شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة إحدى وثلاثين
ومائة
فيها استولى أبو مسلم صاحب الدعوة على ممالك خراسان، وهزم الجيوش،
وأقبلت سعادة [1] بني العبّاس، وولّت الدّنيا عن بني أميّة، وكان
ابتداء دعوته بمرو، وذلك أن أبا مسلم واسمه عبد الرّحمن بن مسلم قام
بالدعوة الهاشمية، وابتداء أمره أن أباه مسلما رأى أنه خرج من إحليله
[2] نار وارتفعت في السماء، ووقعت في ناحية المشرق، فقصها على مولاه
عيسى بن معقل العجلي، فقال له: يولد لك غلام يكون له شأن، فمات أبوه،
ووضعته أمه، ونشأ عند عيسى بن معقل، ثم حبس عيسى وأخوه إدريس جدّ أبي
دلف العجلي [3] الذي يمدح في بقايا عليهم من الخراج، فكان أبو مسلم
يختلف إليهما، فوافق عندهم يوما جماعة من نقباء الإمام محمّد بن علي بن
عبد الله بن عبّاس يدعون إلى بيعته سرا، فمال إليهم أبو مسلم، وسار
معهم حتّى قدموا على الإمام محمّد بن عليّ بمكّة، فشكر فعلهم، وأشار
إلى
__________
[1] في الأصل: «سجادة» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[2] قال ابن منظور: الإحليل: مخرج البول من الإنسان ... والإحليل يقع
على ذكر الرجل، وفرج المرأة. «لسان العرب» (حلل) .
[3] أبو دلف: هو القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن سيّار بن شيخ بن
سيّار بن عبد العزّى بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجم. قاله
ابن حزم في «جمهرة أنساب العرب» ص (313) وسوف ترد ترجمته في أول المجلد
الثالث إن شاء الله تعالى.
(2/131)
أبي مسلم [1] وقال له: أنت ممن يتحرك في
دولتنا، ومات الإمام عقب [2] ذلك، وقد أوصى إلى ابنه إبراهيم، فقدمت
الدّعاة على إبراهيم ومعهم أبو مسلم وهو غلام حزوّر [3] فسلّموا أبا
مسلم إليه، فكان يخدمه حضرا وسفرا، ثم أرسله إلى خراسان فشهر الدّعوة
وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: ابن ثلاث وثلاثين سنة، وكان يدعو إلى
رجل من بني هاشم غير معين، ثم أظهر الدّعوة إلى إبراهيم [4] بن محمّد،
وكان إبراهيم بحرّان فقبض عليه مروان وجعل رأسه بجراب نورة [5] وشدّ
عليه، فمات غما، وهرب أخوه عبد الله السّفّاح، فتوارى بالكوفة حتّى
أتته جيوش أبي مسلم من خراسان بعد وقعاته العظيمة بأمراء الأمويين،
فبايعوه وسموه المهدي الوارث للإمامة.
وكان أبو مسلم معظّما يلقاه أبو ليلى القاضي فيقبّل يده، فنهي أبو
ليلى، فقال: قبّل أبو عبيدة يد عمر، فقيل: شبّهته بعمر، قال: تشبّهوني
بأبي عبيدة.
ومن جوده أنّه حجّ في ركبه، فأقسم أن لا يوقد غير ناره، وقام بمؤونتهم
حتّى قدم مكّة، ووقف بمكّة خمسمائة وصيف يسقون النّاس في المسعى.
وآخر أمره أنه لما ولي أبو جعفر المنصور بعد أخيه السّفّاح، صدرت من
أبي مسلم قضايا غيّرت قلبه عليه، ومن ذلك أنه كتب إليه كتابا فبدأ
بنفسه، وخطب إليه عمته آسية، وقد كان في ابتداء دولة المنصور قام عليه
__________
[1] في المطبوع: «وأشار لأبي مسلم» .
[2] في الأصل: «عقيب» وأثبت ما في المطبوع.
[3] قال ابن منظور: الحزوّر: الغلام الذي قد شبّ وقوي ... والجمع حزاور
وحزاورة. «لسان العرب» (حزر) .
[4] في المطبوع: «ثم أظهر الدعوة لإبراهيم» .
[5] الجراب: الوعاء، والنّورة الحجر الذي يحرق ويسوى منه الكلس. انظر
«لسان العرب» (جرب) و (نور) .
(2/132)
ابن أخيه ابن السّفّاح عبد الله، فجهّز
إليه أبو جعفر أبا مسلم فهزمه وقبض خزانته وما معه، فكتب إليه أبو جعفر
المنصور: احتفظ بما في يديك ولا تضيّعه، فشق ذلك على أبي مسلم وعزم على
خلع المنصور، ثم إن المنصور استعطفه ومناه وحفظها له، وقال: لمسلم بن
قتيبة الباهليّ: ما ترى في أبي مسلم؟ فقال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ
إِلَّا الله لَفَسَدَتا 21: 22 [الأنبياء: 22] . فقال:
حسبك لأذن واعية.
قيل: وقد كان قيل لأبي مسلم، أو رؤي له في الملاحم أنه يميت دولة ويحيي
دولة، ويقتل بأرض الرّوم، وكان المنصور برومية، التي بناها الإسكندر ذو
القرنين بمدائن كسرى [1] لما طاف الأرض، ولم يجد المنصور برومية منزلا
سوى المدائن، فنزلها وبنى فيها رومية، وقدم أبو مسلم من حجّه على
المنصور برومية، ولم يخطر بباله أنها مقتله، بل ذهب ذهنه إلى بلاد
الرّوم، فدسّ المنصور جماعة خلف سريره وقال لهم: إذا دخل وعاتبته وضربت
يدا على يد فأظهروا له واضربوا عنقه، ففعلوا، وأنشد حين رآه طريحا:
زعمت أنّ الكيل لا ينقضي [2] ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
اشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمرّ في الحلق من العلقم
واختلف في نسب أبي مسلم، فقيل: من العرب، وقيل: من العجم، وقيل: من
الأكراد، وفي ذلك يقول أبو دلامة [3] :
أبا مجرم ما غيّر الله نعمة ... على عبده حتّى يغيّرها العبد
__________
[1] قلت: وهي اليوم في العراق. انظر «الروض المعطار» للحميري ص (276-
277) .
