، فوقعت عليهم الغلبة.
وعدل المسلمون إلى الأسر، فأسروا صاحب أنطاكية، وصاحب طرابلس، والدوك
مقدم الروم، وابن جوسلين، ولم يسلم إلا مليح بن لاون، قيل إن الياروقية
أفرجوا له حتى هرب، لأنه كان خالهم. وكان عدة القتلى تزيد على عشرة
آلاف.
وسار إلى حارم فملكها في شهر رمضان من السنة، وبث سراياه في أعمال
أنطاكية، فنهبوها وأسروا أهلها، وباع البرنس بمال عظيم وأسرى من
المسلمين.
ثم ساروا في هذه السنة إلى دمشق، بعد أن أذن لعسكر الموصل وديار بكر
بالعود إلى بلادهم، ثم خرج إلى بانياس، فحصرها وقاتلها. وكان معه أخوه
نصرة الدين أمير أميران وكان قد رضي عنه وسامحه وهو على حارم، بعد أن
دخل إلى الفرنج، فأصابه سهم أذهب إحدى عينيه، فقال له: لو كشف لك عن
الأجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى. وجد في حصارها وفتحها، وملأ
(1/347)
القلعة بالذخائر والرجال، وشاطر الفرنج في
أعمال طبرية، وقرروا له على ما سوى ذلك مالاً في كل سنة.
ووصل خبر فتح حارم وبانياس إلى الفرنج النازلين على بلبيس، فأرادوا
العود إلى بلادهم، فراسلوا أسد الدين في الصلح رجاء أن يلحقوا بانياس،
فاتفق الحال معهم على أن يعود إلى الشام، ويسلم ما بيده من أعمال مصر
إلى أهلها، ولم يكن عنده علم بما جرى لنور الدين بالشام، وكانت الذخائر
قد قلت عنده ببلبيس.
وخرج من الديار المصرية إلى الشام، وجاء الفرنج ليدركوا بانياس، فوجدوا
الأمر قد فات، وكشف أسد الدين الديار المصرية، واستصغر أمر من بها.
ودخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة، فسار نور الدين إلى المنيطرة جريدة في
قلة من العسكر، على غفلة من الفرنج، وحصر حصنها، وأخذه عنوة، وقتل من
به، وسبى وغنم غنيمة كثيرة، وأيس الفرنج من استرجاعه بعد أن تجمعوا له
وتفرقوا.
موقعة البابين
وتحدث أسد الدين مع نور الدين، في عوده إلى الديار المصرية، فلما رأى
جده سيره إليها في ألفي فارس من خيار العسكر، في سنة اثنتين وستين
وخمسمائة.
فسار على البر، وترك بلاد الفرنج على يمينه، فوصل الديار المصرية، وعبر
النيل إلى الجانب الغربي عند أطفيح، وحكم على البلاد الغربية، ونزل
بالجيزة مقابل مصر، فأقام نيفاً وخمسين يوماً.
فأرسل شاور واستنجد بالفرنج، فسار أسد الدين إلى الصعيد، وبلغ إلى موضع
يعرف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والفرنجية خلفه، فوصلوا إليه وهو
على تعبئة وقد جعل أثقاله في القلب ليتكثر بها، وجعل ابن أخيه صلاح
الدين في القلب، وأوصاهم متى حملوا عليه أن يندفع بين أيديهم قليلاً،
فإذا عادوا فارجعوا في أعقابهم.
(1/348)
واختار من يثق بشجاعته، ووقف بهم في
الميمنة، فحمل الفرنج على القلب، فاندفع بين أيديهم غير مفرقين، فحمل
أسد الدين بمن معه على من بقي منهم، فهزمهم ووضع السيف فيهم، وأكثر
القتل والأسر، وعاد الذين حملوا على القلب فوجدوا أصحابهم قد مضوا
قتلاً وأسراً فانهزموا.
وسار أسد الدين إلى الاسكندرية، ففتحها باتفاق من أهلها، واستناب بها
صلاح الدين، وعاد إلى الصعيد، وجبى أمواله.
