شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست وأربعمائة
فيها توفي الشيخ أبو حامد الإسفراييني [1] أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد، الفقيه، شيخ العراق، وإمام الشافعية، ومن إليه انتهت رئاسة المذهب. قدم بغداد صبيّا، فتفقّه على ابن المرزبان، وأبي القاسم الدّاركي، وصنّف التصانيف، وطبّق الأرض بالأصحاب، و «تعليقته» [2] في نحو خمسين مجلدا، وكان يحضر درسه سبعمائة فقيه. توفي في شوال وله اثنتان وستون سنة، وقد حدّث عن أبي أحمد بن عدي وجماعة. قاله في «العبر» .
وقال ابن شهبة [3] : ولد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، واشتغل بالعلم.
قال سليم [4] : وكان يحرس في درب، وكان يطالع الدرس على زيت الحرس، وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة، وقدم بغداد سنة أربع وستين، فتفقّه على ابن المرزبان، والدّاركي، وروى الحديث عن الدارقطني، وأبي بكر الإسماعيلي، وأبي أحمد بن عدي، وجماعة، وأخذ عن الفقهاء والأئمة
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 57- 59) و «العبر» (3/ 94- 95) .
[2] في «آ» : «وتعليقه» .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 161- 162) .
[4] هو سليم بن أيوب بن سليم الفقيه أبو الفتح الرازي، الأديب المفسّر. انظر ترجمته في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 233- 234) .

(5/37)


ببغداد، وشرح «المختصر» في «تعليقته» التي هي في خمسين مجلدا، ذكر فيها خلاف العلماء، وأقوالهم، ومآخذهم، ومناظراتهم، حتّى كان يقال له الشافعي [الثاني] [1] ، وله كتاب في أصول الفقه.
قال الشيخ أبو إسحاق [2] : انتهت إليه رئاسة الدّين والدّنيا ببغداد، وجمع مجلسه ثلاثمائة متفقّه، واتفق الموافق والمخالف على تفضيله وتقديمه في جودة الفقه، وحسن النظر، ونظافة العلم.
وقال الخطيب أبو بكر [3] : حدّثونا عنه، وكان ثقة، وقد رأيته [غير مرّة] وحضرت تدريسه، وسمعت من يذكر أنه [4] كان يحضر درسه سبعمائة فقيه [5] ، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعيّ لفرح به. توفي في شوال، ودفن في داره، ثم نقل سنة عشر وأربعمائة إلى باب حرب. انتهى ما أورده ابن شهبة ملخصا.
وفيها أبو مناد باديس بن منصور بن بلكّين بن زيري بن مناد الحميري الصنهاجي المغربي الملك [6] ، متولّي إفريقية للحاكم العبيدي، وكان ملكا حازما شديد البأس، إذا هزّ رمحا كسره، ومات فجأة، وقام بعده ابنه المعز.
قال ابن خلّكان: وكانت ولايته بعد أبيه المنصور، وكان مولده ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، سنة أربع وسبعين وثلاثمائة بأشير، ولم يزل على ولايته وأموره جارية على السّداد، ولما كان يوم الثلاثاء
__________
[1] سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.
[2] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (124) .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 369) وقد نقل ابن قاضي شهبة كلامه بتصرف وتبعه المؤلف، وما بين حاصرتين زيادة منه.
[4] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة «وسمعت من مذاكراته» .
[5] في «تاريخ بغداد» : «متفقه» .
[6] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 265- 266) وما بين حاصرتين استدركته منه و «العبر» (3/ 95) .

(5/38)


تاسع عشري ذي القعدة، سنة ست وأربعمائة أمر جنوده بالعرض، فعرضوا بين يديه وهو في قبّة الإسلام جالس إلى وقت الظهر، وسرّه حسن عسكره وبهجة زينتهم [1] وما كانوا عليه، وانصرف إلى قصره، ثم ركب عشية ذلك النهار في أجمل مركوب، ولعب الجيش بين يديه، ثم رجع إلى قصره شديد السرور بما رآه من كمال حاله، وقدّم السماط [بين يديه] فأكل مع خاصته وحاضري مائدته، ثم انصرفوا عنه وقد رأوا من سروره ما لم يروه منه [2] قطّ، فلما مضى مقدار نصف الليل من ليلة الأربعاء سلخ [ذي] القعدة قضى نحبه رحمه الله تعالى، فأخفوا أمره ورتبوا أخاه كرامة بن المنصور ظاهرا، حتّى وصلوا إلى ولده المعز فولّوه، وتم له الأمر.
وذكر في كتاب «الدول المنقطعة» [3] أن سبب موته أنه قصد طرابلس، ولم يزل [4] على قرب منها عازما على قتالها، وحلف أن لا يرحل عنها إلى أن يعيدها فدنا [5] للزراعة. فاجتمع أهل البلد [عند ذلك] إلى المؤدب محرز، وقالوا: يا وليّ الله، قد بلغك ما قاله باديس، فادع الله أن يزيل عنّا بأسه، فرفع يديه إلى السماء وقال: يا رب باديس اكفنا باديس، فهلك في ليلته بالذبحة.
والصّنهاجي: بضم الصاد المهملة وكسرها وسكون النون، وبعد الألف جيم، نسبة إلى صنهاجة، قبيلة مشهورة من حمير، وهي بالمغرب.
قال ابن دريد: صنهاجة بضم الصاد، لا يجوز غير ذلك. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «وأبهجه زيّهم» .
[2] لفظة «منه» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «وفيات الأعيان» .
[3] وهو للوزير جمال الدّين أبي الحسن علي بن أبي منصور ظافر الأزدي المتوفى سنة (623) هـ- وهو كتاب بديع في بابه في نحو أربع مجلدات. عن «كشف الظنون» (1/ 762) .
[4] في «وفيات الأعيان» : «ونزل» .
[5] جمع فدان. انظر «لسان العرب» (فدن) .

