شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وثلاثين
فيها وقعة الجمل، وتلخيصها، أنه لما قتل عثمان صبرا توجّع المسلمون
وأسقط [1] في أيدي جماعة، وعنوا بكيفية المخرج من تقصيرهم فيه، فسار
طلحة، والزّبير، وعائشة نحو البصرة، وكانت عائشة قد لقيها الخبر، وهي
مقبلة من عمرتها، فرجعت إلى مكة، وطلبوا من عبد الله بن عمر أن يسير
معهم فأبى، وقال مروان لطلحة، والزّبير: على أيّكما أسلّم بالإمارة،
وأنادي بالصلاة؟ فقال عبد الله بن الزّبير: على أبي، وقال محمد بن
طلحة:
على أبي، فكرهت عائشة قوله، وأمرت ابن أختها عبد الله بن الزّبير فصلّى
بالناس، ولما علم عليّ كرّم الله وجهه بمخرجهم، اعترضهم من المدينة
ليردّهم إلى الطاعة، وينهاهم عن شقّ عصا المسلمين، ففاتوه، فمضى لوجهه،
وأرسل ابنه الحسن وعمارا يستنفران أهل المدينة، وأهل الكوفة فخطب عمّار
وقال في خطبته: إني لأعلم أنها زوجة نبيّكم في الدّنيا والآخرة، ولكنّ
الله ابتلاكم ليعلم أتطيعونه، أم تطيعونها، ولما قدمت عائشة، وطلحة،
والزّبير، البصرة، استعانوا بأهلها وبيت مالها، ووصل عليّ خلفهم،
واجتمع عليه أهل البصرة والكوفة، فحاول صلحهم واجتماع الكلمة، وسعى
__________
[1] في المطبوع: «وسقط» وهو خطأ.
(1/205)
السّاعون بذلك، فثار الأشرار بالتحريش،
ورموا بينهم بالنار حتى اشتعلت الحرب، وكان ما كان، وبلغت القتلى يومئذ
ثلاثة وثلاثين ألفا، وقيل: سبعة عشر، وقتل عشرة من أصحاب الجمل، ومن
عسكر عليّ رضي الله عنه نحو ألف، وقطع على خطام [1] جمل عائشة سبعون
يدا من بني ضبّة [2] ، وهي في هودجها، ثم أمر عليّ بعقره، وكان رايتهم،
فحمي الشرّ، وظهر عليّ، وانتصر، وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم
الخميس، إلى صلاة العصر، لعشر ليال خلون من جمادى الآخرة، ولما ظهر
عليّ جاء إلى عائشة، فقال:
غفر الله لك، قالت: ولك، ما أردت إلّا الإصلاح، ثم أنزلها في دار
البصرة، وأكرمها واحترمها، وجهّزها إلى المدينة في عشرين أو أربعين
امرأة من ذوات الشرف، وجهّز معها أخاها محمدا، وشيّعها هو وأولاده،
وودّعها رضي الله عنهم.
وقتل يومئذ طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي، قيل: رماه مروان بن الحكم
لحقد كان في قلبه عليه، وكان هو وهو في جيش واحد.
وولده محمد بن طلحة السّجاد، وكان له ألف نخلة يسجد تحتها في كل يوم،
ومرّ به عليّ صريعا، فنزل، ونفض التراب عن وجهه، وقال: هذا قتله برّه
بأبيه، وتمنى الموت قبل ذلك.
__________
[1] الخطام: كل حبل يعلّق في حلق البعير، ثم يعقد على أنفه، كان من
جلد، أو صوف، أو ليف، أو قنب، وما جعلت لشفار بعيرك من حبل فهو خطام،
وجمعه خطم. «لسان العرب» «خطم» (2/ 1203) .
[2] بنو ضبة: ثلاث قبائل، الأولى في مضر، وتنسب إلى ضبة بن أدّ بن
طابخة بن إلياس بن مضر.
والثانية في قريش، وتنسب إلى ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النّضر.
والثالثة في هذيل، وتنسب إلى ضبة بن عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن
هذيل.
انظر «مختلف القبائل ومؤتلفها» لابن حبيب ص (31) ، و «جمهرة أنساب
العرب» لابن حزم ص (176- 177) و (203- 206) .
(1/206)
وقتل يومئذ الزّبير بن العوّام القرشيّ
الأسديّ، أحد العشرة، قتله ابن جرموز [1] غدرا بوادي السّباع [2] ، وقد
فارق الحرب، وودّعها حين ذكّره عليّ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:
«لتقاتلنّه وأنت ظالم له» [3] . ولما جاء ابن جرموز إلى عليّ ليبشره
بذلك بشّره بالنار.
وروى ابن عبد البرّ عن عليّ كرّم الله وجهه أنه قال: إني لأرجو أن أكون
أنا، وعثمان، وطلحة، والزّبير، من أهل هذه الآية وَنَزَعْنا ما في
صُدُورِهِمْ من غِلٍّ 7: 43 [الأعراف: 43] ، ولا ينكر ذلك إلا جاهل
بفضلهم، وسابقتهم عند الله، وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «يكون لأصحابي من بعدي هنات يغفرها الله بسابقتهم معي، يعمل بها
قوم من بعدهم يكبّهم الله في النار على وجوههم» [4] . وكان الزّبير بن
العوام رضي الله عنه شجاعا، مقداما، مقطوعا له
__________
[1] هو عمرو بن جرموز. رجل من بني تميم ويقال له: عمير أيضا، ويقال غير
ذلك. انظر «تاريخ الطبري» (4/ 510) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 244)
، و «الإصابة» لابن حجر (4/ 9) .
[2] قال ياقوت: وادي السباع الذي قتل فيه الزّبير بن العوام رضي الله
عنه: بين البصرة ومكة، بينه وبين البصرة خمسة أميال، كذا ذكره أبو
عبيدة. «معجم البلدان» (5/ 343) .
