شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وثمانين وأربعمائة
فيها توفي أبو بكر الغورجي- بالضم وفتح الراء وجيم [نسبة] إلى غورة، قرية بهراة- أحمد بن عبد الصمد الهروي، راوي «جامع الترمذي» عن الجرّاحي. توفي في ذي الحجة.
وفيها أبو إسحاق الطيّان، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأصبهاني القفّال، صاحب إبراهيم بن خرّشيذ [1] قوله، توفي في صفر.
وفيها أبو إسماعيل الأنصاري، شيخ الإسلام، عبد الله بن محمد بن علي الهروي، الصّوفي القدوة الحنبلي الحافظ، أحد الأعلام، توفي في ذي الحجة وله ثمانون سنة وأشهر. سمع من عبد الجبار الجرّاحي، وأبي منصور محمد بن محمد الأزدي، وخلق كثير، وبنيسابور من أبي سعيد الصّيرفي، وأحمد السليطي، صاحبي الأصم، وكان قذى في أعين المبتدعة، وسيفا على الجهمية، وقد امتحن مرات، وصنّف عدة مصنفات، وكان شيخ خراسان في زمانه غير مدافع. قاله في «العبر» [2] .
ومن شعره:
سبحان من أجمل الحسنى لطالبها ... حتّى إذا ظهرت في عبده مدحا
ليس الكريم الذي يعطي ليمدحه ... إنّ الكريم الذي يثني بما منحا
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «خورشيد» والتصحيح من «العبر» مصدر المؤلف في نقله.
[2] (3/ 299- 300) .

(5/349)


وفيها عثمان بن محمد بن عبيد الله المحمي- كالمرمي نسبة إلى محم جدّ- أبو عمرو المزكّي بنيسابور، في صفر. روى عن أبي نعيم الإسفراييني، والحاكم.
وفيها ابن ماجة الأبهري أبو بكر، محمد بن أحمد بن الحسن الأصبهاني، وأبهر أصبهان قرية، وأما أبهر زنجان، فمدينة- عاش خمسا وتسعين سنة، وتفرّد في الدّنيا بجزء لوين عن ابن المرزبان الأبهري.

(5/350)


سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة
فيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد بن محمد أبو نصر الحنفي، رئيس نيسابور وقاضيها وكبيرها. روى عن جدّه، والقاضي أبي [بكر] الحيري [1] وطائفة، وكان يقال له: شيخ الإسلام، وكان مبالغا في التعصب في المذهب، فأغرى بعضا ببعض، حتّى لعنت الخطباء أكثر الطوائف في دولة طغرلبك، فلما مات طغرلبك خمد هذا ولزم بيته مدة، ثم ولي القضاء.
وفيها أبو إسحاق الحبّال، الحافظ إبراهيم بن سعيد النّعماني، مولاهم المصري، عن تسعين سنة. سمع أحمد بن ثرثال [2] ، والحافظ عبد الغني، ومنير بن أحمد، وطبقتهم، وكان يتجر في الكتب، وكانت بنو عبيد قد منعوه من التحديث في أواخر عمره، وكان ثقة، صالحا، حجّة، ورعا، كبير القدر.
وفيها الحسن بن أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن عثمان بن الوليد بن أبي الحديد أبو عبد الله السّلمي الدمشقي الخطيب، نائب الحكم بدمشق. روى عن عبد الرحمن بن الطّبيز [3] وطائفة، وعاش ستا وستين سنة.
__________
[1] في «ط» : «الحري» وما بين حاصرتين مستدرك من «سير أعلام النبلاء» (19/ 8) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «بريال» والتصحيح من «العبر» (3/ 302) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «ابن الطيير» والتصحيح من «العبر» (3/ 302) .

