شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وخمسين وستمائة
فيها توفي الجمال بن النّجّار إبراهيم بن سليمان بن حمزة القرشي الدّمشقي المجوّد [1] .
كتب للأمجد صاحب بعلبك مدة، وله شعر وأدب. أخذ عن الكندي، وفتيان الشّاغوري، وتوفي بدمشق في ربيع الآخر.
وفيها الملك الصّالح صلاح الدّين أحمد بن الملك الظاهر غازي بن صلاح الدّين يوسف بن أيوب [2] ، صاحب عين تاب.
ولد سنة ستمائة، وإنما أخّروه عن سلطنة حلب لأنه ابن أمة، ولأن أخاه العزيز ابن بنت العادل، وقد تزوّج بعد أخيه العزيز بفاطمة بنت الملك الكامل، وكان مهيبا وقورا، حدّث عن الافتخار الهاشمي، وتوفي في شعبان بعنتاب.
وفيها الصّالح بن شجاع بن سيّدهم أبو التّقي المدلجي المصري [3]
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 207) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (272) و «عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان» للعيني (1/ 82) طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب.
[2] انظر «العبر» (5/ 207- 208) و «عقد الجمان» (1/ 84) .
[3] انظر «العبر» (5/ 208) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 289- 290) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (272) و «حسن المحاضرة» (1/ 379) .

(7/437)


المالكي الخيّاط، راوي «صحيح مسلم» عن أبي المفاخر المأموني، وكان صالحا، متعففا. توفي في المحرّم.
وفيها السبط جمال الدّين أبو القاسم عبد الرحمن بن مكّي بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي ثم الإسكندراني [1] .
ولد سنة سبعين وخمسمائة، وسمع من جدّه السّلفي الكثير [2] ، ومن غيره وأجاز له عبد الحق، وشهدة، وخلق، وانتهى إليه علو الإسناد بالدّيار المصرية. وكان عريا من العلم. توفي في رابع شوال بمصر. قاله في «العبر» .
وفيها ابن الزّملكاني العلّامة كمال الدّين عبد الواحد ابن خطيب زملكا أبو محمد عبد الكريم بن خلف الأنصاري السّماكي الشّافعي [3] ، صاحب علم المعاني والبيان. كان قويّ المشاركة في فنون العلم، خيّرا، متميزا، ذكيا سريا. ولي قضاء صرخد، ودرّس مدّة ببعلبك. وله نظم رائق. وهو جدّ الكمال الزّملكاني المشهور، واسطة عقد البيت.
وتوفي عبد الواحد في المحرّم بدمشق.
وكان له ولد يقول له أبو الحسن علي [4] ، إمام جليل وافر الحرمة، حسن الشكل، درّس بالأمينية، وتوفي في ربيع الأول سنة تسعين وستمائة وقد نيّف على الخمسين.
وفيها أبو الحسن بن قطرال علي بن عبد الله بن محمد الأنصاري
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 208) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 278- 280) و «عقد الجمان» (1/ 82) و «حسن المحاضرة» (1/ 379) .
[2] في «آ» و «ط» : «الكبير» والتصحيح من «العبر» .
[3] انظر «ذيل الروضتين» ص (187- 188) و «العبر» (5/ 208- 209) و «طبقات الشافعية الكبرى» (8/ 316) و «عقد الجمان» (1/ 83- 84) و «غربال الزمان» (ص (527) .
[4] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 13) .

(7/438)


القرطبي [1] . سمع عبد الحق بن توبة، وأبا القاسم بن الشّرّاط، وناظر علي بن أبي العباس بن مضاء [2] . وقرأ العربية، وولي قضاء أبّذة [3] ، فلما أخذها الفرنج سنة تسع وستمائة أسروه، ثم خلّص، وولي قضاء شاطبة، ثم ولي قضاء قرطبة، ثم ولي قضاء فاس. وكان يشارك في عدة علوم، ويتفرّد ببراعة البلاغة.
توفي بمرّاكش في ربيع الأول، وله ثمان وثمانون سنة.
وفيها أبو الحسن موفق الدّين علي بن عبد الرحمن البغدادي البابصري [4] الفقيه الحنبلي.
سمع مع أبيه من أبي العبّاس أحمد بن أبي الفتح بن صرما وغيره، وتفقه في المذهب. وكان معيدا لطائفة الحنابلة بالمستنصرية.
توفي في شعبان ببغداد، ودفن بباب حرب.
وفيها الشيخ محمد بن الشيخ الكبير عبد الله اليونيني [5] ، خلف أباه في المشيخة ببعلبك مدة، وكان زاهدا عابدا متواضعا كبير القدر.
توفي في رجب.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 209- 210) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 304- 305) .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن مصا» والتصحيح من «العبر» .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «آمد» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» وهي مدينة صغيرة بالأندلس بينها وبين بيّاسة سبعة أميال. انظر «الروض المعطار» ص (6) ، وقيّدها ياقوت بالدال ثالث الحروف «أبّدة» وأضاف بأنها تعرف ب «أبّدة العرب» .
[4] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 249) .
[5] انظر «العبر» (5/ 210) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 299- 300) و «مرآة الجنان» (4/ 128) ، وقد تحرفت «اليونيني» فيه إلى «الجويني» .

(7/439)


سنة اثنتين وخمسين وستمائة
فيها شرعت التتار في فتح البلاد الإسلامية، والخليفة غافل في خلوته ولهوه، والوزير مؤيد الدّين وأتباع الخليفة يكاتبون هلاكو والرّسل بينهم.
وفيها ظهر بأرض عدن في بعض جبالها نار يطير شرارها إلى البحر بالليل ويصعد منها دخان عظيم بالنهار فما شكّوا أنّها النّار التي ذكرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنها تظهر في آخر الزّمان [1] ، فتاب الناس.
وفيها توفي الرّشيد العراقي أبو الفضل إسماعيل بن أحمد بن الحسين الحنبلي الجابي [2] . بدار الطّعم. كان أبوه فقيها مشهورا. سكن دمشق، واستجاز لابنه من شهدة، والسّلفي، وطائفة، فروى الكثير بالإجازة، وتوفي في جمادى الأولى.
__________
[1] قلت: وذلك فيما رواه الإمام أحمد في «المسند» (4/ 6- 7) ومسلم في «صحيحه» رقم (2901) (40) في الفتن وأشراط الساعة، وأبو داود في «سننه» رقم (4311) في الملاحم:
باب أمارات الساعة من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غرفة ونحن أسفل منه، فاطّلع إلينا فقال: «ما تذكرون؟» قلنا: الساعة. قال: «إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، والدّخان، والدّجّال، ودابّة الأرض، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشّمس من مغربها، ونار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس» واللفظ لمسلم.
[2] انظر «العبر» (5/ 210- 211) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 305- 306) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (272) .

