شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وثمانين ومائتين
فيها توفي إبراهيم بن الحسين الكسائيّ الهمذانيّ، ابن ديزيل، ويعرف بدابّة عفّان للزومه، وكان ثقة جوّالا، صالحا، يصوم صوم داود، وسمع أيضا أبا مسهر، وأبا اليمان، وطبقتهما، وكان من أكثر الحفّاظ حديثا، ويلقب أيضا سيفنّة [1] .
قال ابن ناصر الدّين: هو ثقة مأمون.
وفيها الإمام أبو زرعة عبد الرّحمن بن عمرو النّصريّ الدّمشقيّ، الحافظ، في جمادى الآخرة. سمع أبا مسهر، وأبا نعيم، وطبقتهما، وصنّف التصانيف، وكان محدّث الشام في زمانه.
قال ابن ناصر الدّين: علم، حافظ، ثبت.
وفيها الحافظ أبو عمرو، عثمان بن عبد الله بن خرزاذ الأنطاكيّ، أحد أركان الحديث. سمع عفّان، وسعيد [بن كثير] بن عفير [2] والكبار.
__________
[1] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/ 185) : وسيفنّة: طائر ببلاد مصر، لا يكاد يحط على شجرة إلا أكل ورقها، حتى يعريها، وكذلك كان إبراهيم، إذا ورد على شيخ لم يفارقه حتى يستوعب ما عنده.
[2] في الأصل، والمطبوع: «سعيد بن عفير» وما أثبته من «تهذيب الكمال» (2/ 913) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق، و «تقريب التهذيب» ص (240) .

(3/332)


وقال محمد بن حمويه: هو أحفظ من رأيت، توفي في آخر السنة، وكان ثقة ثبتا.
وفيها العلّامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الموّاز الإسكندرانيّ المالكيّ، صاحب التصانيف، أخذ عن أصبغ بن الفرج، وعبد الله بن عبد الحكم، وانتهت إليه رياسة المذهب، وإليه كان المنتهى في تفريع المسائل.

(3/333)


سنة اثنتين وثمانين ومائتين
فيها وقع الصلح بين المعتضد وخمارويه، وتزوج المعتضد بابنة خمارويه الملقبة قطر النّدى [1] على مهر مبلغه ألف ألف درهم، فأرسلت إلى بغداد وبنى بها المعتضد، وقوّم جهازها بألف ألف دينار، وأعطت ابن الجصاص الذي مشى في الدلالة مائة ألف درهم.
وفيها توفي الحافظ أبو إسحاق الطّوسيّ العنبريّ إبراهيم بن إسماعيل. سمع يحيى بن يحيى التميمي فمن بعده، وكان محدّث الوقت وزاهده بعد محمد بن أسلم بطوس، صنّف «المسند الكبير» في مائتي جزء.
وفيها العلّامة أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حمّاد بن زيد الأزديّ مولاهم البصريّ، الفقيه المالكي، القاضي ببغداد، في ذي الحجة فجأة، وله ثلاث وثمانون سنة وأشهر. سمع مسلم بن إبراهيم وطبقته، وصنّف التصانيف في القراءات، والحديث، والفقه، وأحكام القرآن، والأصول. وتفقّه على أحمد بن المعذل، وأخذ علم الحديث عن
__________
[1] واسمها أسماء بنت خمارويه. انظر ترجمتها ومصادرها في «تاريخ مدينة دمشق» لابن عساكر «تراجم النساء» ص (312) ، و «معجم النساء» لكحالة (4/ 212- 215) ، وسوف يتكلم المؤلف عنها في الصفحتين (336- 337) و (365) من هذا المجلد.

(3/334)


ابن المديني، وكان إماما في العربية، حتّى قال المبرد: هو أعلم بالتصريف منّي.
وفيها الحافظ أبو الفضل، جعفر بن محمد بن أبي عثمان الطّيالسيّ البغداديّ في رمضان. سمع عفّان وطبقته، وكان ثقة متحرّيا إلى الغاية في التحديث.
وفيها الحافظ أبو محمد الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميميّ البغداديّ، صاحب «المسند» يوم عرفة، وله ست وتسعون سنة. سمع عن علي بن عاصم، وعبد الوهّاب بن عطاء، وطبقتهما.
قال الدارقطني: صدوق.
وقيل: فيه لين، كان لفقره يأخذ على التحديث أجرا.
وفيها الحسين بن الفضل بن عمير البجليّ الكوفيّ المفسّر، نزيل نيسابور، كان آية في معاني القرآن [1] ، صاحب فنون وتعبّد.
قيل: إنه كان يصلي في اليوم والليلة ستمائة ركعة، وعاش مائة وأربع سنين، وروى عن يزيد بن هارون والكبار.
وفيها خمارويه بن أحمد بن طولون، الملك، أبو الجيش، متولّي مصر والشام، وحمو المعتضد [بالله] . فتك به غلمان له راودهم في ذي القعدة بدمشق، وعاش اثنتين وثلاثين سنة، وكان شهما صارما كأبيه. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، لما
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «آية في معان» وأثبت ما في «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.
[2] (2/ 74) .
[3] في «وفيات الأعيان» (2/ 249) .

