شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وسبعين
وأربعمائة
فيها عزم أهل حرّان، وقاضيهم ابن جلبة الحنبلي على تسليم حرّان إلى جنق
[1] أمير التّركمان، لكونه سنّيّا، وعصوا على [2] مسلم بن قريش، صاحب
الموصل، لكونه رافضيا، ولكونه مشغولا بمحاصرة دمشق مع المصريين. كانوا
يحاصرون بها تاج الدولة تتش [3] فأسرع إلى حرّان، ورماها بالمجانيق،
وأخذها، وذبح القاضي وولديه رحمهم الله تعالى. قاله في «العبر» [4] .
وفيها توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، إبراهيم بن علي بن يوسف
الفيروزآباذي الشافعي، جمال الدّين. أحد الأعلام، وله ثلاث وثمانون
سنة.
تفقه بشيراز، وقدم بغداد، وله اثنتان وعشرون سنة، فاستوطنها ولزم
القاضي أبا الطيب إلى أن صار معيده في حلقته، وكان أنظر أهل زمانه،
وأفصحهم وأورعهم، وأكثرهم تواضعا وبشرا، وانتهت إليه رئاسة المذهب في
الدّنيا.
روى عن أبي علي بن شاذان، والبرقاني، ورحل إليه الفقهاء من الأقطار،
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «العبر» ، وفي «الكامل في التاريخ» لابن الأثير
(10/ 130) : «جبق» وأثبت في الباء نقطة تحت السكون إشارة إلى شك الناشر
في وجه الصواب في الاسم.
[2] لفظة «على» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .
[3] تصحف في «آ» و «ط» إلى «تنش» والتصحيح من «العبر» .
[4] (3/ 285) .
(5/323)
وتخرّج به أئمة كبار، ولم يحجّ ولا وجب
عليه، لأنه كان فقيرا متعفّفا، قانعا باليسير. ودرّس بالنظامية، وله
شعر حسن. توفي في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة. قاله في «العبر»
[1] .
وقال ابن قاضي شهبة [2] : قال الشيخ أبو إسحاق: كنت أعيد كل قياس ألف
مرة، فإذا فرغت أخذت قياسا آخر على هذا، وكنت أعيد كل درس مائة مرة،
وإذا كان في المسألة بيت يستشهد به، حفظت القصيدة التي فيها البيت.
وكانت الطلبة ترحل من الشرق والغرب إليه، والفتاوى تحمل من البرّ
والبحر إلى بين يديه.
قال رحمه الله: لما خرجت في رسالة الخليفة إلى خراسان، لم أدخل بلدا
ولا قرية إلّا وجدت قاضيها، أو خطيبها، أو مفتيها، من تلامذتي.
وبنيت له النظامية ودرّس بها إلى حين وفاته، ومع هذا فكان لا يملك شيئا
من الدنيا، بلغ به الفقر حتّى كان لا يجد في بعض الأوقات قوتا ولا
لباسا، وكان طلق الوجه، دائم البشر، كثير البسط، حسن المجالسة، يحفظ
كثيرا من الحكايات الحسنة والأشعار، وله شعر حسن.
قال أبو بكر الشّاشي: الشيخ أبو إسحاق حجّة الله تعالى على أئمة العصر.
وقال ابن السمعاني: إن الشيخ أبا إسحاق قال: كنت نائما ببغداد، فرأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر، فقلت [3] : يا رسول
الله، بلغني
__________
[1] (3/ 285- 286) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 252- 253) .
[3] تحرّفت في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة إلى «فقال» فتصحح.
(5/324)
عنك أحاديث كثيرة عن ناقلي الأخبار، وأريد
أن أسمع منك خبرا أتشرف به في الدّنيا، وأجعله ذخيرة للآخرة. فقال لي:
«يا شيخ» وسمّاني شيخا، وخاطبني به،- وكان يفرح بهذا- ثم قال: «قل
عنّي، من أراد السّلامة فليطلبها في سلامة غيره» .
وقد أخذ هذا المعنى بعضهم فنظمه في أبيات هي كالشرح لهذا الخبر، فقال:
إذا [1] شئت أن تحيا ودينك سالم ... وحظّك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ ... فعندك عورات وللنّاس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا ... لقوم فقل: يا عين للنّاس أعين
وصاحب بمعروف وجانب من اعتدى ... وفارق ولكن بالتي هي أحسن
وقال ابن الأهدل: لما قدم الشيخ نيسابور رسولا من جهة المقتدر، تلقاه
النّاس، وحمل إمام الحرمين الغاشية بين يديه وناظره، فغلبه الشيخ بقوة
الجدل قيل: [قال] له: ما غلبتني إلّا بصلاحك.
ولما شافهه المقتدر بالرسالة، قال له: وما يدريني أنك الخليفة ولم أرك
قبلها، فتبسم، وطلب من عرّفه به، وتراكب الناس عليه في بلاد العجم،
حتّى تمسحوا بأطراف ثيابه وتراب نعليه.
ومن شعره رضي الله عنه:
سألت النّاس عن خلّ وفي ... فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسّك إن ظفرت بودّ حرّ ... فإنّ الحرّ في الدّنيا قليل
وذكر النووي في «تهذيبه» [2] أن الشيخ أبا إسحاق كان طارحا للتكلف.
__________
[1] في «آ» : «إن» .
[2] انظر «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 173) .
(5/325)
وروي أنه جيء بسؤال وهو عند دكان خباز أو
بقّال، فأخذ قلمه ودواته وأجاب على السؤال، ثم مسح بالقلم ثوبه.
وعلى الجملة فإنه ممّن أطبق الناس على فضله وسعة علمه، وحسن سمته
وصلاحه، مع القبول التام من الخاص والعام، وقد أثنى عليه علماء وقته
بما يطول شرحه.
وقال فيه عاصم بن الحسين:
تراه من الذّكاء نحيف جسم ... عليه من توقّده [1] دليل
إذا كان الفتى ضخم المعاني ... فليس يضره [2] الجسم النّحيل
وله مؤلفات كثيرة شهيرة نافعة، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو الوفاء، طاهر بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن القوّاس
البغدادي، الفقيه الحنبلي، الزاهد الورع.
