شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست وستين وأربعمائة
فيها كان الغرق الكثير ببغداد، فهلك خلق تحت الردم، وأقيمت الجمعة في الطيّار [1] على ظهر الماء، وكان الموج كالجبال، وبعض المحال غرقت بالكليّة، وبقيت كأن لم تكن، وقيل: إن ارتفاع الماء بلغ ثلاثين ذراعا.
وفيها توفي أبو سهل الحفصي، محمد بن أحمد بن عبيد الله المروزي، راوي «الصحيح» عن الكشميهني، كان رجلا عاميّا مباركا. سمع منه نظام الملك، وأكرمه، وأجزل صلته. قاله في «العبر» [2] .
وفيها- أو في التي قبلها كما جزم به ابن قاضي شهبة [3]- طاهر بن عبد الله أبو الرّبيع الإيلاقي- بالكسر والتحتية نسبة إلى إيلاق، ناحية من بلاد الشّاش- التّركي.
قال ابن شهبة: من أصحابنا أصحاب الوجوه، تفقه بمرو على القفّال، وببخارى على الحليمي، وبنيسابور على الزيادي، وأخذ الأصول عن أبي إسحاق الإسفراييني، وتفقه عليه أهل الشّاش، وكان إمام بلاده.
وفيها أبو محمد الكتّاني عبد العزيز بن أحمد التميمي الدمشقي
__________
[1] الطيار: نوع من أنواع السفن كان يسير في نهر دجلة آنذاك. انظر حاشية «العبر» (3/ 263) .
[2] (3/ 263) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 262) .

(5/283)


الصّوفي الحافظ. روى عن تمّام الرّازي [1] وطبقته، ورحل سنة سبع عشرة وأربعمائة إلى العراق، والجزيرة.
قال ابن ماكولا [2] : مكثر متقن.
وقال الذهبي [3] : توفي في جمادى الآخرة.
وفيها أبو بكر العطّار، محمد بن إبراهيم بن علي الحافظ الأصبهاني، مستملي الحافظ أبي نعيم. روى عن ابن مروديه، والقاضي أبي عمر الهاشمي، وطبقتهما.
قال الدّقاق: كان من الحفّاظ، يملي من حفظه، توفي في صفر.
وفيها ابن حيّوس الفقيه أبو المكارم، محمد بن سلطان الغنوي الدمشقي الفرضي. روى عن خاله أبي نصر الجندي، وعبد الرحمن بن أبي نصر، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو بكر يعقوب بن أحمد الصّيرفي النيسابوري المعدّل. روى عن أبي محمد المخلدي والخفّاف، توفي في ربيع الأول.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المرادي» والتصحيح من «العبر» .
[2] انظر «الإكمال» (7/ 187) .
[3] انظر «العبر» (3/ 263) .

(5/284)


سنة سبع وستين وأربعمائة
فيها عمل السلطان ملكشاه الرصد، وأنفق عليه أموالا عظيمة.
قال السيوطي [1] : فيها جمع نظام الملك المنجمين، وجعلوا النيروز أوّل نقطة من الحمل، وكان قبل ذلك عند دخول [2] الشمس نصف الحوت، وصار ما فعله النظام مبدأ التقاويم. انتهى.
وفيها توفي أبو عمر بن الحذّاء محدّث الأندلس، أحمد بن محمد بن يحيى القرطبي، مولى بني أميّة، حضّه أبوه على الطّلب في صغره، فكتب عن عبد الله بن أسد، وعبد الوارث، وسعيد بن نصر، والكبار، في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وانتهى إليه علو الإسناد بقطره، وتوفي في ربيع الآخر، عن سبع وثمانين سنة.
وفيها القائم بأمر الله، أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله أحمد بن إسحاق بن المقتدر العبّاسي، توفي في شعبان، وله ست وسبعون سنة، وبقي في الخلافة أربعا وأربعين سنة وتسعة أشهر، وأمّه أرمنيّة. كان أبيض مليح الوجه مشربا حمرة، ورعا، ديّنا، كثير الصدقة، له علم وفضل، من خير الخلائف [3] ولا سيما بعد عوده إلى الخلافة في نوبة البساسيري، فإنه صار
__________
[1] انظر «تاريخ الخلفاء» ص (423- 424) .
[2] في «تاريخ الخلفاء» : «عند حلول» .
[3] تصحفت في «العبر» إلى «الخلائق» فتصحح فيه.

(5/285)


