شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وثمانين ومائة
فيها أحدث الرّشيد في صدور كتبه الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلّم.
وفيها غزا الرّشيد، وافتتح حصن الصّفصاف من أرض الرّوم بالسيف..
وسار عبد الملك بن صالح بن علي العبّاسي حتّى بلغ أنقرة [1] وافتتح حصنا.
وفيها توفي الإمام محدّث الشّام ومفتي أهل حمص، أبو عتبة، إسماعيل بن عيّاش العنسيّ، عن بضع وسبعين سنة. روى عن شرحبيل بن مسلم، ومحمّد بن زياد الألهاني، وخلق من التابعين بالشّام والحرمين.
قال ابن معين: هو ثقة في الشّاميين.
وقال يزيد بن هارون: ما لقيت شاميّا ولا عراقيّا أحفظ منه، وما أدري ما الثوري.
وقال ابن عدي: يحتجّ به في حديث الشّاميين خاصة.
وقال أبو اليمان: كان إسماعيل جارنا، فكان يحيي الليل.
قال داود بن عمرو: ما حدّثنا إسماعيل إلّا من حفظه، [و] كان يحفظ نحوا من عشرين ألف حديث.
__________
[1] وهي عاصمة دولة تركيا المعاصرة.

(2/359)


وقيل: توفي سنة اثنتين وثمانين، ومناقبه كثيرة.
وفيها أبو المليح الرّقّيّ عن نيّف وتسعين سنة. واسمه الحسن بن عمر.
روى عن ميمون بن مهران، والزّهريّ، والكبار، ووثّقه أحمد، وغيره.
وفيها حفص بن ميسرة الصّنعانيّ بعسقلان. روى عن زيد بن أسلم، وطبقته، وكان ثقة صاحب حديث.
و [فيها] المعمّر أبو أحمد خلف بن خليفة الكوفيّ ببغداد، وقد جاوز المائة بعام. رأى عمرو بن حريث الصّحابي [1] وروى عن محارب بن دثار، وجماعة.
قال أبو حاتم: صدوق.
قلت: هو أقدم شيخ للحسن بن عرفة. قاله في «العبر» [2] .
وفيها الأمير حسن بن قحطبة بن شبيب الطائيّ، وله أربع وثمانون سنة، وكان من كبار قوّاد المنصور.
وفيها، وقيل: سنة ثمانين، أبو معاوية عبّاد بن عبّاد بن المهلّب البصريّ، أحد المحدّثين والأشراف. روى عن أبي جمرة [3] الضّبعي صاحب ابن عبّاس [4] وغيره.
قال في «المغني» [5] : عبّاد المهلّبيّ، ثقة، مشهور، وقد قال أبو حاتم:
لا يحتجّ به.
__________
[1] تحرّفت لفظة «الصحابي» في «العبر» إلى «الصابي» فتصحّح فيه.
[2] (1/ 280) .
[3] واسمه نصر بن عمران.
[4] في المطبوع: «صاحب ابن عيّاش» وهو خطأ.
[5] «المغني في الضعفاء» (1/ 326) .

(2/360)


وذكره ابن سعد في «الطبقات» [1] فقال: لم يكن بالقويّ. انتهى.
وفي رمضان، توفي الإمام العلم أبو عبد الرّحمن عبد الله بن المبارك الحنظليّ، مولاهم المروزيّ، الفقيه، الحافظ، الزّاهد، ذو المناقب، وله ثلاث وستون سنة. سمع هشام بن عروة، وحميد الطّويل، وهذه الطبقة، وصنّف التصانيف الكثيرة، وحديثه نحو من عشرين ألف حديث.
قال أحمد بن حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه.
وقال شعبة: ما قدم علينا مثله.
وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين.
وعن شعيب بن حرب قال: ما لقي ابن المبارك مثل نفسه.
وكانت له تجارة واسعة، [و] كان ينفق على الفقراء في السنة مائة ألف درهم.
قال ابن ناصر الدّين: الإمام العلّامة الحافظ شيخ الإسلام وأحد أئمة الأعلام [2] ، ذو التصانيف النافعة والرحلة الواسعة.
حدّث عنه ابن معين، وابن منيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
جمع العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والشعر، وفصاحة العرب، مع قيام الليل والعبادة.
قال الفضيل بن عياض: وربّ هذا البيت ما رأت عيناي مثل ابن المبارك. انتهى.
وقال ابن الأهدل: تفقّه بسفيان الثّوري، ومالك بن أنس، وروى عنه
__________
[1] (7/ 290) .
[2] في المطبوع: «وأحد أئمة الأنام» .

(2/361)


