زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم التاسع والعشرون
اتفاق الأمراء
ووصل القاضي بهاء الدين من الرسالة، في اليوم الثالث، والوزير ابن أبي
يعلى، قد استولى على التدبير، وحكم على الصغير والكبير، فصعد إلى
القلعة، واجتمع بشهاب الدين طغرل، وصرفه عن اضافة الأمور إلى الوزير.
وقرر أن الأمراء يجتمعون، ويتشاورون فيما يدبرونه، وأن لا يخرج الأمر
عن رأي شهاب الدين أيضاً، فاجتمعوا بدار العدل، واتفقت أراؤهم على أن
يكون الملك المنصور بن العزيز أتابك العسكر، وأمر الأقطاع إليه، وأمر
المناصب الدينية يكون راجعاً إلى شهاب الدين طغرل، وحلفوه على ذلك،
وركب، والأمراء كلهم في خدمته.
ونزل الملك العزيز، والملك الصالح، وجلسا في دار العدل، والملك العزيز
في منصب أبيه، وأخوه إلى جانبه، والملك المنصور، إلى جانبهما ثم اضطربت
الحال، ولم يرض إخوة الظاهر، بولاية المنصور.
ووصل في أثناء ذلك رسول الملك الرومي كيكاوس وكان مخيماً بالقرب من
البلاد ينتظر وصول السلطان الملك الظاهر إليه فسير رسولاً معزياً،
ومشيراً بالموافقة معه، وأن يكون الملك الأفضل أتابك العسكر، فإنه عم
الملك العزيز، وهو أولى بتربيته وحفظ ملكه.
ومال الأمراء المصريون مثل: مبارز الدين يوسف بن خطلخ، ومبارز الدين
سنقر الحلبي، وابن أبي ذكرى الكردي، وغيرهم، إلى هذا الرأي، وقالوا: إن
هذا ملك كبير، ولا ينتظم حفظ الملك إلا به، وإذا صار أمر حلب راجعاً
إليه كان قادراً على أخذ ثأره من عمه، وأخذ الملك به
(1/457)
ورأى القاضي بهاء الدين، وسيف الدين بن علم
الدين، وسيف الدين بن قلج، وغيرهما، غير ذلك، وقالوا: إن هذا إذا فعل،
كان الملك العزيز على خطر من الجانبين، لأن الملك العادل ملك عظيم،
وصاحب الديار المصرية، فإذا قبلنا ذلك خرج من أيدينا، فإن كانت الغلبة
له انتزع الملك من أيدينا.
وإن كانت عليه فلا نأمن أن الملك الأفضل، يتغلب على ابن أخيه وينتزع
الملك منه، ويستقل به، كما فعل الملك العادل بابن العزيز، والملك
العادل قد حلف للملك الظاهر،، ولابنه الملك العزيز من بعده، وهو ابن
ابنته، وابنته بقلعة حلب، ونحن نطالبه بالوفاء بالعهد، وهو يذب عن حلب
كما يذب عن غيرها من ممالكه، وأمور الخزائن هي راجعة إلى شهاب الدين
طغرل، وهو متولي القلعة. والرأي أن يقع الاتفاق عليه، فإن المال عنده
بالقلعة، وهو فيها ينتصف ممن خالفه، وقد وقع اعتماد الملك الظاهر عليه.
فاتفق رأيهم كلهم عليه.
وعملت نسخة يمين، حلف بها جماعة والمقدمين من أهل البلد، على الموالاة،
والطاعة للملك العزيز، ثم من بعده لأخيه الملك الصالح، وعلى الموالاة
لأتابكه شهاب الدين طغرل، وانقاد الجميع له طائعين ومكرهين.
وأبعد الوزير ابن أبي يعلى، وصرف، واستقر الأمر على ذلك، في أواخر
شعبان، في السنة.
وسار ابن أبي يعلى عن حلب، في شهر رمضان من السنشة، واستقل طغرل بترتيب
البلاد والقلاع وتفريق الأموال والأقطاع، ولا يخرج في ذلك كله، عن رأي
القاضي بهاء الدين، وسيف الدين بن علم الدين، وسيف الدين بن قلج.
وأقطع علم الدين قيصر دربساك، وابن أمير التركمان اللاذقية، وسير علم
الدين إلى الملك الزاهر، أولاً، يعاتبه على استيلائه على البلاد،
فاعتقله، وقال: أنا أحق بذلك، فإنني كنت ولي العهد لأخي، وقد حلف لي
الناس. وطمع بملك حلب، ثم انقاد إلى الطاعة والخطبة، وشرط أن تبقى
البلاد، التي استولى عليها بيده، فأجيب إلى ذلك.