[2] في «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (3/ 154) : «زعمت أنّ الدّين لا
يقتضى» .
[3] هو زند بن الجون الأسدي، المتوفى سنة (161) هـ. انظر ترجمته في ص
(273- 274) من هذا المجلد.
(2/133)
أفي دولة المنصور حاولت غدرة ... ألا إنّ
أهل الغدر آباؤك الكرد
أبا مسلم خوّفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوّفتني الأسد الورد
وكان يدعي هو أنه ابن سليط بن علي بن عبد الله بن عبّاس.
وقال الكتبيّ في «غرر الخصائص» : قتل أبو مسلم ستمائة ألف.
انتهى.
وكان قتل المنصور له في سنة سبع وثلاثين ومائة.
وفي سنة إحدى وثلاثين مات الزّاهد المشهور فرقد السّبخيّ البصريّ.
حدّث عن أنس وجماعة، وفيه ضعف.
قال الذهبيّ في «المغني» [1] : فرقد السّبخي أبو يعقوب. [قال البخاريّ:
في حديثه مناكير. وقال يحيى القطّان: ما تعجبني الرّواية عنه عن سعيد
بن جبير] [2] . وثقه يحيى بن معين، وقال أحمد: ليس بالقوي. انتهى.
ومنصور بن زاذان البصري، زاهد البصرة وشيخها. روى عن أنس، وجماعة، وكان
يصلي من بكرة إلى العصر، ثم يسبّح إلى المغرب.
وفيها قتل أبو مسلم الخراسانيّ إبراهيم بن ميمون الصائغ ظلما. روى عن
عطاء ونافع.
وفيها توفي بالبصرة إسحاق بن سويد التميمي. روى عن ابن عمر، وجماعة.
وإسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر الدّمشقيّ، مؤدّب أولاد عبد الملك
بن مروان، وكان زاهدا، عابدا، روى عن أنس، وطائفة.
__________
[1] انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 509- 510) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «المغني» المطبوع بتحقيق الدكتور نور الدّين
عتر، فيستدرك فيه.
(2/134)
وفيها فقيه أهل البصرة أيوب السّختياني،
أحد الأعلام، كان من صغار التابعين.
قال شعبة: كان سيّد الفقهاء.
وقال ابن عيينة: لم ألق مثله.
وقال حمّاد بن زيد: كان أفضل من جالسته وأشدّه اتباعا للسّنّة.
وقال ابن المديني: له نحو ثمانمائة حديث.
وقال ابن ناصر الدّين: هو أيوب بن أبي تميمة كيسان أبو بكر السّختيانيّ
البصريّ، كان سيّد العلماء وعلم الحفّاظ، ثبتا في الأيقاظ [1] . انتهى.
وفيها الزّبير بن عديّ، قاضي الرّيّ. يروي عن أنس وجماعة.
وسميّ مولى أبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث المخزوميّ المدنيّ، لقي
كبار التابعين.
وفيها أبو الزّناد عبد الله بن ذكوان، مولى رملة بنت شيبة بن ربيعة،
وكانت رملة تحت عثمان بن عفّان، وكان أبو الزّناد يكنى أبا عبد
الرّحمن، فغلب عليه أبو الزّناد.
وعن الأصمعيّ عن أبي الزّناد أنه قال: أصلنا من همدان، وكان عمر ابن
عبد العزيز ولّاه خراج العراق مع عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن
الخطّاب، ومات أبو الزّناد فجأة في مغتسله في شهر رمضان وهو ابن ست
وستين سنة.
وكان فقيها أحد علماء المدينة، لقي عبد الله بن جعفر، وأنسا.
__________
[1] في الأصل: «في الإيقاظ» وأثبت ما في المطبوع.
(2/135)
قال اللّيث: رأيت أبا الزّناد وخلفه
ثلاثمائة تابع، من طالب علم، وفقه، وشعر، وصنوف، ثم لم يلبث أن بقي
وحده، وأقبلوا على ربيعة [1] .
قال أبو حنيفة: كان أبو الزّناد أفقه من ربيعة.
وفيها عبد الله بن أبي نجيح المكّيّ المفسّر صاحب مجاهد. كان مولى لبني
مخزوم، ويكنى أبا يسار. وكان يقول بالقدر.
قال الذّهبيّ في «المغني» [2] : عبد الله بن أبي نجيح المكّيّ المفسّر
ثقة. قال القطّان: لم يسمع التفسير كله من مجاهد، بل كله عن القاسم بن
أبي بزّة، وقد كره الجوزجانيّ فيمن رمي بالقدر، هو، وزكريّا بن إسحاق،
وعبد الحميد بن جعفر، وإبراهيم بن نافع، وابن إسحاق، وعمر بن أبي
زائدة، وشبل بن عبّاد، وابن أبي ذئب، وسيف بن سليمان. انتهى.
وفيها محمّد بن جحادة الكوفيّ. يروي عن أنس، وطائفة. توفي في رمضان.
وهمّام بن منبّه اليماني صاحب أبي هريرة. وكان من أبناء المائة.
قال أحمد: كان يغزو، فجالس أبا هريرة. وكان يشتري الكتب لأخيه وهب.
وفيها واصل بن عطاء المعتزليّ المتكلّم، كان ألثغ يبدل الراء غينا،
وكان يخلص كلامه بحيث لا تسمع منه الرّاء، حتّى يظن خواص جلسائه أنه
غير ألثغ، حتّى يقال: إنه دفعت إليه رقعة مضمونها: أمر أمير الأمراء
الكرام أن
__________
[1] يعني ربيعة بن فروخ التيمي المدني، أبو عثمان، المعروف بربيعة
الرأي. انظر ص (159) من هذا المجلد.
[2] (1/ 360) .
