زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم الثلاثون
التنازل عن القدس
وأما الملك العزيز، فإنه في هذه السنة، جلس في دار العدل في منصب أبيه،
ورفعت إليه الشكاوي، فأجاب عنها، وأمر ونهى، وكان يحضر عنده الفقهاء،
في ليالي الجمع ليلاً، ويتكلمون في المسألة بين يديه.
وحضر عيد الفطر، فخلع على كافة الأمراء، ومقدمي البلد، وأرباب المناصب،
وعمل عيداً عظيماً، احتفل فيه، ولم يعمل بحلب عيد، منذ مات الملك
الظاهر،، قبل هذه السنة.
ووصل الأنبرور إلى عكا، وخيم الملك الكامل بالعوجا. وتوجه الملك
الأشرف، إليه من دمشق، فجدد الأيمان فيما بينهما، وسارت النجدة من حلب،
في آخر المحرم سنة ست وعشرين وستمائة، فنزلت في الغور.
وصالح الملك الكامل الفرنج على أن أعطاهم مدينة القدس سوى الصخرة
والمسجد الأقصى وليس لهم في ظاهرها حكم، وأعطاهم بيت لحم، وضياعاً في
طريقهم إلى القدس، من عكا.
الأشرف والكامل يقتسمان
وعاد الملك الأشرف، واجتمع بعسكر حلب، وبالملك الناصر ابن الملك
المعظم، فقال له: إنني قد اجتهدت في أمرك بالملك الكامل، فلم يرجع عن
قصد دمشق، وكان آخر ما انتهى إليه أن قال: يعطى الملك الناصر البلاد
الشرقية، وتأخذ أنت دمشق.
(1/475)
فعلم الملك الناصر، أئهما قد توافقا على
أخذ دمشق، وكال أيبك المعظمي معه فأشار عليه بالرحيل إلى دمشق، فقوض
خيامه، وسار، ولم يمكن الملك الأشرف منعه، ومضى إلى دمشق، وشرع في
تحصينها.
فسار الملك الأشرف بجيوش حلب، ونزل على دمشق، وقطع عنها الماء، فخرج
عسكر دمشق، وقاتلوا أشد القتال، حتى أعادوا الماء إليها، ووصل الملك
الكامل، في جمادى الأولى، بالعساكر المصرية، وخيموا جميعاً على دمشق.
وسار القاضي بهاء الدين، وفي صحبته أكابر حلب وعدولها إلى دمشق، لعقد
المصاهرة بين الملك العزيز والملك الكامل. ووصل إلى ظاهر دمشق من ناحية
ضمير.
وخرج الملك الكامل من المخيم، والتقاه، وأنزله في المخيم، بالقرب من
مشهد القدم. وأحضره إلى خيمته، وقدم ما وصل على يده، للملك الكامل. ثم
نقله بعد ذلك إلى جوسق الملك العزيز بالمزة.
وكان يتردد إليه الملك الكامل، في بعض الأوقات، إلى أن اتفق الأمر، على
أن حمل الذهب الواصل، لتقدمة المهر، والجواري، والخدم، والدراهم،
والمتاع. وعقد العقد بحضور الملك الأشرف، في مسجد خاتون.
وتولى عقد النكاح عماد الدين ابن شيخ الشيوخ عن الملك الكامل، لابنته
فاطمه خاتون، على صداق، مبلغه خمسون ألف دينار. وقبل القاضي بهاء الدين
العقد عن الملك العزيز، وذلك في سحرة يوم الأحد سادس عشر شهر رجب.
وخلع الملك الكامل على القاضي، وعلى جميع أصحابه، وعلى الحاجي بشر أمير
لالا الملك العزيز، بعد أن فتحت دمشق. وعاد القاضي ومن كان في صحبته
إلى حلب.
واستقر أن يأخذ الملك الكامل من الملك الأشرف، عوضاً عن دمشق: حران،
والرها، والرقة، وسروج، ورأس عين. وسار الملك الأشرف إلى بعلبك، فحضرها
إلى أن أخذها من صاحبها.
(1/476)
وسار العسكر إلى حماة، بأمر الملك الكامل،
فحصرها ليسلمها صاحبها إلى الملك المظفر ابن الملك المنصور، فنزل إليه
صاحبها الملك الناصر وكان نازلاً بمجمع المروج فحبسه عنده إلى أن سلمها
إلى أخيه، وأعطاه بارين. وسار الملك الكامل إلى الرقة.
خبر خلاط وتحرك الفرنج
ونزل خوارزمشاه على أخلاط ووافقه ابن زين الدين، في الباطن، وصاحب آمد
في الظاهر، وخطب له، وضاق الأمر بأهل أخلاط، فطلبوا الأمان فلم يجبهم
إلى ذلك. وافتتحها في ثامن وعشرين من جمادى الأولى، من سنة سبع وعشرين
وستمائة. ووضع السيف في أهلها، وسبى النساء والصبيان.
وفي ثامن جمادى الأولى، ولد للسلطان الملك العزيز، مولود من جارية.
وسماه باسم أبيه، ولقبه بلقبه الملك الظاهر غازي. وزين المدينة، وعقد
القباب، ولبس العسكر في أتم زينة وهيئة، وعمل الزورق من القلعة إلى
المدينة، ونزل الناس فيه، وانقطعت بكرة برجل منهم، فوقع في سفح القلعة،
فمات، فبطل الملك العزيز الزورف.
وولد له أيضاً في هذه السنة، ولد آخر لقبه بالملك العادل. وولد له
أيضاً في هذه السنة، السلطان الملك الناصر وهو الذي أوصى له بالملك،
بعد أن مات الولدان المتقدمان.
واتفق الملك الكامل، والملك الأشرف، وملك الروم كيقباذ، على خوارزمشاه.
وطلب الملك الأشرف نجدة من حلب، فسير الملك العزيز وأتابك، عسكراً
يقدمه عز الدين بن مجلي.
(1/477)
فدخل الملك الأشرف، واجتمع بملك الروم،
وسار إلى ناحية أرزنكان، واصطفت العساكر للقتال، فكسر الخوارزمي في
التاسع والعشرين من شهر رمضان، وهبت ريح عاصفة في وجه عساكره،
وانهزموا، وصادفوا شقيفاً، في طريقهم، فوقع فيه أكثر الخوارزمية
فهلكوا. وصار الملك الأشرف إلى أخلاط، فاستعادها، وهادن لخوارزمي.
وكان للفرنج حركة، وخرج عسكر حلب مع بدر الدين بن الوالي، وأغاروا على
ناحية المرقب، ونهبوا حصن بانياس، وخربوه، وسيروا أسرى إلى حلب، ثم
تواقع المسلمون والفرنج وقعة أخرى، قتل من الفريقين فيها جماعة، وكان
الربح فيها للمسلمين. وسيرت العساكر من حلب في النصف من شهر ربيع
الآخر. واحتبس الغيث في حلب، وارتفعت الأسعار فيها، وخرج الناس،
واستسقوا على بانقوسا، فجاء مطر يسير، بعد ذلك، وانحطت الأسعار قليلاً.
واستقرت الهدنة بين عسكر حلب والداوية، والأسبتار، في العشرين من شعبان
من السنة.
ممارسة العزيز صلاحياته
واستقل السلطان الملك العزيز بملكه، في هذه السنة، وتسلم خزائنه من
أتابك شهاب الدين، ورتب الولاة في القلاع، واستحلف الأجناد لنفسه، وخرج
بنفسه، ودار القلاع والحصون.
وركب أتابك شهاب الدين، في نصف شهر رمضان، من هذه السنة، ونزل من قلعة،
وركب الناس في خدمته، ولم ينزل منها، منذ توفي الملك الظاهر،، إلا هذه
المرة. ثم عاد إلى القلعة، وكان يركب منها في الأحايين، إلى أن دخل
السلطان
(1/478)
الملك العزيز بابنة الملك الكامل، وبقي
أتابك مدة في القلعة، ثم نزل منها، وسكن في داره، التي كانت تعرف بصاحب
عين تاب، تجاه باب القلعة.
واستوزر الملك العزيز، في هذه السنة، خطيب القلعة وابن خطيبها زين
الدين عبد المحسن بن محمد بن حرب، ومال إليه بجملته.
وسير الملك العزيز القاضي بهاء الدين، في هذه السنة في شوال، إلى مصر،
لإحضار زوجته بنت الملك الكامل، فأقام بمصر مدة، إلى أن قدم في صحبتها
والدها الملك الكامل، إلى دمشق، وسيرها من دمشق صحبته، وأصحبها من
جماعته: فخر الدين البانياسي، والشريف قاضي العسكر.
وخرج وزيره، وأعيان دولته، فالتقوها من حماة، وأكابر أهل حلب أيضاً،
والتقتها والدة السلطان عمتها من جباب التركمان، والتقاها بقية
العساكر، بتل السلطان، والتقاها أخو السلطان الملك الصالح، في عسكره،
وتجمله. وعادت العساكر في تجملها، واصطفت أطلاباً طلباً بعد طلب، في
الوضيحي. وخرج السلطان إلى الوضيحي، ودخل مع زوجته، ليلاً، إلى القلعة
المنصورة، في شهر رمضان، من سنة تسع وعشرين وستمائة.
وكانت العامة بحلب، قد ثاروا على محتسبها مجد الدين بن العجمي، لأن
السعر كان مرتفعاً، وقد بلغ الرطل من الخبر إلى عشرة قراطيس، ثم انحط
السعر كان في تقاديم الغلة، إلى أن بيع الرطل بخمسة ونصف. فركب نائب
المحتسب وسعره في البلد بستة قراطيس، فهاجت العامة عليه، وقصدوا دكة
المحتسب، وهموا بقتل نائبه، وخربوا الدكة، ومضوا إلى دار المحتسب،
لينهبوها.