وقال الحميري: وادي السباع بالبصرة على طريق المدينة. وانظر تتمة كلامه
ص (603 و 604) .
[3] ذكره أبو عمر بن عبد البر في «الاستيعاب» (3/ 316) على هامش
«الإصابة» . وانظر «الرياض النضرة» في مناقب العشرة للمحب الطبري (4/
60 و 61) .
[4] لم أره بهذا اللفظ فيما بين يديّ من المصادر، والذي عند مسلم رقم
(1852) ، وأبو داود رقم (4762) ، وأحمد في «المسند» (4/ 341) من حديث
عرفجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ستكون هنات وهنات،
فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف، كائنا من
كان» ، وانظر «مختصر شعب الإيمان» للقزويني ص (103- 104) بتحقيقي، طبع
دار ابن كثير.
(1/207)
بالجنة، من أيسر الصحابة رضي الله عنه
وعنهم، ولو قيل: إنه أيسرهم لما بعد، يؤيد ذلك ما رواه البخاري في
«صحيحه» في باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا، من كتاب الجهاد، أن عبد
الله بن الزّبير رضي الله عنهما حسب دين أبيه فكان ألفي ألف ومائتي
ألف، وأنه أوصى بالثلث بعد الدّين، وأنه قضى دينه وأخرج ثلث الباقي بعد
الدين، وقسم ميراثه، فأصاب كل زوجة من زوجاته الأربع ألف ألف ومائتا
ألف، ثم قال البخاري بعد ذلك: فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف
انتهى [1] .
وقال ابن الهائم [2] رحمه الله: بل الصواب أن جميع ماله بحسب ما [3]
فرض تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف انتهى.
وصرح ابن بطّال [4] والقاضي عياض [5] وغيرهما، بأن ما قاله البخاري غلط
في الحساب، وأن الصواب كما قال ابن الهائم، وأجاب الحافظ شرف الدين
الدّمياطي [6] رحمه الله، بأن قول البخاري رحمه الله محمول على أن
__________
[1] هو جزء من حديث طويل رواه البخاري في «صحيحه» رقم (3129) (6/ 227 و
228) في الجهاد، باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا، وجملة: «فجمع ماله
خمسون ألف ألف ومائتا ألف» سقطت من نسخة «فتح الباري» طبع المكتبة
السلفية بمصر، وهي موجودة في بقية نسخ البخاري. وانظر ما قاله الحافظ
ابن حجز في «الفتح» (6/ 232- 235) حول هذا العدد.
[2] هو محمد بن أحمد بن محمد بن عماد ابن الهائم، أبو الفتح، محب
الدين، مصري الأصل، مقدسي الإقامة والوفاة، اشتغل بالفقه والحديث،
وخرّج لنفسه ولغيره، مات سنة (792 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (5/
329) .
[3] في المطبوع: «حسبما» .
[4] هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، أبو الحسن، عالم بالحديث من
أهل قرطبة، له «شرح البخاري» مات سنة (449 هـ) . انظر «الأعلام»
للزركلي (4/ 285) .
[5] هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي، أبو الفضل، عالم
المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، كان من أعلم الناس بكلام العرب،
وأنسابهم، وأيامهم، خلف مصنفات عديدة منها «مشارق الأنوار» و «الإلماع
إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع» مات سنة (544 هـ) . انظر
«الأعلام» للزركلي (5/ 99) .
[6] هو عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، أبو محمد، شرف الدين، حافظ للحديث،
من أكابر
(1/208)
جملة المال حين الموت كانت ذلك دون الزائد
في أربع سنين إلى حين القسمة. انتهى.
ومناقب الزّبير ومآثره يضيق عنها هذا المختصر ولو [1] لم يكن له إلا
مصاهرته للصّدّيق- فإنه كان زوج ابنته أسماء ذات النطاقين [2] ، ورزق
منها عبد الله، وهو أول مولود ولد بالمدينة للمهاجرين، وبه كنى النبيّ
صلى الله عليه وسلم عائشة على الصحيح- لكفى.
وقتل يومئذ زيد بن صوحان من خواص عليّ من الصلحاء الأتقياء.
وتوفي في تلك السنة حذيفة بن اليمان العبسي صاحب السر المكنون في تمييز
المنافقين، ولذلك كان عمر لا يصلي على ميت حتى يصلي عليه حذيفة، يخشى
أن يكون من المنافقين، وسمّي ابن اليمان لأن جده حالف بني عبد الأشهل
وهم من اليمن.
وفيها سلمان الفارسي المشهور بالفضل والصحبة، الذي قال في حقه المصطفى
صلى الله عليه وسلم: «سلمان منّا أهل البيت» [3] . وقصته مشهورة في طلب
الدّين، وقوله تداولني بضعة عشر ربا حتى اتصلت بالنبيّ صلى الله عليه
وسلم.
وروي من وجوه أنه اشترى نفسه من مواليه يهود بكذا وكذا وقية، وعلى
__________
الشافعية، قال الذهبي: كان مليح الهيأة، حسن الخلق، بساما، فصيحا،
لغويا، مقرئا، جيد العبارة، كبير النفس، صحيح الكتب، مفيدا جدا في
المذاكرة، وقال المزي: ما رأيت أحفظ منه، من كتبه «معجم» ضمنه أسماء
شيوخه وهم نحو ألف وثلاثمائة، في أربع مجلدات. مات سنة (705 هـ) . انظر
«الأعلام» للزركلي (4/ 169) .
[1] سقط حرف الواو الأول من الأصل في لفظة «ولو» وأثبته من المطبوع.
[2] في المطبوع: «الناطقين» وهو تحريف.
[3] رواه الطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» (3/ 598) من
حديث عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني رضي الله عنه، وإسناده ضعيف.