(5/39)


وفيها أبو علي الدّقّاق، الحسن بن علي النيسابوري [1] الزاهد العارف شيخ الصوفية توفي في ذي الحجّة، وقد روى عن ابن حمدان وغيره.
قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في كتابه «الكواكب الدّريّة في تراجم الصوفية» ما ملخصه: الحسن بن علي الأستاذ أبو علي الدّقّاق النيسابوري الشافعي، لسان وقته وإمام عصره، كان فارها في العلم، متوسطا في الحلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، جنيدي الطريقة، سرّيّ الحقيقة، أخذ مذهب الشافعي عن القفّال، والحصري، وغيرهما، وبرع في الأصول، وفي الفقه، وفي العربية، حتّى شدّت إليه الرحال في ذلك، ثم أخذ في العمل، وسلك طريق التصوف، وأخذ عن النّصرآباذي.
قال ابن شهبة: وزاد عليه حالا ومقالا، وعنه: القشيري صاحب «الرسالة» .
وله كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة. قيل له: لم زهدت في الدّنيا؟
قال: لما زهدت في أكثرها أنفت عن الرغبة في أقلها.
قال الغزالي: وكان زاهد زمانه وعالم أوانه، وأتاه بعض أكابر الأمراء، فقعد على ركبتيه بين يديه، وقال: عظني، فقال: أسألك عن مسألة وأريد الجواب بغير نفاق، فقال: نعم، فقال: أيما أحبّ إليك المال أو العدو؟
قال: المال. قال: كيف تترك ما تحبه بعدك وتستصحب العدو الذي لا تحبه معك، فبكى، وقال: نعم الموعظة هذه.
ومن كلامه: من سكت عن الحقّ فهو شيطان أخرس.
وقال: من علامة الشوق تمنّي الموت على بساط العوافي، كيوسف لما
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 95) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 169) .

(5/40)


ألقي في الجب، ولما أدخل السجن لم يقل توفّني، ولما تمّ له الملك والنعمة قال: توفني [1] .
وكان كثيرا ما ينشد:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف شرّ ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت به ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وقال: صاحب الحزن يقطع من الطريق في شهر ما لا يقطعه غيره في عام.
وقال: السماع حرام على العوام لبقاء نفوسهم مباح للزّهاد، لحصول مجاهداتهم مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم.
وقال: لو أن وليّا لله مرّ ببلدة للحق أهلها بركة مروره، حتّى يغفر لجاهلهم.
وقال: قال رجل لسهل: أريد أن أصحبك. قال: إذا مات أحدنا فمن يصحب الباقي؟ قال: الله: قال: فاصحبه الآن. انتهى ما أورده المناوي ملخصا.
وفيها أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري [2] المفسّر، صنّف في علوم القرآن، والآداب، وله كتاب «عقلاء المجانين» [3] سمع من الأصم وجماعة.
وفيها أبو يعلى المهلّبي، حمزة بن عبد العزيز بن محمد النيسابوري الطبيب [4] . روى عن محمد بن محمد بن أحمد بن دلويه، صاحب البخاري، وأبي حامد بن بلال، وجماعة، وتفرّد بالسماع من غير واحد، توفي يوم النّحر عن سنّ عالية.
__________
[1] لفظة «توفني» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .
[2] انظر «العبر» (3/ 95) .
[3] وهو مطبوع في دار النفائس ببيروت بتحقيق الدكتور عمر الأسعد.
[4] تحرّفت في «ط» إلى «الطيب» وهو مترجم في «العبر» (3/ 96) .

(5/41)


وفيها أبو أحمد الفرضي عبيد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن أبي مسلم [1] المقرئ، شيخ بغداد، قرأ على أحمد بن بويان، وسمع من يوسف [بن] البهلول الأزرق، والمحاملي.
قال الخطيب: كان ثقة، ورعا، ديّنا.
وقال العتيقي: ما رأينا في معناه مثله.
وقال الأزهري: إمام من الأئمة.
وقال الذهبي: عاش اثنتين وثمانين سنة.
وفيها أبو الهيثم عتبة بن خيثمة التميمي النيسابوري [2] القاضي، شيخ الحنفية بخراسان، كان عديم النظير في الفقيه والفتوى، تفقّه على أبي الحسين قاضي الحرمين، وأبي العبّاس التّبّان [3] ، وسمع لما حجّ من أبي بكر الشافعي وجماعة، وولي [قضاء] نيسابور [4] تسع سنين.
وفيها الإمام أبو بكر بن فورك- بضم الفاء وفتح الراء- الأستاذ محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني [5] المتكلم، صاحب التصانيف في الأصول والعلم. روى «مسند الطيالسي» عن أبي محمد بن فارس، وتصدّر للإفادة بنيسابور، وكان ذا زهد وعبادة، وتوسّع في الأدب، والكلام، والوعظ، والنحو.
قال الإسنوي في «طبقاته» : أقام بالعراق مدة يدرّس، ثم توجه إلى الرّيّ فشنعت [6] به المبتدعة، فراسله أهل نيسابور والتمسوا منه التوجّه إليهم
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 96) .
[2] انظر «العبر» (3/ 96- 97) .
[3] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «القبال» والتصحيح من «العبر» و «اللباب» (1/ 206) .
[4] ما بين حاصرتين مستدرك من «العبر» .
[5] انظر «العبر» (3/ 97) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 266- 267) .
[6] في «آ» و «ط» : «فسمعت» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الشافعية» للإسنوي.