(1/458)
ولما استقر أمر الأتابكية لشهاب الدين
طغرل، كره ذلك جماعة من الممالكيك الظاهرية، فعمد عز الدين أيبك
الجمدار الظاهري، واستضاف إليه جماعة من المماليك الظاهرية، والأجناد.
وكاتب الأسد أقطغان، وكان والي حارم واتفق معه على أن يأتي إليه، إلى
حارم بالجماعة الذين وافقهم، ويفتح له القلعة، فإذا حصلوا بها انضم
إليهم جماعة غيرهم، وكان لهم شأن حينئذ.
وكان العسكر المقيم بحارم قد أصعد إلى القلعة، ورتب بها، وفيها المبارز
أيوب ابن المبارز أقجا، فأحسوا باختلاف أمر الأسد الوالي، وأنكروا عليه
أشياء، فاستيقظوا لأنفسهم، واتفقوا على حفظ القلعة، والإحتياط عليها.
وسار أيبك الجمدار إلى حارم، ووقف تحت القلعة، ورام الصعود إليها،
فمنعه الأجناد والأمراء، الذين في القلعة من ذلك، ولم يمكنوا الوالي من
التحرك فيها بحركة، واحتاطوا عليه.
فسار أيبك إلى دربساك، وطمع أن يتم له فيها حيلة أيضاً، فلم يستتب له
ذلك، وعصى ألطنبغا بقلعة بهسنى، وانضاف إلى ملك الروم كيكاوس. وانتظم
الأمر بعد ذلك، وسكنت الفتنة، في أواخر شوال من السنة.
ونزل الملك العادل من مصر إلى الشام، وأرسل إلى أتابك بما يطيب نفسه،
وسير خلعة للملك العزيز، وسنجقاً، وحلف له على ما أوجب السكون والثقة.
تحرك الفرنج وملك الروم
واتفق خروج الفرنج من البحر، وتجمعوا في أرض عكا، وأغاروا على الغور،
واندفع الملك العادل بين أيديهم، إلى عجلون، ثم إلى حوران، ثم نازل
الفرنج الطور، وزحفوا عليه، فكانت النصرة للمسلمين، وقتل منهم جمع
كثير، وانهزموا عنها، وهدمها الملك العادل.
(1/459)
وسار الفرنج إلى دمياط، ونزلوا عليها،
وبينها وبينهم التيل، والملك الكامل في مقابلتهم، واستدعى الملك العادل
ابنه الملك الأشرف، فسار في عسكره إلى حمص، ودخل بلاد الفرنج، ليشغلهم
عن محاصرة دمياط.
فدخل إلى صافيتا، فخربوا ربضها، ونهبوا رستاقها، وهدموا ما حولها من
الحصون، ودخلوا إلى ربض حصن الأكراد، فنهبوه، وحاصروا القلعة، حتى
أشرفت على الأخذ، والملك العادل مقيم في عالقين.
وتحرك ملك الروم كيكاوس، ومعه الملك الأفضل، طالباً أن يملك حلب، ويطمع
الأفضل أن يأخذها له، ليرغب الأمراء في تمليكه عليهم، وكاتب جماعة من
الأمراء، وكتب لهم التواقيع، ومن جملة من كاتبه علم الدين قيصر. وكتب
له توقيعاً بأبلستان.
واغتنما شغل قلب الملك العادل بالفرنج، ووافقهما الملك الصالح صاحب آمد
وكان كيكاوس يريد الملك لنفسه، ويجعل الأفضل ذريعة لتوصل إليه، وكاتبه
أمراء حلب الذين كانوا يميلون إلى الأفضل. فجمع العساكر، واحتشد،
واستصحب المناجيق، وسار في شهر ربيع الأول، فنزل رعبان وحصرها، وفتحها.
فسير الأتابك شهاب الدين زين الدين بن الأستاذ رسولاً إلى الملك
العادل، يستصرخه على الرومي، والأفضل. فكتب إلى ولده الملك الأشرف،
يأمره بالرحيل إلى إنجاد حلب بالعساكر، وسير إليه خزانة، وجعل الملك
المجاهد صاحب حمص في مقابلة الفرنج.
وسار الملك الأشرف، حتى نزل حلب بالميدان الأخضر. وخرج الأمراء إلى
خدمته، واستحلفهم، وخلع عليهم، وأتاه مانع أمير العرب بجموعه
المتوافرة، وعاث العرب في بلد حلب، والملك الأشرف يداريهم لحاجته
إليهم.
(1/460)
وسار علم الدين قيصر إلى ملك الروم من
دربساك، وجاهر بالعصيان، ونزل نجم الدين ألطنبغا إليه من بهسنى، وتسلم
الرومي المرزبان، وسار إلى تل باشر وهي في يد ولد بدر الدين دلدرم
فنازلها، وحصرها، وفتحها. ولم يعط الملك الأفضل شيئاً من البلاد التي
افتتحها.