وتجمع الفرنج والمصريون، وحصروا صلاح الدين با لاسكندرية، فصبروا على
الحصار إلى أن عاد أسد الدين، فوقع الصلح على أن بذلوا لأسد الدين
خمسين ألف دينار، سوى ما أخذ من البلاد، وأن الفرنج لا يقيمون في
البلاد، فاصطلحوا على ذلك، وعاد إلى الشام، وتسلم المصريون الاسكندرية.
توسع نور الدين
وأما نور الدين فإنه جمع العساكر في هذه السنة، ودخل من حمص إلى بلاد
الفرنج، فنازل عرقة، ونهب بلدها، وخرب بلادهم، وفتح صافيتا والعريمة،
وعاد إلى حمص، وخرج إلى بانياس، وخرج إلى هونين، فانهزم الفرنج عنه
وأحرقوه، فوصل إليه نور الدين من الغد، فخرب سوره وعاد.
وكان حسان صاحب منبج قد مات، وأقطع نور الدين منبج ولده غازي بن حسان،
فعصى عليه في هذه السنة، فسير إليه عسكراً، وأخذوها منه فأقطعها أخاه
قطب الدين ينال بن حسان، وهو ائذي ابتنى المدرسة الحنفية بمنبج.
وفي سنة ثلاث وستين وخمسمائة، نزل شهاب الدين مالك بن علي بن مالك صاحب
قلعة جعبر ليتصيد، فأخذه بنو كلاب أسيراً وحملوه إلى نور الدين في رجب،
فاعتقله وأحسن إليه، ورغبه في الأقطاع فلم يجبه، فعدل إلى الشدة
والعنف.
ثم سير إليها عسكراً فلم يقدر على فتحها، فعدل إلى اللين مع صاحبها،
(1/349)
إلى أن اتفق الحال على أن عوضه عنها بسروج
وبزاعا والملوحة، وسلم إليه القلعة في سنة أربع وستين، وقيل لمالك: "
أيما أحب إليك سروجاً أو القلعة؟ فقال: هذه أكثر مالاً، وأما العز
ففارقناه بالقلعة.
وفي هذه السنة أطلق نور الدين في بلاده بعض ما كان قد بقي من المظالم
والمؤن.
ثم إن الفرنج طمعوا في الديار المصرية فصعدوا إليها في سنة أربع وستين
وخمسمائة، وأخذوا بلبيس وساروا إلى القاهرة فقاتلوها، وسير العاضد
يستغيث إلى نور الدين، وسير شعور نسائه في الكتب، فوصله الرسول وهو
بحلب، وبذل له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين مقيماً عندهم.
قتل شاور وموت أسد الدين
وكتبوا إلى أسد الدين بمثل ذلك، فوصل إلى نور الدين إلى حلب من حمص وقد
عزم على الايفاد إليه، فأمره بالتجهز إلى مصر، وأعطاه مائتي ألف دينار
سوى الثياب والسلاح والدواب، وحكمه في العسكر والخزائن فاختار ألفي
فارس، وأخذ المال وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور الدين إلى دمشق
فوصلها سلخ صفر، ورحل إلى رأس الماء.
وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم: عز الدين جورديك وغرس
الدين قلج، وشرف الدين برغش، وعين الدولة بن ياروق، وقطب الدين ينال بن
حسان، وصلاح الدين ابن أخيه.
وسار أسد الدين، فلما قارب مصر رحل عنها الفرنج إلى بلادهم، ووصل أسد
الدين إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها واجتمع بالعاضد، وخلع
عليه وعاد إلى خيامه، وفي نفس شاور منه ما فيها، ولا يتجاسر على
إظهاره.
(1/350)
وكان شاور يخرج في الأحيان إلى أسد الدين
يجتمع به، فخرج في بعض الأيام على عادته فلم يجده في الخيام، وكان قد
مضى لزيارة قبر الشافعي رضي الله عنه فلقيه صلاح الدين، وجورديك، في
جمع من العسكر وخدموه، وأعلموه أن أسد الدين قد مضى للزيارة فقال: نمضي
إليه فساروا جميعاً، فساوره صلاح الدين وجورديك، وألقياه إلى الأرض،
فهرب عنه أصحابه وأخذ أسيراً.