(2/136)
يحفر بئر على قارعة الطريق فيشرب منه
الصّادر والوارد، فقرأ على الفور:
حكم حاكم الحكام الفخام أن ينبش جب على جادة الممشى، فيسقى منه الصّادي
والغادي، فغيّر كل لفظ برديفه، وهذا من عجيب الاقتدار. وقد أشارت
الشعراء إلى عدم [1] تكلمه بالرّاء، من ذلك قول بعضهم:
نعم تجنّب، لا، يوم العطاء كما ... تجنّب ابن عطاء لفظة الرّاء
ولما قالت الخوارج بتكفير أهل الكبائر، وقالت أهل السّنّة بفسقهم، قال
واصل بن عطاء: لا مؤمنون ولا كفار، فطرده الحسن عن مجلسه، وصار له
شيعة.
قال السيد الشريف في «التعريفات» : الواصليّة: أصحاب أبي حذيفة واصل بن
عطاء، قالوا بنفي القدرة عن الله تعالى وتقدس، وبإسناد القدرة إلى
العباد. انتهى.
__________
[1] تحرفت في الأصل إلى «بعدم» وأثبت ما في المطبوع.
(2/137)
سنة اثنتين وثلاثين
ومائة
فيها ابتداء دولة العباسيين، وبويع أبو العبّاس السّفّاح عبد الله بن
محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس بالكوفة، وجهّز عمه عبد الله بن علي
لمحاربة مروان ابن محمّد الجعدي، فزحف مروان إليه في مائة ألف، إلى أن
نزل بالزّاب [1] دون الموصل، فالتقوا في جمادى الآخرة، فانكسر مروان،
واستولى عبد الله بن علي على الجزيرة، وطلب الشام، وهرب مروان إلى مصر،
فأتبعهم [2] أيضا، فأدركهم بفلسطين، فأوقع بهم بضعا وثمانين رجلا، ثم
عبر مروان النيل طالبا الحبشة، فلحقه صالح بن علي عمّ السّفّاح، فأدركه
بقرية من قرى الفيّوم من أرض مصر يقال لها بوصير [3] فوافاه صائما وقد
قدّم له الفطور، فسمع الصائح، فخرج وسيفه مصلت، فجعل يضرب بسيفه ويتمثل
بقول الحجّاج بن حكيم:
متقلّدين صفائحا هنديّة ... يتركن من ضربوا كأن لم يولد
__________
[1] نهر يسمى الزّاب الأعلى، وهو بين الموصل وإربل. انظر «معجم
البلدان» لياقوت (3/ 123- 124) .
[2] في المطبوع: «فأنبعهم» وهو تصحيف.
[3] في الأصل: «بوصيري» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو الصواب،
انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 509) .
(2/138)
وإذا دعوتهم [1] ليوم كريهة ... وافوك بين
مكبّر وموحّد
فقصدته الخيول من كل جانب، وقتلوه، وكان أهله وبناته في كنيسة هناك،
فأقبل خادمه بالسيف مصلتا يريد الدخول عليهم، فأخذ وسئل عن مراده،
فقال: إن مروان أمرني إذا تيقّنت موته أن أضرب رقاب نسائه وبناته،
فأرادوا قتله، فقال: إن قتلتموني لتفقدن ميراث رسول الله- صلّى الله
عليه وسلّم- قالوا: فدلنا على ذلك إن كنت صادقا، فخرج بهم إلى رمل
هناك، فكشفوه فإذا فيه القضيب، والبرد، والقعب [2] والمصحف [3] فأخذوه،
وكان الذي تولى قتله عامر بن إسماعيل الخراساني، وهو صاحب مقدمة صالح،
ولما قتله دخل بيته، وركب سريره، ودعا بعشائه، وجعل رأس مروان في حجر
ابنته، وأقبل يوبّخها، فقالت له: يا عامر، إن دهرا أنزل مروان عن فراشه
وأقعدك عليه حتّى تعشيت عشاءه، لقد أبلغ في موعظتك، وعمل في إيقاظك
وتنبيهك إن عقلت وفكرت، ثم قالت: وا أبتاه، وا أمير المؤمنيناه، فأخذ
عامرا الرّعب من كلامها، وبلغ ذلك أبا العبّاس السّفّاح، فكتب إلى عامر
يوبّخه ويقول: أما في أدب الله ما يخرجك عن عشاء مروان والجلوس على
مهاده.
وقتل مروان وله تسع وخمسون سنة، وقيل: سبع وستون، وإمارته خمس سنين
وتسعة أشهر وأيام.
وقتل معه أخ لعمر بن عبد العزيز، كان أحد الفرسان، وكان مروان بطلا،
شجاعا، ظالما، أبيض، ضخم الهامة، ربعة، أشهل العين، كثّ اللحية، أسرع
إليه الشيب، ذكره المنصور مرّة فقال: لله درّه ما كان أحزمه، وأسوسه،
وأعفّه عن الفيء. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] في الأصل: «وإذ دعوتهم» .
[2] القعب: القدح الضخم. انظر «لسان العرب» (قعب) .
[3] في «مروج الذهب» (3/ 262) : «فإذا البرد، والقضيب، ومحصر» .
[4] لم أجد هذا النقل في «العبر» المطبوع.
(2/139)
وسار أولاد مروان وشيعتهم على شاطئ النيل
إلى أن دخلوا أرض النّوبة، فأخرجهم ملكها، ثم ساروا حتّى توسطوا أرض
البجاء [1] ميممين [2] ناصع [3] من ساحل بحر القلزم [4] ولهم حروب مع
من مرّوا به.
وهلك عبيد الله بن مروان في غده قتلا وعطشا، وخرج أخوه عبد الله فيمن
بقي إلى ساحل المندب [5] بناصع وأرض البجاء [6] وقطعوا البحر إلى جدّة،
فظفر به وأودع السّجن إلى أيام الرّشيد وهلك.