فتحقق الملك الأفضل فساد نيته، وسار إلى منبج، ففتحها بتسليم أهلها،
وكان قد صار في جملته رجل يقال له الصارم المنبجي، وله اتباع بمنبج
فتولى له أمر منبج، وشرع في ترميم سورها، واصلاحه.
وسار الملك الأشرف نحوه من حلب إلى وادي بزاعا على عزم لقائه، وجماعة
من الأمراء المخامرين في صحبته، فنزل في وادي بزاعا. وسير الرومي ألف
فارس، هم نخبة عسكره، ومقدمهم سوباشي سيواس، فوصلوا إلى تل قباسين فوقع
عليهم العرب، واحتووا عليهم، وعلى سوادهم.
وركب الملك الأشرف، فوصل إليهم، وقد استباحوهم قتلاً وأسراً، وسيروا
الأسرى إلى حلب، ودخلوا بهم والبشائر تضرب بين أيديهم، وأودعوا السجن.
ولما سمع كيكاوس ذلك، سار عن منبج هارباً، ورحل الملك الأشرف من
منزلته، واتبعه يتخطف أطراف عسكره، حتى وصل إلى تل باشر، فنزل عليها،
وحاصرها حتى افتتحها، وسلمها إلى نواب الملك العزيز، وقال: هذه كانت،
أولاً، للملك الظاهر رحمه الله وكان يؤثر ارتجاعها إليه، وأنا أردها
إلى ولده. وذلك في جمادى الأولى، من سنة خمس وعشرة وستمائة.
ثم إنه ملكها للأتابك شهاب الدين طغول، في سنة ثمان عشرة وستمائة،
بجميع قراها.
(1/461)
ثم سار الملك الأشرف إلى رعبان وتل خالد
فافتتحهما وافتتح برج الرصاص، وأعطى الجميع الملك العزيز. وأقطعت رعبان
لسيف الدين بن قلج. وعاد منكفئاً إلى حلب، ونزل على بانقوسا.
موت العادل وملك الكامل
وكان الخبر قد ورد بموت الملك العادل رحمه الله وكان مرض على عالقين،
فرحل إلى دمشق، فمات في الطريق، في جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة.
فكتب الأتابك شهاب الدين بذلك إلى الأمراء، والملك الأشرف قد قارب
مدينة حلب، فأعلموه بذلك، فجلس في خيمته للعزاء، وخرج أكابر البلد
والأمراء إلى خدمته، وأنشده الشعراء مرائي الملك العادل، وتكلم الوعاظ
بين يديه.
ولما انفصل العزاء، سير الأتابك شهاب الدين إلى الملك الأشرف، وتحدث
معه في أن يكون هو السلطان موضع أبيه، وأن يخطب له في البلاد، وتضرب
السكة باسمه، وأن تكون العساكر الحلبية في خدمته. فقال: لا والله لا
أغير قاعدة قررها أبي، بل يكون السلطان أخي الملك الكامل، ويكون قائماً
مقام أبي.
فاتفق الحال بين أتابك وبينه، برأي القاضي بهاء الدين، وسيف الدين بن
علم الدين، وسيف الدين بن قلج، على أن خطب بحلب وأعمالها للملك الكامل،
وبعده للملك الأشرف، ثم للملك العزيز.
وضرب اسم الملك الكامل، والملك العزيز، على السكة. وجعل أمر الأجناد
والأقطاع في عسكر حلب إلى الملك الأشرف، وأخليت له دار الملك الظافر
بالياروقية، فنزل فيها، ورتب له برسم المعونة، من أعمال حلب سرمين
وبزاعا والجبول.
(1/462)
ووصلت إليه رسل البلاد، من جميع الجهات،
ومالوا إليه، وصاروا أتباعاً له، وأمر ونهى ببلد حلب، في الأجناد
والأقطاع لا غير. وتردد أكابر الحلبيين إلى خدمته، وخلع عليهم، وانقضى
فصل الشتاء.
إنجاد دمياط وتحرك ابن المشطوب
فأقطع الأقطاع لأجناد حلب، ورتب أمور أمرائها، ولا يفعل شيئاً من ذلك
إلا بمراجعة الأتابك شهاب الدين، وبدا من الأمراء المصريين تحرك في
أمره، وكرهو أمره ونهيه في حلب، وخافوا من استيلائه عليها، وانتقامه
منهم لميلهم إلى الملك الأفضل. وبلغه عنهم أشياء عزموا عليها، وهو ثابت
لذلك كله.
