شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وثمانين
ومائتين
فيها التقى إسماعيل بن أحمد بن أسد الأمير، وعمرو بن اللّيث الصّفّار
بما وراء النهر، فانهزم أصحاب عمرو، وكانوا قد ضجروا منه، ومن ظلم
خواصه [1] ولا سيما أهل بلخ، فإنهم نالهم بلاء شديد من الجند، فانهزم
عمرو إلى بلخ، فوجدها مغلوقة، ففتحوا له، ولجماعة يسيرة، ثم وثبوا
عليه، فقيّدوه [2] وحملوه إلى إسماعيل أمير ما وراء النهر. فلما أدخل
إليه، قام له واعتنقه وتأدّب معه [3] فإنه كان في أمراء عمرو غير واحد
مثل إسماعيل وأكبر، وبلغ ذلك المعتضد، ففرح وخلع على إسماعيل خلع
السلطنة وقلّده خراسان، وما وراء النهر، وغير ذلك، وأرسل إليه يلحّ
عليه في إرسال عمرو بن اللّيث، فدافع، فلم ينفع، فبعثه وأدخل بغداد على
جمل، بعد أن كان يركب في مائة ألف، وسجن ثم خنق وقت موت المعتضد.
وفيها ظهر بالبحرين، أبو سعيد الجنّابيّ القرمطيّ، وقويت شوكته، وانضم
إليه جمع من الأعراب، فعاث، وأفسد، وقصد البصرة، فحصّنها المعتضد، وكان
أبو سعيد كيّالا بالبصرة، وجنّابة من قرى الأهواز [4] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ومن ظلم خراجه» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر»
للذهبي (2/ 81) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وقيدوه» وأثبت ما في «العبر» للذهبي مصدر
المؤلف.
[3] لفظة «معه» لم ترد في المطبوع و «العبر» للذهبي.
[4] انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 165- 166) .
(3/358)
قال الصوليّ: كان أبو سعيد فقيرا يرفو
غربال الدقيق [1] فخرج إلى البحرين، وانضم إليه طائفة من بقايا الزّنج
واللصوص، حتّى تفاقم أمره، وهزم جيوش الخليفة مرّات.
وقال غيره: ذبح أبو سعيد الجنّابي في حمام بقصره، وخلفه ابنه أبو طاهر
الجنّابي القرمطي، الذي أخذ الحجر الأسود.
وفيها توفي أحمد بن سلمة النيسابوريّ الحافظ، أبو الفضل، رفيق مسلم في
الرحلة إلى قتيبة.
قال ابن ناصر الدّين: أحمد بن سلمة البزّار، أبو الفضل، النيسابوري،
كان حافظا من المهرة، له صحيح ك «صحيح مسلم» . انتهى.
وفيها الزّاهد الكبير، أحمد بن عيسى أبو سعيد الخرّاز، شيخ الصوفية،
وهو أوّل من تكلم في علم الفناء والبقاء.
قال الجنيد: لو طالبنا الله بحقيقة ما عليه أبو سعيد الخرّاز لهلكنا.
وعن أبي سعيد قال: رأيت إبليس في المنام وهو [يمرّ] [2] عنّي ناحية.
فناديته، فقال: أيّ شيء أعمل بكم، وأنتم طرحتم ما أخادع الناس به، غير
أنّ لي فيكم لطيفة وهي صحبة الأحداث.
وقال السّلميّ في «التاريخ» [3] : أبو سعيد إمام القوم في كل فن من
علومهم، بغدادي الأصل، له في مبادئ أمره عجائب وكرامات مشهورة، ظهرت
بركته عليه وعلى من صحبه، وهو أحسن القوم كلاما ما خلا الجنيد،
__________
[1] في «العبر» : «يرفو أعدال الدقيق» .
[2] سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «طبقات الصوفية» للسلمي ص
(232) ، و «غربال الزمان» للعامري ص (256) .
[3] يعني كتابه «تاريخ الصوفية» وهو مما ألّفه السّلميّ قبل تأليفه
لكتابه الشهير «طبقات الصوفية» كما ذكر الأستاذ نور الدين شريبة في
مقدمته لكتابه «الطبقات» ص (34) .
(3/359)
فإنه الإمام، ومن كلامه: كل باطن يخالفه
ظاهر فهو باطل [1] .
وقال: الاشتغال بوقت ماض تضييع وقت ثان.
وقال السخاوي في «طبقاته» : قال أبو سعيد: إن الله، عزّ وجلّ، عجّل
لأرواح أوليائه التلذّذ بذكره والوصول إلى قربه، وعجّل لأبدانهم
النّعمة بما نالوه من مصالحهم، وأجزل لهم [2] نصيبهم من كلّ كائن، فعيش
أبدانهم عيش الجنانيّين، وعيش أرواحهم عيش الرّبّانيّين. لهم لسانان:
لسان في الباطن يعرّفهم صنع الصانع في المصنوع، ولسان في الظاهر
يعلّمهم علم الخالق في المخلوق [3] .
وقال: مثل النّفس كمثل ماء واقف طاهر صاف، فإن حركته ظهر ما تحته من
الحمأة، وكذلك النّفس تظهر [4] عند المحن والفاقة والمخالفة ما فيها
[5] ، ومن لم يعرف ما في نفسه كيف يعرف ربّه؟!.
وقال في معنى حديث «جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها» [6] :
وا عجبا ممّن لا يرى محسنا إليه [7] غير الله، كيف لا يميل بكلّيته
إليه.
قال ابن كثير: وهذا الحديث ليس بصحيح، لكن كلامه عليه من أحسن ما يكون.
انتهى.
وفيها عبد الرّحيم بن عبد الله بن عبد الرّحيم بن البرقيّ [أبو سعيد]
[8]
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «فهو باطن» والتصحيح من «طبقات الصوفية» ص
(231) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وأخذلهم» وما أثبته من «طبقات الصوفية» ص
(229) .
