فتوح البلدان

أمر حمص
حدثني عَبَّاس بْن هِشَام عن أبيه عن أَبِي مخنف: أن أَبَا عُبَيْدة بْن الجراح لما فرغ من دمشق، قدم أمامه خَالِد بْن الوليد، وملحان بْن زياد الطائي، ثُمَّ اتبعهما فلما توافوا بحمص قاتلهم أهلها ثم لجأوا إِلَى المدينة وطلبوا الأمان والصلح فصالحوه عَلَى مائة ألف وسبعين دينار، قال الواقدي وغيره: بينا المسلمون عَلَى أبواب مدينة دمشق إذ أقبلت خيل للعدو كثيفة فخرجت إليهم جماعة منَ المسلمين فلقوهم بَيْنَ بيت لهيا والثنية فولوا منهزمين نحو حمص عَلَى طريق قارا واتبعوهم حَتَّى وافوا حمص فألقوهم قَدْ عدلوا عنها ورآهم الحمصيون وكانوا منخوبين لهرب هرقل عنهم وما كان يبلغهم من قوة كيد المسلمين

(1/132)


وبأسهم وظفرهم فأعطوا بأيديهم وهتفوا بطلب الأمان فأمنهم المسلمون وكفوا أيديهم عنهم فأخرجوا إليهم العلف والطعام وأقاموا عَلَى الأرند «يريد الأرند» - وهو النهر الَّذِي يأتي انطاكية ثُمَّ يصب في البحر بساحلها- وكان عَلَى المسلمين السمط بْن الأسود الكندي، فلما فرغ أَبُو عُبَيْدة من أمر دمشق: استخلف عليها يزيد بْن أَبِي سُفْيَان ثُمَّ قدم حمص عَلَى طريق بلعبك فنزل بباب الرستن فصالحه أهل حمص عَلَى أن أمنهم عَلَى أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم وأرحائهم واستثنى عليهم ربع كنيسة يوحنا للمسجد واشترط الخراج عَلَى من أقام منهم.
وذكر بعض الرواة أن السمط بْن الأسود الكندي كان صالح أهل حمص، فلما قدم أَبُو عُبَيْدة أمضى صلحه وأن السمط قسم حمص خططا بَيْنَ المسلمين حَتَّى نزلوها وأسكنهم في كل مرفوض جلا أهله أو ساحة متروكة.
وحدثني أَبُو حفص الدمشقي عن سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيزِ، قَالَ: لما افتتح أَبُو عُبَيْدة بْن الجراح دمشق استخلف يزيد بْن أبى سفيان على دمشق، وعمرو بن العاصي عَلَى فلسطين، وشرحبيل عَلَى الأردن، وأتى حمص فصالح أهلها على نحو صلح بلعبك، ثُمَّ خلف بحمص عبادة بْن الصامت الأنصاري، ومضى نحو حماة فتلقاه أهلها مذعنين فصالحهم على الجزية فى رؤسهم والخراج في أرضهم، فمضى نحو شيزر فخرجوا يكفرون ومعهم المقطسون ورضوا بمثل ما رضي به أهل حماة وبلغت خيله الزراعة والقسطل.
ومر أَبُو عُبَيْدة بمعرة حمص- وهي الَّتِي تنسب إِلَى النعمان بْن بشير فخرجوا يقلسون بَيْنَ يديه ثُمَّ أتى فامية ففعل أهلها مثل ذلك وأذعنوا بالجزية والخراج واستتم أمر حمص فكانت حمص وقنسرين شيئا واحدا. وقد اختلفوا في تسمية الأجناد، فقال بعضهم: سمى المسلمون فلسطين جندا لأنه

(1/133)


جمع كورا، وكذلك دمشق، وكذلك الأردن، وكذلك حمص مع قنسرين.
وقال بعضهم: سميت كل ناحية لها جند يقبضون أطماعهم بها جندا وذكروا أن الجزيرة كانت إِلَى قنسرين فجندها عَبْد الملك بْن مروان أي أفردها فصار جندها يأخذون أطماعهم بها من خراجها، وأن مُحَمَّد بْن مروان كان سأل عَبْد الملك تجنيدها ففعل، ولم تزل قنسرين وكورها مضمومة إِلَى حمص حَتَّى كان يزيد بْن معاوية فجعل قنسرين وأنطاكية ومنبج وزواتها جندا.
فلما استخلف أمير الْمُؤْمِنِين الرشيد هارون بْن المهدي أفرد قنسرين بكورها فصير ذلك جندًا واحدًا، وأفرد منبج، ودلوك، ورعبان وقورس وأنطاكية وتيزين، وسماها العواصم لأن المسلمين يعتمون بها فتعصمهم وتمنعهم إذا انصرفوا من غزوهم وخرجوا منَ الثغر وجعل مدينة العواصم منبج فسكنها عَبْد الملك بْن صالح بْن علي في سنة ثلاث وسبعين ومائة وبنى بها أبنية.
وحدثني أَبُو حفص الدمشقي، عن سَعِيد بن عبد العزيز: وحدثني موسى ابن إِبْرَاهِيم التنوخي عن أبيه عن مشايخ من أهل حمص، قَالَ: استخلف أَبُو عُبَيْدة عبادة بْن الصامت الأنصاري عَلَى حمص، فأتى اللاذقية.
فقاتله أهلها فكان بها باب عظيم لا يفتحه إلا جماعة منَ الناس، فلما رأى صعوبة مرامها عسكر عَلَى بعد منَ المدينة ثُمَّ أمر أن تحفر حفائر كالأسراب يستتر الرجل وفرسه في الواحدة منها، فاجتهد المسلمون في حفرها حَتَّى فرغوا منها، ثُمَّ أنهم أظهروا القفول إِلَى حمص، فلما جن عليهم الليل عادوا إِلَى معسكرهم وحفائرهم وأهل اللاذقية غارون يرون أنهم قَدِ انصرفوا عنهم، فلما أصبحوا فتحوا بابهم وأخرجوا سرحهم فلم يرعهم إلا تصبيح المسلمين إياهم ودخولهم من باب المدينة ففتحت عنوة، ودخل عبادة الحصن ثُمَّ علا حائطه فكبر عَلَيْهِ، وهرب قوم من نصارى اللاذقية إِلَى

(1/134)


اليسيد، ثُمَّ طلبوا الأمان عَلَى أن يتراجعوا إِلَى أرضهم فقوطعوا عَلَى خراج يؤدونه قلوا أو كثروا وتركت لهم كنيستهم، وبنى المسلمون باللاذقية مسجدا جامعا بأمر عبادة ثُمَّ أنه وسع بعد.
وكانت الروم أغارت في البحر عَلَى ساحل اللاذقية فهدموا مدينتها وسبوا أهلها وذلك في خلافة عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ سنة مائة فأمر عُمَر ببنائها وتحصينها ووجه إِلَى الطاغية في فداء من أسر منَ المسلمين فلم يتم ذلك حَتَّى تُوُفِّيَ عُمَر في سنة أحد ومائة فأتم المدينة وشحنها يزيد بْن عَبْد الملك.
وحدثني رجل من أهل اللاذقية قَالَ: لم يمت عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ حَتَّى حرز مدينة اللاذقية وفرغ منها، والذي أحدث يزيد بْن عَبْد الملك فيها مرمة وزيادة في الشحنة، وحدثني أَبُو حفص الدمشقي، قَالَ: حدثني سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيزِ، وسعيد بْن سُلَيْمَان الحمصي، قالا: ورد عبادة والمسلمون السواحل ففتحوا مدينة تعرف ببلدة عَلَى فرسخين من جبلة عنوة، ثُمَّ إنها خربت وجلا عنها أهلها فأنشأ معاوية بْن أبى سفيان جبلة وكانت حصنا للروم جلوا عنه عند فتح المسلمين حمص وشحنها. وحدثني سُفْيَان بْن مُحَمَّد البهراني عن أشياخه قَالُوا: بنى معاوية لجبلة حصنا خارجا منَ الحصن الرومي القديم وكان سكان الحصن الرومي رهبانا وقوما يتعبدون فى دينهم. وحدثني سفيان ابن مُحَمَّد، قَالَ حدثني أَبِي وأشياخنا، قَالُوا: فتح عبادة المسلمون معه أنطرطوس: وكان حصنا ثُمَّ جلا عنه أهله فبنى معاوية أنطرطوس ومصرها وأقطع بها القطائع، وكذلك فعل بمرقية وبلنياس.
وحدثني أَبُو حفص الدمشقي، عن أشياخه قَالُوا: افتتح أَبُو عُبَيْدة اللاذقية وجبلة وأنطرطوس عَلَى يدي عبادة بْن الصامت، وكان يوكل بها حفظة إِلَى انغلاق البحر، فلما كانت شحنة معاوية السواحل وتحصينه إياها شحنها وحصنها