وروي أن عبد الله هذا حدّث أبا جعفر المنصور بما جرى له مع ملك
النّوبة، وملخص القصة على ما ذكره صاحب «العقد الفريد» [7] : ذكر
سليمان بن جعفر قال: كنت واقفا على رأس المنصور ليلة وعنده جماعة
فتذاكروا [8] زوال ملك بني أميّة، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين في
حبسك عبد الله بن مروان بن محمّد، وقد كانت له قصة عجيبة مع ملك
النّوبة، فابعث إليه فاسأله عنها، فقال المنصور: يا مسيّب عليّ به،
فأخرج وهو مقيّد بقيد ثقيل، وغلّ ثقيل، فمثل بين يديه وقال: السلام
عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له المنصور: يا عبد
الله، إن ردّ السّلام أمن ولم تسمح لك نفسي بذلك بعد، ولكن اقعد،
فجاؤوه بوسادة فقعد عليها، فقال
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أرض البجة» وهو خطأ، والتصحيح من «معجم
البلدان» لياقوت (4/ 388) وفيه قال: والبجّاء قوم سود أشد سوادا من
الحبشة.
[2] في الأصل: «متيممين» وأثبت ما في المطبوع.
[3] قال ياقوت: ناصع من بلاد الحبشة. «معجم البلدان» (5/ 251) .
[4] قلت: ويعرف الآن بالبحر الأحمر.
[5] في الأصل، والمطبوع: «ساحل المعدن» وهو خطأ، والتصحيح من «العقد
الفريد» لابن عبد ربه (5/ 215) طبع دار الكتب العلمية. وانظر «معجم
البلدان» لياقوت (5/ 209) .
[6] في الأصل، والمطبوع: «أرض البجة» والتصحيح من «معجم البلدان»
لياقوت (4/ 388) .
[7] «العقد الفريد» (5/ 217- 218) طبع دار الكتب العلمية.
[8] في الأصل: «فتذكروا» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
(2/140)
له: بلغني أنه كانت لك قصة عجيبة مع ملك
النّوبة فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين والذي أكرمك بالخلافة ما أقدر
على النّفس من ثقل الحديد، ولقد صدئ قيدي من رشاش البول، وأصب عليه
الماء في أوقات الصلوات، فقال المنصور: يا مسيّب أطلق عنه حديده، فلما
أطلقه قال: يا أمير المؤمنين لما قصد عبد الله بن علي عمّ أمير
المؤمنين إلينا، كنت أنا المطلوب أكثر من الجماعة كلّهم، لأني كنت ولي
عهد أبي من بعده، فدخلت إلى خزانة لنا فاستخرجت منها عشرة آلاف دينار،
ثم دعوت عشرة من الغلمان، وحمّلت كل واحد على دابة ودفعت إليه ألف
دينار، وأوقرت خمسة أبغل ما نحتاجه، وشددت على وسطي جوهرا له قيمة مع
شيء من الذّهب، وخرجت هاربا إلى بلد النّوبة، فسرت فيها ثلاثا، فوقعت
على مدينة خراب، فأمرت الغلمان فكسحوا [1] منها ما كان قذرا، ثم فرشوا
بعض تلك الفرش، ودعوت غلاما لي كنت أثق به وبعقله، فقلت: انطلق إلى
الملك وأقرئه عني السّلام، وخذ لي الأمان، وابتع لي ميرة [2] قال: فمضى
وأبطأ عني حتّى سؤت ظنا، ثم أقبل ومعه رجل آخر، فلما دخل قعد بين يديّ
وقال لي: الملك يقرأ عليك السّلام ويقول لك: من أنت؟ وما جاء بك إلى
بلادي؟ أمحارب لي؟ أم راغب إليّ؟ أم مستجير بي؟ فقلت: ترد على الملك
السّلام وتقول له: أمّا محارب لك فمعاذ الله، وأما راغب في دينك فما
كنت لأبغي بديني بدلا، وأما مستجير بك فلعمري. قال: فذهب ثم رجع إليّ
وقال: الملك يقرأ عليك السّلام ويقول لك: أنا صائر إليك غدا، فلا تحدثن
في نفسك حدثا، ولا تتخذ شيئا من ميرة فإنها تأتيك وما تحتاج إليه،
فأقبلت الميرة، فأمرت غلماني يفرشون تلك الفرش، وأمرت بفرش نصب له ولي
مثله، وأقبلت من
__________
[1] قال ابن منظور: الكسح: الكنس، كسح البيت والبئر يكسحه كسحا: كنسه،
والمكسحة:
المكنسة. «لسان العرب» (كسح) .
[2] الميرة: الطعام. انظر «مختار الصحاح» ص (640) .
(2/141)
غد أرقب مجيئه، فبينا أنا كذلك إذ أقبل
غلماني وقالوا: إن الملك قد أقبل، فقمت بين شرفتين من شرف القصر أنظر
إليه، فإذا رجل قد لبس بردتين، اتّزر بواحدة [1] وارتدى بالأخرى، حاف
راجل، وإذا عشرة معهم الحراب، ثلاثة يقدمونه، وسبعة خلفه، وإذا الرّجل
لا يعبأ به، فاستصغرت أمره، وهان عليّ لما رأيته في تلك الحال، فلما
قرب من الدّار إذا أنا بسواد عظيم، فقلت:
ما هذا؟ قيل: الخيل، وإذا بها تزيد على عشرة آلاف عنان، فكانت موافاة
الخيل إلى الدّار وقت دخوله، فدخل إليّ وقال لترجمانه: أين الرّجل؟
فلما نظر إليّ وثبت إليه، فأعظم ذلك، وأخذ بيدي فقبّلها ووضعها على
صدره، وجعل يدفع البساط برجله، فظننت أن ذلك شيئا يجهلونه أن يطأوا على
مثله، حتّى انتهى الفرش، فقلت لترجمانه: سبحان الله لم لا يقعد على
الموضع الذي وطئ له؟ فقال: قل له: إني ملك وحقّ على كل ملك أن يكون
متواضعا لعظمة الله سبحانه إذ رفعه، ثم أقبل ينكت [2] بإصبعه في الأرض
طويلا، ثم رفع رأسه فقال لي: كيف سلبت نعمتكم وزال عنكم هذا الملك وأخذ
منكم وأنتم أقرب إلى نبيكم من النّاس جميعا؟ فقلت: جاء من هو أقرب
قرابة إلى نبينا- صلّى الله عليه وسلّم- فسلبنا، وطردنا، وقاتلنا،
فخرجت إليك مستجيرا بالله ثم بك.
قال: فلم كنتم تشربون الخمر وهو محرّم عليكم في كتابكم؟ فقلت:
فعل ذلك عبيد وأتباع وأعاجم دخلوا في ملكنا بغير رأينا.