(3/335)


توفي أبوه اجتمع الجند على توليته مكانه، فولي وهو ابن عشرين سنة، وكانت ولايته في أيام المعتمد على الله، وفي سنة ست وسبعين تحرّك الأفشين محمد بن أبي الساج ديوداد بن ديودست [1] من إرمينية والجبال في جيش عظيم، وقصد مصر، فلقيه خمارويه في بعض أعمال دمشق، وانهزم الأفشين، واستأمن أكثر عسكره، وسار خمارويه حتّى بلغ الفرات، ودخل أصحابه الرّقة، ثم عاد وقد ملك من الفرات إلى بلاد النوبة.
فلما مات المعتمد وتولى المعتضد الخلافة، بادر إليه خمارويه بالهدايا والتّحف، فأقرّه [المعتضد] [2] على عمله، وسأل خمارويه أن يزوّج ابنته قطر النّدى- واسمها أسماء- للمكتفي بالله بن المعتضد [بالله] [3] ، وهو إذ ذاك وليّ العهد، فقال المعتضد [بالله] [3] : بل أنا أتزوجها، فتزوجها في سنة إحدى وثمانين ومائتين، والله أعلم.
وكان صداقها ألف ألف درهم، وكانت موصوفة بفرط الجمال والعقل.
حكي أن المعتضد خلا بها يوما للأنس في مجلس أفرده لها ما أحضره سواها، فأخذت الكأس منه، فنام على فخذها، فلما استثقل وضعت رأسه على وسادة، وخرجت فجلست في ساحة القصر، فاستيقظ فلم يجدها، فاستشاط غضبا ونادى بها، فأجابته عن قرب، فقال: ألم أخلك إكراما لك؟
ألم أدفع إليك مهجتي دون سائر حظاياي؟ فتضعين رأسي على وسادة وتذهبين؟! فقالت: يا أمير المؤمنين! لم أجهل [4] قدر ما أنعمت عليّ به،
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ديوذار بن يوسف» ، وفي «وفيات الأعيان» : «ديوداذ بن دوست» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «تاريخ الطبري» (9/ 353) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 168) .
[2] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[3] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «ما جهلت» .

(3/336)


ولكن فيما أدّبني به أبي أن قال: لا تنامي مع القيام [1] ولا تجلسي مع النيام.
ويقال: إن المعتضد أراد بنكاحها افتقار الطولونية، وكذا كان، فإن أباها جهّزها بجهاز لم يعمل مثله، حتّى قيل: إنه كان لها ألف هاون ذهبا، وشرط عليه المعتضد أن يحمل كل سنة بعد القيام بجميع وظائف مصر وأرزاق أجنادها مائتي ألف دينار، فأقام على ذلك إلى أن قتله غلمانه بدمشق على فراشه ليلة الأحد لثلاث بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وقتل قتلته أجمعون، وحمل تابوته إلى مصر، ودفن عند أبيه بسفح المقطّم، رحمهما الله تعالى.
وكان من أحسن النّاس [2] خطّا. انتهى ما أورده ابن خلّكان.
وفيها الحافظ أبو محمد، الفضل بن محمد بن المسيّب، البيهقيّ الشعرانيّ، طوّف الأقاليم، وكتب الكثير، وجمع وصنّف. روى عن سليمان بن حرب، وسعيد بن أبي مريم، وطبقتهما.
قال في «المغني» [3] : قال أبو حاتم: تكلموا فيه.
وفيها محمد بن الفرج الأزرق، أبو بكر، في المحرم ببغداد. سمع حجّاج بن محمد [4] ، وأبا النّضر، وطبقتهما.
قال في «المغني» [5] : محمد بن الفرج الأزرق، له جزء معروف، وهو صدوق، تكلم الحاكم فيه لصحبته الكرابيسي، وهذا تعنّت. انتهى.
وفيها العلّامة أبو العيناء، محمد بن القاسم بن خلّاد البصريّ الضرير اللغويّ الأخباري، وله إحدى وتسعون سنة، وأضرّ وله أربعون سنة، أخذ عن
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «لا تنامي مع الجلوس» .
[2] لفظة «الناس» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] (2/ 513) .
[4] في الأصل: «محمد بن حجاج» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (3/ 1257) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق.
[5] (2/ 623) .

(3/337)


أبي عبيدة، وأبي عاصم النّبيل، وجماعة، وله نوادر وفصاحة وأجوبة مسكتة.
قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : أصله من اليمامة، ومولده بالأهواز، ومنشؤه بالبصرة، وبها طلب الحديث وكسب الأدب [3] ، وسمع من أبي عبيدة، والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، والعتبي، وغيرهم، وكان من أفصح الناس لسانا وأحفظهم، وكان من ظرائف العالم، وفيه من اللّسن وسرعة الجواب والذكاء ما لم يكن في أحد من نظرائه، وله أخبار حسان وأشعار ملاح مع أبي علي الضرير.
وحضر يوما مجلس بعض الوزراء، فتفاوضوا حديث البرامكة وكرمهم وما كانوا عليه من البذل [4] والإفضال، فقال الوزير: قد أكثرت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا تصنيف الورّاقين وكذب المؤلفين، فقال أبو العيناء: فلم لا يكذب الورّاقون عليك أيها الوزير؟ فسكت الوزير، وعجب الحاضرون من إقدامه عليه.
وشكا إلى عبد الله بن سليمان بن وهب الوزير سوء الحال، فقال له:
أليس قد كتبنا إلى إبراهيم بن المدبّر في أمرك؟ قال: نعم، قد كتبت إلى رجل قد قصر من همّته طول الفقر، وذلّ الأسر، ومعاناة الدّهر، فأخفق سعيي وخابت طلبتي، فقال عبد الله [5] : أنت اخترته، فقال: وما عليّ أيّها الوزير في ذلك، وقد اختار موسى قومه سبعين رجلا فما كان فيهم رشيد، واختار النّبيّ صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن سعد بن أبي سرح كاتبا، فرجع إلى المشركين مرتدّا،
__________
[1] (2/ 75) .
[2] في «وفيات الأعيان» (4/ 343) .
[3] في الأصل والمطبوع: و «كتب الأدب» وما أثبته من «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[4] في «وفيات الأعيان» : «وما كانوا عليه من الجود» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «عبيد الله» .

