زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم السادس والعشرون
صلاح الدين يحاصر حلب
ثم إن الملك الناصر عبر إلى الشام، فمر بتل خالد فحصرها، فسلمها أهلها
بالأمان في المحرم. ثم سار منها إلى عين تاب، وبها ناصر الدين محمد أخو
الشيخ إسماعيل الخزندار، فدخل في طاعته، فأبقاها عليه.
ولما علم عماد الدين ذلك، وتحقق قصده لحلب، أخذ رهائن الحلبيين، وأصعد
جماعة من أولادهم وأقاربهم، خوفاً من تسليم البلد، وقسم الأبراج
والأبواب على جماعة من الأمراء. وكان الأمراء الياروقية بها في شوكتهم.
وجاء الملك الناصر، ونزل على حلب في السادس والعشرين من محرم سنة تسع
وسبعين وخمسمائة. وامتد عسكره من بابلى إلى النهر ممتداً إلى باسلين،
ونزل هو على الخناقية، وقاتل عسكر حلب قتالاً عظيماً، في ذلك اليوم،
وأسر حسام الدين محمود بن الختلو، بالقرب من بانقوسا، وهو الذي تولى
شحنكية حلب، فيما بعد.
وهجم تاج الملوك بوري بن أيوب، أخو الملك الناصر، على عسكر حلب، فضرب
بنشاب زنبورك فأصاب ركبته، فوقع في الأكحل، فبقي أياماً، ومات بعد
(1/391)
فتح حلب، ودفن بتربة شهاب الدين الحارمي،
بالمقام، ثم نقل إلى دمشق. وجد الملك الناصر، بسبب أخيه على محاصرة حلب
أياماً، فاجتمع إليه الأجناد من العسكر والرجال، وطلبوا منه قرارهم
فمطلهم، فقالوا: قد ذهبت أخبارنا، ونحتاج لغلاء الأسعار إلى ما لا بد
منه، وشح بماله، فقال لهم: أنتم تعلمون حالي، وقلة مالي، وأنني تسلمت
حلب صفراً من الأموال، وضياعها في أقطاعكم. فقال له بعضهم: من يريد حلب
يحتاج إلى أن يخرج الأموال ولو باع حلي نسائه، فأحضر أواني من الذهب
والفضة، وغيرها، وباع ذلك، وأنفقه فيهم.
وكان الحلبيون يخرجون على جاري عادتهم، ويقاتلون أشد قتال بغير جامكية،
ولا قرار، نخوة على البلد، ومحبة لملكهم، فأفكر عماد الدين، ورأى أنه
لا قبل له بالملك الناصر، وأن ماله ينفد ولا يفيده شيئاً، فخلا ليلة
بطمان، وقال له: ما عندك في أمرنا. هذا الملك الناصر، قد نزل محاصراً
لنا، وهو ملك قوي، ذو مال. والظاهر أنه يطيل الحصار، وتعلم أنني أخذت
حلب خالية من الخزائن، والجند يطالبونني وليس لي من المال ما يكفيني
لمصابرته. ولا أدري عاقبة هذا الأمر إلى ما ينتهي.
فأحس طمان عند ذلك بما قد حصل في نفسه، فقال له: أنا أذكر لك ما عندي،
على شريطة الكتمان والاحتياط بالمواثيق والأيمان، على أن لا يطلع أحد
على ما يدور بيننا، فإن هؤلاء الأمراء إن اطلعوا على شيء مما نحن فيه
أفسدوه، وانعكس الغرض.
فتحالفا على كتمان ذلك، فقال له طمان: أرى من الرأي في حلب أن تسلمها
إلى الملك الناصر، بجاهها، وحرمتها، قبل أن تنتهك حرمتها، ويضعف أمرها،
وتفنى الأموال، وتضجر الرجال، ويستغل بلدها فيتقوى هو وعسكره به، ونحن
لا نزداد إلا ضعفاً. والآن فنحن عندنا قوة، ونأخذ منه ما نريد من
الأموال والبلاد.