قال: فلم كنتم تركبون على دوابكم بمراكب الذّهب، والفضة، والدّيباج،
وقد حرّم عليكم ذلك؟ قلت: عبيد وأتباع وأعاجم دخلوا مملكتنا ففعلوا.
__________
[1] في المطبوع: «اتزر بإحداهما» .
[2] في المطبوع: «ينكث» وهو تصحيف. قال ابن منظور: النكت: أن تنكت
بقضيب في الأرض فتؤثر بطرفه فيها. «لسان العرب» (نكت) .
(2/142)
قال: فلم كنتم أنتم إذا خرجتم إلى صيدكم
تقحّمتم على القرى وكلّفتم أهلها ما لا طاقة لهم به بالضرب الموجع، ثم
لا يقنعكم ذلك حتّى تمشوا في زروعهم فتفسدوها في طلب درّاج [1] قيمته
نصف درهم، أو عصفور قيمته لا شيء، والفساد محرّم عليكم في دينكم؟ فقلت:
عبيد وأتباع. قال: لا، ولكنكم استحللتم ما حرّم الله وفعلتم ما نهاكم
عنه، وأحببتم الظلم وكرهتم العدل، فسلبكم الله- عزّ وجل- العزّ وألبسكم
الذّلّ، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وإني أتخوّف عليكم أن تنزل
النقمة بك إذ كنت من الظلمة فتشملني معك، فإنّ النقمة إذا نزلت عمّت،
والبلية إذا حلّت شملت، فاخرج عني بعد ثلاثة أيام من أرضي، فإني إن
وجدتك بعدها أخذت جميع ما معك وقتلتك وقتلت جميع من معك، ثم وثب وخرج،
فأقمت ثلاثا وخرجت إلى مصر، فأخذني وإليك وبعث بي إليك، وها أنا الآن
بين يديك والموت أحبّ إليّ من الحياة. فهمّ المنصور بإطلاقه، فقال له
إسماعيل بن عليّ: في عنقي بيعة له، قال: فماذا ترى؟ قال: يترك في دار
من دورنا ونجري عليه ما يليق به، ففعل ذلك به. انتهى.
قال ابن الأهدل: وهرب عبد الرّحمن بن معاوية بن هاشم بن عبد الملك
وكثيرون من بني أميّة إلى المغرب، واستولى على بلاد الأندلس ومخاليفها
[2] وورثها بنوه بطنا بعد بطن، واستأمن سليمان بن هشام وابناه في نحو
ثمانين رجلا من بني أميّة، فأمّنهم السّفّاح حتّى قدم عليه السديف بن
__________
[1] الدّرّاج، والدّرّاجة: ضرب من الطير ذكرا كان أو أنثى. انظر «مختار
الصحاح» ص (202) .
[2] في الأصل: «ومخالفيها» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو
الصواب. قال ابن منظور: المخلاف: الكورة يقدم عليها الإنسان، وهو عند
أهل اليمن واحد المخاليف، وهي كورها، ولكل مخلاف منها اسم يعرف به، وهي
كالرّستاق، قال ابن بري: المخاليف لأهل اليمن كالأجناد لأهل الشام،
والكور لأهل العراق، والرّساتيق لأهل الجبال، والطّساسيج لأهل الأهواز.
«لسان العرب» (خلف) .
(2/143)
ميمون [1] مولى زين العابدين، فأنشده:
ظهر الحقّ واستبان مضيّا ... إذ رأينا الخليفة المهديّا
إلى قوله:
قد أتتك الوفود من عبد شمس ... مستكينين قد أجادوا المطيّا
فاردد العذر وامض بالسّيف حتّى ... لا تدع فوق ظهرها أمويّا
وأنشده أيضا:
علام وفيم تترك عبد شمس ... لها في كلّ راعية ثغاء [2]
أمير المؤمنين أبح دماهم ... فإن تفعل فعادتك المضاء
وأنشده أيضا:
أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل [3] من بني العبّاس
إلى قوله:
فلهم أظهر المودّة منهم ... وبهم منكم كحدّ المواسي
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «الشديف بن ميمون» وهو تصحيف، والتصحيح من
«الأغاني» (6/ 135) ، و «الشعر والشعراء» ص (479) ط ليدن. قال أبو
الفرج: هو سديف بن ميمون مولى خزاعة، وكان سبب ادعائه ولاء بني هاشم
أنه تزوج مولاة أبي لهب، فادعى ولاءهم، ودخل في جملة مواليهم على
الأيام. وقيل: بل أبوه هو كان المتزوج مولاة اللهبيّين، فولدت منه
سديفا، فلما يفع، وقال الشعر، وعرف بالبيان وحسن العارضة، ادعى الولاء
في موالي أبيه، فغلبوا عليه. وسديف شاعر، مقل من شعراء الحجاز، ومن
مخضرمي الدولتين، وكان شديد التعصب لبني هاشم، مظهرا ذلك في أيام بني
أميّة. وانظر تتمة كلامه فيه.
[2] الثغاء: صوت الشاة والمعز وما شاكلهما. انظر «مختار الصحاح» ص (84)
.
[3] في الأصل: «بالتهاليل» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
(2/144)
فلما سمع السّفّاح ذلك أمر بقتل جميعهم،
وأجاز السديف [1] بألف دينار، ثم قال المنصور: كأني بك يا سديف [1] قد
قدمت المدينة فقلت لعبد الله بن الحسن: يا ابن رسول الله، إنما نداهن
بني العبّاس لأجل عطاياهم، نقوّم بها أودنا، وأقسم بالله لئن فعلت
لأقتلنك، ففعل السديف [1] ذلك، وانتهى خبره إليه، فلما تمكن منه ضربه
حتّى مات. انتهى ما قاله ابن الأهدل.
وقال في «العبر» [2] : لما استولى عبد الله بن عليّ على الجزيرة وطلب
الشام، فهرب مروان إلى مصر وخذل وانقضت أيّامه. نزل عبد الله على دمشق
فحاصرها وبها ابن عمّ مروان الوليد بن معاوية بن مروان، فأخذت بالسيف.