«الموطأ» وكان كثير الانقطاع في الخلوات، شديد الورع، وكذلك أبوه مبارك. روي أنه نظر بستانا لمولاه، فطلب منه رمّانة حامضة، فجاءه بالرّمّانة حلوة، فقال له: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ قال: لا. قال: ولم؟
قال: لأنك لم تأذن لي فيه، فوجده كذلك، وعظم قدره عند مولاه، حتّى كان له بنت خطبت كثيرا، فقال له: يا مبارك من ترى نزوّج هذه البنت؟ فقال:
الجاهلية كانوا يزوّجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمّة للدّين، فأعجبه عقله، وقال لأمها: ما لها زوج غيره، فتزوجها، فجاءت بعبد الله، وكان واحد وقته، وفيه يقول القائل:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأحبار في كلّ بلدة ... فهم أنجم فيها وأنت هلالها
وقد صنّف في مناقبه. وعدّ بعضهم ما جمع من خصال الخير فوجدها خمسا وعشرين فضيلة، وكان يحجّ عاما، ويغزو عاما، فإذا حجّ قبض نفقة إخوانه، وكتب على كل نفقة اسم صاحبها، وينفق عليهم ذهابا وإيابا من أنفس النفقة، ويشتري لهم الهدايا من مكّة والمدينة، فإذا رجعوا اتخذ سماطا عليه من جفان الفالوذج نحو خمس وعشرين فضلا عن غيره، فيطعم إخوانه، ومن شاء الله، ثم يكسوهم جديدا، ويردّ إلى كلّ منهم نفقته، وذلك أنه كانت له تجارة واسعة.
قال سفيان الثّوري: وددت عمري كله بثلاثة أيام من أيام ابن المبارك.
قيل: مات بهيت- بالكسر- بلد بالعراق [1] منصرفا من غزوة، وقيل:
__________
[1] في الجنوب الأوسط منه الآن، وهي بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار، ذات نخل كثير وخيرات واسعة، وقد نسب إليها قوم من أهل العلم. وانظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 420- 421) .

(2/362)


مات في برية سائحا مختارا للعزلة، وكان كثيرا ما يتمثّل بهذين البيتين:
وإذا صاحبت فاصحب صاحبا ... ذا حياء وعفاف وكرم
قائلا للشيء لا إن قلت لا ... وإذا قلت نعم قال نعم
انتهى.
وقال في «العبر» [1] : كان أستاذه تاجرا، فتعلّم منه، وكان أبوه تركيّا، وأمّه خوارزميّة.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: كان ابن المبارك أعلم من سفيان الثّوري.
قلت [2] : كان رأسا في العلم، رأسا في الذكاء، رأسا في الشجاعة والجهاد، رأسا في الكرم. وقبره بهيت ظاهر يزار، رحمه الله تعالى.
انتهى.
وفيها أبو الحسن عليّ بن هاشم بن البريد الكوفيّ الخزّاز. يروي عن الأعمش وأقرانه.
وخرّج له مسلم والأربعة. وكان شيعيّا جلدا.
قال في «المغني» [3] : قال ابن حبّان: روى المناكير عن المشاهير. انتهى.
وفيها قاضي مصر أبو معاوية المفضّل بن فضالة القتبانيّ الفقيه. روى عن يزيد بن أبي حبيب، وطائفة كثيرة. وكان زاهدا، ورعا، قانتا، مجاب الدّعوة، عاش أربعا وسبعين سنة.
__________
[1] (1/ 281) .
[2] القائل الذهبي في «العبر» .
[3] (2/ 456) .

(2/363)


قال في «المغني» [1] : ثقة حجة.
قال ابن سعد: منكر الحديث. انتهى.
وفيها بالاسكندرية، يعقوب بن عبد الرّحمن القارئ المدنيّ. روى عن زيد بن أسلم وطبقته فأكثر.
__________
[1] (2/ 674) .

(2/364)


سنة اثنتين وثمانين ومائة
فيها سملت [1] الرّوم عيني طاغيتهم قسطنطين، وملّكوا عليهم أمّه.
وفيها توفي عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم العدويّ العمريّ مولاهم المدنيّ. روى عن أبيه وجماعة، وهو ضعيف كثير الحديث.
وفيها عبيد الله بن عبد الرّحمن الأشجعيّ الكوفيّ الحافظ. سمع من هشام بن عروة وجماعة، وقال: سمعت من سفيان الثّوري ثلاثين ألف حديث.
وقال ابن معين: ما بالكوفة أعلم بالثّوريّ من عبيد الله الأشجعيّ.
وفيها عمّار بن محمّد الثّوريّ الكوفيّ، ابن أخت سفيان الثّوريّ. روى عن منصور، والأعمش، وعدّة.
قال ابن عرفة: كان لا يضحك، وكنّا لا نشكّ أنه من الأبدال. انتهى.
وخرّج له مسلم والنسائي وغيرهما.
__________
[1] قال في «مختار الصحاح» ص (314) : سمل العين: فقؤها بحديدة محماة.

(2/365)


قال في «المغني» [1] قال ابن حبّان: استحق الترك. انتهى.
وفيها أبو سفيان المعمريّ محمّد بن حميد البصريّ، نزيل بغداد، وكان محدّثا مشهورا، رحل إلى معمر فلقّب بالمعمريّ.
وفيها الوليد بن [محمّد] الموقّريّ البلقاويّ، والموقّر حصن [2] بالبلقاء. وهو من ضعفاء أصحاب الزّهريّ.
وفيها على الأصح، عالم أهل الكوفة يحيى بن زكريا بن أبي زائدة [3] الكوفيّ الحافظ. روى عن أبيه وعاصم الأحول وطبقتهما، وعاش ثلاثا وستين سنة.
قال ابن المدنيي: انتهى العلم في زمانه إليه. ما كان بالكوفة بعد الثّوريّ أثبت منه.
وقال غيره: ولي قضاء المدائن [4] ، وكان من أصحاب أبي حنيفة، وكان ثبتا متقنا.
وفيها الحافظ الثّبت [5] المتقن، أبو معاوية يزيد بن زريع العيشيّ، وقيل: التّيميّ البصريّ محدّث أهل البصرة. ثقة ماهر. روى عن أيوب السّختياني وطبقته.
وقال أحمد بن حنبل: كان ريحانة البصرة، ما أتقنه وما أحفظه.
وقال يحيى القطّان: ما كان هنا أحد أثبت منه.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 459) .
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 283) : «حصين» . وفي «معجم البلدان» (5/ 226) : موضع بنواحي البلقاء من نواحي دمشق.
[3] في «العبر» للذهبي (1/ 283) : «أبو زكريا يحيى بن أبي زائدة» وهو خطأ فيصحّح فيه.
وانظر «دول الإسلام» للذهبي ص (105) ، و «الأعلام» للزركلي (8/ 145) .
[4] في «العبر» : «ولي قضاء المدينة» وهو خطأ فيصحّح فيه.
[5] في الأصل: «الثابت» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.