ولد سنة تسعين وثلاثمائة، وقرأ القرآن [3] على أبي الحسن الحمّامي،
وسمع الحديث من هلال الحفّار، وأبي الحسين بن بشران، وغيرهما [4] .
وتفقه أولا على القاضي [أبي الطيب الطبري الشافعي، ثم تركه، وتفقّه على
القاضي] [5] أبي يعلى، ولازمه حتّى برع في الفقه، وأفتى ودرّس، وكانت
له حلقة بجامع المنصور للفتوى والمناظرة، وكان يلقي المختصرات من
تصانيف
__________
[1] في «آ» و «ط» : «توجده» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (1/ 30) و
«سير أعلام النبلاء» (18/ 463) .
[2] في «سير أعلام النبلاء» : «يضيره» وكلاهما بمعنى.
[3] كذا في «ط» و «طبقات الحنابلة» (2/ 244) و «المنتظم» (9/ 8) ، وفي
«آ» : «وقرأ القراءات» .
[4] في «ط» : «وغيرهم» .
[5] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
(5/326)
شيخه القاضي أبي يعلى، ويلقي مسائل الخلاف
درسا، وكان إليه المنتهى في العبادة، والزهد، والورع.
وذكره ابن السمعاني في «تاريخه» فقال: من أعيان فقهاء الحنابلة
وزهّادهم، كان قد أجهد نفسه في الطاعة والعبادة، واعتكف في بيت الله
خمسين سنة، وكان يواصل الطاعة ليله بنهاره، وكان قارئا للقرآن [1] ،
فقيها، ورعا، خشن العيش. انتهى.
وكانت له كرامات ظاهرة، ذكر ابن شافع في ترجمة صاحبه أبي الفضل بن
العالمة الإسكاف المقرئ، أنّه كان يحكي من كرامات الشيخ أبي الوفاء
أشياء عجيبة، منها أنه قال: كنت أحمل معي رغيفين كل يوم فأعبر- يعني في
السفينة- برغيف، وأمشي إلى مسجد الشيخ فأقرأ، ثم أعود ماشيا إلى ذلك
الموضع، فأنزل بالرغيف الآخر، فلما كان يوم من الأيام أعطيت الملاح
الرغيف، فرمى به واستقله، فألقيت إليه الرغيف الآخر، وتشوش قلبي لما
جرى، وجئت إلى الشيخ، فقرأت عليه عادتي، وقمت على العادة، فقال لي: قف،
ولم تجر عادته قطّ بذلك، ثم أخرج من تحت وطائه قرصا فقال:
أعبر بهذا.
وفيها عبد الوهاب [2] بن أحمد بن عبد الوهاب بن جلبة البغدادي ثم
الحرّاني، الخزّاز أبو الفتح، قاضي حرّان. اشتغل ببغداد، وتفقه بها على
القاضي أبي يعلى، وسمع الحديث من البرقاني، وأبي طالب العشاري، وأبي
على بن شاذان، وغيرهم. ثم استوطن حرّان، وصحب بها الشريف أبا القاسم
الزيدي، وأخذ عنه، وتولى بها القضاء.
__________
[1] في «آ» : «للقراءات» .
[2] في «آ» و «ط» : «عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الحنابلة»
(2/ 245) و «العبر» (3/ 286) و «عبد الوهاب» الثانية لم ترد فيه، و
«المنهج الأحمد» (2/ 173) بعناية الأستاذ عادل نويهض.
(5/327)
قال عنه ابن السمعاني: كان فقيها، واعظا،
فصيحا.
وقال ابن أبي يعلى [1] : كان يلي قضاء حرّان من قبل الوالد، كتب له
عهدا بولاية القضاء بحرّان. وكان ناشرا للمذهب، داعيا إليه، وكان مفتي
حرّان، وواعظها، وخطيبها، ومدرّسها.
وقال ابن رجب [2] : له تصانيف كثيرة. وسمع منه جماعة، منهم: هبة الله
بن عبد الوارث الشيرازي، ومكّي الرّميلي وغيرهما. وفي زمانه كانت حرّان
لمسلم بن قريش صاحب الموصل، وكان رافضيا، فعزم القاضي أبو الفتح على
تسليم حرّان إلى جبق [3] أمير التّركمان لكونه سنيا، فأسرع ابن قريش
إلى حرّان، وحصرها، ورماها بالمجانيق، وهدم سورها، وأخذها، ثم قتل
القاضي أبا الفتح، وولديه، وجماعة من أصحابه، وصلبهم على السور،
وقبورهم بحرّان تزار، رحمة الله عليهم.
وذكر ابن تيمية في «شرح العمدة» أن أبا الفتح بن جلبة كان يختار
استحباب مسح الأذنين بماء جديد، بعد مسحهما بماء الرأس، وهو غريب جدا.
وفيها أبو محمد عبد الله بن عطاء بن عبد الله بن أبي منصور بن الحسن بن
إبراهيم الإبراهيمي الهروي، المحدّث الحافظ، أحد الحفّاظ المشهورين
الرّحالين. سمع بهراة من عبد الواحد المليحي، وشيخ الإسلام الأنصاري،
وببوشنج من أبي الحسن الدّاوودي، وبنيسابور من أبي القاسم القشيري
وجماعة، وببغداد من ابن النّقور وطبقته، وبأصبهان من عبد الوهاب، وعبد
الرحمن ابني مندة، وجماعة. وكتب بخطه الكثير، وخرّج
__________
[1] في «طبقات الحنابلة» (2/ 245) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 43) .
[3] في «آ» و «ط» : «جنق» بالنون وهو تصحيف، والتصحيح من «ذيل طبقات
الحنابلة» وانظر «الكامل في التاريخ» (10/ 130) .
(5/328)
التاريخ للشيوخ، وحدّث، وروى عنه أبو محمد
سبط الخيّاط، وابن الزعفراني، وآخر من روى عنه أبو المعالي بن النّحاس،
ووثّقه طائفة، منهم:
المؤتمن السّاجي.
وقال شهردار الدّيلمي عنه: كان صدوقا، حافظا، متقنا، واعظا، حسن
التذكير [1] ، وقد تكلم فيه هبة الله السقطي- والسقطيّ مجروح لا يقبل
قوله- وقد ردّ قوله ابن السمعاني، وابن الجوزي، وغيرهما، وتوفي في طريق
مكّة بعد عوده منها، على يومين من البصرة.