(5/351)


وفيها القاضي أبو منصور بن شكرويه [1] محمد بن أحمد بن علي الأصبهاني، الحافظ المكثر. توفي في شعبان، وله تسع وثمانون سنة، وهو آخر من روى عن أبي علي البغدادي، وابن خرّشيذقوله، ورحل وأخذ بالبصرة عن أبي عمر الهاشمي بعض «السنن» [2] أو كله، وفيه ضعف.
وفيها أبو الخير محمد بن أحمد بن عبد الله بن ورا [3] الأصبهاني.
روى عن عثمان البرجي وطبقته، وكان واعظا زاهدا، وأمّ مدة بجامع أصبهان.
وفيها الطبسي- بفتح الطاء المهملة والموحدة التحتية ومهملة، نسبة إلى طبس مدينة بين نيسابور، وأصبهان، وكرمان- محمد بن أحمد بن أبي جعفر المحدّث، مؤلّف كتاب «بستان العارفين» روى عن الحاكم وطائفة، توفي في شهر رمضان، وكان صوفيا، عابدا، ثقة، صاحب حديث وسنّة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن سمكويه» والتصحيح من «العبر» (3/ 302) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 493) .
[2] يعني «سنن أبي داود» كما جاء مبينا في «سير أعلام النبلاء» (18/ 493) وفيه قال الذهبي:
إلّا أنه خلط في كتاب «سنن أبي داود» ما سمعه منه بما لم يسمعه، وحكّ بعض السماع.
[3] في «آ» و «ط» : «ابن زر» وما أثبته من «العبر» (3/ 302) .

(5/352)


سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة
فيها كانت فتنة هائلة لم يسمع بمثلها بين السّنّة والرافضة، وقتل بينهم عدد كثير، وعجز والي البلد، واستظهرت السّنّة بكثرة من معهم من أعوان الخليفة، واستكانت الشيعة وذلّوا ولزموا التقية، وأجابوا إلى أن كتبوا على مساجد الكرخ خير الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر.
وفيها توفي خواهر زاده الحنفي، شيخ الطائفة بما وراء النهر، وهو أبو بكر محمد بن الحسين البخاري القديديّ [1]- مصغرا نسبة إلى قديد بين مكّة والمدينة شرّفهما الله تعالى- روى عن منصور الكاغذي وطائفة، وبرع في المذهب، وفاق الأقران، وطريقته أبسط طريقة للأصحاب، وكان يحفظها، وتوفي في جمادى الأولى ببخارى.
وفيها عاصم بن الحسن أبو الحسين العاصمي الكرخي، الشاعر المشهور. روى عن ابن المتيّم، وعن أبي عمر بن مهدي، وكان شاعرا، محسنا، ظريفا، صاحب ملح ونوادر، مع الصلاح والعفّة والصدق، مرض في آخر عمره، فغسل ديوان شعره، ومات في جمادى الآخرة، عن ست وثمانين سنة.
__________
[1] انظر «الأنساب» (10/ 77) .

(5/353)


وفيها أبو نصر التّرياقي، عبد العزيز بن محمد الهروي، راوي الترمذي [1] سوى آخر جزء منه، عن الجرّاحي [2] ، كان ثقة، أديبا، عاش أربعا وتسعين سنة.
وترياق: من قرى هراة.
وفيها أبو الحسن علي بن حمد [3] بن علي بن عبد الله بن محمد بن الحسين الطبري الرّوياني. نزل بخارى وبها مات، وكان حافظا، مكثرا، أحد النقاد. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو بكر التّفلسي- بفتح فسكون، وبعد اللام سين مهملة، نسبة إلى تفلس بلد بأذربيجان [4]- محمد بن إسماعيل بن محمد النيسابوري المولد الصّوفي المقرئ. روى عن حمزة المهلّبي، وعبد الله بن يوسف الأصبهاني، وطائفة، ومات في شوال.
وفيها العلّامة أبو بكر الخجندي- بخاء معجمة مضمومة، ثم جيم مفتوحة، وسكون النون، ومهملة، نسبة إلى خجندة، مدينة بطرف سيحون- محمد بن ثابت بن الحسن الشافعي الواعظ، نزيل أصبهان، ومدرّس نظاميتها، وشيخ الشافعية بها ورئيسها، كان إليه المنتهى في الوعظ، توفي في ذي القعدة.
__________
[1] يعني راوي «سنن الترمذي» .
[2] تقدمت ترجمته.
[3] في «آ» و «ط» : «علي بن أحمد» وما أثبته من «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (154- آ- ب) مصدر المؤلف. وعلق العلّامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني على «الأنساب» (6/ 191) بقوله على ترجمة المترجم: في النسخة «ك» - وهي الأصل الذي اعتمد عليه- «علي بن حمد» كما عند ابن ناصر الدّين في «التبيان» ولكنه أثبت في المتن «علي بن أحمد» متابعا في ذلك السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» .
[4] تنبيه: كذا قال المؤلف وهو خطأ، والصواب: «التّفليسي» نسبة إلى «تفليس» وهي آخر بلدة من بلاد أذربيجان مما يلي الثغر. انظر «الأنساب» (3/ 65) و «معجم البلدان» (2/ 35) .