(2/366)


وقال نصر بن علي الجهضميّ: رأيت يزيد بن زريع في النوم، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: دخلت الجنة. قلت: بماذا؟ قال: بكثرة الصّلاة.
وفي شهر ربيع الآخر القاضي أبو يوسف، واسمه يعقوب بن إبراهيم الكوفي قاضي القضاة، وهو أوّل من دعي بذلك. تفقّه على الإمام أبي حنيفة، وسمع من عطاء بن السّائب وطبقته.
قال يحيى بن معين: كان القاضي أبو يوسف يحبّ أصحاب الحديث ويميل إليهم.
وقال محمد بن سماعة: كان أبو يوسف يصلّي بعد ما ولي القضاء كل يوم مائتي ركعة.
وقال يحيى بن يحيى النّيسابوري: سمعت أبا يوسف يقول عند وفاته:
كلّ ما أفتيت به فقد رجعت عنه، إلّا ما وافق السّنّة. وكان مع سعة علمه، أحد الأجواد الأسخياء.
قال أبو حاتم: يكتب حديثه.
وقال أحمد بن حنبل: صدوق.
قال جميع ذلك في «العبر» [1] .
وقال ابن الأهدل: تفقّه على أبي حنيفة، وخالفه في مواضع، وروى عنه محمّد بن الحسن الشيباني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأكثر العلماء على تفضيله وتعظيمه. ولي القضاء للمهديّ وابنيه، وذكر المؤرّخون أنّ له استحسانات يخالف فيها. وروي أنه قال عند وفاته: كلّ ما أفتيت به فقد رجعت عنه، إلّا ما وافق الكتاب والسّنّة. وقال: اللهمّ إنك تعلم أنّي لم أجر
__________
[1] (1/ 284- 285) .

(2/367)


في حكم حكمت [فيه] [1] بين اثنين من عبادك متعمّدا، ولقد اجتهدت في الحكم فيما يوافق سنّة نبيّك- صلى الله عليه وسلّم- وكلّ ما أشكل عليّ فقد جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، وكان عندي والله ممّن يعرف أمرك ولا يخرج عن الحق وهو يعلمه.
وروي أن زبيدة ابنة جعفر [2] امرأة الرّشيد أرسلت إليه بمال وعنده جلساؤه، فقال بعضهم: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أهديت له هديّة فجلساؤه شركاؤه فيها» [3] فقال أبو يوسف: ذلك حين كانت الهدايا من الأقط والتمر.
وقال بعضهم: كان أبو يوسف يحفظ التفسير، والمغازي، وأيام العرب. وكان أقل علومه الفقه، ولم يكن في أصحاب أبي حنيفة مثله. وهو أوّل من نشر علم أبي حنيفة.
وسأله الأعمش عن مسألة فأجابه. فقال: من أين؟ قال من حديثك الذي حدّثتنيه أنت. فقال: يا يعقوب إني لأعرف الحديث قبل أن يجتمع أبواك، وما عرفت تأويله إلّا الآن.
وتناظر هو وزفر بن الهذيل عند أبي حنيفة، فأطالا، فقال أبو حنيفة
__________
[1] لفظة «فيه» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] انظر ترجمتها ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (3/ 42) .
[3] ذكره الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 148) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ «من أهدي له هدية، وعنده قوم فهم شركاؤه فيها» وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه مندل بن علي وهو ضعيف، وقد وثق. قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» : مندل بن علي العنزي أبو علي الكوفي، ويقال: اسمه عمرو، ومندل لقب.
ضعيف. وذكره أيضا الحافظ الهيثمي في «المجمع» (4/ 148) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما بلفظ «من أتته هدية وعنده قوم جلوس، فهم شركاؤه فيها» وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه يحيى بن سعيد العطار، وهو ضعيف. وذكره السيوطي في «الجامع الكبير» وزاد نسبته للعقيلي في «الضعفاء» وأبي نعيم في «الحلية» ، والبيهقي في «السنن» .

(2/368)


لزفر: لا تطمع في رياسة بلد فيها مثل هذا.
وكان يقول: العلم لا يعطيك بعضه حتّى تعطيه كلّك.
وعاش قريبا من سبعين سنة. انتهى ما قاله ابن الأهدل.
وقال ابن ناصر الدّين: قال أحمد بن حنبل: أول ما كتبت الحديث اختلفت إلى أبي يوسف القاضي، فكتبت عنه، وكان أبو يوسف أميل إلينا من أبي حنيفة، ومحمد.
وقال الفلّاس: أبو يوسف صدوق كثير الغلط. انتهى.
وقال ابن قتيبة في «المعارف» [1] : هو يعقوب بن إبراهيم [بن حبيب] [2] بن سعد بن حبتة من بجيلة، وكان سعد بن حبتة استصغر يوم أحد.
ونزل الكوفة، ومات بها، وصلّى عليه زيد بن أرقم، وكبّر عليه خمسا.
وكان أبو يوسف يروي عن الأعمش، وهشام بن عروة، وغيرهما.
وكان صاحب حديث، حافظا، ثم لزم أبا حنيفة، فغلب عليه الرأي.
وولي قضاء بغداد، فلم يزل بها إلى أن مات، وابنه يوسف ولي القضاء أيضا بالجانب الغربي في حياة أبيه، وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة. انتهى كلام ابن قتيبة.
وقال ابن خلّكان [3] : هو أول من غيّر لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوس النّاس قبل ذلك شيئا واحدا لا يتميز أحد على أحد بلباسه. انتهى.
وقال غير واحد: كان يحفظ في المجلس الواحد خمسين حديثا بأسانيدها.
__________
[1] ص (499) .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «المعارف» .
[3] في «وفيات الأعيان» (6/ 379) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.