يكثر الصيام والتهجد، غسّله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى، شيخ الحنابلة، وبويع حفيده المقتدي بأمر الله، عبد الله بن محمد بن القائم. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن الفرات: أول من بايعه الشريف أبو القاسم المرتضى وأنشده:
فإما مضى جبل وانقضى ... فمنك لنا جبل قد رسا
وإما فجعنا ببدر التّمام ... فقد بقيت منه شمس الضّحى
فكم حزن في محل السّرور ... وكم ضحك في خلال البكا
وقال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [2] : ولد القائم في نصف ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وأمه أم ولد ارمنيّة اسمها بدر الدّجى، وقيل:
قطر النّدى.
ولي الخلافة بعد موت أبيه سنة اثنتين وعشرين، وكان ولي عهده في الحياة، وهو الذي لقّبه بالقائم بأمر الله.
قال ابن الأثير: كان جميلا، مليح الوجه، ورعا، ديّنا، زاهدا، عالما، قوي اليقين بالله، كثير الصدقة والصبر، له عناية بالأدب، ومعرفة حسنة بالكتابة، مؤثرا للعدل والإحسان، وقضاء الحوائج، لا يرى المنع من شيء طلب منه.
ولم يزل أمره مستقيما إلى أن قبض عليه في سنة خمسين. وسجنه البساسيري في غاية [3] ، فكتب وهو في السجن قصة وأنفذها إلى مكّة، فعلّقت في الكعبة فيها: إلى الله العظيم من المسكين عبده، اللهمّ إنك
__________
[1] (3/ 266) .
[2] ص (417- 422) .
[3] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «عانة» والتصحيح من «تاريخ الخلفاء» .

(5/286)


العالم بالسرائر، المطّلع على الضمائر، اللهمّ إنك غنيّ بعلمك، واطّلاعك على خلقك، عن إعلامي، هذا عبد قد كفر نعمك وما شكرها، وألغى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك حتّى تعدّى علينا بغيا، وأساء إلينا عتوّا وعدوا. اللهمّ قلّ الناصر، واغترّ الظالم، وأنت المطّلع العالم، والمنصف الحاكم، بك نعتزّ عليه، وإليك نهرب من يديه، فقد تعزز [1] علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك، وقد حاكمناه [2] إليك، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، ورفعنا ظلامتنا هذه إلى حرمك، ووثقنا في كشفها بكرمك، فاحكم بيننا بالحقّ وأنت خير الحاكمين.
ومات القائم ليلة الخميس الثلاث عشر من شعبان، وذلك أنه افتصد [ونام] [3] ، فانحلّ موضع الفصد، وخرج منه دم كثير، فاستيقظ وقد انحلّت قوته، فطلب حفيده ولي عهده عبد الله بن محمد، ووصّاه، ثم توفي. انتهى ملخصا.
وفيها أبو الحسن الدّاوودي، جمال الإسلام عبد الرحمن بن محمد بن محمد [4] بن المظفر البوشنجي، شيخ خراسان، علما، وفضلا، وجلالة، وسندا. روى الكثير عن أبي محمد بن حمّويه وهو آخر من حدّث عنه، وتفقّه على القفّال المروزي، وأبي الطيب الصّعلوكي، وأبي حامد الإسفراييني. توفي في شوّال، وله أربع وتسعون سنة، وصحب أبا علي الدقاق، وأبا عبد الرحمن السّلمي، ثم استقر ببوشنج للتصنيف، والتدريس، والفتوى، والتذكير، وصار وجه مشايخ خراسان. بقي أربعين سنة لا يأكل
__________
[1] تصحفت في «ط» إلى «تعزر» .
[2] في «آ» و «ط» : «قد حاكمنا» وما أثبته من «تاريخ الخلفاء»
[3] سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «تاريخ الخلفاء»
و [4] قوله «ابن محمد» الثاني لم يرد في معظم المصادر التي بين يدي. انظر «الأنساب» (5/ 63) و «المنتظم» (8/ 296) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 223) .

(5/287)


اللّحم لمّا نهب التّركمان تلك الناحية، وبقي يأكل السمك، فحكي له أن بعض الأمراء أكل على حافة النهر الذي يصاد منه السمك ونفض في النهر ما فضل، فلم يأكل السمك بعد ذلك.
ومن شعره:
كان في الاجتماع من قبل نور ... فمضى النّور وادلهمّ الظّلام
فسد النّاس والزّمان جميعا ... فعلى النّاس والزّمان السّلام
وفيها أبو الحسن الباخرزي، الرئيس الأديب، علي بن الحسن بن أبي الطيب، مؤلف كتاب «دمية القصر» [1] كان رأسا في الكتابة، والإنشاء، والعشر، والفضل، والحائز القصب في نظمه ونثره، وكان في شبابه مشتغلا بالفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، واختصّ بملازمة درس أبي محمد الجويني، ثم شرع في فنّ الكتابة، واختلف إلى ديوان الرسائل، فارتفعت به الأحوال وانخفضت، ورأى من الدهر العجائب سفرا وحضرا، وغلب أدبه على فقهه، فاشتهر بالأدب وعمل الشعر، وسمع الحديث، وصنّف كتاب «دمية القصر وعصرة أهل العصر» وهو ذيل «يتيمة الدّهر» للثعالبي، وجمع فيها خلقا كثيرا.
وقد وضع على هذا الكتاب أبو الحسن علي بن زيد كتابا سمّاه «وشاح الدّمية» وهو كالذيل لها، وكالذي سمّاه السمعاني «الذيل» .
وللباخرزي ديوان شعر مجلد كبير، والغالب عليه الجودة، فمن معانيه الغريبة قوله:
وإني لأشكو لسع أصداغك التي ... عقاربها في وجنتيك تحوم
__________
[1] واسمه الكامل «دمية القصر وعصرة أهل العصر» كما سيذكره المؤلف بعد قليل، وقد طبع عدة مرات ولأبي سعد بن علي الخطيري المعروف ب (دلّال الكتب) ذيل عليه سماه «زينة الدّهر» .