(5/354)


قال الإسنوي [1] : له يد باطشة في النظر والأصول، انتشر علمه في الآفاق، وتخرّج به وبكلامه جماعة، وتفقه على أبي سهل الأبيوردي، وسمع الحديث من جماعة، وحدّث عنهم، وكان حسن السيرة، من رؤساء الأئمة، ذا حشمة ونعمة.
وكان له ولد يقال له أبو سعيد أحمد، تفقّه على والده، حتّى برع في المذهب، وسمع وحدّث، ولما مات أبوه فوّض تدريس النظامية إلى غيره، فلزم بيته إلى أن مات في شعبان، سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، عن عثمان وثمانين سنة. قاله ابن السمعاني [2] .
وفيها أبو نصر محمد بن سهل السّرّاج الشّاذياخي- بشين معجمة وسكون الذال المعجمة وتحتية وخاء معجمة، نسبة إلى قرية بنيسابور أو إلى شاذياخ [3] ببلخ- آخر أصحاب أبي نعيم عبد الملك الإسفراييني. روى عن جماعة، وكان ظريفا، نظيفا، لطيفا، توفي في صفر عن تسعين سنة.
وفيها أبو الغنائم بن أبي عثمان محمد بن علي بن حسن [الدقاق] [4] ، بغدادي، متميّز، صدوق. روى عن أبي عمر بن مهدي وجماعة.
وفيها فخر الدولة بن جهير الوزير، أبو نصر محمد بن محمد بن جهير الثّعلبي، ولي نظر حلب، ثم وزر لصاحب ميّافارقين، ثم وزر للقائم بأمر الله مدّة، وكان من رجال العالم ودهاة بني آدم، وكان رئيسا جليلا، خرج من بيتهم جماعة من الوزراء والرؤساء ومدحهم أعيان الشعراء، فمنهم صرّدرّ
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 478) .
[2] انتهى نقل المؤلف عن «طبقات الشافعية» للإسنوي.
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «شاذخ» والتصحيح من «الأنساب» (7/ 242) و «معجم البلدان» (3/ 305) .
[4] زيادة من «العبر» (3/ 306) مصدر المؤلف.

(5/355)


المتقدم ذكره [1] وهي من غرر قصائده ومشاهيرها، وأولها:
لجاجة قلب ما يفيق غرورها ... وحاجة نفس ليس يقضى يسيرها
وقفنا صفوفا في الدّيار كأنّها ... صحائف [2] ملقاة ونحن سطورها
يقول خليلي والظّباء سوانح ... أهذا الذي تهوى؟ فقلت: نظيرها
لئن شابهت أجيادها وعيونها ... لقد خالفت أعجازها وصدورها
فيا عجبا منها يصدّ [3] أنيسها ... ويدنو على ذعر إلينا نفورها
وما ذاك إلّا أن غزلان عامر ... تيقنّ أن الزائرين صقورها
ألم يكفها ما قد جنته شموسها ... على القلب حتّى ساعدتها بدورها
نكصنا على الأعقاب خوف إناثها ... فما بالها تدعو نزال ذكورها
وو الله ما أدري غداة نظرننا ... أتلك سهام أم كؤوس تديرها
فإن كنّ من نبل فأين حفيفها ... وإن كنّ من خمر فأين سرورها
أيا صاحبيّ استأذنا لي خمارها ... فقد أذنت لي في الوصول خدورها
فلا تحسبا قلبي طليقا فإنما ... لها الصّدر سجن وهو فيه أسيرها
أراك الحمى قل لي بأيّ وسيلة ... توسلت حتّى قبّلتك ثغورها؟
أعدت إلى جسم الوزارة روحه ... وما كان يرجى بعثها ونشورها
أقامت زمانا عند غيرك طامثا [4] ... وهذا رعاك الله وقت طهورها
من الحقّ أن يحبى بها مستحقها ... وينزعها مردودة مستعيرها
إذا ملك الحسناء من ليس كفأها ... أشار عليها بالطّلاق مشيرها
وكانت ولادة فخر الدولة المذكور سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة
__________
[1] انظر ترجمته في ص (279- 280) من هذا المجلد.
[2] في «آ» و «ط» : «صحيفة» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[3] في «آ» و «ط» : «يصيد» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» (5/ 129) مصدر المؤلف.
[4] في «آ» و «ط» : «ضامنا» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .

(5/356)


بالموصل، وتوفي بها في رجب، وقيل: في المحرم، ودفن في تل التوبة، وهو تل قبالة الموصل، يفصل بينهما عرض الشطّ.
وأما ولده عميد الدولة فقد ذكره محمد بن عبد الملك الهمذاني في «تاريخه» فقال: انتشر عنه الوقار، والهيبة، والعفّة، وجودة الرأي، وخدم ثلاثة من الخلفاء، ووزر لاثنين منهم، وكان عليه رسوم كثيرة وصلات جماعة، وكان نظام الملك يصفه دائما بالأوصاف العظيمة، ويشاهده بعين المكافئ الشهم، ويأخذ رأيه في أهم الأمور، ويقدّمه على الكفاة والصدور، ولم يكن يعاب بأشد من الكبر الزائد، فإنّ كلماته كانت محفوظة مع ضنّه بها، ومن كلّمه بكلمة قامت عنده مقام بلوغ الأمل، فمن جملة ذلك أنه قال لولد الشيخ الإمام أبي نصر بن الصباغ: اشتغل وادأب وإلا كنت صبّاغا بغير أب. انتهى كلام ابن الهمذاني.
وكان نظام الملك قد زوّجه بنته زبيدة، وكان قد عزل عن [1] الوزارة ثم أعيد إليها بسبب المصاهرة، وفي ذلك يقول الشريف أبو يعلى بن الهبّارية:
قل للوزير ولا تفزعك هيبته ... وإن تعاظم واستولى لمنصبه
لولا ابنة الشيخ ما استوزرت ثانية ... فاشكر حرّا صرت مولانا الوزير به [2]
ولعميد الدولة شعر ذكره في «الخريدة» لكنه غير مرضي.
وذكره ابن السمعاني في كتاب «الذيل» ومدحه خلق كثير من شعراء عصره.
وفيه يقول صرّدرّ قصيدته العينية المشهورة التي أولها:
قد بان عذرك والخليط مودّع ... وهوى النّفوس مع الهوادج يرفع
__________
[1] في «ط» : «من» .
[2] كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» (5/ 132) ولا يستقيم وزن البيت الثاني والأصح أن يقال:
............... ............. ... فاشكر لمن صرت مولانا الوزير به

(5/357)


لك حيثما سمت الركائب لفتة ... أترى البدور بكل واد تطلع
في الظّاعنين من الحمى بدر له ال ... أحشاء مرعى والمآقي مكرع
ممنوع أطراف الجمال رقيبة ... حذرا عليه من العيون البرقع
عهد الحبائل صائدات شبهه ... فارتاع فهو لكل حبل يقطع
لم يدر حامي سربه أني إذا ... حرم الكلام له لساني الإصبع
وإذا الطّيوف إلى المضاجع أرسلت ... بتحية منه فعيني تسمع
وهي طويلة ومن غرر الشعر.
وعزل عميد الدولة عن الوزارة في شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.
وجهير: بفتح الجيم وكسر الهاء، وقال ابن السمعاني: بضم الجيم، وهو غلط. يقال: رجل جهير بيّن الجهارة، أي ذو منظر، ويقال: رجل جهير الصوت، بمعنى جهوري الصوت. قاله ابن خلّكان [1] .
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 127- 134) .

