زبدة الحلب في تاريخ حلب

القسم السابع والعشرون
غازي في حلب
ثم أخذ حلب من أخيه، وأعطاها ابنه الملك الظاهر، وأعطى الملك العادل بعد ذلك حران، والرها، وميافارقين، ليخرجه من الشام، ويتوفر الشام عاى أولاده. فكان ما كان، وأخرج تقي الدين من مصر، فشق عليه ذلك وامتنع االقدوم، ثم خاف، فقدم عليه.
وسير الملك العادل الصنيعة لإحضار أهله من حلب، وسار الملك الظاهر قدس الله روحه - إلى حلب، وسير في خدمته شجاع الدين عيسى بن بلاشوا وولاه قلعة حلب، وأوصاه بتربية الملك الطاهر، وأخيه الملك الزاهر، وحسام الدين بشارة صاحب بانياس وولاه المدينة، وجعل الديوان بينهما.
وجعل قرار الملك الظاهر في السنة ثمانية وأربعين ألف دينار بيضا، كل شهر أربعة الاف دينار. وكل يوم قباء وكمه، وعليق دوابه من الأهراء، وخبزه من الأهراء، واستمزت هذه الوظيفة، إلى سنة ست وثمانين إلى رجب.
فورد كتاب الملك الئاصر إلى ولده الملك الظاهر، يأمره بأن يأمر وينهى وأن يقطع الإقطاعات، وأن البلد بلده. وكان القاضي الزبداني يكتب له، فلم يعجبه فانصرف على حال غير محمودة.
تذكر حكايه وعلى ذكر علم الدين سليمان بن جندر، تذكرت حكاية مستملحة عنه، فأثبت.

(1/405)


أخبرني الزكي أحمد بن مسعود الموصلي المقرىء، قال: كنت أوم بعلم الدين سليمان بن جندر، فاتفق أن خرجت معه إلى حارم، في سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وجلست معه تحت شجرة. هناك. فقال: كنت ومجد الدين أبو بكر ابن الداية والملك الناصر صلاح الدين، تحت هذه الشجرة، ونور الدين إذ ذاك يحاصر حارم، وهي في أيدي الفرنج. فقال مجد الدين: كنت أتمنى أن نور الدين يفتح حارم، ويعطيني إياها، فقال صلاح الدين: أتمنى على الله مصر. ثم قالا لي: تمن أنت شيئاً، فقلت: إذ كان مجد الدين صاحب حارم وصلاح الدين صاحب مصر، ما أضيع بينهما. فقالا: لا بد من أن تتمنى شيئاً. فقلت: إذا كان ولا بد من ذلك فأريد عم.
فقذر الله أن نور الدين كسر الفرنج، وفتح حارم، وأعطاها مجد الدين، وأعطاني عم. فقال صلاح الدين: أخذت أنا مصر والله، فاننا كنا ثلاثة، وتمنى مجد الدين حارم، وأخذها. وتمنى علم الدين عم وأخذها. وقد بقيت أمنيتي. فقدر الله تعالى: أن فتح أسد الدين مصر، ثم آل الأمر إلى أن ملكها صلاح الدين. وهذا من أغرب الإتفاقات.
وزوج السلطان الملك الناصر ولده الملك الظاهر، في هذه السنة، بابنة أخيه غازية خاتون بنت الملك العادل. ودخل بها يوم الأربعاء سادس وعشرين من شهر رمضان.

العساكر الإسلامية والفرنج
ثم إن السلطان عزم قصد الكرك مرة أخرى فبرز من دمشق، في النصف من محرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وسير إلى حلب يستدعي عسكرها، فاعتاق عليه، لاشتغاله بالفرنج بأرض أنطاكية، وبلاد ابن لاون، وذلك أنه كان قد مات، وأوصى لابن أخيه بالملك.
وكان الملك المظفر تقي الدين بحماة، فسير إليه السلطان، وأمره بالدخول إلى بلاد العدو، فوصل إلى حلب في سابع عشري محرم، ونزل في دار عفيف الدين بن زريق، وأقام بها إلى ثالث صفر، وانتقل إلى داري الآن، وكانت إذ ذاك في ملك الأمير طمان.

(1/406)


ثم خرج إلى حارم، وأقام بها إلى أن صالحهم في العشر الآواخر من شهر ربيع الأول، ثم سار حتى لحق السلطان، وأما السلطان فإنه سار إلى رأس الماء، واجتمعت إليه العساكر الإسلامية من الموصل، والشرق، ومصر، والشام، بعشترا، بعد أن أتته الأخبار أن البرنس أرناط أيريد الخروج على الحاج، فأقام قريباً من الكرك مشغلاً خاطره، ليلزم مكانه إلى أن وصل الحاج، وتقدم إلى الكرك، وبث سراياه، فنهبوا بلدها وبلد الشوبك، وخربوه.
وأرسل إلى ولده الملك الأفضل، فأخذ قطعة من العسكر، فدخل إلى بلد عكا، فأخربوا ونهبوا، وخرج إليهم جمع من الداوية والاسبتارية، فظفروا بهم، وقتل منهم جماعة، وأسر الباقون، وقتل مقدم الاسبتار.
وعاد السلطان إلى العسكر، وعرض العسكر قلباً وجناحين، وميمنة وميسرة، وجاليشية وساقة، وعرف كلاً منهم موضعه، وسار على تعبئة، فنرل بالأقحوانة بالقرب من طبرية.
وكان القمص صاحبها قد انتمى إلى السلطان، لخلف جرى بينه وبين الفرنج. فأرسل الفرنج إليه البطرك والقسوس والرهبان، وتهددوه بفسخ نكاح زوجته، وتحريمه، فاعتذر، وتنصل، ورجع عن السلطان إليهم. ثم ساروا كلهم بجموعهم إلى صفورية.