فنزل والي البلد، والأمير علم الدين قيصر، وسكنوا الفتنة، بعد أن صعد
جماعة إلى السلطان، واستغاثوا على المحتسب، فظفروا بأخيه نائب الحشر
الكمال ابن العجمي، فرجموه بالحجارة، فانهزم، واحتفى في بعض دروب حلب،
ثم هرب إلى المسجد الجامع، فهموا به مرة ثانية، في الجامع، فحماه مقدم
الأحداث، وكان ذلك، في يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان، من سنة تسع وعشرين
وستمائة. وداوم الملك العزيزالخروج إلى الصيد، ورمي البندق بنواحي
العمق
(1/479)
وغيرها، وحسن له جماعة من أصحابه، أن يسير
إلى قلعة تل باشر، ويستولي عليها، وينزعها من نواب أتابكه شهاب الدين
طغرل، وأن يبقي عليه رستاقها، وأن لا يكون شيء من القلاع إلا بيده،
فنمى الخبر إلى أتابك، فسير إلى الوالي، وأمره أن لا يعارضه في القلعة،
وأن يسلمها إليه، وكان له بها خزانة، فاستدعاها.
وخرج السلطان إلى عزاز، وكانت في يد والدة أخت الملك الصالح، وأولادها
بني ألطنبغا، عوضهم بها أتابك عن بهسنى، بعد قتل الرومي كيكاوس
الطنبغا، فصعد إلى قلعتها، وولى بها والياً من قبله، وأبقى عليهم ما
كان في أيديهم من بلدها.
ثم سار السلطان من عزاز، إلى تل باشر، وصعد إلى القلعة، وولى فيها
والياً من جهته، وانترعها من أيدي نواب أتابكه.
وبلغه أخذ الخزانة، من تل باشر، فسير من اعترض أصحاب أتابك في الطريق،
فأخذ الخزانة منهم، وكان يظن أن بها مالاً طائلاً، فلم يجد الأمر كما
ذكر، فأعادها على أتابك، فامتنع من أخذها، وقال: أنا ما ادخرت المال
إلا لك.
ثم دخل السلطان إلى حلب، وكان ذلك كله، في شهر رمضان، من سنة تسع
وعشرين وستمائة.
ثم إن السلطان الملك العزيز، خرج في خرجاته، لرمي البندق إلى حارم،
وتوجه منها إلى دركوش ثم إلى أفامية، في سنة ثلاثين وستمائة،
(1/480)
فلم يحتفل به صاحب شيزر شهاب الدين يوسف بن
مسعود بن سابق الدين، وأنفذ إليه إقامة يسيرة وهي شيء من الشعير على
حمير، سخرها من بلد شيزر فشق عليه ذلك.
فلما دخل حلب استدعى سيف الدين علي بن قلج الظاهري، وسيره إلى الملك
الكامل، ليستأذنه في حصار شيزر، وأخذها، وكانت مضافة إلى حلب، وإنما
خاف أن يلقي صاحبها نفسه على الملك الكامل، فيشفع إليه في أمره، فلا
يتم له ما يريد.
فصعد سيف الدين إلى دمشق، وقرر مع الملك الكامل، الأمر على ما يختاره
الملك العزيز، وسير إلى السلطان الملك العزيز، وأعلمه بذلك، فأخرج
العسكر، والزردخاناه، ونزل العسكر على شيزر، واحتاط الديوان، على ما في
رستاق شيزر من المغلات.
ووصل سيف الدين بن قلج من دمشق، وخرج السلطان بنفسه، فنصب عليها
المناجيق، من جهة الجبل، وترك المنجنيق المغربي، قبالة بابها. وسير إلى
صاحبها، وقال له: والله لئن قتل واحد من أصحابي، لأشنقتك بدله. فقتدم
إلى الجرخية بالقلعة، أن لا يرمي أحد بسهم، وتبلد، وأسقط في يده.
وأرسل الملك الكامل إلى السلطان نجابين، ومعهما خمسة آلاف دينار مصرية،
ليستخدم بها رجالة، يستعين بهم على حصار شيزر.
وقدم إليه إلى شيزر الملك المظفر محمود صاحب حماة وأرسل إليه صاحب
شيزر، يبذل له تسليمها، على أن يبقي عليه أمواله، التي بها، ويحلف له
على أملاكه، بحلب. فأجابه إلى ذلك.
ونزل من شيزر إلى خدمة السلطان، وسلمها إليه، ووفى له السلطان بما
اشترطه، وصعد السلطان إلى القلعة، وأقام أياماً بشيزر، ثم دخل إلى
مدينة حلب.
(1/481)
ومرض أتابك شهاب الدين طغرل بن عبد الله في
أواخر هذه السنة، ودام مرضه، إلى أن مات، ليلة الاثنين الحادية عشرة،
من محرم سنة إحد وثلاثين وستمائة، وحضر السلطان الملك العزيز، محمد ابن
الملك الظاهر، جنازته، صبيحة الليلة المذكورة. ومشى خلف جنازته، من
داره إلى أن صلى عليه خارج باب الأربعين. ودفن بتربته، التي أنشأها بتل
قيقان، ووقفها مدرسة على أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وبكى
السلطان عليه بكاء عظيماً، وحضر عزاءه، يومين بعد موته، بالمدرسة التي
أنشأها أتابك، وجعل فيها تربة للسلطان الملك الظاهر رحمهم الله.
الحرب ضد كيقباذ
وفي هذه السنة: نزل الملك الكامك، من مصر، واتفق مع أخيه الملك الأشرف،
على قصد بلاد السلطان كيقباذ بن كيخسرو، للوحشة التي تجددت بينهم، بسبب
استيلاء كيقباذ على بلاد أخلاط، وانتزاعها من أيدي نواب الملك الأشرف.
وسارا من دمشق، وخرج معهما الملك المجاهد، صاحب حمص، والملك المظفر،
صاحب حماة، ووصل معهم الملك الناصر، صاحب الكرك، ووصلوا إلى منبج بإذن
السلطان الملك العزيز.
وسير الملك العزيز، إليه إلى منبج، الإقامة العظيمة، والزردخاناه،
وعسكره، ومقدمه عمه الملك المعظم، وساروا من ناحية تل باشر، فنزل إليه
الملك الزاهر داود ابن الملك الناصر.
وقدم إليه صاحب سميساط الملك المفضل موسى، وصاحب عين تاب الملك عالح
ابن الملك الظاهر، والملك المظفر شهاب الدين ابن الملك العادل، والملك
الحافظ أخوه، وغيرهم، من الملوك. حتى اجتمع في عسكره ستة عشر أميراً.
(1/482)
وسير ملك الروم إلى الملك العزيز، وقال له:
أنا راض منك بأن تمد بالأجناد والأموال، على أن لا تنرل إليه أبداً.
وأعفاه الملك الكامل، من مثل ذلك. ورضي كل واحد من الملكين بفعله.
وسار الملك الكامل في جيوشه، في أوائل سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، إلى
أن نزل على نهر الأزرق، في طرف بلاد الروم، وجاء عسكر الروم حتى نزل
قبلي زلى بينها وبين الدربند والسلطان معهم، وصعد الرجالة إلى فم
الدربند، بالقرب من نور كغال، وبنوا عليه سوراً، وقاتلوا منه، ومنعوا
من يطلع إليه، وقلت الأقوات على العسكر الشامي.
فرجع الملك الكامل، وخرج إلى طرف بلد بهسنى، ونزل على بحير انرنيت،
ووصل إليه صاحب خرتبرت، ودخل في طاعته، وأشار عليه بالدخول من جهته،
فسار إلى ناحية خرتبرت ووقعت طائفة من عسكر الروم، على طائفة من عسكر
الملك الكامل وفيهم الملك المظفر صاحب حماة وشمس الدين صواب، فكسر
العسكر الكااملي، واعتصم من نجا منهم بخرتبرت، فحاصرهم ملك الروم إلى
أن نزلو بالأمان، وأطلقهم، واستولى كيقباذ على خرتبرت، وعفا عن صاحبها،
وعوضه عنها بأقطاع في بلاده.
ومرض الملك الزاهر في العسكر، فحمل مريضاً إلى البيرة، وقوي مرضه، وطمع
بعض أولاده بملكها، وشرع في تحصينها وتقويتها، وبلغ الملك الزاهر ذلك،
فسير إلى السلطان الملك العزيز، واستدعاه إليه، وأصعده إلى
(1/483)
القلعة، وأوصى إليه بالقلاع التي في يده،
والخزائن وعين لأولاده شيئاً من ماله، وتوفي بالبيرة، والسلطان بها
عنده، في أوائل صفر، من سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
وأقام السلطان بها يرتب أحوالها، وأقام فيها والياً من قبله، فاتفق
وفاة القاضي بهاء الدين بحلب، في يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر، من
سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
وطلب الكمال بن العجمي قضاء حلب، وكاتب السلطان في ذلك، فلم يجبه إلى
ذلك. وسار السلطان من البيرة إلى حارم، فخرج ابن العجمي إليه، إلى
حارم، فمنعه الدخول إليه، وبذل له في قضاء حلب ستين ألف درهم، وأن يحمل
في كل سنة، للسلطان، من فواضل أوقاف الصدقة، ومن كتابة الشروط، خمسين
ألف درهم، فلم يصغ السلطان إلى شيء من ذلك.
وكتب إلى القاضي زين الدين، كتاباً يأمره بأن يحكم بين الناس، على جاري
عادته، إلى أن يدخل إلى المدينة.
فلما دخل السلطان اجتهد ابن العجمي في قبول ما بذله، وبذل شيئاً كثيراً
غير ذلك، لخواص السلطان، وحسنوا للسلطان قبول ما بذله، وإجابته إلى ما
سأله، فجرى على مذهب أبيه وجده في الإحسان، ولم يبع منصب النبي صلى
الله عليه وسلم بالأثمان ونظر في مصلحة الرعية، وأرضى الله ونبيه، وقلد
القضاء بمدينة حلب وأعمالها، في يوم الجمعة، الرابع عشر، من شهر ربيع
الأول من سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، القاضي زين الدين أبا محمد عبد
الله بن عبد الرحمن بن علوان المعروف بابن الأستاذ وكان نائب القاضي
بهاء الدين في الحكم.