ووصلته رسل أخيه الملك الكامل، يطلب منه النجدة إلى دمياط. وكان ابن
المشطوب قد أراد الوثوب عليه وتمليك الفائز أخيه، فأخرجه من الديار
المصرية، بعد أن رحل من منزلته، التي كان بها في قبالة الفرنج، وعبور
الفرنج إليها، ونهب الخيم ومنازلة دمياط، وقطعهم المادة عنها.
فاتفق رأي الملك الأشرف على تسيير الأمراء، الذين كانوا يضمرون الغدر،
فسيرهم نجدة إلى أخيه، وهم المبارزان: ابن خطلخ وسنقر الحلبيان، وابن
كهدان، وغيرهم.
وخاف ابن خطلخ منه، فاستحلفه على أن لا يؤذيه، فحلف له، وسيرهم إلى
أخيه الملك الكامل فأقاموا عنده بالكلية.
وتوفي نور الدين صاحب الموصل في هذه السنة. وترك ابناً صغيراً قام بدر
الدين لؤلؤ، مملوك جده بتربيته. وخطب للكامل والأشرف.
وقام زنكي بن عز الدين، فأخذ العمادية وهي قلعة حصينة فيها أموال
الموصل بمواطأة من أجنادها، وعزم على أخذ الموصل، وقال: أنا أولى
بكفالة ابن أخي. وساعده مظفر الدين صاحب إربل على ذلك، فسير لؤلؤ
رسولاً إلى الملك الأشرف إلى حلب، يطلب إنجاده، فسير إليه عز الدين
أيبك الأشرفي.
(1/463)
وكان عماد الدين بن سيف الدين علي المشطوب،
لما نفي من الديار المصرية، قد وصل إلى حماة، وأقام عند صاحبها، وكاتب
الملك الأفضل، وجمع جموعاً كثيرة من الأكراد، وأرباب الفساد، وساعده
الملك المنصور صاحب حماة بالمال والرجال على ذلك وعزم على أن يمضي، بمن
جمعه من العساكر إلى الأفضل، وأن يقوم معه، ويساعده صاحب حماة، وسلطان
الروم.
ثم سار ابن المشطوب، بغتة، وخاض بلد حلب، وكان الزمن زمن الربيع، وخيول
الأجناد متفرقة في الربيع، فوصل إلى قنسرين ونفذ منها إلى تل أعون،
وبلغ الساجور، واستاق في طريقه ما وجد من الخيل، وغيره.
وبلغ خبره إلى الملك الأشرف، فأركب من كان بحضرته من العساكر، خلفه،
وكان فيهم ابن عماد الدين صاحب قرقيسيا، فلحقوه على الساجور، وفي صحبته
نجم الدين بن أبي عصرون، فقبضوا عليه وأتوا به إلى الملك الأشرف، فعفا
عنه، وعن ابن أبي عصرون، وأقطع ابن المشطوب رأس عين وأقام عنده مخيماً
بالياروقية، إلى أن دخل شعبان، من السنة المذكورة.
وسار الملك الأشرف، إلى بلاده الشرقية، لإصلاح أمر الموصل، وكان صاحب
إربل وزنكي، قد كسرا لؤلؤ وأيبك الأشرفي، على الموصل. فنزل الملك
الأشرف على حران، وفي صحبته عسكر حلب.
ومات كيكاوس ملك الروم، وملك بعده أخوه كيقباذ، فراسل الملك ألأشرف،
واتفق معه.
وخربت القدس في أوائل هذه السنة.
وخرج إلى الفرنج المنازلين دمياط نجدة من البحر، ووقع الوباء في أهل
دمياط، وضعفوا عن حفظها، فهجمها الفرنج على غفلة من أهلها، في عاشر شهر
رمضان، والملك الكامل، مرابط حولها بالعساكر، وابتنى مدينة سماها
المنصورة، أقام فيها في مقابلة الفرنج.
(1/464)
والملك الأشرف في حران، وابن المشطوب في
اقطاعه رأس عين، وقد داخل صاحب ماردين، وقرر الأمر معه على العصيان على
الملك الأشرف، وجمع جماعة من الأكراد، فنمي الخبر إلى الملك الأشرف.
وخاف ابن المشطوب، فسار إلى سنجار، فاعترضه والي نصيبين، من جهة الملك
الأشرف، وقاتله فهزمه، واستباح عسكره، وسار إلى سنجار، فأجاره قطب
الدين صاحبها. وأرسل الملك الأشرف إليه، في طلبه، فلم يجبه إلى ذلك،
فسار الملك الأشرف نحوه، فترك سنجار، ومضى إلى تلعفر، فعصى بها، فوصل
إليه ابن صبره وعسكر الموصل.