[3] في «طبقات الصوفية» : «يعلمهم علم المخلوقين» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «الظهر» وما أثبته من «طبقات الصوفية» ص (231)
.
[5] لفظة «ما فيها» سقطت من «طبقات الصوفية» فتستدرك فيه.
[6] حديث باطل مرفوعا وموقوفا كما قال الحافظ السخاوي في «المقاصد
الحسنة» وانظر تخريجه المطوّل له ص (171- 172) .
[7] لفظة «إليه» سقطت من «طبقات الصوفية» فتستدرك فيه.
[8] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 83) ، وانظر «سير أعلام النبلاء» (13/
48) .
(3/360)
مولى الزّهريين. روى السيرة عن ابن هشام،
وكان ثقة وهو أخو [1] المحدّثين أحمد، ومحمد.
وفيها عليّ بن عبد العزيز، أبو الحسن، البغوي المحدّث، بمكة.
وقد جاوز التسعين. سمع أبا نعيم وطبقته، وهو عمّ البغوي عبد الله بن
محمد، وكان فقيها مجاورا في الحرم، وشيخه، ثقة ثبتا.
وفيها، بل في التي قبلها، كما جزم به ابن ناصر الدّين حيث قال في
منظومته:
كذا فتى سوادة السّلامي ... هلاكه رزيّة في العام
وقال في «شرحها» : هو عبد الله بن أحمد بن سوادة الهاشميّ مولاهم
البغداديّ، أبو طالب. كان صدوقا من المكثرين. انتهى.
ثم قال في «المنظومة» :
وبعده ثلاثة فجازوا [2] ... ذا أحمد بن سلمة البزّار [3]
وتقدّم الكلام عليه [3] .
كذا الفتى محمّد بن سندي ... كالخشني القرطبي عدّ
وقال في «شرحها» : محمد بن محمد بن رجاء بن السّنديّ الإسفراييني، أبو
بكر، وكان حافظا ثبتا تقوم به الحجّة والاحتجاج، وله مستخرج على «صحيح
مسلم بن الحجّاج» .
والثاني هو: محمد بن عبد السّلام بن ثعلبة القرطبيّ، أبو الحسن، ثقة.
انتهى.
__________
[1] في الأصل: «أحد» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع وهو موافق لما
في «العبر» للذهبي.
[2] في الأصل: «فجاوزوا» .
[3] في الأصل والمطبوع: «البزّاز» وهو تصحيف. وانظر ترجمته في ص (359)
.
(3/361)
وفيها محمد بن وضّاح، الحافظ الإمام، أبو
عبد الله، الأندلسيّ، محدّث قرطبة، وهو في عشر التسعين. رحل مرتين إلى
المشرق، وسمع إسماعيل بن أبي [1] أويس، وسعيد بن منصور، والكبار، وكان
فقيرا، زاهدا، قانتا لله، بصيرا بعلل الحديث.
وفيها الكديميّ، وهو أبو العبّاس محمد بن يونس القرشيّ السّاميّ [2] ،
[البصريّ] [3] ، الحافظ، في جمادى الآخرة، وقد جاوز المائة بيسير. روى
عن أبي داود الطيالسي، وزوج أمه، روح بن عبادة، وطبقتهما، وله مناكير
ضعّف بها.
قال في «المغني» [4] : هالك.
قال ابن حبّان، وغيره: كان يضع الحديث على الثقات. انتهى.
وقال ابن ناصر الدّين: كان من الحفّاظ الأعلام، غير أنه أحد المتروكين.
وثّقه إسماعيل الخطبي، وكأنه خفي عليه أمره. انتهى.
__________
[1] لفظة «أبي» سقطت من المطبوع.
[2] كذا هو في جميع المصادر التي بين يدي «السامي» بالسين المهملة، وفي
«الأنساب» للسمعاني (10/ 367) : «الشامي» بالشين المعجمة، وحذفها ابن
الأثير من ترجمته في «اللباب» (3/ 87) ، وعلّق الأستاذ فؤاد سيد على
«العبر» للذهبي (2/ 84) بقوله: السامي:
بالسين المهملة. نسبة إلى لؤي بن غالب. وأحال على «اللباب» في كلامه عن
«السامي» ولكن الأستاذ غفل عن كون المترجم لم يذكر فيمن ذكرهم ابن
الأثير في كلامه عن نسبة «السامي» وفاته البحث عنه في نسبة «الكديمي»
ولو فعل لوقف على حذف ابن الأثير لنسبة «السامي» من ترجمته في كتابه!.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 84) .
[4] (2/ 646) .
(3/362)
سنة سبع وثمانين
ومائتين
في المحرم قصدت طيء ركب العراق لتأخذه كعام أوّل بالمعدن، وكانوا في
ثلاثة آلاف، وكان أمير الحاج أبو الأغر، فواقعهم يوما وليلة، والتحم
القتال، وجدّلت الأبطال، ثم أيّد الله الوفد، وقتل رئيس طيء صالح بن
مدرك، وجماعة من أشراف قومه، وأسر خلق، وانهزم الباقون. ثم دخل الركب
بالأسرى والرؤوس على الرّماح.
وفيها سار العبّاس الغنويّ في عسكر [1] ، فالتقى أبا سعيد الجنّابي [2]
فأسر العبّاس وانهزم عسكره، وقيل: بل أسر سائر العسكر، وضربت رقابهم،
وأطلق العبّاس، فجاء وحده إلى المعتضد برسالة الجنّابي، أن كفّ عنّا
واحفظ حرمتك.
قال ابن الجوزي في «الشذور» : ومن العجائب أن المعتضد بعث العبّاس بن
عمر الغنويّ في عشرة آلاف إلى حرب القرامطة، فقبض عليهم القرامطة، فنجا
العبّاس وحده، وقتل الباقون.