(2/369)


قال ابن الفرات في «تاريخه» [1] : روى علي بن حرملة عن أبي يوسف- رحمه الله- قال: كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقلّ رثّ المنزل، فجاء أبي يوما وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بني أنت محتاج إلي المعاش، وأبو حنيفة مستغن، فقصرت عن طلب العلم وآثرت طاعة أبي، فتفقّدني أبو حنيفة وسأل عنّي، فلما أتيته بعد تأخيري عنه قال: ما خلّفك؟
قلت: الشغل بالمعاش، وطاعة والدي، فلما أردت الانصراف أومأ إليّ فجلست، فلما قام النّاس دفع إليّ صرّة وقال: استعن بهذه والزم الحلقة، وإذا فقدت هذه فأعلمني، فإذا فيها مائة درهم، فلزمت الحلقة، فكان يتعاهدني بشيء بعد شيء، وما أعلمته بنفاد شيء حتّى استغنيت، وتموّلت، فلزمت مجلسه حتّى بلغت حاجتي، وفتح الله لي ببركته وحسن نيّته، فأنتج من العلم المال، فأحسن الله مكافأته وغفر له.
وقال ابن عبد البرّ: كان أبو يوسف القاضي فقيها، عالما، حافظا، ذكر أنه كان يعرف بالحديث، وأنه كان يحضر التحديث فيحفظ خمسين حديثا وستين حديثا ثم يقوم فيمليها على النّاس.
وكان كثير الحديث، وكان جالس محمد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، ثم جالس أبا حنيفة- رضي الله عنهما- وكان الغالب عليه مذهبه، وربما كان يخالفه أحيانا في المسألة بعد المسألة. وكان يقول في دبر كلّ صلاة:
اللهمّ اغفر لي ولأبي حنيفة.
ثم قال ابن عبد البرّ: ولا أعلم قاضيا كان إليه تولية القضاء في الآفاق من المشرق إلى المغرب إلّا أبا يوسف في زمانه، وهو أول من لقّب بقاضي القضاة.
__________
[1] واسمه «الطريق الواضح المسلوك إلى معرفة تراجم الخلفاء والملوك» وصاحبه هو محمد بن عبد الرحيم بن علي بن محمّد الحنفي، والمعروف بابن الفرات. مات سنة (807) هـ. وكتابه ليس بين أيدينا. انظر «الأعلام» للزركلي (6/ 200) ، وسوف ترد ترجمته في المجلد التاسع من طبعتنا هذه إن شاء الله تعالى.

(2/370)


وقال محمد بن جعفر: أبو يوسف مشهور الأمر، ظاهر الفضل، وهو أفقه أهل عصره، ولم يتقدم عليه أحد في زمانه. وكان بالنهاية في العلم، والحلم، والرياسة، والقدر، والجلالة. وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبثّ علم أبي حنيفة في أقطار الأرض.
وقال الصّيمريّ: بلغني أن الرّشيد- رحمه الله- مشى أمام جنازة أبي يوسف- رحمه الله- وصلّى عليه بنفسه، ودفنه في مقبرة أهله في مقابر قريش بكرخ بغداد بقرب أمّ جعفر زبيدة.
وقال الرّشيد حين دفن أبو يوسف: ينبغي لأهل الإسلام أن يعزّي بعضهم بعضا بأبي يوسف.
قيل: رأى معروف الكرخيّ ليلة وفاة أبي يوسف كأنه دخل الجنة فرأى قصرا قد فرشت مجالسه وأرخيت ستوره، وقام ولدانه. قال معروف: فقلت:
لمن هذا القصر؟ فقيل: لأبي يوسف القاضي. فقلت: سبحان الله، وبم استحقّ هذا من الله تعالى؟ قالوا: بتعليمه الناس العلم وصبره على أذاهم.
قيل: مرض أبو يوسف- رحمه الله- في حياة أبي حنيفة- رضي الله عنه- مرضا شديدا فقيل له: توفي، فقال: لا، فقيل: من أين علمت هذا؟
قال: لأنه خدم العلم ولم يجن ثمرته، لا يموت حتّى يجني ثمرته. فاجتنى ثمرته بأن ولي القضاء، وتوفي وله سبعمائة ركاب ذهب، فصدق أبو حنيفة- رضي الله عنه- في الفراسة. انتهى ما ذكره ابن الفرات.
وفيها، وقيل: قبلها أو بعدها، توفي يونس بن حبيب النحويّ، أحد الموالي المنجبين، أخذ الأدب عن أبي عمرو بن العلاء وغيره. وهو في الطبقة الخامسة من الأدب بعد علي- كرّم الله وجهه- اختلف إليه أبو عبيد

(2/371)