(1/392)
نستريح من الأجناد وإلحاحهم في الطلب. ثم
قد أصبح ملكاً عظيماً، وهو صاحب مصر، وأكثر الشام، وملوك الشرق فقد
أطاعوه ومعظم الجزيرة في يده.
فقال له: والله هذا الذي قلته كله رأيي، وهو الذي وقع لي، فاخرج إليه،
تحدث معه على أن يعطيني: الخابور، وسنجارة وأي شيء قدرت على أن ترداده
فافعل، واطلب الرقة لنفسك.
ثم إن طمان كتم ذلك الأمر، وباكر القتال، وأظهر أن بداره واصطبله
بالحاضر خشباً عظيماً، وأنه يريد نقضها، كيلا يحرقها العسكر، فكان يبيت
كل ليلة في داره، خارج المدينة. ويجتمع بالسلطان الملك الناصر، خالياً،
ويرتب الأمور معه، ويجيء إلى عماد الدين ويقرر الحال معه، وينزل، ويصعد
إلى القلعة من برج المنشار، وكان عند باب الجبل الآن متصلاً بالمنشار
إلى أن قرر مع الملك الناصر: أن يأخذ حلب وعملها، ولا يأخذ معها شيئاً
من أموالها، وذخائرها، وجميع ما فيها من الآلات والسلاح، وأن يعطي عماد
الدين عوضاً عنها: سنجار، والخابور، ونصيبين، وسروج، وأن يكون لطمان
الرقة، ويكون مع عماد الدين. وشرط عليه أن تكون الخطابة والقضاء
للحنفية بحلب، في بني العديم، على ما هي عليه، كما كان في دولة الملك
الصالح، وأن لا ينقل إلى الشافعية.
هذا كله يتقرر، والقتال في كل يوم بين العسكرين على حاله. وليس عند
الطائفتين علم بما يجري. ويخرج من الحلبيين في كل يوم عشرة آلاف مقاتل
أو أكثر، يقاتلون أشد قتال.
التهيئة للتسليم والاستلام
ولم يعلم أحد من الأمراء ولا من أهل البلد، حتى صعدت أعلام الملك
الناصر على القلعة، بعد أن توثق كل واحد من الملكين من صاحبه بالأيمان.
فأسقط في أيدي أهل حلب والأمراء من الياروقية، وغيرهم. وخاف الياروقية
على أخبارهم، والحلبيون على أنفسهم، تكرر منهم من قتال الملك الناصر،
مرة بعد أخرى، في أيام الملك الصالح.
وصرح العوام بسبه، وحمل رجل من الحلبيين يقال له سيف بن المؤذن
(1/393)
إجانة الغسال. وصار بها إلى تحت الطيارة
بالقلعة، وعماد الدين جالس بها يشير إليه أن يغسل فيها كالمخانيث،
ونادى إليه: يا عماد الدين، نحن نقاتل بلا جامكية ولا جراية، فما حملك
على أن فعلت ما فعلت.
وقيل: إن بعضهم رماه بالنشاب، فوقع في وسط الطيارة، وعمل عوام حلب
أشعاراً عامية، كانوا يغنون بها، ويدقون على طبيلاتهم بها، منها:
أحباب قلبي لاتلوموني ... هذا عماد الدين مجنون
قايض بسنجار لقلعة حلب ... وزاده المولى نصيبين
ودق آخر على طبله، وقال مشيراً إلى عماد الدين:
وبعت بسنجار قلعة حلب ... عدمتك من بايع مشتري
خريت على حلب خرية ... نسخت بها خرية " الأشعري "
وصعد إليه صفي الدين رئيس البلد ووبخه على ما فعل، وهو في قلعة حلب لم
يخرج منها بعد، فقال له عماد الدين: فما فات، فاستهزأ به.
وأنفذ عسكر حلب وأهلها، إلى السلطان الملك الناصر: عز الدين جورديك،
وزين الدين بلك، فاستحلفوه للعسكر ولأهل البلد، في سابع عشر صفر، من
سنة تسع وسبعين وخمسمائة.