(5/42)


ففعل، وورد نيسابور، فبني له بها مدرسة ودار [1] فأحيا الله تعالى به أنواعا من العلوم، وظهرت بركته على المتفقهة، وبلغت مصنفاته قريبا من مائة تصنيف، ثم دعي إلى مدينة غزنة من الهند، وجرت له بها مناظرات عظيمة، فلما رجع إلى نيسابور سمّ في الطريق، فمات، فنقل إلى نيسابور فدفن بها.
ونقل عن ابن حزم، أن السلطان محمود بن سبكتكين قتله [2] لقوله:
إن نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، ليس هو رسول الله اليوم، لكنه كان رسول الله. انتهى كلام الإسنوي ملخصا.
وفيها الشريف الرضي [3] نقيب العلويين، أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد الحسيني الموسوي البغدادي الشّيعي، الشاعر المفلق، الذي يقال: إنه أشعر قريش. ولد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وابتدأ بنظم الشعر وله عشر سنين، وكان مفرط الذكاء، له ديوان في أربع مجلدات، وقيل: إنه حضر [4] مجلس أبي سعيد السّيرافي فسأله ما علامة النصب في عمر؟ فقال: بغض عليّ، فعجبوا من حدّة ذهنه، ومات أبوه في سنة أربعمائة أو بعدها، وقد نيّف على التسعين، وأما أخوه الشريف المرتضى فتأخر. قاله في «العبر» .
وقال ابن خلّكان: ذكره الثعالبي في «اليتيمة» فقال: ابتدأ بقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل، وهو اليوم أبدع [أبناء [5] الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف، بأدب ظاهر
__________
[1] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «ودارا» .
[2] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «قبّله» وهو تصحيف فتصحح فيه.
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 414- 420) و «العبر» (3/ 97) و «غربال الزمان» ص (342) .
[4] في «العبر» : «أحضر» .
[5] تحرّفت في «وفيات الأعيان» إلى «أنشاء» فتصحح فيه، وانظر «يتيمة الدهر» (3/ 155) طبع دار الكتب العلمية.

(5/43)


وفضل] [1] باهر، وحظّ [2] من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين، من مضى منهم ومن غبر، على كثرة شعرائهم المفلقين، ولو قلت: إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، ويشهد بما أخبرته [3] شاهد عدل من شعره العالي القدح، الممتنع عن القدح [4] ، الذي يجمع إلى السلامة متانة، وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جناها ويبعد مداها، وكان أبوه يتولى قديما نقابة الطالبيين، ويحكم فيهم أجمعين، والنظر في المظالم والحجّ بالناس، ثم ردّت هذه الأعمال كلها إلى ولده المذكور في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وأبوه حيّ.
ومن غرر شعره، ما كتبه إلى الإمام القادر بالله من جملة قصيدة:
عطفا أمير المؤمنين فإنّنا ... في دوحة العلياء لا نتفرّق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدا كلانا في المعالي معرق [5]
إلّا الخلافة بيّنتك [6] فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوّق [7]
ومن قوله أيضا:
رمت المعالي فامتنعن ولم يزل ... أبدا يمانع عاشقا معشوق
فصبرت حتّى نلتهنّ ولم أقل ... ضجرا دواء الفارك التّطليق [8]
__________
[1] ما بين حاصرتين تكملة من «وفيات الأعيان» و «يتيمة الدهر» .
[2] في «آ» و «ط» : و «حظّه» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان و «يتيمة الدهر» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «بما أخبر به» وفي «اليتيمة» : «بما أجريه» .
[4] تحرّفت في «آ» إلى «الندح» .
[5] تحرّفت في «آ» إلى «مفرق» .
[6] في «ديوانه» و «وفيات الأعيان» و «اليتيمة» : «ميّزتك» .
[7] الأبيات في «ديوانه» (2/ 42) طبعة دار صادر.
[8] البيتان في «ديوانه (2/ 50) والفارك: الكاره. ولعله أراد بقوله «الفارك» المرأة الكارهة لزوجها.