(1/209)
أن يغرس لهم كذا وكذا وديّة [1] من النّخل،
ويعمل عليها حتى تدرك، فغرسها صلى الله عليه وسلم كلها بيده المباركة
إلا واحدة غرسها عمر، فأطعم كلّ النّخل من عامه إلا تلك الواحدة فقلعها
[2] صلى الله عليه وسلم ثم غرسها فأطعمت، وكان سلمان الفارسي، وأبو
الدرداء يأكلان من صحفة [3] ، فسبّحت الصّحفة، أو سبّح ما فيها.
وفيها أمير مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو من السابقين الأولين.
__________
[1] قال ابن منظور: الوديّ على فعيل: فسيل النّخل وصغاره، واحدتها
وديّة، وقيل: تجمع الوديّة. ودايا. «لسان العرب» «ودي» (6/ 4804) .
[2] في الأصل: «فقلها» ، وفي المطبوع: «فقطعها» وكلاهما تحريف، والصواب
ما أثبتناه.
[3] الصحفة كالقصعة، والجمع صحاف. «مختار الصحاح» ص (357) .
(1/210)
سنة سبع وثلاثين
فيها وقعة صفين [وهي] [1] صحراء ذات كدى وأكمات، وتلخيص خبرها، أن
معاوية رضي الله عنه لما بلغه فراغ عليّ كرم الله وجهه من قصة العراق
والجمل ومسيره [2] إلى الشام، خرج من دمشق حتى ورد صفين في نصف المحرم،
فسبق إلى سهولة المنزل، وقرب من الفرات، فلما ورد عليهم علي رجعهم [3]
إلى الطاعة والدخول تحت البيعة، فلم يفعلوا، ثم حرّج عليهم لمنعهم إياه
من الماء، فلم يقبلوا، فقاتلهم حتى نحاهم عنها ونزلها، وبنى مسجدا هناك
على تلّ ليصلي فيه جماعة، وأقاما بصفين سبعة أشهر، وقيل: تسعة، وقيل:
ثلاثة، وكان بينهم قبل القتال نحو من سبعين زحفا في ثلاثة أيام من أيام
البيض [4] ، وقتل من الفريقين ثلاثة وسبعون ألفا، وآخر أمرهم ليلة
الهرير [5] ، وهو الصوت شبه النياح، فنيت نبالهم، واندقت
__________
[1] لفظة «وهي» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] في المطبوع: «وسيره» .
[3] في المطبوع: «يرجعهم» .
[4] الأيام البيض هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر
وفق التقويم الهجري، وسميت بالأيام البيض لأن القمر يكتمل فيها ويكون
بدرا.
[5] ليلة الهرير، كأمير، من ليالي صفّين، قتل فيها ما يقرب من سبعين
ألف قتيل، كما قال الزبيدي في «تاج العروس» «هرر» ، والله أعلم. (ع) .
(1/211)
رماحهم، وانقصفت سيوفهم، ومشى بعضهم إلى
بعض وتضاربوا [1] بما بقي من السيوف وعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة،
وهمهمة القوم، والحديد في الهام، فلما صارت السيوف كالمناجل تراموا
بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب، ثم تكادموا بالأفواه،
وكسفت الشمس من الغبار، وسقطت الألوية والرايات، واقتتلوا من بعد صلاة
الصبح إلى نصف الليل، وذلك في شهر ربيع الأول، قاله الإمام أحمد في
«تاريخه» ، وقال غيره: في ربيع الآخر، وقيل: في صفر، وكان عدد أصحاب
عليّ مائة وعشرين، أو ثلاثين ألفا، وأهل الشام مائة ألف وخمسة وثلاثين
ألفا، وكان في جانب عليّ جماعة من البدريّين وأهل بيعة الرّضوان،
ورايات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإجماع منعقد على إمامته وبغي
[2] الطائفة الأخرى، ولا يجوز تكفيرهم كسائر البغاة، واستدل أهل
السّنّة والجماعة على ترجيح جانب عليّ بدلائل، أظهرها وأثبتها قوله صلى
الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: «تقتلك الفئة الباغية» وهو حديث ثابت
[3] . ولما بلغ معاوية ذلك قال: إنما قتله من أخرجه، فقال عليّ: إذا
قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة لأنه أخرجه، وهو إلزام لا جواب
عنه، وحجة لا اعتراض عليها، وكان شبهة [4] معاوية ومن معه، الطلب بدم
عثمان، وكان الواجب عليهم شرعا
__________
[1] في المطبوع: «وتقاربوا» وهو خطأ.
[2] في الأصل: «ونفي» وما أثبتناه من المطبوع.
[3] ذكره بهذا اللفظ من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه الهيثمي في
«مجمع الزوائد» (9/ 295) وقال: رواه أبو يعلى، والطبراني بنحوه، ورواه
البزار باختصار وسنده حسن. ورواه أحمد في «المسند» (3/ 91) ، والبخاري
رقم (447) في الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد ورقم (2812) في
الجهاد، باب مسح الغبار عن الأمن في سبيل الله من حديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه بلفظ: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» يدعوهم إلى الجنة
ويدعونه إلى النار» . ورواه مسلم رقم (2916) (73) من حديث أم سلمة رضي
الله عنها بلفظ: «تقتل عمارا الفئة الباغية» .
[4] في الأصل: «شبه» وأثبتنا ما في المطبوع.
(1/212)
الدخول في البيعة، ثم الطلب من وجوهه
الشرعية وولي الدم في الحقيقة أولاد عثمان، مع أن قتلة عثمان لم
يتعيّنوا، وكان ممن توقّف عن القتال سعد ابن أبي وقّاص، وعبد الله بن
عمر، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وآخرون.
وممن قتل مع علي عمار بن ياسر ميزان العدل في تلك الحروب، وهو الذي ملئ
إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وقتل وقد نيف على
[1] السبعين.
وقتل معه أيضا ذو الشهادتين، خزيمة بن ثابت [2] ، وكان متوقّفا، فلما
قتل عمار تبين له الحق، وجرّد سيفه، وقاتل حتى قتل.