وأرسلوا إلى أسد الدين فحضر في الحال، وجاءه التوقيع في الحال بالوزارة
على يد خادم خاص، ويقول: لا بد من رأسه، جرياً على عادتهم في وزرائهم
أن الذي يقوى على الآخر يقتله. فقتل وأنفذ رأسه إلى العاضد.
وأنفذ إلى أسد الدين خلعة الوزارة، فسار ودخل القصر، وترتب وزيراً في
سابع عشر شهر ربيع الآخر، ودام آمراً ناهياً إلى أن عرض له خوانيق،
فمات في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة.
وزارة صلاح الدين
وفوض الأمر بعده إلى ابن أخيه، وكان جماعة من الأمراء الذين كانوا مع
أسد الدين قد تطاولوا إلى الوزارة، منهم: عين الدولة بن ياروق، وسيف
الدين المشطوب، وشهاب الدين محمود الحارمي خال السلطان صلاح الدين وقطب
الدين ينال بن حسان.
فأرسل العاضد إلى صلاح الدين، وأحضره، عنده، وولاه الوزارة بعد عمه،
وخلع عليه، ولقبه بالملك الناصر، فاستتبت أحواله، وبذل المال، وتاب عن
شرب الخمر، وأخذ في الجد والتشمير في أموره كلها، وكان الفقيه عيسى
الهكاري معه، فميل الأمراء الذين كانوا قد طمعوا بالوزارة إلى الانقياد
إليه، فأجابوا سوى عين الدولة بن ياروق، فإنه امتنع، وعاد إلى نور
الدين إلى الشام.
فاستمر الملك الناصر بالديار المصرية وزيراً، وهو نائب عن نور الدين،
وكان إذا كتب إليه كتاباً يكتب: الأمير الاسفهسلار، وكافة الأمراء
بالديار
(1/351)
المصرية يفعلون كذا. وتكتب العلامة على رأس
الكتاب، ولا يذكر اسمه. وسير الملك الناصر، وطلب أباه نجم الدين وأهله،
فسيرهم نور الدين إليه مع عسكر، واجتمع معهم من التجار خلق عظيم، وذلك
في سنة خمس وستين.
وخاف نور الدين عليهم من الفرنج، فسار في عساكره إلى الكرك فحصره ونصب
عليه المجانيق، فتجمع الفرنج، وساروا إليه وتقدمهم ابن الهنفري، وابن
الدقيق، فرحل نور الدين نحوهما قبل أن تلحقهما بقية عساكر الفرنج فرجعا
خوفاً منه واجتمعا ببقية الفرنج.
وسلك نور الدين وسط بلادهم، وأحرق ما في طريقه إلى أن وصل إلى بلاد
الاسلام، فنزل على عشترا على عزم الغزاة، فأتاه خبر الزلازل الحادثة
بالشام، فإنها خربت حلب خراباً شنيعاً، وخرج أهلها إلى ظاهرها.
من الزلازل إلى وفاة قطب الدين
وتواترت الزلازل بها أياماً متعددة، وكانت في ثاني عشر شوال من السنة
يوم الاثنين طلوع الشمس، وهلك من الناس ما يريد على خمسة آلاف نفر ذكر
وأنثى، وكان قد احترق جامع حلب وما يجاوره من الأسواق قبل ذلك في سنة
أربع وستين وخمسمائة، فاهتم نور الدين في عمارته وإعادته والأسواق التي
تليه إلى ما كانت عليه. وقيل: إن الاسماعيلية أحرقوه.
وبلغه أيضاً وفاة مجد الدين ابن دايته، أخيه من الرضاعة بحلب، في شهر
رمضان سنة خمس وستين وخمسمائة، فتوجه نور الدين إلى حلب، فوجد أسوارها
وأسواقها قد تهدمت.
ونزل على ظاهر حلب حتى أحكم عمارة جميع أسوارها، وبنى الفصيل الدائر
على البلد، وهو سور ثان.
ورمم نوابه ما خرب من الحصون والقلاع مثل بعلبك، وحمص وحماة، وبارين،
وغيرها.