(5/358)


سنة أربع وثمانين وأربعمائة
فيها توفي أبو الحسين أحمد بن عبد الرحمن الذّكواني الأصبهاني، يوم عرفة، وله تسعون سنة. روى عن جدّه ابن أبي علي، وعثمان البرجي، وطبقتهما، وكان ثقة.
وفيها أبو الحسن طاهر [1] بن مفوّز المعافري الشّاطبي، تلميذ أبي عمر بن عبد البرّ. كان من أئمة هذا الشأن، مع الورع، والتّقي، والاستبحار في العلم. وعدّه ابن ناصر الدّين من الحفّاظ المكثرين الضابطين، وقال: هو أخو عبد الله زاهد زمانه. وتوفي طاهر [1] في شعبان وله خمس وخمسون سنة.
وفيها عبد الملك بن علي بن شغبة أبو القاسم الأنصاري البصري، الحافظ الزاهد. استشهد بالبصرة، وكان يروي جملة من «سنن أبي داود» عن أبي عمر الهاشمي، أملى عدة مجالس، وكان من العبادة والخشوع بمحلّ.
وفيها أبو طاهر بن دات عبد الرحمن بن أحمد بن علك بن دات- بدال مهملة يليها ألف ثم مثناة فوق- الشّاوي الحافظ، إمام أهل الحديث بسمرقند في زمانه. قاله ابن ناصر الدّين [2] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ظاهر» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 307) و «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (154/ ب) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (154/ ب) .

(5/359)


وفيها أبو نصر الكركانجي- بالضم والسكون آخره جيم، نسبة إلى كركانج، وهي مدينة خوارزم- محمد بن أحمد بن علي شيخ المقرئين بمرو ومسند الآفاق، توفي في ذي الحجة، وله أربع وتسعون سنة. وكان إماما في علوم القرآن، كثير التصانيف، متين الديانة. انتهى إليه علو الإسناد، قرأ ببغداد على أبي الحسن الحمّامي، وبحرّان على الشريف الزبيدي، وبمصر على إسماعيل بن عمر الحداد، وبدمشق، والموصل، وخراسان.
وفيها أبو منصور المقوّمي- بالضم والفتح وكسر الواو المشددة- محمد بن الحسين بن الهيثم القزويني، راوي «سنن ابن ماجة» عن القاسم بن المنذر [1] ، توفي فيها أو بعدها عن بضع وثمانين سنة.
وفي رجب قاضي القضاة [أبو بكر] النّاصحي محمد بن عبد الله بن الحسين النيسابوري. روى عن أبي بكر الحيري وجماعة.
قال عبد الغافر: هو أفضل عصره في أصحاب أبي حنيفة، وأعرفهم بالمذهب، وأوجههم في المناظرة، مع حفظ وافر من الأدب والطب، ولم تحمد سيرته في القضاء. قاله في «العبر» [2] .
وفيها المعتصم، محمد بن معن بن محمد بن صمادح، أبو يحيى التّجيبي الأندلسي صاحب المريّة، توفي وجيش ابن تاشفين محاصرون له.
قال ابن بسام في «الذخيرة» [3] : كانت بين المعتصم وبين الله [سريرة، أو سلفت له] عند الحمام يد مشكورة، فمات وليس بينه وبين حلول الفاقرة به إلّا أيام يسيرة في سلطانه وبلده، وبين أهله وولده.
__________
[1] في «العبر» : «القاسم بن أبي المنذر» . (ع) .
[2] (3/ 308) .
[3] انظر «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» القسم الأول (المجلد الثاني» ص (734) وما بين حاصرتين مستدرك منه.

(5/360)


حدّثني من لا أردّ خبره عن أروى بعض [مسانّ] حظايا أبيه قالت: إني لعنده وهو يوصي بشأنه، وقد غلب عليه أكثر يده ولسانه، ومعسكر أمير المؤمنين [1]- يعني يوسف بن تاشفين- يومئذ بحيث نعدّ خيامهم [2] ، ونسمع اختلاط أصواتهم، إذا سمعت [3] وجبة من وجباتهم، فقال: لا إله إلّا الله، نغّص علينا كل شيء حتّى الموت! قالت أروى: فدمعت عينيّ، فلا أنسى طرفا إليّ يرفعه، وإنشاده لي [4] بصوت لا أكاد أسمعه:
ترفّق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاء طويل
انتهى كلام ابن بسام.
ومات المعتصم في أثر ذلك عند طلوع الشمس، يوم الخميس ثاني عشري ربيع الأول، بالمريّة، ودفن في تربة له عند باب الخوخة.
__________
[1] في «الذخيرة» : «أمير المسلمين» .
[2] في «الذخيرة» : «خيماتهم» .
[3] في «الذخيرة» : «سمع» .
[4] في «الذخيرة» «وإنشاده إياي» .