(7/440)


وفيها الأمير فارس الدّين أقطايا [1] التّركي الصّالحي النّجمي. كان موصوفا بالشجاعة والكرم، اشتراه الصّالح بألف دينار، فلما اتصلت السلطنة إلى رفيقه الملك المعزّ بالغ أقطايا [1] في الإذلال والتجبّر، وبقي يركب ركبة ملك، وتزوّج بابنة صاحب حماة، وقال للمعزّ: أريد أعمل العرس في قلعة الجبل، فأخلها لي، وكان يدخل الخزائن ويتصرف في الأموال، فاتفق المعزّ وزوجته شجرة الدّر عليه، ورتّبا من قتله، وأغلقت أبواب القلعة، فركبت مماليكه وكانوا سبعمائة، وأحاطوا بالقلعة، فألقي إليهم رأسه، فهربوا وتفرّقوا. وكان قتله في شعبان.
وفيها شمس الدّين الخسروشاهي [2]- بضم الخاء المعجمة وسكون المهملة، وفتح الراء، وبعد الواو شين معجمة، نسبة إلى خسروشاه، قرية بمرو- أبو محمد عبد الحميد بن عيسى بن عمريه بن يوسف بن خليل بن عبد الله ابن يوسف التّبريزي الشّافعي، العلّامة المتكلم.
ولد سنة ثمانين وخمسمائة، ورحل فأخذ الكلام عن الإمام فخر الدّين الرّازي، وبرع فيه. وسمع من المؤيد الطّوسي، وتقدم في علم الأصول والعقليات، وأقام في الشّام بالكرك مدة عند الناصر، وتفنن في علوم متعددة، منها الفلسفة، ودرّس وناظر، وقد اختصر «المهذّب» في الفقه، «والشفا» لابن سينا. وله إشكالات وإيرادات جيدة، وروى عنه الدّمياطي، وأخذ عنه الخطيب زين الدّين بن المرحل، ومات في ثاني عشري شوال بدمشق ودفن بقاسيون.
وفيها- أو في التي قبلها كما جزم به ابن كمال باشا- العلّامة
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 211) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 298) و «النجوم الزاهرة» (7/ 33) وقد يكون الأصح أن يقال: «أقطاي» انظر «عقد الجمان» (1/ 143) .
[2] انظر «العبر» (5/ 211- 212) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 503) و «النجوم الزاهرة» (7/ 32) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 135- 136) ، و «عقد الجمان» (1/ 94) .

(7/441)


بدر الدّين محمد بن محمود بن عبد الكريم الكردري، المعروف بخواهر زاده الحنفي [1] . أخذ عن خاله شمس الأئمة الكردري، وتفقه به.
والكردري: يقال لجماعة من العلماء كانوا أخوات شمس الأئمة، ولكن المشهور بهذه النسبة عند الإطلاق اثنان:
أحدهما متقدم، وهو أبو بكر محمد بن حسين البخاري ابن أخت القاضي أبي ثابت محمد، وقد تكرر ذكره في «الهداية» بلقبه هذا، وهو مراد صاحبها.
والثاني خواهرزاده، صاحب هذه الترجمة.
توفي- رحمه الله تعالى- في سنة إحدى وخمسين وستمائة. قاله ابن كمال باشا.
وفيها- أو في التي قبلها كما جزم به ابن الأهدل- شيخ شيوخ اليمن أبو الغيث بن جميل اليمني [2] . كان كبير الشأن، ظاهر البرهان، تخرّج به خلق وانتفع به الناس. وكان وجوده حياة للوجود، وفيه يقول اليافعي- رحمه الله تعالى-:
لنا سيّد كم ساد بالفضل سيّدا ... بكلّ زمان ثمّ كلّ مكان
إذا أهل أرض [3] فاخروا بشيوخهم ... أبو الغيث فينا فخر كلّ يماني
كان في ابتداء أمره عبدا- أي قنّا- قاطعا للطريق، فبينا هو كامن لأخذ قافلة، إذ سمع هاتفا يقول:
يا صاحب العين عليك أعين
[4]
__________
[1] انظر «الجواهر المضية في طبقات الحنفية» (2/ 131) طبع حيدر أباد، و «عقد الجمان» (1/ 83) .
[2] انظر «مرآة الجنان» (4/ 121- 127) و «غربال الزمان» ص (526- 527) وقد ذكراه في حوادث سنة (651) .
[3] في «ط» : «إذا أرض أهل» وهو خطأ.
[4] في «آ» و «ط» : «عليك عينا» والتصحيح من «مرآة الجنان» و «غربال الزمان» .

(7/442)


فوقع منه موقعا أزعجه، وأقبل على الله، وظهر عليه من أوله صدق الإرادة، وسيماء السعادة. وصحب أولا الشيخ علي بن أفلح الزّبيدي، ثم الشيخ المبجّل علي الأهدل. ولما انتشر صيت الشيخ بنواحي سردد [1] كتب إليه الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذيبين [2] يدعوه إلى البيعة، فأجابه الشيخ، ورد كتاب السيد، وفهمنا مضمونه، ولعمري إن هذا سبيل سلكه الأولون، غير أنا نفر منذ سمعنا قوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ 13: 14 [الرّعد: 14] لم يبق لإجابة الخلق فينا متسع، وليس لأحد منا أن يشهر سيفه على غير نفسه، ولا أن يفرّط في يومه بعد أمسه، فليعلم السيد قلّة فراغنا لما رام منا، ويعذر المولى، والسلام.
وكان أمّيّا وله كلام في الحقائق، وأحوال باهرة، وكرامات ظاهرة، ووضع عليه كتاب في التصوف.
وفيها مجد الدّين بن تيمية، شيخ الإسلام أبو البركات عبد السلام ابن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحرّاني [3] الفقيه الحنبلي الإمام المقرئ المحدّث المفسّر الأصولي النحوي، شيخ الإسلام، وأحد الحفّاظ الأعلام، وفقيه الوقت، ابن أخي الشيخ مجد الدّين محمد المتقدم ذكره.
ولد سنة تسعين وخمسمائة تقريبا بحرّان، وحفظ بها القرآن. وسمع من عمه الخطيب فخر الدين، والحافظ عبد القادر الرّهاوي.
__________
[1] في «آ» : «سرد» وفي «ط» : «سردر» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «غربال الزمان» وانظر «معجم ما استعجم» (3/ 732) و «صفة جزيرة العرب» ص (97) وهو واد من أودية اليمن.
[2] كذا في «آ» و «ط» : «ذيبين» وفي «غربال الزمان» : «دينين» ولم أقف على ذكر لأي من الوجهين في المصادر التي بين يدي، ولعلها: «الذّنانين» وهو ماء من مياه ماويّة باليمن، أو «الذنبتين» انظر «فهرس طبقات فقهاء اليمن» ص (314) والله أعلام بالصواب.
[3] انظر «العبر» (5/ 212) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 291- 293) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (272) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 249- 254) و «عقد الجمان» (1/ 97) .