وفيها أبو الخطّاب، علي بن أحمد بن عبد الله المقرئ الصّوفي المؤدب
البغدادي.
ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وقرأ على أبي الحسن الحمّامي وغيره
بالسبع، وقرأ عليه خلق كثير، منهم أبو الفضل بن المهتدي، وروى عنه
الحديث أبو بكر بن عبد الباقي وغيره، وله مصنف في السبعة [2] ، وقصيدة
في السنّة، وقصيدة في عدد الآي، وكان من شيوخ الإقراء ببغداد
المشهورين، ومن حنابلتها المجتهدين، وكان سابقا شافعيا، ثم رأى الإمام
أحمد، وسأله عن أشياء، وأصبح وقد تحنبل، وصنّف في معتقدهم.
وفيها أبو حكيم [3] الخبري- نسبة إلى خبر بنواحي شيراز- كان فقيها
صالحا، وكان يكتب في مصحف، فألقى القلم من يده واستند، وقال: والله إن
هذا هو موت هنيّ طيب ثم مات، رحمه الله تعالى. قاله ابن الأهدل.
وفيها البكري، أبو بكر، المغربي [4] الواعظ، من دعاة الأشعرية،
__________
[1] في «آ» : «التذكرة» .
[2] يعني في القراءات السبعة.
[3] في «آ» و «ط» : «أبو حليم» وما أثبته من «الأنساب» (5/ 39) .
[4] لفظة «المغربي» سقطت من «آ» وتحرّفت في «ط» إلى «المقرئ» والتصحيح
من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (18/ 561) .
(5/329)
وفد على نظام الملك بخراسان، فنفق عليه،
وكتب له سجلا أن يجلس بجوامع بغداد، فقدم وجلس ووعظ، ونال من الحنابلة
سبّا وتكفيرا، ونالوا منه، ولم تطل مدته. قاله في «العبر» [1] .
وفيها أبو طاهر، محمد بن أحمد بن محمد أبي الصّقر اللّخمي الأنباري
الخطيب، في جمادى الآخرة، وله ثمانون سنة. سمع بالحجاز، والشام، ومصر،
وأكبر مشايخه ابن أبي نصر التميمي.
وفيها مقرئ الأندلس في زمانه، أبو عبد الله محمد بن شريح [2] الرّعيني
الإشبيلي المقرئ، مصنف كتاب «الكافي» وكتاب «التذكير» توفي في شوال،
وله أربع وثمانون سنة، وقد حجّ وسمع من أبي ذرّ الهروي، وجماعة [3] .
__________
[1] (3/ 286) .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن سريج» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» - وقد ضبطه
محققه بفتح الشين وهو خطأ- و «سير أعلام النبلاء» (18/ 554) .
[3] قلت: وفيها على الصواب إمام العربية، أبو الحجّاج، يوسف بن سليمان
بن عيسى الشنتمري الأندلسي. انظر «الصلة» لابن بشكوال (2/ 681) و
«وفيات الأعيان» (7/ 81) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 555- 557)
والتعليق عليه. وقد وهم المؤلّف ابن العماد- رحمه الله- فأورده في
وفيات سنة (495) فليحرر.
(5/330)
سنة سبع وسبعين
وأربعمائة
فيها توفي إسماعيل بن مسعدة بن إسماعيل بن الإمام أبي بكر أحمد بن
إبراهيم الإسماعيلي الجرجاني أبو القاسم، صدر، عالم، نبيل، وافر [1] ،
له يد في النظم والنثر. روى عن حمزة السّهمي وجماعة، وعاش سبعين سنة،
وروى «الكامل» لابن عدي.
وفيها بيبى [2] بنت عبد الصمد بن علي أمّ الفضل، وأمّ عزّى [3]
الهرثميّة الهرويّة، لها جزء مشهور، ترويه عن عبد الرحمن بن أبي شريح،
توفيت في هذه السنة أبو في التي بعدها، وقد استكملت تسعين سنة.
وفيها أبو سعد، عبد الله بن الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري
النيسابوري، أكبر الإخوة، في ذي القعدة، وله أربع وستون سنة. روى عن
القاضي أبي بكر الحيري، وجماعة، وعاشت أمّه فاطمة بنت أبي علي الدّقّاق
بعده أربعة أعوام.
قال ابن الأهدل: الإمام الكبير البارع، أبو سعيد [4] . كانت فيه أوصاف
قلّ أن يحتويها إنسان، أو يعبّر عنها لسان، وكان أبوه يحترمه ويعامله
معاملة الأقران لما ظهر له منه.
__________
[1] في «العبر» : «وافر الحشمة» . (ع) .
[2] قال في «تاج العروس» (بيب) : بيبى كضيزى. ثم ذكر المترجمة.
[3] في «آ» و «ط» و «العبر» : «أم عربي» والتصحيح من «سير أعلام
النبلاء» (18/ 403) .
[4] في «ط» : «أبو سعيد» وهو خطأ.
(5/331)
وفيها عبد الرحمن بن محمد بن عفيف
البوشنجي، آخر أصحاب عبد الرحمن بن أبي شريح [الهروي] موتا [1] ، وهو
من كبار شيوخ أبي الوقت.
وفيها أبو نصر بن الصّبّاغ، عبد السيّد بن محمد بن عبد الواحد البغدادي
الشافعي، أحد الأئمة، ومؤلّف «الشامل» [2] كان نظير الشيخ أبي إسحاق
[3] ، ومنهم من يقدّمه على أبي إسحاق في نقل المذهب، وكان ثبتا، حجّة،
ديّنا، خيّرا، ولي النظامية بعد أبي إسحاق، ثم كفّ بصره. وروى عن محمد
بن الحسين القطّان، وأبي علي بن شاذان، وكان مولده في سنة أربعمائة،
توفي في جمادى الأولى ببغداد، ودفن في داره. قاله في «العبر» [4] .
وقال ابن شهبة [5] . كان ورعا، نزها، ثبتا، صالحا، زاهدا، فقيها،
أصوليا، محقّقا.