(5/288)


وأبكي لدرّ الثغر منك ولي أب ... فكيف يديم الضّحك وهو يتيم
وقوله في شدة البرد:
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا ... فغدا لسكّان الجحيم حسودا
وترى طيور الماء في وكناتها ... تختار حر النّار والسّفّودا [1]
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوى ... عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرّق لنا عودا وحرّك عودا
وقوله من جملة أبيات:
يا فالق الصّبح من لآلاء غرّته ... وجاعل اللّيل من أصداغه سكنا
بصورة الوثن استعبدتني وبها ... فتنتني وقديما هجت لي شجنا
لا غرو إن أحرقت نار الهوى كبدي ... فالنّار حقّ على من يعبد الوثنا
وقتل الباخرزي في الأندلس، وذهب دمه هدرا.
وباخرز: بالباء الموحدة، وفتح الخاء المعجمة، وبعد الراء زاي، ناحية من نواحي نيسابور، تشتمل على قرى ومزارع، خرج منها جماعة من الفضلاء.
وفيها أبو الحسن بن صصرى [2] علي بن الحسين [3] بن أحمد بن محمد التغلبي الدمشقي المعدّل. روى عن تمّام الرّازي وجماعة، وتوفي في المحرم.
وفيها أبو بكر الخيّاط مقرئ العراق، محمد بن علي بن محمد بن موسى الحنبلي، الرجل الصالح. سمع من إسماعيل بن الحسن الصّرصري، وأبي الحسن المحبّر [4] ، وقرأ على ابن أبي أحمد الفرضي، وأبي الحسين السّوسنجردي وجماعة.
__________
[1] جاء في «مختار الصحاح» (سفد) : السّفود بوزن التّنّور، الحديدة التي يشوى بها اللّحم.
[2] تحرّفت في «آ» إلى «حصري» وانظر «العبر» (3/ 67) و «النجوم الزاهرة» (5/ 100) .
[3] في «العبر» : «علي بن الحسن» . (ع) .
[4] في العبر: المجبر.

(5/289)


قال ابن الجوزي [1] : ما يوجد في عصره في القراءات مثله، وكان ثقة صالحا.
وقال المؤتمن السّاجي: كان شيخا، ثقة في الحديث والقراءة، صالحا، صبورا على الفقر.
وقال أبو ياسر [2] البرداني: كان من البكّائين عند الذكر [قد] أثّرت الدّموع في خدّيه.
وقال ابن النجار: كان شيخ القراء في وقته مفردا بروايات، وكان عالما ورعا ديّنا [3] .
وذكره الذهبي في «طبقات القراء» فقال: كان كبير القدر، عديم النظير، بصيرا بالقراءات [4] ، صالحا، عابدا، ورعا، ناسكا، بكّاء، قانتا، خشن العيش، فقيرا، متعففا، ثقة، فقيها، على مذهب أحمد، وآخر من روى عنه بالإجازة أبو الكرم الشّهرزري.
وقال ابن الجوزي: توفي ليلة الخميس، ثالث جمادى الأولى، سنة ثمان وستين.
وفيها محمود بن نصر بن صالح بن مرداس الأمير عزّ الدولة [5] الكلابي، صاحب حلب، ملكها عشرة أعوام، وكان شجاعا، فارسا، جوادا، ممدّحا، يداري المصريين والعبّاسيين، لتوسط داره بينهما، وولي بعده ابنه نصر، فقلته بعض الأتراك بعد سنة.
__________
[1] عبارة «المنتظم» (8/ 297) : «وتوحد في عصره في القراءات» .
[2] في «سير أعلام النبلاء» (18/ 436) : «ابن ياسر» وما بين حاصرتين زيادة منه.
[3] في «ط» : «متدينا» .
[4] في «ط» : «بالقرآن» .
[5] في «آ» : «ابن الأمير عزّ الدولة» وهو خطأ وأثبت ما في «ط» وانظر «العبر» (3/ 268) و «سير» أعلام النبلاء» (18/ 358) .

(5/290)


سنة ثمان وستين وأربعمائة
فيها توفي أبو علي غلام الهرّاس، مقرئ واسط، الحسن بن القاسم الواسطي، ويعرف أيضا بإمام الحرمين. كان أحد من عني بالقراءات، ورحل فيها إلى البلاد، وصنّف فيها. قرأ على أبي الحسين [1] السّوسنجردي، والحمامي، وطبقتهما، ورحل القرّاء إليه من الآفاق، وفيه لين. قاله في «العبر» .
وفيها عبد الجبّار بن عبد الله بن إبراهيم بن برزة، أبو الفتح الرازي، الواعظ، الجوهري، التاجر. روى عن علي بن محمد القصّار وطائفة، وعاش تسعين سنة، وآخر من حدّث عنه إسماعيل الحمّامي.
وفيها أبو نصر التّاجر، عبد الرحمن بن علي النيسابوري المزكّي [2] .
روى عن يحيى بن إسماعيل الحربي النيسابوري، وجماعة.
وفيها أبو الحسن الواحدي المفسّر، علي بن أحمد النيسابوري،
__________
[1] في «آ» و «ط» : و «الأنساب» (7/ 189) و «على أبي الحسن» وهو خطأ، وتحرّف كذلك في حاشية المحققين على «معرفة القرّاء الكبار» للذهبي (1/ 428) طبع مؤسسة الرسالة، وجاء على الصواب في أول هذا المجلد من ترجمته ص (11) وفي «العبر» (3/ 80) و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 363) .
[2] قال السمعاني في «الأنساب» (11/ 278) : المزكّي: هذا اسم لمن يزكّي الشهود ويبحث عن حالهم، ويبلغ القاضي حالهم.