(1/135)


وأمضى أمرها عَلَى ما أمضى عَلَيْهِ أمر السواحل. وحدثني شيخ من أهل حمص قَالَ: بقرب سلمية مدينة تدعى المؤتفكة وانقلبت بأهلها فلم يسلم منهم إلا مائة نفس فبنوا مائة منزل وسكنوها فسميت حوزتهم الَّتِي بنوا فيها سلم مائة، ثُمَّ حرف الناس اسمها فقالوا سليمة، ثُمَّ أن صالح بْن علي بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس اتخذها وبنى وولده فيها ومصروها ونزلها قوم من ولده. وقال ابْن سهم الأنطاكي: سلمية اسم رومي قديم. وحدثني مُحَمَّد بْن مصفى الحمصي، قَالَ:
هدم مروان بْن مُحَمَّد سور حمص، وذلك أنهم كانوا خالفوا عَلَيْهِ فلما مر بأهلها هاربا من أهل خراسان اقتطعوا بعض ثقله وماله وخزائن سلاحه.
وكانت مدينة حمص مفروشة بالصخر، فلما كانت أيام أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَبِي إِسْحَاق المعتصم بالله شغبوا عَلَى عاملهم الْفَضْل بن قارن الطبري أخى مايزديار بْن قارن فأمر بقلع ذلك الفرش فقلع ثُمَّ أنهم أظهروا المعصية وأعادوا ذلك الفرش وحاربوا الْفَضْل بْن قارن حَتَّى قدروا عَلَيْهِ ونهبوا ماله ونساءه وأخذوه فقتلوه وصلبوه فوجه أَحْمَد بْن مُحَمَّد إليهم موسى بْن بغا الكبير مولى أمير الْمُؤْمِنِين المعتصم بالله فحاربوه وفيهم خلق من نصارى المدينة ويهودها فقتل منهم مقتلة عظيمة وهزم باقيهم حَتَّى ألحقهم بالمدينة ودخلها عنوة وذلك في سنة خمسين ومائتين وبحمص هرى يرده قمح وزيت منَ السواحل وغيرها مما قوطع أهله عَلَيْهِ، وأسجلت لهم السجلات بمقاطعتهم.
يوم اليرموك
قَالُوا: جمع هرقل جموعا كثيرة منَ الروم وأهل الشام وأهل الجزيرة وأرمينية تكون زهاء مائتي ألف وولى عليهم رجلا من خاصته، وبعث عَلَى مقدمته جبلة بْن الأيهم الغساني في مستعربة الشام من لخم وجذام وغيرهم، وعزم عَلَى محاربة المسلمين فإن ظهروا وإلا دخل بلاد الروم، فأقام

(1/136)


بالقسطنطينية واجتمع المسلمون فرجعوا إليهم فاقتتلوا عَلَى اليرموك أشد قتالا وأبرحه واليرموك نهر- وكان المسلمون يومئذ أربعة وعشرين ألفا وتسلسلت الروم وأتباعهم يومئذ لئلا يطعموا أنفسهم في الهرب، فقتل اللَّه منهم زهاء سبعين ألفا وهرب فلهم فلحقوا بفلسطين وأنطاكية وحلب والجزيرة وأرمينية. وقاتل يوم اليرموك نساء من نساء المسلمين قتالا شديدا، وجعلت هند بنت عتبة أم معاوية بْن أَبِي سُفْيَان تقول: عضدوا الغلفان بسيوفكم.
وكان زوجها أَبُو سُفْيَان خرج إِلَى الشام تطوعا وأحب مع ذلك أن يرى ولده وحملها معه، ثُمَّ أنه قدم المدينة فمات بها سنة إحدى وثلاثين وهو ابْن ثمان وثمانين سنة، ويقال: إنه مات بالشام فلما أتى أم حبيبة بنته نعيه دعت في اليوم الثالث بصفرة فمسحت بها ذراعيها وعارضتها، وقالت: لقد كنت عن هَذَا غنية لولا أني سمعت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «لاتحد امْرَأَةٌ عَلَى مَيْتٍ سِوَى زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ» ويقال: إنها فعلت هَذَا الفعل حين أتاها نعي أخيها يزيد والله أعلم.
وكان أَبُو سُفْيَان بْن حرب أحد العوران ذهبت عينه يوم الطائف، قَالُوا: وذهبت يوم اليرموك عين الأشعث بْن قيس، وعين هاشم بْن عتبة ابن أبى وقاص الزهري، وهو المرقال: وعين قيس بْن مكشوح. واستشهد عَامِر بْن أَبِي وقاص الزهري، وهو الذي كان قدم الشام بكتاب عُمَر بْن الخطاب إِلَى أَبِي عُبَيْدة بولايته الشام، ويقال: بل مات في الطاعون، وقال بعض الرواة استشهد يوم أجنادين وليس ذلك بثبت.
قَالَ: وعقد أَبُو عُبَيْدة لحبيب بْن مسلمة الفهري عَلَى خيل الطلب فجعل يقتل من أدرك، وانحاز جبلة بْن الأيهم إِلَى الأنصار فقال: أنتم أخوتنا

(1/137)


وبنو أبينا وأظهر الإِسْلام، فلما قدم عُمَر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه الشام سنة سبع عشرة لاحى جلة رجلا من مزينة فلطم عينه فأمره عُمَر بالاقتصاص منه، فقال: أو عينه مثل عيني والله لا أقيم ببلد عَلَى به سلطان، فدخل بلاد الروم مرتدا، وكان جبلة ملك غسان بعد الحارث بْن أَبِي شمر، وروى أيضا أن جبلة أتى عُمَر بْن الخطاب وهو عَلَى نصرانيته فعرض عُمَر عَلَيْهِ الإِسْلام وأداء الصدقة فأبى ذلك وقال: أقيم عَلَى ديني وأؤدي الصدقة.
فقال عُمَر: إن أقمت عَلَى دينك فأد الجزية فانف منها، فقال عُمَر:
ما عندنا لك إلا واحدة من ثلاث، أما الإِسْلام، وأما أداء الجزية، وأما الذهاب إِلَى حيث شئت: فدخل بلاد الروم في ثلاثين ألفا، فلما بلغ ذلك عُمَر ندم وعاتبه عبادة بْن الصامت فقال لو قبلت منه الصدقة ثُمَّ تألفته لأسلم، وأن عُمَر رضي اللَّه عنه وجه في سنة إحدى وعشرين عمير بْن سَعْد الأنصاري إِلَى بلاد الروم في جيش عظيم وولاه الصائفة- وهي أول صائفة كانت- وأمره أن يتلطف لجبلة بْن الأيهم ويستعطفه بالقرابة بينهما ويدعوه إِلَى الرجوع إِلَى بلاد الإِسْلام عَلَى أن يؤدي ما كان بذل منَ الصدقة ويقيم عَلَى دينه، فسار عمير حَتَّى دخل بلاد الروم وعرض عَلَى جبلة ما أمره عُمَر بعرضه عَلَيْهِ فأبى إلا المقام في بلاد الروم، وانتهى عمير إِلَى موضع يعرف بالحمار، وهو واد فأوقع بأهله، وأخربه فقيل أخرب من جوف حمار.
قَالُوا: ولما بلغ هرقل خبر أهل اليرموك وإيقاع المسلمين بجنده هرب منَ انطاكية إِلَى قسطنطينية، فلما جاوز الدرب قَالَ: عليك يا سورية السلام ونعم البلد هَذَا للعدو يعني أرض الشام لكثرة مراعيها. وكانت وقعة اليرموك في رجب سنة خمس عشرة. قَالَ هِشَام بْن الكلبي: شهد اليرموك حباس بْن قيس القشيري فقتل منَ العلوج خلقا وقطعت رجله وهو لا يشعر، ثُمَّ جعل ينشدها

(1/138)


فقال سوار بْن أوفى:
ومنا ابْن عتاب وناشد رجله ... ومنا الَّذِي أدى إِلَى الحي حاجبا
يعني ذا الرقيبة. وحدثني أَبُو حفص الدمشقي قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيزِ، قَالَ: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا عَلَى أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم منَ الخراج وقالوا: قَدْ شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم عَلَى أمركم، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه منَ الظلم والغشم ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عملكم ونهض اليهود فقالوا. والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها وكذلك فعل أهل المدن الَّتِي صولحت منَ النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم عَلَى المسلمين صرنا إِلَى ما كنا عَلَيْهِ وإلا فإنا عَلَى أمرنا ما بقي للمسلمين عدد، فلما هزم اللَّه الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدوا الخراج، وسار أَبُو عُبَيْدة إِلَى جند قنسرين وأنطاكية ففتحها.
وحدثني العَبَّاس بْن هشام الكلبي عن أبيه عن جده، قال. أبلى السمط ابن الأسود الكندي بالشام وبحمص خاصة وفي يوم اليرموك وهو الَّذِي قسم منازل حمص بَيْنَ أهلها، وكان ابنه شرحبيل بْن السمط بالكوفة مقاوما للأشعث بْن قيس الكندي في الرياسة فوفد السمط إِلَى عُمَر، فقال له: يا أمير الْمُؤْمِنِين إنك لا تفرق بَيْنَ السبي، وقد فرقت بيني وبين ولدي فحوله إِلَى الشام أو حولني إِلَى الكوفة فقال: بل أحوله إِلَى الشام فنزل حمص مع أبيه
.