(1/407)


فرحل السلطان، يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر، وخلف طبرية وراء ظهره، وصعد جبلها، وتقدم إلى الفرنج، فلم يخرجوا من خيمهم، فنرل، وأمر العسكر بالنزول، فلما جنه اليل، جعل في مقابلة الفرنج من يمنعهم من القتال. ونزل إلى طبرية جريدة، وقاتلها، وأخذها في ساعة من نهار، ونهبوا المدينة وأحرقوها.
فلما سمع الفرنج بذلك، تقدموا إلى عساكر المسلمين، فعاد السلطان إلى عسكره، والتقى الفريقان، وجرى بينهما قتال، وفرق بينهما اليل. وطمع المسلمون فيهم، وباتوا يحرض بعضهم بعضاً.
فلما كان صباح السبت لخمس بقين من الشهر، طلب كل من الفريقين موضعه، وعلم المسلمون أن الأردن من ورائهم، وبلاد القوم بين أيديهم، فحملت العساكر الإسلامية من الجوانب، وحمل القلب، وصاحوا صيحة واحدة، فهرب القمص في أوائل الأمر نحو صور، وتبعه جماعة من المسلمين، فنجا وحده، فلم يزل سقيماً حتى مات في رجب.

حطين وأنهزام الفرنج ونهاية أرناط
وأحاط المسلمون بالباقين من كل جانب، فانهزمت منهم طائفة، فتبعها المسلمون فلم ينج منهم أحد. واعتصمت الطائفة الأخرى بتل حطين، وحطين: قرية عندها قبر شعيب عليه السلام فضايقهم المسلمون على التل، وأوقدوا النيران حولهم، فقتلهم العطش. وضاق الأمر بهم حتى استسلموا للأسر، فأسر مقدموهم وهم الملك جفري، والبرنس أرناط صاحب الكرك وأخو الملك، وابن الهنفري، وأولاد الست، وصاحب جبيل، ومقدم الداوية، ومقدم

(1/408)


الاسبتار، وأمم لا يقع عليها الإحصاء، حتى كان الرجل المسلم يقتاد منهم عشرين فرنجياً، في حلقهم حبل.
وأسروا من المصاف، ومن بلاد الفرنج أكثر من ثلاثين ألفاً من الفرنج، ما بين رجل، وامرأة، وصبي. وقتل من المقدمين وغيرهم خلق لا يحصى. ولم يجر على الفرنج منذ خرجوا إلى الساحل مثل هذه الوقعة.
وكان من جملة الغنيمة في يوم المصاف صليب الصلبوت، وهو قطعة خشب مغلفة بالذهب، مرصعة بالجوهر، يزعمون أن ربهم صلب عليها، وضربت في يديه المسامير، أحضروه معهم يوم المصاف تبركاً به، ورفعوه على رمح عال. فأما مقدم الدواية والأسبتار، فاختار السلطان قتلهم فقتلوا، وأما الملك جفري، فإنه أكرمه، وجلس له في دهليز الخيمة، واستحضره، وأحضر معه البرنس أرناط، وناول الملك جفري شربة من جلاب بثلج، فشرب منها، وكان على أشد حال من العطش. ثم ناول الملك بعضها برنس أرناط، فقال السطان للترجمان: قل للملك: أنت الذي سقيته، وإلاما سقيته أنا. وأراد بذلك عادة العرب أن الأسير إذ أكل أو أشرب ممن أسره أمن.
وكان السلطان قد نذر مرتين إن أظفره الله به أن يقتله. إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة، وبعثرة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
والمرة الأخرى أن السلطان كان قد هادنه، وتحالفا على أمن القوافل المترددة من الشام إلى مصر. فاجتاز به قافلة عظيمة، غزيرة الأموال، كثيرة الرجال، ومعها جماعة من الأجناد، فغدر بهم الملعون، وأخذهم وأموالهم وقال لهم: قولوا لمحمد يجيء ينصركم. فبلغ ذلك السلطان سير إليه، وهدده،

(1/409)


ولامه، وطلب منه ردها فلم يجب، فنذر أن يقتله متى ظفر به.
فالتفت السلطان إلى أرناط، ووافقه على ما قال، وقال له: هل أنا أنتصر لمحمد. ثم عرض عليه الإسلام، فلم يفعل. فسل السيف، وضربه به، فحل كتفه، وتمم عليه من حضر. وأخذ ورمي على باب الخيمة.
فلما رآه الملك على تلك الصورة لم يشد في أنه يثني به، فاستحضره، وطيب قلبه، وقال: لم تجر عادة الملوك أنهم يقتلون الملوك. ولكن هذا طغى، وتجاوز حده فجرى ما جرى.

فتح طبرية وعكا وبيروت وغيرها
ثم إن السلطان أصبح يوم الأحد، الخامس والعشرين، فنزل على طبرية، وتسلم قلعتها بالأمان من صاحبتها ثم رحل منها يوم الثلاثاء إلى عكا، فنرل عليها يوم الأربعاء سلخ الشهر. وقاتلها يوم الخميس مستهل جمادى الأولى، فأخذها، واستنقذ منها أربعة آلاف أسير من المسلمين، وأخذ جميع ما فيها، وتفرق العسكر.
وفتح بعده قيسارية ويالس، وحيفا، وصفورية، والناصرة، والشقيف، والفولة، فأخذوها، واستولوا على سكانها، وأموالها.
ورحل السلطان من عكا إلى تبنين، وقاتلها، منها إلى صيدا فتسلمها يوم الأربعاء العشرين منه. ثم سار إلى بيروت، ففتحها في التاسع والعشرين منه. ثم سلمت جبيل، إلى أصحابه وهو على بيروت.

(1/410)


ثم سار إلى عسقلان، ونازلها يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة، وتسلمها يوم السبت سلخ جمادى الآخرة، بعد أن تسلم في طريقه مواضع كالرملة وينبا والداروم. وأقام على عسقلان، وتسلم أصحابه غزة، وبيت جبرين، والنطرون، وبيت لحم، ومسجد الخليل عليه السلام.