وأما الملك الكامل، فإنه عاد في تلك الجيوش العظيمة، ولم يحظ بطائل،
ودخل فصل الشتاء، وحال بين الفريقين، وعاد كل إلى بلاده.
ولما خرج فضل الشتاء، خرج علاء الدين كيقباذ إلى الجزيرة، والرها،
(1/484)
والرقة، وسبى عسكره أهل البلاد كما يسبى
الكفار، وذلك في ذي الحجة، من سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
وسار الملك الكامل نحوها، فاندفع ملك الروم، فعاد الملك الكامل واستولى
على البلاد، وخرب قلعة الرها وبلدها، وسير إليه السلطان العسكر إلى
الشرق، والزردخاناه، وذلك في الجماديين، سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
ودام الملك العزيز، في ملكه بحلب، وسمت همته إلى معالي الأمور، ومال
إلى رعيته، وأحسن إليهم إلى أن دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة.
فغضب على وزيره زرين الدين بن حرب، وألزمه داره بقلعة حلب، وولى
الديوان مكانه، الوزير جمال الدين الأكرم أبا الحسن علي بن يوسف القفطي
الشيباني.
موت العزيز محمد بن غازي
وخرج في أواخر شهر صفر إلى النقرة، ثم توجه منها إلى حارم، وحضر في
الحلقة، لرمي البندق، واحتاج إلى أن اغتسل بماء بارد، فحم، ودخل إلى
حلب، فالتقاه الناس، وهو موعوك، ودامت به الحمى، إلى أن قوي مرضه
واستحلف الناس لولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز.
وسيرني إلى أخيه الملك الصالح إلى عين تاب، يستحلفه له، ولابنه الملك
الناصر، وعدت، وقد مات، في شهر ربيع الأول، من سنة أربع وثلاثين
وستمائة
(1/485)
القسم الثاني والثلاثون تدبير الدولة وتولى
تدبير دولته الأميران: شمس الدين لؤلؤ الأميني، وعر الدين عمر بن محلى
ووزير الدولة القاضي جمال الدين الأكرم وجمال الدولة إقبال الخاتوني،
يحضر بينهم في المشورة. وإذا اتفق رأيهم على شيء، دخل جمال الدولة
إقبال الخاتوني، إلى جده السلطان الملك الناصر، والدة الملك العزيز،
وعرفها ما اتفق رأي الجماعة عليه، فتأذن لهم في فعله، والعلامات على
التواقيع، والمكاتبمات إلى الستر العالي الخاتوني، والدة الملك العزيز.
فاتفق رأيهم، على أن سيروا القاضي زين الذين - قاضي حلب - والأمير بدر
الدين بدر بن أبي الهيجاء، إلى مصر، رسولين إلى الملك الكامل، ليحلفاه
للملك الناصر، ويتوثقا من جهته، واستصحبا معهما كزاغند السلطان الملك
العزيز، وزرد يته، وخوذته، ومركو به.
فلما وصلا إليه، أظهر الألم والحزن لموته، وقصر في إكرامهما وعطائهما
وحلف للملك الناصر، على الوجه الني اقترح عليه، خاطب الرسولين بمأ
يشيران به، عنه، من تقدمة الملك الصالح ابن الملك الظاهر "، على
العسكر، وأن تكون تربية الملك الناصر إليه، فلم ير الجماعة ذلك.
واتفق بعد ذلك بمدة، أن سيّر الملك الكامل خلعة للملك الناصر، بغير
مركوب، وسير عدة خلع لأمراء الدولة، وسير مع رسول مفرد خلعة " للملك
الصالح"، على أن يجيء إليه إلى "عين تاب"، فاستشعر أرباب الدولة
التدبير
(1/487)
من ذلك، وحصل عند جده السلطان وحشة من ذلك.
واتفق رأيهم، على أن لبس السلطان خلعته، ولم يخلع على أحد من الأمراء
شيء، مما سيره لهم، وردوا الرسول الوارد إلى الملك الصالح بخلعته، ولم
يمكنوه من الوصول إليه، واستوحشوا من جهة الملك الكامل.
خلافة الأخوين
وكان الملك الأشرف، قد تتابعت من أخيه، الملك الكامل أفعال أوجبت ضيق
صدره، وكان يغض على نفسه، ويحتملها، فمنها أنه أخذ بلاده الشرقية، حين
أعطاه دمشق، وأخذ من مضافات دمشق، مواضع متعددة.
واتفق أن كيقباذ ملك الروم، أخذ خلاط، فضاق ما في يد الملك الأشرف
جداً، وكان ينزل إليه في كل سنة إلى دمشق، في عبوره إلى الشرق، فيقيم
بدمشق مدة، فيحتاج الملك الأشرف، في ضيافتة إلى جملة.
وقبض على أملاكه التي كانت له بحران، والرقة، وسروج، والرها، ورأس عين،
وعلى جميع تمليكاته التي ملكها بتلك الناحية، وفتح آمد، وهو في صحبته،
فلم يطلق له من بلادها شيئاً، وخذله في انتزاع خلاط من يد الرومي.
فاتفق هو، والملك المجاهد صاحب حمص والملك المظفر صاحب حماة وعزموا على
الخروج عليه، وعين لكل واحد منهم شيء من بلاده، وأرسل إلى الملكة
الخاتون والأمراء بحلب، وطلبوا موافقتهم على ذلك، وخوفوهم من جهته،
وذكروا ما تمتد أطماعه إليه فوافقوهم.
وتحالفوا عليه، وسيروا رسلاً من جهتهم إلى ملك الروم كيقباذ، يطلبون
منه مثل ذلك. فوصلوا إليه ومات كيقباذ، قبل اجتماعهم به فذكروا رسالتهم
لابنه كيخسرو، فحلف لهم على ذلك.
واتفقوا كلهم على أن أرسلوا رسلاً من جهتهم، إلى الملك الكامل، إلى
مصر، ومعهم رسول من حلب، وقالوا له: إننا قد اتفقنا كلنا، ونطلب منك
أنك لا تعود تخرج من مصر، ولا تنزل إلى الشام.
(1/488)
فقال لهم: مبارك، أنتم قد اتفقتم، فما
تطلبون من يميني، احلفوا أنتم أيضاً لي: أن لا تقصدوا بلادي، ولا
تتعرضوا لشيء مما في يدي وأنا أوافقكم على ما تطلبون.
ونزل رسوله، ومرض الملك الأشرف، واشتغل بمرضه، وطال إلى أن مات على ما
نذكره.
ومما تجدد في حلب، في سنة أربع وثلاثين وستمائة: أن شهاب الدين صاحب
شيزر، وكمال الدين عمر بن العجمي، اتفقا، على أن سيرا من جهتهما رجلاً،
يقال له العز بن الأطفاني إلى دمشق إلى الملك الأشرف، وحدثاه في أن
يقصد حلب، وأنهما يساعدانة بأموالهما.
وأوهمه صاحب شيزر أن معظم الأمراء بحلب، يوافقونه على ذلك، وأوهمه ابن
العجمي أن أقاربه، وجماعة كبيرة من الحلبيين، يتابعونه، ويشايعونه،
ويوافقونه، على ذلك، واشترط على الملك الأشرف، أن يوليه قضاء حلب.
فمضى رسولهما إلى الملك الأشرف، واجتمع ببعض خواصه، وذكر له الأمر الذي
جاء فيه، فلم يحضره إليه، وأجابهما بأنه: لا تتصور أن يبدر مني غدر،
ولا قبيح في حق أحد من ذرية الملك الظاهر.
وأخبرني فلك الدين بن المسيري أنه هو الذي كان المتكلم بين الملك
الأشرف، وبين رسولهما.
ونمي هذا الخبر إلى الملكة، والأمراء، فسيروا من يوقف الرسول واتفق
وصوله إلى حلب فقبض في باب العراق وأصعد إلى القلعة، وسئل عن ذلك،
فأخبرهم بالحديث على فضه، فحبس الرسول، وحلقت لحيته، وسير إلى دربساك
وحبس بها.
وأصعد ابن العجمي، وصاحب شيزر، واعتقلا بالقلعة، وأخذت أموال صاحب شيزر
جميعها، ولم يتعرض لأموال ابن العجمي، تطييباً لقلوب أهله. وداما في
الاعتقال، من جمادى، من سنة أربع وثلاثين إلى أن مات الملك الكامل، في
سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأطلقا.
(1/489)
ومما حدث أيضاً، في سنة أربع وثلاثين، أن
أميراً من التركمان، يقال له قنغر، جمع إليه جمعاً من التركمان، بعد
موت الملك العزيز وعاث في أطراف بلاد حلب، من ناحية قورس، وغيرها. ونهب
ضياعاً متعددة، وكان يغير ويدخل إلى بلد الروم، فخرج إليه عسكر من حلب،
فكسر ذلك العسكر، ونهبه. وتخوف أمراء حلب، أن يكون ذلك بأمر ملك الروم،
فسيروا رسولاً إلى ملك الروم، في معناه، فأنكر ذلك، وأمر برد ما أخذه،
من بلد حلب، فرد بعضه، وانكف عن العيث والفساد.
وبذل ملك الروم من نفسه الموافقة، والنصرة للملك الناصر، وكف من يقصد
بلاده بأذى، فسير له تقدمة سنية، من حلب، على يد شرف الدين ابن أمير
جاندار، فأكرم الرسول إكراماً كثيراً.
وسير إليه رسول في الباطن، وهو أوحد الدين قاضي خلاط فاستحلفه على
الموالاة للملك الناصر، والذب عن بلاده، ودفع من يقصدها.
تحرك الفرنج
واتفق أيضاً، في هذه السنة، تحرك الداوية، من بغراس، وأغاروا في بلد
العمق واستاقوا أغناماً للتركمان، ومواشي لغيرهم كثيرة.