قال ابن عقيل: كملت له شرائط الاجتهاد المطلق.
وقال ابن خلّكان: كان ثبتا، صالحا، له كتاب «الشامل» وهو من أصح كتب
أصحابنا وأتقنها أدلة.
قال ابن كثير [6] : وكان من أكابر أصحاب الوجوه، ومن تصانيفه كتاب
«الكامل» في الخلاف بيننا وبين الحنفية، وكتاب «الطريق السالم» و
«العمدة في أصول الفقه» .
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» (3/ 289) .
[2] قال ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (3/ 217) : وهو من أجود كتب
أصحابنا- يعني أتباع الإمام الشافعي- وأصحها نقلا، وأثبتها أدلة، وانظر
«كشف الظنون» (2/ 1025) .
[3] يعني الشيرازي.
[4] (3/ 289- 290) .
[5] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 270) .
[6] يعني في كتابه «طبقات الشافعية» وهو مخطوط لم ينشر بعد فيما أعلم.
(5/332)
وفيها أبو علي الفارمذي- بفتح الفاء والراء
والميم ومعجمة [1] نسبة إلى فارمذ قرية بطّوس- الفضل بن محمد الزاهد،
شيخ خراسان.
قال عبد الغافر: هو شيخ الشيوخ في عصره، المنفرد بطريقته في التذكير،
التي لم يسبق إليها في عبارته وتهذيبه، وحسن أدائه، ومليح استعارته،
[ودقيق إشارته] ورقة ألفاظه.
دخل نيسابور، وصحب القشيري، وأخذ في الاجتهاد البالغ، إلى أن قال: وحصل
له عند نظام الملك [قبول] [2] خارج عن الحدّ. روى عن أبي عبد الله بن
باكويه، وجماعة، وعاش سبعين سنة. توفي في ربيع الآخر.
قاله في «العبر» [3] .
وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في «طبقات الأولياء» : كان عالما،
شافعيا، عارفا بمذاهب السّلف، ذا خبرة بمناهج الخلف، وأما التصوف فذاك
عشّه الذي منه درج، وغابه الذي ألفه ليثه ودخل وخرج، تفقه على الغزالي
الكبير، وأبى عثمان الصّابوني، وغيرهما، وأخذ عنه حجّة الإسلام، وجدّ
واجتهد، وكان ملحوظا من القشيري بعين العناية، موفرا عليه منه طريق
الهداية، حتّى فتح عليه لوامع من أنواع المجاهدة، وصار من مذكوري
الزمان ومشهوري المشايخ، وكان لسان الوقت.
وقال السمعاني [4] : كان لسان خراسان، وشيخها، وصاحب الطريقة الحسنة في
[5] تربية المريدين، وكان مجلس وعظه روضة ذات أزهار.
__________
[1] كذا قال المؤلّف وقد تبع في ذلك السمعاني في «الأنساب» (9/ 218)
وقال ياقوت في «معجم البلدان» (4/ 228) : بالراء الساكنة يلتقي بسكونها
ساكنان، وفتح الميم وآخره زال معجمة.
[2] لفظة «قبول» سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «العبر» .
[3] (3/ 290) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 565) وما بين حاصرتين مستدرك
منه.
[4] انظر «الأنساب» (9/ 219) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرف.
[5] في «الأنساب» : «من» .
(5/333)
وفيها محمد بن عمّار أبو بكر المهري، ذو
الوزارتين، شاعر الأندلس، كان هو وابن زيدون كفرسي رهان وكان ابن عمّار
قد اشتمل عليه المعتمد وبلغ الغاية، إلى أن استوزره، ثم جعله نائبا على
مرسية، فخرج عليه، ثم ظفر به المعتمد فقتله.
قال ابن خلّكان [1] : وكانت ملوك الأندلس تخاف ابن عمّار لبذاءة لسانه
وبراعة إحسانه، لا سيما حين اشتمل عليه المعتمد على الله بن عبّاد صاحب
غرب الأندلس، وأنهضه جليسا وسميرا، وقدّمه وزيرا ومشيرا، ثم رجّع إليه
[2] خاتم الملك، ووجهه أميرا، وقد أتى عليه حين من الدّهر لم يكن شيئا
مذكورا، فتبعته المواكب، والمضارب، والجنائب، والنجائب، والكتائب،
وضربت خلفه الطبول، ونشرت على رأسه الرايات والبنود، فملك مدينة تدمير
[3] وأصبح راقي منبر وسرير، مع ما كان فيه من عدم السياسة وسوء
التدبير، ثم وثب على مالك رقّه، ومستوجب شكره ومستحقه، فبادر إلى عقوقه
وبخس [4] حقوقه، فتحيّل المعتمد عليه، وسدّد سهام المكائد إليه، حتّى
حصل في يده قنيصا [5] ، وأصبح لا يجد له محيصا، إلى أن قتله المعتمد
بيده ليلا في قصره بمدينة إشبيلية.
وكانت ولادته في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، ولما قتله المعتمد، رثاه
صاحبه ابن وهبون الأندلسي بقوله من جملة قصيدة:
عجبا له أبكيه ملء مدامعي ... وأقول: لا شلّت يمين القاتل
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 425- 429) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «ثم خلع عليه» .
[3] قال ياقوت: تدمير: كورة بالأندلس، تتصل بأحواز كورة جيّان، وهي
شرقي قرطبة، وانظر تتمة كلامه عنها في «معجم البلدان» (2/ 19) .
[4] في «آ» و «ط» : «وغش» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في «آ» : «محيصا» وما أثبته من «ط» و «وفيات الأعيان» .