وفيها غزا المعتضد، وقصد طرسوس، وردّ إلى أنطاكية، وحلب.
وفيها سار الأمير بدر، فبيّت القرامطة، وقتل منهم مقتلة عظيمة.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «في عسكره» .
[2] قال ياقوت: جنّابة بلدة صغيرة من سواحل فارس، ووهّم من ذكر بأنها
من البحرين. انظر «معجم البلدان» (2/ 165- 166) . وأبو سعيد الجنّابي،
اسمه «الحسن بن بهرام» وانظر «شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد» للسفاريني
(1/ 230) طبع المكتب الإسلامي.
(3/363)
وفيها توفي الإمام أبو بكر، أحمد بن عمرو
بن أبي عاصم النّبيل الشيبانيّ البصريّ الحافظ، قاضي أصبهان، وصاحب
المصنفات، وهو في عشر التسعين، في ربيع الآخر. سمع من جدّه لأمه موسى
بن إسماعيل، وأبي الوليد الطّيالسي، وطبقتهما. وكان إماما، فقيها،
ظاهريّا، صالحا، ورعا، كبير القدر، صاحب مناقب.
قال السخاوي في «طبقاته» : أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النّبيل، ورد
أصبهان، وسكنها، وولي القضاء بعد وفاة صالح بن أحمد بن حنبل، وكان من
الصيانة والعفّة بمحل عجيب، رؤي في النوم بعد موته بقليل، فقيل له:
ما فعل الله بك؟ قال: يؤنسني ربي. قال الرائي: فشهقت شهقة وانتبهت.
وقال: ذهبت كتبي فأمليت من ظهر قلبي خمسين ألف حديث.
وقيل له: أيّها القاضي! بلغنا أن ثلاثة نفر كانوا بالبادية وهم يلقمون
الرمل، فقال واحد من القوم: إنك قادر على أن تطعمنا خبيصا [1] على لون
هذا الرمل، فإذا هم بأعرابي وبيده طبق، فسلّم عليهم، ووضع بين أيديهم
طبقا عليه خبيص حارّ، فقال ابن أبي عاصم: قد كان ذاك، وكان الثلاثة،
عثمان بن صخر الزّاهد أستاذ أبي تراب النّخشبيّ، وأبو تراب، وأحمد بن
عمرو، أي صاحب الترجمة. وهو الذي دعا.
وقال أبو موسى المديني: جمع بين العلم، والفهم، والحفظ، والزّهد،
والعبادة، والفقه، من أهل البصرة. قدم أصبهان، وصحب جماعة من النّسّاك،
منهم: أبو تراب النّخشبيّ، وسافر معه، وقد عمّر، وكان فقيها ظاهريّ
المذهب، وصنّف في الردّ على داود الظاهري، وكان بعد ما دخل في القضاء،
إذا سئل عن مسألة الصوفية، يقول: القضاء والدنية والكلام في علم
الصوفية محال.
__________
[1] قال ابن منظور: الخبيص الحلواء المخبوصة. «لسان العرب» (خبص) .
(3/364)
وكان يقول: لا أحب أن يحضر مجلسي مبتدع،
ولا مدّع، ولا طعّان، ولا لعّان، ولا فاحش، ولا بذيء، ولا منحرف عن
الشافعي وأصحاب الحديث، رحمه الله تعالى.
وفيها زكريا بن يحيى السّجزيّ الحافظ، أبو عبد الرّحمن، خيّاط السّنّة،
بدمشق، وقد نيّف على التسعين. روى عن شيبان بن فرّوخ وطبقته، وكان من
علماء الأثر، ثقة، وقيل: توفي في سنة تسع وثمانين، وبه جزم ابن ناصر
الدّين.
وفيها يحيى بن منصور، أبو سعيد، الهرويّ الحافظ، شيخ هراة ومحدّثها،
وزاهدها، في شعبان، وقيل: توفي سنة اثنتين وتسعين.
وفي رجبها قطر النّدى بنت الملك خمارويه بن أحمد بن طولون زوجة
المعتضد، وكانت شابة بديعة الحسن، عاقلة، رحمها الله تعالى
.
(3/365)
سنة ثمان وثمانين
ومائتين
فيها ظهر أبو عبد الله الشيعيّ [1] بالمغرب، فدعا العامّة إلى الإمام
المهدي عبيد الله، فاستجابوا له.
وفيها كان الوباء المفرط بأذربيجان، حتّى فقدت الأكفان، وكفّنوا
باللّبّود، ثم بقي الموتى مطروحين في الطرق.
ومات أمير أذربيجان، محمد بن أبي السّاج وسبعمائة من خواصّه وأقربائه
[2] .
وفيها بشر بن موسى الأسديّ [أبو علي] [3] ابن صالح بن شيخ بن عميرة
البغداديّ، في ربيع الأول، ببغداد. روى عن هوذة بن خليفة، والأصمعي،
وسمع من روح بن عبادة حديثا واحدا، وكان ثقة محتشما، كثير الرّواية،
عاش ثمانيا وتسعين سنة.
وفيها ثابت بن قرّة بن هارون- ويقال: ابن هارون [4]- الحاسب،
__________
[1] هو الحسين بن أحمد بن محمد بن زكرياء الشيعي من أهل صنعاء. انظر
«الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 31) .
[2] في «العبر» للذهبي (2/ 86) : «ومات ابنه الأفشين» .
[3] ما بين حاضرتين زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 86) . وانظر «سير
أعلام النبلاء» (13/ 352) .
[4] أراد ويقال: ثابت بن هارون، والله أعلم، وفي «وفيات الأعيان» :
«ويقال ابن زهرون» وهو خطأ، فإن ابن زهرون الحرّاني مات سنة (369) هـ.
انظر «الأعلام» (2/ 97) .