فخرج الملك المعظم ابن الملك الناصر يقدم عسكر حلب، ونزلوا على بغراس،
وحصروها مدة، حتى ثغروا مواضع من سورها، ونفد ما فيها من الذخائر،
وأشرفت على الأخذ، فسير البرنس صاحب أنطاكية وشفع فيهم، بعد أن كان
مغاضباً لهم.
فرأوا المصلحة، في إجابته إلى ذلك، وعقدوا الهدنة مع الداوية، على
بغراس، ورحلوا عنها، ولو أقاموا عليها يومين آخرين، استطاع من فيها
الصبر على المدافعة.
(1/490)
وسار العسكر عن بغراس، بعد أن أخربوها،
وبلدها، خراباً شنيعاً. ونزل العسكر الإسلامي بالقرب من دربساك،، فجمع
الداوية جموعهم، واستنجدوا بصاحب جبيل وغيره، من الفرنج، وجمعوا راجلاً
كثيراً، وساروا من جهة حجر شغلان إلى دربساك، ظناً منهم أن يكبسوا
الربض، على غرة من أهله، وأن ينالوا منه غرضاً، فاستعد لهم من بالربض
من الأجناد.
ونزل جماعة من أجناد القلعة، وقاتلوهم في الربض، قتالاً شديداً، وحموه
منهم، واشتغلوا بقتالهم، إلى أن وصل الخبر إلى عسكر حلب، فركبوا،
ووصلوا إليهم، وقد تعب الفرنج، وكلت خيولهم، فوقعوا عليهم، فانهزم
الفرنج هزيمة شنيعة، وقتل منهم خلق عظيم.
واستولى المسلمون على فارسهم وراجلهم، وكان فيهم جماعة من المقدمين
واختبأ منهم جماعة من الخيالة، وغيرهم، خلف الأشجار في الجبل، فأخذوا،
ولم ينج منهم إلا القليل، ودخلوا بالرؤوس والأسرى إلى حلب، وكان يوماً
مشهوداً وحبسوا في القلعة، ثم أنزلوا إلى الخندق.
وفتت هذه الوقعة في أعضاد الداوية، بالساحل، ولم ينتعشوا بعدها، وكانوا
قد استطالوا على المسلمين والفرنج.
وفاة كيقباذ والأشرف
ومات في هذه السنة علاء الدين كيقباذ ملك الروم بقيصرية، في أوائل
شوال، من سنة أربع وثلاثين وستمائة.
وسيرت رسولاً إلى ابنه غياث الدين كيخسرو، القائم في الملك بعده،
بالتعزية، وتجدد الأيمان عليه، على القاعدة التي كانت مع أبيه، فحلفته
على ذلك، في ذي القعدة.
وكان قد قبض هلى قيرخان مقدم الخوارزمية فهرب من بقي منهم، من بلاد
الروم، ونهبوا في طريقهم ما قدروا عليه، وعبروا الفرات، واستمالهم
الملك الصالح ابن الملك الكامل، وأقطعهم مواضع في الجزيرة.
(1/491)
وتوفي الملك الأشرف بدمشق، لأربع خلون من
المحرم، من سنة خمس وثلاثين وستمائة. وأوصى بها لأخيه الملك الصالح
إسماعيل، وجدد الأيمان مع الجماعة، الذين كانوا وافقوا أخاه الملك
الأشرف.
الملك الكامل في دمشق ووفاته فيها
فخرج الملك الكامل من مصر، وقصد دمشق، وسير من حلب نجدة إلى دمشق وكذلك
سير الملك المجاهد ولده المنصور إليها، ونزل الملك الكامل على دمشق،
وحصرها مدة فرجع الملك المظفر صاحب حماة عن موافقة الجماعة وداخل الملك
الكامل، وأطلعه على جميع الأحوال، ووقع بينه وبين صاحب حمص اختلاف.
وطلب من صاحب حمص سلمية، لتجري الموافقه على ما كان عليه.
فسيرت من حلب، ومعي الأمير علاء الدين طبيغا الظاهري، ليوفق بين صاحب
حمص وصاحب حماة، فأبى كل واحد منهما، أن يجيب صاحبه إلى ما يريد. وكان
مطلوب صاحب حماة أن يعطيه صاحب حمص سلمية والقلعة التي جددها الملك
المجاهد المعروفة بشميميش. فقال الملك المجاهد: هذه ثمينة لي، وقد حلف
لي على كل ما بيدي،، وأبى أن يجيبه إلى ذلك.
فعدنا إلى حماة، وذكرنا لصاحبها مقالة الملك المجاهد، وأن في ما يحاوله
نقضاً للعهد، فقال: هو قد نقض عهدي، وأنفذ ليفسد جماعة من عسكري، وعدد
له ذنوباً لا أصل لها، وقال: لا بد من قصده، وإذا نزل الملك الكامل على
حمص، نزلت معه عليها وفعلت ما يصل إليه جهدي. ولكن حلب، أبذل نفسي
ومالي دون الوصول إلى قرية منها، ولا أرجع عن اليمين التي حلفت بها
للستر العالي، والملك الناصر.
(1/492)
فقلت: فالمولى يعلم ما جرى بيننا وبين صاحب
حمص، من الأيمان، وما نقض منها عهداً، وإذا قصده قاصد إلى حمص يتعين
إنجاده ونصرته. وإذا وصل عسكر من حلب لنجدته، فكيف يفعل المولى؟
فتلجلج، وقال: أنا قاتله، ومن قاتلني قاتلته.
فكتبنا بذلك إلى حلب، فجاء الأمر بالتوجه إلى حلب، فسرنا في الحال من
غير توديع، حتى وصلنا العبادي ليلة الاثنين، مستهل جمادى الأولى، من
سنه خمس وثلاثين وستمائة، فلحقنا المهماندار بالخلع والتسفير، فلم نقبل
منه شيئاً. ووصلنا إلى حلب يوم الثلاثاء، فتحقق أنه قد داخل الملك
الكامل، وأنه يطالعه بالمتجددات جميعها.
وأما دمشق، فإن الملك الكامل، لازم حصارها، حتى صالحه الملك الصالح،
على أن أبقى له بعلبك، وبصرى، وأخذ منه دمشق، في تاسع عشر جمادى
الأولى، من السنة، ولم يتعرض لنجدة حلب، وحمص، بسوء. وخرجوا من دمشق
إلى مستقرهم.
ووصل الناصح، وعسكر حلب، إلى حلب، واستدعى الملك المعظم وأقارب السلطان
والأمراء، وحلفوا للسلطان الملك الناصر وللخاتون المملكة على طبقاتهم.
ثم حلف بعد ذلك أكابر البلد، ورؤساوها. ثم حلف الأجناد والعامة.
واستعد الناس للحصار بالذخائر، والأقوات، والحطب، وما يجري مجراه ونقلت
أحجار المناجيق إلى أبواب البلد، واستخدم جماعة من الخوارزمية وغيرهم.
ووصل قنغر التركماني، فاستخدم بحلب، وقدم على التركمان. وقفز جماعة من
العسكر الكاملي إلى حلب، فاستخدموا.
وتتابعت الرسل إلى ملك الروم لطلب نجدة، تصل إلى حلب، من
(1/493)
جهته، فسير نجدة من أجود عساكره، وعرض
عليهم أن يسير غيرها، فاكتفوا بمن سيره.
وسير ملك الروم رسولاً إلى الملك الكامل، يخاطبه في الامتناع عن قصد
حلب، فأمر بالتبريز من دمشق، لقصد حلب، وأخرج الخيم والأعلام، فمرض،
ومات بدمشق، في قلعتها، في حادي وعشرين، شهر رجب، من سنة خمس وثلاثين
وستمائة.
ووصل خبر موته، فعمل له العزاء بحلب، وحضره، السلطان الملك الناصر،
يومين، وأمر العسكر، في الحال، بالخروج إلى معرة النعمان فخرج، ونازل
معرة النعمان، مع الملك المعظم، ووصل رسول الملك المظفر صاحب حماة
يتلطف الحال، فلم يلتفت إليه، ولم يستحضر. وسيرت المجانيق، ونصبت على
قلعة المعرة.
زواج الملك الناصر وفتح معرة النعمان
ووصل في أثناء ذلك، رسول من السلطان غياث الدين كيخسرو، يطلب الوصلة
إلى الخاتون الملكة، بأن تزوجه بنت السلطان الملك العزيز، أخت السلطان
الملك الناصر، وأن يزوج السلطان الملك الناصر، أخت السلطان غياث الدين.
واستقر الأمر على ذلك، واجتمع الناس في دار السلطان، بالقلعة، وعقد عقد
السلطان غياث الدين على الست غازية خاتون. وتوليت عقد النكاح على مذهب
الإمام أبى حنيفة رضي الله عنه لصغر الزوجة، على خمسين ألف دينار. وقبل
النكاح، عن السلطان غياث الدين الرسول الواصل من جهته، عز الدين قاضي
دوقات، حينئذ ونثر الذهب، عند الفراغ من العقد.
ووصل، عند ذلك، الخبر بفتح معرة النعمان، في تلك الساعة، على جناح طائر
وضربت البشائر للأمرين، وذلك في سنة خمس وثلاثين وستمائة.
(1/494)
وسار العسكر فنازل حماة، وابتنى صاحبها
سوراً من اللبن، على حاضرها، من جهة القبلة، ونهب عسكر حلب بلد حماة
ورستاقها.
ووصل رسول من الملك الصالح ابن الملك الكامل، يشفع في صاحب حماة، فلم
يجب إلى سؤاله فيه، واعتذر إليه بما بدا منه، وطلب الرسول، عن صاحبه،
الموافقة والمعاضدة، وأن يسفروا في الصلح، بينه وبين ملك الروم، فأجيب
جواباً، لم يحصل منه على طائل.
ووردت الرسل من مصر، من الملك العادل، والملك الكامل، يطلبون منه
الموافقة، بينه وبين صاحب حلب، وأن يجروا منه، على عادة أبيه، في
الصلح، وقامة الدعوة له بحلب، فلم يجب إلى شيء عن ذلك، ورجعت الرسل
بغير طائل. وفي هذه السنة، قبض على قنغر التركماني، وحبس بقلعة حلب،
ونهبت خيمه ودوابه.
