شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وثمانين
ومائة
فيها حجّ الرّشيد ومعه ابناه، فأعطى أهل مكّة والمدينة ما مبلغه ألف
ألف دينار وخمسون ألف دينار، وكتب كتاب لولديه، وأشهد عليهما بما فيه
من وفاء كل أحد منهما لصاحبه. قاله في «الشذور» [1] .
وفيها سار عليّ بن عيسى بن ماهان في الجيوش من مرو، فالتقى هو وأبو
الخصيب [2] بنسإ [3] فظفر بأبي الخصيب، واستقامت خراسان للرّشيد.
وفيها توفي حاتم بن إسماعيل المدنيّ. روى عن هشام بن عروة وطبقته. وكان
ثقة كثير الحديث. وقيل: مات في التي تليها.
وحسّان بن إبراهيم الكرمانيّ قاضي كرمان. روى عن عاصم الأحول وجماعة.
قال في «المغني» [4] : حسّان بن إبراهيم الكرمانيّ، ثقة.
قال النّسائيّ: ليس بالقويّ.
وقال أبو زرعة: لا بأس به. انتهى.
__________
[1] يعني «شذور العقود في تاريخ العهود» لابن الجوزي.
[2] أبو الخصيب: هو وهيب بن عبد الله النسائي. (ع) .
[3] مدينة من مدن خراسان من أرض إيران. انظر خبرها في «معجم البلدان»
(5/ 281- 282) .
[4] (1/ 156) .
(2/387)
وقد خرّج له الشيخان، وأبو داود.
وفيها خالد بن الحارث أبو عثمان البصريّ الحافظ. روى عن أيّوب وخلق.
قال الإمام أحمد: إليه المنتهى في التثبّت بالبصرة.
قال ابن ناصر الدّين: خالد بن الحارث بن سليمان بن عبيد بن سفيان
الهجيميّ البصريّ- وبنو الهجيم من بني العنبر من تميم- كان من الحفّاظ
الثقات المأمونين. انتهى.
وفيها سفيان بن حبيب البصريّ البزّاز. روى عن عاصم الأحول، وطائفة.
قال أبو حاتم: ثقة، أعلم النّاس بحديث سعيد بن أبي عروبة.
وفيها، أو في التي تليها، عبّاد بن العوّام الواسطيّ ببغداد. روى عن
أبي مالك الأشجعيّ وطبقته. وكان صاحب حديث وإتقان.
وعيسى غنجار [1] أبو أحمد البخاريّ، محدّث ما وراء النهر. رحل، وحمل عن
سفيان الثّوريّ. وطبقته.
قال الحاكم: هو إمام عصره، طلب العلم على كبر السن، وطوّف.
يروي عن أكثر من مائة شيخ من المجهولين، وحديثه عن الثقات مستقيم.
وفيها فقيه المدينة أبو هاشم المغيرة بن عبد الرّحمن المخزوميّ وله
اثنتان وستون سنة. روى عن هشام بن عروة وطبقته.
قال الزّبير بن بكّار: عرض عليه الرّشيد قضاء المدينة فامتنع، فأعفاه.
__________
[1] قال الزبيديّ في «تاج العروس» (غنجر) : وإنما لقب ب غنجار لحمرة
وجنتيه. قلت (القائل الزبيدي) : كأنّه معرب: عنجه آر. وانظر «تهذيب
التهذيب» لابن حجر (8/ 232) .
(2/388)
ووصله بألفي دينار، وكان فقيه المدينة بعد
مالك.
قال في «المغني» [1] : وثّقه غير واحد، وضعّفه أبو داود. انتهى.
وفيها عبد الواحد بن زياد العبديّ، مولاهم، البصريّ، أبو بشر، ويقال:
أبو عبيدة. وثّقه أحمد وغيره، واحتجّ به الشيخان في «الصحيح» لكنهما لم
يخرّجا عنه شيئا مما أنكر عليه، كالأحاديث التي وصلها عن الأعمش وكانت
مرسلة لديه.
وبشر بن المفضّل بن لاحق الرّقاشيّ مولاهم البصريّ، أبو إسماعيل.
حدّث عنه إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وابن المديني، وأشباههم.
إليه المنتهى في التثبّت في البصرة. كان ثقة مشهورا. وكان يصلّي كل يوم
أربعمائة ركعة، ويصوم يوما، ويفطر يوما.
__________
[1] (2/ 673) .
(2/389)
سنة سبع وثمانين
ومائة
فيها- على ما قاله في «العبر» [1]- خلعت الرّوم من الملك الست ريني [2]
وهلكت بعد أشهر، وأقاموا عليهم نقفور [3] والرّوم تزعم أن نقفور من ولد
جفنة الغساني الذي تنصر، وكان نقفور قبل الملك يلي الديوان، فكتب نقفور
هذا الكتاب:
من نقفور ملك الرّوم، إلى هارون ملك العرب.
أما بعد: فإن الملكة كانت قبلي أقامتك مقام الرّخّ [4] وأقامت نفسها
مقام البيذق [5] فحملت إليك من أموالها وذلك لضعف النساء وحمقهنّ، فإذا
قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل قبلك وافتد نفسك، وإلّا فالسيف بيننا.
فلما قرأ الرّشيد الكتاب اشتد غضبه وتفرّق جلساؤه خوفا من بادرة تقع
منه. ثم كتب بيده على ظهر الكتاب:
من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الرّوم. قرأت كتابك يا ابن
__________
[1] (1/ 294) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ريتي» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي
(1/ 294) .
قال الطبري في تاريخه (8/ 269) : وهي أم قسطنطين بن أليون ملك الرّوم
وتلقب أغسطه.
[3] تصحف في الأصل في هذا الموضع وفي سياق القصة كلها إلى «تقفور»
وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «العبر» للذهبي، والمصادر التي
بين يدي.
[4] قال ابن منظور: الرّخّ من أدوات الشطرنج والجمع رخاخ. [وقال]
اللّيث: الرّخّ معرب من كلام العجم من أدوات لعبة لهم. «لسان العرب»
(رخخ) .
[5] الأصل: «البيدق» وانظر «مرآة الجنان» (1/ 412) .
(2/390)
الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه.
ثم ركب من يومه وأسرع حتّى نزل مدينة هرقلة، وأوطأ الرّوم ذلّا وبلاء،
فقتل، وسبى، وذلّ نقفور وطلب الموادعة على خراج يحمله، فأجابه. فلما
ردّ الرّشيد إلى الرّقّة. نقض نقفور، فلم يجسر أحد أن يبلّغ الرّشيد
حتّى عملت الشعراء أبياتا يلوّحون بذلك. فقال: أوقد فعلها؟ فكرّ راجعا
في مشقّة الشتاء حتّى أناخ بفنائه ونال مراده. وفي ذلك يقول أبو
العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب [1] ... من الملك الموفّق للصّواب
غدا هارون يرعد بالمنايا ... ويبرق بالمذكّرة الصّعاب [2]
ورايات يحلّ النّصر فيها ... تمرّ كأنّها قطع السّحاب
وفيها غضب الرّشيد على البرامكة وضرب عنق جعفر بن يحيى البرمكيّ الوزير
أحد الأجواد الفصحاء البلغاء، وكان قد تفقّه على القاضي أبي يوسف،
فلأجل ذلك كانت توقيعاته على منهج الفقه.
وكتب إلى بعض العمال.
أما بعد: فقد كثر شاكوك وقلّ شاكوك، فإما اعتدلت، وإما عزلت.