(1/352)
وخرج نور الدين إلى تل باشر، فوصله الخبر
بوفاة أخيه قطب الدين بالموصل في ذي الحجة، وكان أوصى بالملك لابنه
الأكبر عماد الدين زنكي، وكان طوع عمه نور الدين لكثرة مقامه عنده،
ولأنه زوج ابنته.
ثم إن فخر الدين عبد المسيح وخاتون ابنة تمرتاش بن إيلغاري زوجة قطب
الدين، وهي والدة سيف الدين غازي بن قطب الدين اتفقا على صرف قطب الدين
عن وصيته لابنه عماد الدين إلى سيف الدين غازي.
فرحل عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصراً به ليعينه على أخذ الملك
له، فسار نور الدين في سنة ست وستين وخمسمائة، وعبر الفرات عند قلعة
جعبر في مستهل المحرم، وقصد الرقة فحصرها وأخذها، ثم سار في الخابور،
فملكه جميعه، وملك نصيبين، وأقام بها يجمع العساكر، وكانت أكثر عساكره
في الشام في مقابلة الفرنج.
فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيق،
وفتحها فسلمها إلى عماد الدين زنكي ابن أخيه، وجاءته كتب الأمراء
بالموصل يبذلون له الطاعة، ويحثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل.
وكان سيف الدين غازي وعبد المسيح قد سيرا عز الدين مسعود بن قطب الدين
إلى أتابك شمس الدين إيلدكز صاحب أذربيجان وأصبهان، يستنجدانه على نور
الدين، فأرسل إيلدكز إليه رسولاً ينهاه عن التعرض للموصل فقال نور
الدين: قل لصاحبك أنا أصلح لأولاد أخي منك، فلا تدخل بيننا، وعند
الفراغ من إصلاح بلادهم يكون لي معك الحديث على باب همذان، فإنك قد
ملكت هذه المملكة العظيمة، وأهملت الثغور حتى غلب الكرج عليها، وقد
بليت أنا ولي مثل ربع بلادك بالفرنج، فأخذت معظم بلادهم، وأسرت ملوكهم.
وأقام على الموصل فعزم من بها من الأمراء على مجاهرة عبد المسيح
بالعصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين، فعلم بذلك، فأرسل إلى نور الدين
في تسليم
(1/353)
البلد على أن يقره بيد سيف الدين، وطلب
الأمان لنفسه وعلى أن يمضي صحبته إلى الشام، ويقطعه ما يرضيه فتسلم
البلد، وأبقى فيه سيف الدين غازي.
وعاد إلى حلب فدخلها في شعبان من هذه السنة.
انتقال الخطبة من الفاطميين إلى العباسيين
وكتب إلى الملك النصر صلاح الدين يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة
الخطبة المستضيئية العباسية، فامتنع واعتذر بالخوف من قيام أهل الديار
المصرية عليه، وكان يؤثر أن لا يقطع الخطبة للمصريين في ذلك الوقت،
خوفاً من نور الدين أن يدخل إلى الديار المصرية فيأخذها منه، وإذا كان
العاضد معه امتنع وأهل مصر معه، فلم يقبل عذره نور الدين، وألح عليه.
وكان العاضد مريضاً فخطب للمستضيء في الديار المصرية. وتوفي العاضد،
ولم يعلم بقطع الخطبة. وقيل: أنه علم قبل موته، وكان ذلك في سنة سبع
وستين وخمسمائة.
وفي هذه السنة تتبع نور الدين رسوم المظالم والمؤن في جميع البلاد التي
بيده، فأزالها وعفى رسومها ومحا آثار المنكرات والفواحش، بعدما كان
أطلق من ذلك في تواريخ متقدمة، وكان مبلغ ما أطلقه أولاً وثانياً
خمسمائة ألف وستة وثمانين ألفاً وأربعمائة وستين ديناراً.