(5/361)


سنة خمس وثمانين وأربعمائة
فيها توفي أبو الفضل جعفر بن يحيى الحكّاك، محدّث مكّة، وكان متقنا، حجّة، صالحا. روى عن أبي ذرّ الهروي وطائفة، وعاش سبعين سنة.
وفيها نظام الملك الوزير أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطّوسي قوام الدّين. كان من جلّة الوزراء.
ذكره ابن السمعاني فقال: كعبة المجد، ومنبع الجود. وكان مجلسه عامرا بالقرّاء والفقهاء، أنشأ المدارس بالأمصار، ورغب في العلم، وأملى وحدّث، وعاش ثماني وسبعين سنة. أتاه شاب صوفيّ الشكل من الباطنية، ليلة عاشر رمضان، فناوله قصّة، ثم ضربه بسكين في صدره، فقضى عليه، فيقال: إن ملكشاه دسّ عليه هذا، والله أعلم.
وقال ابن السمعاني أيضا في كتاب «الأنساب» [1] في ترجمة الرّاذكان:
إنها بليدة صغيرة بنواحي طوس، قيل: نظام الملك كان من نواحيها.
وكان من أولاد الدّهاقين، واشتغل بالحديث والفقه، ثم اتصل بخدمة علي بن شاذان المعتمد عليه بمدينة بلخ- وكان يكتب له- فكان يصادره في كل سنة، فهرب منه، وقصد داود بن ميكائيل بن سلجوق والد السلطان ألب أرسلان، وظهر له منه النصح والمحبة، فسلّمه إلى ولده ألب أرسلان، وقال:
__________
[1] انظر «الأنساب» (6/ 37) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف واختصار.

(5/362)


اتخذه والدا، لا تخالفه فيما يشير به، فلما ملك ألب أرسلان، دبّر أمره، فأحسن التدبير، وبقي في خدمته عشر سنين، فلما مات ألب أرسلان وطّد المملكة لولده ملكشاه، فصار الأمر كله لنظام الملك، وليس للسلطان إلّا التخت والصيد، وأقام على هذا عشر سنين [1] .
ودخل على الإمام المقتدي بالله، فأذن له بالجلوس بين يديه، وقال له:
يا حسن، رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين عنك.
وكان مجلسه عامرا بالفقهاء والصوفية، كثير الإنعام على الصوفية، وسئل عن سبب ذلك فقال: أتاني صوفيّ وأنا في خدمة بعض الأمراء، فوعظني وقال: اخدم من تنفعك خدمته، ولا تشتغل بمن تأكله الكلاب غدا، فلم أعلم معنى قوله، فشرب ذلك الأمير من الغد، وكانت له كلاب كالسباع تفترس الغرباء بالليل، فغلبه السكر، فخرج وحده، فلم تعرفه الكلاب، فمزقته، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك، فأنا أخدم الصوفية لعلّي أظفر بمثل ذلك.
وكان إذا سمع الأذان أمسك عن جميع ما هو فيه، وكان إذا قدم عليه إمام الحرمين، والإمام القشيري، بالغ في إكرامهما، وأجلسهما في مستنده، وبنى المساجد والرّبط، وهو أول من أنشأ المدارس، فاقتدى الناس به.
وسمع نظام الملك الحديث وأسمعه، وكان يقول: إني أعلم أني لست أهلا لذلك، ولكني أريد أربط نفسي في قطار النّقلة لحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ويروى له من الشعر قوله:
بعد الثّمانين ليس قوّه ... قد ذهبت شرّة الصّبوّه
كأنني والعصا بكفّي ... موسى ولكن بلا نبوّه
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (2/ 128) مصدر المؤلف: «عشرين سنة» .