وقال يهودي للرّشيد: إنك تموت هذه السنة. فاغتمّ وشكا إلى جعفر.
فقال جعفر لليهوديّ: كم عمرك أنت؟ قال: كذا وكذا مدة طويلة. فقال
للرّشيد: اقتله حتّى تعلم أنه كذب. فقتله وذهب ما عنده.
وكان جعفر يتحكّم في مملكة الرّشيد بما أراد من غير مشاورة فينفّذها
الرّشيد.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بالحراب» وهو تصحيف.
[2] كذا في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 296) : «الصعاب» ،
وفي «مرآة الجنان» (1/ 413) : «العضاب» ، وفي كتاب «أبو العتاهية
أشعاره وأخباره» للأستاذ الدكتور شكري فيصل رحمه الله تعالى، ص (492) ،
و «تاريخ الطبري» (8/ 310) : «القضاب» .
(2/391)
وأوّل من ولي الوزارة منهم خالد بن برمك
للسّفّاح. وسبب قتله أمور انضمّ بعضها إلى بعض، منها: أنه زوج الرّشيد
جعفرا العبّاسة لغرض الاجتماع والمحرمية، وشرط عليه ألّا يجتمع بها،
فقدر الاجتماع لحصول رغبة من العبّاسة.
حكى الشيخ شهاب الدّين بن أبي حجلة [1] في «ديوان الصبابة» أن العبّاسة
كتبت إلى جعفر قبل مواقعته إيّاها:
عزمت على قلبي بأن يكتم الهوى ... فصاح ونادى إنني غير فاعل
فإن لم تصلني بحت بالسّرّ عنوة ... وإن عنّفتني في هواك عواذلي
وإن كان موت لا أموت بغصّتي ... وأقررت قبل الموت أنّك قاتلي [2]
فواقعها، وحملت منه، وولدت سرّا. فأرسلت الولد إلى مكّة. ثم اتصل خبره
بالرّشيد.
ومنها أنّ الرّشيد سلّم لجعفر يحيى بن عبد الله بن الحسن المثنّى، وكان
قد خرج عليه، وأمره بحبسه عنده، فرقّ له جعفر لقرابته من رسول الله-
صلى الله عليه وسلم- واتّصاله به، فأطلقه، فلما بلغ الرّشيد إطلاقه
أضمرها له. وقال:
قتلني الله على البدعة إن لم أقتله.
ومنها أنه رفعت إليه رقعة لم يعرف صاحبها مكتوب فيها:
قل لأمين الله في أرضه ... ومن إليه الحلّ والعقد
هذا ابن يحيى قد غدا مالكا ... مثلك ما بينكما حدّ
__________
[1] هو أحمد بن يحيى بن أبي بكر التلمساني، أبو العباس شهاب الدين، ابن
أبي حجلة، عالم بالأدب، شاعر من أهل تلمسان، سكن دمشق، مات سنة (776)
هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (1/ 268- 269) وقد طبع «ديوانه» في مصر على
هامش كتاب «تزيين الأسواق» لداود الأنطاكي المعروف بالأكمه، وسوف ترد
ترجمته مفصلة في المجلد الثامن من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
[2] الأبيات في «ديوان الصبابة» على هامش كتاب «تزيين الأسواق» ص (84)
.
(2/392)
أمرك مردود إلى أمره ... وأمره ليس له ردّ
[وقد بنى الدّار التي ما بنى ال ... - فرس لها مثلا ولا الهند
الدّرّ والياقوت حصباؤها ... وتربها العنبر والنّدّ] [1]
ونحن نخشى أنّه وارث ... ملكك إن غيّبك اللّحد
ولن يباهي العبد أربابه ... إلّا إذا ما بطر العبد
ومع ذلك فقد كان الرّشيد رأى إقبال النّاس على البرامكة وكثرة أتباعهم
وأشياعهم، مع الإدلال العظيم منهم، ومع الإغراء من أعدائهم، كالفضل بن
الرّبيع وغيره، ومع ذلك فكان الرّشيد إذا ذكرت مساوئهم عنده يقول:
أقلّوا ملاما لا أبا لأبيكم ... عن القوم أو سدّوا المكان الّذي سدّوا
ولما أذن الله سبحانه ببلائهم، ظهرت منامات وعلامات لهم ولغيرهم،
وإشارات تطول.
منها أن يحيى بن خالد حجّ فتعلّق بأستار الكعبة، وقال:
اللهمّ إن كان رضاك في أن تسلبني نعمك [2] فاسلبني، وإن كان رضاك في أن
تسلبني أهلي وولدي فاسلبني، إلّا الفضل. ثم رجع وقال: اللهمّ إنه قبيح
بمثلي أن يستثني عليك. اللهمّ والفضل.
ومنها ما حكى سهل بن هارون قال: كنت أكتب بين يدي يحيى بن خالد
البرمكيّ، فأخذته سنة، فقال: طرقني النوم. فقلت: ضيف كريم إن قرّبته
روّحك وإن منعته عذّبك. قال: فنام فواق ناقة، وانتبه مذعورا. فقال:
ذهب والله ملكنا، رأيت منشدا أنشدني:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكّة سامر
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان (1/ 335) ، و
«مرآة الجنان» لليافعي (1/ 419) .
[2] في «تاريخ الطبري» (8/ 292) : «نعمتك» والمؤلف ينقل القصة عنه
بتصرّف.
(2/393)
فأجبته:
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف اللّيالي والجدود العواثر [1]
فقتل جعفر بن يحيى بن خالد بعد أيام.
ومنها أن جعفر وقف على كنيسة بالحيرة فيها حجر مكتوب لا تفهم كتابته.
فقال: هاتوا من يترجمه، وقد جعلت ما فيه فألا لما أخافه من الرّشيد،
فإذا فيه:
إنّ بني المنذر عام انقضوا ... بحيث شاد البيعة الرّاهب
أضحوا ولا يرجوهم راغب ... يوما ولا يرهبهم راهب
تنفح بالمسك ذفاريهم ... والعنبر الورد له قاطب
فأصبحوا أكلا لدود الثّرى ... وانقطع المطلوب والطّالب [2]
فحزن جعفر.
ومنها أنّ الرّشيد لما نزل بالأنبار وفي صحبته جعفر، وكانت ليلة السبت
لانسلاخ المحرّم، وقيل: أول ليلة من صفر من هذه السنة مضى جعفر إلى
منزله فأتاه أبو زكّار [3] الأعمى الكلوذاني فاستحضره وجواريه خلف
الستارة يضربن، وأبو زكّار [3] يغنّيه:
فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
وكلّ ذخيرة لا بدّ يوما ... وإن بقيت تصير إلى نفاد
__________
[1] البيتان في «وفيات الأعيان» (1/ 337) ، و «مرآة الجنان» (1/ 420) ،
ولفظة «فأجبته» التي بينهما لم ترد فيهما.
[2] الأبيات في «وفيات الأعيان» (1/ 339) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو ركاب الأعمى الطنبوري» وأثبت ما في
«تاريخ الطبري» (8/ 295) . وكذا هو في المصادر والمراجع الأخرى التي
بين يدي «أبو زكار» ولكن لم يرد ذكر للفظتي «الكلوذاني» أو «الطنبوري»
في أيّ منها.
(2/394)
ولو فوديت من حدث اللّيالي ... فديتك
بالطّريف وبالتّلاد [1]
فتطيّر جعفر ودخل عليه الرّسول الذي يريد قتله في تلك الحال، وعلى تلك
الهيئة.