(5/44)


وله من جملة أبيات:
يا صاحبيّ قفا لي واقضيا وطرا ... وحدّثاني عن نجد بأخبار
هل روّضت قاعة الوعساء أم مطرت ... خميلة الطّلح ذات البان والغار
أم هل أبيت ودار دون [1] كاظمة ... داراي وسمّار ذاك الحيّ سماري
تضوع أرواح نجد من ثيابهم ... عند القدوم [2] لقرب العهد بالدّار [3]
وذكر ابن جنّي، أنه تلقن القرآن بعد أن دخل في السن، فحفظه في مدة يسيرة، وصنّف كتابا في معاني القرآن يتعذر وجود مثله، دلّ على توسعه في علم النحو واللغة، وصنّف كتابا في مجازات القرآن، فجاء نادرا في بابه.
وقد عني بجمع ديوانه جماعة، وأجود ما جمع الذي جمعه أبو حكيم الخبري [4] .
وحكي أن بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضي بسرّ من رأى، وهو لا يعرفها، وقد أخنى عليها الزمان، وذهبت بهجتها، وأخلقت ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد لها بالنّضارة وحسن البشارة، فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان [5] وطوارق الحدثان، وتمثّل بقول الشريف الرضي المذكور:
ولقد وقفت على ربوعهم ... وطلولها بيد البلى نهب
فبكيت حتّى ضجّ من لغب ... نضوي وعجّ بعذلي الركب
__________
[1] في «ديوانه» : «عند» .
[2] في «ديوانه» : «عند النزول» .
[3] الأبيات في «ديوانه» (1/ 517) مع تقديم وتأخير ورواية البيت الأول منها فيه:
يا راكبان قفا لي واقضيا وطري ... وخبّر اني عن نجد بأخبار
[4] في «آ» و «ط» : «الحيري» وهو تصحيف، والتصحيح من «وفيات الأعيان» وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 558- 559) و «الأعلام» (4/ 63) .
[5] في «آ» : «الأزمان» .

(5/45)


وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عنها الطلول تلفّت القلب [1]
فمرّ به شخص فسمعه ينشد الأبيات، فقال: هل تعرف هذه الدار لمن؟ قال: لا، قال: هذه الدار لقائل هذه الأبيات الشريف الرضي فتعجب من حسن الاتفاق.
وكانت ولادة الرضي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ببغداد، وتوفي بكرة يوم الخميس سادس المحرم- وقيل صفر- سنة ست وأربعمائة [2] ببغداد، ودفن في داره بخطّ مسجد الأنباريين بالكرخ، وخربت الدار ودثر [3] القبر، ومضى أخوه المرتضى أبو القاسم إلى [4] مشهد موسى بن جعفر لأنه لا يستطيع أن ينظر إلى تابوته. وصلى عليه والوزير فخر الملك في الدار مع جماعة كثيرة. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها، كما قال ابن ناصر الدّين، أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الوهاب الإسفراييني [5] كان حافظا زائدا بالحفظ على أقرانه.
قال في «بديعة البيان» :
محمد بن أحمد ذاك أبو ... بكر وفا تحفظا فقربوا
__________
[1] الأبيات في «ديوانه» (1/ 181) مع شيء من الخلاف.
[2] حصل في «آ» تقديم وتأخير في هذه الجملة وأثبت ما جاء في «ط» وهو الصواب.
[3] في «وفيات الأعيان» : «ودرس» .
[4] في «آ» و «ط» : «على» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» (141/ ب) .

(5/46)


سنة سبع وأربعمائة
فيها كما قال في «الشذور» ورد الخبر بتشعث الركن اليماني من البيت الحرام، وسقوط حائط بين يدي قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ووقوع القبة الكبيرة التي على الصخرة ببيت المقدس [1] .
وفيها توفي أبو بكر الشيرازي [2] أحمد بن عبد الرحمن، الحافظ مصنّف كتاب «الألقاب» . كان أحد من عني بهذا الشأن، وأكثر الترحال في البلدان، ووصل بلاد التّرك، وسمع من الطبراني وطبقته.
قال عبد الرحمن بن مندة: مات في شوال.
وفيها أبو سعد [3] الخركوشي- بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وضم الكاف آخره معجمة، نسبة إلى خركوش سكة بنيسابور- عبد الملك بن أبي عثمان النيسابوري، الواعظ القدوة، صنّف كتاب «الزهد» وكتاب «دلائل النبوّة» وغير ذلك.
قال الحاكم: لم أر أجمع منه علما وزهدا وتواضعا وإرشادا إلى الله- زاده الله توفيقا، وأسعدنا بأيامه-.
__________
[1] انظر «النجوم الزاهرة» (4/ 241) .
[2] انظر «العبر» (3/ 98) .
[3] في «آ» و «ط» : و «العبر» (3/ 98) : «أبو سعيد» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (5/ 93) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 256) و «معجم البلدان» (2/ 360- 361) .

(5/47)


وقال الذهبي: روى عن حامد الرّفّاء وطبقته، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها أبو الفضل الفلكي علي بن الحسين بن أحمد بن الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي الهمذانيّ [1] . كان حافظا بارعا متقنا لهذا الشأن، له كتاب «المنتهى في الكمال في معرفة الرجال» كتبه في ألف جزء، ولم يبيّضه فيما يقال. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو عبد الله محمد بن أحمد بن شاكر القطّان [2] ، مؤلف «فضائل الشافعي» توفي في المحرم. روى عن عبد الله بن الورد [3] وطائفة.
وفيها أبو الحسين المحاملي محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبّي البغدادي [4] ، الفقيه الشافعي الفرضي، شيخ سليم الرّازي. روى عن إسماعيل الصفّار وطائفة.
وفيها الوزير فخر الملك أبو غالب بن الصيرفي محمد بن علي بن خلف [5] ، وزير بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بن بويه، وبعد وفاته وزر لولده سلطان الدولة أبي شجاع فنّا خسرو. ولد فخر الملك بواسط يوم الخميس ثاني عشري شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وكان من أعظم وزراء آل بويه على الإطلاق بعد ابن العميد، والصاحب بن عبّاد، وكان أبوه صيرفيا، وكان هو واسع النعمة، فسيح مجال الهمّة، جمّ الفضائل والأفعال، جزيل العطايا والنوال. قصده جماعة من أعيان الشعراء ومدحوه بنخب المدائح، منهم: مهيار الدّيلمي، وأبو نصر بن نباتة السعدي، له فيه قصائد مختارة، منها قصيدته النونية التي من جملتها:
__________
[1] انظر «تذكرة الحفاظ» (3/ 1125) و «الرسالة المستطرفة» ص (121) طبع دار البشائر الإسلامية.
[2] انظر «غربال الزمان» ص (342) .
[3] الذي في «العبر» : «عبد الله بن جعفر بن الورد» . (ع) .
[4] انظر «العبر» (3/ 99) و «غربال الزمان» (342) .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 124- 127) و «العبر» (3/ 99) و «غربال الزمان» ص (343) .