ووصل الملك الأشرف إلى سنجار، وفتحها، وعوض صاحبها بالرقة عنها، وفتح
لؤلؤ تلعفر، وسلمها إلى الملك الأشرف، واستجار ابن المشطوب بلؤلؤ،
فأجاره على حكم الملك الأشرف، فيها، وسلمه إلى الملك الأشرف، فقيده
وسجنه بسنجار.
تحرك الأشرف إلى الموصل ومصر
وسار الملك الأشرف إلى الموصل، ومعه عسكر حلب، فأقام مخيماً على
ظاهرها، حتى أصلح أمرها مع صاحب إربل، وهادنه.
ووصل الملك الفائز من الديار المصرية، مستصرخاً، وطالباً للنجد، ووصل
إلى حلب، وأنزل بالميدان الأخضر، وسار إلى الموصل، إلى أخيه الملك
الأشرف، فأقام عنده، بظاهر الموصل، شهراً ومات.
وانفصل الملك الأشرف عن الموصل، بعد إصلاح أمورها، وشتى بسنجار، وقبض
على حسام الدين بن خشترين وكان أميراً من أمراء حلب لغدر بلغه عنه،
وقيده، وسيره، وابن المشطوب إلى قلعة حران، فحبسهما فيها إلى أن ماتا.
وقبض على ابن عماد الدين صاحب قرقيسيا، وأخذها، وعانة
(1/465)
والبلاد التي كانت معه من يده، وقدم حران،
فوصل إليه أخوه الملك المعظم في محرم سنة ثمان عشرة من دمشق، فوافقه
على الصعود إلى الديار المصرية، لإزاحة الفرنج عنها، فجهز العساكر،
واستدعى عسكر حلب، وعبر الفرات، والتقى بعسكر حلب.
وسار إلى دمياط، مع أخيه الملك المعظم، وخرج الفرنج عن دمياط،، ونزلوا
في مقابلة المسلمين، فأرسلوا الماء عليهم، فمنعهم من العود إلى دمياط،
ولم يبق لهم طريق إليها وزحف المسلمون عليهم، واستداروا حولهم، فطلبوا
الأمان وتسليم دمياط، فتسلمها المسلمون في العشرين من شهر رجب سنة ثمان
عشرة وستمائة.
وكان الملك المنصور صاحب حماة قد توفي في ذي القعدة، سنة سبع عشرة
وستمائة. وكان ابنه الكبير الملك المطهر، في نجدة خاله بدمياط، فاستولى
ابنه الملك الناصر، على حماة، وسير إلى الأتابك شهاب الدين، يطلب
الإعتضاد به، والسفارة بينه وبين خاله الملك الأشرف، على أن ينتمي
إليه، ويخطب له، على أن يمنع عنه من يقصده، وروسل في ذلك، فأجاب، وحلف
له على ذلك. ونزل الملك الأشرف في الديار المصرية، ووصل إلى بلاده،
وسير كتاباً إلى الأتابك شهاب الدين، يتضمن أنه: لما وقع الاتفاق في
الابتداء، وعرض علي الجبول وبزاعا وسرمين أجبت إلى ذلك، ليعلم المخالف
والعدو، أن البلاد قد صارت واحدة، والكلمة متفقة، والآن فقد تحقق الناس
كلهم ذلك، وأوثر الآن التقدم إلى نواب المولى الملك العزيز في قبضها،
وإجرائها على العادة، وصرفها في مصالح بلاده فأجبت إلى ذلك.
ورفع الملك الأشرف أيدي نوابه عنها.
وتوجه الملك الصالح ابن الملك الظاهر إلى الشغر وبكاس، وأضيف
(1/466)
إليه الروج ومعرة مصرين. ورتب جماعة من
الحجاب والمماليك في خدمته وذلك في جمادى الأولى.
خبر الملك المعظم
وفي ذي الحجة من سنة تسع عشرة وستمائة خرج الملك صاحب حماة إلى الصيد،
فبلغ ذلك الملك المعظم عيسى، صاحب دمشق، فخرج مجدا من دمشق ليسبق
صاحبها إليها فيملكها، فانتهى الخبر إلى الناصر، فسبق إليها.
ووصل إلى الملك المعظم إلى حماة، فوجد الملك الناصر قد وصلها، وفاته ما
أراد، فسار إلى معرة النعمان واحتوى على مغلاتها، وسير أتابك شهاب
الدين إليه، تقدمة مع مظفر الدين بن جرديك، إلى المعرة، فقبلها، واعتذر
بأنه إنما جاء لكتاب، وصله من الملك الكامل، يأمره أن يقبض على خادم
هرب منه، وأنه خرج خلفه ليدركه، فلما قرب من حماة، بدا من صاحبها من
الامتهان، وعدم النزل والإقامة ما لا يليق. وتجنى عليه ذنوباً لا أصل
لها، والملك الكامل، والملك الأشرف، حينئذ بمصر.