(7/443)


ثم ارتحل إلى بغداد سنة ثلاث وستمائة مع ابن عمّه سيف الدّين عبد الغني المتقدم ذكره أيضا، فسمع بها من ابن سكينة، وابن الأخضر، وابن طبرزد، وخلق. وأقام بها ستّ سنين يشتغل بأنوع العلوم. ثم رجع إلى حرّان، فاشتغل على عمّه فخر الدّين. ثم رجع إلى بغداد، فازداد بها من العلوم. وتفقه بها على أبي بكر بن غنيمة [الحلاوي] ، والفخر إسماعيل، وأتقن العربية، والحساب، والجبر، والمقابلة. وبرع في هذه العلوم وغيرها.
قال الذهبي: حدثني شيخنا- يعني أبا العباس بن تيمية شيخ الإسلام حفيد الشيخ مجد الدين هذا- أن جدّه ربّي يتيما، وأنه سافر مع ابن عمّه إلى العراق ليخدمه ويشتغل معه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فكان يبيت عنده، فيسمّعه مسائل الخلاف، فيحفّظه المسألة، فقال الفخر إسماعيل: ايش حفظ هذه الصغير، فبدر وعرض ما حفظه في الحال، فبهت فيه الفخر، وقال لابن عمه: هذا يجيء منه شيء وحرضه [1] على الاشتغال. قال: فشيخه في الخلاف الفخر إسماعيل، وعرض عليه مصنّفه «جنّة الناظر» وكتب له عليه:
عرض عليّ الفقيه الإمام العالم، أوحد الفضلاء. وهو ابن ست عشرة عاما.
قال الذهبي: وقال لي شيخنا أبو العبّاس: كان الشيخ جمال الدّين بن مالك يقول: ألين للشيخ المجد الفقيه كما ألين لداود الحديد [2] .
وقال الشيخ جم الدّين بن حمدان مصنّف «الرعاية» في تراجم شيوخ حرّان: صحبت المجد صحبته بعد قدومي من دمشق ولم أسمع منه شيئا، وسمعت بقراءته على ابن عمّه كثيرا. وولي التفسير والتدريس بعد ابن عمه، وكان رجلا فاضلا في مذهبه وغيره، وجرى لي معه مباحث كثيرة ومناظرات عديدة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وحرصه» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «فعرضه» والصواب ما أثبته.
[2] في «آ» و «ط» : «كما ألين الحديد لداود» وأثبت لفظ «ذيل طبقات الحنابلة» .

(7/444)


وقال الحافظ عز الدّين الشريف: حدّث بالحجاز، والعراق، والشام، وبلده حرّان. وصنّف، ودرّس، وكان من أعيان العلماء وأكابر الفضلاء.
وقال الذهبي: قال شيخنا [1] : كان جدّنا عجبا في حفظ الأحاديث وسردها، وحفظ مذاهب الناس بلا كلفة.
وقال الذهبي: وكان الشيخ مجد الدّين معدوم النظير في زمانه، رأسا في الفقه وأصوله، بارعا في الحديث ومعانيه، له اليد الطّولي في معرفة القراءات والتفسير. صنّف التصانيف، واشتهر اسمه وبعد صيته. وكان فرد زمانه في معرفة المذهب، مفرط الذكاء، متين الدّيانة، كبير الشأن.
وللصّرصريّ [2] من قصيدة يمدحه بها:
وإنّ لنا في وقتنا وفتوره ... لإخوان صدق بغية المتوصّل
يذبّون عن دين الهدى ذبّ ناصر ... شديد القوى لم يستكينوا لمبطل
فمنهم بحرّان الفقيه النّبيه ذو ال ... فوائد والتّصنيف في المذهب الجلي
هو المجد ذو التّقوى ابن تيميّة الرّضا ... أبو البركات العالم الحجّة الملي
محرّره في الفقه حرّر فقهنا ... وأحكم بالإحكام علم المبجّل
جزاهم بخير [3] ربّهم عن نبيّهم ... وسنّته آلوا به خير موئل [4]
ومن مصنّفاته «أطراف أحاديث التفسير» رتّبها على السور «الأحكام الكبرى» في عدة مجلدات، «المنتقى من أحاديث الأحكام» وهو الكتاب المشهور، «المحرّر» في الفقه، «منتهى الغاية في شرح الهداية» وغير ذلك.
__________
[1] يعني شيخ الإسلام تقي الدّين بن تيمية رحمه الله تعالى.
[2] هو يحيى بن يوسف بن يحيى الصّرصري، سترد ترجمته في وفيات سنة (656) ص (493) من هذا المجلد.
[3] في «آ» و «ط» : «خيرا» ولا يستقيم الوزن بها وما أثبتناه يقتضيه المقام.
[4] كذا رواية البيت في «آ» و «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» مصدر المؤلف وهو مكسور.

(7/445)


قال ابن رجب في «طبقاته» : كان المجد يفتي أحيانا أن الطلاق الثلاث المجموعة إنما يقع منها واحدة فقط.
وتوفي- رحمه الله تعالى- يوم عيد الفطر بعد صلاة الجمعة منه بحرّان، ودفن بظاهرها.
وتوفيت ابنة عمّه زوجته بدرة بنت فخر الدّين بن تيميّة [1] قبله بيوم واحد. روت بالإجازة عن ضياء بن الخريف، وتكنى أم البدر.
وفيها أبو علي حسن بن أحمد [2] بن أبي الحسن بن دويرة البصري المقرئ الزاهد، شيخ الحنابلة بالبصرة ورئيسهم ومدرّسهم. اشتغل عليه أمم، وختم عليه القرآن أزيد من ألف إنسان. وكان صالحا، زاهدا، ورعا.
وحدّث ب «جامع الترمذي» بإجازته من الحافظ أبي محمد بن الأخضر.
سمعه منه الشيخ نور الدّين عبد الرحمن بن عمر البصري، وهو أحد تلامذته، وعليه ختم القرآن، وحفظ «الخرقي» [3] عنده بمدرسته بالبصرة، وتوفي الشيخ أبو علي في هذه السنة بالبصرة وولي بعده التدريس بمدرسته تلميذه الشيخ نور الدّين المذكور، وخلع عليه ببغداد في عشر جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفيها أبو الفضل عيسى بن سلامة بن سالم الحرّاني الخيّاط [4] .
ولد في آخر شوال سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وسمع من أحمد ابن أبي الوفاء الصّايغ، وأجاز له ابن البطّي، وأبو بكر بن النّقور، ومحمد بن
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 253) .
[2] في «آ» و «ط» : «أحمد بن أحمد» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 254) مصدر المؤلّف.
[3] يعني «مختصر الخرقي» .
[4] انظر «العبر» (5/ 212- 213) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 280- 281) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (272) .