وخرجت العساكر ومقدمو حلب إليه إلى، الميدان الأخضر، وخلع عليهم، وطيب
قلوبهم.
ولما استقر أمر الصلح، حضر الملك الناصر صلاح الدين عند أخيه تاج
الملوك، الخناقية يعوده وقال له: هذه حلب، قد أخذناها، وهي لك فقال: لو
كان وأنا حي، ووالله، لقد أخذتها غالية حيث تفقد مثلي. فبكى الملك
الناصر والحاضرون.
وأقام عماد الدين بالقلعة، يقضي أشغاله، وينقل أقمشته، وخزائنه،
(1/394)
والسلطان الملك الناصر مقيم بالميدان
الأخضر، إلى يوم الخميس ثالث وعشرين من صفر. فنرل عماد الدين من القلعة
ورتب فيها طمان مقيماً بها، إلى أن يتسلم نواب عماد الدين ما اعتاض به
عن حلب، واستنابه في بيع جميع ما كان في قلعة حلب، حتى باع الأغلاق
والخوابي، واشترى الملك الناصر منها شيئاً كثيراً.
ونرل عماد الدين، في ذلك اليوم إلى السلطان الملك الناصر وعمل له
السلطان وليمة واحتفل وقدم لعماد الدين أشياء فاخرة من الخيل والعدد،
والمتاع الفاخر. وهم في ذلك إذ جاءه بعض أصحابه وأسر إليه بموت أخيه
تاج الملوك لما، فلم يظهر جزعاً ولا هلعاً، وكتم ذلك عن عماد الدين،
إلى أن انقضى المجلس، وأمرهم بتجهيزه.
دخول صلاح الدين قلعة حلب
فلما انقضى أمر الدعوة، وعلم عماد الدين بعد ذلك عزاه عن أخيه، وسار
السلطان الملك الناصر معه مشيعاً في ذلك اليوم، فسار حتى نرل مرج
قراحصار فنرل به، والسلطان في خيمته إلى أن وصل عماد الدين رسل أصحابه
يخبرونه بأنهم تسلموا سنجار، والمواضع التي تقررت له معها، فرفعت أعلام
الملك الناصر، عند ذلك على القلعة. وصعد إليها في يوم الاثنين السابع
والعشرين، من صفر، من سنة تسع وسبعين وخمسمائة.
حارم وتل خالد وعزاز
وامتنع سرخك، والي حارم، من تسليمها إلى السلطان الملك الناصر، فبذل له
ما يجب من الإقطاع، فاشتط في الطلب. وراسل الفرنج، ليستنجد بهم، فسمع
بعض الأجناد، بقلعة حارم، ذلك، فخافوا أن يسلمها إلى الفرنج، فوثبوا
عليه، وحبسوه، وأرسلوا إلى السلطان، يعلمونه ذلك، ويطلبون منه الأمان
والإنعام، فأجابهم إلى ذلك وتسلمها.
(1/395)
وأقر عين تاب بيد صاحبها، وسلم تل خالد إلى
بدر الدين دلدرم، صاحب تل باشر، وكان من كبار الياروقية. وأقطع عزاز
الأمير علم الدين سليمان بن جندر. وولى الملك الناصر قلعة حلب سيف
الدين يازكج الأسدي. وولى شحنكية حلب حسام الدين تميرك بن يونس، وولى
ديوان حلب ناصح الدين ابن العميد الدمشقي. وأبقى الرئيس صفي الدين طارق
بن أبي غانم ابن الطريرة، في منصبه على حاله، وزاد إقطاعه.
وكان الفقيه عيسى كثير التعصب، فما رال به، حتى نقل الخطابة عن الحنفية
إلى الشافعية، وعزل عنها عمي أبو المعالي. ووليها أبو البركات سعيد بن
هاشم. وفعل في القضاء كذلك، فسير إلى القاضي محيي الدين محمد بن زكي
الدين علي إلى دمشق، بسفارة القاضي الفاضل، فأحضر إلى حلب وولي قضاءها،
وعزل والدي عن القضاء، وامتدحه محيي الدين بن الزكي، بقصيدة بائية، قال
فيها:
وفتحكم حلبا بالسيف في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب
فاتفق من أحسن الإتفاقات، وأعجبها، فتح القدس في شهر رجب من سنة ثلاث
وثمانين وخمسمائة.