تسلم القدس من الفرنج
وسار إلى بيت المقدس، فنزل عليه يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب من سنة ثلاث وثمانين، فنزل بالجانب الغربي، وكان مشحوناً بالمقاتلة من الخيالة والرجالة. وكان عليه من المقاتلة ما يريد على ستين ألفاً غير النساء والصبيان. ثم انتقل إلى الجانب الشمالي، يوم الجمعة العشرين من شهر رجب ونصب عليه المنجنيقات، وضايقه بالزحف، والقتال، وكثرة الرماة، حتى أخذ النقب في السور، مما يلي وادي جهنم، في قرنة شمالية.
ولما رأوا ذلك وعلموا أن لا ناصر لهم، وأن جميع البلاد التي افتتحها السلطان صار من بقي من أهلها إلى القدس، خرج عند ذلك إليه ابن بارزان، ملقياً بيده، ومتوسطاً لأمر قومه، حتى استقر مع السلطان خزوج الفرنج عنها بأموالهم وعيالهم، وأن يؤدوا عن كل رجل منهم عشرة دنانير، وعن كل امرأة خمسة دنانير، وعن كل طفل لم يبلغ الحلم دينارين. ومن عجز عن ذلك استرق، فبلغ الحاصل من ذلك عن من خرج منهم مائتين وستين ألف دينار صورية، واسترق بعد ذلك منهم نحو ستة عشر ألفا.
وكان السلطان قد رتب في كل باب أميراً أميناً لأخذ ما استقر عليهم، فخانوا، ولم يؤدوا الأمانة، فإنه كان فيه، على التحقيق، العدة التي ذكرناها. وأطلق ابن

(1/411)


بارزان ثمانية عشر ألف رجل من الفقراء، وزن عنهم ثلاثين ألف دينار.
وتسلم القدس في يوم الجمعة السابع والعشرين، من شهر رجب، وأقيمت صلاة الجمعة فيه، في الجمعة التي تلي هذه، وهي رابع شعبان.
وخطب بالناس محيي الدين بن زكي الدين، وهو يومئذ قاضي حلب وأزيلت الصلبان من قبة الصخرة، ومحراب داود، وأزيل ما كان بالمسجد الأقصى من حوانيت الخمارين، وهدمت كنائسهم والمعابد، وبنيت المحاريب والمساجد. وأقام السلطان على القدس، ثم رحل عنه، في الخامس والعشرين من شعبان، فنرل على صور بعد أن قدم عليه ولده الملك الظاهر، من حلب في ثامن عشر شهر رمضان، قبل وصوله إليها.
وكان نروله على صور في ثاني عشرين من شهر رمضان، وضايقها، وقاتلها. واستدعى أسطول مصر، فكانت منه غزة في بعض الليالي، وظنوا أنه ليس في البحر من يخافونه، فما راعهم إلا ومراكب الفرنج من صور قد كبستهم، وأخذوا منهم جماعة، وقتلوا جماعة، فانكسر نشاط السلطان، ورحل عنها في ثاني ذي القعدة، وأعطى العساكر دستوراً، وساروا إلى بلادهم.

هونين وطرطوس وجبلة واللاذقية وصهيون
وأقام هو بعكا، إلى أن دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وكان من بهونين قد أرسلوا إلى السلطان، وهو بصور، فأمنهم، وسير من تسلمها. وسار السلطان، فنرل على حصن كوكب في أوائل المحرم من السنة. وكان قد جعل حولها جماعة يحفظونها من دخول قوة، فأخذ الفرنج عزتهم ليلاً، وكبسوهم

(1/412)


بعفربلا، وقتلوا مقدمهم سيف الدين أخا الجاولي. فسار السلطان، ونزل عليها بمن كان قد بقي من خواصه بعكا، وكان ولده الملك الظاهر قد عاد عنه إلى حلب، وعاد أخوه الملك العادل إلى مصر، فحصره، ثم رأى أنه حصن منيع، فرحل عنه وجعل عليه قايماز النجمي محاصراً.
وسار إلى دمشق، ثم سار من دمشق في النصف من ربيع الأول إلى حمص، فنرل على بحيرة قدس، ووصل إليه عماد الدين زنكي صاحب سنجار، وتلاحقت به العساكر، واجتمعت عنده، فنرل على تل قبالة حصن الأكراد، في مستهل ربيع الآخر، وسير إلى الملك الظاهر إلى حلب وإلى الملك المظفر، بأن يجتمعا وينرلا بتيزين قبالة إنطاكية لحفظ ذلك الجانب، فسارا حتى نرلا تيزين في شهر ربيع الآخر وتواصلت إليه العساكر في هذه المنزلة.
ثم رحل يوم الجمعة رابع جماى الأولى، على تعبئة لقاء العدو، ودخل إلى بلاد العدو، وأغار على صافيتا والعريمة وغير ذلك من ولاياتهم. ووصل إلى انطرسوس في سادس جمادى الأولى فوقف قبالتها، ونظر إليها، وسير من رد الميمنة، وأمرها بالنزول على جانب البحر، وأمر الميسرة بالنزول على البحر، من الجانب الآخر، ونزل في موضعه، وأحدقت العساكر بها من البحر إلى البحر، وزحف عليها، فما استتم نصب الخيم حتى صعد الناس السور، وأخذها بالسيف، وغنم العسكر جميع ما بها، وخرب سور البلد.
وسار إلى حلب، فوصل إليه ولده الملك الظاهر في أثناء الطريق، بالعساكر

(1/413)


التي كانت بتيزين. ووصل إلى جبلة في ثامن عشر يوم الجمعة، فما استتم نزول العسكر حتى تسلم البلد، سلمها إليه قاضيها وأهلها، وكانوا مسلمين تحت يد الفرنج، فعملوا عليها وسلموها وبقيت القلعة ممتنعة. وقاتل القلعة، فسلمت بالأمان يوم السبت تاسع عشر الشهر.
وسار عنها إلى اللاذقية، فنرل عليها يوم الخميس رابع عشري جمادى الأولى، ولها قلعتان، فقاتلها، وأخذ البلد، وغنموا منه غنيمة، وفرق الليل بين الناس. وأصبح المسلمون يوم السبت، واجتهدوا في قتال القلعتين، ونقبوا في السور مقدار ستين ذراعاً. فأيقن الفرنج بالعطب، فطلبوا الأمان، يوم الجمعة الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وسلموها يوم السبت.
ورحل عن اللاذقية، يوم الأحد، فنرل على صهيون، ونزل عليها يوم الثلاثاء تاسع عشري جمادى الأولى، واستدار العسكر حولها، واشتد القتال عليها من جميع الجوانب، فضربها منجنيق ولده الملك الظاهر، حتى هدم قطعة من سورها تمكن الصاعد الصعود منها. وزحف عليها السلطان بكرة الجمعة، ثاني جمادى الآخرة، فما كان إلا ساعة حتى ارتقى المسلمون على أسوار الربض، فهجموه، فانضم أهله إلى القلعة، فاتلهم المسلمون فصاحوا الأمان. وسلموها على صلح القدس.
وأقام السلطان بها حتى تسلم عدة قلاع، كالغيد وقلعة الجماهريين وحصن بلاطنش. ثم رحل ونزل على بكاس، وهي قلعة حصينة، من أعمال حلب على جانب العاصي، ولها نثر يخرج من تحتها يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة على شاطىء العاصي.