(3/338)


واختار علي بن أبي طالب أبا موسى الأشعري حكما له، فحكم عليه، وإنما قال: ذلّ الأسر، لأن إبراهيم المذكور كان قد أسره علي بن محمد صاحب الزّنج بالبصرة وسجنه، فنقب السجن وهرب.
ودخل أبو العيناء على أبي الصقر إسماعيل بن بلبل [1] الوزير يوما، فقال له: ما الذي أخّرك عنّا يا أبا العيناء، فقال سرق حماري. قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللّصّ فأخبرك. قال: فهلّا أتيتنا على غيره؟ قال:
قعد بي عن الشراء قلّة يساري [2] وكرهت ذلّة المكاري ومنّة العواري [3] .
وخاصم علويا، فقال له العلويّ: أتخاصمني وأنت تقول [كل يوم] [4] :
اللهمّ صلّ على محمد وعلى آله؟ قال: لكني أقول: الطيبين الطاهرين ولست منهم.
ووقف عليه رجل من العامّة فلما أحسّ به قال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم، فقال أبو العيناء، مرحبا بك- أطال الله بقاءك- ما كنت أظن هذا النّسل إلا قد انقطع.
وصار يوما إلى باب صاعد بن مخلد، فاستأذن عليه، فقيل: هو مشغول بالصلاة، فقال: لكل جديد لذّة، وكان صاعد قبل الوزارة نصرانيا.
ومرّ بباب عبد الله بن منصور وهو مريض وقد صحّ [5] ، فقال لغلامه كيف خبره؟ فقال: كما تحب، فقال: ما لي لا أسمع الصراخ عليه؟.
ودعا سائلا ليعشّيه فلم يدع شيئا إلا أكله، فقال، يا هذا، دعوتك رحمة فتركتني رحمة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «إسماعيل بن بابك» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، وانظر «تاريخ الطبري» (9/ 544) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «قلة إيساري» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] الخبر في «معجم الأدباء» لياقوت (18/ 293- 294) .
[4] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل: «وقد صلح» وأثبت ما في المطبوع.

(3/339)


وكان بينه وبين ابن مكرم مداعبات فسمع ابن مكرم رجلا يقول: من ذهب بصره قلّت حيلته، فقال: ما أغفلك عن أبي العيناء! ذهب بصره فعظمت حيلته.
وقد ألمّ أبو علي البصير بهذا المعنى، يشير به إلى أبي العيناء:
قد كنت خفت يد الزّما ... ن عليك إذ ذهب البصر
لم أدر أنّك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر [1]
وقال له ابن مكرم يوما يعرّض به: كم عدد المكدّين بالبصرة؟ فقال:
مثل عدد البغائين ببغداد.
وروي عنه أنه قال: كنت عند أبي الحكم إذ أتاه رجل فقال له:
وعدتني وعدا، فإن رأيت أن تنجزه، فقال: ما أذكره، فقال: إن لم تذكره فلأن من تعده مثلي كثير، وأنا لا أنساه، لأن من أسأله مثلك قليل، فقال:
أحسنت، لله أبوك، وقضى حاجته.
وكان جدّه الأكبر لقي علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فأعياه [في] المخاطبة معه، فدعا عليه بالعمى له ولولده، فكلّ من عمي من ولد جدّ أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم، هكذا قاله أبو سعد الطلحي [2] وخرج من البصرة وهو بصير، وقدم سرّ من رأى، فاعتلت عيناه، فعمي [وسكن بغداد مدة] [3] وعاد إلى البصرة ومات بها. انتهى ما أورده ابن خلّكان مخلصا [4] .
__________
[1] البيتان في «وفيات الأعيان» (4/ 345) ، و «نكت الهيمان» ص (265) ، و «الوافي بالوفيات» (4/ 341) .
[2] في المطبوع: «أبو سعد الطلمي» ، وفي «وفيات الأعيان» : «أبو سعيد الطلحي» .
[3] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[4] قلت: وفيها مات الإمام المؤرّخ المهندس أبو حنيفة أحمد بن داود بن ونند الدّينوري، أحد نوابغ الدهر، وصاحب «الأخبار الطوال» وغير ذلك من المصنفات النافعة. وقد استوفيت التعريف به في مقدمتي لهذا الكتاب (1/ 28- 29) وانظر «الأعلام» للزركلي (1/ 123) .

(3/340)


سنة ثلاث وثمانين ومائتين
فيها ظفر المعتضد بهارون الشّاري، رأس الخوارج بالجزيرة، وأدخل راكبا فيلا، وزيّنت بغداد [1] .
وفيها أمر المعتضد في سائر البلاد بتوريث ذوي الأرحام، وإبطال دواوين المواريث في ذلك، وكثر الدعاء له، وكان قبل ذلك قد أبطل النيروز، وقيد النيران، وأمات سنّة المجوس.
وفيها التقى عمرو بن اللّيث الصّفّار، ورافع بن هرثمة، فانهزمت جيوش رافع وهرب، وساق [2] الصّفّار وراءه، فأدركه بخوارزم فقتله، وكان المعتضد قد عزل رافعا عن خراسان، واستعمل عليها عمرو بن اللّيث في سنة تسع وسبعين، فبقي رافع بالرّيّ، وهادن الملوك المجاورين له، ودعا إلى العلوي.
وفيها وصلت تقادم [3] عمرو بن اللّيث إلى المعتضد، من جملتها مائتا حمل مال.
__________
[1] انظر تفاصيل الخبر في «تاريخ الطبري» (10/ 43- 44) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 476- 477) .
[2] قال ابن منظور: السّاقة جمع سائق، وهم الذين يسوقون جيش الغزاة، ويكونون من ورائه يحفظونه. «لسان العرب» (سوق) .
[3] أي وصلت تحف. انظر «دول الإسلام» للذهبي (1/ 171) .