وأقام محيي الدين في القضاء بحلب مدة، ثم استناب القاضي زين الدين أبا
البيان نبأ بن البانياسي في قضاء حلب، وطار إلى بلده دمشق.
ثم إن السلطان الملك الناصر أقام بحلب، ورحل منها في الثاني والعشرين
من ربيع الآخر، من سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وجعل فيها ولده الملك
الظاهر غازي وكان صبياً وجعل تدبير أمره إلى سيف الدين يازكج.
صلاح الدين والفرنج
وسار إلى دمشق، ثم خرج إلى الغزاة في جمادى الآخرة، وسار إلى
(1/396)
بيسان، وقد هرب أهلها، فخربها، ونهبها،
وخرب حصنها. ثم سار إلى عفر بلا، فخربها، وجرد قطعة من العسكر، فخربوا
الناصرة والفولة وما حولهما من الضياع.
وجاء الفرنج فنزلوا عين الجالوت، ودار المسلمون بهم، وبثوا السرايا في
ديارهم، للغارة والنهب، ووقع جورديك، وجاولي الأسدي، وجماعة من النورية
على عسكر الكرك والشوبك، سائرين في نجدة الفرنج، فقتلوا منهم مقتلة
عظيمة، وأسروا مائة نفر، وعادوا.
وجرى للمسلمين مع الفرنج وقعات، ولم يتجاسروا على الخروج للمصاف، وعاد
السلطان إلى الطور في سابع عشر جمادى الآخرة. فنرل تحت الجبل، مترقباً
رحيلهم ليجد فرصة، فأصبحوا، ورحلوا راجعين على أعقابهم. ورحل نحوهم،
وناوشهم العسكر الإسلاي، فلم يخرجوا إليهم، والمسلمون حولهم، حتى نزلوا
الفولة راجعين. وفرغ أزواد المسلمين. فعادوا إلى دمشق، ودخل السلطان
دمشق، في رابع وعشرين من جمادى الآخرة ثم عزم علىغزو الكرك، فخرج إليها
في رجب، وكتب إلى أخيه الملك العادل، وأمره أن يلتقيه إلى الكرك، وسار
السلطان إلى الكرك، وحاصرها، ونهب أعمالها، وهجم ربضها، في رابع شعبان.
وهدم سورها بالمنجنيقات،
(1/397)
وأعجزه طم خندقها. ووصلت الفرنج لنجدتها
فلما اجتمعوا بالجليل، رحل عنها، ونزل بإزائها.
حلب وأبو بكر بن أيوب
ووصل أخوه الملك العادل، من مصر، وعقد لابن أخيه تقي الدين عمر، على
ولايتها. فسار إليها في نصف شعبان.
وعاد السلطان الملك الناصر إلى دمشق، والملك العادل أخوه معه، فعقد له
على ولاية حلب، وسار إليها في ثاني شهر رمضان، فوصلها، وصعد قلعتها في
يوم الجمعة، ثاني وعشرين من شهر رمضان. وخرج السلطان الملك الظاهر منها
ومعه يازكجا، فوصل إلى والده في شوال.
ويقال إن الملك العادل دفع إلى السلطان، لأجل حلب، ثلاثمائة ألف دينار
مصرية، وقيل دون ذلك. وكان السلطان محتاجاً إليها لأجل الغزاة، فلذلك
سلم إليه حلب، وأخذها من ولده ولما دخلها الملك العادل، ولى بقلعتها
صارم الدين بزغش، وولى الديوان والأقطاع والجند، واستهداء الأموال،
وشحنكية البلد: شجاع الدين محمد بن بزغش البصراوي، واستكتب الصنيعة ابن
النخال وكان نصرانياً فأسلم على يديه. وولى وقوف الجامع فخر الدين أحمد
بن عبد الله بن القصري، وأمره بتجديد المساجد الداثرة بحلب، والقيام
بمصالحها، وتوفير أوقافها عليها، وأن لا يتعرض بوقف المسجد الجامع، بل
يوفر وقفه على مصالحه، ولا يرفع إلى الزردخاناه إلا ما فضل عن ذلك كله.