(1/414)


بكاس والشغر وسرمانية وبرزية
وصعد السلطان جريدة إلى القلعة، وهي على جبل مطل على العاصي، فأحدق بها من كل جانب، وقاتلها قتالاً شديداً بالمنجنيقات والزحف. وفتحها يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة عنوة، وأسر من كان بقي فيها، وغنم جميع ما كان فيها. وكان لها قلعة تسمى الشغر قريباً منها يعبر من إحداهما إلى الأخرى بجسر، فضربها بالمنجنيقات إلى أن طلبوا الأمان، ثم سلمها أهلها بعد ثلاثة أيام، يوم الجمعة سادس عشر الشهر.
ثم عاد السلطان إلى الثقل، وسير ولده الملك الظاهر إلى قلعة تسمى سرمانية يوم السبت، فقاتلها قتالاً شديداً، وتسلمها يوم الجمعة ثالث عشري الشهر المذكور.
واتفق له هذه الفتوحات المتتابعة كلها في أيام الجمع. وكذلك القدس يوم الجمعة. ثم سار السلطان جريدة إلى حصن برزية وهو الذي يضرب به المثل في الحصانة، ويحيط به أودية من سائر جوانبه، وعلوها خمسمائة ذراع ونيف وسبعون ذراعاً، فتأمله وقوى عزمه على حصاره، واستدعى الثقل وبقية العسكر، يوم السبت رابع عشري جمادى الآخرة. فنزل الثقل تحت الجبل.
وفي بكرة الأحد صعد السلطان جريدة، مع المقاتلة، والمنجنيقات، وآلات الحصار إلى الجبل، فأحدق بالقلعة، وركب المنجنيقات عليها فقاتلها ليلاً ونهاراً. ثم قسم العسكر على ثلاثة أقسام، يوم الثلاثاء. ورتب كل قسم يقاتل شطراً من النهار، بحيث لا يفتر القتال عليها.
وحضرت نوبة السلطان، فتسلمها بنفسه، وركب، وصاح في الناس، فحملوا حملة الرجل الواحد، وطلعوا إلى الأسوار، وهجموها عنوة، ونهبوا جميع ما فيها،

(1/415)


وأسروا من كان فيها. وعاد السلطان إلى الثقل. وأحضر صاحبها ومعه من أهله سبعة عشر نفراً، فرق له السلطان، وأطلقه مع جماعته، وأنفذهم إلى صاحب انطاكية، إستمالة له. فإنهم كانوا من أهله.

درب ساك وبغراس وصفد والكرك
ثم سار السلطان حتى نزل على درب ساك، يوم الجمعة ثامن شهر رجب من السنة، فقاتلها قتالاً شديداً بالمنجنيقات. وأخذ النقب تحت برج منها، فوقع، وحماه الفرنج بالرجال، ووقفوا فيه يحمونه على كل من يروم الصعود فيه، وجعلوا كلما قتل منهم واحد أقاموا غيره مقامه، عوضاً عن السور.
ثم طلبوا الأمان على أن ينزلوا بأنفسهم وثيابهم لا غير، بعد مراجعتهم أنطاكية، وتسلمها السلطان، يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رجب، وأعطاها علم الدين سليمان بن جندر.
وسار عنها بكرة السبت، ثالث عشري الشهر، ونزل في مرج بغراس، وأحدق بعض العسكر ببغراس، وأقام يزكا على باب أنطاكية بحيث لا يشد عنه من يخرج منها. وقاتل البلد مقاتلة شديدة حتى طلبوا الأمان، وشرطوا إستئذان أنطاكية. وتسلمها في ثاني شعبان من السنة.
وفي ذلك اليوم عاد إلى الخيم، وراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح فصالحهم، لشدة ضجر العسكر، وقلق عماد الدين صاحب سنجار لطلب العود إلى بلاده. واستقر الصلح بينه وبين صاحب أنطاكية على أنطاكية لا غير، دون غيرها من بلاد الفرنج، على أن يطلقوا جميع أسرى المسلمين الدين عندهم. وأن يكون ذلك إلى سبعة أشهر، فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد إلى السلطان.

(1/416)


وطلبه ولده الملك الظاهر أن يتوجه معه إلى حلب، فسار معه إليها، ودخلها في حادي عشر شعبان، وأقام بقلعتها ثلاثة أيام في ضيافة الملك الظاهر، وأنعم الملك الظاهر على جماعة كثيرة من عسكره، فأشفق السلطان عليه. وسار من حلب في رابع عشر شعبان، فوصل دمشق قبل دخول شهر رمضان.
فسار في أوائل شهر رمضان حتى نزل صفد، ونصب عليها المناجيق، وداومها بالقتال حتى تسلمها بالأمان في رابع عشر شوال. وكان أصحابه الدين جعلهم على حصار الكرك لازموا الحصار هذه المدة العظيمة، وصابرهم من بها من الفرنج، حتى فنيت أزوادهم وذخائرهم، وأكلوا دوابهم. فراسلوا أخا السلطان الملك العادل وكان قريباً منهم، منارلاً بعض القلاع فطلبوا منه الأمان فأمنهم، وتسلمها. وتسلم أيضاً الشوبك، وغيرها من القلاع التي تجاورها.