(5/48)


لكل فتى قرين حين يسمو ... وفخر الملك ليس له قرين
أنخ بجنابه واحكم عليه ... بما أمّلته وأنا الضمين
قال بعض علماء الأدب: مدح بعض الشعراء فخر الملك بعد هذه القصيدة، فأجازه إجازة لم يرضها، فجاء إلى ابن نباتة، وقال: أنت غريتني وأنا ما مدحته إلّا ثقة بضمانك، فأعطني ما يليق بقصدي [1] ، فأعطاه من عنده شيئا رضي به، فبلغ ذلك فخر الملك، فسيّر لابن نباتة جملة مستكثرة لهذا السبب.
ومدائح فخر الملك مستكثرة، ولأجله صنّف أبو بكر محمد بن الحاسب الكرجي كتاب «الفخري» في الجبر والمقابلة، وكتاب «الكافي» في الحساب.
ورفع إليه رجل شيخ رقعة يسعى فيها بهلاك شخص، فكتب فخر الملك في ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أكثر من الربح، ومعاذ الله أن نقبل من مهتوك في مستور، ولولا أنك في خفارة من شيبك لقابلناك بما يشبه مقالك، ونردع به أمثالك، فاكتم هذا العيب، واتق من يعلم الغيب، والسلام.
ومحاسن فخر الملك كثيرة، ولم يزل في عزّه وجاهه وحرمته إلى أن نقم عليه مخدومه سلطان الدولة لسبب اقتضى ذلك، فحبسه ثم قتله بسفح جبل قريب من الأهواز، يوم السبت سابع عشري ربيع الأول، وقيل: آخره، ودفن هناك، ولم يستقص دفنه، فنبشت الكلاب قبره وأكلته، ثم أعيد دفن رمته، فشفع فيه بعض أصحابه، فنقلت عظامه إلى مشهد هناك، فدفنت في السنة التي بعدها.
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : «فأعطني ما يليق بقصدي» وفي «وفيات الأعيان» «فأعطني بمثل ما يليق بقصيدي» .

(5/49)


سنة ثمان وأربعمائة
فيها وقعت فتنة عظيمة بين السّنّة والشيعة، وتفاقمت [1] وقتل طائفة من الفريقين، وعجز صاحب الشرطة عنهم، وقاتلوه، فأطلق النيران في سوق نهر الدجاج [2] .
وفيها استتاب القادر بالله- وكان صاحب سنّة- طائفة من المعتزلة والرافضة، وأخذ خطوطهم بالتوبة، وبعث إلى السلطان محمود بن سبكتكين، يأمره ببثّ السّنّة بخراسان، ففعل ذلك وبالغ، وقتل جماعة، ونفى جماعة كثيرة من المعتزلة، والرافضة، والإسماعيلية، والجهمية، والمشبهة، وأمر بلعنهم على المنابر.
وفيها قتل الدّرزي [3] وقطّع لكونه ادّعى ربوبية الحاكم.
وفيها توفي ابن ثرثال، أبو الحسن أحمد بن عبد العزيز بن أحمد التّيمي البغدادي [4] في ذي القعدة بمصر، وله إحدى وتسعون سنة. روى عن
__________
[1] في «آ» : «وتقاتلت» وأثبت لفظ «ط» وهو موافق لما في «العبر» .
[2] انظر «العبر» (3/ 100) .
[3] في «آ» و «ط» و «غربال الزمان» : «الدّوري» والتصحيح من «العبر» (3/ 100) و «النجوم الزاهرة» (4/ 184) وهو محمد بن إسماعيل الدّرزي، أبو عبد الله، وإليه نسبة الطائفة الدرزيّة. انظر ما كتبه عنه العلّامة الأستاذ خير الدّين الزركلي رحمه الله في كتابه النفيس «الأعلام» (6/ 35) .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 220- 221) .