(5/291)


تلميذ أبي إسحاق الثعلبي، وأحمد من برع في العلم، وكان شافعي المذهب.
روى في كتبه عن ابن محمش، وأبي بكر الحيري، وطائفة، وكان رأسا في اللغة والعربية. [توفي في جمادى الآخرة، وكان من أبناء السبعين.] قال ابن قاضي شهبة [1] : كان فقيها إماما في النحو واللغة] [2] وغيرهما، شاعرا، وأما التفسير، فهو إمام عصره فيه. أخذ التفسير عن أبي إسحاق الثعلبي، واللغة عن أبي الفضل العروضي صاحب أبي منصور الأزهري، والنحو عن أبي الحسن القهندزي- بضم القاف والهاء وسكون النون، وفي آخره زاي- الضرير. صنّف الواحدي «البسيط» في نحو ستة عشر مجلدا، والوسيط في أربع مجلدات، و «الوجيز» [3] ومنه أخذ الغزّالي هذه الأسماء.
و «أسباب النزول» وكتاب «نفي التحريف عن القرآن الشريف» وكتاب «الدعوات» وكتاب «تفسير أسماء النّبيّ صلى الله عليه وسلّم» [4] وكتاب «والمغازي» وكتاب «الإغراب في الإعراب» و «شرح ديوان المتنبي» . وأصله من ساوة، من أولاد التجار، وولد بنيسابور ومات بها بعد مرض طويل في جمادى الآخرة، سنة ثمان وستين. ونقل عنه في «الروضة» في مواضع من كتاب السير، في الكلام على السلام [5] .
وفيها ابن عليّك، أبو القاسم، علي بن عبد الرحمن بن الحسن النيسابوري. روى عن أبي نعيم الإسفراييني وجماعة.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 277- 279) وقد تصحفت «القهنذزي» فيه إلى «القهندري» فتصحح وانظر «الأنساب» (11/ 274) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[3] وقد حصلت على نسختين خطيتين نفيستين منه وسوف أشرع بتحقيقه قريبا إن شاء الله تعالى، راجيا من الله العون والتوفيق والسّداد.
[4] في «سير أعلام النبلاء» (18/ 341) : «تفسير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم» فتستدرك لفظه «أسماء» فيه.
[5] في «آ» و «ط» : «على الإسلام» والتصحيح من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.

(5/292)


وقال ابن نقطة: حدّث عن أبي الحسين الخفّاف، ومات في رجب بتفليس.
وفيها أبو بكر الصّفّار محمد بن القاسم بن حبيب بن عبدوس النيسابوري الشافعي، أحد الكبار المتقنين، تفقه على أبي محمد الجويني، وجلس بعده في حلقته، وروى عن أبي نعيم الإسفراييني وطائفة، وتوفي في ربيع الآخر.
قال الإسنوي [1] : وهو جدّ الفقهاء المعروفين في نيسابور بالصّفّارين.
كان إماما فاضلا ديّنا خيّرا، سليم الجانب، محمود الطريقة، مكثرا من الحديث والإملاء، حسن الاعتقاد والخلق، بهي المنظر، متجملا، مع قلة ذات اليد، وكان من أبناء المشايخ والبيوتات والمياسير. انتهى.
وفيها علي بن الحسين بن أحمد بن إبراهيم بن جدّا، أبو الحسن العكبري.
ذكره ابن شافع [2] في «تاريخ» فقال: هو الشيخ الزاهد الفقيه، الأمّار بالمعروف، والنّهاء عن المنكر. سمع أبا علي بن شاذان، والبرقاني، وأبا القاسم الخرقي، وابن بشران، وغيرهم. وكان فاضلا، خيّرا، ثقة، صيّنا، شديدا في السّنّة، على مذهب أحمد.
وقال القاضي [3] الحسين وابن السمعاني: كان شيخا، صالحا، ديّنا، كثير الصلاة، حسن التلاوة للقرآن [4] ذا لسن وفصاحة في المجالس والمحافل، وله في ذلك كلام منثور وتصنيف مذكور مشهور.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 139) .
[2] هو أحمد بن صالح بن شافع الجيلي، المتوفى سنة (565) هـ- وسوف تردد بترجمته في المجلد السادس إن شاء الله تعالى.
[3] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 234- 235) فهو ينقل عنه لكن وهم في اسمه.
[4] في «آ» : «للقراءة» وأثبت لفظ «ط» و «طبقات الحنابلة» .