(5/334)
ومن مشاهير قصائد ابن عمّار:
أدر الزجاجة فالنّسيم قد انبرى ... والنّجم قد صرف العنان عن السّرى
والصّبح قد أهدى لنا كافوره ... لما استردّ اللّيل منّا العنبرا
ومن مديحها [1] وهي في المعتمد بن عبّاد:
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد ... ونحاه لا يردون حتّى يصدرا
أندى على الأكباد من قطر النّدى ... وألذ في الأجفان من سنة الكرى
قدّاح زند المجد لا ينفك عن [2] ... نار الوغى إلّا إلى نار القرى
ومن جملة ذنوبه عند المعتمد بيتان هجاه وهجا ابنه المعتضد بهما وهما:
مما يقبّح عندي ذكر أندلس ... سماع معتضد فيها ومعتمد
أسماء مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد
وكان أقوى الأسباب على قتله أنه هجاه بشعر ذكر فيه أم بنيه المعروفة
بالرّميكية، منها:
تخيّرها [3] من بنات الهجان ... رميكيّة [4] لا تساوي عقالا
فجاءت بكلّ قصير الذراع ... لئيم النّجارين [5] عمّا وخالا
وهذه الرّميكيّة [4] كانت سريّة المعتمد، اشتراها من رميك بن حجّاج،
فنسبت إليه، وكان قد اشتراها في أيام أبيه المعتضد، وأفرط في الميل
إليها،
__________
[1] يعني من أبيات المديح في القصيدة نفسها.
[2] في «وفيات الأعيان» : «من» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «تخيرتها» .
[4] قلت: وكانت شاعرة، ماتت سنة (488) هـ-. انظر «الأعلام» للعلّامة
الزركلي (1/ 334) .
[5] في «آ» و «ط» : «النجادين» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
وقال ابن منظور في «لسان العرب» (نجر) : النّجر والنَّجار والنُّجار:
الأصل والحسب.
(5/335)
وغلبت عليه، واسمها اعتماد، وهي التي أغرت
المعتمد على قتل ابن عمّار لكونه هجاها.
وفيها مسعود بن ناصر السّجزي [1] أبو سعيد الرّكّاب، الحافظ، رحل،
وصنّف، وحدّث عن أبي حسّان المزكّي، وعلي بن بشر بن اللّيثي، وطبقتهما،
ورحل إلى بغداد، وإصبهان.
قال الدّقاق: ولم أر [في المحدّثين] [2] أجود إتقانا ولا أحسن ضبطا
منه.
توفي بنيسابور في جمادى الأولى.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الشحري» وهو تصحيف، والتصحيح من «الأنساب» (7/ 47)
و «سير أعلام النبلاء» (18/ 532) .
[2] زيادة من «سير أعلام النبلاء» .
(5/336)
سنة ثمان وسبعين
وأربعمائة
فيها أخذ الأذفونش [1] لعنه الله، مدينة طليطلة من الأندلس، بعد حصار
سبع سنين، فطغى وتمرد، وحملت إليه ملوك الأندلس الضريبة، حتّى المعتمد
بن عبّاد، ثم استعان المعتمد على حربه بالملثّمين، وأدخلهم الأندلس.
وفيها توفي أبو العبّاس العذري، أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث الأندلسي
الدّلائي- ودلايه من عمل المريّة- كان حافظا، محدّثا، متقنا، مات في
شعبان، وله خمس وثمانون سنة. حج سنة ثمان وأربعمائة مع أبويه، فجاوروا
ثمانية أعوام، وصحب هو أبا ذرّ، فتخرّج به، وروى عن أبي الحسن بن جهضم
وطائفة، ومن جلالته أن إمامي الأندلس ابن عبد البرّ، وابن حزم، رويا
عنه، وله كتاب «دلائل النبوة» .
وفيها أبو سعد المتولّي، عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري، شيخ
الشافعية، وتلميذ القاضي الحسين، وهو صاحب «التّتمة» تمم به «الإبانة»
لشيخه أبي القاسم الفوراني، تفقه بمرو على الفوراني، وبمرو الرّوذ على
القاضي حسين، وببخارى على أبي سهل الأبيوردي، وبرع في الفقه، والأصول،
والخلاف.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الأدقيش» وفي «العبر» : «الأذفنش» وما أثبته من
«الكامل في التاريخ» (10/ 142) و «البيان المغرب» (4/ 35) .
(5/337)
قال الذهبي: كان فقيها محقّقا، وحبرا
مدقّقا.
وقال ابن كثير [1] : هو أحد أصحاب الوجوه في المذهب، وصنّف «التتمة»
ولم يكمله، وصل فيه إلى القضاء، وأكمله غير واحد، ولم يقع شيء من
تكملتهم على نسبته، وصنّف كتابا في أصول الدّين، وكتابا في الخلاف،
ومختصرا في الفرائض، ومولده بنيسابور، سنة ست. وقيل: سبع وعشرين
وأربعمائة، وتوفي ببغداد في شوال.
قال ابن خلّكان [2] : ولم أقف على المعنى الذي سمّي به المتولّي.
وفيها أبو المعالي أحمد بن مرزوق بن عبد الرزاق الزّعفراني [3]
الحنبلي، المحدّث. سمع الكثير، وطلب بنفسه، وكتب بخطّه.
قال أبو علي البرداني: كان همّه [4] جمع الحديث وطلبه، حدّث باليسير عن
أحمد بن عمر بن الأحصر، وأبي الحسين العكبري وغيرهم، وروى عنه
البرداني، وقال: إنه مات ليلة الثلاثاء، مستهل المحرم.
وفيها أبو معشر الطبري، عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري القطّان
المقرئ، نزيل مكّة، وصاحب كتاب «التلخيص» وغيره. قرأ بحرّان على أبي
القاسم الزّيدي، وبمكّة على الكارزيني، وبمصر على جماعة، وروى عن أبي
عبد الله بن نظيف، وجلس للإقراء بمكّة.
وفيها إمام الحرمين، أبو المعالي الجويني، عبد الملك بن أبي محمد عبد
الله بن يوسف، الفقيه الشافعي ضياء الدّين. أحد الأئمة الأعلام.
__________
[1] في «طبقات الشافعية» وهو مخطوط كما ذكرت من قبل.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 134) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرف.
[3] انظر «الوافي بالوفيات» (8/ 174- 175) و «المنهج الأحمد» (2/ 179)
.
[4] في «آ» و «ط» : «همته» والتصحيح من «المنهج الأحمد» .