وذكر الطبريّ في «تاريخه الكبير» [2] في حوادث سنة سبع وثمانين وماية
أن الرّشيد دعا ياسرا [3] غلامه وقال: امض فأتني برأس جعفر، فأتى ياسر
منزل جعفر ودخل عليه هجما بلا إذن وأبو زكّار [4] يغنّيه، فقال له
جعفر:
يا ياسر سررتني بإقبالك وسؤتني بدخولك بلا إذن، فقال ياسر: الأمر أكبر
من ذلك، أمير المؤمنين أمرني بكذا، فقال: دعني لأدخل فأوصي. قال: لا
سبيل إلى ذلك. قال: فأسير معك لمنزل أمير المؤمنين بحيث يسمع كلامي.
قال:
لك ذلك، ومضيا إلى منزل أمير المؤمنين، ودخل ياسر عليه وعرّفه الخبر.
فقال:
يا ماصّ بظر أمّه، والله لئن راجعتني فيه لأقتلنّك قبله. فرجع ياسر،
فأخذ رأس جعفر ودخل به إلى الرّشيد فوضعه بين يديه، فنظر إليه وبكى، ثم
قال:
يا ياسر جئني بفلان وفلان، فلما أتاه بهما، قال لهما: اضربا عنق ياسر،
فإني لا أقدر أن أرى قاتل جعفر، ففعلا. انتهى.
وقيل غير ذلك في كيفية قتله ومن قتله.
ثم أمر الرّشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وولده
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (1/ 338) ، و «مرآة الجنان» (1/ 421) .
والبيت الأول في «تاريخ الطبري» (8/ 295) ، والبيتان الأول والثاني في
«الكامل في التاريخ» لابن الأثير (6/ 177- 178) .
[2] (8/ 295) والمؤلف ينقل منه بتصرّف واختصار، وكأني به قد خلط في
نقله بين عبارة الطبري في «تاريخه» وعبارة اليافعي في «مرآة الجنان»
(1/ 421) .
[3] كذا في الأصل، والمطبوع، و «وفيات الأعيان» (1/ 338) ، و «مرآة
الجنان» : «دعايا سرّا» ، وفي «تاريخ الطبري» : «أرسل مسرورا الخادم» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «أبو ركاب» انظر الصفحة السابقة.
(2/395)
الفضل وبقية أولاده، ومن كان منه بسبيل،
فحبسوا، واستمر يحيى والفضل في السجن إلى أن ماتا، ولهما قصائد طنّانة
تستعطف الرّشيد عليهم لم ينتج منها شيء.
ثم فرّق الرّشيد الكتب من ليلته في جميع البلدان والأعمال في قبض
أموالهم وأخذ وكلائهم، ولما أصبح بعث بجثّة جعفر بن يحيى مع جماعة منهم
مسرور الخادم وأمرهم بقطعها وصلبها، فقطعت قطعتين، فصلبت قطعة على
الجسر الأعلى، وقطعة على الجسر الأسفل، ونصب رأس جعفر على الجسر
الأوسط، وأمر الرّشيد بالنداء في جميع البرامكة أن لا أمان لمن آوى
أحدا منهم، ومنع النّاس من التقرّب إلى جعفر. فرأى أبا قابوس الرّقاشيّ
قائما تحت جذعة يزمزم بشعر يرثيه، فقال له: ما كنت قائلا تحت جذع جعفر؟
قال: أو ينجيني منك الصدق؟ قال: نعم، قال: ترحّمت عليه وقلت:
أمين الله هب فضل بن يحيى ... لنفسك أيّها الملك الهمام
وما طلبي إليك العفو عنه ... وقد قعد الوشاة به وقاموا
أرى سبب الرّضا فيه قويّا ... على الله الزّيادة والتّمام
نذرت عليّ فيه صيام عام ... فإن وجب الرّضا وجب الصّيام
وهذا جعفر بالجسر تمحو ... محاسن وجهه ريح قتام
أقول له وقمت لديه نصبا ... إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا قول واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للنّاس بالرّكن استلام
فما أبصرت مثلك يا بن يحيى ... حسام فلّه السيف الحسام
على اللّذّات في الدّنيا جميعا ... لدولة آل برمك السّلام
فلما سمع هارون الرّشيد ذلك أطرق مليّا واستعبر، ثم قال رجل: أولى
جميلا، فقال: جميلا، يا غلام ناد بأمان أبي قابوس، ولا يعارض، ولا
(2/396)
يحجب عنّا بعد في مهمّ من مهمّاته. ثم
استصفى الرّشيد أموال البرامكة وأخذ ضياعهم، وأموالهم، ومتاعهم، فوجد
لهم مما حباهم به اثني عشر ألف ألف. ووجد من سائر أموالهم ثلاثين ألف
ألف وستمائة ألف وستة وسبعين ألفا، وأما غير الأموال من الضّياع،
والغلّات، والأواني فشيء لا يوصف [1] أقلّه، ولا يعرف أيسره، فضلا عن
جميعه، إلّا من أحصى الأعمال وعرف منتهى الآجال.
وما ذكرنا قطرة من بحر من أخبارهم، والله أعلم.
ولما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر، حوّل وجهه إلى القبلة وقال:
اللهمّ إنه كان قد كفاني مؤونة الدّنيا فاكفه مؤونة الآخرة.
وفيها توفي محمّد بن عبد الرّحمن الطّفاويّ البصريّ. سمع أيوب
السّختياني وجماعة.
قال في «المغني» [2] : محمّد بن عبد الرّحمن الطّفاويّ، من شيوخ أحمد،
وثقوه.
وقال أبو زرعة: منكر الحديث. انتهى.
ورباح بن زيد الصنعانيّ صاحب معمر.
قال أحمد، كان خيارا. ما أرى في زمانه [من] [3] كان خيرا منه. انقطع في
بيته.
وعبد الرّحيم بن سليمان الرّازيّ نزيل الكوفة. كان ثقة صاحب حديث. له
تصانيف. روى عن عاصم الأحول وخلق.
وعبد السّلام بن حرب الملائيّ الكوفيّ الحافظ. وله ست وتسعون
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «لا يصف» .
[2] (2/ 604) .
[3] لفظة «من» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي
(1/ 296) .
(2/397)
سنة. روى عن أيوب السّختياني وطبقته.
قال في «المغني» [1] : صدوق، قال ابن سعد: فيه ضعف. انتهى.
وخرّج له العقيليّ.
وقال ابن ناصر الدّين: عبد السّلام بن حرب البصريّ ثم الكوفيّ أبو بكر
الملائيّ كان مسندا، ثقة، معمّرا، في حديثه لين. انتهى.
وعبد العزيز بن عبد الصّمد البصريّ الحافظ. روى عن أبي عمران الجوني
والكبار. وكان يكنّى أبا عبد الصّمد.
قال ابن ناصر الدّين: كان حافظا من الثقات والمشايخ الأثبات.
انتهى.
وفيها أبو محمّد عبد العزيز بن محمّد الدّراورديّ المدنيّ. روى عن
صفوان بن سليم وخلق. وكان فقيها صاحب حديث.
قال يحيى بن معين: هو أثبت من فليح [2] .
وفيها عليّ بن نصر بن علي الجهضميّ والد نصر بن علي. روى عن هشام
الدّستوائي وأقرانه.
وأبو الخطّاب محمّد بن سواء السدوسيّ البصريّ المكفوف الحافظ.
سمع من حسين المعلّم، وأكثر عن أبي عروبة.
وفيها الإمام أبو محمّد معتمر بن سليمان بن طرخان التيميّ الحافظ، أحد
شيوخ البصرة وله إحدى وثمانون سنة. روى عن أبيه، ومنصور، وخلق لا
يحصون.