(7/446)


محمد بن السّكن، وجماعة. وانفرد بالرواية عنهم. توفي في آخر هذه السنة.
وفيها النّاصح فرج بن عبد الله الحبشي [1] الخادم، مولى أبي جعفر القرطبي، وعتيق المجد البهنسي. سمع الكثير من الخشوعي والقاسم [ابن عساكر] ، وعدة. وكان صالحا، كيسا، متيقظا. وقف كتبه، وعاش قريبا من ثمانين سنة، وتوفي في شوال.
وفيها الكمال محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن كمال الدّين أبو سالم القرشي العدوي النّصيبي الشّافعي [2] المفتي الرحّال. مصنّف كتاب «العقد الفريد» [3] وأحد الصدور والرؤساء المعظمين.
ولد سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، وسمع بنيسابور من المؤيد، وزينب الشعرية. وتفقه، فبرع في الفقه، والأصول، والخلاف. وترسّل عن الملوك، وساد وتقدم. وحدّث ببلاد كثيرة، وفي سنة ثمان وأربعين وستمائة كتب تقليده بالوزارة فاعتذر وتنصل، فلم يقبل منه، فتولاها يومين ثم انسلّ خفية، وترك الأموال والموجود، ولبس ثوبا قطنيا، وذهب فلم يدر أين ذهب. وقد نسب إلى الاشتغال بعلم الحروف والأوقات [4] ، وأنه يستخرج أشياء من المغيبات، وقيل: إنه رجع، ويؤيد ذلك قوله في المنجّم:
__________
[1] انظر «تكملة إكمال الإكمال» لابن الصابوني (265- 266) بتحقيق الدكتور مصطفى جواد، مصورة عالم الكتب بيروت، و «العبر» (5/ 212- 213) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 290- 291) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (272) .
[2] انظر «العبر» (5/ 213) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 293- 294) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (272) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 503- 504) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 153- 154) .
[3] وهو غير «العقد الفريد» لابن عبد ربّه. قال حاجي خليفة في «كشف الظنون» (2/ 1152) :
جعله على أربعة قواعد: الأول في مهمات الأخلاق والصفاة. والثاني في السلطنة والولايات.
والثالث في الشرائع والديانات. والرابع في تكملة المطلوب بأنواع من الزيادات.
[4] وفي «ط» : «الأوفاق» .

(7/447)


إذا حكم المنجّم في القضايا ... بحكم حازم فاردد عليه
فليس بعالم ما الله قاض ... فقلّدني ولا تركن إليه
وله:
لا تركننّ إلى مقال منجّم ... وكل الأمور إلى الإله وسلّم
واعلم بأنّك إن جعلت لكوكب ... تدبير حادثة فلست بمسلم
وله كتاب «الدر المنظم» في اسم الله الأعظم. وتولى ابتداء القضاء بنصيبين، ثم ولي خطابة دمشق، ثم لما زهد في الدّنيا حجّ، فلما رجع أقام بدمشق قليلا، ثم سافر [1] إلى حلب فتوفي بها في رجب.
وفيها أبو البقاء محمد بن علي بن بقاء بن السّبّاك البغدادي [2] .
سمع من أبي الفتح بن شاتيل، ونصر الله القزّاز، وجماعة، وتوفي في شعبان.
وفيها السّديد بن مكّي بن المسلم بن مكّي بن خلف بن علّان القيسي الدمشقي [3] ، المعدّل آخر أصحاب الحافظ أبي القاسم بن عساكر وفاة، وتفرّد أيضا عن أبي الفهم عبد الرحمن بن أبي العجائز، وأبي المعالي ابن خلدون، وتوفي في عشري صفر، عن تسع وثمانين سنة.
__________
[1] في «ط» : «ثم سار» .
[2] انظر «العبر» (5/ 213) .
[3] انظر «العبر» (5/ 213) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 286- 287) و «البداية والنهاية» (13/ 186) وقد تحرفت «السّديد» إلى «السيد» فيه فتصحح.

(7/448)


سنة ثلاث وخمسين وستمائة
فيها جاء سيل بدمشق، فبلغ السيل بسوق الفاكهة من صالحية دمشق ستة أذرع.
وفيها توفي الشّهاب القوصيّ أبو المحامد، وأبو العرب، وأبو الفداء، وأبو الطّاهر إسماعيل بن حامد بن عبد الرّحمن بن المرجّى بن المؤمّل بن محمد بن علي بن إبراهيم بن نفيس بن سعيد [1] بن سعد بن عبادة بن الصّامت الرئيس الفقيه الشافعي الأنصاري الخزرجي القوصي [2] ، وكيل بيت المال بالشام، وواقف الحلقة القوصية بالجامع.
ولد بقوص في المحرّم، سنة أربع وسبعين وخمسمائة، ورحل إلى مصر القاهرة سنة تسعين، ثم قدم إلى دمشق سنة إحدى وتسعين واستوطنها.
وسمع الكثير ببلاد متعددة، واتصل بالصّاحب صفي الدّين بن شكر. وروى عن إسماعيل بن ياسين، والأرتاحي، والخشوعي، وخلق كثير. وخرج لنفسه «معجما» في أربع مجلدات كبار، قال الذهبي: فيه غلط كثير.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «سعد» والتصحيح من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.
[2] انظر «العبر» (5/ 214) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 288- 289) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 325- 326) و «البداية والنهاية» (13/ 186) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 129- 130) .

(7/449)


وكان أديبا، أخباريا [1] ، فصيحا، مفوّها، بصيرا بالفقه، وترسّل إلى البلاد، وولي وكالة بيت المال، وتقدم عند الملوك، ودرّس بحلقته بجامع دمشق. وكان يلبس الطيلسان المحنّك [2] والبزّة الجميلة، ويركب البغلة.
وتوفي بدمشق في ربيع الأول، ودفن بداره التي وقفها دار حديث.
وفيها إقبال الشّرابي [3] . بنى مدرسة بواسط وإلى جانبها جامعا، وبنى ببغداد مدرسة في سوق السلطان [4] ، وجدّد بمكّة الرّباط الذي اشتهر به، وعين عرفة التي في الموقف. وأجرى ماءها لانتفاع الحجّ به، وأوقف على ذلك أوقافا سنيّة.
وفيها سيف الدّين أبو الحسن، علي بن يوسف بن أبي الفوارس القيمري [5] صاحب المارستان بصالحية دمشق. كان من جلّة الأمراء، وأبطالهم المذكورين، وصلحائهم المشهورين. وهو ابن أخت صاحب قيمر.
توفي بنابلس، ونقل فدفن بقبته التي بقرب مارستانه بالصالحية، والدّعاء عند قبره مستجاب [6] .
وفيها ضياء الدّين أبو محمد، صقر بن يحيى بن سالم بن يحيى ابن عيسى بن صقر، المفتي الإمام المعمّر الكلبي الحلبي الشافعي [7] .
__________
[1] لفظة «أخباريا» سقطت من «آ» .
[2] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة «تحبك» .
[3] ذكره النّعيمي في «الدّارس في تاريخ المدارس» (1/ 159) في معرض الكلام على المدرسة الإقبالية بسوق العجم ببغداد، وانظر التعليق عليه.
[4] في «البداية والنهاية» (3/ 129) و «الدارس في تاريخ المدارس» (1/ 159) : «سوق العجم» .
[5] انظر «العبر» (5/ 214) و «البداية والنهاية» (13/ 195) و «القلائد الجوهرية» (1/ 327) .
[6] قلت: هذا من مبالغات المتأخرين.
[7] انظر «العبر» (5/ 214- 215) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 306) و «طبقات الشافعية الكبرى» (8/ 153) و «البداية والنهاية» (13/ 186) و «عقد الجمان» (1/ 111- 112) .