ابن العديم رسول السلطان
وسيرت من حلب، في الرابع من شوال، سنة خمس وثلاثين وستمائة، إلى بلاد
الروم، لعقد الوصلة بين السلطان الملك الناصر، والسلطان غياث الدين
كيخسرو، على أخت السلطان كيخسرو، وهي ابنة خالة الملك العزيز، والد
الملك الناصر.
وسمع السلطان كيخسرو بوصولي، وكان في عزم كيخسرو التوجه إلى ناحية
قونية، فتعوق بسببي، وسير بولقا إلى أقجا دربند، قبل وصولي ابلستان
يستحثني على الوصول، ويعرفني تعويقه بسببي، ثم سير بولقا آخر، فوصل إلى
تحت سمندو يستحثني على الوصول.
(1/495)
فأسرعت السير، حتى وصلت إلى قيصرية،
والسلطان في الكيقباذية، فاستدعاني إليه، ولم أنزل بقيصرية، واجتمعت
به، عند وصولي، يوم الثلاثاء، سادس عشر شوال، من سنة خمس وثلاثين
وستمائة.
ووقعت الإجابة إلى عقد العقد. ووكل السلطان كمال الدين كاميار، على عقد
العقد معي، على أخته ملكة خاتون بنت كيقباذ. ودخلنا في تلك الساعة إلى
قيصرية، وأحضر قاضي البلدة، والشهود، وعقدت العقد مع كاميار، على خمسين
ألف دينار سلطانية، مثل صداق كيخسرو، الذي كتب عليه لأخت السلطان الملك
الناصر.
وأظهر في ذلك اليوم من التجمل، وآلات الذهب، والفضة، ما لا يمكن وصفه.
ونثرت الدنانير الواصلة، صحبتي، وكانت ألف دينار.
ونثر في دار السلطان من الذهب، والدراهم، والثياب، والسكر، شيء كثير.
وضربت البشائر في دار السلطان، وأظهر من السرور والفرح، ما لا يوصف.
وسيرت، في الحال، بعض أصحابي إلى حلب، مبشراً بذلك كله، فضربت البشائر
بحلب، وأفيضت الخلع على المبشر.
وعدت إلى حلب، فدخلتها يوم الخميس، تاسع ذي القعدة، والتقاني السلطان
الملك الناصر أعز الله نصره يوم وصولي.
هذا كله، والعسكر الحلبي محاصر حماة. وكان قبل هذا العقد، سير السلطان
كيخسرو الأمير قمر الدين الخادم ويعرف بملك الأرمن رسولاً إلى حلب،
وعلى يده توقيع من السلطان الملك الناصر، بالرها، وسروج. واتفق الأمر،
معه، على أن خطب له الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل
وأقطعه حران، وأقطع الملك المنصور صاحب ماردين سنجار، ونصيبين، والملك
المجاهد صاحب حمص عانة، وغرباً من بلد الخابور.
وكانت هذه البلاد في يد الملك الصالح ابن الملك الكامل. واتفق الأمر،
على أن يأخذ السلطان كيخسرو آمد، وسميساط، وأعمالها.
قوة الخوارزمية
وكان الخوارزمية، قد خرجوا على الملك الصالح، واستولوا على البلاد
(1/496)
وهرب الملك الصالح منهم. فأنعم على الرسول
الواصل إلى حلب، وأعطي عطاء وافراً، وقبل التوقيع منه.
ولم تر الملكة الخاتون مضايقة ابن أخيها في البلاد، ولم تتعرض لشيء
منها. وبلغه ذلك فسير إليها، وعرض عليها تلك البلاد، وغيرها، وقال:
البلاد كلها بحكمك، وإن شئت إرسال نائب يتسلم هذه البلاد، وغيرها،
فأرسليه لأسلم إليه ما تأمرين بتسليمه. فشكرته، وطيبت قلبه.
واتفق بعد ذلك مع الخوارزمية وأقطعهم: حران، والرها، وغيرهما، بعد أن
كانوا اتفقوا مع الملك المنصور صاحب ماردين وقصدوا بلاد الملك الصالح
أيوب، وأغاروا عليها، ونزلوا على حران، وأجفل أهلها.
وخاف الملك الصالح، فاختفى، ثم ظهر بسنجار، وحصره بدر الدين لؤلؤ صاحب
الموصل وكان قد ترك ولده الملك المغيث، بقلعة حران، فخاف من
الخوارزمية، وسار مختفياً نحو قلعة جعبر، فطلبوه، ونهبوه ومن معه،
وأفلت في شرذمة من أصحابه.
ووصل إلى منبج مستجيراً بعمته. فسير إليه من حلب، ورد عن الوصول إليها
بوجه لطيف، وقيل له: نخاف أن يطلبك منا سلطان الروم، ولا يمكننا منعك
فعاد إلى حران، ووصله كتاب أبيه يأمره بموافقة الخوارزمية والوصول إليه
بهم لدفع لؤلؤ، ففعل ذلك، وسار بالخوارزمية، طالبين عسكر الموصل،
(1/497)
فانهزموا وأفرجوا عن سنجار، وأدركهم
الخوارزمية فقتلوا منهم ونهبوا أثقالهم، وقوي الملك الصالح بهم.
ووصل عسكر الروم إلى آمد، ونازلها، وأخذ بعض قلاعها، وتوجه عسكر
الخوارزمية إلى جهتهم، فرحلوا عن آمد. ولم ينالوا منها زبدة.
الدعوة للسلطان كيخسرو
ووصل رسول السلطان كيخسرو، عز الدين، قاضي دوقات، إلى حلب في هذه
السنة، وتحدث في إقامة الدعوة للسلطان كيخسرو، وضرب السكة باسمه. وكان
الأمراء والعسكر محاصرين حماة، فتوقفت الملكة في ذلك، وأشير عليها
بموافقته على ما طلب، فأجابت وخطب له في يوم الجمعة من سنة خمس وثلاثين
وستمائة، على منبر حلب.
وحضر في ذلك اليوم، الأمير جمال الدولة إقبال، وصعد الرسول إلى المنبر،
ونثر الدنانير عند إقامة الدعوة. ونثر جمال الدولة دنانير ودراهم، وخلع
على الدعاء، وأظهر من السرور، والاحتفال في ذلك اليوم، شيء عظيم، في
مقابلة ما أظهر بقيصرية من الاحتفال يوم عقد الملك الناصر.
وطال الحصار على حماة، ولم تكن الملكة الخاتون، توثر أخذها من ابن
أختها، وإنما أرادت التضييق عليه، لينزل عن طلب معرة النعمان. وضجر
العسكر، فاستدعي إلى حلب المحروسة، فوصل إليها في سنة ست وثلاثين
وستمائة.
دمشق بين الملوك الجواد والصالح والصالح
إسماعيل
وكان الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل، بعد موت الملك
الكامل، قد استولى على دمشق، وعلى الخزائن، التي كانت في صحبة الملك
(1/498)
الكامل، وأظهر الطاعة للملك العادل وأرسل
إلى حلب، رسولاً يطلب منهم معاضدته، وانتماءه، فلم يصغوا إلى قوله،
وامتنعوا أن يدخلوا بينه وبين الملك العادل. وخاف من الملك العادل،
فراسل الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، واتفقا على أن يسلم إلى
الملك الصالح دمشق، ويعوضه عنها بالرقة سنجار وعانة، فسار الملك
الصالح، من الشرق، والخوارزمية في صحبته في جمادى الأولى.
وتقدم الملك الصالح إلى دمشق، وتسلمها من الملك الجواد، في جمادى
الآخرة من سنة ست وثلاثين.
وأرسل إلى عمته إلى حلب، يعرفها بذلك، ويبذل من نفسه الموافقة على ما
تريده، ويطلب المساعدة له، والمعاضدة على أخذ مصر، فأجابته بأنها: لا
تدخل بينه وبين أخيه، وأنكما ولد أخي، ولم تجبه إلى ما اقترح.
وسار الملك الجواد إلى الرقة، فأخرجه الخوارزمية منها، وسار إلى سنجار،
فأقام بها مئة، وخرج إلى عانة، فسار بدر الدين لؤلؤ إلى سنجار بعملية
كانت له فيها، فاستولى عليها، في شهر ربيع الأول، من سنة سبع وثلاثين.
وأما الملك الصالح، فإنه صعد إلى نابلس، وأقام بها، وكاتب الأمر
المصريين، وعثر الملك العادل على قضيتهم، فقبض الذين كاتبوه، ولم يتفق
للملك الصالح ما أراد.
وساق عمه الملك الصالح إسماعيل، من بعلبك والملك المجاهد صاحب حمص
منها، ودخلا دمشق، وملكها الملك الصالح، وحصر القلعة يوماً أو يومين،
وفتحها، وذلك في شهر ربيع الأول، من سنة سبع وثلاثين وستمائة وقبض على
الملك المغيث ابن الملك الصالح، وسجنه بقلعة دمشق.
(1/499)
سمع الملك الصالح بن الكامل بذلك، فتوجه
نحو دمشق، حتى وصل إلى العقبة، فلم يجد معه من عسكره من ينصحه، فعاد
إلى نابلس، فسير الملك الناصر صاحب الكرك وقبض عليه، وحمله مقيداً إلى
الكرك وسجنه بها. وتجددت الوحشة بين الملك الناصر، وبين الملك الصالح،
عمه، بسبب استيلائه على دمشق. واتفق الملك العادل وعمه الملك الصالح.
فاستوحش الملك الناصر من الملك العادل لذلك، حتى آل الأمر به إلى أن
أخرج الملك الصالح بن الكامل من سجن الكرك، وخرج معه، وكاتب الأمراء
بمصر، فقبضوا على الملك العادل ببلبيس، في ليلة الجمعة، الثامنة من ذي
القعدة، من سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ووصل الملك الصالح أيوب، فدخل القاهرة، بكرة الأحد الرابع والعشرين من
الشهر المذكور.