وقتل بها من الأمويين عدّة آلاف. منهم أميرها الوليد، وسليمان بن هشام
بن عبد الملك، وسليمان بن يزيد بن عبد الملك، وزرعة بن إبراهيم.
قال في «المغني» [3] : زرعة بن إبراهيم، عن عطاء. قال أبو حاتم
الرّازي: ليس بالقوي. انتهى.
وفيها- أي سنة اثنتين وثلاثين ومائة- توفي عبد الله بن طاووس بن كيسان
اليمانيّ النحويّ. روى عن أبيه وغيره.
قال معمر: كان من أعلم النّاس بالعربيّة وأحسنهم خلقا، وما رأيت ابن
فقيه مثله.
ودخل مع مالك على المنصور فقال: حدّثني عن أبيك. قال: حدّثني
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «الشديف» وهو تصحيف، والتصحيح من «الأغاني»
(16/ 135) و «الشعر والشعراء» ص (479) .
[2] (1/ 174- 175) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
[3] (1/ 238) .
(2/145)
أبي أن أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة رجل
أشركه الله في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه، فأمسك المنصور. قال
مالك: فضممت ثيابي خوفا أن يصيبني دمه. ثم قال له: ناولني الدواة، فلم
يفعل، فقال: لم لا تناولني؟
فقال: أخاف أن تكتب بها معصية. قال: قوما عني. قال: ذلك ما كنا نبغي.
قال مالك: فما زلت أعرف فضله.
وفيها بالمدينة [1] إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاريّ الفقيه.
كان مالك لا يقدّم عليه أحدا لنبله عنده.
وإبراهيم بن ميسرة الطائفيّ صاحب أنس.
قال ابن عيينة: أخبرنا إبراهيم بن ميسرة، من لم تر عيناك والله مثله.
وفيها قتل خالد بن سلمة بن العاص المخزوميّ الكوفيّ. وكان قد هرب إلى
واسط مع يزيد بن عمر بن هبيرة، فقتله بنو العبّاس.
وفيها توفي سالم الأفطس الحرّانيّ الفقيه مولى بني أميّة. روى عن سعيد
بن جبير، وجماعة. قتله عبد الله بن عليّ.
قال في «المغني» [2] سالم الأفطس، هو ابن عجلان، تابعيّ مشهور، وثّقه
بعضهم، وخرّج له البخاريّ.
قال الفسويّ: مرجئ معاند.
وقال ابن حبّان: يتفرد بالمعضلات. انتهى.
وممن قتل في هذه السنة عمر بن أبي سلمة بن عبد الرّحمن بن عوف الزّهري.
__________
[1] لفظة «بالمدينة» سقطت من المطبوع.
[2] يعني «المغني في الضعفاء» (1/ 251) .
(2/146)
وفيها توفي أبو عبد الله صفوان بن سليم
المدنيّ الفقيه القدوة. روى عن ابن عمر، وجابر، وعدّة.
قال أحمد بن حنبل: ثقة من خيار عباد الله، يستنزل بذكره القطر.
وفيها عبد الله بن عثمان بن خثيم [1] المكيّ. روى عن أبي الطّفيل
وعدّة.
قال في «المغني» [2] : وثقه ابن معين مرّة، ومرّة قال: ليس بالقويّ [3]
.
انتهى.
وفيها أبو عتّاب منصور بن المعتمر السّلميّ الكوفيّ الحافظ، أحد
الأعلام، أخذ عن أبي وائل وكبار التابعين. وقال: ما كتبت حديثا قطّ.
وكان أحفظ أهل الكوفة، صام أربعين سنة وقامها، وعمي من البكاء، وأكره
على القضاء- أي قضاء الكوفة- وقضى شهرين، وتوفي بالمدينة.
قال في «العبر» [4] : يقال فيه يسير تشيّع. انتهى.
وفيها قتل بجامع دمشق، في أخذها، يونس بن ميسرة [5] بن حلبس المقرئ
الأعمى وله مائة وعشرون سنة. روى عن معاوية والكبار، وكان موصوفا
بالفضل والزّهد، كبير القدر.
__________
[1] في المطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 176) : «عبد الله بن عثمان خيثم»
وهو خطأ.
[2] (1/ 346- 347) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ومرة قال: لا أعرفه» وهو خطأ، فإنه قال ذلك
في «عبد الله ابن عثمان بن سعد» والتصحيح من «المغني» (1/ 347) .
[4] (1/ 177) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «يوسف بن ميسرة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر»
للذهبي (1/ 177) .
(2/147)
وقتل بنهر أبي فطرس [1] من الأردن، الأمير
محمّد بن عبد الملك بن مروان الأموي، وله رواية عن أبيه.
وفي ذي القعدة قتل الأمير أبو خالد يزيد بن عمر [2] بن هبيرة الفزاريّ،
أمير العراقين لمروان، وله خمس وأربعون سنة، وهو آخر من جمع له
العراقان، وكان شهما، طويلا، شجاعا، خطيبا، مفوّها، جوادا، مفرط الأكل،
ولما تواقع هو وبنو العبّاس هرب إلى واسط، فحاصروه بها وثبت معه معن بن
زائدة الشّيباني، وكان أبو جعفر المنصور أخو السّفّاح يعيّره فيقول:
ابن هبيرة يخندق على نفسه كالنساء، فأرسل إليه ابن هبيرة أن ابرز إليّ،
فقال المنصور: خنزير قال لأسد: ابرز إليّ، فقال الأسد: ما أنت بكفء لي.
قال الخنزير: لأعرّفنّ السباع أنك جبنت. فقال الأسد: احتمال ذلك أيسر
من تلطّخ براثني بدمك. ثم أمّنه المنصور وغدر به. وقال: لا يعزّ ملك
وأنت فيه.
وكان رزق ابن هبيرة في كل سنة ستمائة ألف. وكان يأكل في يومه خمس أكلات
عظام، وقتل وهو ساجد.
وفيها كانت وقعة المسناة، فقتل الأمير قحطبة بن شبيب الطائي المروزيّ،
أحد دعاة بني العبّاس، وتأمّر على الجيش في الحال ولده.