(7/450)


ولد قبل الستين وخمسمائة، وروى عن يحيى الثقفي وجماعة، وتوفي في صفر بحلب.
وفيها النّظام البلخي، محمد بن محمد بن محمد بن عثمان الحنفيّ [1] نزيل حلب.
ولد ببغداد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وتفقه بخراسان، وسمع «صحيح مسلم» من المؤيد الطّوسي، وكان فقيها، مفتيا، بصيرا بالمذهب.
توفي بحلب في جمادى الآخرة.
وفيها النّور البلخي أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أحمد بن خلف المقرئ [2] بالألحان.
ولد بدمشق سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وسمع بالقاهرة من التّاج المسعودي، واجتمع بالسّلفي، وأجاز له. وسمع بالإسكندرية في سنة خمس وسبعين، وسمع من المطهّر الشحّامي، وتوفي في الرابع والعشرين من ربيع الآخر، وكان صالحا خيّرا معمّرا.
وفيها أبو الحجّاج يوسف بن محمد بن إبراهيم الأنصاري البيّاسي [3]- بفتح الباء الموحدة والياء المثناة من تحت المشددة، نسبة إلى بيّاسة مدينة كبيرة من كورة جيّان [4]-.
ولد يوم الخميس الرابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وهو أحد فضلاء الأندلس وحفّاظها المتقنين.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 215) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 294) و «الجواهر المضية» (3/ 346)
[2] انظر «العبر» (5/ 215) و «النجوم الزاهرة» (7/ 35) و «عقد الجمان» (1/ 114) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (7/ 238- 244) «سير أعلام النبلاء» (23/ 339) و «نفح الطيب» (3/ 316- 318) .
[4] في «آ» و «ط» : «من كورجيّان» والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «المشترك وضعا» ص (73) .

(7/451)


كان أديبا، بارعا، فاضلا، مطلعا على أقسام كلام العالم، من النظم، والنثر، وراويا لوقائعها وحروبها وأيّامها.
قال ابن خلّكان: بلغني أنه كان يحفظ كتاب «الحماسة» تأليف أبي تمّام، و «ديوان المتنبي» و «سقط الزّند» وغير ذلك من الأشعار.
وتنقل في بلاد الأندلس، وطاف أكثرها، وألّف لصاحب إفريقية كتابا سمّاه «الإعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام» ابتدأه بقتل عمر بن الخطّاب، وختمه بخروج الوليد بن طريف الشّاري على هارون الرّشيد، وهو في مجلدين. وله كتاب «الحماسة» في مجلدين أيضا، ذكر فيه أشياء حسنة، منها قول المجنون:
تعلّقت [1] ليلى وهي غرّ صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
ومنها قول الوأواء الدمشقي:
وزائر راع كلّ النّاس منظره ... أحلى من الأمن عند الخائف الوجل
ألقى على اللّيل ليلا من ذوائبه ... فهابه الصّبح أن يبدو من الخجل
أراد بالهجر قتلي فاستجرت به ... فاستلّ بالوصل روحي من يدي أجلي
وصرت فيه أمير العاشقين وقد ... صارت ولاية أهل العشق من قبلي
ومنها قول علي بن عطية البلنسي الزقّاق:
مرتجة الأعطاف أمّا قوامها ... فلدن وأما ردفها فرداح
ألمّت فبات اللّيل من قصر بها ... يطير وما غير السّرور جناح
__________
[1] في «آ» و «ط» : «علقت» والتصحيح «وفيات الأعيان» .

(7/452)


وبتّ وقد زارت بأنعم ليلة [1] ... تعانقني حتّى الصّباح صباح
على عاتقي من ساعديها خمائل [2] ... وفي خصرها من ساعديّ وشاح
وتوفي- رحمه الله تعالى- يوم الأحد الرابع من ذي القعدة بمدينة تونس.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «لنا نعم ليلة» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «حمائل» بالحاء المهملة.

(7/453)


سنة أربع وخمسين وستمائة
فيها كان ظهور النّار بظاهر المدينة النبوية، على ساكنها الصلاة والسلام، وكانت مصداق قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تقوم السّاعة حتّى تظهر نار بالحجاز [1] ، تضيء أعناق الإبل ببصرى» [2] وبقيت أيّاما، قيل ثلاثة أشهر، وكان نساء المدينة يغزلن على ضوئها، وظن أهل المدينة أنها القيامة. ظهرت من وادي أحيلين [3] في الحرّة الشرقية، تدب دبيب النمل إلى جهة الشمال، تأكل ما أتت عليه من أحجار وجبال، ولا تأكل الشجر. حتّى إن صاحب المدينة الشريفة، منيف بن شبحة أرسل اثنين ليأتياه بخبرها، فدنيا منها، فلم يجدا لها حرّا، فأخذ أحدهما سهما، ومدّ به إليها، فأكلت النصل دون العود، ثم قلبه ومدّ بالطرف الآخر، فأكلت الرّيش دون العود، وكانت تذيب وتسبك ما مرّت عليه من الجبال. فسدّت وادي شطاه بالحجر المسبوك بالنّار سدّا، ولا كسد ذي القرنين، واحتبس الماء خلفه، فصار بحرا مدّ البصر طولا وعرضا، كأنه نيل مصر عند زيادته. ثم خرقه الماء سنة تسعين وستمائة، فجرى الماء من الخرق سنة كاملة، يملأ ما بين جنبتي الوادي، ثم انسدّ، ثم
__________
[1] أقول: لفظه في «الصحيحين» : «حتّى تخرج نار من أرض الحجاز» (ع) .
[2] رواه البخاري رقم (7118) في الفتن: باب خروج النّار، ومسلم رقم (2902) في الفتن وأشراط الساعة: باب لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
[3] انظر تعليق العلّامة الشيخ حمد الجاسر على «المغانم المطابة في معالم طابة» ص (431) .

(7/454)


انخرق ثانية في العشر الأول بعد السبعمائة، فجرى سنة وأزيد، ثم انخرق في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة [1] .
وفيها احترق المسجد النبوي ليلة الجمعة أول ليلة من رمضان، بعد صلاة التراويح، على يد الفرّاش أبي بكر المراغي، بسقوط ذبالة [2] من يده، فأتت النّار على جميع سقوفه، ووقعت بعض السواري، وذاب الرّصاص، وذلك قبل أن ينام الناس، واحترق سقف الحجرة، ووقع بعضه في الحجرة الشريفة.
وقال بعض الناس في ذلك:
لم يحترق حرم النّبيّ لريبة ... تخشى عليه ولا دهاه العار
لكنّما أيدي الرّوافض لامست ... ذاك الجناب فطهّرته النّار
وقال ابن تولوا [3] المغربي:
قل للروافض بالمدينة ما لكم ... يقتادكم للذمّ كلّ سفيه
ما أصبح الحرم الشريف محرّما ... إلّا لذمّكم الصّحابة فيه
وفيها غرقت بغداد الغرق الذي لم يسمع بمثله، زادت دجلة زيادة ما رأي مثلها، وغرق خلق كثير، ووقع شيء كثير من الدّور على أهلها،
__________
[1] قلت: ولهذا الخبر روايات أخرى ذكرها ابن كثير في «البداية والنهاية» (13/ 187) وابن حجر في «فتح الباري» (13/ 79) نقلا عن القرطبي في «التذكرة» وابن رجب الحنبلي في «مجالس في سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم» ص (47) بتحقيقي بالاشتراك مع الأستاذ ياسين محمد السوّاس، ومراجعة والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله تعالى، طبع دار ابن كثير، وقد أفردناه من كتابه «لطائف المعارف» .
[2] جاء في «مختار الصحاح» (ذبل) : الذّبالة: الفتيلة والجمع الذّبال.
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «ابن تولو» والتصحيح من «المنتخب» (173/ ب) و «فوات الوفيات» (2/ 440) و «العبر» (5/ 354) وتحرفت في «حسن المحاضرة» (1/ 568) إلى «ابن لؤلؤ» فتصحح.