قال قرّة بن خالد: ما معتمر عندنا بدون أبيه.
__________
[1] (2/ 393) .
[2] هو فليح بن سليمان المدني. تقدمت ترجمته في ص (304) من هذا المجلد.
(2/398)
وقال غيره: كان عابدا، صالحا، حجّة، ثقة.
وفيها معاذ بن مسلم الكوفيّ النحويّ شيخ الكسائي، عن نحو مائة سنة، وهو
الذي سارت فيه هذه الكلمة:
إنّ معاذ بن مسلم رجل ... ليس لميقات علمه [1] أمد [2]
الأبيات [3] .
قال في «المغني» [4] : معاذ بن مسلم عن شرحبيل بن السّمط، مجهول.
انتهى.
وفي محرّم هذه السنة توفي شيخ الحجاز الإمام أبو علي الفضيل بن عياض
التميميّ المروزيّ الزّاهد المشهور أحد العلماء الأعلام.
قال فيه ابن المبارك: ما بقي على ظهر الأرض أفضل من الفضيل بن عياض.
وكان قد قدم الكوفة شابّا فحمل عن منصور وطبقته.
قال شريك القاضي: فضيل حجّة لأهل زمانه.
وقال ابن ناصر الدّين: الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر أبو علي
التميميّ اليربوعيّ المروزيّ إمام الحرم، شيخ الإسلام، قدوة الأعلام.
حدّث عنه الشّافعيّ، ويحيى القطّان، وغيرهما. وكان إماما: ربّانيا،
كبير الشأن، ثقة، نبيلا، عابدا، زاهدا، جليلا. انتهى.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» و «العبر» : «عمره» .
[2] البيت في «وفيات الأعيان» (5/ 218) ، و «العبر» للذهبي» (1/ 298) .
[3] قلت: أما تتمة الأبيات وصدرها فلها روايات مختلفة، والله أعلم.
قارن على سبيل المثال بين لفظ الأبيات في كلّ من «إنباه الرواة» للقفطي
(3/ 290- 291) ، و «وفيات الأعيان» .
[4] (2/ 664) .
(2/399)
قال الذهبيّ في «القسطاس في الذّبّ عن
الثّقات» : فضيل بن عياض ثقة بلا نزاع، سيّد.
قال أحمد بن أبي خيثمة: سمعت قطبة بن العلاء يقول: تركت حديث فضيل بن
عياض لأنه روى أحاديث أزرى على عثمان بن عفّان رضي الله عنه.
وحدّثنا عبد الصّمد بن يزيد الصّانع قال: ذكر عند الفضيل- وأنا أسمع-
أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: اتّبعوا فقد كفيتم، أبو
بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم.
قلت: لا يقبل قول قطبة، ومن هو قطبة حتّى يسمع قوله واجتهاده، فالفضيل
روى ما سمع، ولم يقصد غضّا ولا إزراء على أمير المؤمنين عثمان- رضي
الله عنه- ففعل ما يسوغ، أفبمثل هذا يقول: تركت حديثه فهو كما قيل:
«رمتني بدائها وانسلّت» [1] .
وقطبة، فقد قال البخاريّ: فيه نظر، وضعّفه النّسائيّ وغيره.
وأما فضيل فإتقانه وثقته لا حاجة بنا لذكر أقوال من أثنى عليه، فإنه
رأس في العلم والعلم رحمه الله تعالى. انتهى كلام «القسطاس» .
وقال ابن الأهدل: أبو علي الفضيل بن عياض، قال ابن المبارك:
ما على ظهر الأرض أفضل منه.
وقال شريك: هو حجة لأهل زمانه.
وقال له الرّشيد: ما أزهدك! قال: أنت أزهد منّي، لأني زهدت في الدّنيا
الفانية، وأنت زهدت في الآخرة الباقية.
__________
[1] مثل ساقه البكري في «فصل المقال» ص (92) بتحقيق الدكتور إحسان
عبّاس، والدكتور عبد المجيد عابدين، طبع مؤسسة الرسالة، ودار الأمانة،
وتكلم فيه عن قصته فراجعه فهو مفيد.
(2/400)
وقال له: يا حسن الوجه، أنت الذي أمر هذه
الأمّة والعباد في يدك [1] وفي عنقك، لقد تقلّدت أمرا عظيما، فبكى
الرّشيد وأعطى كل واحد من الحاضرين من العلماء والعباد بدرة- وهي عشرة
آلاف درهم- فكلّ قبلها إلّا الفضيل، فقال له سفيان بن عيينة: أخطأت،
ألا صرفتها في أبواب البرّ.
فقال: يا أبا محمد، أنت فقيه البلد [والمنظور إليه] [2] وتغلط [مثل]
[2] هذا الغلط، لو طابت لأولئك طابت لي.
وقال: إذا أحبّ الله عبدا أكثر غمّه، وإذا أبغض وسّع عليه دنياه.
وقال: لو عرضت عليّ الدّنيا بحذافيرها لا أحاسب عليها، لكنت أتقذّرها
كالجيفة.
وقال: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلّا للإمام، لأنه إذا صلح
[الإمام] [3] أمن العباد والبلاد. وكان ولده من كبار الصالحين.
ولد الفضيل- رضي الله عنه- بسمرقند، وقدم الكوفة شابّا، وسمع من منصور
وطبقته، ثم جاور بمكّة إلى أن مات، وقبره بالأبطح مشهور مزور. انتهى
كلام ابن الأهدل.
وفيها على ما قاله ابن الأهدل أيضا، توفي يعقوب بن داود السّلميّ. كان
كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن المثنّى لما خرج على المنصور،
وكان عنده صنوف من العلم، فظفر به المنصور، فحبسه في المطبق [4] وأطلقه
المهديّ، وكان من خواصّه، إلى أن ظهر له منه تعلّق ببعض
__________
[1] كذا في الأصل، و «مرآة الجنان» : «في يدك» ، وفي المطبوع: «بيدك» .
[2] زيادة من «مرآة الجنان» (1/ 424) .
[3] زيادة من «مرآة الجنان» (1/ 423) .
[4] المطبق: سجن من سجون بني العباس. انظر «الكامل في التاريخ» لابن
الأثير (6/ 72) .
(2/401)
العلويين، فردّه إلى المطبق، وبقي فيه إلى
جانب من دولة الرّشيد، فرأى قائلا يقول:
حنا على يوسف ربّ فأخرجه ... من قعر جبّ [1] وبيت حوله غمم
قال: فمكثت بعده حولا آخر، ثم رأيت قائلا يقول:
عسى فرج يأتي به الله إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر
قال: فمكثت بعده حولا آخر، ثم رأيت قائلا يقول:
عسى الهمّ [2] الّذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفكّ عان ... ويأتي أهله النّائي الغريب
فأخرجت صبيحة ذلك اليوم. فلما رأيت الضوء ذهب بصري، فجيء بي إلى
الرّشيد، فأحسن إليّ، وردّ عليّ مالي.
ثم إن الرّشيد خيّره بين المقام عنده وبين الذّهاب، فاختار الذهاب إلى
مكّة، فجاور بها حتّى مات رحمه الله تعالى.
وفيها إبراهيم بن ماهان الموصليّ التميميّ، مولاهم، المعروف بالنّديم،
صاحب الغناء، ومخترع الألحان فيه، وأول خليفة سمعه المهديّ.
