شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وسبعين ومائتين
فيها وقعة الطواحين [1] ، وكان ابن طولون قد خلع الموفّق من ولاية العهد، وقام بعده ابنه خمارويه على ذلك، فجهّز الموفّق ولده أبا العبّاس المعتضد، في جيش كبير، وولّاه مصر والشام، فسار حتّى نزل بفلسطين وأقبل خمارويه، فالتقى الجمعان بفلسطين وحمي الوطيس حتّى حرّت [2] الأرض من الدماء، ثم انهزم خمارويه إلى مصر، ونهبت خزائنه، وكان سعد الأعسر كمينا لخمارويه، فخرج على أبي العبّاس وهم غازون [3] فأوقعوا بهم، فانهزم هو وجيشه أيضا، حتّى وصل طرسوس في نفر يسير، وذهبت أيضا خزائنه، حواها سعد وأصحابه.
وفيها توفي عبّاس بن محمد الدّوريّ الحافظ، أبو الفضل، مولى بني هاشم ببغداد في صفر. سمع الحسين بن علي الجعفي، وأبا النّضر، وطبقتهما، وكان من أئمة الحديث الثقات.
وفيها أبو معشر المنجّم [4] كان قاطع النظراء في وقته، حتّى حكي أن
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «وقعت الطواعين» ، وما أثبته من «العبر» للذهبي (2/ 53) ، وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 414) ، و «دول الإسلام» للذهبي ص (150) من نشرة مؤسسة الأعلمي ببيروت.
[2] في المطبوع: «احمرّت» . وحرّت: أي سخنت. انظر «تاج العروس» (حرر) .
[3] في «العبر» : «وهم غارون» .
[4] واسمه جعفر بن محمد بن عمر البلخي. انظر ترجمته ومصادرها في «وفيات الأعيان» لابن

(3/302)


بعض أكابر الدولة اختفى وخشي من المنجم أن يحكم بطرقه التي يستخرج بها الخبايا، فأخذ طستا وملأه دما، وعمل في الطست هاون ذهب، وقعد على الهاون أياما، فبحث المنجم في أمره وبقي مفكّرا، فقال له الملك: فيم تفكّر؟ قال: أرى المطلوب على جبل من ذهب والجبل في بحر من دم، ولا أعلم في العالم موضعا على هذه الصفة، فنادى الملك بالأمان للرجل فظهر وأخبرهم، فتعجب الملك من صنيعهما.
وفيها عبد الرّحمن بن منصور الحارثيّ البصريّ [1] ، أبو سعيد، صاحب يحيى القطّان، يوم الأضحى بسامرّاء، وفيه لين.
ومحمد بن حمّاد الظّهرانيّ الرّازيّ الحافظ، أحد من رحل إلى عبد الرزّاق. حدّث بمصر، والشام، والعراق، وكان ثقة، عارفا، نبيلا.
وفيها أبو الحسن محمد بن سنان القزّاز [2] . بصري، نزل بغداد، وروى عن عمر بن يونس اليمامي وجماعة.
قال الدارقطني: لا بأس به.
وقال أبو داود: يكذب.
وفيها كيلجة، واسمه محمد بن صالح بن عبد الرحمن، أبو بكر، الأنماطي، ثقة ماجد. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها يوسف بن سعيد بن مسلم الحافظ، أبو يعقوب، محدّث المصّيصة. روى عن حجّاج الأعور، وعبيد الله بن موسى، وطبقتهما.
__________
خلكان (1/ 358- 359) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 127) .
[1] انظر «العبر» للذهبي (2/ 54) ، و «البداية والنهاية» (11/ 49) .
[2] انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزّي (3/ 1207) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق، و «تقريب التهذيب» لابن حجر ص (482) .

(3/303)


قال النسائي: ثقة حافظ.
وقال ابن ناصر الدّين: كان أحد الحفّاظ المعتمدين، والأيقاظ الصدوقين.
وفيها يحيى بن عبدك القزوينيّ، محدّث قزوين. طوّف ورحل إلى [1] البلدان، وسمع أبا عبد الرّحمن المقرئ، وعفّان.
__________
[1] لفظة «إلى» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.