(5/338)
قال ابن الأهدل: تفقه على والده في صباه،
واشتغل به مدته، فلما توفي والده، أتى على جميع مصنّفاته، ونقلها ظهرا
لبطن، وتصرّف فيها، وخرّج المسائل بعضها على بعض، ولم يرض بتقليد والده
من كل وجه، حتى أخذ في تحقيق المذهب والخلاف، وسلك طريق المباحثة
والمناظرة، وجمع الطرق بالمطالعة، حتّى أربى على المتقدمين، وأنسى
مصنّفات الأولين. توفي والده وهو دون العشرين سنة، فأقعد مكانه
للتدريس، وكان يتردد إلى المشايخ في أنواع العلوم، حتى ظهرت براعته،
ولما ظهر التعصب بين الأشعرية والمبتدعة، خرج مع المشايخ إلى بغداد،
فلقي الأكابر، وناظر، فظهرت فطنته، وشاع ذكره، ثم خرج إلى مكة، فجاور
بها أربع سنين ينشر العلم، ولهذا قيل له: إمام الحرمين، ثم رجع بعد مضي
نوبة التعصب إلى نيسابور في ولاية ألب أرسلان السّلجوقي، ثم قدم بغداد،
فتولى تدريس النظامية، والخطابة، والتذكير، والإمامة، وهجرت له
المجالس، وانغمر ذكر غيره من العلماء، وشاعت مصنفاته وبركاته، وكان
يقعد بين يديه كل يوم نحو ثلاثمائة رجل، من الطلبة، والأئمة، وأولاد
الصدور، وحصل له من القبول عند السلطان ما هو لائق بمنصبه، بحيث لا
يذكر غيره والمقبول من انتمى إليه وقرأ عليه، وصنّف النظامي والغيّاثي،
فقوبل بما يليق به من الشكر، والخلع الفائقة، والمراكب الثمينة، ثم
قلّد رعاية الأصحاب، ورئاسة الطائفة، وفوّض إليه أمر الأوقاف، وسار إلى
أصبهان بسبب مخالفة الأصحاب، فقابله نظام الملك بما هو لائق بمنصبه،
وعاد إلى نيسابور، وصار أكثر عنايته ب- «نهاية المطلب في دراية المذهب»
وأودعه من التدقيق والتحقيق ما تعلم به مكانته من العلم والفهم، واعترف
أهل وقته بأنه لم يصنّف في المذهب مثله، وصنّف «الشامل في أصول الدّين»
و «الإرشاد» و «العقيدة النظامية» و «غياث الأمم» في الإمامة، و «مغيث
الخلق في اختيار
(5/339)
الأحق» و «البرهان في أصول الفقه» وغيرها،
وكان مع رفعة قدره وجلالته، له حظ وافر من التواضع، فمن ذلك أنه لما
قدم عليه أبو الحسن المجاشعي، تلمذ له، وقرأ عليه كتاب «إكسير الذهب في
صناعة الأدب» من تصنيفه، وقد تقدم أنه حمل بين يدي الشيخ أبي إسحاق
الغاشية، وقد أثنى عليه علماء وقته بما يطول شرحه، من ذلك قول الشيخ
أبي إسحاق: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان.
وقال له في أثناء كلامه: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، أنت إمام الأئمة
اليوم.
وقال المجاشعي: ما رأيت عاشقا للعلم في أيّ فنّ كان مثل هذا الإمام،
وكان لا يستصغر أحدا، حتى يسمع كلامه، ولا يستنكف أن يعزو الفائدة إلى
قائلها، ويقول: استفدتها من فلان، وإذا لم يرض كلامه زيّفه، ولو كان
أباه.
وقال في اعتراض على والده، وهذه زلّة من الشيخ رحمه الله، وكان إذا شرع
في حكايات الأحوال، وعلوم الصوفية، ومجالس [1] الواعظ والتذكير، بكى
طويلا، حتّى يبكي غيره لبكائه، وربما زعق ولحقه الاحتراق العظيم، لا
سيما إذا أخذ في التفكّر.
وسمع الحديث من جماعة كثيرة، وأجاز له أبو نعيم صاحب «الحلية» وسمع
«سنن الدارقطني» من ابن عليك، وكان يعتمد تلك الأحاديث في مسائل
الخلاف، ويذكر الجرح والتعديل في الرواية.
وروي أن والده في ابتداء أمره، كان ينسخ بالأجرة، حتّى اجتمع له شيء،
فاشترى به جارية صالحة، ووطئها فلما وضعت إمام الحرمين، أوصاها
__________
[1] في «ط» : «ومجلس» .
(5/340)
أن لا ترضعه من غيرها، فأرضعته يوما جارة
لهم، فاجتهد الشيخ في تقييئها، حتّى تقايأها، وكان ربما لحقته فترة بعد
إمامته، فيقول: لعل هذه من بقايا تلك الرضعة، ولما مات لحق الناس عليه
ما لا يعهد لغيره، وغلقت أبواب البلد، وكشفت الرؤوس، حتّى ما اجترأ أحد
من الأعيان يغطي رأسه، وصلى عليه ولده أبو القاسم بعد جهد عظيم من
الزحام، ودفن في داره بنيسابور، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين،
وكسر منبره في الجامع، وقعد الناس للعزاء أياما، وكان طلبته نحو
أربعمائة يطوفون في البلد نائحين عليه، وكان عمره تسعا وخمسين سنة،
وآثاره في الدّين باقية، وإن انقطع نسله ظاهرا، فنشر علمه يقوم مقام كل
نسب.
ومن كلامه في كتابه «الرسالة النظامية» [1] : اختلفت مسالك العلماء في
هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب، وما يصحّ
من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر
على مواردها، وتفويض معانيها إلى الربّ. قال:
والذي نرتضيه رأيا، وندين لله [2] به عقدا، اتباع سلف الأمة، والدليل
السمعيّ القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجّة متبعة، وهو مستند الشريعة،
وقد درج صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ترك التعرّض لمعانيها،
ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا
يألون جهدا في ضبط قواعد الملّة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما
يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مشروعا أو محتوما، لأوشك
أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم
على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على كل ذي دين
أن يعتقد تنزيه الباري عن
__________
[1] وتسمى أيضا «العقيدة النظامية» وقد طبعت في القاهرة بتحقيق
العلّامة الشيخ محمد زاهد الكوثري عام (1367) هـ-، ولكنها ليست بمتناول
يدي.
[2] في «ط» : «وندين الله» .