(5/293)


وفيها أبو القاسم المهرواني، يوسف بن محمد الهمذاني [1] الصوفي، العبد الصالح، الذي خرّج له الخطيب خمسة أجزاء. روى عن أبي أحمد الفرضي، وأبي عمر بن مهدي، ومات في ذي الحجة.
وفيها يوسف بن محمد بن يوسف أبو القاسم الخطيب، محدّث همذان وزاهدها. روى عن أبي بكر بن لال، وأبي أحمد الفرضي، وأبي عمر بن مهدي، وطبقتهم. وجمع ورحل، وعاش سبعا وثمانين سنة.
وفيها البيّاضي الشاعر، أبو جعفر [2] مسعود بن عبد العزيز بن المحسّن بن الحسن بن عبد الرزاق المشهور، وهو من الشعراء المجيدين في المتأخرين، وديوان شعره صغير، وهو في غاية الرّقة، وليس فيه من المديح إلّا اليسير، فمن أحسن شعره قصيدته القافية التي أولها:
إن غاض دمعك والركاب تساق ... مع ما بقلبك فهو منك نفاق
لا تحبسن ماء الجفون فإنّه ... لك يا لديغ هواهم ترياق [3]
واحذر مصاحبة العذول فإنّه ... مغر فظاهر عذله إشفاق
لا يبعدن زمن مضت أيّامه ... وعلى متون غصونها أوراق
أيام نرجسنا العيون ووردنا ... حمر الخدود وخمرنا الأرياق
ولنا بزوراء العراق مواسم ... كانت تقام لطيبها أسواق
فلئن بكت عيني دما شوقا إلى ... ذاك الزّمان فمثله يشتاق
إن الأغيلمة الأولى لولاهم ... ما كان طعم هوى الملاح يذاق
وكأنّما أرماحهم بأكفّهم ... أجسامهم ونصولها الأحداق
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الهمداني» وهو تصحيف، وانظر «العبر» (3/ 270) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 346) .
[2] في «آ» : «أبو حفص» والصواب ما في «ط» وانظر «وفيات الأعيان» (5/ 197) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 409) .
[3] في «آ» و «ط» : «درياق» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .

(5/294)


شنّوا الإغارة في القلوب بأعين ... لا يرتجى لأسيرها إطلاق
واستعذبوا ماء الجفون فعذّبوا ال ... أسراء [1] حتّى ذرت الآماق
ونمى الحديث بأنّهم نذروا دمي ... أولي دم يوم الفراق يراق
وشعره كله على هذا الأسلوب، وقيل له البيّاضي، لأن أحد أجداده كان في مجلس بعض الخلفاء مع جماعة من العبّاسيين، وكانوا قد لبسوا سوادا ما عداه، فإنه لبس بياضا، فقال الخليفة: من ذلك البيّاضي؟ فثبت الاسم عليه، واشتهر به.
وفيها ابن جابار [2] ، مكي بن عبد الله الدّينوري، أبو بكر، اجتهد في هذا الشأن، وهو حافظ. قاله ابن ناصر الدّين [3] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الأسرار» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن حابار» وهو تصحيف والتصحيح من «التبيان شرح بديعة البيان» .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (151/ ب) .

(5/295)


سنة تسع وستين وأربعمائة
فيها توفي أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد السّلمي، أحد رؤساء دمشق وعدولها. روى عن جدّه أبي بكر محمد بن أحمد بن عثمان، وجماعة. وسمع بمكّة من ابن جهضم، توفي في ربيع الأول، في عشر التسعين. قاله في «العبر» [1] .
وفيها حاتم بن محمد بن الطرابلسي أبو القاسم التميمي القرطبي المحدّث المتقن، مسند الأندلس، في ذي القعدة، وله إحدى وتسعون سنة.
روى عن عمر بن نابل [2] وأبي المطرّف بن فطيس، وطبقتهما. ورحل فأكثر عن أبي الحسن القابسي، وسمع بمكّة من ابن فراس العبقسي، وكان فقيها مفتيا.
وفيها حيّان بن خلف بن حسين بن حيّان، أبو مروان القرطبي الأديب، مؤرخ الأندلس ومسندها. توفي في ربيع الأول، وله اثنتان وتسعون سنة. سمع من عمر بن نابل، وله كتاب «المبين في تاريخ الأندلس» ستون مجلدا، وكتاب «المقتبس» في عشر مجلدات، وقد رؤي في النوم، فسئل
__________
[1] (3/ 271) .
[2] في «آ» : «عن عثمان نابل» وفي «ط» : «عن عثمان بن نابل» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «الصلة» لابن بشكوال (1/ 157) و «العبر» (3/ 272) .