وفيها قتل سليمان بن كثير الخزاعيّ المروزيّ الأمير، أحد نقباء بني
العبّاس، قتله أبو مسلم الخراسانيّ.
وفي ذي الحجّة قتل بمصر عبيد الله بن أبي جعفر الليثيّ مولاهم
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بنهر أبي قطرس» وهو تصحيف، والتصحيح من
«العبر» للذهبي (1/ 177) .
وقال الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» (2/ 246) : فطرس بالضم رجل،
ومنه نهر فطرس، ويقال: أبي فطرس، قرب الرّملة، مخرجه من جبل قرب نابلس.
[2] في الأصل: «يزيد بن عمرو» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو
الصواب.
(2/148)
المصريّ الفقيه، أحد العلماء والزّهّاد.
ولد سنة ستين.
قال محمد بن سعد: كان ثقة بقيّة في زمانه [1] .
قال ابن ناصر الدّين: من حكم كلامه: إذا حدّث المرء فأعجبه الحديث
فليمسك وإذا كان ساكتا [2] فأعجبه السكوت فليتحدث. انتهى.
__________
[1] في الأصل: «فقيه في زمانه» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في
«العبر» للذهبي (1/ 178) مصدر المؤلف في نقله، و «الطبقات الكبرى» لابن
سعد (7/ 514) مصدر الحافظ الذهبي في «العبر» ، و «تهذيب الكمال» للمزي
(2/ 875) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.
[2] في المطبوع: «وإن كان ساكتا» .
(2/149)
سنة ثلاث وثلاثين
ومائة
فيها نازل طاغية الرّوم أليون بن قسطنطين ملطية [1] وألح [2] عليهم
بالقتال حتّى سلّموها بالأمان، فهدم المدينة والجامع، ووجّه مع
المسلمين عسكرا حتّى يبلّغوهم مأمنهم [3] .
وفيها بعث أبو مسلم الخراساني مرارا الضبّي [4] ، فقتل الوزير أبا سلمة
[5] الخلّال حفص بن سليمان السّبيعيّ مولاهم الكوفي وزير آل محمّد،
وفيه قيل: هذا البيت.
إنّ الوزير وزير آل محمّد ... أودى فمن يشناك [6] كان وزيرا
__________
[1] ملطية: مدينة تقع الآن في الجنوب الأوسط لتركيا المعاصرة، خرج منها
عدد من الرّواة، منهم: محمد بن علي بن أحمد بن أبي فروة الملطي أبو
الحسين المقرئ المتوفى سنة (404 هـ) ، وسليمان بن أحمد بن يحيى بن
سليمان بن أبي صلابة الملطي أبو أيوب الحافظ. انظر «معجم البلدان»
لياقوت (5/ 192- 193) .
[2] في الأصل: «وألج» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] تحرفت في الأصل إلى «بأبنهم» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] هو مرار بن أنس الضبي، كما في «البداية والنهاية» لابن كثير (10/
54) .
[5] في الأصل والمطبوع: «أبا مسلم» وهو خطأ، والتصويب من «البداية»
(10/ 54) و «الأعلام» (2/ 263) (ع) .
[6] في الأصل والمطبوع: «سناك» وأثبت ما في «العبر» (1/ 179) .
(2/150)
وفيها توفي أيّوب بن موسى بن الأشدق عمرو
بن سعيد [1] الأمويّ المكيّ الفقيه.
روى عن عطاء ومكحول.
قال في «المغني» [2] : عن بعض التابعين مجهول [3] . انتهى.
وقد خرّج له أبو داود.
ومات بمكّة الأمير داود بن علي بن عبد الله بن عبّاس. وكان فصيحا
مفوّها، ولي إمرة المدينة. وروى [عن] [4] جماعة أحاديث، قاله في
«العبر» [5] .
وفيها، وقيل: في سنة خمس سعيد بن أبي هلال اللّيثيّ مولاهم المصريّ.
يروي عن التابعين.
وعمّار الدّهنيّ-[نسبة إلى] دهن بن معاوية من بجيلة- أبو معاوية
الكوفيّ. روى عن أبي الطّفيل، وعدّة.
وعيّاش بن عبّاس [6] القتبانيّ المصريّ. روى عن التابعين.
ومغيرة بن مقسم الضبّيّ، مولاهم الكوفيّ الفقيه الأعمى أحد الأئمة.
روى عن أبي وائل وطبقته.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عمر بن سعيد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر»
للذهبي (1/ 179) .
[2] (1/ 98) .
[3] أقول: بل هو ثقة، وروى له أصحاب الكتب الستة. انظر «تقريب التهذيب»
للحافظ ابن حجر (1/ 91) (ع) .
[4] لفظة «عن» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي.
[5] (1/ 179) .
[6] في الأصل: «عيّاش بن عيّاش» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو
الصواب.
(2/151)
قال شعبة: كان أحفظ من حمّاد بن أبي
سليمان.
وقال مغيرة: ما وقع في مسامعي شيء فنسيته.
وقال أحمد بن حنبل: كان ذكيا، حافظا، صاحب سنّة.
وفيها، أو في التي قبلها، توفي سيّد أهل دمشق يحيى بن يحيى بن قيس
الغسّانيّ، ولي قضاء الموصل لعمر بن عبد العزيز، وأخذ عن أبي إدريس
الخولاني وغيره، وكان ثقة، إماما، ولا رواية له في الكتب الستة [1] .
__________
[1] قلت: كذا في الأصل، والمطبوع: و «العبر» للذهبي (1/ 180) . ولكن
ذكر الحافظ الذهبي في «الكاشف» (3/ 238) أنه في عداد من أخرج له أبو
داود، وكذلك الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (11/ 299) .
(2/152)
سنة أربع وثلاثين
ومائة
فيها تحول الخليفة السّفّاح عن الكوفة فنزل [1] الأنبار.
وفيها توفي بالبصرة أبو هارون العبديّ [2] صاحب أبي سعيد الخدريّ، أحد
الضعفاء.
قال حمّاد بن زيد: هو كذّاب [3] .
والفقيه يزيد بن يزيد بن جابر الأزديّ الدّمشقيّ. روى عن مكحول وطائفة.