وأبو ليلى [3] والد عبد الرحمن الفقيه.
ومن غير الصحابة عبيد الله بن عمر بن الخطاب، قاتل الهرمزان صاحب تستر
[4] ، حين طعن أبوه عمر اتّهمه، لأن أبا لؤلؤة كان له به تعلّق، وكان
على خيل معاوية.
__________
[1] في الأصل: «عن» وهو تحريف، وأثبتنا ما المطبوع وهو الصواب.
[2] هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن مالك بن
الأوس الأنصاري الأوسي ثم الخطمي أبو عمارة من السابقين الأولين شهد
بدرا وما بعدها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة
رجلين، ولم يقاتل حتى قتل عمار بن ياسر. (ع) .
[3] مختلف في اسمه عند أصحاب كتب الرجال، ولكن جزم ابن حبان صاحب
«مشاهير علماء الأمصار» ص (48) بأن اسمه يسار، من الأنصار من بني عمرو
بن عوف، وقال ابن حجر في «الإصابة» (11/ 324، 325) : روى عن النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم، وروى عنه ولده عبد الرحمن وحده، ووقع عند
الدولابي أنه روى عنه أيضا عامر بن لدين قاضي دمشق، وليس كما قال، فإن
شيخ عامر هو أبو ليلى الأشعري، وحديثه في «السنن» . وانظر «أسد الغابة»
لابن الأثير (6/ 269) .
[4] تستر: مدينة بالأهواز، فتحها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه. انظر
«معجم البلدان» لياقوت (2/ 29) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (140) ،
و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (101- 105) طبع دار ابن كثير.
(1/213)
وقتل أيضا حامل راية عليّ هاشم بن عتبة بن
أبي وقّاص المعروف بالمرقال، ويقال: إنه من الصحابة.
وصاحب رجّالة عليّ عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي.
وأبو حسان قيس بن المكشوح [1] المرادي، أحد الأبطال، وأحد من أعان على
قتل الأسود العنسي.
قيل: ووجد في قتلى أصحاب عليّ سيد التابعين أويس بن عامر [المرادي] [2]
القرني ذو المناقب الشهيرة، من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عمر
وعليا إذا لقياه أن يطلبا منه الدعاء، وهو سيد زهاد زمنه، كان يلتقط ما
على المزابل، فإذا نبحه كلب قال له: كل مما يليك، وآكل مما يليني، إن
تجاوزت الصراط فأنا خير منك، وإلا فأنت خير مني.
وقتل أيضا صاحب رجّالة معاوية قاضي حمص حابس الطّائي [3] .
وقتل أيضا أحد أمرائه ذو الكلاع الحميري، وهو الذي خطب النّاس وحرّضهم
على القتال.
وقتل معه أيضا أحد الأبطال كريب بن الصّباح الحميري [4] قتل جماعة
مبارزة ثم برز له عليّ فقتله.
وذكر أن عليا واجه معاوية في بعض [تلك] [5] الزحوف فقال له: ابرز إليّ،
فإذا قتل أحدنا صاحبه استراح الناس، فقال له عمرو بن العاص: أنصفك
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «قيس بن المكسوح» وهو خطأ، والتصحيح من كتب
الرجال.
[2] لفظة «المرادي» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[3] في الأصل: «حابس الطامي» وهو تحريف.
[4] في الأصل، والمطبوع: «الذيب بن الصباح الحميري» وهو خطأ، والتصحيح
من «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 172) ، و «الإصابة» لابن حجر (8/ 330) .
[5] لفظة «تلك» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
(1/214)
الرجل، فقال له معاوية: أظنك طمعت فيها-
يعني الخلافة- لأنك تعلم أنه قاتل من بارزه، ولما أيقن أهل الشام
بالهزيمة أشار عليهم عمرو بن العاص برفع المصاحف على الرماح والدعاء
إلى حكم الله، فأجاب عليّ إلى التحكيم، فأنكر عليه بعض جيشه واختلفوا،
وخرجت عليه [1] الخوارج وقالوا:
لا حكم إلا لله، وكفّروا عليا ومعاوية، وكان أمر الحكمين في رمضان،
وذلك أنه اجتمع من جانب عليّ أبو موسى ومن معه من الوجوه، ومن جانب
معاوية عمرو بن العاص ومن معه بدومة الجندل [2] ، فخلا عمرو بأبي موسى
بعد الاتفاق عليهما، وقال له: نخلع عليا ومعاوية، ثم يختار المسلمون من
يقع الاتفاق عليه، وكانت الإشارة إلى عبد الله بن عمر، فلما خرجا إلى
النّاس قال عمرو لأبي موسى: قم فتكلم أولا، لأنك أفضل وأكثر سابقة،
فتكلم أبو موسى بخلعهما، ثم قام عمرو فقال: إن أبا موسى قد خلع عليا
كما سمعتم، وقد وافقته على خلعه، ووليت معاوية، وقيل: اتفقا على أن
يخلع كل منهما صاحبه فخلع أبو موسى وأثبت الآخر، ثم سار أهل الشام وقد
بنوا على هذا الظاهر، ورجع أهل العراق عارفين أن الذي فعله عمرو خديعة
لا يعبأ بها [3] .
__________
[1] في المطبوع: «وخرجت عليهم» .
[2] دومة الجندل: على سبع مراحل من دمشق، بينها وبين مدينة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبنيّ بالجندل. انظر
«معجم البلدان» لياقوت (2/ 487) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (245) .
قلت: قال ياقوت: وقد ذهب بعض الرواة إلى أن التحكيم بين عليّ ومعاوية
كان بدومة الجندل، وأكثر الرواة على أنه بأذرح، وقد أكثر الشعراء في
ذكر أذرح وأن التحكيم كان بها.
وقال ياقوت أيضا: وبأذرح إلى الجرباء كان أمر الحكمين بين عمرو بن
العاص، وأبي موسى الأشعري، وقيل: بدومة الجندل، والصحيح أذرح والجرباء.