(1/139)


أمر فلسطين
حدثني أَبُو حفص الدمشقي، عن سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيزِ عن أشياخه، وعن بقية بْن الوليد عن مشايخ من أهل العلم، قَالُوا: كانت أول وقعة واقعها المسلمون الروم في خلافة أَبِي بكر الصديق رضي اللَّه عنه أرض فلسطين، وعلى الناس عَمْرو بن العاصي، ثم أن عمروا بن العاصي فتح غزة في خلافة أَبِي بكر رضي اللَّه عنه، ثُمَّ فتح بعد ذلك سبسطية ونابلس عَلَى أن أعطاهم الأمان عَلَى أنفسهم وأموالهم ومنازلهم وعلى أن الجزية عَلَى رقابهم والخراج عَلَى أرضهم، ثُمَّ فتح مدينة لد وارضها ثم فتح يبنى وعمواس ويبت جبرين واتخذ بها ضيعة تدعى عجلان باسم مولى له، وفتح يافا ويقال.
فتحها معاوية، وفتح عَمْرو رفح عَلَى مثل ذلك. وقدم عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدة بعد أن فتح قنسرين ونواحيها وذلك في سنة ست عشرة وهو محاصر إيلياء، وإيلياء مدينة بيت المقدس، فيقال: إنه وجهه إِلَى انطاكية من إيلياء وقد غدر أهلها ففتحها، ثُمَّ عاد فأقام يومين أو ثلاثة ثُمَّ طلب أهل إيلياء من أَبِي عُبَيْدة الأمان والصلح عَلَى مثل ما صولح عَلَيْهِ أهل مدن الشام من أداء الجزية والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم عَلَى أن يكون المتولى للعقد لهم عُمَر بْن الخطاب نفسه، فكتب أَبُو عُبَيْدة إِلَى عُمَر بذلك فقدم عُمَر فنزل الجابية من دمشق ثُمَّ صار إِلَى إيلياء فأنفذ صلح أهلها وكتب لهم به، وكان فتح إيلياء في سنة سبع عشرة.
وقد روى في فتح إيليا وجه آخر. حدثني الْقَاسِم بْن سلام، قَالَ: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب أن عُمَر بْن الخطاب بعث خَالِد بْن ثابت الفهمي إِلَى بيت المقدس في جيش وهو يومئذ بالجابية فقاتلهم فأعطوه عَلَى ما أحاط به حصنهم شيئا يؤدونه ويكون للمسلمين

(1/140)


ما كان خارجا فقدم عُمَر فأجاز ذلك ثُمَّ رجع إِلَى المدينة. وحدثني هِشَام بْن عمار، عَنِ الوليد عَنِ الأوزاعي: أن أَبَا عُبَيْدة فتح قنسرين وكورها سنة ست عشرة ثم أتى فلسطين فنزل إيليا فسألوه أن يصالحهم فصالحهم في سنة سبع عشرة عَلَى أن يقدم عُمَر رحمه اللَّه فينفذ ذلك ويكتب لهم به.
حدثني هِشَام بْن عمار، قَالَ: حدثني الوليد بْن مُسْلِم عن تميم بْن عطية عن عَبْد اللَّهِ بْن قيس، قَالَ: كنت فيمن يلقى عُمَر مع أَبِي عُبَيْدة مقدمة الشام فبينما عُمَر يسير إذ لقيه المقلسون من أهل أذرعات بالسيوف والريحان، فقال عُمَر: مه امنعوهم فقال أَبُو عُبَيْد: يا أمير الْمُؤْمِنِين هَذِهِ سنتهم- أو كلمة نحوها- وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضا لعهدهم فقال دعوهم.
قال: فكان طاعون عمواس سنة ثمان عشرة فتوفي فيه خلق منَ المسلمين منهم أَبُو عُبَيْدة بْن الجراح مات وله ثمان وخمسين سنة، وهو أمير ومعاذ ابن جبل أحد بني سلمة منَ الخزرج، ويكنى أَبَا عَبْد الرَّحْمَنِ تُوُفِّيَ بناحية الأقحوانة منَ الأردن وله ثمان وثلاثين سنة، وكان أَبُو عُبَيْدة لما احتضر استخلفه، ويقال استخلف عياض بْن غنم الفهري، ويقال: بل استخلف عَمْرو بن العاصي فاستخلف عَمْرو ابنه ومضى إِلَى مصر والْفَضْل بن العباس ابن عَبْد المطلب ويكنى أَبَا مُحَمَّد، وقوم يقولون أنه أستشهد بأجنادين والثبت أنه تُوُفِّيَ في طاعون عمواس، وشرحبيل بْن حسنة ويكنى أَبَا عَبْد اللَّهِ مات وهو ابْن تسع وستين سنة، وسهيل بْن عَمْرو أحد بني عَامِر بْن لؤي ويكنى أَبَا يزيد، والحارث بْن هِشَام بْن المغيرة المخزومي، وقيل: أنه استشهد يوم أجنادين.
قَالُوا: ولما أتت عُمَر بْن الخطاب وفاة أَبِي عُبَيْدة كتب إِلَى يزيد بْن أَبِي سُفْيَان بولاية الشام مكانه وأمره أن يغزو قيسارية. وقال قوم: إن عُمَر إنما ولى يزيد الأردن وفلسطين، وأنه ولى دمشق أبا الدرداء، وولى حمص عبادة

(1/141)


ابن الصامت وحدثني مُحَمَّد بْن سَعْد، قَالَ: حدثني الواقدي، قَالَ: اختلف علينا في أمر قيسارية [1] فقال قائلون: فتحها معاوية، وقال آخرون: بل فتحها عياض بْن غنم بعد وفاة أَبِي عُبَيْدة وهو خليفته، وقال قائلون: بل فتحها عَمْرو بن العاصي. وقال قائلون: خرج عمرو بن العاصي إِلَى مصر وخلف ابنه عَبْد اللَّهِ فكان الثبت من ذلك، والذي اجتمع عَلَيْهِ العلماء: أن أول الناس الَّذِي حاصرها عَمْرو بْن العاصي نزل عليها في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة فكان يقيم عليها ما أقام، فإذا كان للمسلمين اجتماع في أمر عدوهم سار إليهم فشهد أجنادين وفحل والمرج ودمشق واليرموك ثُمَّ رجع إِلَى فلسطين فحاصرها بعد إيلياء ثم خرج إلى مصر من قيسارية، وولى يزيد ابن أَبِي سُفْيَان بعد أَبِي عُبَيْدة فوكل أخاه معاوية بمحاصرتها وتوجه إِلَى دمشق مطعونا فمات بها.
وقال غير الواقدي: ولى عُمَر يزيد بْن أَبِي سُفْيَان فلسطين مع ما ولاه من أجناد الشام وكتب إليه يأمره بغزو قيسارية، وقد كانت حوصرت قبل ذلك فنهض إليها في سبعة عشر ألفا فقاتله أهلها ثُمَّ حصرهم ومرض في آخر سنة ثماني عشرة فمضى إِلَى دمشق واستخلف عَلَى قيسارية أخاه معاوية ابن سُفْيَان ففتحها وكتب إليه بفتحها فكتب به يزيد إِلَى عُمَر. ولما توفي يزيد بْن أَبِي سُفْيَان كتب عُمَر إِلَى معاوية بتوليته ما كان يتولاه فشكر أَبُو سُفْيَان ذلك له وقال: وصلتك يا أمير الْمُؤْمِنِين رحم.
وحدثني هِشَام بْن عمار، قَالَ: حدثني الوليد بْن مُسْلِم عن تميم بْن عطية قَالَ: ولى عُمَر معاوية بْن أَبِي سُفْيَان الشام بعد يزيد، وولى معه رجلين من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة والقضاء: فولى أَبَا الدرداء قضاء دمشق والأردن وصلاتهما. وولى عبادة قضاء حمص وقنسرين وصلاتهما
__________
[1] تقع مدينة قيسارية بين عكا ويافا على ساحل البحر.

