شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وستين وأربعمائة
في نصف شعبان منها، احترق جامع دمشق كله من حرب وقع بين الدولة، فضربوا بالنار دارا مجاورة للجامع، فقضي الأمر، واشتد الخطب، وأتى الحريق على سائره، ودثرت محاسنه، وانقضت مدة ملاحته. قاله في «العبر» [1] .
وفيها توفي الفوراني، أبو القاسم، عبد الرحمن بن محمد بن فوران- بالضم- المروزي، شيخ الشافعية وتلميذ القفال، وذو التصانيف الكثيرة، وعنه أخذ أبو سعد [2] المتولّي صاحب «التتمة» ، وكان صاحب «النهاية» يحطّ على الفوراني بلا حجة.
قال الإسنوي [3] : تفقه القفّال، وبرع حتّى صار شيخ الشافعية [بمرو] ، وصنّف «الإبانة» وهو كتاب معروف كثير الوجود، و «العميد» [4] وهو غريب عزيز الوجود. انتهى ملخصا.
__________
[1] (3/ 249) .
[2] في «آ» و «ط» و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 305) : «أبو سعيد» وهو تحريف، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (3/ 133) و «العبر» (3/ 249) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 585) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 255) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[4] كذا في «آ» و «ط» : «العميد» وفي «طبقات الشافعية الكبرى» (5/ 110) : «العمد» وفي «طبقات الشافعية» للإسنوي: «العمدة» .

(5/257)


وفيها عبد الرحيم التميمي بن أحمد البخاري الحافظ، أبو زكريا، ذو الرحلة الواسعة. سمع ببخارى من الحليمي، وبخراسان من أبي يعلى المهلّبي، وبدمشق من تمّام، وبمصر من عبد الغني، وببغداد من أبي عمر بن مهدي.
قال ابن ناصر الدّين [1] : كان من الحفّاظ الثقات، والرحّالين الأثبات.
انتهى.
وعاش تسعا وسبعين سنة.
وفيها أبو الحسين محمد بن مكي بن عثمان الأزدي المصري. روى بمصر ودمشق عن أبي الحسن الحلبي، ومحمد بن أحمد الإخميمي، وطبقتهما، وتوفي في جمادى الأولى بمصر، وله ست وسبعون سنة، ووثّقه الكتّاني وغيره.
وفيها مقرئ مصر، أبو الحسين نصر بن عبد العزيز الفارسي الشّيرازي، شيخ ابن الفحّام. قرأ القراءات على السوسنجردي، وابن الحمّامي، وجماعة. وروى الحديث عن أبي الحسين بن بشران، وحدّث عنه روزبه [2] بن موسى.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (150/ آ) .
[2] في «آ» و «ط» : «ودوزبة» والتصحيح من «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 422) ..

(5/258)


سنة اثنتين وستين وأربعمائة
فيها كما قال في «الشذور» كانت زلزلة بالرملة، فذهب أكثرها، وعمّ ذلك بيت المقدس، وانخسفت إيلة كلها، وانجفل البحر وقت الزلزلة، حتّى انكشفت أرضه، ثم عاد. انتهى.
وفيها كما قال في «العبر» [1] نزلت [2] جيوش الرّوم، فنزلوا على منبج، واستباحوها، وأسرعوا الكرّة، لفرط القحط، أبيع فيهم رطل الخبز بدينار.
وفيها أقيمت الخطبة العباسيّة بالحجاز، وقطعت خطبة المصريين لاشتغالهم بما هم فيه من القحط والوباء الذي لم يسمع في الدهور بمثله، وكاد الخراب يستولي على وادي مصر، حتّى إن صاحب «مرآة الزمان» نقل أن امرأة خرجت وبيدها مدّ جوهر، فقالت: من يأخذه بمدّ برّ، فلم يلتفت إليها أحد، فألقته في الطريق، وقالت: هذا ما نفعني وقت الحاجة، فلا أريده، فلم يلتفت أحد إليه.
وفيها توفي القاضي حسين [3] بن محمد بن أحمد أبو علي
__________
[1] (3/ 250- 251) .
[2] في «العبر» : «أقبلت» .
[3] في «آ» و «ط» : «الحسين» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .

(5/259)


المرّوذي [1] المرورّوذي، شيخ الشافعية في زمانه، وأحد أصحاب الوجوه، تفقه على أبي بكر القفّال، وهو والشيخ أبو علي أنجب تلامذته. وروى عن أبي نعيم الإسفراييني.
قال عبد الغفار: كان فقيه خراسان، وكان عصره تاريخا به.
وقال الرافعي في «التذنيب» [2] : إنه كان كبيرا غوّاصا في الدقائق، من الأصحاب الغرّ الميامين، وكان يلقب بحبر الأمة.
وقال النووي في «تهذيبه» [3] : وله «التعليق الكبير» [4] وما أجزل فوائده وأكثر فروعه المستفادة، وله «الفتاوى» المشهورة، وكتاب «أسرار الفقه» وغير ذلك، وممّن أخذ عنه أبو سعد [5] المتولي، والبغوي.
قال: ويقال: إنّ أبا المعالي تفقه عليه أيضا.
ومتى أطلق القاضي في كتب متأخري المراوزة فالمراد المذكور.
وقال ابن الأهدل: متى أطلق القاضي في فروع الشافعية فهو هو، وفي كتب أصول أهل السّنّة فهو الباقلاني، وإذا قالوا: القاضيان فهو هو وعبد
__________
فائدة: قال الإمام النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 165) : أعلم أنه متى أطلق القاضي في كتب متأخري الخراسانيين كالنهاية، و «التتمة» و «التهذيب» وكتب الغزالي ونحوها، فالمراد القاضي حسين. ومتى أطلق القاضي في كتب متوسط العراقين، فالمراد القاضي أبو حامد المروذي. ومتى أطلق في كتب الأصول لأصحابنا، فالمراد القاضي أبو بكر الباقلاني الإمام المالكي في الفروع. ومتى أطلق في كتب المعتزلة أو كتب أصحابنا الأصوليين حكاية عن المعتزلة، فالمراد به القاضي الجبّائي، والله أعلم.
[1] في «آ» و «ط» : «المروزي» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (18/ 261) وانظر التعليق عليه.
[2] واسمه الكامل «التذنيب في الفروع» . انظر «كشف الظنون» (1/ 394) .
[3] انظر «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 164- 165) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرف.
[4] في «سير أعلام النبلاء» : «التعليقة الكبرى» .
[5] في «آ» و «ط» : «أبو سعيد» والصواب ما أثبته.