(5/50)


المحاملي ومحمد بن مخلد، وله جزء واحد رواه عنه الصّوري، والحبّال.
وفيها عطية بن سعيد [1] ، الأندلسي القفصي- بفتح القاف وسكون الفاء، نسبة إلى قفصة، بلدة في طرف إفريقية- كنيته أبو محمد كان حافظا صوفيا زاهدا علّامة مكثرا خيرا. قاله ابن ناصر الدّين [2] .
وفيها ابن البيع، أبو محمد عبد الله بن عبيد الله بن يحيى البغدادي [3] المؤدّب، صاحب المحاملي، وثّقه الخطيب، ومات في رجب.
وفيها اليزدي، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر الجرجاني [4] محدّث أصبهان. روى عن محمد بن الحسين القطّان، والأصم، وطبقتهما، وتوفي في رجب.
وفيها أبو الفضل الخزاعي محمد بن محمد بن جعفر بن عبد الكريم الجرجاني [5] المقرئ، مصنّف كتاب «الواضح» ، وكان كثيرا التطواف في طلب القراءات. أخذ عن الحسن بن سعيد المطّوّعي وطبقته، وكان غير ثقة ولا صادق. قاله في «العبر» .
وفيها أبو عمر البسطامي، محمد بن الحسين بن محمد بن الهيثم [6] ، الفقيه الشافعي، قاضي نيسابور، وشيخ الشافعية بها. رحل وسمع الكثير، ودرّس المذهب، وأملى عن [7] الطبراني وطبقته.
__________
[1] في «آ» : «ابن سعد» وهو خطأ وأثبت لفظ «ط» وهو الصواب.
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (141/ ب- 142/ آ) .
[3] انظر «العبر» (3/ 101) .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 286- 287) .
[5] انظر «العبر» (3/ 101) و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 380) و «غربال زمان» ص (343) .
[6] انظر «العبر» (3/ 101) .
[7] في «آ» و «ط» : «على» وما أثبته من «العبر» .

(5/51)


قال ابن شهبة [1] : سمع العراق، والأهواز، وأصبهان، وسجستان، وأملى، وحدّث، وأقرأ المذهب، وكان في ابتداء أمره يعقد مجلس الوعظ والتذكير، ثم تركه وأقبل على التدريس، والمناظرة، والفتوى، ثم ولي قضاء نيسابور سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، فأظهر أهل الحديث من الفرح، والاستبشار، [والاستقبال] ، ما يطول شرحه، وكان نظير [أبي الطيب] سهل [بن محمد] الصّعلوكي حشمة، وجاها، وعلماء، فصاهره سهل، وجاء بينهما جماعة سادة فضلاء. توفي في ذي القعدة سنة ثمان، وقيل: سبع وأربعمائة. انتهى.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 187) وما بين حاصرتين زيادة منه، وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.

(5/52)


سنة تسع وأربعمائة
فيها قرئ في الموكب كتاب بمذاهب السّنّة، وقيله فيه: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدّم. قاله في «الشذور» .
وفيها توفي أبو الحسين بن المتيّم [1] أحمد بن محمد بن أحمد بن حمّاد البغدادي الواعظ، في جمادى الآخرة، له جزء مشهور. روى عن المحاملي وجماعة.
وفيها ابن الصّلت الأهوازي، أحمد بن محمد بن أحمد بن موسى بن هارون بن الصّلت [2] ، ولد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وسمع من المحاملي، وابن عقدة، وجماعة، وهو ثقة.
وفيها عبد الله بن يوسف بن أحمد بن باموية [3] ، الشيخ أبو محمد، المعروف بالأصبهاني، وإنما هو أردستاني- بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح المهملة [4] فسكون المهملة ففتح الفوقية، نسبة إلى أردستان، بلد قرب أصفهان، وقيل: هو بكسر الهمزة- نزل نيسابور، وكان من كبار الصوفية وثقات المحدّثين الرّحالة. روى عن أبي سعيد بن الأعرابي، ومحمد بن
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 102) .
[2] انظر «الأنساب» (1/ 177- 178) و «العبر» (3/ 102) .
[3] في «آ» و «ط» و «الأنساب» (1/ 178) : «مامويه» وفي «معجم البلدان» : «بابويه» والتصحيح من «تبصير المنتبه» (1/ 56) .
[4] وضبطه ياقوت «الأردستاني» بكسر الدال. انظر «معجم البلدان» (1/ 146) .

(5/53)


الحسين القطّان، وجماعة، وتوفي في رمضان، وله أربع وتسعون سنة.
وفيها عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان الأزدي المصري السمرقندي [1] صاحب التصانيف، كان ثقة صاحب سنّة، حافظا علّامة، من تآليفه كتاب «المؤلف والمختلف» . مات في سابع صفر وله سبع وسبعون سنة. روى عن عثمان بن محمد السمرقندي، وإسماعيل بن الجراب [2] ، والدارقطني، وطبقتهم، ورحل إلى الشام، فسمع من الميانجي وطبقته، وكان الدارقطني يفخم أمره ويرفع ذكره، ويقول: كأنه شعلة نار.
وقال [3] منصور الطرسوسي: خرجنا نودع الدارقطني بمصر فبكينا، فقال:
تبكون وعندكم عبد الغني، وفيه الخلف.
وقال البرقاني: ما رأيت بعد الدارقطني أحفظ من بعد الغني.
وقال ابن خلّكان [4] : انتفع به خلق كثير، وكانت بينه وبين أبي أسامة جنادة اللغوي، وأبي علي المقرئ الأنطاكي مودّة أكيدة، واجتماع في دار الكتب، ومذاكرات، فلما قتلهما الحاكم صاحب مصر، استتر بسبب ذلك الحافظ عبد الغني خوفا أن يلحق بهما لاتهامه بمعاشرتهما، وأقام مستخفيا مدة حتّى حصل له الأمن، فظهر.
وقال أبو الحسن علي بن بقا، كاتب الحافظ عبد الغني: سمعت الحافظ عبد الغني يقول: رجلان جليلان لزمهما لقبان قبيحان: معاوية بن عبد الكريم الضّالّ، لم يكن ضالّا، وإنما ضلّ في طريق مكّة، وعبد الله بن محمد الضعيف، كان ضعيفا في جسمه لا في حديثه. انتهى ملخصا.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 102- 103) و «غربال الزمان» ص (344) .
[2] في «آ» : «وإسماعيل الجراب» .
[3] في «آ» و «ط» : «وكان» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 223) .