(3/304)


سنة اثنتين وسبعين ومائتين
فيها كما قاله في «الشذور» زلزلت مصر زلزالا أخرب الدّور والجوامع، وأحصي بها في يوم واحد ألف جنازة.
وفيها البرلّسيّ، وهو إبراهيم بن سليمان بن داود الأسديّ، أسد خزيمة، أبو إسحاق بن أبي داود، ثبت مجوّد. ذكره ابن ناصر الدّين [1] .
وفيها أحمد بن عبد الجبّار العطارديّ الكوفيّ، في شعبان. ببغداد، في عشر المائة. سمع أبا بكر بن عيّاش، وعبد الله بن إدريس، وطبقتهما.
وثّقه ابن حبّان.
وفيها أحمد بن الفرج [2] ، أبو عتبة الحمصيّ المعروف بالحجازيّ.
روى عن بقيّة وجماعة.
قال ابن عديّ: هو وسط ليس بحجّة.
وفيها أحمد بن مهدي بن رستم الأصبهانيّ الزّاهد، صاحب «المسند» . رحل وسمع أبا نعيم وطبقته.
وفيها أبو معين الرّازيّ، الحسين بن الحسن، وقيل: محمد بن
__________
[1] قلت: وذكره أيضا السمعاني في «الأنساب» (2/ 167- 168) بترجمة أطول من التي في كتابنا فراجعها.
[2] في المطبوع، و «العبر» للذهبي بطبعتيه: «ابن الفرح» وهو تحريف فيصحّح فيهما.

(3/305)


الحسين [1] ، وكان من كبار الحفّاظ والمكثرين الأيقاظ. رحل وسمع سعيد بن أبي مريم، وأبا سلمة التّبوذكي، وطبقتهما.
وسليمان بن سيف بن يحيى بن درهم الطائيّ، مولاهم، الحرّانيّ، أبو داود، ثقة. كذا ذكره ابن ناصر الدّين.
وقال في «العبر» [2] : سليمان بن سيف الحافظ، أبو داود، محدّث حرّان وشيخها في شعبان. سمع [يزيد] بن هارون وطبقته. انتهى.
ومحمد بن عبد الوهّاب [العبديّ، أبو أحمد] [3] الفرّاء النيسابوريّ الفقيه الأديب، أحد أوعية العلم. سمع حفص بن عبد الله، وجعفر بن عون، والكبار، ووثّقه مسلم.
وفيها محمد بن عبيد الله بن يزيد، أبو جعفر بن المنادي [4] المحدّث في رمضان ببغداد، وله مائة سنة وستة عشر شهرا. سمع حفص بن غياث، وإسحاق الأزرق، وطبقتهما.
وفيها محمد بن عوف بن سفيان، أبو جعفر الطائي الحافظ، محدّث حمص. سمع محمد بن يوسف الفريابي وطبقته، وكان من أئمة الحديث.
__________
[1] انظر «طبقات الحفّاظ» للسيوطي ص (269) .
[2] (2/ 56) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 56) . وانظر «سير أعلام النبلاء» (12/ 606) .
[4] تحرّفت في الأصل إلى «المناوي» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.

(3/306)


سنة ثلاث وسبعين ومائتين
فيها توفي إسحاق بن سيّار النّصيبينيّ [1] محدّث نصيبين، في ذي الحجّة. سمع أبا عاصم وطبقته.
وفيها حنبل بن إسحاق الحافظ، أبو علي، ابن عمّ الإمام أحمد وتلميذه في جمادى الأولى. سمع أبا نعيم الفضل بن دكين، وأبا غسّان مالك بن إسماعيل [النّهدي] [2] ، وعفّان بن مسلم، وسعيد بن سليمان، وعارم بن الفضل، وسليمان بن حرب، وإمامنا أحمد في آخرين.
وحدّث عنه: ابنه عبيد الله، أبو عبد الله، وعبد الله البغوي، ويحيى بن صاعد، وأبو بكر الخلّال، وغيرهم.
وذكره ابن ثابت، فقال: كان ثقة ثبتا.
وقال الدارقطني: كان صدوقا.
وكان حنبل رجلا فقيرا، خرج إلى عكبرا [3] فقرأ مسائله عليهم، وخرج إلى واسط أيضا.
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» (13/ 194) : «النّصيبي» .
[2] زيادة من «طبقات الحفّاظ» للسيوطي ص (171) .
[3] قال ياقوت: عكبرا: اسم بليدة من نواحي دجيل قرب صريفين، وأونا، بينهما وبين بغداد عشرة فراسخ، والنسبة إليها عكبري، وعكبراوي. انظر «معجم البلدان» (4/ 142) .