فتح كوكب وشقيف أرنون
ثم سار السلطان من صفد إلى كوكب، ف نزل على سطح الجبل، وأحدق العسكر بالقلعة، وضايقها بالقتال، حتى تمكن النقب من سورها، فطلب أهلها الأمان فتسلمها في النصف من ذي القعدة. وسار بعد ذلك بمدة إلى بيت المقدس فدخله يوم الجمعة ثامن ذي الحجة، وسار إلى عسقلان مودعاً أخاه الملك العادل وكان متوجها إلى مصر، فأخذ من أخيه عسقلان، وأعطاه الكرك. وتوجه لتفقد البلاد الساحلية ودخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة وهو بعكا. وتوجه إلى دمشق فدخلها مستهل صفر.
ثم توجه في الثالث من شهر ربيع الأول، إلى مرج فلوس محاصراً لشقيف أرنون، ورحل من مرج فلوس، فأتى مرج عيون، وهو قريب من شقيف أرنون في سابع عشر ربيع الأول.

(1/417)


وضاق على الفرنج المجال، وقلت أزوادهم. فنزل أرناط صاحب الشقيف إليه وكان عظيماً فيهم ذا رأي ودهاء، فأظهر الطاعة والمودة للسلطان، ووعده بتسليم المكان وقال: أريد أن تمهلني حتى أخلص أولادي وأهلي من الفرنج، وأسلم إليك الحصن، وتعطيني موضعاً أسكن فيه بدمشق، وأقطاعاً تقوم بي وبأهلي وتمكنني الآن من الإقامة بالشقيف، حتى أخلص أولادي.
فأجابه السلطان إلى ذلك. وجعل يتردد إلى خدمته. وكانت الهدنة بين أنطاكية وبينه قد قرب وقتها، وخاطره مشغول بذلك. وقد سير إلى تقي الدين أن يجمع من يقارب تلك الناحية من العساكر، ويكون بإزاء أنطاكية.
وبلغه أيضاً أن الفرنج قد تجمعوا بصور في جموع عظيمة، وكان الأمر قد استقر مع أرناط أن يسلم إليه الشقيف، في جمادى الآخرة، وهو مقيم بمرج عيون ينتظر الميعاد، وأرناط في هذه المدة يشتري الأقوات من سوق المسلمين، ويقوي الشقيف، والسلطان يحسن الظن به، ولا يسمع فيه قول من يعلمه بغدره ومكره.
فلما بقي من المدة ثلاثة أيام وحضر عنده أرناط قال له في معنى تسليم الشقيف، فاعتذر بأولاده وأهله، وأن المركيس لم يمكنهم من المجيء إليه، وطلب التأخير مدة أخرى.
فعلم السلطان مكره، فأخذه وحبسه، فأجاب إلى التسليم، فسير مع جماعة من العسكر إلى تحت الشقيف، فأمرهم بالتسليم، فامتنعوا، وطلب قسيساً حدثه بلسانه وعاد بما قال إليهم، فاشتدوا في المنع.
فعلم حينئذ أن ذلك كان تأكيداً مع القسيس، فأعادوه إلى السلطان، وسيره إلى بانياس، وتقدم إلى الشقيف فحصره، وضيق عليه، وجعل عليه من يحفظه،

(1/418)


إلى أن سلمها من بها بعد أن عذب صاحبها أشد العذاب، واشترطوا إطلاق صاحبها، في يوم الأحد خامس عشر شهر ربيع الأول من سنة ست وثمانين.
وأما بقية الفرنج، فإن ملكهم كان وعده السلطان أنه متى سلم عسقلان أطلقه، فاتفق أنه أطلقه بأنطرسوس، حين فتح تلك الناحية، واشترط عليه أن لا يشهر في وجهه سيفاً أبداً، فنكث، واتفق مع المركيس صاحب صور وعسكراً مع جموع الفرنج على باب صور. واتفق بينهم وبين المسلمين حروب وغارات كانت النكاية فيها سجالاً بين الفريقين، بحيث تحاجز الفريقان في آخر تلك الأيام من جمادى الآخرة من هذه السنة.

القتال حول عكا
وسار الفرنج إلى حصار عكا، فنزلوا عليها في يوم الأربعاء ثامن شهر رجب. وسار السلطان فنزل عليهم بظاهر عكا، ومنعهم من الإحاطة بسورها فكان نازلاً على قطعة منها تلي الشمال، ومعه الباب الشمالي من عكا مفتوحاً والمسلمون يدخلون إليها ويخرجون، والفرنج على الجانب الجنوبي، وقد أغلق في وجوههم الباب المعروف بباب عين البقر، وكان الفرنج يقومون بمحارب المسلمين، من جانب المدينة ومن جانب العسكر.
وجرت بينهم وبين الفرنج وقعات متعددة، من أعظمها وقعة اتفقت يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان، خرج الفرنج واصطفوا على تعبئة القتال، والملك في القلب وبين يديه الإنجيل، فوقف المسلمون أيضاً على تعبئة، وتحركت ميسرة الفرنج على ميمنة المسلمين، وفيها الملك المظفر، فتراجع عنهم، وأمده السلطان بأطلاب عدة من القلب، فخف القلب، وعادت ميسرة الفرنج فطمعت فيه فحملوا على القلب، فانكسر، وانكسر معه معظم الميمنة، وبلغت هزيمتهم إلى الأقحوانة، ومنهم من دخل دمشق.
ووصل الفرنج إلى خيم السلطان، فقتلوا ذلك اليوم أبا علي الحسين بن عبد الله بن رواحة. وكان قد مدح النبي صلى الله عليه وسلم ووقف بإزاء قبره، وأنشد قصيدته.