(5/54)


وفيها القاسم بن أبي المنذر الخطيب أبو طلحة القزويني [1] ، راوي «سنن ابن ماجة» عن أبي الحسن القطّان عنه، توفي في هذا العام، أو في الذي بعده.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 103) .

(5/55)


سنة عشر وأربعمائة
فيها كما قال في «الشذور» ورد إلى القادر كتاب من عين الدولة محمود بن سبكتكين يذكر ما افتتحه من بلاد الهند، فيه: إني فتحت قلاعا وحصونا، وأسلم زهاء عشرين ألفا من عبّاد الأوثان، وسلّموا قدر ألف ألف درهم من الورق [1] وبلغ عدد الهالكين منهم خمسين ألفا، ووافى العبد مدينة لهم، عاين فيها زهاء ألف قصر مشيد وألف بيت الأصنام، ومبلغ ما في الصنم ثمانية وتسعون ألف مثقال وثلاثمائة مثقال، وقلع من الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم، فحصل منهم عشرون ألف ألف درهم، وأفرد خمس الرقيق، فبلغ ثلاثة وخمسين ألفا، واستعرض ثلاثمائة وستة وخمسين فيلا. انتهى.
وقال الذهبي [2] : وكان جيشه ثلاثين ألف فارس، سوى الرّجالة والمطّوّعة.
وقال ابن الأهدل: فتح ما لم يبلغه أحمد في الإسلام، وبنى فيها- أي الهند- مساجد، وكسر الصنم المشهور «بسر منات» وهو عند كفرة الهند يحيي ويميت، ويقصدونه لأنواع العلل، ومن لم يشف منهم الحتجّ بالذنب
__________
[1] الورق: الدراهم المضروبة. انظر «مختار الصحاح» (ورق) .
[2] انظر «العبر» (3/ 104) ، وانظر الخبر بطوله في «غربال الزمان» ص (344- 345) .

(5/56)


وعدم الإخلاص، ويزعمون أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه على مذهب أهل التناسخ، ويتركها فيمن شاء، وأن مدّ البحر وجزره عبادة له، ويتحفه كل ملوك الهند والسّند بخواص ما عندهم، حتّى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية، وخدمه من البراهمة ألف رجل، وثلاثمائة يحلقون رؤوسهم ولحاهم عند الورود، وثلاثمائة امرأة يغنون ويضربون عند بابه، وبين قلعة الصنم وبلاد المسلمين مسيرة شهر، مفازة قليلة الماء، صعبة المسالك، لا تهتدى طرقها، فأنفق محمود ما لا يحصى في طلبها، حتّى وصلها وفتحها في ثلاثة أيام، ودخل بيت الصنم وحوله أصنام كثيرة من الذهب المرصّع بالجوهر، محيطة بعرشه، يزعمون أنها الملائكة، فأحرق الصنم، ووجد في أذنه نيفا وثلاثين حلقة، فسألهم محمود عن تلك الحلق، فقالوا: كل حلقة عبادة ألف سنة، كلما عبدوه ألف سنة، علّقوا في أذنه حلقة، ولهم فيه أخبار طويلة. انتهى.
وفيها توفي الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني [1] صاحب «التفسير» و «التاريخ» والتصانيف التي منها «المستخرج على صحيح البخاري» لستّ بقين من رمضان، وقد قارب التسعين. سمع بأصبهان، والعراق، وروى عن أبي سهل بن زياد القطّان وطبقته، وعنه عبد الرحمن بن مندة وأخوه عبد الوهاب، وخلق كثير، وكان إماما في الحديث، بصيرا بهذا الشأن.
وفيها الحافظ أبو بكر الشيرازي، أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد [2] بن موسى الفارسي [3] الجوّال، صاحب كتاب «ألقاب الرجال» كان
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 104) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 308- 311) و «التبيان شرح بديعة البيان» (142/ آ) .
[2] في «آ» : «ابن أحمد بن أحمد» وأثبت لفظ «ط» وهو الصواب.
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 242- 245) و «التبيان شرح بديعة البيان» (142/ ب- 143 آ) .

(5/57)