(3/366)
الحكيم، الحرّانيّ. كان في مبدأ أمره
بحرّان، ثمّ انتقل إلى بغداد، فاشتغل بعلوم الأوائل، فمهر فيها، وبرع
في الطب، وكان الغالب عليه الفلسفة، حتّى قال ابن خلّكان [1] : كان
صابئيّ النّحلة وله تآليف كثيرة في فنون من العلم مقدار عشرين تأليفا،
منها «تاريخ» حسن، وأخذ كتاب إقليدس [2] ، فهذّبه، ونقّحه، وأوضح منه
ما كان مشتبها، وكان من أعيان أهل عصره في الفضائل، وجرى بينه وبين أهل
مذهبه أشياء أنكروها عليه في المذهب، فرفعوه [3] إلى رئيسهم، فأنكر
عليه مقالته ومنعه من دخول الهيكل، فتاب ورجع عن ذلك، ثم عاد بعد مدة
إلى تلك المقالة، فمنعوه من الدخول إلى المجمع، فخرج من حرّان ونزل
كفرتوثا- قرية كبيرة بالجزيرة الفراتية [4]- وأقام بها مدة، إلى أن قدم
محمد بن موسى من بلاد الرّوم راجعا إلى بغداد، فاجتمع به، فرآه فاضلا
فصيحا، فاستصحبه إلى بغداد، وأنزله في داره، ووصله بالخليفة، فأدخله في
جملة المنجّمين، فسكن بغداد وأولد أولادا [5] منهم ولده:
إبراهيم بن ثابت، بلغ رتبة أبيه في الفضل، وكان من حذّاق الأطباء،
ومقدّم أهل زمانه في صناعة الطب، وعالج مرّة السّريّ الرّفّاء [6]
الشاعر، فأصاب العافية، فعمل فيه وهو أحسن ما قيل في طبيب:
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (1/ 313- 315) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف
واختصار.
[2] في المطبوع: «إقليدوس» وهو خطأ، وانظر «إخبار العلماء بأخبار
الحكماء» للقفطي ص (45) طبع مكتبة المتنبي بالقاهرة.
[3] في «وفيات الأعيان» : «فرافعوه» .
[4] انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 468- 469) .
[5] في «وفيات الأعيان» : «وأولد الأولاد» .
[6] هو السري بن أحمد بن السري الكندي، أبو الحسن، وسوف ترد ترجمته
مفصّلة في المجلد الرابع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
(3/367)
هل للعليل سوى ابن قرّة شافي [1] ... بعد
الإله وهل له من كافي [2]
أحيا لنا رسم الفلاسفة الذي ... أودى وأوضح رسم طبّ عافي [3]
فكأنّه عيسى ابن مريم ناطقا ... يهب الحياة بأيسر الأوصاف
مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتنّ بين جوانحي وشغافي [4]
يبدو له الدّاء الخفيّ كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصّافي [5]
ومن حفدة ثابت المذكور:
أبو الحسن ثابت بن سنان بن قرّة، وكان صابئيّ النّحلة أيضا، وكان في
أيام معزّ الدولة بن بويه، وكان طبيبا عالما، نبيلا، يقرأ عليه كتاب
بقراط، وجالينوس، وكان فكّاكا للمعاني، وكان سلك مسلك جدّه ثابت في
نظره في الطب، والفلسفة، والهندسة، وجميع الصناعات الرياضية للقدماء،
وله تصنيف في التاريخ أحسن فيه.
فائدة: الحرّاني: نسبة إلى حرّان، وهي مدينة مشهورة بالجزيرة [6] ، خرج
منها علماء أجلّاء، منهم: بنو تيميّة وغيرهم.
ذكر ابن جرير الطبري في «تاريخه» [7] أن هاران عمّ إبراهيم الخليل وأبو
زوجته سارة هو الذي عمرها، فسمّيت به، ثم عربت به، فقيل: حرّان، وكان
لإبراهيم- صلى الله عليه وعلى نبيّنا وبقية الأنبياء وسلّم- أخ يسمى
هاران [8]
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «شاف» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» ، و «يتيمة
الدهر» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «كاف» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» ، و «يتيمة
الدهر» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «عاف» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» ، و «يتيمة
الدهر» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وشفافي» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» ، و
«يتيمة الدهر» ، والشغاف حجاب القلب، وهو جلدة دونه كالحجاب. انظر
«مختار الصحاح» (شغف) .
[5] الأبيات في «وفيات الأعيان» (1/ 314) ، و «يتيمة الدهر» (2/ 312) .
[6] يعني جزيرة أقور. انظر خبرها في كتاب «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي
ص (57) ، طبع دار ابن كثير.
[7] (1/ 313) والمؤلف ينقل كلامه عن «وفيات الأعيان» .
[8] في الأصل، والمطبوع: «يسمى بهاران» ، وأثبت ما جاء في «وفيات
الأعيان» .
(3/368)
أيضا، وهو والد لوط عليه السلام.
وقال [الجوهريّ] في «الصحاح» [1] : وحرّان اسم بلد، والنسبة إليه
حرنانيّ على غير قياس، والقياس حرّانيّ على ما عليه العامّة. انتهى.
وفيها- أي سنة ثمان وثمانين- توفي مفتي بغداد، الفقيه عثمان بن سعيد بن
بشّار، أبو القاسم البغداديّ الأنماطيّ، صاحب المزنيّ، في شوّال، وهو
الذي نشر مذهب الشافعيّ ببغداد، وعليه تفقّه ابن سريج. قاله في «العبر»
[2] .
وقال الإسنوي: والأنماطي منسوب إلى الأنماط، وهي البسط التي تفرش، أخذ
الفقه عن المزنيّ، والرّبيع. وأخذ عنه ابن سريج.
قال الشيخ أبو إسحاق [3] : كان الأنماطي هو السبب في نشاط الناس للأخذ
بمذهب الشافعيّ في تلك البلاد. قال: ومات ببغداد سنة ثمان وثمانين
ومائتين.