(1/142)


وحدثني مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الواقدي في إسناده قَالَ: لما ولى عُمَر بْن الخطاب معاوية الشام حاصر قيسارية حَتَّى فتحها، وقد كانت حوصرت نحوا من سبع سنين وكان فتحها في شوال سنة تسع عشرة. وحدثني محمد بن سعد عن محمد ابن عُمَر عن عَبْد اللَّهِ بْن عَامِر في إسناده قَالَ: حاصر معاوية قيسارية حَتَّى يئس من فتحها، وكان عمرو بن العاصي وابنه حاصراها ففتحها معاوية قسرا فوجد بها من المرتزفة سبعمائة ألف، ومن السامرة ثلاثين ألفا، ومن اليهود مائتي ألف، ووجد بها ثلاثمائة سوق قائمة كلها، وكان يحرسها في كل ليلة عَلَى سورها مائة ألف.
وكان سبب فتحها إن يهوديًا يقال له يوسف أتى المسلمين ليلا فدلهم عَلَى طريق في سرب فيه الماء إِلَى حقو الرجل عَلَى أن أمنوه وأهله وأنفذ معاوية ذلك ودخلها المسلمون في الليل وكبروا فيها فأراد الروم أن يهربوا منَ السرب فوجدوا المسلمين عَلَيْهِ، وفتح المسلمون الباب فدخل معاوية ومن معه وكان بها خلق منَ العرب، وكانت فيهم شقراء الَّتِي يقول فيها حسان بْن ثابت:
تقول شقراء لو صحوت عَنِ الخمر لأصبحت مثرى العدد
ويقال: أن اسمها شعثاء. وحدثني مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الواقدي في إسناده أن سبي قيسارية بلغوا أربعة آلاف رأس، فلما بعث به معاوية إِلَى عُمَر بْن الخطاب أمر بهم فأنزلوا الجرف ثُمَّ قسمهم عَلَى يتامى الأنصار وجعل بعضهم في الكتاب والأعمال للمسلمين، وكان أَبُو بكر الصديق رضي اللَّه عنه أخدم بنات أَبِي أمامة أسعد بْن زرارة خادمين من سبي عين التمر فماتا فأعطاهن عُمَر مكانهما من سبي قيسارية.
قَالُوا: ووجه معاوية بالفتح مع رجلين من جذام ثُمَّ خاف ضعفهما

(1/143)


عن المسير فوجه رجلا من خثعم، فكان الخثعمي يجهد نفسه في السير والسرى وهو يقول:
أرق عيني أخو جذام ... أخي جشم وأخو حرام
كيف أنام وهما أمامي ... إذ يرحلان والهجير طام
فسبقهما ودخل عَلَى عُمَر فكبر عُمَر. وحدثني هِشَام بْن عمار في إسناد له لم أحفظه أن قيسارية فتحت قسرا في سنة تسع عشرة فلما بلغ عُمَر فتحها نادى أن قيسارية فتحت قسرا وكبر وكبر المسلمون، وكانت حوصرت سبع سنين وفتحها معاوية.
قالوا: وكان موت يزيد بْن أَبِي سُفْيَان في آخر سنة ثمان عشرة بدمشق فمن قَالَ: أن معاوية فتح قيسارية في حياة أخيه قَالَ: إنما فتحت في آخر سنة ثمان عشرة ومن قَالَ: أنه فتحها في ولايته الشام قَالَ. فتحت في سنة تسع عشرة وذلك الثبت. وقال بعض الرواة أنها فتحت في أول سنة عشرين.
قَالُوا. وكتب عُمَر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه إِلَى معاوية يأمره بتتبع ما بقي من فلسطين ففتح عسقلان صلحا بعد كيد. ويقال. إن عمر بن العاصي كان فتحها ثُمَّ نقض أهلها وأمدهم الروم ففتحها معاوية وأسكنها الروابط وكل بها الحفظة.
وحدثني بكر بْن الهيثم قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن يوسف الفريابي يحدث عن مشايخ من أهل عسقلان أن الروم أخربت عسقلان وأجلت أهلها عنها فى أيام من الزبير، فلما ولى عَبْد الملك بْن مروان بناها وحصنها ورم أيضا قيسارية. وحدثني مُحَمَّد بْن مصفى، قَالَ حدثني أَبُو سُلَيْمَان الرملي عن أبيه أن الروم خرجت في أيام ابْن الزبير إِلَى قيسارية فشعثتها وهدمت مسجدها، فلما استقام لعبد الملك بْن مروان الأمر رم قيسارية وأعاد مسجدها وأشحنها

(1/144)


بالرجال وبنى صور وعكا الخارجة، وكانت سبيلهما مثل سبيل قيسارية.
وحدثني جماعة من أهل العلم بأمر الشام، قَالُوا: ولى الوليد بْن عَبْد الملك سُلَيْمَان بْن عَبْد الملك جند فلسطين فنزل لد، ثُمَّ أحدث مدينة الرملة ومصرها وكان أول ما بنى منها قصره والدار الَّتِي تعرف بدار الصباغين، وجعل في الدار صهريجا متوسطا لهائم اختط للمسجد خطة وبناه، فولى الخلافة قبل استتمامه ثُمَّ بنى فيه بعد في خلافته، ثُمَّ أتمه عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ ونقص منَ الخطة، وقال:
أهل الرملة يكتفون بهذا المقدار الَّذِي اقتصرت بهم عَلَيْهِ.
ولما بنى سُلَيْمَان لنفسه أذن للناس في البناء فبنوا، واحتفر لأهل الرملة قناتهم الَّتِي تدعى بردة واحتفر آبارا وولى النفقة عَلَى بنائها بالرملة ومسجد الجماعة كاتبا له نصرانيا من أهل لد يقال له البطريق بْن النكا، ولم تكن مدينة الرملة قبل سُلَيْمَان، وكان موضعها رملة.
قَالُوا: وقد صارت دار الصباغين لورثة صالح بن علي بن عبد الله بن العَبَّاس لأنها قبضت مع أموال بني أمية قَالُوا: وكان بنو أمية ينفقون عَلَى آبار الرملة وقناتها بعد سُلَيْمَان بْن عَبْد الملك فلما استخلف بنو العَبَّاس أنفقوا عليها، وكان الأمر في تلك النفقة يخرج في كل سنة من خليفة بعد خليفة، فلما استخلف أمير الْمُؤْمِنِين أَبُو إِسْحَاق المعتصم بالله أسجل بتلك النفقة سجلا فانقطع الاستثمار وصارت جارية يحتسب بها العمال فيحسب لهم قَالُوا:
وبفلسطين فروز بسجلات منَ الخلفاء مفردة من خراج العامة، وبها التخفيف والردود، وذاك إن ضباعا رفضت في خلافة الرشيد وتركها أهلها فوجه أمير الْمُؤْمِنِين الرشيد هرثمة بْن أعين لعمارتها، فدعا قوما من مزارعيها وأكرتها إِلَى الرجوع إليها عَلَى أن يخفف عنهم من خراجهم ولين معاملتهم فرجعوا، فأولئك

(1/145)


أصحاب التخافيف، وجاء قوم منهم بعد فردت عليهم أرضهم عَلَى مثل ما كانوا عَلَيْهِ فهم أصحاب الردود.
وحدثني بكر بْن الهيثم، قَالَ: لقيت رجلا منَ العرب بعسقلان فأخبرني أن جده ممن أسكنه إياها عَبْد الملك وأقطعه بها قطيعة مع من أقطع منَ المرابطة قَالَ، وأراني أرضًا فقال: هَذِهِ من قطائع عُثْمَان بْن عَفَّان. قَالَ بكر: وسمعت مُحَمَّد بْن يوسف الفريابي يقول بعسقلان ههنا قطائع أقطعت بأمر عُمَر وعُثْمَان لو دخل فيها رجل لم أجد بذلك بأسا.
أمر جند قنسرين والمدن الَّتِي تدعى العواصم
قَالُوا: سار أَبُو عُبَيْدة بْن الجراح بعد فراغه من أرض اليرموك إِلَى حمص فاستقراها، ثُمَّ أتى قنسرين وعلى مقدمته خَالِد بْن الوليد فقاتله أهل مدينة قنسرين، ثُمَّ لجأوا إِلَى حصنهم وطلبوا الصلح فصالحهم أَبُو عُبَيْدة عَلَى مثل صلح حمص وغلب المسلمون عَلَى أرضها وقراها، وكان حاضر قنسرين لتنوخ مذ أول ما تنخوا بالشام نزلوه وهم في خيم الشعر، ثُمَّ ابتنوا به المنازل: فدعاهم أَبُو عُبَيْدة إِلَى الإِسْلام فأسلم بعضهم وأقام عَلَى النصرانية بنو سليح بْن حلوان ابن عِمْرَان ابن الحاف بْن قضاعة، فحدثني بعض ولد يزيد بْن حنين الطائي الأنطاكي عن أشياخهم: أن جماعة من أهل ذلك الحاضر أسلموا في خلافة أمير الْمُؤْمِنِين المهدي فكتب عَلَى أيديهم بالحضرة قنسرين، ثُمَّ سار أَبُو عُبَيْدة يريد حلب فبلغه أن أهل قنسرين قَدْ نقضوا وغدروا فوجه إليهم السمط بْن الأسود الكندي فحصرهم ثُمَّ فتحها.
حدثني هِشَام بْن عمار الدمشقي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن حَمْزَة عن أَبِي عَبْد الْعَزِيزِ عن عبادة بْن نسى عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن غنم، قَالَ: رابطنا مدينة قنسرين مع