(5/260)


الجبّار المعتزلي، وإذا قالوا: الشيخ، فهو أبو الحسن الأشعري، وإذا أطلقه [1] الفقهاء، فهو أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين. انتهى.
وفيها أبو غالب بن بشران الواسطي، صاحب اللغة، محمد بن أحمد بن سهل المعدّل الحنفي، ويعرف بابن الخالة، وله اثنتان وثمانون سنة. ولم يكن بالعراق أعلم منه باللغة. روى عن أحمد بن عبيد بن بيري وطبقته.
وفيها شعبة النّسفي الحافظ، أبو اللّيث، أحمد بن جعفر بن مدني بن عيسى بن عدنان بن محمود النّسفي الكائني، الملقب شعبة، ختن الإمام جعفر المستغفري، وهو الذي بشعبة لقّبة، لما رأى من حذقه وحفظه وأعجبه. سمع وهو شاب بسمرقند الكثير، وحدّث بها وهو شيخ كبير، وذكره في حفّاظ سمرقند أبو حفص النسفي في كتابه «القند» [2] . قاله ابن ناصر الدّين [3] .
وفيها أبو عبد الله محمد بن عتّاب الجذامي مولاهم المالكي، مفتي قرطبة وعالمها ومحدّثها وورعها، توفي في صفر ومشى في جنازته المعتمد بن عبّاد [4] ، وله تسع وسبعون سنة. روى عن أبي المطرّف القنازعي، وخلق.
__________
[1] في «ط» : «أطلقته» .
[2] واسمه الكامل «القند في تاريخ سمرقند» وهو لأبي حفص نجم الدّين عمر بن محمد النسفي السمرقندي المتوفى سنة (537) هـ-. انظر «كشف الظنون» (2/ 1356) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (150) آ- 150 ب) .
[4] في «آ» و «ط» : «أحمد بن عبّاد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 252) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 330) .

(5/261)


سنة ثلاث وستين وأربعمائة
فيها كما قال ابن الأهدل، خرج أرمانوس الرّومي في مائتي ألف فارس من الرّوم، والفرنج، والكزج- بالزّاي والجيم-[1] وأرسل إليه السلطان ألب أرسلان يريد المهادنة، فأبى، فاستعد للشهادة، وعهد إلى ولده ملكشاه، ثم حمل عليهم في خمسة عشر ألف فارس، فأعطاه الله النصر، وقتل ما لا يحصى، وأسير كثيرا، وجيء بملكهم إلى بين يديه، فضربه بيده، ثم فاداه يألف ألف وخمسمائة ألف دينار، وبكل أسير معهم من المسلمين، ولما أطلقه خلع عليه وهادنه خمسين سنة وزوّده عشرة آلاف دينار، انتهى.
وفيها توفي أبو حامد الأزهري، أحمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن الأزهر النيسابوري الشّروطي [2] الثقة. روى عن [أبي] محمد المخلدي، وجماعة، ومات في رجب عن تسع وثمانين سنة، وآخر أصحابه وجيه [3] .
وفيها أبو بكر الخطيب، أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، الحافظ، أحد الأئمة الأعلام، وصاحب التآليف المنتشرة في
__________
[1] تنبيه: كذا قال المؤلف رحمه الله، وهو وهم منه، والصواب: «الكرج» بالراء وهم جيل من الناس نصارى كانوا يسكنون في جبال القبق: وانظر «معجم البلدان» (4/ 446) و «العبر» (3/ 253) و «مرآة الجنان» (3/ 86) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 254- 255) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[3] يعني وجيه بن طاهر الشحامي المتوفى سنة (542) هـ، وسوف ترد ترجمته في المجلد السادس إن شاء الله تعالى.

(5/262)


الإسلام. ولد في جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وسمع أوّل سنة ثلاث وأربعمائة، وتفقه في مذهب الشافعي على القاضي أبي الطّيب الطبري، وأبي الحسن المحاملي، وغيرهما، وروى عن أبي عمر بن مهدي، وابن الصّلت الأهوازي، وطبقتهما.
قال ابن ماكولا: كان أحد الأعيان ممّن شاهدناه، معرفة، وحفظا، وإثباتا، وضبطا لحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتفنّنا في علله وأسانيده، وعلما بصحيحه وغريبه، وفرده ومنكره [ومطروحة] [1] . قال: ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله.
وقال ابن السمعاني [2] : كان مهيبا، وقورا، ثقة، متحريا، حجّة، حسن الخط [3] ، كثير الضبط، فصيحا، ختم به الحفّاظ.
وقال غيره: كان يتلو في كل يوم وليلة ختمة، وكان حسن القراءة، جهوري الصوت، وله «تاريخ بغداد» الذي لم يصنّف مثله.
وقال ابن الأهدل: تصانيفه قريب من مائة مصنّف في اللغة، وبرع فيه، ثم غلب عليه الحديث والتاريخ، وكان الشيخ أبو إسحاق [4] يراجعه في الحديث، ويعمل بقوله، وحمل نعشه يوم مات، وكان أبو بكر بن أزهر الصوفي قد أعدّ لنفسه قبرا إلى جانب قبر بشر الحافي، وكان يبيت فيه في الأسبوع مرّة ويقرأ فيه القرآن كله، وكان الخطيب قد أوصى أن يدفن إلى جانب بشر الحافي، فسأل المحدّثون ابن أزهر أن يؤثرهم بقبره للخطيب، فامتنع، فألحّ عليه الشيخ أبو سعيد الصوفي، فسمح، فدفن فيه الخطيب، وكان قد تصدّق بجميع ماله،
__________
[1] زيادة من «سير أعلام النبلاء» (18/ 275) وانظر التعليق عليه.
[2] نقل المؤلف هذا الخبر عن «الذيل» للسمعاني كما هو مبين في «سير أعلام النبلاء» (18/ 277) .
[3] في «آ» : «حسن الحفظ» وما جاء في «ط» موافق لما عند الذهبي في «سير أعلام النبلاء» .
[4] يعني الشيرازي.