زاد ابن الصلاح في «طبقاته» ، وابن خلّكان في «تاريخه» [4] : أنه في
شوّال.
نقل عنه الرافعيّ في الحيض، وفي زكاة الغنم، وغيرهما. انتهى ما قاله
الإسنوي.
وفيها معلّى بن المثنى بن معاذ العنبريّ البصريّ المحدّث. روى عن
__________
[1] انظر «الصحاح» (حرن) ص (2098) بتحقيق الأستاذ أحمد عبد الغفور
عطار، طبع دار الكتاب العربي بمصر على نفقة السيد حسن شربتلي.
[2] (2/ 87) .
[3] يعني أبا إسحاق الشيرازي، وقد نقل المؤلف عن كتابه «طبقات الفقهاء»
ص (104) بتصرف.
[4] يعني «وفيات الأعيان» والمؤلف ينقل عنه (3/ 241) .
(3/369)
القعنبيّ. وطبقته، وسكن بغداد، وكان ثقة
عارفا بالحديث.
وفيها الفقيه العلّامة أبو عمرو [1] يوسف بن يحيى المغاميّ [2]
الأندلسيّ، تلميذ عبد الملك بن حبيب، وصاحب التصانيف. ألّف كتابا في
الردّ على الشافعيّ، واستوطن القيروان، وتفقّه به خلق كثير. قاله في
«العبر» [3] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أبو عمر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر»
للذهبي (2/ 87) ، وانظر «سير أعلام النبلاء» (13/ 336) .
[2] في الأصل: «الغامي» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
والمغامي نسبة إلى «مغام» أو «مغامة» بلد بالأندلس. انظر «الأنساب»
للسمعاني (11/ 418) ، و «اللباب» لابن الأثير (3/ 240) ، و «معجم
البلدان» لياقوت (5/ 161) .
[3] (2/ 87) .
(3/370)
سنة تسع وثمانين
ومائتين
قال في «الشذور» : فيها صلّى النّاس العصر يوم عرفة ببغداد في ثياب
الصيف، ثم هبّت ريح، فبرد الهواء حتّى احتاجوا إلى التدفّي بالنّار،
وجمد الماء. انتهى.
وفيها خرج بالشّام يحيى بن زكرويه القرمطيّ، وقصد دمشق، فحاربه طغج بن
جف متولّيها غير مرّة، إلى أن قتل يحيى في أول سنة تسعين.
وفيها توفي المعتضد أبو العبّاس أحمد بن الموفق وليّ عهد المسلمين، أبي
أحمد طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم العبّاسيّ، في ربيع الآخر، ومرض
أياما، وكانت خلافته أقلّ من عشر سنين، وعاش ستّا وأربعين سنة، وكان
أسمر نحيفا معتدل الخلق، تغيّر مزاجه من إفراط الجماع، وعدم الحمية في
مرضه، وكان شجاعا، مهيبا، حازما، فيه تشيّع، ويسمى السّفّاح الصغير،
لأنه قتل أعداء بني العبّاس من مواليهم وغيرهم، وكان قد سلب [1] الدهر
شطريه، وتأدب بصروف الزمان، وكان من أكمل الخلفاء المتأخرين، وولي
الأمر بعده ولده المكتفي علي بن أحمد المعتضد.
قال ابن الفرات: كان المعتضد بالله من أكمل النّاس عقلا، وأعلاهم همّة،
مقداما، عالما، سخيّا. وضع عن الناس السقايا، وأسقط المكوس
__________
[1] في المطبوع و «غربال الزمان» ص (257) : «حلب» .
(3/371)
التي كانت تؤخذ بالحرمين، وضبط الأمر،
وكانت الخلافة قد وهى أمرها وضعف، فأعزّها الله تعالى بالمعتضد،
وأيّدها بتدبيره وسياسته، فكان يقال له:
السّفّاح الثاني، وكانت أم المعتضد أمّ ولد تسمى ضرار [1] ، وكان له
خادم يقال له: بدر، من أغزر النّاس مروءة، وأظرفهم وأحسنهم أدبا، وكان
المعتضد يحبّه حبّا شديدا.
قال أبو الحسن علي بن محمد الأنطاكي: كنت يوما بين يدي المعتضد- وهو
مغضب- إذ دخل عليه خادمه بدر، فلما رآه تبسّم وقال لي: يا علي من هو
قائل:
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيها أينما شفعا
قلت: يقوله الحسن بن أبي القاسم البصري، فقال: لله درّه، أنشدني بقية
هذا الشعر، فأنشدته قوله:
ويلي على من أطار النّوم فامتنعا ... وزاد قلبي إلى أوجاعه وجعا
كأنّما الشّمس من أعطافه لمعت ... يوما أو البدر من أزراره طلعا
مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت ... منه الذّنوب ومعذور بما صنعا [2]
في وجهه شافع.... البيت قال: فلما فرغت من إنشاده، أجازني وانصرفت.
قال ابن حمدون: كنت مع المعتضد يوما وقد انفرد من العسكر، وتوسطنا
الصحراء، إذ خرج علينا أسد وقرب منّا وقصدنا، فقال لي: يا ابن حمدون
فيك خير؟ قلت: لا والله يا سيدي. قال: ولا تلزم لي فرسي؟ قلت:
__________
[1] في الأصل، المطبوع: «صرار» وهو تصحيف، والتصحيح من «الكامل في
التاريخ» لابن الأثير (7/ 514) .
[2] الأبيات في «النجوم الزاهرة» (3/ 129) والبيتان الأولان في
«الأغاني» (14/ 164) ونسبتها في المصدرين إلى الحكم بن قنبر المازني.