وكنت إذ ذاك بالقاهرة، رسولاً إلى الملك العادل، أهنئه بكسر عسكره
الإفرنج على غزة، وأطلب أن يسير عماته بنات الملك العادل، معي إلى
أختهن الملكة إلى حلب، فاستحضرني الملك الصالح أيوب، يوم الثلاثاء حادي
عشر ذي الحجة، وقال لي: تقبل الأرض بين يدي الستر العالي، وتعرفها أنني
مملوكها، وإنها عندي في محل الملك الكامل، وأنا أعرض نفسي لخدمتها،
وامتثال أمرها فيما تأمر به، وحملني مثل هذا القول إلى السلطان الملك
الناصر.
ونزلت في مصر، فاجتمعت بالملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل، في
رابع محرم سنة ثمان وثلاثين، وحملني رسالة إلى الملكة الخاتون، يطلب
منها معاضدته، ومساعدته على الملك الصالح صاحب مصر إن قصده، فلم تجبه
إلى ذلك في ذلك الوقت.
تحرك الخوارزمية
وكان الخوارزمية، في سنة سبع وثلاثين، قد وضعوا أيديهم على أوشين، من
بلد البيرة وطمعوا في أطراف باب البيرة، واستولوا على قلعة حران،
(1/500)
حين كان الملك الصالح محبوساً بالكرك،
وامتدت أطماعهم إلى البلاد المجاورة لهم، وكثر تثقيلهم على الملك
الحافظ أرسلان ابن الملك العادل، بناحية قلعة جعبر، وهو يداريهم، ويبذل
لهم الأموال، وأطماعهم تشتد.
واتفق أنه فلج، وخاف من ولده، فأرسل إلى أخته الملكة بحلب يطلب منها أن
تقايضه بقلعة جعبر وبالس، إلى شيء تعمل له، بمقدار قلعة جعبر، وبالس.
فاتفق الأمر على أن تعوضه بعزاز، ومواضع تعمل بمقدار ذلك. وسير من حلب
من تسلم قلعة جعبر، في صفر من سنة ثمان وثلاثين وستمائة. ووصل الملك
الحافظ إلى حلب، في هذا الشهر، وصعد في المحفة ألى القلعة، واجتمع
بأخته الملكة، وأنزل في الدار المعروفة بصاحب عين تاب تحت القلعة وسلمت
إلى نوابه قلعة عزاز.
فخرج الخوارزمية، عند ذلك، وأغاروا على بلد قلعة جعبر، ووصلوا بالس،
فأغاروا عليها، ونهبوها، ولم يسلم منها إلا من كان خرج عنها إلى حلب
وإلى منبج.
وفي هذا الشهر، توفي القاضي. جمال الدين أبو عبد الله، محمد بن عبد
الرحمن بن علوان قاضي حلب وولي قضاءها بعده نائبه ابن أخيه كمال إلا
أبو العباس، أحمد ابن القاضي زين الدين أبي محمد.
وخرج عسكر حلب إلى جهة الخوارزمية، ومقدمهم الملك المعظم تورانشاه، ابن
الملك الناصر، فنزلوا بالنقرة، ورحلوا منها إلى منبج، وأقاموا بها مدة.
وتجمع الخوارزمية في حران، والحلبيون غير محتفلين بأمرهم وعسكر حلب
بعضه في نجدة ملك الروم في مقابلة التتار، وبعضهم في قلعة
(1/501)
جعبر، وبعضهم مفرقون في القلاع، مثل شيزر،
وحارم، وغيرهما.
وسار الخوارزمية، بجملتهم، في جمع عظيم، ومعهم الملك الجواد بن مودود
ابن الملك الحافظ، والملك الصالح ابن الملك المجاهد صاحب حمص، وكان
جمعهم يريد على اثني عشر ألفا، وانضم إليهم الأمير علي بن حديثة في
جموعه من العرب، وكان استوحش من أهل حلب، لتقريبهم الأحلاف.
وعبروا بجملتهم من جسر الرقة، وساروا، حتى وصلوا نهر بوجيار، وسمع بهم
من بمنبج، من عسكر حلب، فرحلوا من منبج، ونزلوا في وادي بزاعا، وأصبح
كل واحد من الفريقين، يطلب صاحبه، وعسكر حلب لا يزيدون عن ألف وخمسمائة
فارس.
وتعبأ كل فريق لقتال صاحبه. وأقبل الخوارزمية ومقدمهم بركة خان، ومعه
صاروخان، وبردي خان، وكشلوخان. وغيرهم، من أمرائهم، والملك الجواد،
وابن الملك الحافظ، وابن صاحب حمص، وعسكر ماردين، نجدة معهم وعبروا نهر
الذهب.
والتقى الفريقان، على البيرة قرية بالوادي في يوم الخميس رابع عشر، من
شهر ربيع الآخر، من سنة ثمان وثلاثين وستمائة، فصدمهم عكسر حلب على
قلته، صدمة، تزحزحوا لها، وتكاثر الخوارزمية عليهم.
وجاء علي بن حديثة لما، وخرج من بين البساتين، وجاء من وراء عسكر حلب،
ووقع في الغلمان، والركابدارية، وأحاطوا بهم، من جميع الجهات، وانهزموا
وهم مطبقون عليهم، وجعلوا طريقهم على رصيف الملكة، الذي يأخذ من بزاعا
إلى حلب، حتى خرجوا فيما بين ربانا، وتلفيتا.
(1/502)
والخوارزمية في آثارهم يقتلون، ويأسرون،
ونزلوا من جهة الإعرابية، وفرفارين، وهم في آثارهم، فقبضوا على الملك
المعظم، بعد أن ثبت في المعركة، وجرح جراحات مثخنة، وعلى أخيه نصرة
الدين، وقبضوا على عاقة الأمراء، ولم يسلم من العسكر إلا القليل.
وقتل في المعركة الملك الصالح، ابن الملك الأفضل، وابن الملك الزاهر،
وجماعة كثيرة. واستولوا على ثقل العسكر، ونهب الأحلاف من العرب أكثر
ثقل العسكر، وكانوا أشد ضرراً على العسكر، في انتهاب أموالهم من
أعدائهم.
ونزل الخوارزمية حول حيلان، وامتدوا على النهر، إلى فافين، وقطعوا على
جماعة من العكسر أموالاً أخذوها منهم، وابتاعوا بها أنفسهم، وشربو تلك
الليلة، وقتلوا جماعة من الأسرى صبراً، فخاف الباقون، وقطعوا أموالاً
على أنفسهم، وزنوها فمنهم من خلص، ومنهم من أخذوا منه المال، وغدروا
به، ولم يطلقوه.
واحتيط بلد حلب، وتقدم إلى مقدمي البلدة بحفظ الأسوار، والأبواب وجفل
أهل الحاضر، ومن كان خارج المدينة إلى المدينة، بما قدروا على نقله من
أمتعتهم.
وبقي في البلد الأميران: شمس الدين لؤلؤ، وعز الدين بن مجلى، في جماعة،
لا تبلغ مائتي فارس يركبون، ويخرجون إلى ظاهر المدينة، يتعرفون
أخبارهم، وبثوا سراياهم، في أعمال حلب يشنون الغارة فيها، فبلغت خيلهم
إلى بلد عزاز، وتل باشر، وبرج الرصاص، وجبل سمعان، وبلد الحوار طرف
العمق.
وجاؤوا أهل هذه النواحي على غفلة، فلم يستطيعوا أن يهربوا بين أيديهم،
ومن أجفل منهم لحقوه، فأخذوا من المواشي والأمتعة، والحرم، والصبيان،
ما لا
(1/503)
يحد ولا يوصف وارتكبوا من الفاحشة مع حرم
المسلمين، ما لم يفعله أحد من الكفار، إلا ما سمع عن القرامطة.
ثم رحلوا إلى بزاعا، والباب،، فعقبوا أهل الموضعين، واستقروهم على
أموالهم التي أخذوها، واستصفوها منهم. وقتلوا منهم جماعة ونهبوا ما كان
فيها من المتاع والمواشي، وكان بعضهم، قد هرب إلى حلب، وقت الوقعة، بما
خف معه من الحرم، والمتاع، فسلم.
ثم رحلوا إلى منبج، وقد استعصم أهلها بالسور، ودربوا المواضع التي لا
سور لها، فهجموها بالسيف، في يوم الخميس الحادي والعشرين، من شهر ربيع
الآخر، من سنة ثمان وثلاثين.
وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً، وخربوا دورها، ونبشوها، فعثروا فيها على
أموال عظيمة، وسبوا أولادهم ونساءهم، وجاهروا الله تعالى بالمعاصي في
حرمهم. والتجأ لمة من النساء إلى المسجد الجامع، فدخلوا عليهن، وفحشوا
ببعضهن في المسجد الجامع، وكان الواحد منهم يأخذ المرأة، وعلى صدرها
ولدها الرضيع، فيأخذه منها، ويضرب به الأرض، ويأخذها، ويمضي.
النجدات ضد الخوارزمية
ووصل الخبر بكسرة عسكر حلب إلى حمص إلى الملك المنصور إبراهيم ابن
الملك المجاهد، وقد عزم على الدخول إلى بلد الفرنج للغارة، وعنده من
عسكره وعسكر دمشق مقدار ألف فارس، فساق بمن معه من العسكر ووصل إلى حلب
في يوم السبت الثالث والعشرين، من شهر ربيع الآخر.
وخرج السلطان وأهل البلد، والتقوه إلى السعدي، ونزل الهزازة، ثم أخليت
له في ذلك اليوم دار علم الدين قيصر الظاهري. بمصلى العبد العتيق خارج
باب الرابية فأقام بها، واستقر الأمر معه على أن يستخدم
(1/504)
العساكر وتجمع، ووقع التوثق منه، وله،
بالأيمان والعهود.