«معجم البلدان» (1/ 130) . وانظر «تاريخ الطبري» (5/ 57- 63) ، و
«تاريخ خليفة بن خياط» ص (191، 192) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 329-
334) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (245- 247) .
[3] في الأصل: «لا يعبأ به» وأثبتنا ما في المطبوع.
(1/215)
وصح عن أبي وائل، عن أبي ميسرة أنه قال:
رأيت قبابا في رياض، فقيل: هذه لعمار بن ياسر وأصحابه، فقلت: كيف؟ وقد
قتل بعضهم بعضا، فقال: إنهم وجدوا الله واسع المغفرة.
وفي هذه السنة توفي خبّاب بن الأرتّ التميمي، أحد السّابقين البدريّين،
وصلّى عليه عليّ بالكوفة، سأله عمر يوما عما لقي من المشركين فقال: لقد
أوقدت نار وسحبت عليها، فما أطفأها إلا ودك [1] ظهري، ثم أراه ظهره
فقال عمر: ما رأيت كاليوم.
__________
[1] الودك: دسم اللّحم. «مختار الصحاح» ص (715) .
(1/216)
سنة ثمان وثلاثين
في شعبان منها قتلت الخوارج عبد الله بن خبّاب، فأرسل إليهم عليّ ابن
عباس، فناظرهم بالتحكيم في إتلاف المحرم الصيد، والتحكيم بين الزوجين،
وبغير ذلك كما يأتي قريبا مفصلا، فرجع بعضهم وأصر الأكثر، فسار إليهم
عليّ، فكانت وقعة النهروان، وقيل: إنها في العام القابل.
وفي شوال منها توفي صهيب بن سنان الروميّ، أحد السّبّاق الأربعة، وكان
فيه دعابة، يقال: إنه كان بأحد عينيه رمد، وكان يأكل مع النبيّ صلى
الله عليه وسلم رطبا، فأمعن، فقال له [صلى الله عليه وسلم] ما معناه:
«إنه يضر الرّمد» فقال: آكل بالعين السليمة، وفضائله عديدة، وتوفي
بالمدينة رضي الله عنه، وفيه يقول عمر:
نعم الرّجل صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه.
معناه لو لم يكن فيه خوف الله لمنعته قوة دينه من معصية الله فكيف وهو
خائف.
وفيها توفي سهل بن حنيف الأوسي في الكوفة، شهد بدرا وما بعدها،
واستخلفه عليّ على المدينة حين خرج إلى العراق، وولاه فارس، وشهد معه
صفّين، وتكلم بكلام عجيب مروي في «البخاري» [1] .
__________
[1] انظر الحديث رقم (6934) في استتابة المرتدين: باب من ترك قتال
الخوارج للتألف، ولئلا ينفر الناس عنه.
(1/217)
وفيها قتل محمد بن أبي بكر الصّدّيق، وكان
عليّ ولّاه على مصر، وكان عليّ قد تزوّج بأمه أسماء بنت عميس، ولما
استقرّ في مصر، جهّز معاوية جيشا وأمّر عليهم معاوية بن حديج [1]
الكندي، والتقيا [2] فانهزم عسكر محمد، واختفى هو في بيت امرأة، فدلّت
عليه، فقتل وأحرق، وقيل: قتله عمرو بن العاص، أو عمرو بن عثمان.
وفيها مات الأشتر النّخعي، وكان من الشجعان، بعثه عليّ إلى مصر فسمّ في
شربة عسل.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «معاوية بن خديج» وهو تصحيف.
[2] في المطبوع: «فالتقيا» .
(1/218)
سنة تسع وثلاثين
فيها، وقيل: في سنة إحدى وخمسين [1] توفيت أمّ المؤمنين ميمونة بنت
الحارث الهلالية بسرف [2] بين مكة ومرّ، وهو الموضع الذي بنى [بها] [3]
النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، وذلك سنة تسع، وكان الذي خطبها للنبيّ
صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب، وجعلت أمرها إلى العباس، وكان
زوج أختها.
وفيها تنازع أصحاب عليّ وأصحاب معاوية في إقامة الحج، فأصلح بينهم أبو
سعيد الخدري، على أن يقيم الموسم شيبة [4] بن عثمان الحجبيّ [5] .
__________
[1] وهو ما رجحه الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 325) ، وخليفة بن خياط
في «تاريخه» ص (218) ، والنووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 355،
356) ، وابن حجر في «الإصابة» (13/ 140) .
[2] قال البكري: سرف: بفتح أوله، وكسر ثانيه، بعده فاء: على ستة أميال
من مكة من طريق مرّ، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، واثنا عشر، وليس بجامع
اليوم، وهناك أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة مرجعه من مكة،
حين قضى نسكه، وهناك ماتت ميمونة لأنها اعتلّت بمكة، فقالت:
أخرجوني من مكة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أني لا أموت
بها، فحملوها حتى أتوا بها سرفا إلى الشجرة التي بنى بها رسول الله صلى
الله عليه وسلم تحتها، في موضع القبة، فماتت هناك سنة ثمان وثلاثين،
وهناك عند قبرها سقاية. «معجم ما استعجم» (3/ 735، 736) . وانظر «معجم
البلدان» لياقوت (3/ 212) و (5/ 104) ، و «الروض المعطار» للحميري ص
(312) .
[3] لفظة «بها» سقطت من الأصل، واستدركناها من المطبوع، والمصادر التي
بين أيدينا.
[4] في «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 187) «شيبان بن عثمان» وهو تحريف
فيستدرك فيه.
[5] قلت: وفيها كانت وقعة الخوارج بحروراء بالنخيلة، قاتلهم علي رضي
الله عنه فكسرهم،
(1/219)
سنة أربعين
فيها توفي خوّات بن جبير الأنصاري البدري، أحد الشّجعان [1] .
وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، نزل بدرا ساكنا ولم يشهدها
على الصحيح [2] ، وشهد العقبة.
وأبو أسيد الساعدي [3] بدريّ مشهور، وقيل: إنه بقي إلى سنة ستين.
__________
وقتل رؤوسهم وسجد شاكرا لله تعالى لما أتي بالمخدج إليه مقتولا، وكان
رؤوس الخوارج زيد بن حصن الطائي، وشريح بن أوفى العبسي، وكانا على
المجنبتين، وكان رأسهم عبد الله بن وهب السبائي، وكان على رجّالتهم
حرقوص بن زهير. انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 186) .
[1] قال ابن الأثير في «أسد الغابة» (2/ 148) : وكان أحد فرسان رسول
الله صلى الله عليه وسلم، شهد بدرا هو وأخوه عبد الله بن جبير في قول
بعضهم، وقال موسى بن عقبة: خرج خوّات بن جبير مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى بدر، فلما بلغ الصّفراء أصاب ساقه حجر فرجع، فضرب له
رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه. وانظر «الإصابة» لابن حجر (3/
158) .
[2] وهو الصواب. (ع) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو سهل الساعدي» ، وهو خطأ من النساخ، والله
أعلم، والصواب «أبو أسيد الساعدي» كما ذكره المؤلف فيمن مات سنة ستين،
وذلك أن أبا سهل الساعدي مجهول كما قال الذهبي في «التجريد» (2/ 148) ،
وأما أبو أسيد مالك بن ربيعة فهو الوحيد الذي شهد بدرا من بني ساعدة
كما ذكر الواقدي في «المغازي» (1/ 168) ، وهو المشهور بالبدري من بني
ساعدة، وقد اختلف المؤرخون وأصحاب كتب التراجم في سنة
(1/220)
ومعيقيب بن أبي فاطمة الدّوسي من مهاجرة
الحبشة، قيل: وشهد بدرا.
والأشعث بن قيس الكندي بالكوفة في ذي القعدة، وكان شريفا مطاعا جوادا
شجاعا، وله صحبة، ارتدّ زمن الرّدّة، ثم أسلم وتزوج أخت أبي بكر
بالمدينة، فأمر غلمانه أن يذبحوا ما وجدوه من البهائم في شوارع المدينة
ففعلوا، فصاح النّاس عليهم، فقال: أيها النّاس، قد تزوّجت عندكم، ولو
كنت في بلادي لأولمت وليمة مثلي، فاقبلوا ما حضر من هذه البهائم، وكل
من تلف له شيء فليأتني [1] لثمنه، وكان هاجر في أول الإسلام من اليمن
في ثمانين رجلا، منهم عمرو بن معدي كرب الزبيدي، ثم ارتدّا زمن
الرّدّة، وأسلما، وحسن إسلامهما، وحمدت مواقفهما.
وفيها استشهد أمير المؤمنين سامي المناقب أبو الحسنين عليّ بن أبي طالب
الهاشمي رضي الله عنه، ضربه عبد الرّحمن بن ملجم الخارجي في يافوخه [2]
، فبقي يوما، ثم مات [3]- وقتل ابن ملجم وأحرق- وكان ذلك
__________
وفاته، فقال خليفة بن خياط في «تاريخه» ص (166) : مات سنة ثلاثين،
وأيده الواقدي كما ذكر ابن الأثير في «أسد الغابة» (5/ 24) ، ورجح
الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 266) ، وابن حجر في «الإصابة» (9/ 49)
وفاته سنة ستين، قال الحافظ ابن حجر: وقيل: مات سنة أربعين. وهو آخر من
مات من البدريين. وانظر «المعارف» لابن قتيبة ص (272) و «الاستيعاب»
لابن عبد البر على هامش «الإصابة» (11/ 121- 124) ، و «الأعلام»
للزركلي (5/ 261) .
[1] في الأصل: «فليأتي» وأثبتنا ما في المطبوع.
[2] اليافوخ: ملتقى عظم مقدّم الرّأس ومؤخّره. «لسان العرب» «يفخ» (6/
4963) .
[3] قلت: قال الطبري في «تاريخه» (5/ 147- 148) ، وابن كثير في
«البداية» (7/ 328- 239) : فلما حضرته الوفاة أوصى، فكانت وصيّته:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب، أوصى أنه
يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله،
أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على
(1/221)
صبيحة يوم الجمعة وهو خارج إلى الصلاة سابع
عشر رمضان، وله ثلاث وستون سنة، وقيل: ثمان وخمسون، وصلى عليه ابنه
الحسن، ودفن بالكوفة في قصر الإمارة عند المسجد الجامع، وغيّب قبره.
وخلافته أربع سنين، وأشهر، وأيام.
قيل: والسبب في قتل عليّ كرّم الله وجهه، أن ابن ملجم خطب امرأة من
الخوارج على قتل عليّ ومعاوية وعمرو بن العاص [1] ، فانتدب لذلك ابن
__________
الدين كله ولو كره المشركون. ثم إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله
رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين، ثم أوصيك يا
حسن وجميع ولدي وأهلي بتقوى الله ربّكم ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون،
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله
عليه وسلم يقول: «إن صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام»
انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن الله عليكم الحسان، الله الله في
الأيتام، فلا تعنوا أفواههم، ولا يضيعن بحضرتكم، والله الله في
جيرانكم، فإنهم وصية نبيّكم صلى الله عليه وسلم، ما زال يوصي به حتى
ظننا أنه سيورّثه. الله الله في القرآن، فلا يسبقنّكم إلى العمل به
غيركم، والله الله في الصلاة، فإنها عمود دينكم. والله الله في بيت
ربّكم فلا تخلّوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم يناظر، والله الله في
الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله الله في الزكاة، فإنها
تطفئ غضب الرب، والله الله في ذمّة نبيّكم، فلا يظلمن بين أظهركم،
والله الله في أصحاب نبيكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى
بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، والله الله
فيما ملكت أيمانكم. الصلاة الصلاة لا تخافّن في الله لومة لائم، يكفيكم
من أرادكم وبغى عليكم. وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله، ولا تتركوا
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولى الأمر شراركم، ثم تدعون فلا
يستجاب لكم، وعليكم بالتوصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع
والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان،
واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ فيكم
نبيكم. أستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله» . ثم لم ينطق
إلا «بلا إله إلا الله» حتى قبض رضي الله عنه، وغسله ابناه الحسن
والحسين، وعبد الله بن جعفر، وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وكبر
عليه الحسن تسع تكبيرات.