(3/372)
بلى. فنزل عن فرسه ولزمتها، وتقدّم إلى
الأسد وأنا أنظره، وجذب سيفه، فوثب الأسد عليه ليلطمه، فتلقاه بضربة
وقعت في جبهته، فقسمها نصفين، ثم وثب الأسد ثانية وثبة ضعيفة فتلقاه
بضربة أخرى أبان بها يده، ثم وثب المعتضد عليه، فركبه ورمى السيف من
يده، وأخرج سكينا كانت في وسطه فذبحه من قفاه، ثم قام وهو يمسح السكين
والسيف بشعر الأسد، وعاد وركب فرسه، وقال: إياك أن تخبر بهذا أحدا،
فإنما قتلت كلبا.
قال ابن حمدون: فما حدّثت بهذا إلّا بعد موت المعتضد.
وكان الثوب يقيم عليه السنة والأقل والأكثر، لا ينزعه عن بدنه لكثرة
اشتغاله بأمور الرّعية.
ومات في يوم الجمعة تاسع عشر شهر ربيع الآخر، وقيل: مات ليلة الاثنين
لسبع بقين من شهر ربيع الآخر، ولما حضرته الوفاة أنشد:
تمتّع من الدّنيا [1] فإنك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع
الرّنقا [2]
ولا تأمننّ الدّهر إني أمنته ... فلم يبق لي حالا ولم يرع لي حقّا
قتلت صناديد الرّجال ولم أدع ... عدوّا ولم أمهل على ظنّة [3] خلقا
وأخليت دار الملك من كلّ نازع ... فشرّدتهم غربا وشرّدتهم شرقا
فلمّا بلغت النّجم عزّا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق لي أجمعا رقّا [4]
رماني الرّدى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ألقى
ولم يغن عنّي ما جمعت ولم أجد ... لدى ملك الأحياء في حيّها رفقا [5]
__________
[1] في الأصل: «تمتع بالدنيا» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في
«الكامل في التاريخ» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ودع الرقا» وأثبت ما جاء في «الكامل في
التاريخ» .
[3] في «الكامل في التاريخ» : «طغية» وذكر ناشرها الأول بأنه جاءت في
النسخة (أ) منه:
«خلقة» .
[4] في «الكامل في التاريخ» : «وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا» .
[5] في «الكامل في التاريخ» : «لذي الملك والأحياء في حسنها رفقا» .
(3/373)
فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى [1] ... أفي
نعمة الله [2] أم ناره ألقى [3]
ويقال: إن إسماعيل بن بلبل وزير المعتضد سقاه سمّا فمات، ودفن ببغداد.
انتهى ما ذكره ابن الفرات ملخصا.
وفيها توفي بدر التّركيّ مولى المعتضد، ومقدّم جيوشه، عمل الوزير
القاسم بن عبيد الله عليه [4] ووحّش قلب المكتفي بالله عليه، وكان في
جهة فارس يحارب، فطلبه المكتفي، وبعث إليه أمانا وغدر به، وقتله في
رمضان.
وفيها بكر بن سهل الدّمياطيّ المحدّث، في ربيع الأول. سمع عبد الله بن
يوسف التّنّيسيّ وطائفة، ولما قدم القدس جمعوا له ألف دينار، حتّى روى
لهم التفسير.
وفيها حسين بن محمد أبو علي القبانيّ النيسابوريّ الحافظ، صاحب
«المسند» و «التاريخ» . سمع إسحاق بن راهويه وخلقا من طبقته، وكان أحد
أركان الحديث، واسع الرحلة، كثير السماع، يجتمع أصحاب الحديث إليه
بنيسابور بعد مسلم.
وفيها الحسين بن محمد بن فهم، أبو علي، البغداديّ الحافظ، أحد أئمة
الحديث. أخذ عن يحيى بن معين، وروى «الطبقات» عن ابن سعد.
قال ابن ناصر الدّين: الحسين بن محمد بن عبد الرّحمن بن فهم بن محرز
البغدادي، أبو علي، الحافظ الكبير. كان واسع الحفظ، متقنا للأخبار،
عالما بالرّجال والنسب والأشعار، لكنه ليس بالقوي في سيره عند
الدارقطني وغيره. انتهى.
__________
[1] في «الكامل في التاريخ» : «ما ألقى» .
[2] في «الكامل في التاريخ» : «إلى نعم الرحمن» .
[3] الأبيات في «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 514- 515) .
[4] في «العبر» : «الوزير عبيد الله» وهو خطأ، فيصحّح الاسم فيه:
«القاسم بن عبيد الله» . وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 18- 20) ، و
«الأعلام» للزركلي (5/ 177) .
(3/374)
وفيها علي بن عبد الصّمد الطّيالسي، ولقبه
علّان. روى عن أبي معمر الهذلي وطبقته.
وفيها عمرو بن اللّيث الصّفّار الذي كان ملك خراسان. قتل في الحبس عند
موت المعتضد، لأنه كان له أياد على المكتفي بالله، فخاف الوزير أن
يخرجه ويتمكّن، فينتقم من الوزير.
وفيها محمد بن محمد أبو جعفر التمّار البصريّ، صاحب أبي الوليد
الطّيالسيّ.
وفيها محمد بن هشام [بن أبي الدّميك] [1] ، أبو جعفر الحافظ، صاحب
سليمان بن حرب، ببغداد، وهو والذي قبله من أكابر مشايخ الطّبراني.
وفيها يحيى بن أيوب العلّاف المصريّ من كبار شيوخ الطّبراني أيضا،
وصاحب سعيد بن أبي مريم.
وفيها يوسف بن يزيد بن كامل، أبو يزيد القراطيسيّ المصريّ، صاحب أسد
[بن موسى، ويقال له: أسد] [2] السّنّة، وهو أيضا من كبار شيوخ
الطّبراني، والله أعلم.