(5/296)


عن التاريخ الذي عمله، فقال: لقد ندمت عليه، إلّا أنّ الله غفر لي بلطفه، وأقالني.
وقال ابن خلّكان [1] : ذكره أبو علي الغسّاني فقال: كان عالي السنّ، قوي المعرفة، متبحرا في الآداب، بارعا فيها، صاحب لواء التاريخ بالأندلس، أفصح الناس فيه وأحسنهم نظما له، لزم ابن الحباب النحوي، وصاعد [بن الحسن] الرّبعي، وأخذ عنه كتابه المسمى ب «الفصوص» وسمع الحديث، وسمعته يقول: التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودّة، والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة.
وتوفي يوم الأحد لثلاث بقين من ربيع الأول، ووصفه الغسّاني بالصدق فيما حكاه في «تاريخه» . انتهى ملخصا.
وفيها حيدرة بن علي الأنطاكي، أبو المنجّا المعبّر. حدّث بدمشق عن عبد الرحمن بن أبي نصر وجماعة.
قال ابن الأكفاني: كان يذكر أنه يحفظ في علم التعبير [2] عشرة آلاف ورقة وأكثر [3] .
وفيها أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ المصري الجوهري النحوي، صاحب التصانيف. دخل بغداد تاجرا في الجوهر، وأخذ عن [4] علمائها، وخدم بمصر في ديوان الإنشاء، وكان كتّاب الإنشاء لا يتقدمون بكتبهم حتّى تعرض عليه، وله مرتب على ذلك، ثم تزهد ورغب عن الخدمة، واستغنى بالله تعالى ولزم بيته، فكان ملطوفا به حتّى مات، وسببه أنه شاهد سنّورا أعمى في سطح الجامع يرقى إليه بقوته سنّور آخر ويخدمه،
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 218- 219) .
[2] تحرّفت في «آ» إلى «التفسير» .
[3] في «العبر» : «وزيادة» . (ع) .
[4] في «آ» : «من» .

(5/297)


فكان له فيه عبرة، ومن تصانيفه «المقدّمة» وشرحها، و «شرح الجمل» و «شرح كتاب الأصول» لابن السرّاج، ومسودّات. توفي قبل تمامها قريب من خمسة عشر مجلدا، قيل: إنه مات مترديا من غرفة، وأصله من الدّيلم.
وبابشاذ: كلمة أعجمية يتضمن معناها السرور والفرح.
وفيها، وجزم ابن ناصر الدّين في التي قبلها [1] ، عمر بن علي بن أحمد بن اللّيث اللّيثي البخاري، أبو مسلم الحافظ الجوّال. تكلم يحيى بن مندة فيه [2] ، وكان فيه تدليس وعجب بنفسه وتيه.
وفيها أو في التي قبلها- وهو الصحيح- أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زكريا الجرجاني الزّنجي، كان حافظا ثقة. قاله ابن ناصر الدّين [3] .
وفيها كرّكان الزاهد القدوة، أبو القاسم عبد الله بن علي الطّوسي، شيخ الصوفية، وصاحب «الدّويرة والأصحاب» . روى عن حمزة المهلّبي وجماعة، ومات في ربيع الأول.
وفيها أبو محمد الصّريفيني، عبد الله بن محمد بن عبد الله بن هزار مرد [4] ، المحدّث، خطيب صريفين، توفي في جمادى الآخرة، عن خمس وثمانين سنة. روى عن أبي القاسم بن حبابة، وأبي حفص الكتّاني، وكان ثقة.
__________
[1] مترجم في «التبيان شرح بديعة البيان» (151/ ب) .
[2] قلت: وذلك في كتابه المهم «التنبيه على أحوال الجهال والمنافقين» وهو من الكتب التي لا نعرف مكان وجودها وقد كانت عند الحافظ ابن ناصر الدّين الدّمشقي نسخة خطية منه كما ذكر العلّامة الزركلي في «الأعلام» (8/ 156) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (151/ ب) .
[4] في «آ» و «ط» : «ابن هراوذ» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 273) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 330) .

(5/298)


وفيها عبيد الله بن الحسين الفراء أبو القاسم بن القاضي أبي يعلي، ذكره أخوه في «الطبقات» [1] وأنه ولد يوم السبت سابع شعبان، سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. وقرأ بالروايات على أبي بكر الخيّاط، وابن البنّا، وأبي الخطّاب الصّوفي، وغيرهم. وسمع الحديث من والده وجدّه لأمه جابر بن ياسين وغيرهم، ورحل في طلب الحديث والعلم إلى واسط، والبصرة، والكوفة، وعكبرا، والموصل، والجزيرة، وآمد، وغير ذلك. وكان يتكلم مع شيوخ عصره، وكان والده يأتمّ به في صلاة التراويح إلى أن توفي، وكان أكبر أولاد القاضي أبي يعلى، وكان ذا عفة، وديانة وصيانة، حسن التلاوة للقراءة، كثير الدرس، له معرفة بعلومه، وله معرفة بالجرح والتعديل، وأسماء الرجال والكنى، وغير ذلك من علوم الحديث. وله خط حسن، ولما وقعت فتنة ابن القشيري، خرج إلى مكّة، فتوفي في مضيّه إليها بموضع يعرف بمعدن النّقرة [2] ، أواخر ذي القعدة، وله ست وعشرون سنة وثلاثة أشهر ونيّف وعشرون يوما تقريبا، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو الحسن البرداني محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن الحسين بن هارون الفرضي الأمين، والد الحافظ أبي علي.
ولد بالبردان، وسمع الكثير من ابن رزقويه، وابن بشران، وابن شاذان، والبرقاني، وخلق، وروى عنه ولداه أبو علي وأبو ياسر.
قال ابن النجار: كان رجلا، صالحا، صدوقا، حافظا لكتاب الله
__________
[1] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 235- 236) .
[2] في «آ» و «ط» : «بمعدن البقرة» وهو تحريف، والتصحيح من «طبقات الحنابلة» . وقال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 298) : النّقرة: كل أرض متصوّبة في وهدة فهي نقرة، وبها سمّيت النقرة بطريق مكة.