(3/341)


وفيها توفي القدوة العارف أبو محمد سهل بن عبد الله التّستريّ الزّاهد في المحرم عن نحو من ثمانين سنة، وله مواعظ، وأحوال، وكرامات، وكان من أكبر مشايخ القوم.
ومن كلامه- وقد رأى أصحاب الحديث فقال-: اجهدوا أن لا تلقوا الله ومعكم المحابر.
وقيل له: إلى متى يكتب الرجل الحديث؟ قال: حتّى يموت ويصبّ باقي حبره في قبره.
وقال: من أراد الدّنيا والآخرة فليكتب الحديث، فإن فيه منفعة الدّنيا والآخرة.
وقال السّلميّ في «الطبقات» [1] : هو سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى بن عبد الله بن رفيع وكنيته أبو محمد، أحد أئمة القوم وعلمائهم، والمتكلمين في علوم الإخلاص والرياضات وعيوب الأفعال.
صحب خاله محمد بن سوّار، وشاهد ذا النّون المصريّ سنة خروجه إلى الحج. وأسند الحديث.
وأسند عنه قال: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا [2] ، وإذا انتبهوا ندموا، وإذا ندموا لم تنفعهم الندامة [3] .
وقال: شكر العلم العمل، وشكر العمل زيادة العلم.
وقال: ما من قلب ولا نفس إلا والله مطّلع عليه في ساعات الليل والنهار، فأيّما [4] قلب أو نفس رأى فيه حاجة إلى سواه سلّط عليه إبليس.
__________
[1] ص (206- 211) .
[2] قوله: «فإذا ماتوا انتبهوا» لم يرد في «طبقات الصوفية» المطبوع.
[3] في «طبقات الصوفية» : «لم تنفعهم ندامتهم» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «فأي» وأثبت لفظ «طبقات الصوفية» ص (208) .

(3/342)


وقال: الذي يلزم الصوفي ثلاثة أشياء: حفظ سرّه، وأداء فرضه، وصيانة فقره.
وقال: من أراد أن يسلم من الغيبة فليسدّ على نفسه باب الظّنون، فمن سلم من الظّن سلم من التجّسس، ومن سلم من التجسّس سلم من الغيبة، ومن سلم من الغيبة سلم من الزّور، ومن سلم من الزّور سلم من البهتان.
وقال ذروا التدبير والاختيار فإنّهما يكدّران على الناس عيشهم.
وقال: الفتن ثلاثة: فتنة العامّة من إضاعة العلم، وفتنة الخاصّة من الرّخص والتأويلات، وفتنة أهل المعرفة أن يلزمهم حقّ في وقت فيؤخّروه إلى وقت ثان [1] .
وقال: أصولنا ستة [أشياء] [2] : التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنّة رسوله [3] صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكفّ الأذى، واجتناب الآثام، وأداء الحقوق.
وقال: لا معين إلّا الله، ولا دليل إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زاد إلا التّقوى، ولا عمل إلا الصّبر [4] .
وقال: الأعمال بالتوفيق، والتوفيق من الله، ومفتاحه الدعاء والتضرّع.
وطريقة سهل تشبه طريق الملامية [5] ، وله كرامات كثيرة، وكان يعتقد مذهب مالك، رضي الله عنهما. انتهى ملخصا.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «فيؤخّرونه إلى وقت الثاني» وأثبت ما جاء في «طبقات الصوفية» ص (210) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ستة» وفي «طبقات الصوفية» سبعة، ولفظة «أشياء» زيادة منه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «والاقتداء بسنّة رسول الله» وأثبت ما في «طبقات الصوفية» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «ولا عمل إلا الصبر عليه» وأثبت لفظ «طبقات الصوفية» وهو الصواب.
[5] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «الملامتية» ، والتصحيح من «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي الغرض (575) طبع المكتب الإسلامي، وفيه قال: الملامية: هم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن.

(3/343)


وقال في «الحلية» [1] : عامّة كلامه في تصفية الأعمال [وتنقية الأحوال] [2] من المعايب والإعلال.
وأسند عنه فيها أنه قال: من كان اقتداؤه بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يكن في قلبه اختيار لشيء من الأشياء [ولا يجول قلبه] [3] سوى ما أحبّ الله ورسوله.
وقال: الدّنيا كلها جهل [4] إلّا العلم منها [5] والعلم كله وبال إلّا العمل به، والعمل كله هباء منثور [6] إلّا الإخلاص فيه، والإخلاص [فيه] [7] أنت منه على وجل حتّى تعلم هل قبل أم لا. انتهى ملخصا أيضا.
وقال الشيخ الأكبر محيي الدّين محمد بن عربي الحاتمي الطائي، رضي الله عنه، في كتاب «بلغة الغوّاص» ما معناه، إن لم يكن لفظه، قال إمامنا وعالمنا سهل بن عبد الله التّستريّ: رأيت إبليس فعرفته وعرف أنّي عرفته، فجرى بيننا كلام ومذاكرة، وكان [8] [من آخره] [9] أن قلت له: لم لم تسجد لآدم؟ فقال: غيرة منّي عليه أن أسجد لغيره، فقلت: هذا لا يكفيك بعد أن أمرك، وأيضا فآدم قبلة والسجود له تعالى، ثم قلت له: وهل تطمع بعد هذا في المغفرة، فقال: كيف لا أطمع وقد قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ 7: 156 قال: فوقفت كالمتحيّر، ثم تذكرت ما بعدها، فقلت:
إنها مقيّدة بقيود. قال: وما هي؟ قلت: قوله تعالى بعدها: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ 7: 156
__________
[1] (10/ 190) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، وأثبته من «حلية الأولياء» .
[3] زيادة من «حلية الأولياء» .
[4] في المطبوع: «جبل» وهو خطأ.
[5] في «حلية الأولياء» (10/ 194) : «فيها» .
[6] في الأصل: «منثورا» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[7] سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «حلية الأولياء» .
[8] في المطبوع: «كان» .
[9] ما بين حاصرتين لم يرد في الأصل وأثبته من المطبوع.