(7/455)


وأشرف النّاس على الهلاك، وبقيت المراكب تمرّ في أزفة بغداد، وركب الخليفة في مركب، وابتهل النّاس إلى الله تعالى بالدّعاء.
وفيها تواترت الأخبار بوصول عساكر هلاكو إلى بلاد أذربيجان، قاصدة بلاد الشام، فوردت قصّاد الخليفة بأن يصطلح الملك الناصر مع الملك العزيز صاحب مصر، ويتفقا على قتال التتار، فأجاب إلى ذلك وعاد إلى الشام.
وفيها توفي ابن وثيق، شيخ القراء أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن الأموي الإشبيلي [1] المجوّد الحاذق.
ولد سنة سبع وستين وخمسمائة، وذكر أنه قرأ القراءات السبع بغزّة وغيرها سنة خمس وتسعين على غير واحد من أصحاب أبي الحسن شريح، وأن أبا عبد الله ابن زرقون أجاز له، فروى عنه «التيسير» بالإجازة، وأقرأ بالموصل، والشام، ومصر. وكان عالي الإسناد. توفي بالإسكندرية في ربيع الآخر.
وفيها الأمير مجاهد الدّين إبراهيم بن أدنبا [2] الذي بنى الخانقاه المجاهدية بدمشق، على الشرف، القبلي، وكان والي دمشق، عاقلا فاضلا.
ومن نظمه:
أشبهك الغصن في خصال ... القدّ واللّين والتّثنّي
لكن تجنّيك ما حكاه ... الغصن يجني وأنت تجني
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 217) و «معرفة القراء الكبار» (2/ 655- 656) و «غاية النهاية» (1/ 24- 25) .
[2] كذا في «آ» و «ط» و «المنتخب» لابن شقدة (173/ ب) : «ابن أدنبا» وفي «الدارس في تاريخ المدارس» (2/ 169) : «ابن أرينا» .

(7/456)


وله في مليح اسمه مالك:
ومليح قلت ما الاس ... م حبيبي قال مالك
قلت صف لي وجهك الزّا ... هي وصف حسن اعتدالك
قال كالغصن وكالبد ... ر وما أشبه ذلك
توفي بدمشق، ودفن بخانقانه المذكورة.
وفيها بشارة بن عبد الله الأرمني الكاتب، مولى شبل الدّولة المعظّمي [1] . كان يكتب خطّا حسنا. دفن بسفح قاسيون، وذريته يدّعون النظر على الذّرية، وعلى الخانقاة الشّبلية.
وفيها الحافظ ابن شاهاور عبد الله بن محمد بن شاهاور بن أنوشروان بن أبي النّجيب الرّازي [2] .
كان حافظا، فاضلا غزير العلم، صاحب مقامات وكرامات وآثار.
وفيها العماد بن النّحاس الأصمّ أبو بكر عبد الله بن أبي المجد الحسن بن الحسين [3] بن علي الأنصاري الدمشقي [3] .
ولد سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وسمع من أبي سعد بن أبي عصرون. وكان آخر من روى عنه. ومن الفضل بن البانياسي، ويحيى الثقفي، وجماعة. وسمع بنيسابور من منصور الفراوي، وبأصبهان من
__________
[1] انظر «الوافي بالوفيات» (10/ 141) و «البداية والنهاية» (13/ 198) و «عقد الجمان» (1/ 162) و «القلائد الجوهرية» (1/ 195- 196) و «الدارس في تاريخ المدارس» (1/ 531) .
[2] انظر «الوافي بالوفيات» (17/ 579) و «العبر» (5/ 218) .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (23/ 308) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (273) و «عيون التواريخ» (20/ 100) و «البداية والنهاية» (13/ 193) و «النجوم الزاهرة» (7/ 35) و «عقد الجمان» (1/ 131) وفي «سير أعلام النبلاء» : « ... الحسن بن الحسن ... » .

(7/457)


علي بن منصور الثّقفي. وكان ثقة، خيّرا، نبيلا، به صمم مفرط. سمع الناس من لفظه، ومات في الثاني والعشرين من صفر.
وفيها شمس الدّين عبد الرحمن بن نوح بن محمد المقدسي [1] ، مدرس الرّواحية، وأجلّ أصحاب ابن الصّلاح وأعرفهم بالمذهب. توفي في ربيع الآخر، وقد تفقه به جماعة.
وفيها عبد العزيز بن عبد الرحمن بن قرناص الحموي [2] أحد الأعيان العلماء الفضلاء في الفقه والأدب. تزهّد في صباه، وامتنع من قول الشعر إلّا في الزّهد ومدح النّبي- صلى الله عليه وسلم-.
ومن شعره:
يا من غدا وجهه روض العيون لما ... أعاره الحسن من أنواع أزهار
نعّمت طرفي وأودعت الحشا حرقا ... فالطرف في جنّة والقلب في نار
وله أشياء مستحسنة جدا.
وفيها زكي الدّين عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر المصري، وعرف بابن أبي الإصبع [3] صنف كتاب «تحرير التّحبير في البديع» لم يصنّف مثله.
ومن شعره المستجاد:
تبسّم لمّا أن بكيت من الهجر ... فقلت: ترى دمعي، فقال: ترى ثغري
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 218) و «الوافي بالوفيات» (18/ 292- 293) و «عقد الجمان» (1/ 131 135) و «الدارس في تاريخ المدارس» (1/ 267) .
[2] انظر «الوافي بالوفيات» (18/ 519) و «عيون التواريخ» (20/ 98- 100) .
[3] انظر «عيون التواريخ» (20/ 95) و «النجوم الزاهرة» (7/ 37- 38) و «حسن المحاضرة» (1/ 567) .