(1/146)


السمط- أو قَالَ شرحبيل بْن السمط- فلما فتحها أصاب فيها بقرا وغنما، فقسم فينا طائفة وجعل بقيتها في المغنم، وكان حاضر طيء قديما نزلوه بعد حرب الفساد الَّتِي كانت بينهم حين نزلوا الجبلين من نزل منهم وتفرق باقوهم في البلاد، فلما ورد أَبُو عُبَيْدة عليهم أسلم بعضهم وصالح كثير منهم عَلَى الجزية ثُمَّ أسلموا بعد ذلك بيسير إلا من شذ عن جماعتهم، وكان بقرب مدينة حلب حاضر تدعى حاضر حلب يجمع أصنافا منَ العرب من تنوخ وغيرهم فصالحهم أَبُو عُبَيْدة عَلَى الجزية، ثُمَّ أنهم أسلموا بعد ذلك فكانوا مقيمين وأعقابهم به إِلَى بعيد وفاة أمير الْمُؤْمِنِين الرشيد، ثُمَّ إن أهل ذلك الحاضر حاربوا أهل مدينة حلب وأرادوا إخراجهم عنها، فكتب الهاشميون من أهلها إِلَى جميع من حولهم من قبائل العرب يستنجدونهم فكان أسبقهم إِلَى إنجادهم وإغاثتهم العَبَّاس ابن زفر بن عاصم الهلالي بالخؤولة، لأن أم عبد الله ابن العَبَّاس لبابة بنت الحارث بْن حزن بْن بحير بْن الهزم هلالية، فلم يكن لأهل ذلك الحاضر به وبمعن معه طافة فأجلوهم عن حاضرهم وأخربوه، وذلك في أيام فتنة مُحَمَّد بْن الرشيد، فانتقلوا إِلَى قنسرين فتلقاهم أهلها بالأطعمة والكسى فلما دخلوها أرادوا التغلب عليها فأخرجوهم عنها فتفرقوا في البلاد، فمنهم قوم بتكريت قَدْ رأيتهم ومنهم قوم بأرمينية وفي بلدان كثيرة متباينة.
وأخبرني أمير الْمُؤْمِنِين المتوكل رحمه اللَّه قَالَ: سمعت شيخا من مشايخ بني صالح بْن علي بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس يحدث أمير الْمُؤْمِنِين المعتصم بالله رحمه اللَّه سنة غزا عمورية، قَالَ لما ورد العَبَّاس بن زفر الهلالي حلب لاغاثة الهاشمين ناداه نسوة منهم: يا خال نحن بالله ثم بك، فقال: لا خوف عليكم إن شاء اللَّه خذلني اللَّه إن خذلتكم، قَالَ: وكان حيار بني القعقاع بلدا معروفا قبل الإِسْلام، وبه كان مقيل المنذر بْن ماء السماء اللخمي ملك الحيرة فنزله

(1/147)


بنو القعقاع بْن خليد بْن جزء بْن الحارث بْن زهير بْن جذيمة بْن رواحة بْن ربيعة بْن مازن بْن الحارث بْن قطيعة بن عبس بن بغيض أوطنوه لنسب إليهم.
وكان عَبْد الملك بْن مروان أقطع القعقاع به قطيعة وأقطع عمه العباس ابن جزء بْن الحارث قطائع أوغرها له إِلَى اليمن فأوغرت بعده، وكانت أو أكثرها موانا، وكانت ولادة بنت العَبَّاس بْن جزء عند عَبْد الملك فولدت له الوليد وسُلَيْمَان. قَالُوا ورحل أَبُو عُبَيْدة إِلَى حلب وعلى مقدمته عياض ابن غنم الفهري، وكان أبوه يسمى عَبْد غنم، فلما أسلم عياض كره أن يقال عَبْد غنم فقال: أنا عياض بْن غنم فوجد أهلها قَدْ تحصنوا فنزل عليها فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان عَلَى أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم ومنازلهم والحصن الَّذِي بها فأعطوا ذلك فاستثنى عليهم موضع المسجد، وكان الَّذِي صالحهم عَلَيْهِ عياض فأنفذ أَبُو عُبَيْدة صلحه، وزعم بعض الرواة أنهم صالحوا على حقن دمائهم وأن يقاسموا أنصاف منازلهم وكنائسهم، وقال بعضهم: أن أَبَا عُبَيْدة لم يصادف بحلب أحدا وذلك أن أهلها انتقلوا إِلَى انطاكية وأنهم إنما صالحوه عن مدينتهم وهم بانطاكية راسلوه في ذلك فلما تم صلحهم رجعوا إِلَى حلب، قَالُوا: وسار أَبُو عُبَيْدة من حلب إِلَى انطاكية وقد تحصن بها خلق من أهل جند قنسرين فلما صار بمهروية وهي عَلَى قريب فرسخين من مدينة انطاكية لقيه جمع للعدو ففضهم وألجأهم إِلَى المدينة وحاصر أهلها من جميع أبوابها، وكان معظم الجيش عَلَى باب فارس والباب الَّذِي يدعى باب البحر، ثُمَّ أنهم صالحوه عَلَى الجزية والجلاء فجلا بعضهم وأقام بعضهم فأمنهم ووضع عَلَى كل حالم منهم دينارا وجريبا ثُمَّ نقضوا العهد فوجه إليهم أَبُو عُبَيْدة عياض بْن غنم وحبيب بْن مسلمة ففتحاها عَلَى الصلح الأول، ويقال: بل نقضوا بعد رجوعه إِلَى فلسطين فوجه عمرو بن

(1/148)


العاصي من إيليا ففتحها ثُمَّ رجع فمكث يسيرا حَتَّى طلب أهل إيليا الأمان والصلح والله أعلم.
وحدثني مُحَمَّد بْن سهم الأنطاكي، عن أَبِي صالح الفراء قَالَ، قَالَ مخلد بْن الْحُسَيْن سمعت مشايخ الثغر يقولون: كانت انطاكية عظيمة الذكر والأمر عند عُمَر وعُثْمَان فلما فتحت: كتب عُمَر إِلَى أَبِي عُبَيْدة أن رتب بانطاكية جماعة منَ المسلمين أهل نيات وحسبة وأجعلهم بها مرابطة ولا تحبس عنهم العطاء، ثُمَّ لما ولي معاوية كتب إليه بمثل ذلك ثُمَّ أن عُثْمَان كتب إليه يأمره أن يلزمها قوما وأن يقطع قطائع ففعل، قال ابْن سهم: وكنت واقفا عَلَى جسر انطاكية عَلَى الأرنط فسمعت شيخا مسنا من أهل انطاكية وأنا يومئذ غلام يقول: هَذِهِ الأرض قطيعة من عُثْمَان لقوم كانوا في بعث أَبِي عُبَيْدة أقطعهم إياها أيام ولاية عُثْمَان معاوية الشام، قَالُوا: ونقل معاوية ابْن أَبِي سُفْيَان إِلَى انطاكية في سنة اثنتين وأربعين جماعة منَ الفرس وأهل بعلبك وحمص ومن المصرين فكان منهم مُسْلِم بْن عَبْد اللَّهِ جد عَبْد اللَّهِ بْن حبيب بْن النعمان بْن مُسْلِم الأنطاكي وكان مُسْلِم قتل عَلَى باب من أبواب أنطاكية يعرف اليوم بباب مُسْلِم، وذلك أن الروم خرجت منَ الساحل فأناخت عَلَى انطاكية فكان مُسْلِم عَلَى السور فرماه علج بحجر فقتله.
وحدثني جماعة من مشايخ أهل انطاكية منهم ابْن برد الفقيه. أن الوليد ابن عَبْد الملك أقطع جندا بانطاكية أرض سلوقية عند الساحل وصير الفلثر وهو الجريب- بدينار ومدى قمح فعمروها، وجرى ذلك لهم وبنى حصن سلوقية، قالوا: وكانت أرض بغرلمس لمسلمة بْن عَبْد الملك فوقفها في سبيل البر، وكانت عين السلور وبحيرتها له أيضا، وكانت الإسكندرية له ثُمَّ صارت لرجاء مولى المهدي إقطاعا يورثه مَنْصُور وإِبْرَاهِيم ابنا المهدي، ثم صارت لإبراهيم ابن سَعِيد الجوهري، ثُمَّ لأحمد بْن أَبِي داود الأيادى ابتياعا، ثم