(1/419)


وقال: يا رسول الله إن لكل شاعر جائزة وقرى، وإني أطلب جائزتي الشهادة، فاستجاب الله دعاءه.
وقتل ذلك اليوم مكبس السلطان وطشت داره، وثبتت ميسرة المسلمين، وصاح السلطان فيمن بقي من المسلمين: يال الإسلام. وعادت ميسرة الفرنج إلى عسكره، فتكاثر الناس وراءهم، وحملوا عليهم، فانهزموا، وتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم زهاء سبعة آلاف. ولم يقتل من المسلمين غير مائة وخمسين نفراً.
ثم إن الحرب إتصلت بينهم ليلاً ونهاراً، وكثر القتل بينهم، وأقبل الشتاء، فلقي المسلمون منه شدة. وحضروا إلى السلطان، وأشاروا عليه بالرحيل عن عكا إلى الخروبة، لينفسخ ما بين العسكرين. وكان ذلك للضجر من تلك المواقفة، وملازمة القتال، حتى أوهم السلطان وقالوا له: إنك قد ضيقت على الفرنج مجال الهرب، وحلت بينهم وبين صور، وطرابلس، ولو أفرجت لهم عن الطريق لما وقفوا بين يديك. فرحل السلطان إلى الخروبة.
فأصبح الفرنج وقد انبسطوا على عكا، وأحاطوا بها من سائر جهاتها، واتصل ما بينهم وبين صور، وجاءت مراكبهم منها، فحصرت عكا من جانب البحر، وضعفت قلوب المسلمين بعكا، وعادوا يقتاتون من الحواصل المدخورة، بعد أن كان من المير المجلوبة.
وتوفر الفرنج على قتال أهل عكا بعد أن كانوا مشغولين بالعسكر، وشرع الفرنج في إدارة خندق على عساكرهم، كاستدارتهم بعكا، وجعلوه شكلاً هلالياً: طرفاه متصلان بالبحر، وأقاموا عليه سوراً مما يليهم، وشرفوه بالجنويات والطوارف، والتراس.
واتصلت الأمداد إليهم من البحر، بالأقوات والرجال والأسلحة، حتى كان

(1/420)


ينقل إليهم البقول الرطبة، والخضراوات من جزيرة قبرس فتصبح عندهم في اليوم الثاني.

تحرك الصليبيين الألمان
وسير السلطان إلى الخليفة، وإلى ملوك الإسلام، يستنفر ويستصرخ، واتصلت الأخبار بوصول ملك الألمان إلى القسطنطينية، في ستمائة ألف رجل، منهم ثلاثمائة ألف مقاتل، وثلاثمائة ألف سوقة، وأتباع وصناع.
وحكي أنه كان في عسكره خمسة وعشرون ألف عجلة تنقل الأسلحة والعلوفات، فأسقط في أيدي المسلمين، واستولى اليأس عليهم، وتعلقت آمالهم أنه ربما مانعه من في طريقه من الأرج ومن قلج أرسلان، فلم يتفق شيء من ذلك، بل سار، وقطع البلاد، حتى وصل إلى قونية.
وأرسل الله عليهم وباء عظيماً وحراً عظيماً، ومجاعة أحوجتهم إلى نحر دوابهم، وذبح البقر الذي يجر العجل، فكان يموت في كل يوم ألوف من الرجال، ويسابقون الموتان إلى ما معهم من الدواب الحاملة للأثقال، حتى وصلوا إلى أنطاكية ولم يبق منهم إلا دون العشر.
وكان في جملة من مات منهم ملكهم الذي غزا الشام، في سنة أربع وأربعين، وحاصر دمشق، مات غريقاً في نهر بطرسوس يقال له الفاتر، نزل، وسبح فيه فغرق. وقيل بأنه سبح فيه وكان الماء بارداً، فمرض ومات. وأخذ وسلق في خل، وجمعت عظامه، ليدفن في البيت المقدس.
وأوصى بالملك لابنه مكانه، واتفقت الكلمة عليه، فمرض بالثنيات، وأقام بها، وسير كند أكرا على عسكره، ووصل إلى أنطاكية، فمات ذلك الكند بها. وخرج البرنس إلى الملك، واستدعاه إلى أنطاكية طمعاً في أنه يموت ويأخذ

(1/421)


ماله. وكان قد فرق عسكره ثلاث فرق لكثرته، فالفرقة الأولى: اختارت تحت بغراس مع الكند المذكور. فوقع عليه عسكر حلب فأخذ منهم مائتي رجل، ووقع أيضاً على جمع عظيم خرجوا للعلوفة، فقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأسروا زهاء خمسمائة نفر.
ولما وصل ملك الألمان إلى أنطاكية أخذها من صاحبها، وأودع فيها خزائنه، وسار منها يوم الأربعاء خامس وعشرين من شهر رجب، سنة ست وثمانين وخمسمائة، متوجهاً إلى عكا، وفشا فيهم الوباء حتى لم يسلم من كل عشرة واحد. ولم يخرجوا من أنطاكية حتى ملؤوها قبوراً.
ووصل الملك إلى طرابلس، في نحو ألفي فارس، لو صادفهم مائة من المسلمين لأخذوهم، ووصلوا إلى عكا رجالة ضعفاء، لا ينفعون. ومات ابن ملك الألمان على عكا في ذي الحجة، من سنة ست.

الأساطيل البحرية
ووصل إلى المسلمين بعكا الأسطول المصري في خمسين شينياً غنم في طريقه إليها بطس ومراكب فرنجيه، أسر رجالها وغنم أموالها. وجرى له مصادمات مع مراكب الفرنج المحاصرة لعكا، كانت الغلبة فيها للمسلمين، فدخلوا إلى عكا، وتماسكت بما دخل فيها من الأقوات والسلاح، وكان دخولها في يوم الإثنين رابع عشر شعبان، من سنة ست وثمانين.
وفي هذا الشهر، جهز الفرنج بطساً متعددة، لمحاصرة برج الذبان وهو على باب ميناء عكا فجعلوا على صواري البطس برجاً، وملؤوه حطباً ونفطاً، على أنهم يسيرون بالبطس، فإذا قاربت برج الذبان ولاصقته، أحرقوا البرج الذي على الصاري، وألصقوه ببرج الذبان، ليلقوه على سطحه، ويقتل من عليه من المقاتلة ويأخذونه.