(5/263)


وهو مائتا دينار على العلماء والفقراء، وأوصى أن يتصدّق بثيابه، ووقف كتبه على المسلمين، ولم يكن له عقب. انتهى.
وفيها ابن زيدون، شاعر الأندلس، أبو الوليد، أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي القرطبي، الشاعر المشهور.
قال ابن بسام صاحب «الذخيرة» [1] في حقه: كان أبو الوليد غاية [2] منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء بني مخزوم، أحد من جرّ الأيام جرّا، وفات الأنام طرّا، وصرّف السلطان نفعا وضرّا، ووسع البيان نظما ونثرا، إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألّقه، وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه. وحظ [3] من النثر، غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني.
وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة، وبرع [4] أدبه، وجاد شعره، وعلا شأنه، وانطلق لسانه.
ثم انتقل من قرطبة إلى المعتمد بن عبّاد صاحب إشبيلية سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، فجعله من خواصه، يجالسه في خلواته، ويركن إلى إشاراته، وكان معه في صورة وزير، وذكر له شيئا كثيرا من الرسائل والنظم فمن ذلك قوله:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سرّ إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعا حظّه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أنّك إن حمّلت قلبي ما ... لا تستطيع قلوب الناس يستطع
ته أحتمل واستطل أصبر وعزّ أهن ... وولّ أقبل وقل أسمع ومر أطع
__________
[1] انظر المجلد الأول من القسم الأول ص (336- 433) .
[2] في «الذخيرة» : «صاحب» وعلق محقّقه الأستاذ الدكتور إسحان عبّاس بقوله: في «ب س» :
«غاية» .
[3] في «آ» و «ط» : «وخط» والتصحيح من «الذخيرة» .
[4] في «الذخيرة» : «وفرّع» .

(5/264)


ومن شعره:
ودّع الصبر محبّ ودّعك ... ذائع من سرّه ما استودعك
يقرع السّنّ على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذا شيّعك
يا أخا البدر سناء وسنا ... حفظ الله زمانا أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بتّ أشكو قصر الليل معك
وله القصائد الطنّانة ومن بديع قصائده القصيدة النونية التي منها:
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت ... سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
بالأمس كنّا ولا نخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا
وهي طويلة كل أبياتها نخب.
وله في ولّادة «الرسالة الطنانة» وكذا «الرسالة الجهورية» وشرح كلّ من رسالتيه هاتين.
وما جراياته مع ابن جهور لما حبسه وفرّ منه بعد أن استعطفه بكل ممكن فلم يطلقه، مشهورة فلا نطيل بها.
وفيها أبو علي حسّان بن سعيد المنيعي- نسبة إلى منيع جدّ- كان حسّان هذا رئيس مرو الرّوذ الذي عمّ خراسان ببرّه وإفضاله، وأنشأ الجامع المنيعي، وكان يكسي في العام نحو ألف نفس، وكان أعظم من وزير، رحمه الله. روى عن أبي طاهر بن محمش وجماعة، وكان خطيب جامعه إمام الحرمين، وأصل ماله من التجارة، حتّى قال السلطان: في مملكتي من لا يخافني، وإنما يخاف الله عزّ وجل، يعنيه، وكان على قدم من الجدّ والاجتهاد والمعرفة. روى عنه البغوي وجماعة.
قال الإسنائي: هو من ذريّة خالد بن الوليد رضي الله عنه.

(5/265)


وفيها أبو عمر المليحي- بالفتح والتحتية، نسبة إلى مليح بلد بمصر- عبد الواحد بن أحمد بن أبي القاسم الهروي المحدّث. راوي «الصحيح» عن النّعيمي في جمادى الآخرة، وله ست وتسعون سنة. سمع بنيسابور من المخلدي، وأبي الحسين الخفّاف، وجماعة، وكان [ثقة] صالحا، أكثر عنه محيي السّنّة [1] .
وفيها كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم، أمّ الكرام المروزيّة، المجاورة بمكّة. روت «الصحيح» عن الكشميهني، وروت عن زاهر السرخسي، وكانت تضبط كتابها وتقابل بنسخها. لها فهم ونباهة، وما تزوجت قطّ، وقيل: إنها بلغت المائة. قاله في «العبر» [2] .
وعدّها ابن الأهدل من الحفّاظ.
وفيها أبو الغنائم بن الدّجاجي، محمد بن علي البغدادي. روى عن علي بن عمر الحربي، وابن معروف، وجماعة. توفي في شعبان، وله ثلاث وثمانون سنة.
وفيها أبو علي محمد بن وشاح الزّينبي. روى عن أبي حفص بن شاهين، وجماعة.
قال الخطيب: كان معتزليا.
وقال في «العبر» [3] : توفي في رجب.
وفيها العلّامة العلم الحافظ، أبو عمر بن عبد البرّ، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البرّ بن عاصم النّمري القرطبي، أحد الأعلام،
__________
[1] يعني الإمام البغوي صاحب «شرح السّنّة» المطبوع في المكتب الإسلامي بتحقيق الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط حفظه الله تعالى.
[2] انظر «العبر» (3/ 256) .
[3] (3/ 257) .