أربعين سنة، وأبو زيد عشر سنين، وخلف الأحمر عشرين سنة. وله عدّة تصانيف. وكان يقول: فرقه الأحباب سقم الألباب، وينشد:
شيئا [1] لو بكت الدّماء عليهما ... عيناي حتّى تؤذنا [2] بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقّيهما ... شرخ الشباب وفرقة الأحباب
ومات يونس وله مائة سنة وسنتان.
وفيها، وقيل: في التي قبلها، مروان بن أبي حفصة [3] الشاعر اليماميّ.
روي أنه لما مدح الرّشيد بقصيدته السبعين التي يقول فيها:
إليك قصرنا [4] النّصف من صلواتنا ... مسيرة شهر بعد شهر نواصله
ولا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ... لديك ولكن أهنأ البرّ عاجله [5]
أعطاه سبعين ألف درهم. قبل أن يتمّها.
ومن أجود شعره قوله في معن بن زائدة قصيدته اللّاميّة، وفضّل بها على شعراء أرضه [6] وأعطاه ثلاثمائة ألف درهم. ومدح ولد [7] مروان شراحيل ابن معن بقوله:
يا أكرم النّاس من عجم ومن عرب ... ويا ذوي الفضل والإحسان والحسب [8]
أعطى أبوك أبي مالا فعاش به ... فأعطني مثل ما أعطى أبوك أبي
__________
[1] في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 400) : «اثنتان» .
[2] في الأصل والمطبوع: «حتى يؤذنا» وما أثبته من «مرآة الجنان» .
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «الأغاني» (10/ 71- 95) ، «وفيات الأعيان» (5/ 189- 193) و «الأعلام» للزركلي (7/ 208) .
[4] في «وفيات الأعيان» : «قسمنا» .
[5] البيتان في «وفيات الأعيان» (5/ 189- 190) .
[6] في «وفيات الأعيان» : «وفضل بها على شعراء زمانه» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «ولده» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[8] رواية البيت في «وفيات الأعيان» :
أيا شراحيل بن معن بن زائدة ... يا أكرم الناس من عجم ومن عرب

(2/372)


ما حلّ قطّ أبي أرضا أبوك بها [1] ... إلّا وأعطاه قنطارا من الذّهب [2]
فأعطاه قنطارا [من الذهب] [3] والقنطار ألف أوقيّة ومائتا أوقيّة، وقيل: غير ذلك.
ومثل هذه الحكاية ما روي أنه لما حبس عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- الحطيئة في هجوه للناس كتب إليه:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم عليك سلام الله يا عمر
أنت الّذي قام فيهم بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النّهى البشر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن لأنفسهم قد كانت الأثر [4]
فأطلقه وشرط عليه أن يكفّ لسانه. فقال له: إذ منعتني التكسّب بلساني فاكتب لي إلى علقمة بن علاثة [5] العامري. فامتنع عمر. فقيل له:
يا أمير المؤمنين، ما عليكم في ذلك؟ فاكتب له، فإنه ليس من عمّالك، وقد تشفّع بك إليه. فكتب [له بما أراد] [6] ، ورحل إليه، فصادف النّاس منصرفين من جنازته وولده واقف على قبره، فأنشد الحطيئة:
لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى علّقته الحبائل
فإن تحي لا أملل [7] حياتي وإن تمت ... فما في حياتي بعد موتك طائل
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ما حلّ أرضا أبي ثاو وأبوك بها» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[2] الأبيات في «وفيات الأعيان» (5/ 191) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[4] الأبيات في «ديوانه» بشرح ابن السكيت، والسكري، والسجستاني، تحقيق الأستاذ نعمان أمين طه، طبع مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر مع شيء من الخلاف في البيتين الأخيرين.
[5] في الأصل والمطبوع: «علقمة بن وقاص بن علاقة» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (5/ 192) وكتب الرجال التي بين يدي.
[6] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «لا أملك» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .

(2/373)


وما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلّا ليال قلائل [1]
فقال له ابنه: كم ظننت أنه كان يعطيك؟ قال: مائة ناقة يتبعها مائة [من أولادها] [2] فأعطاه إياها.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (5/ 192) .
[2] زيادة من «وفيات الأعيان» .

(2/374)


سنة ثلاث وثمانين ومائة
فيها كان خروج الخزر- لعنهم الله- ومن قصصهم [1] أن ستيت ابنة ملك التّرك خاقان خطبها الأمير الفضل بن يحيى البرمكي. وحملت إليه في عام أوّل. فماتت في الطريق ببرذعة. فردّ من كان معها في خدمتها من العساكر، وأخبروا خاقان أنها قتلت غيلة. فاشتدّ غضبه، وتجهز للشرّ. وخرج بجيوشه من الباب الحديد، وأوقع بأهل الإسلام، وبالذّمة. وقتل وسبى، وبدع، وبلغ السبي مائة ألف، وعظمت المصيبة على المسلمين، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فانزعج هارون الرّشيد، واهتزّ [2] لذلك، وجهّز البعوث، فاجتمع المسلمون وطردوا العدو عن إرمينية، ثم سدّوا الباب الذي خرجوا منه. قاله في «العبر» [3] .
وفيها توفي الإمام أبو معاوية هشيم بن بشير السّلميّ الواسطيّ محدّث بغداد. روى عن الزّهريّ وطبقته.
قال يعقوب الدّورقيّ: كان عند هشيم عشرون ألف حديث.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: هو أحفظ للحديث من الثّوريّ.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «ومن قصتهم» .
[2] في «العبر» للذهبي: «واهتم» .
[3] (1/ 285- 286) .