(3/307)


وقال حنبل جمعنا عمّي- يعني الإمام أحمد- أنا، وصالح، وعبد الله- يعني أبناء أحمد- وقرأ علينا «المسند» وما سمعه منه- يعني تامّا- غيرنا.
وقال لنا: إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من تسعمائة [1] وخمسين ألفا، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارجعوا إليه، فإن وجدتموه فيه، وإلا فليس بحجة.
ومات حنبل بواسط في جمادى الأولى. انتهى ملخصا.
وفيها أبو أميّة الطّرسوسيّ، محمد بن إبراهيم بن مسلم الحافظ.
سمع عبد الوهّاب بن عطاء، وشبابة، وطبقتهما، وكان من ثقات المصنفين.
قال ابن ناصر الدّين: هو صاحب «المسند» كان حافظا، ثقة، كبيرا.
وفيها الإمام الحافظ أبو عبد الله، محمد بن يزيد بن ماجة، الكبير الشأن، القزوينيّ صاحب «السنن» و «التفسير» و «التاريخ» . سمع أبا بكر بن أبي شيبة، ويزيد بن عبد الله اليمامي، وهذه الطبقة. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن ناصر الدّين: محمد بن يزيد بن ماجة، أبو عبد الله، الرّبعيّ، مولاهم، القزوينيّ، أحد الأئمة الأعلام، وصاحب «السنن» أحد كتب الإسلام، حافظ ثقة كبير، صنّف «السنن» و «التاريخ» و «التفسير» . لم يحتو كتابه «السنن» على ثلاثين حديثا في إسنادها ضعف. انتهى.
وقال ابن خلّكان [3] : كان إماما في الحديث، عارفا بعلومه وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق، والبصرة، والكوفة، وبغداد، ومكة، والشام،
__________
[1] جاء في هامش المطبوع: وفي «مختصر طبقات ابن أبي يعلى» ، و «خصائص المسند» لأبي موسى المديني: «سبعمائة» .
[2] (2/ 57) .
[3] في «وفيات الأعيان» (4/ 279) .

(3/308)


ومصر، والرّيّ، لكتب الحديث، وله «تفسير القرآن العظيم» و «تاريخ» مليح، وكتابه في الحديث أحد الصحاح الستة.
وكانت ولادته سنة تسع ومائتين، وتوفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان، وصلّى عليه أخوه أبو بكر، وتولى دفنه أخواه أبو بكر، وأبو عبد الله [وابنه عبد الله] [1] . انتهى.
وفيها أحمد بن الوليد الفحّام، أبو بكر، البغداديّ. روى عن عبد الوهّاب بن عطاء وطائفة، وكان ثقة.
وفي صفر صاحب الأندلس، محمد بن عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام، الأمويّ، الأمير، أبو عبد الله، وكانت دولته خمسا وثلاثين سنة، وكان فقيها، عالما، فصيحا، مفوّها، رافعا لعلم الجهاد.
قال بقيّ بن مخلد: ما رأيت ولا سمعت أحدا من الملوك أفصح منه ولا أعقل.
وقال أبو المظفر [سبط] [2] ابن الجوزي: هو صاحب وقعة وادي سليط، التي لم يسمع بمثلها، يقال: إنه قتل فيها ثلاثمائة ألف كافر.
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» (4/ 279) . و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (13/ 279) . وفي «وفيات الأعيان» : «وتولى دفنه أخواه أبو بكر، وعبد الله، وابنه عبد الله» فتصحّح العبارة فيه.
[2] سقطت من الأصل والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي.

(3/309)


سنة أربع وسبعين ومائتين
فيها توفي أحمد بن محمد بن أبي الخناجر، أبو علي الأطرابلسيّ، في جمادى الآخرة. روى عن مؤمّل بن إسماعيل وطبقته، وكان من نبلاء العلماء. قاله في «العبر» [1] .
وفيها الحسن بن مكرم بن حسّان، أبو علي، ببغداد. روى عن علي بن عاصم وطبقته ووثّق.
وفيها خلف بن محمد الواسطيّ، كردوس [2] الحافظ. سمع يزيد بن هارون، وعلي بن عاصم.
وفيها عبد الملك بن عبد الحميد، الفقيه، أبو الحسن، الميمونيّ، الرّقّيّ، صاحب الإمام أحمد، في ربيع الأول. روى عن إسحاق الأزرق، ومحمد بن عبد، وطائفة، وكان جليل القدر في أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، وكان سنّه يوم مات دون المائة، وكان أحمد يكرمه ويجلّه ويفعل معه ما لا يفعل مع أحد غيره.
وقال: صحبت أبا عبد الله على الملازمة من سنة خمس ومائتين، إلى سنة سبع وعشرين. قال: وكنت بعد ذلك أخرج وأقدم عليه الوقت بعد
__________
[1] (2/ 58- 59) .
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (13/ 199) .