وكان رأى وزيره موفق الدين خالد بن القيسراني في المنام كأنه يفضل ثياب
نور الدين، ففسر ذلك عليه، ففكر في ذلك ولم يرد عليه جواباً، فخجل
وزيره وبقي أياماً واستدعاه، وقال: تعالى يا خالد، اغسل ثيابي، وأمره
فكتب توقيعاً بإزالة ما ذكرناه.
تراجع صلاح الدين الأيوبي
وسار الملك الناصر من مصر غازياً، فنازل حصن الشوبك وحصره، فطلبوا
الأمان واستمهلوه عشرة أيام، فلما سمع نور الدين بذلك سار عن دمشق،
فدخل
(1/354)
بلاد الفرنج من الجهة الأخرى، فقيل للملك
الناصر: إن دخل نور الدين من جانب وأنت من هذا الجانب ملك بلاد الفرنج،
فلا يبقى لك معه بديار مصر مقام، وإن جاء وأنت ههنا فلا بد لك من
الإجتماع به، وببقى هو المتحكم فيك بما شاء، والمصلحة الرجوع إلى مصر.
فرحل عن الشوبك إلى مصر، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال أمور الديار
المصرية وأن شيعتها عزموا على الوثوب بها، فلم يقبل نور الدين عذره،
وتغير عليه وعزم على الدخول إلى الديار المصرية.
فسمع الملك الناصر، فجمع أباه نجم الدين وخاله شهاب الدين، وتقي الدين
عمر، وغيرهم من الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من حركة نور الدين واستشارهم،
فلم يجبه أحد، فقام تقي الدين، وقال: إذا جاءنا قاتلناه. ووافقه غيره
من أهله، فشتمهم نجم الدين أيوب والد الملك الناصر، وأقعد تقي الدين،
وقال للملك الناصر: أنا أبوك، وهذا شهاب الدين خالك، ونحن أكثر محبة لك
من جميع من ترى، ووالله لو رأيت أنا وهذا خالك نور الدين لم يمكننا إلا
أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا. فإذا
كنا نحن هكذا، فما ظنك بغيرنا، وكل من نراه عندك، فهو كذلك، وهذه
البلاد لنور الدين، ونحن مماليكه ونوابه فيها، فإن أراد عزلك سمعنا
وأطعنا، والرأي أن تكتب كتاباً مع نجاب وتقول له: بلغني أنك تريد
الحركة لأجل البلاد، ولا حاجة إلى ذلك بل يرسل المولى نجاباً يضع في
رقبتي منديلاً، ويأخذني إليك. وتفرقوا.
فلما خلا نجم الدين أيوب بالملك الناصر قال له: كيف فعلت مثل هذا؟ أما
تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه
إليه، وحينئذ لا نقوى به، وأما إذا بلغه طاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا
والأقدار بيد الله، ووالله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر
لقاتلته عليها حتى أمنعه أو أقتل. ففعل ما
(1/355)
أشار به عليه والده فترك نور الدين قصده،
واشتغل بغيره.
وخرج نور الدين بالعساكر، ففتح حصن عرقة، وصافيتا، وعريمة، ونهب وخرب
بلاد الفرنج ثم هادنهم.
ثم إن الفرنج ساروا إلى بلد حوران في سنة ثمان وستين للغارة، فسار نور
الدين إليهم، فنزل عشترا، وسير عسكره إلى أعمال طبرية، فغنموا غنائم
عظيمة، وعادوا.
وكان نور الدين قد استخدم مليح بن لاون، ملك الأرمن، وأقطعه أقطاعاً من
بلاد الإسلام، وحضر معه حروباً متعددة فأنجده في هذه السنة بطائفة من
عسكره، فدخل مليح إلى أذنة وطرسوس والمصيصة، وفتحها من يد ملك الروم،
وأرسل إلى نور الدين كثيراً من غنائمهم وثلاثين أسيراً من أعيانهم.
وقصد قلج أرسلان ذا النون بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس، وأخذ بلاده،
وأخرجه عنها طريداً، فاستجار بنور الدين، ووصل إليه فأكرمه، وسير إلى
قلج أرسلان يشفع إليه في إعادة بلاده إليه، فلم يفعل، فسار نور الدين
إليه في هذه السنة فابتدأ بكيسوم، وبهسنى، ومرعش، ومرزبان، وما يليها.