(3/344)


الآية [الأعراف: 156] قال: فضحك وقال: والله ما ظننت أن الجهل يبلغ بك هذا المبلغ، أما علمت أن القيد بالنسبة إليك لا بالنسبة إليه؟
فقال: فو الله لقد أفحمني، وعلمت أنه طامع في مطمع [1] . انتهى، فتأمل.
وفيها أبو محمد عبد الرّحمن بن يوسف بن خراش المروزيّ ثم البغداديّ الحافظ، صاحب «الجرح والتعديل» أخذ عن أبي حفص الفلّاس وطبقته.
قال أبو نعيم بن عدي: ما رأيت أحفظ منه.
وقال بكر بن محمد الصيرفي: سمعته يقول: شربت بولي في طلب هذا الشأن خمس مرات.
وقال الذهبيّ في «المغني» [2] : قال عبدان: كان يوصل المراسيل [3] .
وقال ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» [4] :
لابن خراش الحالة الرّذيله ... ذا رافضيّ جرحه فضيله
وقال في «شرحها» : هو عبد الرّحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش، أبو محمد، كان حافظا بارعا من الرّحالين، لكن لم ينفعه ما وعى، هو رافضي، شيخ شين، صنّف كتابا في مثالب الشيخين.
قال الذهبي [5] : هذا والله الشيخ المعثّر [6] الذي ضلّ سعيه. انتهى ما أورده ابن ناصر الدّين ملخصا.
__________
[1] أقول: لا مطمع للشيطان في رحمة الله بعد أن طرده الله من رحمته، ولعنه إلى يوم الدين، والله تعالى كتب الرحمة للذين يتقون في الآخرة، وإبليس ليس من المتقين، بل من الملعونين. (ع) .
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 390) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «المرسل» وأثبت ما في «المغني في الضعفاء» .
[4] في الأصل: «بدعية البيان» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[5] في «ميزان الاعتدال» (2/ 600) .
[6] في المطبوع: «المغتر» .

(3/345)


وفيها توفي قاضي القضاة، أبو الحسن، علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب [1] الأمويّ البصريّ، كان رئيسا، معظّما، ديّنا، خيّرا، روى عن أبي الوليد الطّيالسي وجماعة. قاله في «العبر» [2] .
وفيها محمد بن سليمان بن الحارث، أبو بكر، الباغنديّ، محدّث واسطي، نزل بغداد، وحدّث عن الأنصاري، وعبيد الله بن موسى، وكان صدوقا، وهو والد الحافظ محمد بن محمد.
وفيها تمتام الحافظ، أبو جعفر، محمد بن غالب بن حرب الضّبيّ البصريّ، في رمضان ببغداد. روى عن أبي نعيم، وعفّان وطبقتهما، وصنّف وجمع، وهو ثقة.
وفيها عبد الله بن محمد بن مالك بن هانئ، أبو محمد [3] النيسابوريّ، لقبه عبدوس، كان من الأعيان.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» :
ثمّ الرّضي تمتام الضّبيّ ... محمد بن غالب البصريّ
كذا فتى محمد عبدوس ... كلّ جميل فاضل رئيس
__________
[1] في الأصل: «الشواب» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[2] (2/ 77) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو أحمد» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» للذهبي (14/ 11) تحقيق الأستاذ أكرم البوشي بإشراف الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، و «تذكرة الحفّاظ» (2/ 675) ، و «طبقات الحفّاظ» ص (294) .

(3/346)


سنة أربع وثمانين ومائتين
فيها كما قال في «الشذور» ظهرت ظلمة بمصر وحمرة في السماء شديدة، حتّى كان الرجل ينظر إلى وجه الأرض فيراه أحمر، وكذلك الحيطان وغيرها، [ومكثوا كذلك] [1] من العصر إلى العشاء، فخرج الناس يدعون الله تعالى ويستغيثون إليه، ووعد الناس المنجمون بالغرق، فغارت المياه واحتاجوا إلى الاستسقاء. انتهى.
وفيها كما قاله في «العبر» [2] قال محمد بن جرير [3] : عزم المعتضد على لعنة [4] معاوية على المنابر، فخوّفه الوزير [عبيد الله بن سليمان] [5] من اضطراب العامّة، فلم يلتفت إليه [6] وتقدّم إلى العامّة بلزوم أشغالهم وترك الاجتماع، ومنع القصّاص من الكلام، ومن اجتماع الخلق في الجوامع، وكتب كتابا في ذلك، واجتمع له الناس يوم الجمعة بناء على أن الخطيب يقرؤه، فما قرئ، وكان من إنشاء الوزير عبيد الله، وهو طويل، فيه مصائب
__________
[1] زيادة من «تاريخ الطبري» (10/ 53) .
[2] (2/ 78) .
[3] انظر «تاريخ الطبري» (10/ 54) .
[4] في «تاريخ الطبري» : «لعن» .
[5] ما بين حاصرتين زيادة من «تاريخ الطبري» و «العبر» للذهبي.
[6] قوله: «فلم يلتفت إليه» لم يرد في «العبر» المطبوع في الكويت، واستدرك في المطبوع منه في بيروت مع تصرّف في النص.