(3/310)


الوقت. قال: وكان أبو عبد الله يضرب لي مثل ابن جريج في عطاء من كثرة ما أسأله، ويقول لي: ما أصنع بأحد ما أصنع بك.
وقال الميمونيّ [1] : قلت لأحمد، من قتل نفسه، يصلي الإمام عليه؟
قال: لا يصلّي الإمام على من قتل نفسه، ولا على من غلّ. قلت:
فالمسلمون؟ قال: يصلّون عليهما.
وقال: المرداويّ في أواخر «الإنصاف» : عبد الملك بن عبد الحميد الميمونيّ، كان الإمام أحمد يكرمه، وروى عنه مسائل كثيرة جدا، ستة عشر جزءا، وجزءين كبيرين. انتهى.
وقال الحافظ ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» :
عبد المليك الحافظ الميموني ... روى علوم ديننا القويم
وقال في شرحها: هو عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران، الميمونيّ، الجزريّ، الرّقّيّ، أبو الحسن، وثّقه النسائيّ، وأبو عوانة، وغيرهم. انتهى.
وفيها محمد بن عيسى بن حيّان [2] المدائنيّ. روى عن سفيان بن عيينة وجماعة. ليّنه الدارقطنيّ، وقال البرقانيّ: لا بأس به. قاله في «العبر» [3] .
وقال في «المغني» [4] : محمد بن عيسى بن [5] حيّان المدائنيّ، صاحب ابن عيينة.
__________
[1] يعني صاحب الترجمة.
[2] في «العبر» بطبعتيه: «ابن حبان» فيصحّح فيهما. وانظر «سير أعلام النبلاء» (13/ 21- 23) .
[3] (2/ 59) .
[4] (2/ 622) .
[5] لفظة «ابن» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.

(3/311)


قال الدارقطني: ضعيف متروك.
وقال غيره: كان مغفّلا.
وقال الحاكم: متروك. انتهى.

(3/312)


سنة خمس وسبعين ومائتين
فيها توفي أبو بكر المرّوذيّ [1] ، الفقيه، أحمد بن محمد بن الحجّاج، في جمادى الأولى ببغداد، وكان اجلّ أصحاب الإمام أحمد، إماما في الفقه، والحديث، كثير التصانيف، خرج مرة إلى الرّباط [2] ، فشيّعه نحو خمسين ألفا من بغداد إلى سامرّاء. قاله في «العبر» .
وقال في «الإنصاف» : كان ورعا، صالحا، خصّيصا بخدمة الإمام أحمد، وكان يأنس به وينبسط إليه ويبعثه في حوائجه، وكان يقول: كلّ ما قلت فهو على لساني وأنا قلته، وكان يكرمه ويأكل من تحت يده، وهو الذي تولى إغماضه لمّا مات وغسله. روى عنه مسائل كثيرة، وهو المقدّم من أصحاب الإمام أحمد لفضله وورعه. انتهى.
وفيها أحمد بن ملاعب الحافظ، أبو الفضل، المخزوميّ، وله أربع وثمانون سنة. سمع عبد الله بن بكر، وأبا نعيم، وطبقتهما، وكان ثقة نبيلا.
وفيها الإمام أبو داود السّجستانيّ، سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزديّ صاحب «السنن» والتصانيف المشهورة، في شوّال بالبصرة، وله بضع وسبعون سنة. سمع مسلم بن إبراهيم، والقعنبي، وطبقتهما، وطوّف
__________
[1] انظر ترجمته في «الأنساب» للسمعاني (11/ 255) .
[2] يعني إلى ملازمة ثغر العدو. ويقال: المرابطة أيضا. انظر «مختار الصحاح» (ربط) .

(3/313)


الشام، والعراق، ومصر، والحجاز، والجزيرة، وخراسان، وكان رأسا في الحديث، رأسا في الفقه، ذا جلالة وحرمة وصلاح وورع، حتّى إنه كان يشبّه بشيخه أحمد بن حنبل. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شدّاد بن عمرو بن عمران الأزديّ السجستانيّ، أحد حفّاظ الحديث وعلمه وعلله، وكان في الدرجة العالية من النّسك والصلاح. طوّف البلاد وكتب عن العراقيين، والخراسانيين، والشاميين، والمصريين، والجزريين [3] ، وجمع كتاب «السنن» قديما وعرضه على الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، فاستحسنه واستجاده، وعدّه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في «طبقات الفقهاء» [4] من جملة أصحاب الإمام أحمد بن حنبل.
وقال إبراهيم الحربي: لما صنّف أبو داود كتاب «السنن» : ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد.
وكان يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خمسمائة ألف حديث انتخبت [5] منها ما ضمنته هذا الكتاب- يعني «السنن» - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث:
أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الأعمال بالنّيّات» [6] .
__________
[1] (2/ 60- 61) .
[2] في «وفيات الأعيان» (2/ 404- 405) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «والحرميين» وما أثبته من «تاريخ بغداد» (9/ 55) ، و «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[4] انظر ص (171) منه.
[5] لفظة «انتخبت» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «وفيات الأعيان» .
[6] رواه البخاري رقم (1) في بدء الوحي: باب كيف كان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (54) في الإيمان: باب ما جاء إنّ الأعمال بالنيّة والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، و (2529) في