__________
[1] قوله: «ابن أبي الدميك» سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع و «العبر»
للذهبي» (2/ 90) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «العبر»
للذهبي (2/ 90) .
(3/375)
سنة تسعين ومائتين
فيها زاد أمر القرامطة، وحاصر رئيسهم دمشق، ورئيسهم يحيى بن زكرويه،
وكان زكرويه هذا يدّعي أنه من أولاد علي، رضي الله عنه، ويكتب إلى
أصحابه من عبيد الله بن عبد الله المهدي، المنصور بالله، الناصر لدين
الله، القائم بأمر الله، الحاكم بحكم الله، الداعي إلى كتاب الله،
الذابّ عن حريم الله، المختار من ولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم،
فقتل، وخلفه أخوه الحسين صاحب الشّامة، فجهز المكتفي عشرة آلاف لحربهم،
عليهم الأمير أبو الأغر، فلما قاربوا حلب، كبستهم القرامطة ليلا،
ووضعوا فيهم السيف [1] ، فهرب أبو الأغرّ في ألف نفس، ودخل حلب وقتل
تسعة آلاف، ووصل المكتفي إلى الرّقّة، وجهّز الجيوش إلى أبي الأغر،
وجاءت من مصر العساكر الطولونية، مع بدر الحمّامي، فهزموا القرامطة،
وقتلوا منهم خلقا، وقيل: بل كانت الوقعة بين القرامطة والمصريين بأرض
مصر، وأن القرمطي صاحب الشّامة انهزم إلى الشام، ومرّ على الرّحبة،
وهيت [2] ، ينهب، ويسبي الحريم [3] ، حتّى دخل الأهواز.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «السيوف» .
[2] لفظة «وهيت» سقطت من «العبر» (2/ 91) طبع الكويت، وتحرّفت في
المطبوع منه في بيروت إلى «وهبّ» فتصحّح فيه. وهيت: بلدة على الفرات من
نواحي بغداد فوق الأنبار.
انظر «معجم البلدان» (5/ 421) .
[3] في «العبر» بطبعتيه: «الحرم» .
(3/376)
وفيها دخل عبيد الله- الملقّب بالمهدي-
المغرب متنكّرا، والطّلب عليه من كل وجه، فقبض عليه متولّي سجلماسة،
وعلى ابنه، فحاربه أبو عبد الله الشّيعي داعي المهدي، فهزمه ومزّق
جيوشه، وجرت بالمغرب أمور هائلة، واستولى على المغرب المهديّ المنتسب
إلى الحسين بن علي أيضا بكذبه، وكان باطنيّ الاعتقاد، وهو الذي بنى
المهديّة [1] .
والباطنية فرقة من المبتدعة، قالوا لظواهر القرآن بواطن مرادة غير ما
عرف من معانيها اللغوية.
وفيها الحافظ أبو عبد الرّحمن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل
الذّهليّ الشيبانيّ، ببغداد، في جمادى الآخرة، وله سبع وسبعون سنة
كأبيه، وكان إماما خبيرا بالحديث وعلله، مقدّما فيه، وكان من أروى
الناس عن أبيه، وقد سمع من صغار شيوخ أبيه، وهو الذي رتب مسند والده.
وروى عنه أبو القاسم البغوي، والمحاملي، وأبو بكر الخلّال، وغيرهم.
وكان ثبتا، فهما، ثقة، ولد في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة ومائتين.
يقال: إن والده حفّظه خمسة عشر ألف حديث عن ظهر قلب، ثم قال له: لم يقل
النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، شيئا من هذا، فقال: ولم أذهبت أيامي في
حفظ الكذب؟ قال: لتعلم الصحيح، فمن الآن احفظ الصحيح.
وروى عبد الله عن أبيه أنه قال: قد روي عن رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، أنه قال: « [إنّما] نسمة المؤمن- إذا مات- طير تعلق [2] في شجر
الجنّة حتّى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» [3] .
__________
[1] مدينة تقع الآن في شرق تونس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، انظر
خبرها في «معجم البلدان» (5/ 229- 232) ، و «أطلس التاريخ العربي»
للأستاذ شوقي أبو خليل ص (44) .
[2] في «مسند الإمام أحمد» وبقية المصادر: «يعلق» .
[3] رواه أحمد في «المسند» (3/ 455 و 456 و 460) ، ورواه أيضا مالك في
«الموطأ» (1/ 240) ، والنسائي (4/ 108) في الجنائز: باب أرواح
المؤمنين، وابن ماجة رقم (4271)
(3/377)
وذكر أبو يعلى في «المعتمد» قال: روى عبد
الله عن أبيه، قال: أرواح الكفّار في النّار، وأرواح المؤمنين في
الجنة، والأبدان في الدّنيا، يعذّب الله من يشاء، ويرحم من يشاء، ولا
نقول: إنهم تفنيان، بل هما على علم الله عزّ وجلّ، باقيتان.
قال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا، أن الأرواح تنعم وتعذب على الانفراد،
وكذلك الأبدان.
وقال عبد الله: كان في دهليزنا دكان، وكان إذا جاء إنسان يريد أبي أن
يخلو معه أجلسه على الدكان، وإذا لم يرد أن يخلو معه أخذ بعضادتي الباب
وكلّمه، فلما كان ذات يوم جاء إنسان، فقال لي: قل لأحمد، أبو إبراهيم
السائح، فخرج إليه أبي فجلسا على الدكان، فقال لي أبي: سلّم عليه، فإنه
من كبار المسلمين، أو من خيار المسلمين، فسلّمت عليه، فقال له أبي:
حدّثني يا أبا إبراهيم، فقال له: خرجت إلى الموضع الفلاني بقرب الدّير
الفلاني، فأصابتني علّة منعتني من الحركة، فقلت في نفسي: لو كنت بقرب
الدّير الفلاني لعلّ من فيه من الرّهبان يداووني، فإذا أنا بسبع عظيم
يقصد نحوي، حتّى جاءني، فاحتملني على ظهره حملا رفيقا، حتّى ألقاني عند
الدّير، فنظر الرّهبان إلى حالي مع السّبع، فأسلموا كلهم، وهم أربعمائة
راهب.