(7/458)


فديتك لمّا أن بكيت تنظّمت ... بفيك لآلي الدّمع عقدا من الدّر
فلا تدّعي يا شاعر الثّغر صنعة ... فكاتب دمعي [1] قال: ذا النظم من ثغري
وفيها الصّوري أبو الحسن علي بن يوسف الدّمشقي [2] ، التاجر السفّار. سمع من المؤيد الطّوسي وجماعة، وكان ذا برّ وصدقة.
توفي في المحرّم.
وفيها الشيخ الكبير عيسى بن أحمد بن إلياس اليونيني [3] الزاهد.
صاحب الشيخ عبد الله.
كان عابدا، زاهدا، صوّاما، قوّاما، خائفا، قانتا لله تعالى، متبتلا، منقطع القرين. صاحب أحوال وإخلاص، إلّا أنه كان حادّ النّفس، ولذلك قيل له سلّاب الأحوال. وكان خشن العيش في ملبسه ومأكله.
توفي في ذي القعدة، ودفن بزاويته بيونين.
وفيها ابن المقدسية، العدل شرف الدّين أبو بكر محمد بن الحسن ابن عبد السلام التّميمي السّفاقسي الأصل الإسكندراني المالكي [4] .
ولد في أول سنة ثلاث وسبعين، وأحضره خاله الحافظ ابن المفضّل قراءة «المسلسل» بالأولية عند السّلفي، واستجازه له. ثم أسمعه من أحمد بن عبد الرحمن الحضرمي وغيره.
توفي في جمادى الأولى، وله «مشيخة» خرّجها منصور بن سليم الحافظ.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «فكانت دموعي» والتصحيح من «عيون التواريخ» .
[2] انظر «العبر» (5/ 218) .
[3] انظر «عيون التواريخ» (20/ 100- 101) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 299- 300) و «العبر» (5/ 218) .
[4] انظر «العبر» (5/ 219) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 295- 296) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (273) و «حسن المحاضرة» (1/ 379) .

(7/459)


وفيها الكمال بن الشّعّار أبو البركات المبارك بن أبي بكر بن حمدان الموصلي [1] ، مؤلف «عقود الجمان في شعراء الزّمان» توفي بحلب.
وفيها مجير الدّين يعقوب بن الملك العادل، ويلقب هو بالملك المعزّ.
كان فاضلا. أجاز له أبو روح الهروي وطائفة. وتوفي في ذي القعدة، ودفن بالتّربة عند أبيه.
وفيها سبط ابن الجوزي العلّامة الواعظ، المؤرخ شمس الدّين أبو المظفّر يوسف بن قزغلي [2] التّركي ثم البغدادي الهبيري الحنفي، سبط الشيخ أبي الفرج بن الجوزي. أسمعه جدّه [3] منه، ومن ابن كليب وجماعة.
وقدم دمشق سنة بضع وستمائة فوعظ بها وحصل له القبول العظيم للطف شمائله، وعذوبة وعظه.
__________
[1] انظر «ذيل الروضتين» ص (194) و «العبر» (5/ 219) و «البداية والنهاية» (13/ 195) .
[2] وفي بعض المصادر: «يوسف بن قزاوغلي» وانظر «ذيل الروضتين» ص (195) و «وفيات الأعيان» (3/ 142) و «فوات الوفيات» (4/ 356) و «عيون التواريخ» (20/ 103- 104) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 296- 297) و «البداية والنهاية» (13/ 194- 195) و «عقد الجمان» (1/ 132- 135) و «الأعلام» (8/ 246) .
قلت: قال الأستاذ خير الدّين الزركلي رحمه الله في تعليقه على ترجمته من «الأعلام» :
قزأوغلي: بكسر القاف وسكون الزاي، ثم همزة مضمومة، وغين ساكنة، ولام مكسورة، وياء: لفظ تركي، ترجمته الحرفية «ابن البنت» أي «السبط» وفي الكتّاب من يحذف الألف والواو، تخفيفا، فيكتبها: «قزغلي» بالقاف المكسورة وضم الزاي، والنص على هذا في «تاريخ علماء بغداد» (منتخب المختار) الصفحة (236) قال: والصواب ضم الزاي، وسكون الغين. قلت (القائل الزركلي) : ولا قيمة لما ذهب إليه أحد المعاصرين- يعني به القدسي ناشر الطبعة السابقة من «الشذرات» - من أنه «الفرغلي» اعتمادا على غلطة مطبعية في كتاب ابن خلّكان- يعني من الطبعة التي سبقت طبعة الدكتور إحسان عبّاس-.
قلت: ورثاه الشهاب أحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن مصعب بأبيات يحسن بالباحث الوقوف عليها وقد ساقها العيني في آخر ترجمته.
[3] يعني الحافظ ابن الجوزي.

(7/460)


وله «تفسير» في تسع وعشرين مجلّدا، و «شرح الجامع الكبير» وكتاب «مرآة الزّمان» [1] وهو كتاب كاسمه، وجمع مجلدا في مناقب أبي حنيفة.
ودرّس وأفتى. وكان في شبيبته حنبليا، وكان وافر الحرمة عند الملوك.
نقله الملك المعظّم إلى مذهب أبي حنيفة فانتقد عليه ذلك كثير من الناس، حتّى قال له بعض أرباب الأحوال وهو على المنبر: إذا كان للرجل كبير ما يرجع عنه إلّا بعيب ظهر له فيه، فأيّ شيء ظهر لك في الإمام أحمد حتى رجعت عنه؟ فقال له: اسكت. فقال الفقير: أما أنا فسكت، وأما أنت فتكلم، فرام الكلام فلم يستطع، فنزل عن المنبر. ولو لم يكن له إلّا كتابه «مرآة الزمان» لكفاه شرفا، فإنه سلك في جمعه مسلكا غريبا، ابتدأه من أول الزمان إلى أوائل سنة أربع وخمسين وستمائة التي توفي فيها.
مات- رحمه الله- ليلة الثلاثاء العشرين من ذي الحجّة بمنزله بجبل الصالحية، ودفن هناك، وحضر دفنه الملك الناصر سلطان الشام، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
__________
[1] قام بتحقيق المجلد الأول منه الأستاذ الفاضل الدكتور إحسان عبّاس ونشره في بيروت قبل عدة سنوات، وأسأل الله عزّ وجلّ أن يعينه على إتمامه.

(7/461)


سنة خمس وخمسين وستمائة
فيها شاع الخبر أن الملك المعزّ صاحب مصر يتزوج بابنة صاحب الموصل، فعظم ذلك على زوجته شجرة الدّرّ، وعزمت على الفتك به، واتفقت مع جماعة من الخدم ووعدتهم بأموال عظيمة، فركب المعزّ للعب الكرة، وجاء تعبان، فدخل الحمّام يغتسل، فلما صار عريانا رمته الخدّام إلى الأرض وخنقوه ليلا ولم يدر به أحد، فأصبح الناس من الأمراء والكبراء على عادتهم للخدمة، فإذا هو ميّت، فاختبطت المدينة، ثم سلطنوا بعده ابنه الملك المنصور عليا.
وفيها وصلت التتار إلى الموصل وخرّبوا بلادها.
وفيها توفي العلّامة ابن باطيش- بالشين المعجمة- عماد الدّين أبو المجد إسماعيل بن هبة الله بن سعيد بن هبة الله بن محمد الموصلي الشافعي [1] .
ولد في محرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ودخل بغداد فتفقه بها، وسمع بها من ابن الجوزي وغيره، وبحلب من حنبل، وبدمشق من جماعة، وخرّج لنفسه أحاديث عن شيوخه، ودرّس وأفتى، وصنّف تصانيف حسنة.
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (23/ 319) و «العبر» (5/ 221- 222) و «طبقات الشافعية الكبرى» (8/ 131) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 275- 276) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 130- 131) .