(5/299)


تعالى، عالما بالفرائض وقسمة التركات، كتب بخطه الكثير، وخرّج تخاريج، وجمع فنونا من الأحاديث وغيرها.
وقال ابن الجوزي: كان ثقة عالما صالحا أمينا، وتوفي يوم الخميس تاسع عشري ذي القعدة، وله كتاب «فضيلة الذكر والدعاء» .

(5/300)


سنة سبعين وأربعمائة
فيها توفي أبو صالح المؤذّن، أحمد بن عبد الملك بن علي النيسابوري الحافظ، محدّث خراسان في زمانه. روى عن أبي نعيم الإسفراييني، وأبي الحسن العلوي، والحاكم، وخلق، ورحل إلى أصبهان، وبغداد، ودمشق، في حدود الثلاثين وأربعمائة، وله ألف حديث عن ألف شيخ، وثّقه الخطيب وغيره، ومات في رمضان، عن اثنتين وثمانين سنة، وله تصانيف ومسوّدات.
وفيها أبو الحسين بن النّقور، أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي البزّاز، المحدّث الصدوق. روى عن علي الحربي، وأبي القاسم بن حبابة، وطائفة. وكان يأخذ على نسخة طالوت دينارا، أفتاه بذلك الشيخ أبو إسحاق، لأن الطلبة كانوا يفوتونه الكسب لعياله، مات في رجب عن تسعين سنة.
وفيها أبو نصر بن طلّاب الخطيب، الحسين بن أحمد بن محمد القرشي مولاهم الدمشقي، خطيب دمشق. روى عن ابن جميع «معجمة» [1] ، وعن أبي بكر بن أبي الحديد. وكان صاحب مال وأملاك، وفيه عدالة وديانة، توفي في صفر، وله إحدى وتسعون سنة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «مجمعه» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (17/ 153) و «الأعلام» (5/ 313) وفيه قال العلّامة الزركلي: منه الجزءان الأول والثاني في الأزهر، باسم «معجم الغسّاني» في تراجم شيوخه الذين أجازوه وأخذ عنه.

(5/301)


وفيها عبد الله بن الخلّال [1] أبو القاسم بن الحافظ أبي محمد الحسن بن محمد البغدادي. سمّعه أبوه من أبي حفص الكتّاني، والمخلّص، ومات في صفر، عن خمس وثمانين سنة.
قال الخطيب [2] : كان صدوقا.
وفيها أبو جعفر بن أبي موسى، شيخ الحنابلة، عبد الخالق بن عيسى بن أحمد.
كان ورعا، زاهدا، علّامة، كثير الفنون، رأسا في الفقه، شديدا على المبتدعة، نافذ الكلمة. روى عن أبي القاسم بن بشران، وقد أخذ في فتنة ابن القشيري، وحبس أياما. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن السمعاني: كان إمام الحنابلة في عصره بلا مدافعة، مليح التدريس، حسن الكلام في المناظرة، ورعا، زاهدا، متقنا، عالما بأحكام القرآن والفرائض، مرضي الطريقة.
وقال ابن عقيل: كان يفوق الجماعة من مذهبه وغيرهم في علم الفرائض، وكان عند الإمام- يعني الخليفة- معظما، حتّى إنّه وصّى عند موته بأن يغسله تبركا به، وكان حول الخليفة ما لو كان غيره لأخذه، وكان ذلك كفاية عمره، فو الله ما التفت إلى شيء منه، بل خرج ونسي مئزره، حتّى حمل إليه، قال: ولم يشهد منه أنه شرب ماء في حلقته مع شدة الحرّ، ولا غمس يده في طعام أحد من أبناء الدّنيا.
وقال ابن رجب: له تصانيف عدّة، منها «رؤوس المسائل» و «شرح
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن الحلال» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 275) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 368) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (9/ 439) .
[3] (3/ 275- 276) .

(5/302)