حكي أن الرّشيد هوي جارية فغاضبته مرّة، فأنف [3] منها، فهجرها، فقال
في ذلك العبّاس بن الأحنف بسؤال جعفر البرمكي:
راجع أحبّتك الّذين هجرتهم ... إنّ المتيّم قلّما يتجنّب
إنّ التّجنّب إن تطاول منكما ... دبّ السّلوّ له فعزّ المطلب [4]
__________
[1] في «مرآة الجنان» (1/ 426) : «من قعر بئر» .
[2] في «مرآة الجنان» : «عسى الكرب» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وأنف» وما أثبته من «غربال الزمان» ص (175) .
[4] البيتان في «الأغاني» (5/ 241) مصوّرة مؤسسة جمال للطباعة والنشر
ببيروت، و «مرآة
(2/402)
وأمر جعفر إبراهيم الموصلي أن يغنّي
الرّشيد، ففعل، فبادر وترضّاها، فسألت الجارية عن السبب، فأخبرت، فحملت
لكلّ منهما مالا جزيلا.
وكانت وفاة إبراهيم بالقولنج [1] ، وله مصنفات كثيرة في الفقه، وغريب
الحديث، والنّوادر، والشعر، وغير ذلك، والله تعالى أعلم.
__________
الجنان» (1/ 427) وقد ذكر محققه الدكتور عبد الله الجبوري في حاشيته
بأنهما في «ديوانه» ص (28) .
[1] في الأصل، والمطبوع: «بالقلولنج» وهو خطأ، والتصحيح من «غربال
الزمان» .
(2/403)
سنة ثمان وثمانين
ومائة
فيها غزا المسلمون الرّوم وعليهم إبراهيم بن جبريل، من درب الصّفصاف
[1] ، والتقوا، فجرح الملك نقفور ثلاث جراحات، وانهزم، وقتل من جيشه
أربعون [2] ألفا، وأخذ منهم أربعة آلاف دابة [3] .
وحجّ الرّشيد بالنّاس في هذه السنة.
وفيها عرّس المأمون بأمّ عيسى بنت عمّه موسى الهادي.
وفيها توفي محدّث الرّيّ الحافظ أبو عبد الله جرير بن عبد الحميد
الضّبّيّ، وله ثمان وسبعون سنة. روى عن منصور وطبقته من الكوفيين، ورحل
إليه النّاس لثقته وسعة علمه [4] .
ورشدين بن سعد المهريّ. محدّث مصر، لكنه ضعيف. وفيه دين وصلاح. روى عن
زبّان [5] بن فائد، وحميد بن هانئ، وخلق كثير.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «درب الصفاف» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر»
للذهبي (1/ 299) ، وانظر «تاريخ الطبري» (8/ 313) .
[2] في الأصل: «أربعين» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[3] نقل المؤلف هذا الخبر عن «تاريخ الطبري» بتصرف.
[4] انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (64- 65) بتحقيقي طبع دار ابن
كثير.
[5] في الأصل، والمطبوع: «زياد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي
(1/ 229) وكتب الرّجال التي بين يدي.
(2/404)
قال السيوطيّ في «حسن المحاضرة» [1] : هو
أبو الحجّاج المصريّ.
عن [2] عقيل، ويونس بن يزيد. وعنه قتيبة، وأبو كريب. وهاه ابن معين
وغيره. وقال ابن يونس: كان رجلا صالحا لا يشك [3] في صلاحه وفضله،
فأدركته غفلة الصالحين، فخلّط [4] في الحديث. انتهى.
وعبدة بن سليمان الكلابيّ الكوفيّ. روى عن عاصم الأحول وطبقته.
قال أحمد: ثقة وزيادة، مع صلاح وشدّة فقر، وكنيته أبو محمد.
وفيها، وقيل: سنة تسعين، عتّاب بن بشير الحرّانيّ. صاحب خصيف، وكان
صاحب حديث.
قال في «المغني» [5] عتّاب بن بشير الجزري. عن خصيف.
قال بعضهم: أحاديثه عن خصيف منكرة.
وقال ابن معين: ثقة. انتهى.
وقد خرّج له البخاريّ، وأبو داود، والنّسائي.
وفيها عقبة بن خالد السّكوني [6] . روى عن هشام بن عروة وطبقته.
وفيها- أو سنة تسعين- محمّد بن يزيد الواسطيّ. روى عن إسماعيل ابن خالد
وجماعة.
وعمر بن أيّوب الموصليّ المحدّث الزّاهد. رحل وسمع من جعفر بن برقان.
قال ابن معين: ثقة مأمون.
__________
[1] (1/ 283) .
[2] في الأصل. والمطبوع: «من» وأثبت ما في «حسن المحاضرة» .
[3] في «حسن المحاضرة» : «لا شك» .
[4] في «حسن المحاضرة» : «مخلط» .
[5] (2/ 422) .
[6] كنيته أبو مسعود. انظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 102) .
(2/405)
وقال ابن عمّار: ما رأيته يذكر الدّنيا.
وفيها مقرئ الكوفة سليم بن عيسى الحنفيّ، مولاهم، صاحب حمزة.
تصدّر لإقراء النّاس مدّة. وعليه دارت [1] قراءة حمزة. وروى عن
الثّوريّ.
قال العقيليّ: مجهول.
وفيها، على الصحيح، الإمام أبو عمرو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق
السّبيعيّ. رأى جدّه وسمع من إسماعيل بن أبي خالد وخلق من طبقته.
وروى عنه من الكبار حمّاد بن سلمة، وهو أكبر منه.
ذكر لابن المديني فقال: بخ بخ، ثقة مأمون.
وقال أحمد بن داود الحدّاني: سمعت عيسى بن يونس يقول: لم يكن في أسناني
[2] أبصر بالنحو مني، فدخلتني منه نخوة فتركته.
وقال أحمد بن حنبل: الذي كنّا نخبر أن عيسى كان يغزو سنة ويحجّ سنة،
فقدم بغداد في شيء من أمر الحصون فأمر له بمال فلم يقبله [3] .
وفيها يحيى بن عبد الملك بن أبي عنيّة الكوفيّ. روى عن العلاء بن
المسيّب وجماعة، وكان من عبّاد المحدّثين.
قال أحمد العجلي: قالوا له: دواء عينيك ترك البكاء، قال: فما جبرهما
إذا.
__________
[1] في الأصل: «دارة» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[2] قال ابن منظور: فلان سنّ فلان، إذا كان مثله في السّنّ. «لسان
العرب» (سنن) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «فلم يقبل» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (1/
301) وهو مصدر المؤلف في نقله.
(2/406)
سنة تسع وثمانين
ومائة
فيها كان الفداء الذي لم يسمع بمثله حتّى لم يبق بأيدي الرّوم مسلم
إلّا فودي به.
وفيها توهّم الرّشيد في علي بن عيسى بن ماهان أمير خراسان الخروج، فسار
حتّى نزل بالرّيّ، فبادر إليه علي بأموال، وجواهر، وتحف، تتجاوز الوصف،
فأعجب الرّشيد وردّه على عمله.
وفيها توفي في صحبة الرّشيد شيخ القراءات والنحو الإمام أبو الحسن عليّ
بن حمزة الأسديّ الكوفيّ الكسائيّ، أحد السبعة، قرأ على حمزة، وأدّب
الرّشيد وولده الأمين، وهو من تلامذة الخليل.
قال الشّافعيّ: من أراد أن يتبحّر في النحو فهو عيال على الكسائيّ.
وعنه قال: من تبحّر في النحو اهتدى إلى جميع العلوم.