(5/266)


وصاحب التصانيف، توفي في سلخ ربيع الآخر، وله خمس وتسعون سنة وخمسة أيام. روى عن سعيد بن نصر، وعبد الله بن أسد، وابن ضيفون [1] ، وأجاز له من مصر، أبو الفتح بن سيبخت الذي يروي عن أبي القاسم البغوي، وليس لأهل المغرب أحفظ منه، مع الثقة، والدّين، والنزاهة، والتبحّر في الفقه، والعربية، والأخبار. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما.
روى بقرطبة عن أبي القاسم خلف بن القاسم الحافظ، وأبي عمر الباجي، وأبي عمر الطّلمنكي وأضعافهم، وكتب إليه من أهل المشرق أبو القاسم السقطي المكّي، وعبد الغني بن سعيد الحافظ، وأبو ذر الهروي، وغيرهم.
قال القاضي [أبو] علي بن سكّرة [4] : سمعت شيخنا القاضي أبا الوليد الباجي يقول: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البرّ في الحديث.
قال الباجي أيضا: أبو عمر أحفظ أهل المغرب.
وقال أبو علي الحسين الغسّاني الأندلسي: ابن عبد البرّ شيخنا من أهل قرطبة، بها طلب العلم وتفقّه [5] ، ولزم أبا عمر أحمد [6] بن عبد الملك الفقيه الإشبيلي، وكتب بين يديه، ولزم أبا الوليد بن الفرضي الحافظ، وعنه أخذ كثيرا من علم الحديث، ودأب في طلب العلم، وتفنن [7] فيه، وبرع
__________
[1] في «آ» : «وابن صفوان» وفي «ط» : «وابن صيفون» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 154) .
[2] (3/ 257) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (7/ 66- 71) .
[4] في «آ» و «ط» : «علي بن سكرة» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «بها طلب الفقه» .
[6] في «وفيات الأعيان» : «ولزم أبا عمر وأحمد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[7] في «وفيات الأعيان» : «وافتنّ» .

(5/267)


براعة فاق فيها من تقدمه من رجال الأندلس، وألّف في «الموطأ» كتبا مفيدة، منها كتاب «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» ورتب أسماء [1] شيوخ مالك على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءا.
قال أبو محمد بن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه؟ ثم وضع كتاب «الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من المعاني والآثار» شرح فيه «الموطأ» على وجهه، ونسق أبوابه، وجمع في أسماء الصحابة رضي الله عنهم كتابا جليلا مفيدا سمّاه «الاستيعاب» وله كتاب «جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله» [2] وكتاب «الدّرر في اختصار المغازي والسّير» [3] وكتاب «العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم» وكتاب صغير في قبائل العرب وأنسابهم [4] وغير ذلك، وكان موفقا في التأليف، معانا عليه، ونفع الله به، وكان مع تقدمه في علم الأثر، وبصره في الفقه ومعاني الحديث، له بسطة كبيرة في علم النسب.
وفارق قرطبة، وجال في غرب الأندلس، وسكن دانية من بلادها، وبلنسية، وشاطبة، في أوقات مختلفة. وتولى قضاء الأشبونة [5] ، وشنترين في
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «ورتبه على أسماء» .
[2] وهو مطبوع، وقد قام الشيخ أحمد بن عمر المحمصاني البيروتي الأزهري المتوفي سنة (1320 هـ-) باختصاره إلى مقدار النصف، وعلّق عليه تعليقات مفيدة، وطبع سنة (1320) هـ- وهو من المختصرات التي تستحق النشر من جديد في طبعة حديثة محققة، ولعلّي أفعل ذلك مستقبلا إن شاء الله تعالى.
[3] وقد طبع في دمشق بعناية الأستاذ الدكتور مصطفى البغا حفظه الله تعالى ونفع به، وطبع أيضا في القاهرة وبيروت.
[4] وقد طبع في القاهرة سنة (1350) هـ- باسم «القصد والأمم في التعريف بأصول أنساب العرب والعجم» .
[5] في «آ» و «ط» : «الأشبون» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» وانظر «معجم البلدان» (1/ 195) .

(5/268)


أيام ملكها المظفر بن الأفطس، وصنّف كتاب «بهجة المجالس وأنس المجالس» في ثلاثة أسفار، جمع فيه أشياء مستحسنة تصلح للمذاكرة والمحاضرة [1] . انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وذكر ابن عبد البرّ المذكور والده أبا محمد عبد الله بن محمد بن عبد البرّ، وأنه توفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمانين وثلاثمائة رحمه الله.
وكان ولده أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أهل الأدب البارع والبلاغة، وله رسائل وشعر، فمن شعره:
لا تكثرنّ تأملا ... واحبس عليك عنان طرفك
فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك
قيل: إنه مات سنة ثمان وخمسين وأربعمائة [2] .
__________
[1] وهو مطبوع طبعة متقنة مفهرسة بتحقيق الأستاذ الدكتور محمد مرسي الخولي رحمه الله تعالى، وقد صدرت طبعة مصوّرة عنها حديثا عن دار الكتب العلمية ببيروت.
[2] قلت: وما جاء من كلام عن والده وولده نقله المؤلف عن «وفيات الأعيان» (7/ 71- 72) .