وكان ملكه مرعش، وفي أوائل ذي القعدة، والباقي بعدها.
وسير طائفة من عسكره إلى سيواس، فملكها وراسله قلج أرسلان في الصلح،
وأتاه من أخبار الفرنج ما أزعجه فصالحه، وأعطى سيواس ذا النون، وجعل
معه قطعة من عسكره، وشرط على قلج أرسلان إنجاده بعساكره إلى الغزاة.
التراجع الثاني
واتفق نور الدين وصلاح الدين على أن يصل كل واحد منهما من جهته،
وتواعدا على يوم معلوم على أن يتفقا على قتال الفرنج، وأيهما سبق أقام
للآخر
(1/356)
منتظراً، إلى أن يقدم عليه، فسبق صلاح
الدين ووصل إلى الكرك وحصره.
وسار نور الدين فوصل إلى الرقيم وبينه وبين الكرك مرحلتان فخاف صلاح
الدين، واتفق رأيه ورأي أهله على العود إلى مصر لعلمهم بأنهما متى
اجتمعما كان نور الدين قادراً على أخذ مصر منه.
فعاد إلى مصر وأرسل الفقيه عيسى إلى نور الدين يعتذر عن رحيله بأنه كان
استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر، وأنه بلغه أنه مريض، ويخاف أن
يحدث به حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم، ولم يكن مريضاً، وأرسل مع
الفقيه عيسى من التحف والهدايا ما يجل عن الوصف، فجاء إليه فأعلمه
برسالة صلاح الدين، فعظم ذلك عليه ولم يظهر التأثر بذلك، وقال: حفظ مصر
أهم عندنا.
موت والد صلاح الدين ثم موت نور الدين
واتفق أن صلاح الدين وصل إلى مصر فوجد أباه قد سقط عن الفرس، وبقي
أياماً ومات، وهو غائب عنه، في السابع والعشرين من ذي الحجة من سنة
ثمان وستين وخمسمائة.
وخاف صلاح الدين من نور الدين أن يدخل مصر فيأخذها منهم، فشرع في تحصيل
مملكة أخرى لتكون عدة له بحيث أن نور الدين إن غلبه إلى الديار المصرية
سار هو وأهله إليها وأقاموا بها.
فسير أخاه الأكبر تورانشاه بإذن نور الدين له في ذلك، وسيره قاصداً عبد
النبي ابن مهدي، وكان دعا إلى نفسه، وقطع خطبة بني العباس، فمضى إليها،
وفتح زبيد وعدن ومعظم بلاد اليمن.
(1/357)
وصلاح الدين على ما كان عليه من الطاعة في
الظاهر لنور الدين إلى أن اتفق أن مرض نور الدين بعلة الخوانيق بدمشق،
وتوفي بها يوم الأربعاء حادي عشر شوال من سنة تسع وستين وخمسمائة، وكان
قد شرع في التأهب للدخول إلى الديار المصرية وختن ولده الملك الصالح
اسماعيل بدمشق، في خامس شوال، وأخرج صدقات كثيرة وكسوات للأيتام الدين
ختنهم معه.
واتسع ملكه بحيث خطب له بالحرمين الشريفين وبلاد اليمن التي افتتحهما
شمس الملوك، وانعمر بلد حلب في زمانه لعدله وحسن سيرته حتى لم تبق
مزرعة في جبل ولا واد إلا وفيها سكان ولها مغل.
وصار على ظاهر حلب من العمارة والمساكن أكثر من المدينة، مثل الحاضر
السليماني، وخارج باب الأربعين، وغير ذلك من الأبواب جميعها.
وارتفعت الأسعار مع كثرة المغلات لكثرة العالم، حتى كانت الأسعار في
السنة التي مات فيها بعد ذلك الرخص في السنة التي مات فيها والده:
الحنطة مكوك ونصف بدينار، والشعير مكوكان ونصف بدينار، والعدس مكوك
ونصف بدينار، والجلبان كذلك، والقطن ستة أرطال جوز بدينار.
(1/358)
|