وجدد في أيامه مساجد متعددة كانت قد تهدمت.
ووقع في أيامه وقعة بين الحنفية والشافعية، وصار بينهم جراح، فصنع لهم
الملك العادل دعوة في الميدان الأخضر، وأصلح بين الفريقين، وخلع على
الأكابر من الفقهاء والمدرسين. وهدم الحوش. القبلي الشرقي الذي كان
للقلعة، وهو ما بين
(1/398)
الجسرين تحت المركز، ورأى أن يسفحه، فسفحه
السلطان الملك الظاهر بعده، وكتب عليه اسمه بالسواد إلى أن غاب في أيام
ابنه الملك العزيز فجدد، وزالت الكتابة، وبقي بعضها.
خبر شيخ الشيوخ
ووصل رسول الخليفة شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل، إلى
السلطان الملك الناصر، في الإصلاح بينه وبين عز الدين صاحب الموصل وورد
معه في الموصل القاضي محيي الدين أبو حامد بن الشهرزوري، الذي كان قاضي
حلب ثم تولى قضاء الموصل، القاضي بهاء الدين أبو المحاسن بن شداد، الذي
صار قاضي عسكر السلطان الملك الناصر، وولي قضاء حلب في أيام ابنه الملك
الظاهر. ولم يتفق الصلح بينهما.
وحضرني حكاية جرت لشيخ الشيوخ مع محي الدين، في هذه السفرة، وذلك أن
شيخ الشيوخ كان قد وصل إلى السلطان الملك الناصر، وهو محاصر للموصل،
ليصلح بينه وبين عز الدين، في المحاصرة الأولى، فلم يتفق الصلح، واتهم
أهل الموصل شيخ الشيوخ بالميل مع الملك الناصر، فعمل محيي الدين فيه
أبياتاً منها:
بعثت رسولاً أم بعثت محرضاً ... على القتل تستجلي القتال وتستحلي؟
وقال فيها مخاطباً للإمام الناصر:
فلا تغترر منه بفضل تنمس ... فما هكذا كان الجنيد ولا الشبلي
فبلغت الأبيات شيخ الشيوخ.
فلما اجتمعا في هذه السفرة وتباسطا، قال له شيخ الشيوخ: كيف تلك
الأبيات التي عملتها في. فغالطه عنها، فأقسم عليه بالله أن يتشده
إياها، فذكرها له، حتى أنشده البيت الذي ذكرناه أولاً، فقال: والله لقد
ظلمتني، وإنني والله، اجتهدت في الإصلاح فما اتفق، فأنشده تمامها، حتى
بلغ إلى قوله: فما هكذا كان الجنيد ولا الشبلي. فقال: والله لقد صدقت،
فما هكذا كان الجنيد ولا الشبلي، أدور على أبواب الملوك من باب هذا إلى
باب هذا.
(1/399)
ثم إن الرسل ساروا عن غير زبدة، وتوجه
الملك العادل من حلب في ذي الحجة، وعيد عند أخيه بدمشق، ثم عاد إلى
حلب.