(2/375)


وقال يحيى القطّان: هو أحفظ من رأيت بعد سفيان، وشعبة.
وقال ابن أبي الدّنيا: حدّثني من سمع عمرو بن عون يقول: مكث هشيم يصلّي الفجر بوضوء العشاء عشر سنين قبل موته.
وقال أحمد: كان كثير التسبيح.
وقال ابن ناصر الدّين في شرح «بديعة البيان» له: هشيم بن بشير بن أبي خازم [1] قاسم بن دينار السّلميّ أبو معاوية الواسطيّ نزيل بغداد. كان من الحفّاظ الثقات المتقنين، لكنه معدود في المدلّسين، ومع ذلك فقد أجمعوا على صدقه، وأمانته، وثقته، وعدالته، وإمامته [2] .
قال وهب بن جرير: قلنا لشعبة: نكتب عن هشيم؟ قال: نعم. ولو حدّثكم عن ابن عمر فصدّقوه. انتهى.
وفيها الواعظ ابن السّمّاك أبو العبّاس محمد بن صبيح الكوفيّ الزّاهد.
مولى بني عجل. روى عن الأعمش وجماعة. وكان كبير القدر. دخل على الرّشيد فوعظه وخوّفه.
ومن كلامه: من جرّعته الدّنيا حلاوتها لميله إليها، جرّعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها.
روي أن الرّشيد استفتاه في يمين حلفها أنه من أهل الجنّة، فقال له:
هل قدرت على معصية فتركتها من مخافة الله- عزّ وجلّ-؟ قال: نعم. قال:
قال الله- عزّ وجلّ-: وَأَمَّا من خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى 79: 40- 41 [النازعات: 40- 41] فيمينك بارّة.
__________
[1] في الأصل: «ابن أبي حازم» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] في المطبوع: «وأمانته» .

(2/376)


قال اليافعيّ [1] : وإنما المراد بالآية استمرار الخوف إلى الموت.
وقال الفقيه حسين: استدلال ابن السّمّاك صحيح، لأن الظّاهر أن كل مسلم يدخلها، وإنما الإشكال لو قال: يدخلها دون مجازاة، وغاية ما فيه الشك والحنث لا يقع به، والله أعلم. انتهى.
قلت: وما قاله الفقيه حسين جار على القواعد الفقهية لعدم تحقّق أنه من غير أهلها، والله أعلم.
وقال في «المغني» [2] : محمّد بن صبيح بن السّمّاك الواعظ. سمع الأعمش.
قال ابن نمير: صدوق ليس حديثه بشيء. انتهى [3] .
وفيها السيد الجليل أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصّادق ووالد عليّ بن موسى الرضا. ولد سنة ثمان وعشرين ومائة. روى عن أبيه.
قال أبو حاتم: ثقة إمام من أئمة المسلمين.
وقال غيره: كان صالحا، عابدا، جوادا، حليما، كبير القدر. بلغه عن رجل الأذى له، فبعث [إليه] بألف دينار. وهو أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين على اعتقاد الإمامية. سكن المدينة، فأقدمه المهديّ بغداد وحبسه. فرأى المهديّ في نومه عليّا- كرّم الله وجهه- وهو يقول له:
يا محمد فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا في الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ 47: 22 [محمد: 22] فأطلقه على أن لا يخرج عليه ولا على أحد من بنيه. وأعطاه ثلاثة آلاف وردّه إلى المدينة. ثم حبسه هارون الرّشيد في دولته، ومات في حبسه. وقيل: إن هارون قال: رأيت حسينا في النوم قد أتى بالحربة وقال:
__________
[1] في «مرآة الجنان» (1/ 404) والمؤلف ينقل عنه بتصرّف واختصار.
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 593) .
[3] قلت: لفظة «انتهى» لم ترد في المطبوع.

(2/377)


إن خلّيت عن موسى هذه الليلة، وإلا نحرتك بها، فخلاه وأعطاه ثلاثين ألف درهم.
وقال موسى [1] : رأيت النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- وقال لي: «يا موسى حبست ظلما فقل هذه الكلمات، لا تبيت هذه الليلة في الحبس: يا سامع كلّ صوت، يا سائق الفوت، يا كاسي العظام لحما ومنشزها [2] بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسنى، وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطّلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليما ذا أناة، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا [ولا يحصى عددا] [3] فرّج عنّي» [4] . وأخباره كثيرة شهيرة رضي الله عنه.
وفيها شيخ أصبهان وعالمها، أبو المنذر النّعمان بن عبد السّلام التيميّ- تيم الله بن ثعلبة- وكان فقيها، إماما، زاهدا، عابدا، صاحب تصانيف.
أخذ عن الثّوريّ، وأبي حنيفة، وطائفة.
وفيها الفقيه أبو عبد الرّحمن يحيى بن حمزة الحضرميّ البتلهيّ [5] قاضي دمشق ومحدّثها. وله ثمانون سنة.
__________
[1] أي موسى الكاظم.
[2] أي ومركب بعضها على بعض (ع) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «مرآة الجنان» (1/ 406) .
[4] أقول: المنامات لا يؤخذ منها حكم شرعي، والله أعلم بحقيقة هذه الرؤيا، وسندها وصحتها، ولكن هذا الدعاء ليس فيه مخالفة شرعية، وإنما لا يسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (ع) .
[5] في الأصل: «البتلي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. والبتلهي، نسبة إلى «بيت لهيا» وهي قرية في شرق غوطة دمشق وقد أصبحت الآن ضمن حدود دمشق يقوم في موقعها مستشفى الزهراوي.
انظر «غوطة دمشق» للأستاذ محمد كرد علي ص (118) و (164) طبع دار الفكر بدمشق.