وقال: لا أسأل عن مسألة في الفقه إلّا أجبت عنها من قواعد النحو، فقال
له محمد بن الحسن: ما تقول فيمن سها في سجود السهو، يسجد؟
قال: لا، لأن المصغّر لا يصغّر.
وله مع اليزيدي وسيبويه مناظرات كثيرة. توفي بالرّيّ صحبة هارون.
وفي ذلك اليوم مات محمد بن الحسن الحنفيّ، فقال الرّشيد: دفنت
(2/407)
العربية والفقه بالرّيّ اليوم.
ومع تبحّر الكسائيّ في النحو والعربية لم يكن له معرفة بالشعر.
وقيل له: الكسائيّ لأنه أحرم في كساء، وقيل: لأنه جاء إلى حمزة ضائفا
بكساء، فقال حمزة: من يقرأ؟ فقيل: صاحب الكساء، فبقي عليه اللقب.
وأما محمّد بن الحسن المذكور، فكان فصيحا بليغا.
قال الشّافعيّ: لو قلت: إن القرآن نزل بلغة محمّد بن الحسن لفصاحته
لقلت.
وصنّف «الجامع الكبير» ، و «الجامع الصغير» ، وكان منشؤه بالكوفة،
وتفقّه بأبي حنيفة، ثم بأبي يوسف.
قال الشّافعيّ: ما رأيت سمينا ذكيا إلّا محمّد بن الحسن.
قال في «العبر» [1] : قاضي القضاة وفقيه العصر أبو عبد الله محمّد بن
الحسن الشّيبانيّ مولاهم، الكوفيّ المنشأ، ولد بواسط، وعاش سبعا وخمسين
سنة. وسمع أبا حنيفة، ومالك بن مغول وطائفة، وكان من أذكياء العالم.
قال أبو عبيد: ما رأيت أعلم بكتاب الله منه.
وقال الشّافعيّ: لو أشاء أن أقول نزل [2] القرآن بلغة محمّد بن الحسن
لقلت، لفصاحته. وقد حملت عنه وقر بختيّ.
وقال محمد: خلّف أبي ثلاثين ألف درهم، فأنفقت نصفها على النحو والشعر،
وأنفقت الباقي على الفقه [3] .
__________
[1] (1/ 302- 303) .
[2] في «العبر» : «تنزل» .
[3] في «العبر» (1/ 303) : «فأنفقت نصفها على النحو بالري» .
(2/408)
قال الخطيب: وولي القضاء بعد محمّد بن
الحسن عليّ بن حرملة التيميّ صاحب أبي حنيفة. انتهى كلام «العبر» .
وقال ابن الفرات: محمد بن الحسن بن فرقد الشّيبانيّ الإمام الربّانيّ
صاحب أبي حنيفة- رضي الله عنه- أصله دمشقي من أهل قرية حرستا. قدم أبوه
العراق، فولد محمّد براسك [1] سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: سنة
إحدى، وقيل: سنة خمس وثلاثين، ونشأ بالكوفة، وطلب الحديث، وسمع سماعا
كثيرا، وجالس أبا حنيفة. وسمع منه، ونظر في الرأي، وغلب عليه، وعرف به،
وكان من أجمل النّاس وأحسنهم.
قال أبو حنيفة لوالده حين حمله إليه: احلق شعر ولدك وألبسه الخلقان [2]
من الثياب لا يفتتن به من رآه. قال محمد: فحلق والدي شعري، وألبسني
الخلقان، فزدت عند الخلق جمالا.
وقال الشّافعيّ- رحمه الله-: أول ما رأيت محمدا وقد اجتمع النّاس عليه،
فنظرت إليه فكان من أحسن النّاس وجها، ثم نظرت إلى جبينه فكأنه عاج، ثم
نظرت إلى لباسه فكان من أحسن النّاس لباسا، ثم سألته عن مسألة فيها
خلاف فقوّى مذهبه ومرّ فيها كالسهم.
وكان الشّافعيّ- رضي الله عنه- يثني على محمد بن الحسن ويفضّله، وقد
تواتر عنه بألفاظ مختلفة قال: ما رأيت أحدا سأل عن مسألة فيها نظر إلّا
رأيت الكراهية في وجهه، إلّا محمد بن الحسن.
__________
[1] قال ياقوت: رأسك: مدينة من أشهر مدن مكران، ولها رستاق يقال له:
الخروج، وهي حروم حارة. «معجم البلدان» (3/ 15) .
قلت: ومكران تقع الآن في الجنوب الأوسط من إيران على مقربة من ساحل
خليج عمان.
[2] قال في «مختار الصحاح» ص (187) : ثوب خلق، أي بال.
(2/409)
وقال: ما رأيت أعلم بكتاب الله من محمّد بن
الحسن، ولا أفصح منه.
وقال: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام، والعلل، والناسخ والمنسوخ من
محمد بن الحسن.
وقال: لو أنصف الناس لعلموا أنهم لم يروا مثل محمد بن الحسن.
ما جالست فقيها قطّ أفقه ولا أفتق لسانه بالفقه منه، إنه كان يحسن من
الفقه وأسبابه أشياء تعجز عنها الأكابر.
وقيل للشافعيّ: قد رأيت مالكا وسمعت منه، ورافقت محمّد بن الحسن،
فأيّهما كان أفقه؟ فقال: محمد بن الحسن أفقه نفسا منه.
وقال أبو عبيد: قدمت على محمد بن الحسن فرأيت الشّافعيّ عنده، فسأله عن
شيء فأجابه، فاستحسن الجواب، فكتبه، فرآه محمّد، فوهب له دراهم وقال
له: الزم إن كنت تشتهي العلم، فسمعت الشّافعيّ- رضي الله عنه [1]-
يقول: لقد كتبت عن محمّد وقر بعير ذكر، لأنه يحمل الكثير، ولولاه ما
انفتق لي من العلم ما انفتق.
وكان محمد قاضيا للرّشيد بالرّقّة، وكان كثير البرّ بالإمام الشّافعي-
رضي الله عنه- في قضاء ديونه والإنفاق عليه من ماله، وإعارة الكتب،
حتّى يقال: إنه دفع له حمل بعير كتبا.
وقد ذكر بعض الشافعية أن محمد بن الحسن وشى بالإمام الشّافعيّ- رضي
الله عنه- في قضاء ديونه والإنفاق عليه من ماله، وإعارة الكتب، حتّى
يقال: إنه دفع له حمل بعير كتبا.
وقد ذكر بعض الشافعية أن محمد بن الحسن وشى بالإمام الشّافعيّ- رضي
الله عنه- إلى الخليفة بأنه يدّعي أنه يصلح للخلافة، وكذا أبو يوسف-
رحمهما الله- وهذا بهتان وافتراء عليهما، والعجب منهم كيف نسبوا هذا
إليهما مع علمهم بأن هذا لا يليق بالعلماء ولا يقبله عقل عاقل؟. انتهى
__________
[1] في المطبوع: «رحمه الله تعالى» .
(2/410)
ما ذكره ابن الفرات ملخصا.