غزو الكرك ونابلس وسبسطية وجنين
واهتم السلطان الملك الناصر، في سنة ثمانين وخمسمائة، لغزاة الكرك،
فوصل إليه نور الدين بن قرا أرسلان، واجتاز بحلب، فأكرمه الملك العادل،
وأطلعه إلى قلعتها في صفر، ثم رحل معه إلى دمشق، فخرج السلطان، والتقاه
على عبر الجسر، بالبقاع. ثم تقدم إلى دمشق ولحقاتا وتأهب للغزاة، وخرج
إلى الكرك، واستحضر العساكر المصرية، فوصل تقي الدين ابن أخيه، ومعه
بيت الملك العادل، وخزائنه، فسيرهم إلى حلب. ونازل الكرك، وأحدقت
العساكر بها، وهجموا الربض، وبينه وبين القلعة خندق وهما جميعاً على
سطح جبل، وسدوا أكثر الخندق، وقاربوا فتح الحصن، وكانت للبرنس أرناط
فكاتب من فيها الفرنج، فوصلوا في جموعهم إلى موضع يعرف ب " الواله "،
فسير الملك الناصر الأثقال، ورحل بعد أن هدم الحصن بالمنجنيقات.
ورحل عنها في جمادى الآخرة، وأمر بعض العسكر فدخلوا إلى بلاد الفرنج،
فهجموا نابلس، ونهبوها، وخربوها، واستنقذوا منها أسرى من المسلمين،
وفعلوا في سبسطية وجينين مثل ذلك، وعادوا ودخلوا دمشق مع السلطان.
(1/400)
نحو حران والموصل
وميافارقين
ووصل إليه: شيخ الشيوخ بالخلع، من الخليفة الناصر، له ولأخيه الملك
العادل، ولابن عمه ناصر الدين، فلبسوها، ثم خلع السلطان، بعد أيام
خلعته الواردة من الخليفة على نور الدين بن قرا أرسلان.
وورد إليه رسول مظفر الدين بن زين الدين، يخبره أن عسكر لا الموصل،
وعسكر قزل نزلوا على إربل، وأنهم نهبوا وأخربوا، وأنه انتصر عليهم،
ويشير عليه بقصد الموصل، ويقوي طمعه، وبذل له إذا سار إليه خمسين ألف
دينار، فعند ذلك هادن الفرنج مدة.
ورحل من دمشق في ذي القعدة من سنة ثمانين، فوصل حلب وأقام بها إلى أن
خرجت السنة.
وسار منها إلى حران، والتقاه مظفر الدين بالبيرة، في المحرم سنة إحدى
وثمانين، وعاد معه إلى حران، وطالبه بما بذل له من المال، فأنكر ذلك
فأحضر رسوله العلم بن ماهان، فقابله على ذلك، فأنكر، فقبض عليه، ووكل
به.
ثم أخذ منه مدينتي حران والرها، وأقام في الإعتقال إلى مستهل شهر ربيع
الأول، ثم أطلقه خوفاً من انحراف الناس عنه، لأنهم علموا أنه الذي ملكه
البلاد الجزرية، وأعاد عليه حران، ووعده بإعادة الرها، إذ عاد من
سفرته، فأعادهما عليه. وسار الملك الناصر إلى الموصل، فوصل بلد، فنزلت
إليه والدة عز الدين، ومعها ابنة نور الدين، وغيرها من نساء بني أتابك،
يطلبن منه المصالحة، والموافقة، فردهن خائبات، ظناً منه أن عز الدين
أرسلهن عجزاً عن حفظ الموصل، واعتذر بأعذار ندم عليها بعد ذلك.
(1/401)
ورحل، حتى صار بينه وبين الموصل مقدار فرسخ
فكان يجري القتال بين العسكرين، وبذل أهل الموصل نفوسهم في القتال لرده
النساء، وندم السلطان على ردهن، وافتتح تل عفر، فأعطاها عماد الدين
صاحب سنجار.
وأقام على حصار الموصل شهرين، ثم رحل عنها، وجاءه الخبر بموت شاه أرمن،
وكاتبه جماعة من أهل خلاط، فترك الموصل طمعاً في خلاط فاصطلح أهل خلاط
مع البهلوان صاحب أذربيجان، فنرل السلطان على ميافارقين، وكان صاحبها
قطب الدين ايلغاري بن ألبي بن تمرتاش، وملك بعده حسام الدين يولق
أرسلان، وهو طفل، فطمع في أخذها، ونازلها، فتسلمها من واليها، وزوج بعض
بنيه ببنت الخاتون بنت قرا أبى سلان، ثم عاد إلى الموصل عند إياسه من
خلاط، فوصل إلى كفرزمار، في شعبان، من سنة إحدى وثمانين، فأقام بها
مدة، والرسل تتردد بينه وبين عز الدين.