(2/378)


قال دحيم: هو ثقة عالم. روى عن عروة بن رويم وأقرانه من التابعين، وولّي القضاء نحو ثلاثين سنة.
قال في «المغني» [1] : يحيى بن حمزة قاضي دمشق صدوق.
وقال عبّاس [2] ، عن ابن معين: كان يرمى بالقدر.
وقال ابن معين: صدقة أحبّ إليّ منه.
وقال أبو حاتم: صدوق.
وقال ابن سعد: صالح الحديث. انتهى.
__________
[1] (2/ 733) .
[2] هو الإمام الحافظ الثقة أبو الفضل، عبّاس بن محمد بن حاتم بن واقد الدّوريّ البغداديّ، المتوفى سنة (271) هـ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث إن شاء الله تعالى.

(2/379)


سنة أربع وثمانين ومائة
وفيها توفي الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن سعد الزّهريّ العوفيّ المدنيّ قاضي المدينة ومحدّثها وله خمس وسبعون سنة. وقيل: توفي في العام الماضي. سمع أباه، والزّهريّ، وجماعة.
قال الحافظ عبد الغني [1] في كتابه «الكمال في أسماء الرّجال» : روى عنه شعبة، وابن مهدي، وأبو داود الطّيالسي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
قال أحمد، ويحيى، وأبو حاتم: ثقة.
وقال أبو زرعة: لا بأس به.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل قال: كان وكيع كفّ عن حديث إبراهيم بن سعد ثم حدّث عنه بعد. قلت: لم؟ قال: لا أدري، إبراهيم ثقة.
وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وربما أخطأ في الحديث. وقدم بغداد فنزلها هو وعياله وولده، وولي بها بيت المال لهارون.
وقال ابن عديّ: هو من ثقات المسلمين. حدّث عنه حمّاد من الأئمة ولم يتخلّف أحد من الكبار عنه بالكوفة، والبصرة، وبغداد.
__________
[1] يعني الإمام الحافظ الكبير عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى عام (600) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (21/ 443- 471) ، وسوف ترد ترجمته في آخر المجلد السادس من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.

(2/380)


وقال أبو بكر الخطيب: حدّث عنه يزيد بن عبد الله بن الهادي، والحسين بن سيّار الحرّانيّ وبين وفاتيهما مائة واثنتا عشرة سنة. روى له الجماعة. انتهى كلام «الكمال» ملخصا.
وفيها الفقيه إبراهيم بن [محمد بن أبي] [1] يحيى الأسلميّ مولاهم المدنيّ. روى عن الزّهريّ، وابن المنكدر، وطبقتهما. يروي عنه الشّافعيّ فيقول: أخبرني من لا أتّهم، وقال: كان قدريا.
وقال أحمد بن حنبل: كان معتزليا، قدريا، جهميا، كل بلاء فيه، لا يكتب حديثه.
وقال البخاريّ: جهمي تركه النّاس.
وقال ابن عديّ: لم أر له حديثا منكرا، إلّا عن شيوخ يحتملون، وله كتاب «الموطأ» أضعاف «موطأ مالك» . قاله في «العبر» [2] .
وفيها الزاهد العمريّ بالمدينة، واسمه عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله [3] بن عمر بن الخطّاب. روى عن أبيه، وكان إماما، فاضلا، رأسا في الزهد، والورع، ووثّقه النّسائيّ.
وفيها فقيه أهل المدينة أبو تمّام عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار. أخذ عن أبيه، وزيد بن أسلم، وطائفة.
قال أحمد بن حنبل: لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه.
وقال ابن سعد: ولد سنة سبع ومائة. ومات ساجدا رحمه الله.
انتهى [4] .
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي.
[2] (1/ 288- 289) .
[3] «ابن عبد الله» الثانية سقطت من «العبر» للذهبي المطبوع (1/ 289) فتستدرك فيه.
[4] يعني انتهى نقل المؤلف عن «العبر» للذهبي.

(2/381)


وقد احتجّ به أصحاب الصحاح.
وفيها عليّ بن غراب الكوفيّ القاضي. روى عن هشام بن عروة، وطبقته. وخرّج له العقيليّ، والنّسائيّ.
قال في «المغني» [1] : وثّقه الدارقطنيّ، وقبله ابن معين.
وقال أبو داود: تركوا حديثه.
وقال السعديّ: ساقط.
وقال ابن حبّان: حدّث بالموضوعات، وكان غاليا في التشيّع. انتهى.
وفيها مروان بن شجاع الجزريّ ببغداد. روى عن خصيف، وعبد الكريم بن مالك.
قال في «المغني» [2] : وثق.
وقال أحمد: لا بأس به.
وقال ابن حبّان: يروي المقلوبات عن الثقات. انتهى.
وفيها، أو في التي مضت، نوح بن قيس الحدّانيّ، الطّاحيّ، البصريّ. روى عن محمّد بن واسع، وطبقته.
__________
[1] (2/ 453) .
[2] (2/ 651) .