فرحل الملك المعظم إلى سلمية، بعد أن رتب بالمعرة والياً، ورتب السلمية
والياً من قبله، وعزم على حصار حماة، واستعد صاحبها للحصار، ووكل الملك
المعظم العرب، لقطع الميرة عن حماة، ومنع من يقصدها من الأجناد
للإنجاد، وحول طريق القافلة على سلمية.
وأرجف الناس بأن حسام الدين ابن أمير تركمان، قد وافق الملك المعظم
وأنه قد صاهر صاحب صهيون، وكان سيف الدين بن قلج، هو الذي أشار بترتيبه
في اللاذقية وضمنه، فسار إليه، فلم يمتنع من تسليمها ولم يكن لما ذكر
عنه صحة، فترك سيف الدين بن قلج بها أخاه عماد الدين، واستصحب حسام
الدين معه إلى حلب، فأقام إلى أن زال الإستشعار من جهة الملك المعظم،
وردت إليه. ووصل حسام الدين الحاجب علي نائب الملك الأشرف في بلاده إلى
حلب واجتمع بأتابك شهاب الدين، وأعلمه أن الملك الأشرف، كتب إليه أن
يرحل إلى الملك المعظم، ويرحله عن بلاد الناصر، ويعلم أتابك، أن هذا
الذي وقع، لم يكن بعلم الملك الكامل، ولا الملك الأشرف، وأنهما لا
يوافقانه على ذلك وسار الحاجب إليه في هذا المعنى.
(1/467)
ووصل الناصح أبو المعالي الفارسي أحد أمراء
حلب برسالة الملك الكامل من مصر، وكان قد صعد إليها إلى خدمته الملك
الأشرف، وكان هو الحاجب بين يديه إذ ذلك، والأمور كلها راجعة إليه،
فقال له الناصح: الملك الكامل يأمر المولى بالرحيل، وترك الخلاف، فأجاب
إلى ذلك، وقرر الصلح بين صاحب حماة وبينه، ورحل إلى دمشق، وعاد الناصح
إلى مصر.
ونقل السلطان الملك الظاهر، من الحجرة التي دفن بها بالقلعة، إلى القبة
بالمدرسة التي ابتناها له أتابك، ودفنه بها في أول شعبان من سنة عشرين
وستمائة.
عودة الأشرف من مصر وعصيان المظفر
ونزل الملك الأشرف من مصر، ووصل إلى حلب في شوال من سنة عشرين، والتقاه
الملك العزيز، ونزل في خيمته، قبلي المقام وشرقيه، بالقرب من قرنبيا،
وكان قد صحبه خلعة للملك العزيز من الملك الكامل وسنجق.
وخرج الملك العرير، وأهل البلاد، في خدمته، بعد ذلك، ودخل الناس إلى
الخيمه، في خدمة السلطان الملك العزيز.
ومد الملك الأشرف السماط، في ذلك اليوم للناس، فلما أكلوا، وخرج الناس
من الخيمة، أحضر الخلع الكاملية وأفاضها على الملك العزيز. ووقف قائماً
في خدمته. ثم أحضر المركوب فأركبه. وحمل الغاشية بين يديه، حتى خرج من
الخيمة، وركب إلى القلعة.
وأقام الملك الأشرف، فقدار عشرة أيام، واتفق رأيه مع الأمراء على إخراب
قلعه اللاذقية، فسار العسكر إليها، وخربوها في هذه السنة.
وتوجه الملك الأشرف إلى حران، وعصى الملك المظفر شهاب الدين غازي أخوه،
عليه ب أخلاط، وكان أخوه الملك المعظم، هو الذي حمله على ذلك، وحسنه
له، لأجل ما سبق من الملك الأشرف، فى نصرة صاحب حماة.
(1/468)
فاستدعى الملك الأشرف عسكراً من حلب، فسار
إليه عسكر قوي فيهم. سيف الدين بن قلج، وعلم الدين قيصر، وحسام الدين
بلدق، في سنة إحدى وعشرين وستمائة.
وسار إلى أخلاط، واتفق مظفر الدين صاحب إربل والملك المعظم صاحب دمشق،
على أن يخرج هذا إلى جهة الموصل، وهذا إلى جهة حمص، ليشغلا الملك
الأشرف عن أخلاط، فسير الملك الأشرف، وطلب طائفة من عسكر حلب ليقيم
بسنجار، خوفاً من أن يغتالها صاحب إربل وخرج الملك المعظم، وأغار على
بلد حمص، وبارين، ووصل إلى بحيرة قدس، وعاد.
ووصل الملك الأشرف إلى أخلاط، فخرج أخوه، وقاتله، فهزمه إلى أخلاط،
وفتحها أهلها للملك الأشرف.