(1/422)


جعلوا في البطسة وقوداً كثيراً، ليلقوه في البرج إذا اشتعلت النار فيه. وعبؤوا بطساً ملؤوها حطباً، على أنهم يدفعونها لتدخل بين بطس المسلمين، ثم يلهبونها لتحرق بطس المسلمين.
وجعلوا في بطسة ثالثة مقاتلة، تحت قبو، بحيث لا يصل إليهم نشاب، ويكونون تحت القبو، ويقدمون البطسة إلى البرج، فأوقدوا النار، وضربوا النفط، فانعكس الهواء عليهم، فاحترقت البطسة، وهلك من فيها، واحترقت البطسة الثانية، وأخذها المسلمون، وانقلبت الثالثة التي فيها القبو بمن فيها.
وفي هذه السنة، في ربيع الأول، أحرق المسلمون ما كان صنعه الفرنج من آلات الحرب والزحف إليهم، وهي أبرجة عظيمة المقدار، يزحف بها على عجل، وفيها المقاتلة، والجروخ، والمجانيق، فعمد لها رجل دمشقي يعرف بعلي بن النحاس، فرماها من السور، بقدور نفط متتابعة، وصار فيها ريح غريبة، كانت سبباً لإحراق تلك الآلات وما فيها ومن فيها.
واشتد حصار الفرنج على عكا، ومل من بها من الأجناد المقام، ووصل إليهم من مصر مراكب فيها غلة، فأتلفوها بالإضاعة وبالتغريق، تبرماً بالمقام.
وفي ربيع الأول، وصلت من بلاد الفرنج مراكب كثيرة، فيها ألوف من مقاتلة الفرنج من أكبرهم ملكان: يعرف أحدهما بملك الفرنسيس والآخر بملك انكتير، فاشتدت وطأتهما على عكا، وعظمت نكايتهما، في سورها. وقل ما بها من الميرة والسلاح.
فأمر السلطان بأن أوسق مركب عظيم من بيروت، واستكثر فيه من السلاح والأقوات والمقاتلة، وأظهر عليه زي الفرنج وشعارهم، وأخذ قوم من أساري الفرنج الذين في قبضة المسلمين، فتركوا على ظاهر المركب، وأنزل معهم في المركب جماعة من المسلمين ممن يعرف لغة الفرنج، وتزيوا بزي الفرنج، وحلقوا شعورهم، وأخذوا معهم خنازير، ورفعوا على قلع المركب صليباً. وأوهموا الفرنج

(1/423)


أنهم واصلون إليهم نجدة من بلادهم، وأقلعوا داخلين إلى مرسى عكا، مسلمين على الفرنج بلغتهم، مبشرين لهم بأن وراءهم من المدد، من تثدد به منتهم وتعز به نصرتهم، فلم يرتب المحاصرون بذلك، وأفرجوا لهم عن المرسى.
فدخلوا إلى عكا، وأوصلوا إلى المسلمين بها، ما كان معهم من الميرة والسلاح والرجال، وتمت هذه الحيلة. وكانت من الفرص التي لا ينبغي أن تعاود فركن المسلمون إليها، وطمعوا في أخرى مثلها، فجهزوا مركباً عظيماً من بيروت أيضاً، وأودعوه مثل ما كان قبله من الآلات والسلاح والأقوات بما مبلغ قيمته خمسة آلاف دينار. وجعل فيه سبعمائة من مقاتلة المسلمين.
وكان خبرهم قد وصل إلى الفرنج، فأخذوا عليهم الأرصاد، فمكثوا أياماً يلججون في البحر، ويقاربون عكا، فلا يجدون في الدخول مطمعاً، حتى صادفتهم مراكب الإنكتير في حال قدومه من بلاده، في إحدى وعشرين مركباً فقاتلوا ذلك المركب الإسلامي يومين، وثبت لهم مع قلته، فغرق المسلمون من مراكب الفرنج ثلاثة.
ولما رأوا أنهم قد يئسوا من النجاة، وأن الفرنج إن ظفروا بالمركب حصل لهم به قوة عظيمة، وحصلوا في الأسر والذلة، عمد رجل حلبي حجار من أهل باب الأربعين، يقال له يعقوب وكان مقدم الجماعة إلى سفل المركب وأخذ قطاعته، وخسف المركب، ودخل فيه الماء، وغرق. ولم يظفر الكفار منه بشيء، سوى رجلين تخطفهما الفرنج من رأس الماء، واحتملوهما في مراكبهم، فأخبرا بهذه الكائنة.
ولما وصل هذا الخبر إلى عكا قطع قلوب من بها، وأسقط في أيديهم، وهرب جماعة من الأمراء منها، فألقوا أنفسهم في شخاتير صغار، فأضعف ذلك قلوب من بقي بها. وعظمت النكاية في سور المدينة، وفشلوا، وكاتبوا السلطان، فأذن لهم في مصالحة الفرنج عن أنفسهم بالبلد.

(1/424)


عودة الفرنج إلى عكا وهدم عسقلان
فصالحوا الفرنج على تسليم البلد، وجميع ما فيه من الآلات، والعدد والأسلحة، والمراكب، وغير ذلك، وعلى مائتي ألف دينار، وألف وخمسمائة أسير، مجاهيل الأحوال، ومائة أسير معينين من جانبهم يختارونهم، وصليب الصلبوت، على أن يخرجوا سالمين بأنفسهم، وذراريهم، وأموا لهم، وقماشهم، وضمنوا للمركيس، عشرة آلاف دينار، لأنه كان الواسطة، ولأصحابه أربعة آلاف.
وحلف الفرنج لهم على ذلك، وتسلموا عكا، في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، سنة سبع وثمانين وخمسمائة. ونكثوا ذلك العهد، وأسروا كل من كان بها من المسلمين، وفرقوا بنيهم، واستصفوا أموالهم، وسلبوهم ثيابهم وأسلحتهم، ثم قتلوا منهم ألفين ومائتين صبراً، على دم واحد، في يوم واحد، حيث توهموا فيهم أنهم فقراء، ليس لهم مفاد، وأسروا من رجوا منه أن يفتدى بمال، أو يكون من السلطان على بال.
وأقاموا بعكا نحو أربعين يوماً، والملك الناصر على حصارهم، ثم خرجوا منها متوجهين إلى عسقلان، فسار في عراضهم، ليمنعهم أن يخرجوا من ساحل البحر، فساروا من عكا إلى يافا، وهي مسيرة يوم واحد، في شهر كامل، لمضايقة السلطان لهم، وجرى بينهم وبين المسلمين مناضلة ومطاردة، فلما أشفق السلطان من أخذهم عسقلان سبق إليها فهدمها، وأخرج أهله منها، في شهر رمضان من سنة سبع. فأقام الفرنج بيافا، وانتقل السلطان إلى الرملة، وشرع الفرنج في بناء يافا وتحصينها، ثم ساروا عنها، فنزلوا بعسقلان، وشرعوا في عمارتها. ثم ساروا إلى الداروم، فحصروها ثلاث مرات، أخذوها في المرة الثالثة بالأمان.
وعاد السلطان، في ثالث ذي الحجة، بالعساكر، إلى البيت المقدس