(5/269)


سنة أربع وستين وأربعمائة
فيها توفي أبو الحسن جابر بن ياسين البغدادي الحنّائي. روى عن أبي حفص الكتّاني، والمخلّص.
وفيها المعتضد بالله، أبو عمرو عبّاد بن القاضي محمد بن إسماعيل بن عبّاد اللّخمي، صاحب إشبيلية، ولي بعد أبيه، وكان شهما مهيبا صارما، داهية [1] مقداما، جرس على سنن أبيه، ثم تلقب بأمير المؤمنين، وقتل جماعة صبرا، وصادر آخرين، ودانت له الملوك. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : قال أبو الحسن علي بن بسام صاحب «الذخيرة» في حقه: ثم أفضى الأمر بعد محمد القاضي إلى عبّاد سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتسمى أولا بفخر الدولة، ثم بالمعتضد، قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة، [ناهيك] [4] من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا سلم منه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمر وهو متناقض، وأسد فرس الطلا،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ذا هيبة» والتصحيح من «العبر» .
[2] (3/ 258) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 23- 24) .
[4] لفظة «ناهيك» لم ترد في «آ» و «وفيات الأعيان» وأثبتها من «ط» .

(5/270)


وهو رابض، متهور [1] يتحاماه الدّهاة، وجبّار [2] لا تأمنه الكماة، متعسّف اهتدى، ومنبت قطع فما أبقى [ثار والناس حرب] ، ضبط شأنه بين قائم وقاعد، حتّى طالبت يده واتسع بلده وكثر عديده، وعدده، وكان قد أوتي أيضا من جمال الصورة، وتمام الخلقة، وفخامة الهيئة، وسباطة البنان، وثقوب الذهن، وحضور الخاطر، وصدق الحدس [3] ، ما فاق على نظرائه، ونظر مع ذلك في الأدب قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان، وأدنى نظر بأذكى طبع، حصل [منه] لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علقها من غير تعمّد لها ولا إمعان في غمارها ولا إكثار من مطالعتها، ولا منافسة في اقتناء صحائفها، أعطته سجيته على ذلك ما شاء من تحبير الكلام، وقرض قطعا من العشر [ذات طلاوة] وهي في معان أمدّته فيها الطبيعة، وبلغ فيها الإرادة، واكتتبها الأدباء للبراعة، جمع هذه الخلال الظاهرة إلى جود كفّ، بارى السحاب بها.
وأخبار المعتضد في جميع أنحائه وضروب أفعاله [4] [غريبة] بديعة.
وكان ذا كلف بالنساء فاستوسع في اتخاذهنّ، وخلّط في أجناسهنّ [5] ، فانتهى في ذلك إلى مدّى لم يبلغه أحد من نظرائه، ففشا نسله لتوسعته في النكاح وقوته عليه، فذكر أنّه كان له من الولد نحو العشرين ذكورا، ومن الإناث مثلهم، وأورده له عدة مقاطيع فمن ذلك قوله:
شربنا وجفن اللّيل يغسل كحله ... بماء صباح والنسيم رقيق
معتّقة كالتبر أما نجارها [6] ... فضخم وأما جسمها فدقيق
__________
[1] في «آ» و «ط» : «مشهور» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «جبان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «وصدق الحس» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «في جميع أفعاله وضروب أنحائه» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «في جنوسهنّ» .
[6] في «آ» و «ط» : «بخارها» والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «الذخيرة» في محاسن أهل الجزيرة» القسم الثاني المجلد الأول ص (31) .

(5/271)


ولولده المعتمد فيه من جملة أبيات:
سميدع يهب الآلاف مبتدئا ... ويستقلّ عطاياه ومعتذر
له يد كلّ جبّار يقبّلها ... لولا نداها لقلنا إنها الحجر
ولم يزل في عزّ سلطانه واغتنام مساره، حتّى أصابته علّة الذبحة، فلم تطل مدتها، ولما أحسّ بتداني حمامه، استدعى مغنيا يغنيه ليجعل ما يبدأ به فألا، فأول ما غنى:
نطوي الليالي علما أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا
فتطيّر من ذلك ولم يعش بعده سوى خمسة أيام، وقيل: إنه ما غنّى منها إلّا خمسة [1] أبيات، وتوفي يوم الاثنين غرّة جمادى الآخرة، ودفن ثاني يوم بمدينة إشبيلية.
وقام بالمملكة بعده ولده أبو القاسم محمد. انتهى ملخصا.
وفيها ابن حيد [2] أبو منصور بكر بن محمد بن علي بن محمد [3] بن حيد [2] النيسابوري التاجر، ويلقب بالشيخ المؤتمن. روى عن أبي الحسين الخفاف وجماعة وكان ثقة. حدّث بخراسان والعراق، وتوفي في صفر.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «بخمسة» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن حيدر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 252) .
[3] في «آ» و «ط» : «بكر بن محمد بن محمد بن علي بن حيدر» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .

(5/272)


سنة خمس وستين وأربعمائة
فيها كما قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [1] اشتدّ الغلاء بمصر، حتّى أكلت امرأة رغيفا بألف دينار. انتهى.
وفيها قتل أبو شجاع محمد بن جغريبك [2] داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، الملقب عضد الدولة ألب أرسلان، وهو ابن أخي السلطان طغرلبك وتقدم ذكره، واستولى ألب أرسلان على الممالك بعد عمّه طغرلبك وعظمت مملكته، ورهبت سطوته، وفتح من البلاد ما لم يكن لعمّه، مع سعة ملك عمّه، فقصد هذا بلاد الشام، فانتهى إلى مدينة حلب، وصاحبها يومئذ محمود بن نصر بن صالح بن مرداس [3] الكلابي، فحاصره مدة، ثم جرت المصالحة بينهما، فقال ألب أرسلان: لا بدّ له من دوس بساطي، فخرج إليه محمود ذليلا، ومعه أمه، فتلقاهما بالجميل، وخلع عليهما، وأعادهما إلى البلد، ورحل عنهما.
قال المأموني في «تاريخه» : قيل: إنه لم يعبر الفرات في قديم الزمان ولا حديثه في الإسلام ملك تركي قبل ألب أرسلان، فإنه أول من عبرها من ملوك التّرك.
__________
[1] ص (422) .
[2] في «آ» و «ط» : «جعري بك» وهو تحريف والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (18/ 106) ورسمها ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (5/ 69) «جعفري بك» .
[3] في «آ» و «ط» : «فارس» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .

(5/273)


ولما عاد عزم على قصد بلاد التّرك، وقد كمل عسكره مائتي ألف فارس أو يزيدون فمدّ [1] على جيحون- النهر المشهور- جسرا، وأقام العسكر يعبر عليه شهرا، وعبر هو بنفسه أيضا، ومدّ السماط في بليدة يقال لها فربر، ولتلك البليدة حصن على شاطئ جيحون، في سادس ربيع الأول من هذه السنة، فأحضر إليه أصحابه مستحفظ القلعة [2] يقال له يوسف الخوارزمي، كان قد ارتكب جريمة في أمر الحصن، فحمل مقيدا، فلما قرب منه أمر أن تضرب له أربعة أوتاد لتشدّ أطرافه الأربعة إليها ويعذبه ثم يقتله، فقال له يوسف: يا مخنث! مثلي يقتل هذه القتلة؟ فاحتدّ السلطان وأخذ القوس والنشابة، وقال: حلّوه من قيوده، فحلّ، فرماه فأخطأه، وكان مدلّا برميه، قلما يخطئ فيه، وكان جالسا على سريره، فنزل فعثر ووقع على وجهه، فبادره يوسف المذكور، وضربه بسكين كانت معه في خاصرته، فوثب عليه فرّاش [3] أرمني، فضربه في رأسه بمرزبة فقتله، فانتقل ألب أرسلان إلى خيمة أخرى مجروحا وأحضر وزيره نظام الملك، وأوصى به إليه، وجعل ولده ملكشاه أبو شجاع محمد وليّ عهده، ثم توفي يوم السبت عاشر الشهر المذكور، وكانت ولادته سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وكانت مدة مملكته تسع سنين وأشهرا، ونقل إلى مرو، ودفن عند قبر أبيه داود وعمه طغرلبك، ولم يدخل بغداد ولا رآها، مع أنها كانت داخلة في مملكته، وهو الذي بنى على قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه القبة، وبنى ببغداد مدرسة أنفق عليها أموالا عظيمة.
وألب أرسلان: بفتح الهمزة وسكون اللام، وبعدها باء موحدة، اسم
__________
[1] في «آ» و «ط» : «فمرّ» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «الحصن» .
[3] في «آ» و «ط» : «فارس» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .

(5/274)


تركي معناه شجاع أسد، فألب، شجاع، وأرسلان أسد.
وقال في «العبر» [1] : كان ألب أرسلان في آخر دولته من أعدل الناس، وأحسنهم سيرة، وأرغبهم في الجهاد، وفي نصر الإسلام، وكان أهل سمرقند قد خافوه، وابتهلوا إلى الله، وقرؤوا الختم ليكفيهم أمر ألب أرسلان، فكفوا.
انتهى ملخصا.
وفيها ابن المأمون، أبو الغنائم، عبد الصمد بن علي بن محمد الهاشمي العبّاسي البغدادي، في شوال، وله تسع وثمانون سنة. سمع جدّه أبا الفضل بن المأمون، والدارقطني، وجماعة.
قال أبو سعد السمعاني: كان ثقة نبيلا مهيبا، تعلوه سكينة ووقار، رحمه الله.
وفيها أبو القاسم القشيري عبد الكريم بن هوازن النيسابوري الصّوفي الزاهد، شيخ خراسان، وأستاذ الجماعة، ومصنّف «الرسالة» [2] توفي في ربيع الآخر، وله تسعون سنة. روى عن أبي الحسين الخفّاف، وأبي نعيم، وطائفة.
قال أبو سعد السمعاني: لم ير أبو القاسم مثل نفسه، في كماله وبراعته، جمع بين الشريعة والحقيقة، رحمه الله. قاله في «العبر» [3] .
وقال السخاوي: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري أبو القاسم المفسّر المحدّث، الفقيه الشافعي، المتكلم الأصولي، الأديب النحوي، الكاتب الشاعر، الصوفي، لسان عصره، وسيد وقته، سيد لم ير مثل نفسه في كماله وبراعته، جمع بين علمي الشريعة.
__________
[1] (3/ 260) .
[2] المعروفة ب- «الرسالة القشيرية» وهي مطبوعة.
[3] (3/ 261) .

(5/275)


والحقيقة، وصنّف «التفسير الكبير» قبل العشر والأربعمائة، وخرج في رفقة إلى الحجّ، فيها الإمام أبو محمد الجويني، وأحمد بن الحسين البيهقي الإمام، وكان أملح خلق الله، وأظرفهم شمائل. ولد سنة ست وسبعين وثلاثمائة في ربيع الأول، وتوفي في صبيحة يوم الأحد قبل طلوع الشمس، سادس عشر ربيع الآخر، ودفن في المدرسة بجانب شيخه أبي علي الدّقّاق، ولا مسّ أحد ثيابه، ولا كتبه، ولا دخل بيته إلّا بعد سنين، احتراما وتعظيما له.
وقال السبكي [1] : ومن تصانيفه «التفسير الكبير» وهو من أجود التفاسير وأوضحها، و «الرسالة» المشهورة المباركة، التي قلّ ما تكون في بيت وينكب و «التّحبير في التّذكير» ، و «أدب الصّوفية» [2] و «لطائف الإشارات» وكتاب «الجواهر» و «عيون الأجوبة في أصول الأسئلة» وكتاب «المناجاة» وكتاب «نكت [3] أولي النّهى» [4] وكتاب «أحكام السّماع» وغير ذلك.
ومن شعره:
لا تدع خدمة الأكابر واعلم ... أن في عشرة الصّغار الصّغارا
وابغ من في يمينه لك يمن ... وترى في اليسار منه اليسارا
انتهى ملخصا.
وقال ابن خلّكان [5] : توفي أبوه وهو صغير، وقرأ الأدب في صباه،
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية الكبرى» (5/ 159) .
[2] في «طبقات الشافعية الكبرى» : «آداب الصوفية» .
[3] لفظة «نكت» لم ترد في «آ» وأثبتها من «ط» .
[4] في «سير أعلام النبلاء» (18/ 230) و «هدية العارفين» (1/ 608) : «المنتهى في نكت أولي النهى» .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 205- 208) .