(1/149)


انتقل مليكها إِلَى أمير الْمُؤْمِنِين المتوكل عَلَى اللَّه رحمه اللَّه فحدثني ابْن برد الأنطاكي وغيره قَالُوا: أقطع مسلمة بْن عَبْد الملك قوما من ربيعة قطائع فقبضت وصارت بعد للمأمون وجرى أمرها عَلَى يد صالح الخازن صاحب الدار بأنطاكية، قَالُوا: وبلغ أَبَا عُبَيْدة أن جمعا للروم بَيْنَ معرة مصرين وحلب فلقيهم وقتل عدة بطارقة وفض ذلك الجيش وسبى وغنم وفتح معرة مصرين عَلَى مثل صلح حلب وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة وسرمين ومرتحوان وتيزين وصالحوا أهل دير طايا ودير الفسيلة عَلَى أن يضيفوا من مر بهم منَ المسلمين، وأتاه نصارى خناصرة فصالحهم وفتح أَبُو عُبَيْدة جميع أرض قنسرين وأنطاكية.
حدثني العَبَّاس بْن هِشَام عن أبيه، قَالَ: خناصرة نسبت إِلَى خناصر بْن عَمْرو بْن الحارث الكلبي: ثُمَّ الكناني، وكان صاحبها وبطنان حبيب نسب إِلَى حبيب بْن مسلمة الفهري، وذلك أن أَبَا عُبَيْدة أو عياض بْن غنم وجهه من حلب ففتح حصنا بها فنسب إليه، قَالُوا: وسار أَبُو عُبَيْدة يريد قورس وقدم أمامه عياضا فتلقاه راهب من رهبانها يسأل الصلح عن أهلها، فبعث به إِلَى أَبِي عُبَيْدة وهو بَيْنَ جبرين وتل أعزاز فصالحه ثُمَّ أتى قورس فعقد لأهلها عهدا وأعطاهم مثل الَّذِي أعطى انطاكية وكتب للراهب كتابا في قرية له تدعى شرقينا وبث خيله فغلب عَلَى جميع أرض قورس إِلَى آخر حد نقابلس، قَالُوا: وكانت قورس كالمسلحة لأنطاكية يأتيها في كل عام طالعة من جند انطاكية ومقاتلتها ثُمَّ حول إليها ربع من أرباع انطاكية وقطعت الطوالع عنها ويقال: أن سُلَيْمَان بْن ربيعة الباهلي كان في جيش أَبِي عُبَيْدة مع أَبِي أمامة الصدى بْن عجلان صاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزل حصنا بقورس فنسب إليه وهو يعرف بحصن سلمان، ثُمَّ قفل منَ الشام فيمن أمد به سَعْد بْن أَبِي وقاص وهو بالعراق، وقيل: سلمان بْن ربيعة كان غزا

(1/150)


الروم بعد فتح العراق وقبل شخوصه إِلَى أرمينية فعسكر عند هَذَا الحصن وقد خرج من ناحية مرعش فنسب إليه، وسلمان وزياد منَ الصقالبة الَّذِينَ رتبهم مروان بْن مُحَمَّد فى الثغور، وسمعت من يذحر أن سلمان هذا رجل من الصقالبة نسب إليه الحصن والله أعلم.
قَالُوا: وأتى أَبُو عُبَيْدة حلب الساجور وقدم عياضا إِلَى منبج ثُمَّ لحقه وقد صالح أهلها عَلَى مثل صلح انطاكية فأنفذ أَبُو عُبَيْدة ذلك وبعث عياض ابن غنم إِلَى ناحية دلوك ورعبان فصالحه أهلها عَلَى مثل صلح منبج واشترط عليهم أن يبحثوا عن أخبار الروم ويكاتبوا بها المسلمين وولى أَبُو عُبَيْدة كل كورة فتحها عاملا وضم إليه جماعة منَ المسلمين وشحن النواحي المخوفة، قَالُوا: ثُمَّ سار أَبُو عُبَيْدة حَتَّى نزل عراجين وقدم مقدمته إِلَى بالس، وبعث جيشا عَلَيْهِ حبيب بْن مسلمة إِلَى قاصرين وكانت بالس وقاصرين لأخوين من أشراف الروم أقطعا القرى الَّتِي بالقرب منهما وجعلا حافظين لما بينهما من مدن الروم بالشام، فلما نزل المسلمون بها صالحهم أهلها عَلَى الجزية والجلاء فجلا أكثرهم إِلَى بلاد الروم وأرض الجزيرة وقرية جسر منبح، ولم يكن الجسر يومئذ إنما اتخذ في خلافة عُثْمَان بْن عَفَّان رضي اللَّه عنه للصوائف، ويقال: بل كان له رسم قديم قَالُوا: ورتب أَبُو عُبَيْدة ببالس جماعة منَ المقاتلة وأسكنها قوما منَ العرب الَّذِينَ كانوا بالشام فأسلموا بعد قدوم المسلمين الشام وقوما لم يكونوا منَ البعوث نزعوا منَ البوادي من قيس وأسكن قاصرين قوما ثُمَّ رفضوها أو أعقابهم وبلع أَبُو عُبَيْدة الفرات ثُمَّ رجع إِلَى فلسطين وكانت بالس والقرى المنسوبة إليها في حدها الأعلى والأوسط والأسفل أعذاء عشرية.
فلما كان مسلمة بْن عَبْد الملك بْن مروان: توجه غازيا للووم من نحو الثعور الجزرية عسكر ببالس فأتاه أهلها وأهله بوبلس وقاصرين وعابدين

(1/151)


وصفين، وهي قرى منسوبة إليها فأتاه أهل الحد الأعلى فسألوه جميعا أن يحفر لهم نهرا منَ الفرات يسقي أرضهم عَلَى أن يجعلوا له الثلث من غلاتهم بعد عشر السلطان الَّذِي كان يأخذه ففعل فحفر النهر المعروف بنهر مسلمة ووفوا له بالشرط ورم سور المدينة وأحكمه.
ويقال: بل كان ابتداء الغرض من مسلمة وأنه دعاهم إِلَى هَذِهِ المعاملة فلما مات مسلمة صارت بالس وقراها لورثته فلم تزل في أيديهم إِلَى أن جاءت الدولة المباركة وقبض عَبْد اللَّهِ بْن عَلي أموال بني أمية فدخلت فيها فأقطعها أمير الْمُؤْمِنِين أَبُو العَبَّاس سُلَيْمَان بْن علي بْن عَبْد اللَّهِ بْن العَبَّاس فصارت لابنه مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان، وكان جَعْفَر بْن سُلَيْمَان أخوه يسعى به إِلَى أمير الْمُؤْمِنِين الرشيد رحمه اللَّه ويكتب إليه فيعلمه أنه لا مال له ولا ضيعة إلا وقد اجتاز أضعاف قيمته وأنفقه فيما يرشح له نفسه وعلى منَ اتخذ منَ الخول وأن أمواله حل طلق لأمير الْمُؤْمِنِين، وكان الرشيد يأمر بالاحتفاظ بكتبه، فلما تُوُفِّيَ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان أخرجت كتبه إِلَى جَعْفَر واحتج عَلَيْهِ بها ولم يكن لمحمد أخ لأبيه وأمه غيره فأقر بها وصارت أمواله للرشيد فأقطع بالس وقراها المأمون رحمه اللَّه فصارت لولده من بعده.
حدثني هِشَام بْن عمار، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن حَمْزَة عن تميم بْن عطية عن عَبْد اللَّهِ بْن قيس الهمداني، قَالَ: قدم عُمَر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه الجابية فأراد قسمة الأرض بَيْنَ المسلمين لأنها فتحت عنوة، فقال معاذ بْن جبل:
والله لأن قسمتها ليكونن ما نكره ويصير الشيء الكثير في أيدي القوم ثُمَّ يبيدون فيبقى ذلك لواحد ثُمَّ يأتي من بعدهم قوم يسدون الإِسْلام مسدا فلا يجدون شيئا فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم فصار إِلَى قول معاذ.
حدثني الْحُسَيْن بْن علي بْن الأسود العجلي، عن يَحْيَى بْن آدم عن مشايخ

(1/152)