حافظا، وصدوقا متقنا. ذكره ابن ناصر الدّين في «بديعته» وأثنى عليه، وعدّه من الحفّاظ، لكن جزم بموته في السنة التي بعدها.
وفيها أبو القاسم الشّيباني، عبد الرحمن بن عمر بن نصر الدمشقي [1] المؤدّب، في رجب. روى عن خيثمة وطبقته، واتهموه في لقاء [2] أبي إسحاق بن أبي ثابت، ويذكر عنه الاعتزال. قاله في «العبر» [3] .
وفيها ابن بالويه المزكّي أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن بالويه النيسابوري [4] . آخر من روى عن محمد بن الحسين القطان، وكان ثقة نبيلا وجيها، توفي فجاءة [5] في شعبان، وكان يملي في داره.
وفيها ابن بابك، الشاعر المشهور، عبد الصمد بن منصور بن الحسين بن بابك [6] ، أحد الشعراء المجيدين المكثرين، ديوانه في ثلاث مجلدات، وله أسلوب رائق في نظم الشعر، وجاب البلاد، ومدح الرؤساء- وبابك بفتح الموحدتين- قال له الصاحب بن عبّاد: أنت ابن بابك؟ فقال:
ابن بابك، فأعجب به غاية الإعجاب.
ومن شعره:
وأغيد معسول الشمائل زارني ... على فرق والنجم حيران طالع
فلما جلى صبح [7] الدّجى قلت حاجب ... من الصبح أو قرن من الشمس لامع
إلى أن دنا والسّحر رائد طرفه ... كما ريع ضبي بالصّريمة راتع
فنازعته الصهباء والليل دامس ... رقيق حواشي البرد والنّسر واقع
__________
[1] انظر «ميزان الاعتدال» (2/ 580) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 262) .
[2] في «آ» و «ط» و «العبر» بطبعتيه: «في لقي» وما أثبته من «سير أعلام النبلاء» (17/ 262) .
[3] (3/ 104) .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 240- 241) و «العبر» (3/ 104) .
[5] في «العبر» و «سير أعلام النبلاء» : «فجأة» وكلاهما صحيح.
[6] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 196- 198) و «العبر» (3/ 104- 105) .
[7] في «وفيات الأعيان» : «صبغ» .

(5/58)


عقارا [1] عليها من دم الصّبّ بعضه [2] ... ومن عبرات المستهام فواقع
تدير [3] إذا شحّت [4] عيونا كأنها ... عيون العذارى شقّ عنها البراقع
معوّدة غصب العقول كأنما [5] ... لها عند ألباب الرجال ودائع
فبتنا وظلّ الوصل دان وسرّنا ... مصون ومكتوم الصبابة ذائع
إلى أن سلا عن ورده فارط الغطا ... ولاذت بأطراف الغصون السّواجع
فولّى أسير السّكر يكبو لسانه ... فتنطق عنه بالوداع الأصابع
وله أيضا:
يا صاحبي امزجا كأس المدام لنا ... كيما يضيء لنا من نورها الغسق
خمرا إذا ما نديمي همّ يشربها ... أخشى عليه من اللألاء يحترق
لو رام يحلف أن الشمس ما غربت ... في فيه كذّبه في وجهه الشّفق
وله بيت من قصيدة وهو الغاية رقّة:
ومرّ بي النسيم فرقّ حتّى ... كأني قد شكوت إليه ما بي
وتوفي ببغداد رحمه الله تعالى.
وفيها أبو عمر بن مهدي، عبد الواحد بن محمد بن عبد الله الفارسي ثم البغدادي البزّاز [6] آخر أصحاب المحاملي، وابن مخلد، وابن عقدة.
قال الخطيب: ثقة. توفي في رجب، وله اثنتان وتسعون سنة.
وفيها القاضي أبو منصور الأزدي [7] محمد بن محمد بن عبد الله
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «عقار» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «نفضة» .
[3] في «آ» و «ط» : «تذر» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[4] في «وفيات الأعيان» : «شجت» .
[5] في «آ» و «ط» : «كأنها» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[6] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 13- 14) و «العبر» (3/ 105) .
[7] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 274) و «العبر» (3/ 105) .

(5/59)


الفقيه، شيخ الشافعية بهراة، ومسند البلد، رحل وسمع ببغداد من أحمد بن عثمان الأدمي، وبالكوفة من ابن دحيم وطائفة، توفي فجاءة في المحرم.
وفيها أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش [1]- بميم مفتوحة وحاء مهملة ساكنة، بعدها ميم مكسورة، ثم شين معجمة- ابن علي بن داود بن أيوب الأستاذ، الزّيادي، الفقيه الشافعي، عالم نيسابور ومسندها. ولد سنة سبع عشرة وثلاثمائة [2] وسمع سنة خمس وعشرين من أبي حامد بن بلال، ومحمد بن الحسين القطان، وعبد الله بن يعقوب الكرماني، وخلق، وأملى ودرّس، وكان قانعا متعفّفا، له مصنّف في علم الشروط، وروى عنه الحاكم مع تقدمه عليه، وأثنى عليه، وعرف بالزّيادي لأنه كان يسكن ميدان زياد بن عبد الرحمن.
وقال ابن السمعاني: إنما سمّي بذلك نسبة إلى بعض أجداده.
وفيها هبة الله [بن] سلامة بن أبي القاسم البغدادي [3] المفسّر، مؤلف كتاب «الناسخ والمنسوخ» وجدّ رزق الله التميمي لأمه. كان من أحفظ الأئمة للتفسير، وكان ضريرا، له حلقة بجامع المنصور.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 105) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 276- 278) .
[2] تنبيه: كذا في كتابنا و «الأنساب» (6/ 336) و «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 245) و «العبر» (3/ 105) و «طبقات الشافعية الكبرى» (4/ 198) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 609) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 193) : «ولد سنة سبعة عشرة وثلاث مائة» وفي «سير أعلام النبلاء» (17/ 277) : «سنة سبع وعشرين وثلاث مائة» وهو خطأ فيصحح فيه.
[3] انظر «نكت الهيمان» ص (302) و «العبر» (3/ 106) و «طبقات المفسرين» للداودي (2/ 347- 348) . وما بين حاصرتين مستدرك منها.

(5/60)