فمرض السلطان بكفرزمار، فسار عائداً إلى حران، وأتبعه عز الدين بالقاضي
بهاء الدين بن شداد، وبهاء الدين الربيب، رسولين إليه في موافقته على
الخطبة والسكة، وأن يكون معه عسكر من جهته، وأن يسلم إليه شهرزور،
وأعمالها، وما وراء الزاب.
الشفاء وإعادة التوزيع
واشتد مرض السلطان بحران في شوال، وأيس منه، وأرجف بموته، ووصل إليه
الملك العادل من حلب، ومعه أطباؤها، واستدعى المقدمين من الأمراء من
(1/402)
البلاد، فوصلوا إليه. وعزم الملك العادل
على استحلاف الناس لنفسه.
وسار ناصر الدين صاحب حمص طمعاً في ملك الشام، وقيل إنه إجتاز بحلب،
ففرق على أحداثها مالاً، وسار إلى حمص، وجرى من تقي الدين بمصر حركات
من يريد أن يستبد بالملك. وتماثل السلطان، وبلغه ذلك كله، وأركب، فرآه
الناس، وفرحوا، وابتنى داراً ظاهر حران فجلس فيها حين عوفي، فسميت دار
العافية. ولما عوفي رد على مظفر الدين الرها، وأعطاه سنجقا، وأحضر
رسولي الموصل، وحلف لهما على ما تقرر في يوم عرفة.
وبلغه موت ابن عمه ناصر الدين، صاحب حمص، ورحل عن حران إلى حلب، وصعد
قلعتها يوم الأحد، رابع عشر محرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. وأقام
بها أربعة أيام، ثم رحل إلى دمشق، فلقيه أسد الدين شيركوه، ابن صاحب
حمص، فأعطاه حمص، وسار إلى دمشق.
وسير إلى الملك العادل، وطلبه إليه إلى دمشق، فخرج من حلب جريدة، ليلة
السبت الرابع والعشرين، من شهر ربيع الأول من سنة اثنتين. فوصل إليه
إلى دمشق، وجرت بينهما أحاديث ومراجعات استقرت على أن الملك العادل
يطلع إلى مصر، ومعه الملك العزيز، ويكون أتابكه، ويسلم حلب إلى الملك
الطاهر غازي، وينزل الأفضل إلى دمشق من مصر، وينزل تقي الدين أيضاً
منها. وكان الذي حمله على إخراج الملك العادل من حلب أن علم الدين
سليمان ابن جندر كان بينه وبين الملك الناصر صحبة قديمة، قبل الملك،
ومعاشرة، وانبساط. وكان الملك العادل وهو بحلب لا يوفيه ما يجب له،
ويقدم عليه غيره. فلما عوفي الملك الناصر سايره يوماً سليمان، وجرى
حديث مرضه، وكان قد أوصى لكل واحد من أولاده بشيء من البلاد، فقال له
سليمان بن جندر: بأي
(1/403)
رأي كنت تظن أن وصيتك تمضي كأئك كنت خارجا
إلى الصيد، وتعود فلا يخانفونك، أما تستحيي أن يكون الطائر أهلى منك
إلى المصلحة قال وكيف ذلك " وهو يضحك قال: إذا أراد الطائر أن يعمل عشا
لفراخه، قصد أعالي الشجرة، ليحمي فراخه، وأنت سلمت الحصون إلى أهلك،
وجعلت أولادك على الأرض.
هذه حلب وهي أتم البلاد بيد أخيك ث وحماة بيد تقيئ الذين، وحمص بيد ابن
أسد الدين، وابنك الأفضل مع تقي الذين بمصر بخرجه متى شاء، وابنك الآخر
مع أخيك في خيمته يفعل به ما أراد. فقال له: صدقت، واكتم هذا الأمر.
(1/404)
|