منَ الجزريين عن سُلَيْمَان بْن عطاء عن سلمة الجهني عن عمه أن صاحب بصرى ذكر أنه كان صالح المسلمين عَلَى طعام وزيت وخل فسأل عُمَر أن يكتب له بذلك وكذبه أَبُو عُبَيْدة، وقال إنما صالحناه على شيء يتبع به المسلمون لمشتاهم ففرض عليهم الجزية عَلَى الطبقات والخراج عَلَى الأرض.
وحدثني الْحُسَيْن قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الأحدب، قال: أخبرنا عبد الله ابن عُمَر عن نافع عن أسلم مولى عُمَر أن عُمَر كتب إِلَى أمراء الجزية أن لا يضربوها إلا عَلَى من جرت عَلَيْهِ الموسى وجعلها عَلَى أهل الذهب أربعة دنانير وجعل عليهم لأرزاق المسلمين منَ الحنطة لكل رجل مدين ومن الزيت ثلاثة أقساط بالشام والجزيرة مع إضافة من نزل بهم ثلاثًا. وحدثني أَبُو حفص الشامي، عن مُحَمَّد بْن راشد عن مكحول، قَالَ: كل عشري بالشام فهو مما جلا عنه أهله فأقطعه المسلمون فأحيوه وكان مواتا لا حق فيه لأحد فأحيوه بإذن الولاة.
أمر قبرص
قالوا الواقدي وغيره: غزا معاوية بْن أَبِي سُفْيَان في البحر غزوة قبرس الأولى، ولم يركب المسلمون بحر الروم قبلها وكان معاوية استأذن عُمَر في غزو البحر فلم يأذن له، فلما ولى عُثْمَان بْن عَفَّان كتب إليه يستأذنه في غزوة قبرس ويعلمه قربها وسهولة الأمر فيها، فكتب إليه أن قَدْ شهدت مارد عليك عُمَر- رحمه اللَّه- حين استأمرته في غزو البحر. فلما دخلت سنة سبع وعشرين كتب إليه يهون عَلَيْهِ ركوب البحر إِلَى قبرس، فكتب إليه عُثْمَان، فإن ركبت البحر ومعك امرأتك فأركبه مأذونا لك وإلا فلا، فركب البحر من عكا ومعه مراكب كثيرة وحمل امرأته فاختة بنت قرظة بْن عَبْد

(1/153)


عمرو بن نوفل بن عبد مناف ابن قصي وحمل عبادة بْن الصامت امرأته أم حرام بنت ملحان الأنصارية وذلك في سنة ثمان وعشرين بعد انحسار الشتاء ويقال في سنة تسع وعشرين فلما صار المسلمون إِلَى قبرس فأرقوا إِلَى ساحلها- وهي جزيرة في البحر يكون فيما يقال ثمانين فرسخا في مثلها- بعث إليهم أركونها يطلب الصلح وقد أذعن أهلها به فصالحهم عَلَى سبعة آلاف ومائتي دينار يؤدونها في كل عام، وصالحهم الروم عَلَى مثل ذلك فهم يؤدون خراجين واشترطوا أن لا يمنعهم المسلمون أداء الصلح إِلَى الروم واشترط عليهم المسلمون أن لا يقاتلوا عنهم من أرادهم من ورائهم وأن يؤذنوا المسلمين بسير عدوهم منَ الروم، فكان المسلمون إذا ركبوا البحر لم يعرضوا لهم ولم ينصرهم أهل قبرس ولم ينصروا عليهم.
فلما كان سنة اثنتين وثلاثين أعانوا الروم عَلَى الغزاة في البحر بمراكب أعطوهم إياها فغزاهم معاوية سنة ثلاث وثلاثين في خمسمائة مركب ففتح قبرس عنوة فقتل وسبى، ثُمَّ أقرهم عَلَى صلحهم وبعث إليها باثني عشر ألفا كلهم أهل ديوان فبنوا بها المساجد، ونقل إليها جماعة من بعلبك وبنى بها مدينة وأقاموا يعطون الأعطية إِلَى أن تُوُفِّيَ معاوية وولى بعده ابنه يزيد فاقفل ذلك البعث وأمر بهدم المدينة وبعض الرواة يزعم أن غزوة معاوية الثانية قبرس في سنة خمس وثلاثين.
وحدثني مُحَمَّد بْن مصفى الحمصي عَنِ الوليد، قَالَ: بلغنا أن يزيد بْن معاوية رشا مالا عظيما ذا قدر حَتَّى أقفل جند قبرس، فلما قفلوا هدم أهل قبرس مدينتهم ومساجدهم. وحدثني مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الواقدي عن عَبْد السلام بْن موسى عن أبيه، قَالَ: لما غزيت قبرس الغزوة الأولى ركبت أم حرام بنت ملحان مع زوجها عبادة بْن الصامت فلما انتهوا إِلَى قبرس خرجت منَ المركب وقدمت إليها دابة لتركبها فعثرت بها فقتلتها فقبرها بقبرس يدعى قبر المرأة

(1/154)


الصالحة، قالوا: وغزا مع معاوية، أَبُو أيوب خَالِد بْن زيد بْن كليب الأنصاري وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وعبادة بْن الصامت، وفضالة بْن عُبَيْد الأنصاري وعمير بْن سَعْد بْن عُبَيْد الأنصاري، وواثلة بْن الأسقع الكناني وعبد اللَّه بْن بشر المازني، وشداد بْن أوس بْن ثابت، وهو ابْن أخي حسان ابن ثابت، والمقداد، وكعب الحبر بْن ماتع، وجبير بْن نفير الحضرمي.
وحدثني هِشَام بْن عمار الدمشقي، قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بْن مُسْلِم عن صفوان ابن عمرو: أن معاوية بْن أَبِي سُفْيَان غزا قبرس بنفسه ومعه امرأته ففتحها اللَّه فتحا عظيما وغنم المسلمين غنما حسنا، ثُمَّ لم يزل المسلمون يغزونهم حَتَّى صالحهم معاوية في أيامه صلحا دائما عَلَى سبعة آلاف دينار وعلى النصيحة للمسلمين وإنذارهم عدوهم منَ الروم هَذَا أو نحوه. قالوا: وكان الوليد بْن يزيد بْن عَبْد الملك أجلى منهم خلقا إِلَى الشام لأمر اتهمهم به فأنكر الناس ذلك فزدهم يزيد بْن الوليد بْن عَبْد الملك إِلَى بلدهم وكان حميد معيوف الهمداني غزاهم في خلافة الرشيد لحدث أحدثوه فأسر منهم بشرا، ثُمَّ أنهم استقاموا للمسلمين فأمر الرشيد برد من أسر منهم فردوا.
حدثني مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الواقدي في إسناده، قَالَ: لم يزل أهل قبرس عَلَى صلح معاوية حَتَّى ولى عَبْد الملك بْن مروان فزاد عليهم ألف دينار فجرى ذلك إِلَى خلافة عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ فحطها عنهم، ثُمَّ لما ولى هِشَام بْن عَبْد الملك ردها فجرى ذلك إِلَى خلافة أَبِي جَعْفَر المَنْصُور، فقال: نحن أحق من أنصفهم ولم نتكثر بظلمهم فردهم إِلَى صلح معاوية.
وحدثني بعض أهل العلم منَ الشاميين وأبو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سلام، قَالُوا:
أحدث أهل قبرس حدثا في ولاية عَبْد الملك بْن صالح بْن علي بن عبد الله ابن عَبَّاس الثغور فأراد نقض صلحهم والفقهاء متوافرون: فكتب إلى الليث

(1/155)


ابن سَعْد، ومالك بْن أَنَس، وسُفْيَان بْن عيينة، وموسى بْن أعين، وإِسْمَاعِيل بْن عياش، ويحيى بْن حَمْزَة، وأبي إِسْحَاق الفزاري، ومخلد بْن الْحُسَيْن في أمرهم فأجابوه، وكان فيما كتب به الليث بْن سَعْد: أن أهل قبرس قوم لم نزل نتهمهم بغش أهل الإِسْلام ومناصحة أعداء اللَّه الروم، وقد قَالَ اللَّه تعالى «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ» 8: 58 ولم يقل لا تنبذ إليهم حَتَّى تستيقن خيانتهم، وإني أرى أن تنبذ إليهم وينظروا سنة يأتمرون، فمن أحب منهم اللحاق ببلاد المسلمين عَلَى أن يكون ذمة يؤدي الخراج قبلت ذلك منه، ومن أراد أن ينتحى إِلَى بلاد الروم فعل، ومن أراد المقام بقبرس عَلَى الحرب أقام فكانوا عدوا يقاتلون ويغزون، فإن فى إنظار سنة قطعا لحجتهم ووفاء بعهدهم.
وكان فيما كتب به مَالِك بْن أَنَس: إن أمان أهل قبرس كان قديما متظاهرا منَ الولاة لهم، وذلك لأنهم رأوا أن إقرارهم عَلَى حالهم ذل وصغار لهم وقوة للمسلمين عليهم بما يأخذون من جزيتهم ويصيبون به منَ الفرصة في عدوهم، ولم أجد أحدا منَ الولاة نقض صلحهم ولا أخرجنهم عن بلدهم، وأنا أرى: أن لا تعجل بنقض عهدهم ومنابذتهم حَتَّى تتجه الحجة عليهم، فإن اللَّه يقول «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ» 9: 4 فإن هم لم يستقيموا بعد ذلك ويدعوا غشهم ورأيت أن العذر ثابت منهم أوقعت بهم، فكان ذلك بعد الأعذار فرزقت النصر، وكان بهم الذل والخزي إن شاء اللَّه تعالى.
وكتب سُفْيَان بْن عيينة: أنا لا نعلم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاهد قوما فنقضوا العهد إلا استحل قتلهم غير أهل مكة فإنه من عليهم وكان نقضهم أنهم نصروا حلفاءهم عَلَى حلفاء رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خزاعة، وكان فيما أخذ عَلَى أهل نجران أن لا يأكلوا الربا فحكم فيهم عُمَر- رحمه اللَّه- حين أكلوه بإجلائهم فإجماع القوم أنه من نقض عهدا فلا ذمة له.