(5/276)


وكانت له قرية مثقلة الخراج بنواحي أستوا [1] فرأى من الرأي أن يحضر إلى نيسابور يتعلم طرفا من الحساب ليتولى الاستيفاء، ويحمي القرية من الخراج، فحضر نيسابور على هذا العزم، فاتفق حضوره مجلس الشيخ أبي علي الحسين بن علي النيسابوري المعروف بالدقاق، وأقبل عليه وتفرّس فيه النجابة، وجذبه بهمّته، وأشار عليه بالاشتغال بالعلم، فخرج إلى درس أبي بكر محمد بن أبي بكر الطّوسي، وشرع في الفقه حتّى فرغ من تعليقه، ثم اختلف إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وقعد يسمع درسه أياما، فقال له الأستاذ: هذا العلم لا يحصّل بالسماع. ولا بدّ من الضبط بالكتابة، فأعاد عليه جميع ما سمعه في تلك الأيام، فعجب منه، وعرف محلّه، فأكرمه وقال له: ما تحتاج إلى درس، بل يكفيك أن تطالع مصنّفاتي، فقعد وجمع بين طريقته وطريقة ابن فورك، ثم نظر في كتب القاضي أبي بكر الباقلاني، وهو مع ذلك يحضر مجلس أبي علي الدقاق، وزوّجه ابنته، مع كثرة أقاربها.
وبعد وفاة أبي علي سلك مسلك المجاهدة والتجريد، وأخذ في التصنيف. وسمع من جماعة مشاهير الحديث ببغداد والحجاز، وكان له في الفروسية واستعمال السلاح يد بيضاء، وأما مجالس الوعظ والتذكير، فهو إمامها، وعقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث، سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.
وذكره الباخرزي في كتاب «دمية القصر» [2] فقال: لو قرع الصّخر بسوط [3] تحذيره لذاب، ولو ربط إبليس في مجلسه لتاب.
__________
[1] قال ياقوت في «معجم البلدان» (1/ 175) : أستوا، كورة من نواحي نيسابور، معناه بلسانهم المضحاة والمشرقة، تشتمل على ثلاث وتسعين قرية، وقصبتها خبوشان، وانظر تتمة كلامه فيه.
[2] (2/ 246- 248) .
[3] في «وفيات الأعيان» : «بصوت» فيصحح فيه.

(5/277)


وذكره الخطيب في «تاريخه» [1] وقال: قدم علينا- يعني إلى بغداد- في سنة ثمان وأربعين [وأربعمائة] ، وحدّث ببغداد، وكتبنا عنه، وكان ثقة، وكان يقصّ، وكان حسن الموعظة، مليح الإشارة، وكان يعرف الأصول على مذهب الأشعري، والفروع على مذهب الشافعي.
ومن شعره:
سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك
أقمنا زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك
وفي «رسالته» بيتان حسنان وهما:
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها ... أمانيّ لم تصدق كخطفة بارق
وكان ولده [2] أبو نصر عبد الرحيم إماما كبيرا، أشبه أباه في علومه ومجالسه، ثم واظب درس [3] إمام الحرمين أبي المعالي، حتّى حصّل [4] طريقه في المذهب والخلاف، ثم خرج للحجّ [5] ، فوصل إلى بغداد، وعقد بها مجلس وعظ، وحصل له قبول عظيم، وحضر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مجلسه، وأطبق علماء بغداد أنهم لم يروا مثله.
وجرى له مع الحنابلة خصام بسبب الاعتقاد، لأنه تعصب للأشاعرة، وانتهى الأمر إلى فتنة، قتل فيها جماعة من الفريقين. وتوفي بنيسابور ضحوة نهار الجمعة سابع عشري جمادى الآخرة، سنة أربع عشرة وخمسمائة، ودفن بالمشهد المعروف بهم.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 83) .
[2] في «ط» : «والده» وهو تحريف.
[3] في «وفيات الأعيان» : «دروس» .
[4] في «آ» و «ط» : «حتى وصل» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (3/ 208) .
[5] في «ط» : «للجم» وهو تحريف.