ثم قال أبو إبراهيم لأبي: حدّثني يا أبا عبد الله، فقال له أبي: كنت
قبل الحجّ بخمس ليال أو أربع ليال، فبينا أنا نائم، إذ رأيت النّبيّ
صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «يا أحمد حجّ» ، فانتبهت، ثم أخذني
النوم، فإذا أنا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لي:
«يا أحمد حجّ» ، فانتبهت، وكان من شأني إذا أردت سفرا جعلت في مزودي
[1] فتيتا، ففعلت ذلك، فلما أصبحت قصدت نحو الكوفة، فلما انقضى بعض
النهار
__________
في الزهد: باب ذكر القبر والبلى، من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي
الله عنه، وهو حديث صحيح، والنسمة: الرّوح والنّفس، وتعلق: تأكل.
[1] في المطبوع: «مزودلي» .
(3/378)
إذا أنا بالكوفة، فدخلت مسجد الجامع، فإذا
أنا بشاب حسن الوجه، طيب الرّيح، فقلت: سلام عليكم، ثم كبّرت أصلّي،
فلما فرغت من صلاتي قلت له: رحمك الله، هل بقي أحد يخرج إلى الحج؟ فقال
لي: انتظر حتّى يجيء أخ من إخواننا، فإذا أنا برجل في مثل حالي، فلم
نزل نسير، فقال الذي معي: رحمك الله، إن رأيت أن ترفق بنا، فقال له
الشاب: إن كان معنا أحمد بن حنبل فسوف يرفق بنا، فوقع في نفسي أنه
الخضر، فقلت للذي معي: هل لك في الطعام؟ فقال لي: كل مما تعرف وآكل مما
أعرف، ولما أصبنا من الطعام غاب الشاب من بين أيدينا، ثم رجع بعد
فراغنا، فلما كان بعد ثلاث إذا نحن بمكة.
ومات عبد الله يوم الأحد ودفن في آخر النهار لتسع بقين من جمادى
الآخرة.
وفيها على ما ذكره ابن ناصر الدّين، وهذا لفظ «بديعته» :
بعد الإمام ابن الإمام المفضل ... ذاك الرّضى بن أحمد بن حنبل
وأحمد الأبّار وابن النّضر ... ذا أحمد قرطمة كالبحر
محمّد البوشنجي خذه الخامسا ... وعدّ بالآذان ذاك السّادسا
فأما الأبّار، فهو أحمد بن عليّ بن مسلم النّخشبيّ البغداديّ محدّث
بغداد، وكان ثقة، فاضلا، جامعا، محصّلا، كاملا.
وأما ابن النّضر، فهو أحمد بن النّضر بن عبد الوهاب، أبو الفضل،
النيسابوريّ. حدّث عنه البخاريّ، وهو أكبر منه، وكان البخاري ينزل عليه
وعلى أخيه محمد بنيسابور، وتحديثه عنهما في «صحيحه» مشهور.
وأما قرطمة، فهو محمد بن علي البغدادي [1] ، أبو عبد الله، وكان
__________
[1] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (14/ 82- 83) .
(3/379)
أحد الأئمة الرحّالين، والحفّاظ المجوّدين
المعدلين، وهذا غير قرطمة ورّاق سفيان بن وكيع، فإن ذاك من المجروحين.
وأما البوشنجيّ، فهو محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرّحمن بن موسى
العبديّ، أبو عبد الله، الفقيه المالكي، كان رأسا في علم اللسان،
حافظا، علّامة من أئمة هذا الشأن.
قال في «العبر» [1] : البوشنجي الإمام الحبر، أبو عبد الله، شيخ أهل
الحديث بخراسان. رحل وطوّف، وروى عن أحمد بن يونس، ومسدّد، والكبار،
وكان من أوعية العلم. قد روى عنه البخاريّ حديثا في «صحيحه» عن
النّفيلي، وآخر من روى عنه إسماعيل بن نجيد. انتهى.
وأما أبو الآذان، فهو عمر بن إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك
الخوارزميّ، ثم البغداديّ [2] ، نزيل سامرّاء، وكنيته أيضا أبو بكر،
كان من الثقات الأخيار.
وقال ابن ناصر الدّين في «بديعته» أيضا:
وقبل تسعين قضى القويم ... العنبري الطّوسيّ إبراهيم
قال في «شرحها» : هو إبراهيم بن إسماعيل الطوسيّ، أبو إسحاق وكان حافظا
علّامة، له رحلة إلى عدّة أقطار، وصنّف «المسند» فأتقنه وأحكمه، وكان
محدّث أهل عصره بطوس، وزاهدهم بعد شيخه محمد بن أسلم.
انتهى.
وفيها، أي سنة تسعين، محمد بن زكريا الغلابيّ [3] الأخباريّ، أبو
__________
[1] (2/ 96) .
[2] مترجم في «طبقات الحفّاظ» للسيوطي ص (313- 314) .
[3] انظر «الأنساب» (9/ 193) .
(3/380)
جعفر، بالبصرة. روى عن عبد الله بن رجاء
الغداني وطبقته.
قال ابن حبّان: يعتبر بحديثه إذا روى عن الثقات.
وقال في «المغني» [1] : قال الدّارقطنيّ: يضع الحديث. انتهى.
وفيها محمد بن يحيى بن المنذر، أبو سليمان، القزّاز بصري معمّر، توفي
في رجب، وقد قارب المائة، أو كمّلها. روى عن سعيد بن عامر الضّبعيّ،
وأبي عاصم، والكبار.
__________
[1] (2/ 581) .
(3/381)
|