(3/314)


والثاني قوله صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» [1] . والثالث قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يكون المؤمن مؤمنا حتّى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه» [2] . والرابع قوله صلى الله عليه وسلم: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات» [3] الحديث بكامله.
__________
العتق: باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى و (3898) في مناقب الأنصار: باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، و (5070) في النكاح: باب ما هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى و (6689) في الأيمان والنذور:
باب النيّة في الأيمان، و (6953) في الحيل: باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى، ومسلم رقم (1907) في الإمارة: باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيّة» . وقد استوفيت تخريجه في كتابي «شرح الأربعين النووية» ص (19) طبع دار ابن كثير، فليرجع إليه من شاء.
[1] لم أقف عليه بهذا اللفظ في «سنن أبي داود» ولكن ساقه به ابن الأثير في «جامع الأصول» (1/ 190) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (1/ 531) ، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/ 210) في معرض خبر نسبوه لأبي بكر بن داسة، ورواه الترمذي رقم (2317) في الزهد: باب رقم (11) ، وابن ماجة رقم (3976) في الفتن، باب: كفّ اللسان في الفتنة.
وقال والدي حفظه الله تعالى في تعليقه على كتابي «شرح الأربعين النووية» ص (37) : وهو حديث صحيح لشواهده الكثيرة.
[2] لم أقف عليه بهذا اللفظ في «سنن أبي داود» الذي بين يدي، ولكن ساقه به ابن الأثير في «جامع الأصول» (1/ 190) ، والمزّي في «تهذيب الكمال» (1/ 531) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/ 210) في معرض خبر نسبوه لأبي بكر بن داسة.
والمحفوظ ما رواه البخاري رقم (13) ، ومسلم رقم (45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ولفظه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» .
[3] هو في «سننه» رقم (3329) في البيوع والإجارات: باب في اجتناب الشبهات. وهو عند البخاري رقم (52) في الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه، و (2051) في البيوع: باب الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، وعند مسلم رقم (1599) في المساقاة:
باب أخذ الحلال وترك الشبهات. وقد استوفيت تخريجه في كتابي «شرح الأربعين النووية» ص (28) .

(3/315)


وجاءه سهل بن عبد الله التّستريّ، رحمه الله تعالى، فقال له: يا أبا داود، لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: حتّى تقول: قضيتها مع الإمكان، قال: قد قضيتها مع الإمكان، قال: أخرج [لي] [1] لسانك الذي حدّثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى أقبّله، قال: فأخرج [له] لسانه فقبّله.
وكانت ولادته في سنة اثنتين ومائتين، وقدم بغداد مرارا، ثم نزل إلى البصرة وسكنها، وتوفي بها يوم الجمعة منتصف شوّال سنة خمس وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى.
وكان ولده أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان من أكابر الحفّاظ ببغداد، عالما متفقا عليه، إماما ابن إمام [2] وله كتاب «المصابيح» وشارك أباه في شيوخه بمصر والشام، وسمع ببغداد، وخراسان، وأصبهان [وسجستان] [3] وشيراز، وتوفي سنة ست عشرة وثلاثمائة، واحتجّ به ممّن صنّف الصحيح أبو علي الحافظ النيسابوري، وابن حمزة الأصبهاني. انتهى ما أورده ابن خلّكان.
وفيها، أي سنة خمس وسبعين، يحيى بن أبي طالب جعفر بن عبد الله بن الزّبرقان، أبو بكر البغدادي، المحدّث في شوّال. روى عن علي بن عاصم، ويزيد بن هارون، وجماعة، وصحّح الدّارقطنيّ حديثه.
__________
[1] زيادة من «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[2] في «وفيات الأعيان» : «إمام بن إمام» .
[3] زيادة من «وفيات الأعيان» .

(3/316)