قلت: ويصدّق مقال ابن الفرات ما ذكره حافظ المغرب الثقة الحجّة الثبت
ابن عبد البرّ المالكيّ في ترجمة الشافعي- رضي الله عنه- قال:
حمل الشّافعيّ من الحجاز مع قوم من العلوية تسعة وهو العاشر إلى بغداد،
وكان الرّشيد بالرّقّة، فحملوا من بغداد إلى الرّقّة، وأدخلوا عليه
ومعه قاضيه محمّد بن الحسن الشيباني، وكان صديقا للشافعيّ، وأحد الذين
جالسوه في العلم وأخذوا عنه، فلما بلغه أن الشّافعيّ في القوم الذين
أخذوا من قريش واتهموا بالطعن على هارون الرّشيد اغتمّ لذلك غمّا
شديدا، وراعى وقت دخولهم على الرّشيد، فلما دخلوا عليه سألهم وأمر بضرب
أعناقهم، فضربت أعناقهم، إلى أن بقي حدث علوي من أهل المدينة- قال
الشّافعيّ: وأنا- فقال للعلويّ: أنت الخارج علينا والزاعم أنّي لا أصلح
للخلافة؟ فقال: أعوذ بالله أن أدعي ذلك وأقوله، فأمر بضرب عنقه، فقال
له العلويّ: إن كان لا بدّ من قتلي فأنظرني إلى أن أكتب إلى أمّي فهي
عجوز لم تعلم خبري، فأمر بقتله فقتل.
ثم قدمت ومحمد بن الحسن جالس معه، فقال لي مثل ما قال للفتى، فقلت: يا
أمير المؤمنين لست بطالبيّ ولا علويّ، وإنما أدخلت في القوم بغيا،
وإنما أنا رجل من بني عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي، ولي مع ذلك حظ من
العلم، والفقه، والقاضي يعرف ذلك، أنا محمد بن إدريس بن العبّاس بن
عثمان بن شافع بن السائب بن يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف،
فقال لي: أنت محمّد بن إدريس؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال لي: ما
ذكرك لي محمّد بن الحسن، ثم عطف على محمد بن الحسن فقال: يا محمد ما
يقول هذا؟ هو كما يقوله؟ قال: بلى، وله محل من العلم كبير، وليس الذي
رفع عنه من شأنه. قال: فخذه إليك حتّى أنظر في أمره، فأخذني محمّد-
رحمه الله- وكان سبب خلاصي لما أراد الله عزّ وجلّ،
(2/411)
هذا لفظ ابن عبد البرّ بعينه.
فيجب على كل شافعي إلى يوم القيامة أن يعرف هذا لمحمّد بن الحسن ويدعو
له بالمغفرة.
وقال ابن خلّكان [1] : قال الرّبيع بن سليمان: كتب الشّافعيّ- رحمه
الله- إلى محمّد بن الحسن- رحمه الله- وقد طلب منه كتبا له ليستنسخها
[2] فتأخّرت عنه:
قل لمن لم تر ع ... ين من رآه مثله
ومن كأنّ من رآ ... هـ قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله ... أن يمنعوه أهله
لعلّه يبذله ... لأهله لعلّه
ويسمى محمد ابن أبي حنيفة، وهو ابن خالة الفرّاء صاحب النحو واللغة.
انتهى ملخصا.
وفيها توفي أبو محمّد عبد الأعلى بن عبد الأعلى السّاميّ [3] البصريّ
القرشيّ. أحد علماء الحديث. سمع من حميد الطّويل وطبقته.
قال ابن ناصر الدّين: صدوق من الأثبات، لكنه رمي بالقدر. وتكلم فيه
بندار، وليّنه ابن سعد في «الطبقات» . انتهى.
وقال في «المغني» [4] : صدوق. قال ابن سعد: لم يكن بالقوي.
قلت [5] : ورمي بالقدر. انتهى.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (4/ 184- 185) والأبيات فيه.
[2] في «وفيات الأعيان» : «لينسخها» .
[3] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 303) : «الشامي» بالشين
وهو خطأ.
والتصحيح من «المغني في الضعفاء» (1/ 364) ، و «تقريب التهذيب» (1/
465) وغير ذلك من كتب الرجال.
[4] (1/ 364) .
[5] القائل الحافظ الذهبي في «المغني» .
(2/412)
وفيها أبو خالد الأحمر سليمان بن حيّان
الكوفيّ، أحد الكبار. روى عن أبي مالك الأشجعي وخلق من طبقته.
قال ابن ناصر الدّين: هو سليمان بن حيّان أبو خالد الأزديّ الجعفريّ
الكوفيّ.
قال ابن معين، وابن عدي عنه: صدوق ليس بحجة، ووثّقه غيرهما.
انتهى.
وفيها قاضي الموصل عليّ بن مسهر أبو الحسن الكوفيّ الفقيه. روى عن أبي
مالك الأشجعي وأقرانه.
قال أحمد: هو أثبت من أبي معاوية في الحديث.
وقال أحمد العجلي: ثقة جامع للفقه والحديث.
وحكّام بن سلم [1] الرّازيّ. يروى عن حميد الطّويل، وطبقته.
وفيها، وقيل: قبلها بعام، يحيى بن اليمان العجليّ الكوفيّ الحافظ.
روى عن هشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد، وطائفة.
ذكره أبو بكر بن عيّاش فقال: ذاك [2] راهب.
وعن وكيع قال: ما كان أحد من أصحابنا أحفظ منه. كان يحفظ في المجلس
خمسمائة حديث، ثم نسي.
وقال ابن المديني: صدوق تغيّر من الفالج.
وقال ابن ناصر الدّين: يحيى بن اليمان العجليّ الكوفيّ أبو زكريّا، قرأ
القرآن على حمزة الزّيّات. وحدّث عن جماعة. كان صدوقا من حفّاظ هذا
__________
[1] في الأصل: «حكام بن أسلم» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع. وانظر
«تهذيب الكمال» للمزّي (7/ 83) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] في الأصل: «ذلك» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر»
للذهبي (1/ 304) .
(2/413)
الشأن [1] ، فلج فتغيّر حفظه فغلط فيما
يرويه، ومن ثم تكلّم من تكلّم فيه.
انتهى.
وفيها، أو في حدودها، محمّد بن مروان السّدّيّ الصغير [2] الكوفيّ
المفسّر، صاحب الكلبيّ، وهو متروك الحديث.
__________
[1] يعني علم الحديث النبوي الشريف.
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 304) : «السدوسي» وهو خطأ فيصحح فيه. وانظر
«الأنساب» للسمعاني (7/ 63) .
(2/414)
سنة تسعين ومائة
فيها استعدّ الرّشيد وأمعن في بلاد الرّوم، فدخلها في مائة ألف وبضعة
وثلاثين ألفا، سوى المجاهدين تطوّعا. وبثّ جيوشه في نواحيها، وفتح
هرقلة. ولما افتتحها خرّبها، وسبى أهلها، وكان مقامه عليها شهرا. وسارت
فرقة فافتتحت حصن الصقالبة، وفرقة افتتحت حصن الصّفصاف وملقونية [1] .
وركب حميد بن معيوف في البحر، فغزا قبرس [2] وسبى وأحرق، وبلغ السبي من
قبرس ستة عشر ألفا، وكان فيهم أسقفّ قبرس، فنودي عليه، فبلغ ألفي
دينار، وبعث نقفور الجزية على رأسه، وامرأته، وخواصّه. فكان ذلك خمسين
ألف دينار. وبعث إلى الرّشيد يخضع له ويلتمس منه أن لا يخرب حصونا
سمّاها، فاشترط عليه الرّشيد أن لا يعمر [3] هرقلة، وأن يحمل في العام
ثلاثمائة ألف دينار.
وكتب إليه نقفور: أما بعد، فلي إليك حاجة أن تهب لي [4] لابني
__________
[1] في الأصل: «فلفونيه» ، وفي المطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 304) :
«مقدونية» وكلاهما خطأ، والتصحيح من جدول الخطأ والصواب الذي أعدّه
القدسي- رحمه الله- للجزء الأول من طبعته من هذا الكتاب.