قال أبو داود: أجازه الوليد مرّة بخمسين ألف دينار. وذكر للقضاء فإذا
هو أكبر من القضاء. قاله في «العبر» [4] .
وعن ابن عيينة قال: لا أعلم مكحولا خلّف بالشام مثل يزيد بن يزيد
الإمام.
وقال في «المغني» [5] : يزيد بن يزيد بن جابر، صدوق مشهور، لينه ابن
قانع. انتهى.
__________
[1] في المطبوع: «ونزل» .
[2] هو عمارة بن جوين العبدي، تابعي ضعيف. قاله الذهبي في «المغني» (2/
460) .
[3] وهو كلام الذهبي في «المغني» .
[4] (1/ 181) .
[5] (2/ 754) .
(2/153)
وفيها توجه من العراق موسى بن كعب إلى حرب
[1] منصور بن جمهور الكلبيّ الدّمشقيّ حتّى أتى السّند [2] فالتقى
منصورا في اثنى عشر ألفا، فهزم منصور ومات في البريّة عطشا، وكان
قدريّا.
__________
[1] في الأصل: «حروب» ، وما أثبته من المطبوع وهو الصواب.
[2] السند: مدينة تقع الآن في باكستان المعاصرة، وقد نسب إليها فيما
مضى عدد كبير من العلماء. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (3/
267) ، و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (110- 111) .
(2/154)
سنة خمس وثلاثين
ومائة
فيها توفي أبو العلاء [برد] [1] بن سنان الدّمشقيّ نزيل [2] البصرة.
روى عن واثلة فمن بعده.
قال في «المغني» [3] : هو شامي لا يعرف. انتهى.
وداود بن الحصين المدنيّ مولى بني أميّة. روى عن عكرمة، وجماعة.
قال في «المغني» [4] : داود بن الحصين أبو سليمان المدنيّ، عن عكرمة،
صدوق يغرب، ووثقه غير واحد، كابن معين.
وقال ابن المديني: ما روى عن عكرمة فمنكر.
وقال أبو حاتم الرّازيّ: لولا أنّ مالكا روى عنه لنزل حديثه.
وقال سفيان بن عيينة: كنا نتّقي حديثه.
وقال أبو زرعة: ليّن [5] .
__________
[1] لفظة «برد» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] في المطبوع «نزل» .
[3] قلت: بل إن الذي قاله الحافظ الذهبي في «المغني» (1/ 101) : تابعي،
وثقه ابن معين وغيره، وضعفه ابن المديني، وقال أبو داود السجستاني: كان
يرى القدر.
[4] (1/ 217) .
[5] في المطبوع: «لئن» وهو تحريف.
(2/155)
قلت [1] : ورمي أيضا بالقدر [2] . انتهى.
وفيها على الأصح أبو عقيل زهرة بن معبد التيميّ بالاسكندريّة عن سنّ
عالية.
قال الدّارميّ: زعموا أنه كان من الأبدال [3] .
روى عن ابن عمر، وابن الزّبير [4] .
وفيها على الأصح عبد الله بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم
الأنصاريّ المدنيّ، شيخ مالك والسّفيانين. روى عن أنس، وجماعة. وكان
كثير العلم.
وفيها عطاء الخراسانيّ نزيل بيت المقدس، وهو كثير الإرسال عن الصّحابة.
وإنما سمع من [5] ابن بريدة، والتابعين.
وولد سنة خمسين، وكان يقول: أوثق عمل [6] في نفسي نشر العلم.
وقال ابن جابر: كنا نغزو معه، فكان [7] يحيي الليل صلاة إلّا نومة
السّحر، وكان يعظنا، ويحثّنا على التهجّد.
وفيها رابعة بنت إسماعيل البصريّة العدويّة، شهيرة الفضل، وقيل:
__________
[1] القائل الحافظ الذهبي في «المغني» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «رمي بالقدر» وأثبت ما في «المغني» .
[3] قال ابن الأثير الأبدال: هم الأولياء، والعبّاد، الواحد بدل، كحمل
وأحمال، وبدل كجمل، سمّوا بذلك لأنهم كلما مات واحد منهم أبدل بآخر.
«النهاية» (1/ 107) .
[4] انظر «معرفة الرجال» لابن معين (1/ 292) و (2/ 101 و 173 و 222) و
«العبر» للذهبي (1/ 182) ، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر (3/ 341- 342) .
[5] في المطبوع: «وإنما سمع عن» انظر «العبر» للذهبي (1/ 182) .
[6] في الأصل، والمطبوع: «أوثق علمي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر»
للذهبي» (1/ 182) .
[7] في «العبر» : «وكان» .
(2/156)
توفيت سنة خمس وثمانين ومائة ولا يصح
اجتماع السّريّ [1] بها، فإنه عاش حتّى نيّف على [2] الخمسين ومائتين.
وروي أن سفيان الثّوري قال بحضرتها: وا حزناه. قالت: لا تكذب، وقل: وا
قلّة حزناه.
وسمعته يقول: اللهم إني أسألك رضاك، فقالت: تسأل رضا من لست عنه براض.
ورآها بعض إخوانها في المنام، فقالت: هداياك تأتينا على أطباق من نور
مخمّرة [3] بمناديل من نور.
وقبرها على رأس جبل يسمى الطّور بظاهر بيت المقدس.
وقيل: ذلك قبر رابعة أخرى غير العدويّة.
وقيل لها في منام: ما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب [4] ؟ قالت: سبقتنا إلى
الدرجات العلا. قيل: ولم ذلك؟ قالت: لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من
الدّنيا وأمست [5] .
__________
[1] هو السري بن المغلس السّقطي. المتوفى سنة (253) ، وسوف ترد ترجمته
في المجلد الثالث من كتابنا هذا إن شاء الله.
[2] في الأصل: «حتى نيف عن» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] في «مرآة الجنان» : «الخمر» .
[4] انظر ترجمتها في «صفة الصفوة» لابن الجوزي (4/ 34- 35) .
[5] قلت: والمؤلف نقل خبر رابعة عن «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/
285- 288) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 305- 306) بتصرف.
(2/157)
|