(5/363)


وكانت ولادة نظام الملك يوم الجمعة، حادي عشري ذي القعدة، سنة ثمان وأربعمائة بنوقان، إحدى مدينتي طوس، وتوجّه صحبة ملكشاه إلى أصبهان، فلما كانت ليلة السبت عاشر رمضان، أفطر وركب في محفته، فلما بلغ إلى قرية قريبة من نهاوند، يقال لها سحنة، قال: هذا الموضع قتل فيه خلق كثير من الصحابة زمن عمر بن الخطاب، فطوبى لمن كان معهم [1] فاعترضه صبيّ ديلميّ على هيئة الصوفية، معه قصّة، فدعا له وسأله تناولها في يده، فمدّ يده ليأخذها، فضربه بسكين في فؤاده، فحمل إلى مضربه فمات، وقتل القاتل في الحال بعد أن هرب، فعثر في طنب [2] خيمة فوقع، وركب السلطان إلى معسكره، فسكّنهم وعزّاهم، وحمل إلى أصبهان فدفن بها.
وقيل: إن السلطان دسّ عليه من قتله، فإنه سئم طول حياته، واستكثر ما بيده من الإقطاعات، ولم يعش السلطان بعده سوى خمسة وثلاثين يوما، فرحمه الله، فلقد كان من حسنات الدهر.
ورثاه أبو الهيجاء البكري- وكان ختنه، لأن نظام الملك زوّجه ابنته- فقال:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... نفيسة صاغها الرّحمن من شرف
عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردّها غيرة منه إلى الصّدف
وقد قيل: إنه قتل بسبب تاج الملك أبي الغنائم المرزبان بن خسرو فيروز، المعروف بابن دارست، فإنه كان عدو نظام الملك، وكان كبير المنزلة عند مخدومه ملكشاه، فلما قتل رتّبه موضعه في الوزارة، ثم إن غلمان نظام الملك وثبوا عليه فقتلوه وقطعوه إربا إربا في ليلة الثلاثاء ثاني عشر المحرم
__________
[1] في «آ» و «ط» : «منهم» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (2/ 130) .
[2] الطنب: حبل. انظر «مختار الصحاح» (طنب) .

(5/364)


[من] سنة ست وثمانين وأربعمائة، وعمره سبع وأربعون سنة، وهو الذي بنى على قبر الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. قاله ابن خلّكان [1] .
وفيها أبو عبد الله بن المرابط قاضي المريّة وعالمها، محمد بن خلف بن سعيد الأندلسي. روى عن المهلّب بن أبي صفرة وجماعة، وصنّف شرحا للبخاري، وكان رأسا في مذهب مالك، ارتحل الناس إليه، توفي في شوال. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو بكر الشّاشي، محمد بن علي بن حامد، شيخ الشافعية، وصاحب الطريقة المشهورة والمصنفات المليحة. درّس مدة بغزنة، ثم بهراة ونيسابور، وحدّث عن منصور الكاغدي، وتفقه ببلاده على أبي بكر السّنجي، وعاش نيفا وتسعين سنة، وتوفي بهراة.
قال ابن قاضي شهبة [3] : ولد سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، وتفقه في بلاده على السّنجي، وكان من أنظر أهل زمانه، استوطن غزنة- وهي في أوائل الهند- فأقبلوا عليه وأكرموه، وبعد صيته، وحدّث، وصنّف تصانيف كثيرة، ثم استدعاه نظام الملك إلى هراة، فشقّ على أهل غزنة مفارقته، ولكن لم يجدوا بدّا من ذلك، فجهّزوه، فولّاه تدريس النظامية [بها] وتوفي في شوال. انتهى.
وفيها محمد بن عيسى بن فرج أبو عبد الله التّجيبي المغامّي- بالضم [4] ، نسبة إلى مغامة مدينة بالأندلس- الطّليطلي، مقرئ الأندلس. أخذ عن أبي عمرو الدّاني، ومكّي بن أبي طالب، وجماعة، وأقرأ الناس مدة.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 128- 131) .
[2] (3/ 310) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 94) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[4] في «معجم البلدان» : (5/ 161) : بالفتح واسم المدينة عنده «مغام» .