(5/341)
صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل
المشكلات، ويكل معناها إلى الربّ، فليجر آية الاستواء والمجيء، وقوله:
لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ 38: 75 [ص:
75] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ 55: 27
[الرحمن: 27] وقوله:
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا 54: 14 [القمر: 14] . وما صحّ من أخبار الرسول،
كخبر النزول وغيره كما ذكرنا، انتهى بحروفه.
ومن شعر أبي المعالي:
نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية آراء الرّجال ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال
وذكر المناوي في شره على «الجامع الصغير» [1] ما نصه: وقال السمعاني في
«الذيل» عن الهمداني: سمعت أبا المعالي- يعني إمام الحرمين- يقول: قرأت
خمسين ألفا في خمسين ألفا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم
الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى [2] أهل الإسلام عنه، كل
ذلك في طلب الحقّ، وهربا من التقليد [3] ، والآن [قد] رجعت من العمل
إلى كلمة الحقّ «عليكم بدين العجائز» [4] فإن لم يدركني الحقّ بلطفه،
وأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري [عند الرحيل] على الحق، وكلمة
الإخلاص، لا إله إلا الله [5] ، فالويل لابن الجويني. انتهى بحروفه،
فرحمه الله ورضي عنه.
__________
[1] انظر «فيض القدير» (1/ 424) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] في «آ» : «ينهى» .
[3] في «آ» و «ط» : «وهو يأمن التقليد» ، والتصحيح من «فيض القدير» .
[4] ذكره الحافظ السيوطي في «الدرر المنتثرة» ص (98) طبع مكتبة دار
العروبة في الكويت، وعزاه للديلمي من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب
رضي الله عنهما بلفظ: «إذا كان آخر الزمان واختلفت الأهواء، فعليكم
بدين أهل البادية والنساء» وقال: سنده واه. وقال الصنعاني:
موضوع. انظر «الدّر الملتقط في تبيين الغلط» ص (43) طبع دار الكتب
العلمية ببيروت.
[5] في «آ» و «ط» : «وإلا» وما أثبته من «فيض القدير» .
(5/342)
وفيها أبو علي بن الوليد، شيخ المعتزلة،
محمد بن أحمد بن عبد الله ابن أحمد بن الوليد الكرخي، وله اثنتان
وثمانون سنة. أخذ عن أبي الحسين البصري، وغيره، وبه انحرف ابن عقيل عن
السّنّة قليلا، وكان ذا زهد، وورع، وقناعة، وتعبد، وله عدة تصانيف،
ولما افتقر جعل ينقض داره ويبيع خشبها ويتقوت [به] ، وكانت من حسان
الدّور ببغداد. قاله في «العبر» [1] .
وفيها قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني، محمد بن علي بن محمد
الحنفي، تفقه بخراسان ثم ببغداد، على القدوري، وسمع من الصّوري وجماعة،
وعاش ثمانين سنة. وكان نظير القاضي أبي يوسف في الجاه، والحشمة،
والسؤدد، وبقي في القضاء دهرا، ودفن في القبة إلى جانب الإمام أبي
حنيفة، رحمهما الله تعالى.
وفيها مسلم، الملك شرف الدولة، أبو المكارم بن الملك أبي المعالي قريش
بن بدران بن مقلّد العقيلي، صاحب الجزيرة وحلب، وكان رافضيا اتسعت
ممالكه، ودانت له العرب، وطمع في الاستيلاء على بغداد عند موت طغرلبك،
وكان شجاعا، فاتكا، مهيبا، داهية [2] ، ماكرا، التقى هو والملك سليمان
بن قتلمش [3] السلجوقي، صاحب الرّوم، على باب أنطاكية، فقتل في المصاف.
__________
[1] (3/ 293- 294) .
[2] في «آ» و «ط» : «ذا هيبة» والتصحيح من «العبر» مصدر المؤلف في
نقله.
[3] في «آ» و «ط» : «سلمان بن قتلمش» والتصحيح من «العبر» (3/ 294)
وانظر «الكامل في التاريخ» (10/ 138) .
(5/343)
سنة تسع وسبعين
وأربعمائة
فيها كانت وقعة الزلّاقة بين الأذفونش [1] والمعتمد بن عبّاد، ومعه
الملثّمون، فأتوا الزلّاقة من عمل بطليوس، فالتقى الجمعان، فوقعت
الهزيمة على الملاعين، وكانت ملحمة عظيمة، في أول جمعة من رمضان، وجرح
المعتمد عدّة جراحات سليمة، وطابت الأندلس للملثّمين، فعمل أميرهم ابن
تاشفين على ملكها [2] .
وفيها أعيدت الخطبة العبّاسية بالحرمين، وقطعت خطبة العبيديين.
وفيها كما قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [3] أرسل يوسف بن تاشفين
صاحب سبتة ومراكش إلى المعتمد أن يسلطنه، وأن يقلده ما بيده من البلاد،
فبعث إليه الخلع، والأعلام، والتقليد، ولقبه بأمير المؤمنين، ففرح
بذلك، وسرّ به فقهاء المغرب، وهو الذي أنشأ مدينة مراكش.
وفيها توفي أبو سعد النيسابوري، شيخ الشيوخ ببغداد، أحمد بن محمد بن
دوست، كان كبير الحرمة في الدولة، له رباط مشهور ومريدون، وكان نظام
الملك يعظّمه.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الأذفوش» وهو تحريف والصواب ما أثبته، وانظر
التعليق على ص (337) من هذا المجلد.
[2] في «العبر» : «على تملكها» . (ع) .
[3] لم أقف على هذا النقل في «تاريخ الخلفاء» الذي بين يدي.
(5/344)
وفيها أبو القاسم إسماعيل بن زاهر
النّوقاني- بالفتح والسكون كما قال السيوطي [1] : وبالضم كما قال
الإسنوي [1] نسبة إلى نوقان، مدينة بطوس- النيسابوري الشافعي الفقيه،
وله اثنتان وثمانون سنة. روى عن أبي الحسن العلوي، وعبد الله بن يوسف،
وابن محمش، وطائفة، ولقي ببغداد أبا الحسن [2] بن بشران وطبقته، وأملى
وأفاد.