[1] انظر «تاريخ الطبري» (5/ 143- 145) ، و «الكامل» للمبرد» (2/ 146)
.
(1/222)
ملجم، والحجّاج بن عبد الله الصّريميّ [1]
، وزاذويه [2] العنبري [3] ، فكان من أمر ابن ملجم ما كان، وضرب
الحجّاج معاوية في الصلاة بدمشق فجرح أليته [4] قيل: إنه قطع منه عرق
النّسل، فلم يحبل معاوية بعدها، وأما صاحب عمرو فقدم مصر لذلك فوجد
عمرا قد أصابه وجع في تلك الغداة المعينة، واستخلف على الصلاة خارجة بن
حذافة الذي كان يعدل [5] ألف فارس، فقتله يظنه عمرا ثم قبض فأدخل على
عمرو فقال [له] [6] : أردت عمرا وأراد الله خارجة، فصارت مثلا.
وإلى فداء عمرو بخارجة أشار عبد المجيد بن عبدون [7] الأندلسي في
«بسامته» بقوله:
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليّا بمن شاءت من البشر
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «والحجاج بن عبد الله الضمري» وهو خطأ،
والتصحيح من «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (3/ 388) ، و «الكامل»
للمبرد (2/ 146) .
قلت: ويعرف الحجاج بن عبد الله الصريمي بالبرك أيضا، وهو أول من عارض
في التحكيم لما سمع بذكر الحكمين بين عليّ ومعاوية، فقال: لا حكم إلا
الله، وخرج على الفريقين. وانظر «الأعلام» للزركلي (2/ 168) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «دادويه» وهو تحريف، والتصحيح من «الكامل»
للمبرد (2/ 146) ، وزاذويه هو مولى لبني عمرو بن تميم.
[3] في الأصل: «العنزي» وهو تصحيف، والصواب ما أثبتناه، وهو موافق لما
في المطبوع.
وانظر «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (207) .
[4] في الأصل: «ألييه» وهو تحريف.
[5] كذا في الأصل، والمطبوع، وفي «الإصابة» لابن حجر (3/ 47) ، و
«الأعلام» للزركلي (2/ 293) «يعدّ بألف فارس» .
[6] لفظة «له» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[7] في الأصل، والمطبوع: «عبد الحميد بن عبدويه» وهو خطأ، والتصحيح من
«الأعلام» للزركلي (4/ 149) ، ومن الجدير بالذكر أن قصيدته «البسامة»
طبعت في أوروبة ثم أعيد طبعها في مصر، وقد نظمها ابن عبدون المتوفى سنة
(529 هـ) في رثاء بني الأفطس، وشرحها ابن بدرون وغيره، وترجمت إلى
الفرنسية والإسبانية. ويعود الفضل في وقوفي على هذا التحريف الذي لحق
باسم ابن عبدون في الكتاب إلى الأستاذ الدكتور رضوان الداية، جزاه الله
تعالى خيرا.
(1/223)
وكان علي رضي الله عنه ربعة إلى القصر،
أدعج العينين، حسن الوجه، آدم، ضخم البطن، عريض المنكبين، لهما مشاش
[1] كالسبع، أصلع ليس له شعر إلا من خلفه، عظيم اللحية، وهو أول من
أسلم عند كثيرين بعد خديجة، وعلى كل حال لم يشرك بالله بالغا، شهد
المشاهدة كلّها، وحمدت مواقفه، وكان اللواء معه في أكثرها، وفضّل على
خالد بن الوليد في الشّجاعة، لأن شجاعة خالد فارسا، وعليّ فارسا
وراجلا، ومناقبه لا تعدّ، من أكبرها تزويج البتول، ومؤاخاة الرسول [صلى
الله عليه وسلم] ، ودخوله في المباهلة والكساء، وحمله في أكثر الحروب
اللواء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة
هارون من موسى» [2] ، وغير ذلك مما يطول ذكره ويعزّ حصره، وقد نقل
اليافعي [3] الخلاف بين أهل السّنّة في المفاضلة بينه وبين عثمان،
واختار هو تفضيله على عثمان، وأشار إلى ذلك في قصيدة جملتها خمسة
وثلاثون بيتا منها:
والظّاهر الآن عندي ما أقول به ... والله أعلم ما في باطن الحال
من بعد تفضيلنا الشيخين معتقدي ... تفضيله قبل ذي النّورين من تال
انتهى.
والصحيح تفضيل عثمان كما هو معلوم، ولما استقر الخوارج في حروراء [4]
__________
[1] في الأصل: «مساس» وهو خطأ، وأثبتنا ما في المطبوع، والمشاش رؤوس
العظام مثل الركبتين، والمرفقين، والمنكبين. «لسان العرب» «مشش» (6/
4208) وانظر تتمة كلامه فيه.
[2] رواه البخاري رقم (3706) في فضائل علي رضي الله عنه، ورقم (4416)
في المغازي، باب غزوة تبوك ومسلم رقم (2404) (31) و (32) في فضائل علي
رضي الله عنه، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[3] انظر «مرآة الجنان» (1/ 144) وقد حصل فيه بعض التحريف في البيت
الثاني الذي اختاره ابن العماد.