(3/347)


ومعايب، فقال القاضي يوسف بن يعقوب: يا أمير المؤمنين أخاف الفتنة عند سماعه، فقال: إن تحرّكت العامّة وضعت فيهم السيف، قال: فما تصنع بالعلوية الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك، وإذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت مالوا إليهم، وصاروا أبسط ألسنة، فأمسك المعتضد.
انتهى.
وفيها توفي محدّث نيسابور ومفيدها، أبو عمرو، أحمد بن المبارك المستمليّ الحافظ. سمع قتيبة وطبقته، وكان مع سعة روايته راهب عصره، ومجاب الدّعوة.
وفيها أبو يعقوب إسحاق بن الحسن الحربي [1] سمع أبا نعيم، والقعنبي، وكان ثقة صاحب حديث.
وفيها أبو عبادة الوليد بن عبيد الطّائيّ المنبجيّ البحتريّ، أمير شعراء العصر، وحامل لواء القريض، أخذ عن أبي تمّام الطائي.
قال المبرّد: أنشدنا شاعر دهره ونسيج وحده، أبو عبادة البحتري.
قال ابن الأهدل: نسبة إلى بحتر جد من أجداده، واسمه الوليد بن عبيد، أخذ عن أبي تمّام [الطائي ومدح المتوكل ومن بعده، وكان أقام ببغداد دهرا ثم رجع إلى الشام، وعرض أول شعره على أبي تمّام] [2] وهو بحمص، فقال له: أنت أشعر من أنشدني، وكتب له بذلك فعظّم وبجّل.
وروي عنه قال: لما سمع أبو تمّام شعري، أقبل على تقريظي، والتقريض بالظاء والضاد: مدح الإنسان في حياته بحق أو باطل.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «إسحاق بن الحر الحربي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 79) ، وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (2/ 742) ترجمة عبد الله بن مسلمة بن قعنب.
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.

(3/348)


وعنه قال: لما أنشدت أبا تمّام، أنشد بيت أوس بن حجر، بفتح الحاء والجيم:
إذا مقرم منّا ذرا حدّ نابه ... تخمّط فينا ناب آخر مقرم [1]
وقال: نعيت إليّ نفسي، فقلت: أعيذك بالله، فقال: إن عمري ليس بطويل، وقد نشأ لطيء مثلك، فمات أبو تمّام بعد هذا بسنة.
وقال لغلامه مرّة وهو مريض: اصنع لي مزوّرة وعنده بعض الرؤساء جاء عائدا له، فقال ذلك الرئيس: عندي طبّاخ من صفته كذا وذا، ونسي الرئيس أمرها، فكتب إليه البحتري:
وجدت وعدك زورا في مزوّرة ... حلفت مجتهدا إحكام طاهيها
فلا شفى الله من يرجو الشّفاء بها ... ولا علت كفّ ملق كفّه فيها
فاحبس رسولك عنّي أن يجيء بها ... فقد حبست رسولي عن تقاضيها [2]
وله بيتان في هجو رجل اسمه شهاب: وفي فهم معناهما عسر، وهما:
وهما:
قد كنت أعهد أنّ الشّهب ثاقبة ... فقد رأينا شهابا وهو مثقوب
في كفّه الدّهر أم في ظهره قلم ... فنصفه كاتب والنّصف مكتوب [3]
وأخباره كثيرة، وكان شعره غير مرتب، فرتبه أبو بكر الصّولي على
__________
[1] حصل بعض التحريف بألفاظ البيت في الأصل، وأثبت لفظ المطبوع، والبيت في «لسان العرب» لابن منظور (قرم) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «فقد حبست رسولا» والتصحيح من «غربال الزمان» للعامري ص (255) .
[3] لم أجدهما في «ديوانه» ولا في المصادر الموجودة بين يدي.

(3/349)


الحروف، ثم جمعه علي بن حمزة الأصبهاني على الأنواع، مثل «حماسة» أبي تمّام.
وسئل أبو العلاء المعرّي عنه، وعن أبي تمّام، والمتنبي، فقال: هما حكيمان، والشاعر البحتري. انتهى.
وقال ابن خلّكان [1] : قال البحتريّ: أنشدت أبا تمّام شعرا لي في بعض بني حميد، وصرت به إلى مال له خطر، فقال لي: أحسنت، أنت أمير الشعراء من بعدي [2] ، فكان قوله هذا أحبّ إليّ من جميع ما حويته.
وقال ميمون بن هارون [3] : رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المؤرّخ، وحاله متماسكة، فسألته، فقال: كنت من جلساء المستعين، فقصده الشعراء، فقال: لست أقبل إلّا من قال مثل قول البحتري في المتوكل:
فلو أنّ مشتاقا تكلّف فوق ما [4] ... في وسعه لمشى إليك المنبر [5]
فرحت إلى داري [6] وأتيته، وقلت: قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتريّ، فقال: هاته، فأنشدته:
ولو أنّ برد المصطفى إذ لبسته ... يظن لظن البرد أنك صاحبه
وقال وقد أعطيته وكسيته ... نعم هذه أعطافه ومناكبه
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (6/ 24) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «أنت أمير الشعراء بعدي» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ميمون بن مهران» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، وانظر «الأعلام» (7/ 342) .
[4] في «ديوانه» : «غير ما» .
[5] البيت في «ديوان البحتري» (2/ 1073) بتحقيق الأستاذ حسن كامل الصيرفي، طبع دار المعارف بمصر.
[6] في «وفيات الأعيان» : «فرجعت إلى داري» .