وسيرت رسولاً إلى الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل لتحليفه فسرت،
ووصلت إلى دمشق، وحلفته في جمادى الآخرة من السنة، وطلبت منه نجدة من
عسكره، زيادة على من كان منهم بحلب، فسير نجدة أخرى، وأطلق الأسرى
الداوية، الذين كانوا بحلب استكفاء لشرهم.
وحين سمع الخوارزمية تجمع العساكر بحلب، عادوا من أقطاعاتهم وتجمعوا
بحران، وعزموا على العبور إلى جهة حلب، ومعاجلتهم قبل أن يكثر جمعهم،
وظنوا أنهم يبادرون إلى صلحهم.
وكان علي بن حديثة، قد انفصل عن الخوارزمية وظاهر بن غنام، قد خدم
بحلب، وأمر على سائر العرب، وزوجته الملكة الخاتون بعض جواريها،
وأقطعته أقطاعاً ترضيه.
فسار الخوارزمية، من حران، في يوم الاثنين سادس عشر شهر رجب، من سنة
ثمان وثلاثين وستمائة، وتتابعوا في الرحيل، ووصلوا إلى الرقة، وعبروا
الفرات، وبلغ خبرهم إلى حلب، فبرز الملك المنصور خيمته، وضربها شرقي
حلب، على أرض النيرب وجبرين، وخرجت العساكر، بخيمها حوله. ووصل
الخوارزمية إلى الفايا ثم إلى دير حافر ثم إلى الجبول وامتدوا في أرض
النقرة. وأقام الملك المنصور، والعسكر معه، في الخيم ويزك الخوارزمية
في تل عرن ويزك الملك المنصور على بوشلا والعربان يناوشون الخوارزمية.
وعاث الخوارزمية في البلد، وأحرقوا الأبواب التي في القرى، وأخذوا ما
قدروا عليه، وكان الفساد في هذه المرة، أقل من المرة الأولى. وكان
البلد قد
(1/505)
أجفل، فلم ينتبهوا إلا ما عجز أهله عن
حمله، وتأخر لقاء العسكر الخوارزمية، لأنهم لم يتكملوا العدة.
ورحل الخوارزمية، فنزلوا بقرب الصافية، ومضوا إلى سرمين، ونهبوها،
ودخلوا دار الدعوة، وكان قد اجتمع فيها أمتعة كثيرة للناس، ظناً منهم
أنهم لا يجسرون على قربانها، خوفاً من الإسماعيلية، فدخلوها قهراً،
ونهبوا جميع ما كان فيها، ورحلوا إلى معرة النعمان، ونزل العسكر مع
الملك المنصور على تل السلطان ثم رحلوا إلى الحيار.
ورحل الخوارزمية إلى كفر طاب، وجفل البلد بين أيديهم، وأحرقوا كفر طاب،
وساروا إلى شيزر، وتحيز أهلها إلى المدينة التي تحت القلعة، فهجموا
الربض، واحتمت المدينة التي تحت القلعة يوماً، ثم هجموها في اليوم
الثاني، ونهبوا ما أمكنهم نهبه.
وأرسل عليهم أهل القلعة بالجروخ، والحجارة، فقتلوا منهم جماعة وافرة،
وبلغهم استعداد عسكر حلب، للقائهم، وأنهم قد وقفوا بينهم وبين بلادهم،
للقائهم، فطلبوا ناحية حماة، وجاوزوها إلى جهة القبلة.
فسارت العساكر الحلبية، لقصدهم، فقصدوا ناحية سلمية، ثم توجهوا إلى
ناحية الرصافة، وبلغ خبرهم عسكر حلب، فركبوا، وطلبوا مقاطعتهم.
ووقع جمع من العرب بهم، بقرب الرصافة، وقد تعبت خيولهم، وضعفت لقوة
السير، وقلة الزاد والعلف، فألقوا أثقالهم كلها، والغنائم التي كانت
معهم من البلاد، وأرسلوا خلفاً ممن كانوا أسروه من بلد حلب، وشيزر،
وكفر طاب، وساروا طالبي الرقة مجدين في السير، واشتغل العرب، ومن كان
معهم من الجند، بنهب ما ألقوه.
ووصل الخوارزمية، إلى الفرات، مقابل الرقة غربي البليل وشماليه بكرة
الاثنين خامس شعبان.
(1/506)
وأما الملك المنصور وعسكر حلب، فإنهم وصلوا
إلى صفين، وساقوا سوقاً قوياً، ليسبقوا الخوارزمية إلى الماء، ويحولوا
بينهم وبين العبور إلى الرقة.
فوصلوا بعد وصول الخوارزمية بساعة، فوجدوا الخوارزمية قد احتموا بستان
البليل، وأخذوا منها الأبواب، وجعلوها ستائر عليهم، وحفروا خندقاً
عليهم، فقاتلوهم إلى بعد العشاء، وأخذوا من الأغنام، التي لهم، شيئاً
كثيراً، ولم يكن عندهم علوفة لدوابهم، ولا زاد لأنفسهم، فعادوا في
الليل إلى منرلتهم بصفين.
ونام جماعة من الرجالة في البليل، فوقع عليهم الخوارزمية فقتلوهم. وعبر
الخوارزمية إلى الرقة، وقد هلكت دوابهم إلا القليل، وأكثرهم رجالة،
وسروا إلى حران، وأحضروا لهم دواب ركبوها، وتوجهوا إلى حران.
وأراد الملك المنصور العبور من جسر قلعة جعبر، فلم يمكنه لقلة العلوفة،
فسار بالعساكر إلى البيرة، وعبر من عبرها بالعسكر والجموع. وسار حتى
نزل ما بين سروج والرها.
ووصل الخوارزمية ليكبسوا اليزك، فعلموا بهم، وناموا في الليل، وركب
العسكر، فعادوا والعسكر في آثارهم، إلى سروج، ولم ينالوا زبدة، ووصلوا
إلى حران، وجمعوا جمعاً كثيراً، حتى أخذوا عوام حران، وألزموهم بالخروج
معهم، ليكثروا بهم السواد.
ووصلوا إلى قرب الرها إلى جبل يقال له جلهمان واجتمعوا عليه ورتبوا
عسكرهم، وكثروا سوادهم بالجمال، وعملوا رايات من القصب، على الجمال،
ليلقوا الرعب في قلوب العسكر، بتكثير السواد.
خسارة الخوارزمية
وركب العسكر من منزلته، بعد أن وصل رسول، من عسكر الروم، يخبر بوصوله
في النجدة، بعد حط الخيم للرحيل، فلم يتوقفوا. وساروا إلى أن وصلوا
(1/507)
إلى الخوارزمية، يوم الأربعاء الحادي
والعشرين، من شهر رمضان، سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
والتقوا، وكسر الخوارزمية، واستبيح عسكرهم، وهربوا، والعساكر في
آثارهم، إلى أن حال الليل بينهم وبينهم، فعاد العسكر، ووصل الخوارزمية
إلى حران، وأخذوا نساءهم، وهربوا، ورتبوا في قلعة حران والياً من جهة
بركة خان وساروا، ووصل الملك المنصور والعساكر إليها، فوكل بالقلعة من
يحصرها.
وساروا خلف الخوارزمية إلى الخابور، والخوارزمية منهزمون، وألقوا
أثقالهم، وبعض أولادهم، ونزلوا في طريقهم على الفرات، فجاءهم السيل في
الليل، فأغرق منهم جمعاً كثيراً، ودخلوا إلى بلد عانة واحتموا فيه لأنه
بلد الخليفة.
وزينت مدينة حلب أياماً لهذه البشرى. وضربت البشائر، ووصلت أعلامهم
وأسراؤهم، إلى حلب. واعتصمت القلعة بحران أياماً، ثم سلمت إلى
الحلبيين، وأخرج من كان بها من الأمراء، من أمراء حلب وأقارب السلطان.
وبادر بدر الدين لؤلؤ إلى نصيبين، وإلى دارا فاستولى عليهما، واستخلص
من دارا عم السلطان الملك المعظم تورانشاه، واستدعاه إلى الموصل، وقدم
له مراكب، وثياباً، وتحفاً، كثيرة، وسيره إلى العسكر.
واستولى العكسر الحلبي، على حران، وسروج، والرها، ورأس عين، وجملين
والموزر، والرقة، وأعمال ذلك، واستولى الملك المنصور على بلد الخابور
وقرقيسيا.
واستولى نواب صاحب الروم على السويداء، بعد استيلاء عسكر حلب عليها،
لكونها من أعمال آمد. ووصل نجدة ملك الروم، بعد الكسرة، فسيرت إليهم
الخلع، والنفقات.
(1/508)
وساروا إلى آمد، والتقوا بعساكر الروم،
وحاصروها إلى أن اتفقوا مع صاحبها ولد الملك الصالح على أن أبقوا بيده
حصن كيفا وأعماله، وسلم إليهم آمد. وأقام الخوارزمية. ببلاد الخليفة،
إلى أن دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة.
وخرجوا إلى ناحية الموصل، واتفقوا مع صاحبها، إلى أن أظهر إليهم
المسالمة، وسلم إليهم نصيبين.
واتفقوا مع الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل صاحب
ميافارقين وسير إلى حلب، وأعلمهم بذلك، وطلب موافقته، واليمين له، على
أنه إن قصده سلطان الروم، دافعوا عنه.
وكان قد استشعر من جهته، فلم يوافقه الحلبيون على ذلك. ووصل إليه
الخوارزمية، واتفقوا على قصد آمد، فبرزت العساكر من حلب، ومقدمها الملك
المعظم تورانشاه، وخرجت إلى حران، في صفر، من سنة تسع وثلاثين.
وساروا بأجمعهم إلى آمد، ودفعوا الخوارزمية عنها، ورحلوا عنها إلى
ميافارقين، فأغاروا على رستاقها، ونهبوا بلدها، واعتصم الخوارزمية
بحاضرها، خارج البلد.