(1/425)


وعمره، وحصنه، ووعر طريقه، وعمق خندقه. وجعل الملك العادل، بإزاء الفرنج بالرملة.
وتوفي الملك المظفر تقي الدين، على منازكرد، وهو محاصر لها، بعد أن جرى له مصاف مع بكتمر صاحب خلاط، وكسره تقي الدين.
ودخلت سنة ثمان وثمانين والسلطان بالبيت المقدس، والملك العادل في الرملة، وقد صار بيد الفرنج مما كان بيد المسلمين من الفتوح، ما بين عكا والداروم، ولم يمكنهم مفارقة الساحل، خوفاً من أن يحول المسلمون بينهم وبين مراكبهم، فتنقطع مادتهم.
وعصى فيها الملك المنصور بن تقي الدين على السلطان بميافارقين، وحني، وحران، والرها، وسميساط، والموزر، فسير إليه ابنه الملك الأفضل وأقطعه تلك البلاد الشرقية، فسار إلى حلب ومعه أخوه الملك الظافر، ووصلا إلى حلب. فأرسل السلطان أخاه الملك العادل، جريدة، في عشرين فارساً من مماليكه، وأمره أن يرد الملك الأفضل، ويطيب قلب الملك المنصور، ويعطيه ما يريد، فوصل الملك العادل، واجتمع بالملك المنصور، وقرر أمره.

الصلح مع الفرنج
ثم أن السلطان جرت له أحوال مع الفرنج، ووقعات، ومراسلات، يطول الكتاب بتعدادها، إلى أن انتظم الصلح بينه وبين الفرنج، في حادي وعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين، لمدة ثلاث سنين وخمسة أشهر، على أن سلموا إلى المسلمين عسقلان، وغزة، والداروم. واقتصروا من البلاد الساحلية على ما بين صور، ويافا بعد أن فتح السلطان يافا،، وبقي القلعة.
اتفق ملوك الجزائر من الفرنج على تمليك الساحل رجلاً منهم يعرف

(1/426)


بالكندهري، وزوجوه بنت ملكهم القديم، التي قد استقر عندهم أن يجعلوها على كل من ملكوه.
وسار السلطان من القدس إلى بيروت في شوال، ووصل إلى خدمته صاحب أنطاكية الابرنس وولده قومص طرابلس خلع عليهم، وجدد بينه وبينهما الهدنة والعقد.
وفي سادس عشري ذي القعدة، دخل إلى دمشق، بعد مدة تقارب أربع سنين. وكان الملك الظاهر قد ودعه من القدس، ورحل إلى حلب في شهر رمضان. وأخبرني القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم: أنه ودعه، ثم سير إليه، واستأذنه في مراجعته في أشياء فأدخله عليه وكنت، حاضراً ثم قال للملك الظاهر: أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل خير: وأمرك بما أمرك الله به، فإنه سبب نجاتك. وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد لها، فإن الدم لا ينام. وأوصيك بحفظ قلوب الرعية، والنظر في أحوالهم، فأنت أميني وأمين الله عليهم. وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء، وأرباب الدولة والأكابر. فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس. ولا تحقد على أحد، فإن الموت لا يبقي على أحد، واحذر ما بينك وبين الناس، فإنه لا يغفر إلا برضاهم، وما بينك وبين الله يغفره بتوبتك إليه، فإنه كريم وفي شهر ذي القعدة، سلم إلى الملك المنصور ما كان لأبيه بالشام، وهو منبج، وحماة، وسلمية، ومعرة النعمان وانقضت سنة ثمان وثمانين.
والهدنة مع الفرنج مستمرة، والملك الناصر بدمشق، والملك الظاهر بحلب، والملك العزيز بمصر، والملك الأفضل، وهو أكبر ولد السلطان، معه بدمشق.
فمرض السلطان، في اليوم الخامس عشر، من صفر، بحمى حادة، واختلط ذهنه في السابع، وحبس كلامه، وانجذبت مادة المرض إلى دماغه. وتوفي رحمه الله في الثالث عشر من مرضه، في وقت الفجر، من يوم الأربعاء، السابع والعشرين من صفر، في سنة تسع وثمانين وخمسمائة.

(1/427)


ليس في خزانته من المال يوم وفاته سوى دينار واحد صوري، وسبعة وأربعين درهماً نقرة. ودعوته على المنابر من أقصى حضرموت في الجنوب إلى أوائل بلاد أراينه في الشمال عرضاً، ومن طرابلس الغرب إلى باب همذان طولاً. ونقودها من الدراهم والدنانير مضروبة باسمه، وعساكرها مطيعة لأمره، سائرة تحت لوائه. ومن جملة ملكه ديار مصر، والشام جميعه، والجزيرة وديار بكر، واليمن.
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وكان وزيره القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني، صاحب البلاغة في الكتابة.
واستقر ملك ابنه السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب لحلب، والبيرة، وكفر طاب، وعزاز، وحارم، وشيزر، وبارين، وتل باشر. واستقل بملك حلب، وأنعم على رعيته، واستمال قلوبهم بالإحسان، وعمل بوصية أبيه في الأفعال الحسان. وشارك أهل حلب في سرورهم والحزن، وقلد أعناقهم أطواق الأنعام والمنن، وجالس الكبير منهم والصغير. واستمال الجليل والحقير. وكان رحمه الله مع طلاقة وجهه، من أعظم الملوك هيبة، وأشدهم سطوة، وأسدهم رأياً، وأكثرهم عطاء. وكانت الوفود في كل عام تزدحم ببابه من الشعراء، والقراء، والفقراء، وغيرهم. وكان يوسعهم فضلاً وإنعاماً. ويوليهم مبرة وإكراماً.
ولم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد سيف الدولة بن حمدان ما اجتمع ببابه رحمه الله وزاد على سيف الدولة في الحباء والفضل والعطاء.

(1/428)