(7/462)


منها «طبقات الشافعية» وكتاب «المغني في غريب المهذّب» وكان من أعيان الأئمة، عارفا بالأصول، قوي المشاركة في العلوم، لكن في كتابه «المغني» أوهام كثيرة، نبّه النووي في «تهذيبه» على كثير منها.
توفي في حلب في جمادى الآخرة، رحمه الله تعالى.
وفيها المعزّ عز الدّين أيبك التّركماني الصّالحي، صاحب مصر جهاشنكير [1] ، الملك الصالح.
كان ذا عقل ودين، وترك للمسكن. تملّك في ربيع الآخر، سنة ثمان وأربعين.
ثم أقاموا معه باسم السلطنة الأشرف يوسف بن الناصر يوسف بن أقسيس، وله عشر سنين، وبقي المعزّ أتابكه. وهذا بعد خمسة أيام من سلطنة المعزّ. فكان يخرج التوقيع وصورته: رسم بالأمر العالي السلطاني الأشرفي والملكي المعزّي، ثم بطل أمر الأشرف بعد مديدة، وجرت لأبيك أمور. إلى أن خطب ابنة صاحب الموصل، فغارت أم خليل شجرة الدّرّ وقتلته في الحمّام، فقتلوها وملّكوا ولده عليا، وله خمس عشرة سنة. وكان أيبك عفيفا، طاهر الذّيل، لا يمنع أحدا حاجة، ولا يشرب مسكرا. كثير المداراة للأمراء. وبنى المدرسة المعزّية على النيل، ووقف عليها وقفا جيدا.
وفيها شجرة الدّرّ أمّ خليل [2] كانت بارعة الحسن، ذات ذكاء وعقل
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : جهاشنكير» وتكتب أيضا «جاشنكير» انظر «الوافي بالوفيات» (9/ 469) و «العبر» (5/ 222) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 198) و «النجوم الزاهرة» (7/ 4) و «عقد الجمان» (1/ 140- 141) وهو الذي يذوق طعام السلطان أو الأمير قبله مخافة أن يكون فيه سم. انظر «صبح الأعشى» (5/ 460) .
[2] انظر «العبر» (5/ 222- 223) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 199- 200) و «عقد الجمان» (1/ 165) .

(7/463)


ودهاء، فأحبها الملك الصالح، ولما توفي أخفت موته، وكانت تعلّم بخطّها علامته، ونالت من السعادة أعلى المراتب [1] ، بحيث أنها خطب لها على المنابر، وملّكوها عليهم أيّاما، فلم يتم ذلك. وتملّك المعزّ أيبك فتزوج بها، وكانت ربما تحكم عليه، وكانت تركية ذات شهامة وإقدام وجرأة. وآل أمرها إلى أن قتلت وألقيت تحت قلعة مصر مسلوبة، ولم يدر قاتلها، ثم دفنت بتربتها.
وفيها البادرائي [2] العلّامة نجم الدّين أبو محمد عبد الله بن أبي الوفاء محمد بن الحسن الشافعي الفرضي.
ولد سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وسمع من جماعة، وتفقه، وبرع في المذهب، ودرّس بالنّظامية، وترسّل غيّر مرّة وحدّث بحلب، ودمشق، ومصر، وبغداد وبنى بدمشق المدرسة الكبيرة المشهورة به، وتعرف بالبدرائية.
قال الذهبي: كان فقيها، عالما، ديّنا، صدرا، محتشما، جليل القدر، وافر الحرمة، متواضعا، دمث الأخلاق، منبسطا. وقد ولي القضاء ببغداد على كره، وتوفي بعد خمسة عشر يوما في ذي القعدة، وعافاه الله تعالى من كائنة التتار.
وقال السيوطي في «لباب الأنساب» [3] : البادرائي: بفتح الموحدة والدال والراء المهملتين، نسبة إلى بادرايا، قرية من عمل واسط.
__________
[1] في «ط» و «العبر» : «أعلى الرّتب» وكلاهما بمعنى.
[2] في «آ» و «ط» : «البدرائي» وفي «سير أعلام النبلاء» (23/ 332) وغيره من مصنفات الحافظ الذهبي: «الباذرائي» بالذال وهو خطأ، والتصحيح من «المنتخب» لابن شقدة (174/ آ) و «توضيح المشتبه» لابن ناصر الدّين (1/ 318- 319) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 132- 133) مصدر المؤلف، و «عقد الجمان» (1/ 160) ، وانظر كلام المؤلف في آخر ترجمته.
[3] انظر «لب اللباب في تحرير الأنساب» للسيوطي ص (25) مصورة مكتبة المثنى ببغداد.

(7/464)


وفيها اليلداني المحدّث المسند، تقي الدّين عبد الرحمن بن أبي الفهم عبد المنعم بن عبد الرحمن القرشي الدمشقي. أبو محمد اليلداني الشافعي [1] .
كان من الحفّاظ المكثرين والأثبات المصنفين. ولد بيلدا [2] قرية من قرى دمشق، في أول سنة ثمان وستين وخمسمائة، وطلب الحديث، وقد كبر ورحل، وسمع من ابن كليب، وابن بوش، وطبقتهما. وكتب الكثير، وذكر أن النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- قال له في النوم: «أنت رجل جيّد» .
توفي بقريته- وكان خطيبها- في ثامن ربيع الأول.
وفيها المرسي العلّامة شرف الدّين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن.
محمد بن أبي الفضل السّلمي الأندلسي المحدّث المفسّر النّحويّ [3] .
ولد سنة سبعين وخمسمائة في أولها، وسمع «الموطأ» من أبي محمد ابن عبيد الله [الحجريّ] [4] . ورحل إلى أن وصل إلى أقصى خراسان.
وسمع الكثير من منصور الفراوي، وأبي روح [الهرويّ] [5] ، والكبار. وكان
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 223- 224) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 311- 312) و «عيون التواريخ» (20/ 115) و «الوافي بالوفيات» (18/ 176- 177) و «النجوم الزاهرة» (7/ 59) و «عقد الجمان» (1/ 159) .
[2] في «العبر» و «سير أعلام النبلاء» : «بيلدان» قلت: وتقع هذه القرية إلى الجنوب الشرقي لدمشق على مسافة ستة كليومترات تقريبا، وقد اتصلت الآن بضواحي المدينة كغيرها من قرى غوطتي دمشق الشرقية والغربية، وانظر كتاب «غوطة دمشق» للعلّامة الأستاذ محمد كرد علي رحمه الله تعالى ص (183) .
[3] انظر «العبر» (5/ 224) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 312- 318) و «طبقات الشافعية الكبرى» (8/ 69- 72) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 451- 452) و «طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 155- 156) و «عقد الجمان» (1/ 159- 160) .
[4] تكملة من ترجمته في المجلد السادس صفحة (500) .
[5] تكملة من ترجمته في الصفحة (144) من هذا المجلد.

(7/465)


كثير الأسفار والتطواف، جمّاعة لفنون العلم، ذكيا، ثاقب الذهن. له تصانيف كثيرة، مع زهد، وورع، وفقر، وتعفف.
سئل عنه الحافظ الضياء فقال: فقيه، مناظر، نحويّ، من أهل السّنّة.
صحبنا وما رأينا منه إلّا خيرا.
وقال الذهبي: توفي في نصف ربيع الأول في الطريق، ودفن بتل الزّعقة، رحمه الله تعالى.

(7/466)