(5/278)


والقشيري: بالضم والفتح، نسبة إلى قشير بن كعب، قبيلة كبيرة.
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها صرّدرّ الشاعر، صاحب «الديوان» أبو منصور علي بن الحسن بن علي بن الفضل الكاتب، الشاعر المشهور، أحد نجباء شعراء عصره. جمع بين جودة السبك وحسن المعنى، وعلى شعره طلاوة [1] رائقة وبهجة فائقة، وله ديوان شعر، وهو صغير، وما ألطف قوله من جملة قصيدة:
نسائل عن ثمامات بحزوى ... وبان الرّمل يعلم ما عنينا
وقد كشف الغطاء فما نبالي ... أصرّحنا بذكرك أم كنينا
ألا لله طيف منك يسعى ... بكاسات الكرى زورا ومينا
مطيّته طوال الليل جفني ... فكيف شكا إليك وجى وأينا [2]
فأمسينا كأنّا ما افترقنا ... وأصبحنا كأنّا ما التقينا
وقوله في الشيب:
لم أبك أن رحل الشّباب وإنما ... أبكي لأن يتقارب الميعاد
شعر الفتى أوراقه فإذا ذوى ... جفّت على آثاره الأعواد
وله في جارية سوداء وهو معنى حسن:
علّقتها سوداء مصقولة ... سواد قلبي صفة فيها
ما انكسف البدر على تمّه ... ونوره إلّا ليحكيها
لأجلها الأزمان أوقاتها ... مؤرخات [3] بلياليها
وإنما قيل له صرّدرّ، لأن أباه كان يلقب «صرّبعر» لشحه، فلما نبغ ولده
__________
[1] في «آ» و «ط» : «حلاوة» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[2] في «آ» و «ط» : «وحافينا» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «آ» و «ط» : «متزوجات» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (3/ 386) .

(5/279)


المذكور، وأجاد في الشعر، قيل له: صرّدرّ.
وقد هجاه البيّاضي الشاعر فقال:
فقال:
لئن لقّب النّاس قدما أباك ... وسمّوه من شحّه صرّبعرا
فإنّك تنشر [1] ما صرّه ... عقوقا له وتسمّيه شعرا
ولعمري ما أنصف هذا الهاجي، فإن شعره نادر [2] وإنما العدو لا يبالي بما يقول.
وكانت وفاته في صفر في قرية بطريق خراسان، وكانت ولادته قبل الأربعمائة. قاله ابن خلّكان [3] .
وفيها أبو سعد السّكّري، علي بن موسى بن عبد الله بن عمر النيسابوري السّكّري. كان حافظا مفيدا، من حفّاظ خراسان. قاله ابن ناصر الدّين [4] .
وفيها أبو جعفر بن المسلمة، محمد بن أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن السّلمي البغدادي. كان ثقة نبيلا، عالي الإسناد، كثير السماع، متين الدّيانة. توفي في جمادى الأولى، عن إحدى وتسعين سنة. وهو آخر من روى عن أبي الفضل الزّهري، وأبي محمد بن معروف.
وفيها أبو الحسن الآمدي، علي بن محمد بن عبد الرحمن الحنبلي، ويعرف قديما بالبغدادي. نزل ثغر آمد، وأخذ عن أكابر أصحاب القاضي أبي يعلى.
قال ابن عقيل فيه: بلغ من النظر الغاية، وكان له مروءة يحضر عنده
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «تنثر» .
[2] في «آ» و «ط» : «بارد» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» (3/ 385- 386) .
[4] في «التبيان شرح بديعة البيان» (151/ آ) .

(5/280)


الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأبو الحسن الدامغاني، وكانا فقيهين، فيضيفهما بالأطعمة الحسنة، ويتكلم معهما، إلى أن يمضي من الليل أكثره، وكان هو المتقدم على جميع أصحاب القاضي أبي يعلى.
وقال القاضي الحسين [1] وتبعه ابن السمعاني: أحد الفقهاء الفضلاء، والمناظرين الأذكياء. وسمع من أبي القاسم بن بشران، وأبي إسحاق البرمكي، وابن المذهب، وغيرهم. وجلس [2] في حلقة النظر والفتوى بجامع المنصور، في موضع ابن حامد، ولم يزل يدرّس ويفتي ويناظر، إلى أن خرج من بغداد، ولم يحدّث ببغداد بشيء، لأنه خرج منها في فتنة البساسيري في سنة خمسين وأربعمائة، إلى آمد، وسكن بها، واستوطن، ودرّس الفقه، إلى أن مات بها في هذه السنة، والصحيح أنه توفي سنة سبع وستين، أو ثمان وستين، كما جزم به ابن رجب [3] وله كتاب «عمدة الحاضر وكفاية المسافر» وهو كتاب جليل، يقول فيه: ذكر شيخنا ابن أبي موسى، فالظاهر أنه تفقه عليه أيضا.
وفيها ابن الغريق الخطيب، أبو الحسين محمد بن علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الصمد بن محمد بن الخليفة المهتدي بالله محمد بن الواثق العبّاسي، سيد بني العبّاس في زمانه وشيخهم. مات في ذي الحجة، وله خمس وتسعون سنة، وهو آخر من حدّث عن ابن شاهين، والدارقطني، وكان ثقة، نبيلا، صالحا، متبتلا، كان يقال له: راهب بني هاشم، لدينه، وعبادته، وسرده الصوم.
وفيها هنّاد بن إبراهيم، أبو المظفر النّسفي، صاحب مناكير
__________
[1] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 234) فهو ينقل عنه.
[2] في «طبقات الحنابلة» : «وأجلس» .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (1/ 9) .

(5/281)


وعجائب. روى عن القاضي أبي عمر الهاشمي، وغنجار، وطبقتهما. وعده ابن ناصر الدّين [1] من الحفّاظ، وقال في حقه: هنّاد بن إبراهيم بن محمد بن نصر أبو المظفر النّسفي القاضي، كان من المحدّثين المكثرين، والحفّاظ المشهورن، لكنه ضعيف مكثر من رواية الموضوعات.
وفيها أبو القاسم الهذلي، يوسف بن علي بن جبارة المغربي [2] [المقرئ] المتكلم النحوي، صاحب كتاب «الكامل في القراءات» وكان كثير الترحال حتّى وصل إلى بلاد التّرك في طلب القراءات المشهورة والشاذة.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (151/ آ) .
[2] انظر «العبر» (3/ 262) وما بين حاصرتين مستدرك منه، و «غاية النهاية في طبقات القراء» (2/ 397- 398) .

(5/282)