[4] قال ياقوت: حروراء: بفتحتين، وسكون الواو، وراء أخرى، وألف ممدودة
... هي قرية بظاهر الكوفة، وقيل: موضع على ميلين منها نزل به الخوارج
الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فنسبوا إليها. وانظر تتمة
كلامه في «معجم البلدان» (2/ 245) .
(1/224)
بعد النّهروان [1] وكانوا ستة آلاف مقاتل،
وقيل: ثمانية آلاف، أتاهم عليّ وخطبهم، ووعظهم، فرجعوا معه إلى الكوفة،
وأشاعوا أن عليا تاب من التحكيم، فأتاه الأشعث بن قيس فقال له: إن
النّاس قائلون: إنك رأيت الحكومة ضلالا، وتبت منها، فقام في النّاس
فخطبهم [2] وقال: من زعم أن الحكومة ضلال فقد كذب، فثارت الخوارج
وخرجوا من المسجد، فقيل له: إنهم خارجون عليك، فقال: ما أقاتلهم حتى
يقاتلوني، وسيفعلون، فبعث إليهم ابن عبّاس رضي الله عنهما يناظرهم،
فاحتج عليهم ابن عباس بالتحكيم في إتلاف المحرم الصيد، والتحكيم بين
الزوجين، وبأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمسك عن قتال الهدنة يوم
الحديبية، فصدّقوه في ذلك كلّه، وقالوا له: إن عليا محا نفسه من
الخلافة بالتحكيم، فقال لهم ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
محا اسم الرسالة يوم الحديبية فلم يزلها ذلك عنه، فرجع منهم ألفان،
وبقي أربعة أو ستة آلاف أصرّوا، وبايعوا عبد الله بن وهب الراسبي، فخرج
بهم إلى النّهروان [3] فسار إليهم عليّ، وأوقع بهم، وقتل منهم ألفين
وثمانمائة. منهم ذو الثّديّة [4] علامة الفرقة المارقة، ثم كلمهم أيضا،
فأصرّوا وقالوا: إن عدت إلى جهاد العدوّ سرنا بين يديك، وإن بقيت على
التحكيم قاتلناك، ثم قال لهم: أيّكم قاتل عبد الله بن خبّاب، فقالوا:
كلّنا قتله، وكانوا
__________
[1] النهروان: كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدّها
الأعلى متصل ببغداد، وفيها عدة بلاد متوسطة، منها: إسكاف، وجرجرايا،
والصافية، ودير قنى، وغير ذلك، وكان بها وقعة لأمير المؤمنين علي بن
أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج، وقد خرج منها جماعة من أهل العلم
والأدب. انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 324- 327) .
[2] لفظة «فخطبهم» سقطت من المطبوع.
[3] تقدم التعريف بها قبل قليل.
[4] لا يعرف اسمه، والظاهر أنه لقب بهذا اللقب لأن إحدى ثدييه كانت مثل
ثدي المرأة، عليها شعيرات مثل الذي على ذنب اليربوع. انظر خبره في
«الإصابة» لابن حجر (3/ 212- 213) .
(1/225)
قبل لقوا مسلما ونصرانيا، فأعفوا النصراني
وقالوا: احفظوا وصية نبيكم فيه، وقتلوا المسلم، ثم لقوا عبد الله بن
خبّاب الصحابي وفي عنقه المصحف، فقالوا: إن المصحف يأمرنا بقتلك،
فوعظهم، وذكّرهم، وحدّثهم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلم يقبلوا، وقالوا له: ما تقول في أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما،
فقالوا: ما تقول في عليّ قبل التحكيم، وعثمان قبل الحدث، فأثنى عليهما
خيرا، قالوا: فما تقول في التحكيم والحكومة، قال: أقول: إن عليا أعلم
منكم، وأشدّ توقّيا على دينه، فقالوا: إنك لست تتبع الهدى، فربطوه إلى
جانب النهر وذبحوه، فاندفق دمه على الماء يجري مستقيما.
وروي أن رجلا قال لعليّ: ما بال خلافة أبي بكر وعمر كانت صافية،
وخلافتك أنت وعثمان متكدّرة؟ فقال: إن أبا بكر وعمر، كنت أنا وعثمان من
أعوانهما، وكنت أنت وأمثالك من أعواني وأعوان عثمان. وقال له رجل من
اليهود: ما أتى عليكم بعد نبيكم إلا نيّف وعشرون سنة حتى ضرب بعضكم
بعضا بالسيف، فقال رضي الله عنه: فأنتم ما جفّت أقدامكم من البحر حتى
قلتم: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ 7: 138
[الأعراف: 138] . ومما رثي به عليّ كرم الله وجهه:
ألا قل للخوارج أجمعينا ... فلا قرّت عيون الشّامتينا
أفي [1] شهر الصّيام فجعتمونا ... بخير النّاس طرّا أجمعينا [2]
قتلتم خير من ركب المطايا ... وذلّلها ومن ركب السّفينا
ومن لبس النّعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمئينا
__________
[1] سقطت الألف من لفظة «أفي» من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] في الأصل والمطبوع: «ابتعينا» وهو تحريف، والتصويب من «تاريخ
الطبري» (5/ 150) وقد نسب الأبيات إلى أبي الأسود الدؤلي.
(1/226)
وكلّ مناقب الخيرات فيه ... وحبّ رسول ربّ
العالمينا
وبعد وفاة عليّ بويع لابنه الحسن رضي الله عنهما، فتممت بأيامه «خلافة
النبوة ثلاثون سنة» وظهر تصديق الخبر النبوي [1] .
__________
[1] رواه أحمد في «المسند» (5/ 220) ، وأبو داود في «سننه» رقم (4646)
في السنة، باب في الخلفاء، والترمذي رقم (2226) في الفتن، باب في
الخلافة، من حديث سفينة رضي الله عنه، وهو حديث حسن.
ولفظه عند أبي داود بتمامه عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، أو ملكه من يشاء»
.
(1/227)
|