قال ياقوت: ملقونية: بلد من بلاد الروم قريب من قونية، تفسيره مقطع
الرحى، لأن من جبلها يقطع رحى تلك البلاد. «معجم البلدان» (5/ 194) .
قلت: وقونية تقع الآن في الجنوب الأوسط من تركية.
[2] في المطبوع: «قبرص» وهو ما تعرف به الجزيرة الآن.
[3] في المطبوع: «ألا يعمر» .
[4] في الأصل: «أن هب لي» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في
«العبر» للذهبي.
(2/415)
جارية من سبي هرقلة كنت خطبتها له، فأسعفني
بها، فأحضر الرّشيد الجارية، فزيّنت، وأرسل معها سرادقا وتحفا، فأعطى
نقفور الرّسول خمسين ألفا وثلاثمائة ثوب وبراذين [وبزاة] [1] . ذكره في
«العبر» [2] .
وفيها- كما قال ابن الجوزي في «الشذور» [3]- أسلم الفضل بن سهل على يد
المأمون، وكان مجوسيا.
وفيها توفي الفقيه أسد بن عمرو البجليّ الكوفيّ صاحب أبي حنيفة وقاضي
بغداد.
قال في «المغني» [4] : أسد بن عمرو أبو المنذر، عن ربيعة الرّأي، ليّنه
[5] البخاريّ.
وقال يحيى: كذوب.
وقال أحمد: صدوق.
وقال ابن عدي: لم أر له شيئا منكرا. انتهى.
وفيها قارئ مكّة في زمنه، إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين المخزوميّ،
مولاهم المعروف بالقسط، وله تسعون سنة. وهو آخر أصحاب ابن كثير وفاة.
قرأ عليه الشّافعيّ وجماعة.
وفيها أبو عبيدة الحدّاد البصريّ نزيل بغداد، واسمه عبد الواحد بن
واصل. روى عن عوف الأعرابي وعدّة، وكان حافظا متقنا.
__________
[1] زيادة من «العبر» .
[2] (1/ 305) .
[3] يعني «شذور العقود في تاريخ العهود» .
[4] (1/ 76) .
[5] في «المغني» : «ضعّفه» .
(2/416)
وعبيدة بن حميد الكوفيّ الحذّاء الحافظ وله
بضع وثمانون سنة. روى عن الأسود بن قيس، ومنصور، والكبار، وكان صاحب
قرآن، وحديث، ونحو. أدّب الأمين بعد الكسائيّ. وكان من الأثبات.
وعمر بن علي المقدّميّ أبو جعفر البصريّ. وكان حافظا مدلّسا. كان يقول:
حدّثنا، أو يقول: سمعت، ثم يسكت، ثم يقول: هشام بن عروة، وينوي القطع.
قال ابن ناصر الدّين: عمر بن علي بن عطاء المقدّميّ من الثقات، لكنه
شديد التدليس. انتهى.
وفيها عطاء بن مسلم الخفّاف. كوفيّ صاحب حديث، ليس بالقوي.
نزل حلب. وروى عن محمّد بن سوقة وطبقته.
وفيها حميد بن عبد الرّحمن الرّؤاسيّ الكوفيّ. روى عن الأعمش وطبقته.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: قلّ من رأيت مثله.
قال في «المغني» [1] : عن الضّحّاك لا يعرف. انتهى.
وفيها يحيى بن خالد بن برمك البرمكيّ، توفي في سجن الرّشيد وله سبعون
سنة.
قال ابن الأهدل: وبرمك من مجوس بلخ، ولا يعلم إسلامه، وكان خالد قد ولي
وزارة السّفّاح.
قال المسعوديّ [2] : ولم يبلغه أحد من بنيه، لا يحيى في شرفه وبعد
همّته، ولا موسى في شجاعته ونجدته.
__________
[1] (1/ 195) .
[2] في «مروج الذهب» (3/ 277) والمؤلف ينقل عنه باختصار وتصرّف.
(2/417)
وكان المهديّ قد جعل الرّشيد في حجر يحيى،
فعلّمه الأدب. وكان يدعوه أبا، فلما ولي دفع إليه خاتمه، وقلّده أمره،
وفي ذلك يقول الموصليّ [1] :
ألم تر أنّ الشّمس كانت سقيمة ... فلمّا ولي هارون أشرق نورها
أمين أمين الله هارون ذو النّدى ... فهارون وإليها وهذا وزيرها
ومن كلام يحيى: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهديّة، والكتاب،
والرّسول.
وكان يقول لبنيه: اكتبوا أحسن [2] ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون،
وتحدّثوا بأحسن ما تحفظون.
وفي بنيه يقول الشاعر:
أولاد يحيى أربع ... كأربع الطّبائع
فهم إذا اختبرتهم ... طبائع الصّنائع [3]
وفيه يقول العتّابيّ:
سألت النّدى والجود حرّان أنتما ... فقالا كلانا عبد يحيى بن خالد
فقلت شراء ذلك الملك قال لا ... ولكن إرثا والدا بعد والد [4]
وكان يقول: إذا أقبلت فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا
تبقى.
وقال: يدل على حلم الرّجل سوء أدب غلمانه.
__________
[1] قال ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (6/ 221) : أظنه إبراهيم النديم،
أو ابنه إسحاق، وفي «الكامل» لابن الأثير (6/ 108) : «إبراهيم الموصلي»
والأبيات فيه برواية أصوب.
[2] لفظة «أحسن» سقطت من «مرآة الجنان» فتستدرك فيه.
[3] البيتان في «وفيات الأعيان» (6/ 221) ، و «مرآة الجنان» (1/ 433)
وهما برواية أخرى في «مروج الذهب» (3/ 277) .
[4] البيتان في «مرآة الجنان» (1/ 435) مع بعض الخلاف، ولم ينسبهما
لأحد.
(2/418)
وحكي أنه كتب أبياتا قبل موته يخاطب
الرّشيد:
سينقطع التّلذذ عن أناس ... أداموه وتنقطع الهموم
ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غدا عند الإله من الظّلوم
ألا يا بائعا دينا بدنيا ... غرورا لا يدوم لها نعيم
تخلّ من الذّنوب فأنت منها ... على أن لست ذا سقم سقيم
تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبّه للمنيّة يا نؤوم
تروم الخلد في دار التّفاني ... وكم قد رام قبلك ما تروم
إلى ديّان يوم الدّين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ولم يزل يحيى بن خالد وابنه الفضل في الرافقة- وهي الرّقّة القديمة
المجاورة للرّقّة الجديدة، وهي البلد المشهورة الآن على شاطئ
الفرات، ويقال: لهما الرّقّتان تغليبا كالعمرين- في حبس الرّشيد
إلى أن مات يحيى في الثالث من المحرم سنة تسعين وهو ابن سبعين سنة،
وصلّى عليه ابنه الفضل بن يحيى ودفن في شاطئ الفرات في ربض هرثمة،
ووجد في جيبه رقعة فيها مكتوب بخطه: قد تقدم الخصم والمدّعي عليه
في الأثر، والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى
بيّنة، ولما قرأ الرّشيد الرقعة بكى يومه كله، واستمر أياما يتبيّن
الأسى في وجهه، ونام يحيى فمات فجأة، فقال الرّشيد: اليوم مات عاقل
النّاس.
وقال يحيى بن أكثم: سمعت المأمون يقول: لم يكن ليحيى بن خالد
ولولده أحد في الكفاية، والبلاغة، والجود، والشجاعة. انتهى.
(2/419)
|