(3/350)


فقال: ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به، فرجعت، فبعث لي سبعة آلاف دينار، وقال: ادّخر هذه للحوادث من بعدي، ولك عليّ الجراية والكفاية ما دمت حيّا.
ومن أخبار البحتري أنه كان له غلام اسمه نسيم، فباعه، فاشتراه أبو الفضل الحسن بن وهب الكاتب، ثمّ إن البحتريّ ندم على بيعه وتتبعته نفسه، فكان يعمل فيه الشعر، ويذكر فيه أنه خدع، وأن بيعه له لم يكن عن مراده، فمن ذلك قوله:
أنسيم هل للدّهر وعد صادق ... فيما يؤمّله المحبّ الوامق
ما لي فقدتك في المنام ولم تزل ... عون المشوق إذا جفاه الشّائق
اليوم جاز بي الهوى مقداره ... في أهله وعلمت أني عاشق
فليهنأ الحسن بن وهب انه ... يلقى أحبّته ونحن نفارق [1]
وكان البحتريّ كثيرا ما ينشد لبعض الشعراء، ويعجبه قوله:
حمام الأراك ألا فأخبرينا ... لمن تندبين ومن تعولينا
فقد شقت بالنّوح منّا القلوب ... وأبكيت بالنّدب منّا العيونا
تعالى نقم مأتما للهموم ... ونعول إخواننا الظّاعنينا
ونسعدكنّ وتسعدننا ... فإنّ الحزين يوافي الحزينا
[2] وأخباره ومحاسنه كثيرة، فلا حاجة إلى الإطالة.
وكانت ولادته سنة ست، أو سبع، وقيل: خمس، وقيل: اثنتين، وقيل: إحدى ومائتين، والأول أصحّ، وتوفي سنة أربع، وقيل خمس، وقيل ثلاث وثمانين ومائتين، والأول أصح. انتهى ما ذكره ابن خلّكان ملخصا.
وفيها، والصحيح أنه في التي قبلها كما جزم به ابن الأهدل، وقدّمه
__________
[1] الأبيات في «ديوانه» ص (1513) طبع دار المعارف بمصر.
[2] الأبيات في «وفيات الأعيان» (6/ 27) .

(3/351)


ابن خلّكان [1] ، فقال: توفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وقيل: ست وسبعين ومائتين، أبو الحسن علي بن العبّاس بن جريج، وقيل ابن جورجيس [2] المعروف بابن الرّومي، مولى عبد الله بن عيسى بن جعفر المنصور، صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتّى يستوفيه إلى آخره ولا يبقى فيه بقية، وكان شعره غير مرتّب، ثم رتبه أبو بكر الصولي على الحروف.
وله القصائد المطوّلة والمقاطيع البديعة، وله في الهجاء كل شيء ظريف، وكذلك في المديح، فمن ذلك قوله:
المنعمون وما منّوا على أحد ... يوم العطاء ولو منّوا لما مانوا [3]
كم ضنّ بالمال أقوام وعندهم ... وفر وأعطى العطايا وهو يدّان [4]
وله وقال: ما سبقني أحد إلى هذا المعنى:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدّجى والأخريات رجوم [5]
ومن معانيه البديعة قوله:
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (3/ 361) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وقيل ابن جرجيس» ، وما أثبته من «معجم الشعراء» للمرزباني ص (145) ، و «وفيات الأعيان» (3/ 358) ، و «الأعلام» (4/ 297) .
[3] البيت في «ديوانه» ص (2427) بتحقيق الدكتور حسين نصّار، طبع مطبعة دار الكتب وروايته فيه:
المنعمين وما منّوا على أحد ... يوما بنعمى ولو منّوا لما مانوا
[4] البيت في «ديوانه» ص (2431) وروايته فيه:
كم ضنّ بالفرض أقوام وعندهم ... وفر وأعطى العطايا وهو يدان
[5] البيتان في «ديوانه» ص (2345) .

(3/352)


وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدّر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه [1]
وقال في بغداد وقد غاب عنها في بعض أسفاره:
بلد صحبت بها الشّبيبة والصّبا ... ولبست ثوب العزّ وهو جديد
وإذا تمثّل في الضّمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد [2]
وكان سبب موته، رحمه الله، أن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد [3] ، كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه [بالفحش] [4] فدسّ عليه مأكلا مسموما [وهو] [4] في مجلسه، فلما أحسّ بالسّمّ قام، فقال له الوزير: أين تذهب؟ قال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه، فقال: سلّم على والديّ، فقال: ما طريقي على النار، وخرج إلى منزله، فأقام أياما ومات.
وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسّمّ، فزعم أنه غلط في بعض العقاقير.
قال نفطويه: رأيت ابن الرّومي يجود بنفسه، فقلت: ما حالك، فأنشد:
غلط الطّبيب عليّ غلطة مورد ... عجزت موارده [5] عن الإصدار
__________
[1] لم أجدهما في «ديوانه» بتحقيق الدكتور حسين نصّار، ولكن عزاهما الدكتور إحسان عبّاس في تعليقه على «وفيات الأعيان» (3/ 359) إلى «ديوانه» ص (97) طبع دار إحياء التراث العربي ببيروت.
[2] البيتان في «ديوانه» ص (766) وروايتهما فيه:
بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... ولبست فيه العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أفنان الشباب تميد
[3] في الأصل، والمطبوع: «أن الوزير أبا الحسن بن عبد الله وزير المعتضد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (3/ 361) ، و «إعتاب الكتاب» لابن الأبار، ص (185) تحقيق الدكتور صالح الأشتر، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق.
[4] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[5] في «ديوانه» : «محالته» .