(5/365)


وفيها أبو عبد الله البانياسي، مالك بن أحمد بن علي بن الفرّاء البغدادي. احترق في الحريق العظيم الذي وقع في هذه السنة ببغداد، واحترق فيه من الناس عدد كثير، وكان في جمادى الآخرة، وتوفي وله سبع وثمانون سنة، وهو آخر من حدّث عن أبي الحسن بن الصّلت المجبر، وسمع من جماعة.
وفيها السلطان ملكشاه، أبو الفتح جلال الدولة بن السلطان ألب أرسلان، محمد بن داود السّلجوقي التّركي، تملك بلاد ما وراء النهر، وبلاد الهياطلة، وبلاد الرّوم، والجزيرة، والشام، والعراق، وخراسان، وغير ذلك.
قال في «العبر» [1] : ملك من مدينة كاشغر الترك إلى بيت المقدس طولا، ومن القسطنطينية وبلاد الخزر إلى نهر الهند [2] عرضا، وكان حسن السيرة، محسنا إلى الرعية، وكانوا يلقّبونه بالسلطان العادل، وكان ذا غرام بالعمائر والصيد، مات في شوال بعد وزيره النظام بشهر، فقيل: إنه سمّ في خلال، ونقل في تابوت فدفن بأصبهان في مدرسة كبيرة له.
وقال ابن الأهدل: كان مغرما بالصيد، حتّى قيل: إنه صاد بيده عشرة آلاف أو أكثر، حتّى بنى من حوافر الحمر وقرون الظباء منارة على طريق الحاج، تعرف بمنارة القرون، وتصدّق عن كل نسمة صادها بدينار، وقال:
إني أخاف الله سبحانه وتعالى من إزهاق النفوس بغير فائدة ولا مأكلة، وكان المقتدر قد تزوج بابنته، وكان السفير في زواجها الشيخ أبو إسحاق، وزفّت إليه سنة ثمانين، ورزق منها ولديه، ولما مات السلطان لم يفعل به كسائر السلاطين، ولم يحضر جنازته أحمد ظاهرا ولم تقطع أذناب الخيل لأجله، ولما
__________
[1] (3/ 311) .
[2] في «العبر» : «بحر الهند» . (ع) .

(5/366)


مات ملكشاه سار أخوه تتش- بتاءين فوقيتين وشين معجمة- من الشام، فالتقاه إبراهيم العقيلي في ثلاثين ألفا، فأسر إبراهيم وقتل صبرا.
وقال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [1] : وفي سنة أربع وثمانين قدم السلطان ملكشاه بغداد، وأمر بعمل جامع كبير بها، وعمل الأمراء حوله دورا ينزلونها، ثم رجع إلى أصبهان، وعاد إلى بغداد في سنة خمس وثمانين عازما على الشرّ، وأرسل إلى الخليفة يقول: لا بدّ أن تترك لي بغداد وتذهب إلى أيّ بلد شئت، فانزعج الخليفة، وقال: أمهلني ولو شهرا، قال: ولا ساعة واحدة. فأرسل الخليفة إلى وزراء السلطان يطلب المهلة عشرة أيام، فاتفق مرض السلطان وموته، وعدّ ذلك كرامة للخليفة، وقيل: إن الخليفة جعل يصوم، فإذا أفطر جلس على الرماد ودعا على ملكشاه، فاستجاب الله دعاءه، وذهب إلى حيث ألقت، ولما مات كتمت زوجته تركان [خاتون] موته، وأرسلت إلى الأمراء سرّا فاستحلفتهم [2] لولده محمود، وهو ابن خمس سنين. فحلفوا له، وأرسلت إلى المقتدي في أن يسلطنه فأجاب، ولقبه ناصر الدّنيا والدّين، ثم خرج عليه أخوه بركياروق بن ملكشاه، فقلده الخليفة، ولقبه بركن الدّين، وذلك في محرم سنة سبع وثمانين، وعلم الخليفة على تقليده، ثم مات الخليفة من الغد فجأة. انتهى كلام السيوطي.
__________
[1] ص (425- 426) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[2] في «آ» : «فاستخلفتهم» .

(5/367)