ووصلت العساكر وأقامت قريباً من ميافارقين، وجرت لهم معهم وقعات، إلى
أن تهادنوا، على أن يقطع ملك الروم الخوارزمية، ما كان أقطاعاً لهم في
(1/509)
بلاده، وأنهم يكونون مقيمين في أطراف
بلاده، وعلى أن الملكة الخاتون بحلب، تعطي أخاها الملك المظفر، ما
تختاره، من غير اشتراط عليها، وعلى أن يكونوا وشهاب الدين غازي سلماً،
لمن هو داخل في هدنتهم وكان صاحب ماردين قد حلف للملك الناصر.
ورجع العسكر الحلبي، فلم ينتظم من الأمر الذي قرروه شيء، ووصل رسل
الملك المظفر، ورسل الخوارزمية. وعادوا عن غير اتفاق. وأطلق أسرى
الخوارزمية من حلب.
وخرج الملك المظفر والخوارزمية، ووصلوا إلى بلد الموصل. وعاد صاحب
ماردين إلى موافقتهم، ونزلوا على الموصل، ونهبوا رستاقها، واستاقوا
مواشيها، ثم توجهوا إلى ناحية االخابور، واتفق الأمر على أن ورد الملك
المنصور صاحب حمص إلى حلب. وخرج السلطان الملك الناصر، وأكابر المدينة،
والتقوه إلى الوضيحي. ووصل إلى ظاهر حلب، ونزل بدار علم الدين قيصر،
وجمع العساكر، وتوجه إلى بلاد الجزيرة.
ووصل الملك المظفر والخوارزمية بعد أن عبر الملك المنصور الفرات إلى
رأس عين، واعتصم أهلها، مع العسكر الذي كان بها، وكان معهم جماعة، من
الرماة، والجرخية، من الفرنج، فأفنوا أهلها، ودخلوها، وأخذوا من كان
بها من العسكر.
ورحل الملك المنصور والعسكر من الفرات إلى حران، فعاد الملك المظفر
والخوارزمية إلى ميافارقين، وأطلقوا من كان بها، في صحبتهم، من العسكر
الدين أخذوهم من رأس عين.
(1/510)
ثم توجه الملك المنصور والعسكر إلى آمد،
واجتمعوا بمن كان بها من عسكر الروم، وأقاموا ينتظرون وصول عساكر
الروم، مع الدهليز، لمنازلة ميافارقين.
وتوفي الملك الحافظ أرسلان شاه، ابن الملك العادل، بقلعة عزاز ونقل
تابوته إلى مدينة حلب. وخرج السلطان إلى الملك الناصر وأعيان البلدة،
وصلوا عليه، ودفن في الفردوس، في المكان الذي أنشأته أخته الملكة
الخاتون. وتسلم نواب الملك الناصر قلعة عزاز، من نوابه من غير ممانعة،
وذلك كله، في ذي الحجة، من سنة تسع وثلاثين وستمائة.
موقعة المجدل
واتفق أن خرج التتار إلى أرزن الروم، واشتغل الروم بهم، أغاروا إلى بلد
خرتبرت، وخاف الملك المنصور والعسكر، من إقامتهم في تلك البلاد، وأنهم
لا يأمنون من كبسة تأتي من جهة التتار فعادوا إلى رأس عين فخرج الملك
المظفر والخوارزمية، إلى دنيسر، فخرج الملك المنصور إلى الجرجب، وساروا
إلى جهتهم. فوصلهم الخبر أنهم قد نزلوا الخابور. فساروا إلى جهتهم،
ونزلوا المجدل.
(1/511)
وكان قد انضاف إلى الخوارزمية جمع عظيم، من
التركمان، يقدمهم أمير يقال له ابن دودي، حتى بلغ من أمره أنه قال
للملك المظفر: أنا أكسرهم بالجوابنة الذين معي. وكان عدتهم سبعين ألف
جوبان غير الخيالة من التركمان. ورحل الملك المظفر، حتى نزل قريباً من
المجدل، فعلم به الملك المنصور، فأشار الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني
بمبادرتهم، والرحيل إليهم في تلك الساعة، فرحلوا ووافوهم، وقد نزلوا،
في يوم الخميس، الثالث والعشرين، من صفر، من سنة أربعين وستمائة.
فركبوا، والتقى الصفان، فما هو إلا أن التقوا، وولى الملك المظفر
منهزماً، والخوارزمية، وحالت الخيم بينهم وبينهم، فسلموا، وقتل منهم
جماعة، ووقع العسكر في الخيم، والجركاهات، وبها الأقمشة والنساء،
فنهبوا جميع ما في العسكر، وأخذوا النساء وجميع ما كان معهن من
الأموال، والحلي، والذهب، ولم يفلت من النساء أحد.
ونزل الملك المنصور، في خيمة الملك المظفر، واستولى على خزانته، وعلى
جميع ما كان في وطاقه، وغنم العسكر من الخيل، والبغال، والجمال،
والآلات، والأغنام، ما لا يحصى.
وبلغت الأغنام المنهوبة إلى الموصل وحلب وحماة وحمص، بحيث بيع الرأس من
الغنم في العسكر، بأبخس الأثمان، وضربت البشائر بحلب، وزينت أياماً
سبعة.
وتوجه الملك المنصور، والعساكر إلى حلب، وخرج السلطان الملك
(1/512)
الناصر إلى قلعة جعبر. وتوجه إلى منبج
للقائهم، واجتمع بهم، فوصلوا إلى حلب، يوم الأربعاء مستهل جمادى
الأولى، من سنة أربعين وستمائة.
وطلع للخاتون الملكة قرحة في مراق البطن، وازداد ورمها، وحدث لها حمى
بسببها.
وسار الملك المنصور ليلة الجمعة ثالث الشهر. وتوجه في صحبته نجدة من
حلب، لتقصد بلاد الفرنج بناحية طرابلس.
وقوي مرض الملكة الخاتون، إلى أن توفيت إلى رحمة الله تعالى، ليلة
الجمعة الحادية عشرة، من جمادى الأولى، من سنة أربعين وستمائة. ودفنت
في الحجرة بالقلعة، تجاه الصفة، التي دفن فيها ولدها الملك العزيز
رحمهما الله. وكان مولدها بقلعة حلب، حين كانت في ولاية أبيها الملك
العادل، إما في سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وخمسمائة، وبلغني أنه كان
عنده ضيف، فلما أخبر بولادتها، سماها ضيفة لذلك.
حوادث متفرقة
وأمر السلطان الملك الناصر في ملكه، ونهى بإشارة وزيره جمال الدين
الأكرم والأمير جمال الدولة اقبال الخاتوني.
وعلم السلطان في التواقيع، وأشهد عليه بتمليك الأمير جمال الدولة نصف
الملوحة، والحصة الجارية في ملك بيت المال بالناعورة. وأقر على نفسه
بالبلوغ، وملك الوزير الحصة التي بأيدي نواب بيت المال تقيل ورحاها.
وجعل يجلس في دار العدل، في كل يوم اثنين وخميس، بعد الركوب وترفع إليه
المظالم.
وخلع على أمرائه وكبراء البلد، وأقطع الأمير جمال الدولة عزاز وقلعتها
وما كان في يد الملك الحافظ ابن الملك العادل، وجميع ما كان من
الحواصل، في
(1/513)
الأماكن المذكورة، وذلك في الحادي
والعشرين، من جمادى الأولى من سنة أربعين وستمائة.
وعاثت الخوارزمية والتركمان على بلاد الجزيرة، فخرج عسكر حلب، ومقدمهم
الأمير جمال الدولة في جمادى الآخرة، وساروا، واجتمعوا في رأس عين.
فتجمع الخوارزمية، وانضووا إلى صاحب ماردين، واحتموا بالجبل، فوصل عسكر
حلب، ونزلوا مقابلتهم، تحت الجبل، وخندقوا حولهم، وجرت لهم معهم وقعات.
وتضرر عسكر حلب، بالمقام، لقلة العلوفة، إلى أن ورد نائب المملكة
بالروم وهو الأمير شمس الدين الأصبهاني إلى شهاب الدين غازي والي صاحب
ماردين والخوارزمية، وأصلح بينهم على أن يعطى صاحب ماردين رأس عين.
وأرضى ملك الروم الخوارزمية بخرتبرت، وشيء من البلاد، والملك المظفر
غازي بخلاط.
وتوجهت العساكر، والنائب الأصبهاني، في جملتها وخرج السلطان الملك
الناصر، وتلقاهم إلى منبج، ودخل النائب إلى حلب، يوم السبت التاسع عشر
من شوال.
ودخل السلطان والعسكر، يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شوال، وورد مع
النائب أموال عظيمة، لتستخدم بها العساكر للقاء التتار وبطلب نجدة من
البلاد عليهم، فسير من حلب نجدة، ومقدمها الناصح الفارسي، في ذي الحجة،
من سنة أربعين وستمائة.
فالتقاهم السلطان غياث الدين، بسيواس، أحسن لقاء، وأعطاهم عطاء سنياً،
وفوض تدبير العسكر إلى الناصح أبي المعالي الفارسي، وفرح أهل بلاد
الروم وقويت قلوبهم بنجدة حلب.
وسار السلطان من سيواس إلى أقشهر، ووصله الخبر بوصول
(1/514)
التتار فسير بعض أمرائه، وعسكر حلب،
ليكشفوهم. فوصلوا إليهم، ونشب القتال بينهم.
ووقعت بينهم حملات، فانهزم التتار، بين أيديهم، ثم تكاثروا، وحملوا
عليهم، فانكسر عسكر الروم وثبت الحلبيون، وجرى بينهم كرات، وخرج عليهم
كمينان، من اليمين واليسار فأحدقوا بهم، فلم يسلم منهم إلا من حمل،
وخرج من بينهم، وذلك، في يوم الخميس، الثالث عشر من المحرم، سنة إحدى
وأربعين وستمائة.
وانهزم ملك الروم في الليل، ليلة الجمعة، وأجفل أهل بلاد الروم، إلى
حلب وأعمالها، وعاث التركمان في أطراف الروم، ونهبوا من خرج إلى الشام.
(1/515)
|