(2/382)


سنة خمس وثمانين ومائة
فيها، وقيل: في التي تليها، توفي الإمام الغازي القدوة أبو إسحاق الفزاريّ إبراهيم بن محمّد بن الحارث الكوفيّ نزيل ثغر المصّيصة. روى عن عبد الملك بن عمير وطبقته. ومن جلالته روى عنه الأوزاعيّ حديثا. فقيل:
من حدّثك بهذا؟ قال: حدّثني الصّادق المصدوق أبو إسحاق الفزاريّ.
وقال الفضيل بن عياض: ربما اشتقت إلى المصّيصة ما بي فضل الرّباط، بل لأرى أبا إسحاق الفزاري.
وقال غيره: كان إماما، قانتا، مجاهدا، مرابطا، آمرا بالمعروف، إذا رأى بالثغر مبتدعا أخرجه.
قال ابن ناصر الدّين: إبراهيم بن محمّد بن الحارث بن أسماء الكوفيّ الفزاريّ أبو إسحاق الحجّة الإمام شيخ الإسلام، ثقة متقن.
وقال أبو داود الطّيالسيّ: مات أبو إسحاق الفزاريّ وما على وجه الأرض أفضل منه. انتهى.
وفيها الأمير عبد الصّمد شيخ آل عبّاس [1] وبقية عمومة المنصور. روى عن أبيه، عن جدّه ابن عبّاس. وليّ إمرة البصرة، ودمشق. وكان فيه عجائب:
__________
[1] هو عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس. (ع) .

(2/383)


منها أنه ولد سنة أربع ومائة، وولد أخوه محمد أبو السّفّاح المنصور سنة ستين ومائة، فبينهما ست وخمسون سنة.
ومنها أن يزيد حجّ بالنّاس سنة خمس ومائة، وحجّ عبد الصّمد بالنّاس سنة خمسين ومائة، وهما في النسب إلى عبد مناف سواء.
ومنها أنه أدرك السّفّاح، والمنصور وهما ابنا أخيه، ثم أدرك المهديّ، وهو عمّ أبيه، ثم أدرك الهادي، وهو عمّ جدّه، ثم أدرك الرّشيد، ومات في أيامه.
وقال يوما للرّشيد: هذا مجلس فيه أمير المؤمنين، وعمّه، وعمّ عمّه، وعمّ عمّ عمّه، وذلك أن سليمان بن جعفر عمّ الرّشيد، والعبّاس عمّ سليمان، وعبد الصّمد عمّ العبّاس.
ومنها أنه ولد وقد نبتت أسنانه، ومات بها ولم تتغير، وكانت أسنانه قطعة واحدة من أسفل.
ومنها أنه طارت ريشتان فلصقت بعينيه، فذهب بصره.
وفيها يزيد بن مرثد الغنويّ، ابن أخي معن بن زائدة والي إرمينية، وأذربيجان، وأحد الفتيان الشجعان.
وقد سبق [1] أن الرّشيد لما أهمّه شأن الوليد بن طريف الشيبانيّ الخارجيّ. جهّزه فقتله. وروي أنه سلّحه يومئذ سيف النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- ذا الفقار.
وقال: خذه فإنّك ستنصر به. وقال فيه مسلم بن الوليد الأنصاريّ:
أذكرت سيف رسول الله سنّته ... وسيف أوّل من صلّى ومن صاما
يعني عليّا- رضي الله عنه- إذ كان هو الضرّاب به. وكان سبب وصول
__________
[1] انظر ص (349) من هذا المجلد.

(2/384)


ذي الفقار إلى العبّاسيين، أن محمّد بن عبد الله النفس الزّكيّة [1] دفعه إلى تاجر كان عليه أربعمائة دينار، واشتراه منه جعفر بن سليمان.
قال الأصمعيّ: رأيته وفيه ثمان عشرة فقارة، وهي الثقوب والدّحل.
انتهى.
وقد قيل: إنه كان ينفرق أحيانا مع علي- رضي الله عنه- حتّى يقال:
إنه قتل به عمرا وحيّيا في ضربة، ويشير إلى ذلك قول شرف الدّين عمر بن الفارض رحمه الله تعالى.
ذو الفقار اللّحظ منها أبدا ... والحشا منّي عمرو وحييّ
وفيها ضمام بن إسماعيل المصريّ بالاسكندرية. روى عن أبي قبيل المعافريّ.
قال أبو حاتم: كان صدوقا متعبّدا ولم يخرّجوا له شيئا في الكتب الستة، وهو من مشاهير المحدّثين.
وقال في «المغني» [2] : ليّنه بعض الحفّاظ. انتهى.
وفيها عمر [3] بن عبيد الطّنافسيّ الكوفيّ. روى عن زياد بن علاقة، والكبار. ووثّقه أحمد، وابن معين.
وفيها على الأصح المعافى بن عمران أبو مسعود الأزديّ، عالم أهل الموصل وزاهدهم. رحل، وطاف، وسمع من ابن جريج وطبقته. ذكره سفيان الثّوري فقال: هو ياقوتة العلماء.
__________
[1] هو محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني يلقب (النفس الزكية) . (ع) .
[2] (1/ 313) .
[3] في الأصل: «عمرو» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.

(2/385)


وقال محمّد بن عبد الله بن عمّار الحافظ: لم ألق أفضل منه.
وقال ابن سعد: كان ثقة، فاضلا، صاحب سنّة.
وكان ابن المبارك- وهو أسنّ منه- يقول: حدّثني ذلك الرّجل الصالح.
وفيها يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون المدنيّ [1] ابن عم عبد العزيز بن الماجشون. روى عن الزّهريّ، وابن المنكدر، وكان كثير العلم.
وفيها أمير دمشق للرّشيد محمد بن إبراهيم الإمام [ابن محمّد] [2] بن علي بن عبد الله [3] بن عبّاس العبّاسيّ.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «المزني» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 292) وكتب الرجال.
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 292) و «البداية والنهاية» لابن كثير (10/ 186) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ابن علي بن علي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «البداية والنهاية» .

(2/386)