وفيها طاهر بن محمد أبو عبد الرحمن الشّحّامي المستملي، والد زاهر [3]
. روى عن الحيري، وطائفة، وكان فقيها صالحا، ومحدّثا عارفا. له بصر تام
بالشروط، توفي في جمادى الآخرة، وله ثمانون سنة.
وفيها أبو علي التّستري، علي بن أحمد بن علي البصري السّقطي، راوي
«السنن» [4] عن أبي عمر الهاشمي.
وفيها أبو الحسن علي بن فضّال المجاشعي القيراوني، صاحب المصنفات في
العربية، والتفسير، توفي في ربيع الأول، وكان من أوعية العلم، تنقل
بخراسان، وصحب نظام الملك.
وفيها أبو الفضل محمد بن عبيد الله الصّرّام [5] النيسابوري، الرجل
الصالح. روى عن أبي نعيم الإسفراييني، وأبي الحسن العلوي، وطبقتهما،
وتوفي في شعبان.
وفيهما مسند العراق، أبو نصر الزّينبي [6] محمد بن محمد بن علي
__________
[1] انظر «لب اللباب في تحرير الأنساب» ص (266) و «طبقات الشافعية»
للإسنوي (2/ 493) في آخر ترجمة (ناصر بن إسماعيل النوقاني) أما المترجم
فلم يرد له ذكر عنده.
[2] في «العبر» : «ولقى ببغداد أبا الحسن» . (ع) .
[3] يريد والد (زاهر بن طاهر) والشحامي: نسبة لبيع الشحم. انظر «لب
اللباب» ص (151) .
[4] يعني «سنن أبي داود» كما جاء مبينا في «سير أعلام النبلاء» (18/
481) .
[5] تحرّفت نسبته في «آ» إلى «الصوّام» .
[6] تصحفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «الزبيبي» والتصحيح من «العبر» (3/
297) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 443) .
(5/345)
الهاشمي العبّاسي آخر أصحاب المخلّص، ومحمد
بن عمر الورّاق [1] توفي في جمادى الآخرة، وله اثنتان وتسعون سنة
وأربعة أشهر، وكان ثقة خيّرا.
وفيها القاضي أبو علي ناصر بن إسماعيل النّوقاني الحاكم.
قال عبد الغافر: كان فاضلا كبيرا من وجوه أصحاب الشافعي، حسن الكلام في
المناظرة، درّس سنين بنوقان، وأجرى بها القضاء على وجهه، وقتل بها
شهيدا. قاله الإسنوي [2] .
__________
[1] واسمه: أبو بكر محمد بن عمر بن زنبور الوراق. انظر «الأنساب» (6/
346) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 444) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 492- 493) .
(5/346)
سنة ثمانين
وأربعمائة
فيها توفي مقرئ الأندلس، عبد الله بن سهل الأنصاري المرسي.
أخذ القراءات عن أبي عمر الطّلمنكي، وأبي عبد الله محمد بن سفيان،
ومكّي، وجماعة.
وفيها شافع بن صالح بن حاتم بن أبي عبد الله الجيلي أبو محمد، قدم
بغداد بعد الثلاثين وأربعمائة، وسمع من أبي علي بن المذهب، والعشاري،
وابن غيلان، والقاضي أبي يعلى، وعليه تفقه وكتب معظم تصانيفه في الأصول
والفروع، ودرّس الفقه بمسجد الشريف أبي جعفر وخلفه أولاده من بعده في
ذلك، حتّى عرف المسجد بهم.
قال ابن الجوزي: كان متعففا متقشفا، ذا صلاح.
وقال ابن السمعاني: كتب التصانيف في مذهب الإمام أحمد كلها، ودرّس
الفقه، وتوفي يوم الثلاثاء سادس عشري صفر.
وفيها عبد الله بن نصر الحجازي أبو محمد الزاهد.
قال ابن الجوزي [1] : سمع الحديث، وصحب الزّهاد، وتفقه على مذهب أحمد،
وكان خشن العيش متعبدا، وحجّ على قدميه بضع عشرة حجة، وتوفي في ربيع
الأول.
__________
[1] انظر «المنتظم» (9/ 39) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
(5/347)
وفي آخر يوم من هذه السنة- وهو يوم الأحد
سلخ ذي الحجة- أبو بكر محمد بن علي بن الحسين بن القيّم الخزاز [1]
الحريمي الحنبلي، ودفن بباب حرب. طلب الحديث، وسمع من أبي الغنائم بن
المأمون، والعشاري، وغيرهما، وكتب بخطه الحديث والفقه، وحدّث باليسير،
وسمع منه أبو طاهر بن الرّحبي القطّان، وأبو المكارم الظاهري.
وفيها فاطمة بنت الشيخ أبي علي الحسن بن علي الدّقاق الزاهد [2] ، زوجة
القشيري، كانت كبيرة القدر، عالية الإسناد، من عوابد زمانها. روت عن
أبي نعيم الإسفراييني، والعلوي، والحاكم، وطائفة. توفيت في ذي القعدة،
عن تسعين سنة.
وفيها فاطمة بنت الحسن بن علي الأقرع، أمّ الفضل، البغدادية الكاتبة،
التي جوّدوا على خطّها، وكانت تنقل طريقة ابن البوّاب، حكت أنها كتبت
ورقة للوزير الكندري، فأعطاها ألف دينار، وقد روت عن أبي عمر بن مهدي
الفارسي.
وفيها السيد المرتضى، ذو الشرفين. أبو المعالي محمد بن محمد بن زيد
العلوي الحسيني الحافظ، قتله الخاقان بما وراء النهر مظلوما، وله خمس
وسبعون سنة. روى عن أبي علي بن شاذان وخلق، وتخرّج بالخطيب ولازمه،
وصنّف التصانيف، وحدّث بسمرقند، وأصبهان، وبغداد، وكان متموّلا،
معظّما، وافر الحشمة، كان يفرّق في العام نحو العشرة آلاف دينار،
ويقول: هذه زكاة مالي.
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «الحزار» والتصحيح من «المنهج الأحمد» (2/
180) .
[2] كذا في «آ» و «ط» و «سير أعلام النبلاء» (18/ 479) وفي «العبر» (3/
298) : «الزاهدة» .
(5/348)
|