واحتمى الملك المظفر بالقلعة، حتى عفا عنه أخوه الملك الأشرف، وخرج
إليه، وأبقى عليه ميافارقين.
وعاد عسكر حلب والملك الأشرف، في رمضان، وشتى الملك الأشرف بسنجار.
وانهدم في هذه السنة من سور قلعة حلب الأبراج التي تلي باب الجبل، من
حد المركز، وهي عشرة أبراج، وتساقطت مع أبدانها، في سلخ ذي القعدة.
ووافق ذلك شدة البرد في الأربعينيات، فاهتم أتابك شهاب الدين بعمارتها،
وتحصيل آلاتها، من غير أن يستعين فيها بمعاونة أحد، ولازمها بنفسه، حتى
أتمها في سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
(1/469)
ومات الملك الأفضل، بسميساط، في هذه السنة
في صفر، وحمل إلى حلب، فدفن في التربة، التي دفن فيها أمه قبلي المقام.
ووصل محيي الدين أبو المظفر بن الجوري، إلى حلب بخلعة من الإمام
الظاهر، إلى الملك العزيز، وكان قد تولى الخلافة، في سنة اثنتين
وعشرين، بعد موت أبيه الإمام الناصر، فألبسها السلطان الملك العزيز،
وركب بها، وكانت خلعة سنية، واسعة الكتم، سوداء، بعمامة سوداء، وهي
مذهبة، والثوب بالزركش. وكان قد أحضر إلى الملك الأشرف خلعة، ألبسه
أياها، وسار بخلعة أخرى إلى الملك المعظم، وخلعة أخرى، إلى الملك
الكامل.
من الحرب إلى الاتفاق فالموت
وكاتب الملك المعظم خوارزمشاه، وأطمعه في بلاد أخيه الملك الأشرف، ونزل
الملك المعظم من دمشق، ونازل حمص، وكان سير جماعة من الأعراب، فنهبوا
قراها ووصل مانع، في جموع العرب لإنجاد حمص، من جهة الملك الأشرف،
فانتهبوا قرى المعرة وحماة، وقسموا البيادر، ولم يؤدوا عداداً، في هذه
السنة، لأحد.
ولما وصل الملك المعظم إلى حمص، اندفع مانع وعرب حلب، والجزيرة، إلى
قنسرين، ثم نزلوا قرا حصار، ثم تركوا أظعانهم، بمرج دابق، وساروا جريدة
إلى نحو حمص، فتواقع مانع وعرب دمشق، وقعات، وجرد عسكر من حلب إلى حمص،
فوصلوا إليها، قبل أن ينازلها الملك المعظم، فحين وصلوها اتفق وصول
عسكر دمشق، فاقتتلوا، ثم دخلوا إلى مدينة حمص.
وكان الملك الأشرف، على الرقة، فجاءه الخبر بحركة كيقباذ، وخروجه إلى
بلاد صاحب آمد، وأخذه حصن منصور، والكختا، فسير الملك
(1/470)
الأشرف نجدة إلى آمد، فالتقاهم جيش الرومي،
وهزمهم، فعاد الملك الأشرف إلى حران، وخرج من بقي من عسكر حلب إلى حاضر
قنسرين لإنجاد صاحب حمص.
ووقع الفناء في عسكر الملك المعظم، وماتت دوابهم، وكثر المرض في
رجالهم، فرحل عن حمص، في شهر رمضان من السنة.
وسار الملك الأشرف، عند ذلك بنفسه إلى دمشق، واجتمع بأخيه الملك المعظم
قطعاً لمادة شره، وزينت دمشق لقدوم الملك الأشرف، وعقدت بها القباب.
وأظهر الملك المعظم السرور بقدومه، وحكمه في ماله، وباطنه ليس كظاهره،
ورسله تتردد إلى خوارزمشاه في الباطن، وجاءته خلعة من خوارزمشاه
فلبسها. وكانا لما انقضى شهر رمضان، قد خرجا عن دمشق، إلى المرج، وورد
عليهما رسولا حلب: القاضي زين الدين ابن الأستاذ نائب القاضي بهاء
الدين، ومظفر الدين بن جورديك، يطلبان تجديد الأيمان للملك العزيز،
وأتابك.
فوجد الملك الأشرف، وقد أصبح مع الملك المعظم، بمنرلة التبع له، ويطلب
مداراته بكل طريق، وهو لا يتجاسر أن ينفرد بهما في حديث، دون الملك
المعظم. والملك المعظم يشترط شروطاً كثيرة، والمراجعات بينهما وبين
أتابك إلى حلب مستمرة مدة شهرين.