المذهب» وله جزء في أدب الفقه، وفي فضائل أحمد وترجيح مذهبه، وتفقه عليه طائفة من أكابر المذهب، كالحلواني، والقاضي أبي الحسين، وغيرهم.
وكان معظما عند الخاصة والعامة، زاهدا في الدنيا إلى الغاية، قائما في إنكار المنكرات بيده ولسانه، مجتهدا في ذلك.
وتوفي رحمه الله ليلة الخميس سحرا، خامس شهر صفر، وصلّي عليه يوم الجمعة ضحى بجامع المنصور، وأمّ الناس أخوه الشريف أبو الفضل، ولم يسع الجامع الخلق، ولم يتهيأ لكثير منهم الصلاة، ولم يبق رئيس ولا مرؤوس إلّا حضره إلّا من شاء الله، ودفنوه في قبر الإمام أحمد، وما قدر أحد أن يقول للعوام: لا تنبشوا قبر الإمام أحمد، وادفنوه بجنبه. فقال أبو محمد التميمي- من بين الجماعة-: كيف تدفنونه في قبر الإمام أحمد، وبنت أحمد مدفونة معه؟ فإن جاز دفنه مع الإمام لا يجوز دفنه مع ابنته. فقال بعض العوام: اسكت، فقد زوّجنا بنت أحمد من الشريف، فسكت التميمي.
ولزم الناس قبره، فكانوا يبيتون عنده كل ليلة أربعاء، ويختمون الختمات، فيقال: إنه قرئ على قبره تلك الأيام عشرة آلاف ختمة.
ورآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لما وضعت في قبري، رأيت قبة من درّة بيضاء، لها ثلاثة أبواب، وقائل يقول: هذه لك، أدخل من أيّ أبوابها شئت.
وفيها أبو القاسم بن مندة، عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم بن الوليد بن مندة بن بطة بن استندار، واسمه الفيرزان بن جهان بخت العبدي الأصبهاني، الإمام الحافظ، ابن الحافظ الكبير أبي عبد الله بن مندة. ومندة لقب إبراهيم جدّه الأعلى.
ذكره ابن الجوزي في «طبقات الحنابلة» وترجمه في «تاريخه» [1] فقال:
__________
[1] انظر «المنتظم» (9/ 315) .

(5/303)


ولد سنة ثلاث وثمانين [1] وثلاثمائة، وسمع أباه، وأبا بكر بن مردويه، وخلقا كثيرا، وكان كثير السماع، كبير الشأن، سافر [إلى] البلاد، وصنّف التصانيف، وخرّج التخاريج، وكان ذا وقار وسمت وأتباع، فيهم كثرة، وكان متمسكا بالسّنّة، معرضا عن أهل البدع، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم.
وقال ابن السمعاني: كان كبير الشأن، جليل القدر، كثير السماع، واسع الرواية، سافر إلى الحجاز، وبغداد، وهمذان، وخراسان، وصنّف التصانيف.
وقال سعد بن محمد الزّنجاني: حفظ الله الإسلام برجلين، أحدهما بأصبهان، والآخر بهراة، عبد الرحمن بن مندة، وعبد الله الأنصاري.
وقال يحيى بن مندة: كان عمي سيفا على أهل البدع، وهو أكبر من أن ينبّه عليه مثلي، كان والله آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، وفي الغدو والآصال ذاكرا، ولنفسه في المصالح قاهرا، أعقب الله من ذكره بالشرّ الندامة، وكان عظيم الحلم، كبير العلم، قرأت عليه قول شعبة: من كتبت عنه حديثا فأنا له عبد، فقال: من كتب عنّي حديثا، فأنا له عبد.
وقال ابن تيمية: وكان أبو القاسم بن مندة من الأصحاب، وكان يذهب إلى الجهر بالبسملة في الصلاة.
وقال ابن مندة في كتابه «الرد على الجهمية» : التأويل عند أصحاب الحديث نوع من الكذب.
وقال في «العبر» [2] : كان ذا سمت ووقار، وله أصحاب وأتباع، وفيه
__________
[1] في «المنتظم» : «سنة ثمان وثمانين» وفي «سير أعلام النبلاء» (18/ 350) : «سنة إحدى وثمانين» وانظر التعليق عليه.
[2] (3/ 276) .

(5/304)


تسنّن مفرط، أوقع بعض العلماء في الكلام في معتقده، وتوهّموا فيه التّجسيم، وهو بريء منه فيما علمت، ولكن لو قصّر من شأنه لكان أولى به، أجاز له زاهر بن أحمد السرخسي، وروى الكثير عن أبيه، وأبي جعفر الأبهري، وطبقتهما، وسمع بنيسابور من أصحاب الأصمّ، وبمكّة من ابن جهضم، وبهمذان، والدّينور، وشيراز، وبغداد، وعاش تسعا وثمانين سنة.
انتهى كلام «العبر» .
وفيها أبو بكر بن حمّدوية [1] ، أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب الرزّاز [2] المقرئ الزاهد.
ذكره ابن الجوزي في «الطبقات» و «التاريخ» [3] . ولد يوم الأربعاء لثمان عشرة ليلة خلت من صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وحدّث عن خلق كثير، منهم: ابن بشران، وابن القوّاس، وهو آخر من حدّث عن أبي الحسين بن سمعون، وتفقه على القاضي أبي يعلى [4] ، وكان ثقة زاهدا متعبدا، حسن الطريقة، وحدّث عنه الخطيب في «تاريخه» [5] وتوفي يوم السبت رابع عشري ذي الحجة.
قال ابن نقطة [6] : حمّدوية: بضم الحاء والميم المشددة أيضا وبالياء.
__________
[1] تحرّف في «تاريخ بغداد» إلى «حمدوه» فيصحح.
[2] في «آ» : «الدرار» وفي «المنتظم» : «الوزان» وأثبت لفظ «ط» و «تاريخ بغداد» .
[3] انظر «المنتظم» (8/ 313) .
[4] في «آ» : «أبو علي» .
[5] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 381) .
[6] في «الاستدراك» (باب حمّدوية، وحمدونة، وحمدوية، وحمديّة) مصور عن مخطوطة دار الكتب الوطنية الظاهرية بدمشق.

(5/305)