(3/353)


والنّاس يلحون الطّبيب وإنّما ... غلط الطّبيب إصابة المقدار [1]
وقال أبو عثمان النّاجم [2] الشاعر: دخلت على ابن الرّومي أعوده، فوجدته يجود بنفسه، فلما قمت من عنده قال لي منشدا:
أبا عثمان أنت حميد قومك [3] ... وجودك في العشيرة دون لومك [4]
تزوّد [5] من أخيك فما أراه [6] ... يراك ولا تراه بعد يومك [7]
وبالجملة فمحاسنه كثيرة، وله في الطيرة أشياء معروفة، فلا نطيل بذلك والله أعلم.
__________
[1] البيتان في «ديوانه» ص (1111) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «الناجمة» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «الأعلام» للزركلي (3/ 84) .
[3] كذا في الأصل، والمطبوع، و «وفيات الأعيان» : «أنت حميد قومك» ، وفي «ديوانه» : «أنت عميد قومك» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «دون نومك» والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، ومن «ديوانه» .
[5] في «ديوانه» : «تمتع» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «فما تراه» ، وما أثبته من «الوفيات الأعيان» ، ومن «ديوانه» .
[7] البيتان في «ديوانه» ص (1889) .

(3/354)


سنة خمس وثمانين ومائتين
فيها على ما قال في «الشذور» ارتفعت ريح صفراء بنواحي الكوفة، ثمّ استحالت سوداء، وارتفعت ريح بالبصرة كذلك، ومطر وبرد في الواحدة مائة وخمسون درهما. انتهى.
وفيها وثب صالح بن مدرك الطائي في طيء، فانتهبوا الرّكب العراقي، وبدعوا، وسبوا النسوان، وذهب للناس ما قيمته ألف ألف دينار.
قاله في «العبر» [1] .
وفيها توفي الإمام الحبر إبراهيم بن إسحاق بن بشير أبو إسحاق الحربيّ الحافظ، أحد أركان الدّين، والأئمة الأعلام، ببغداد، في ذي الحجة، وله سبع وثمانون سنة. سمع أبا نعيم، وعفّان، وطبقتهما. وتفقّه على الإمام أحمد، وبرع في العلم والعمل، وصنّف التصانيف الكثيرة، وكان يشبّه بأحمد بن حنبل في وقته.
قال المرداويّ [2] في «الإنصاف» : كان إماما في جميع العلوم، متقنا،
__________
[1] (2/ 80) .
[2] هو علي بن سليمان بن أحمد المرداوي ثم الدمشقي، فقيه حنبلي، من العلماء، ولد في «مردا» قرب نابلس، وانتقل في كبره إلى دمشق فتوفي فيها سنة (885) هـ. من كتبه «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» وهو الذي نقل المؤلف عنه. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (4/ 292) .

(3/355)


مصنّفا، محتسبا عابدا، زاهدا، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة جدا حسانا جيادا. انتهى.
وفيها إسحاق بن إبراهيم الدّبريّ [1] المحدّث، راوية عبد الرزاق، بصنعاء، عن سنّ عالية، اعتنى به أبوه، وأسمعه الكتب من عبد الرزاق في سنة عشر ومائتين، وكان صدوقا.
وفيها أبو العبّاس المبرّد، محمد بن يزيد الأزديّ البصريّ، إمام أهل النحو في زمانه، وصاحب المصنفات. أخذ عن أبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وتصدّر للاشتغال ببغداد، وكان وسيما، مليح الصورة، فصيحا، مفوّها، أخباريّا، علّامة، ثقة. توفي في آخر السنة. قاله في «العبر» [2] .
قال ابن خلّكان [3] : كان إماما في النحو واللغة، وله التآليف النافعة في الأدب، منها كتاب «الكامل» [4] ، ومنها «الروضة» و «المقتضب» وغير ذلك.
أخذ الأدب عن أبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وأخذ عنه نفطويه وغيره من الأئمة، وكان المبرّد المذكور، وأبو العبّاس أحمد بن يحيى الملقب بثعلب، صاحب كتاب «الفصيح» عالمين متعاصرين، قد ختم بهما تاريخ الأدباء، وفيهما يقول بعض أهل عصرهما من جملة أبيات، وهو أبو بكر بن [أبي] [5] الأزهر:
__________
[1] نسبة إلى «الدبر» وهي قرية من قرى صنعاء اليمن. انظر «الأنساب» للسمعاني (5/ 271) .
[2] (2/ 80- 81) .
[3] في «وفيات الأعيان» (4/ 314) .
[4] وقد طبع عدة مرات، أجودها التي صدرت حديثا عن مؤسسة الرسالة في بيروت بتحقيق الأستاذ محمد أحمد الدالي.
[5] سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها في «وفيات الأعيان» ، وهو محمد بن أحمد بن مزيد بن محمود، أبو بكر الخزاعي البوشنجي، المتوفى سنة (325) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» (5/ 309) .

(3/356)


أيا طالب العلم لا تجهلن ... وعذ بالمبرّد أو ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب [1]
وكان المبرّد يحبّ الاجتماع في المناظرة بثعلب والاستكثار منه، وثعلب يكره ذلك ويمتنع منه.
حكى جعفر بن أحمد بن حمدان الفقيه الموصلي، وكان صديقهما، قال: قلت لأبي عبد الله الدّينوري، ختن ثعلب: لم يأبى ثعلب الاجتماع بالمبرّد؟ فقال: لأن المبرّد حسن العبارة، حلو الإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وثعلب مذهبه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل، حكم للمبرّد على الظاهر إلى أن يعرف الباطن. انتهى ملخصا.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (4/ 314) .

(3/357)