إلى أن وردت الأخبار بنرول خوارزمشاه على أخلاط، ومحاصرتها، وفيها
الحاجب علي نائب الملك الأشرف فهجم بعض عسكره أخلاط، وقام من بهما من
أهلها وجندها، وأخرجوهم منها، كرهاً.
فوافق الملك الأشرف أخاه، على ما طلبه منه، واستدعى رسولي حلب، وحلفا
لهما، ورحل خوارزمشاه عن خلاط.
(1/471)
وشتى الملك المعظم، والملك الأشرف بالغور.
وأضحى الملك الأشرف كالأسير في يدي أخيه الملك المعظم، لا يتجاسر على
أن يخالفه في أمر من الأمور، وهو يتلون معه، وكلما أجابه الملك الأشرف
إلى قضية، رجع عنها إلى غيرها، وأقام عنده، إلى أن دخلت سنة أربع
وعشرين وستمائة.
وانقطعت مراسلة الملك الأشرف إلى حلب، لكثرة عيون أخيه عليه، وكونه لا
يأمن من جهة أمر يكرهه، لأنه أصبح في قبضته.
واتفق وصولي من الحج، في صفر من هذه السنة، فاستدعاني الملك الأشرف،
وحملني رسالة إلى أتابك شهاب الدين، مضمونها ما قد وقع فيه مع أخيه.
وأنه يتلون معه، تلون الحرباء، ولا يثبت على أمر من الأمور، وإن آخر ما
قد وقع بيني وبينه، أنه التمس مني أن يحلف له أتابك على مساعدته
ومعاضدته، وأن لا يوافق الملك الكامل عليه، وأنه متى قصده الملك
الكامل، كان عوناً له على الملك الكامل. فلما أبلغت أتابك ما قال،
امتنع من الموافقة على ذلك، وقال: أنا حلفني الملك الأشرف للملك
الكامل، وفي جملة يمينه: أنني لا أهادن أحداً من الملوك على قضية إلا
بأمره، فإذا أراد هذا مني فليأتني بأمر من الملك الكامل، حتى أساعده
على ذلك.
وحين رأى الملك الأشرف وقوعه في أنشوطة أخيه، وأن لا مخلص له إلا بما
يريده، ساعده على كل ما طلبه منه، واستحلفه على الملك الكامل، وصاحبي
حماة وحمص، فاطمأن الملك المعظم إلى ذلك، ومكن الملك الأشرف من الرحيل،
فسار إلى الرقة، في جمادى الآخرة من السنة.
فرجع الملك الأشرف عن جميع ما قرره مع أخيه، وتأول في أيمانه التي
حلفها، بأنه كان مكرهاً عليها، وأنه علم أنه لا ينجيه من يدي أخيه إلا
موافقته فيما طلب. وندم الملك المعظم على تمكينه من الإنفصال عنه، وسير
العربان إلى بلد حمص وحماة، فعاثوا فيهما، ونهبوا.
وخرج عسكر الأنبرور ملك الفرنج إلى عكا، في جموع عظيمة، فطمع صاحب
حماة، وصاحب حمص في الملك المعظم حينئذ، وأرسلا إليه يطلبان العوض عما
أخذه من بلادهما، فلاطف حينئذ أخاه الملك الأشرف،
(1/472)
وأرسل إليه يطلب موافقته، فعنفه على أفعاله
التي عامله بها، وقرعه على ما اعتمد في حقه وحق أهله.
ومرض الملك المعظم بدمشق ومات سلخ ذي القعدة. وملك دمشق بعده الملك
الناصر ولده.
وفي هذه السنة، سلمت عين تاب، والراوندان والزوب، إلى الملك الصالح ابن
الملك الظاهر، وأخذ منه الشغر وبكاس، وما كان في يده معها. ودخل
الحاجب، في هذه السنة، وجمع من قدر عليه من العساكر، إلى بلد أذربيجان،
وافتتح خوي، وسلماس، وأخذ زوجة أربك وكانت في خوى وهي التي سلمت خوى
إليه، وكانت قد تزوجت بخوارزمشاه.
وخرج الملك الكامل من مصر حين سمع بموت أخيه. وسير الملك الناصر، إلى
عمه الملك الأشرف، يعتضد به، ويستمسك بذيله، مع ابن موسك. فوصل إليه
إلى سنجار وطلبه ليأتي إلى دمشق، فسار إليه إلى دمشق. ونزل الملك
الكامل، فخيم بتل العجول في مقابلة الفرنج، وسير الملك الأشرف إليه،
سيف الدين بن تلج يطلب منه ابقاء دمشق على ابن أخيه، ويقول له: إننا
كلنا في طاعتك، ولم نخرج عن موافقتك. فخاطبه بما أطمع الملك الأشرف في
دمشق.
(1/473)
|