(1/156)


وكتب موسى بْن أعين: قَدْ كان يكون مثل هَذَا فيما خلا فيعمل الولاة فيه النظر، ولم أر أحدا ممن مضى نقض عهد أهل قبرس ولا غيرها ولعل عامتهم وجماعتهم لم يمالئوا عَلَى ما كان من خاصتهم، وأنا أرى الوفاء لهم والتمام عَلَى شرطهم وإن كان منهم الَّذِي كان، وقد سمعت الأوزاعي يقول في قوم صالحوا المسلمين ثم أخبروا المشركين بعورتهم ودلوهم عليها: إنهم إن كانوا ذمة فقد نقضوا عهدهم وخرجوا من ذمتهم، فإن شاء الوالي قتل وصلب، وإن كانوا صلحا لم يدخلوا في ذمة المسلمين نبذ إليهم الوالي عَلَى سواء (أَنَّ اللَّه لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) 12: 52.
وكتب إِسْمَاعِيل بْن عياش: أهل قبرس أذلاء مقهورون يغلبهم الروم عَلَى أنفسهم ونسائهم فقد يحق علينا أن نمنعهم ونحميهم.
وقد كتب حبيب بْن مسلمة لأهل تفليس في عهده أنه إن عرض للمسلمين شغل عنكم وقهركم عدوكم فإن ذلك غير ناقض عهدكم بعد أن تفوا للمسلمين وأنا أرى أن يقروا عَلَى عهدهم وذمتهم، فإن الوليد بْن يزيد قَدْ كان أجلاهم إِلَى الشام فاستقطع ذلك المسلمون واستعظمه الفقهاء، فلما ولى يزيد بْن الوليد بْن عَبْد الملك ردهم إِلَى قبرس فاستحسن المسلمون ذلك من فعله ورأوه عدلا.
وكتب يَحْيَى بْن حَمْزَة: إن أمر قبرس كأمر عربسوس فإن فيها قدوة حسنة وسنة متبعة وكان من أمرها أن عمير بْن سَعْد قَالَ لعمر بْن الخطاب وقدم عَلَيْهِ: إن بيننا وبين الروم مدينة يقال لها عربسوس، وأنهم يخبرون عدونا بعوراتنا ولا يظهرونا عَلَى عورات عدونا، فقال عُمَر: فإذا قدمت فخيرهم أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين، ومكان كل بقرة بقرتين، ومكان كل شيء شيئين فإذا رضوا بذلك فأعطهم إياه وأجلهم وأخربها فإن أبوا فانبذ إليهم وأجلهم سنة ثُمَّ أخربها، فانتهى عمير إِلَى ذلك فأبوا فأجلهم سنة ثُمَّ أخربها، وكان لهم

(1/157)


عهد كعهد أهل قبرس وترك أهل قبرس عَلَى صلحهم والاستعانة بما يؤدون عَلَى أمور المسلمين أفضل، وكل أهل عهد لا يقاتل المسلمون من ورائهم ويجرون عليهم أحكامهم في دارهم فليسوا بذمة ولكنهم أهل فدية يكف عنهم ما كفوا ويوفي لهم بعهدهم ما وفوا ورضوا ويقبل عفوهم ما أدوا.
وقد روى عن معاذ بْن جبل: أنه كره أن يصالح أحد منَ العدو عَلَى شيء معلوم إلا أن يكون المسلمون مضطرين إِلَى صلحهم لأنه لا يدري لعل صلحهم نفع وعز للمسلمين.
وكتب أَبُو إِسْحَاق الفزاري، ومخلد بْن الْحُسَيْن: إنا لم نر شيئا أشبه بأمر قبرس من أمر عربسوس وما حكم به فيها عُمَر بْن الخطاب فإنه عرض عليهم ضعف ما لهم عَلَى أن يخرجوا منها أو نظرة سنة بعد نبذ عهدهم إليهم فأبوا الأولى فأنظروا ثُمَّ أخربت، وقد كان الأوزاعي يحدث: أن قبرس فتحت فتركوا عَلَى حالهم وصولحوا عَلَى أربعة عشر ألف دينار، سبعة آلاف للمسلمين، وسبعة آلاف للروم عَلَى أن لا يكتموا الروم أمر المسلمين، وكان يقول: ما وفى لنا أهل قبرس قط وإنا لنرى أنهم أهل عهد وأن صلحهم وقع عَلَى شيء فيه شرط لهم وشرط عليهم ولا يستقيم نقضه إلا بأمر يعرف فيه غدرهم ونكثهم.
أمر السامرة
حدثني هِشَام بْن عمار عَنِ الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو: أن أَبَا عُبَيْدة بْن الجراح صالح السامرة بالأردن وفلسطين، وكانوا عيونا وأدلاء للمسلمين على جزية رؤوسهم وأطعمهم أرضهم فلما كان يزيد بْن معاوية وضع الخراج عَلَى أرضهم.

(1/158)


وأخبرني قوم من أهل المعرفة بأمر جندي الأردن وفلسطين: أن يزيد ابن معاوية وضع الخراج عَلَى أراضي السامرة بالأردن وجعل عَلَى رأس كل امرئ منهم دينارين ووضع الخراج أيضا عَلَى أرضهم بفلسطين وجعل عَلَى رأس كل امرئ منهم خمسة دنانير. والسامرة يهود وهم صنفان يقال لهم:
الدستان وصنف يقال لهم: الكوشان.
قَالُوا: وكان بفلسطين في أول خلافة أمير الْمُؤْمِنِين الرشيد- رحمه اللَّه- طاعون جارف ربما أتى عَلَى جميع أهل البيت فخربت أرضهم وتعطلت فوكل السلطان بها من عمرها وتألف الأكرة والمزارعين إليها فصارت ضياعا للخلافة وبها السامرة فلما كانت سنة ست وأربعين ومائتين رفع أهل قرية من تلك الضياع تدعى بيت ماما من كورة نابلس وهم سامرة يشكون ضعفهم وعجزهم عن أداء الخراج عَلَى خمسة دنانير فأمر المتوكل عَلَى اللَّه بردهم إِلَى ثلاثة دنانير ثلاثة دنانير.
حدثني هِشَام بْن عمار، قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بْن مُسْلِم عن صفوان بْن عَمْرو وسعيد بْن عَبْد الْعَزِيزِ: أن الروم صالحت معاوية عَلَى أن يؤدي إليهم مالا وارتهن معاوية منهم رهناء فوضعهم ببعلبك، ثُمَّ أن الروم غدرت فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهنهم وخلوا سبيلهم، وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر، قَالَ هِشَام: وهو قول العلماء الأوزاعي وغيره.
أمر الجراجمة
حدثني مشايخ من أهل انطاكية: أن الجراجمة من مدينة عَلَى جبل اللكام عند معدن الزاج فيما بَيْنَ بياس وبوقا، يقال لها الجرجومة وأن أمرهم كان في أيام استيلاء الروم عَلَى الشام وأنطاكية إِلَى بطريق انطاكية

(1/159)


وواليها، فلما قدم أَبُو عُبَيْدة انطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم إذ خافوا عَلَى أنفسهم، فلم ينتبه المسلمون لهم ولم ينبههم عليهم، ثم أن أهل انطاكية نقصوا وغدروا فوجه إليهم أَبُو عُبَيْدة من فتحها ثانية وولاها بعد فتحها حبيب بْن مسلمة الفهري فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح فصالحوه عَلَى أن يكونوا أعوانا للمسلمين، وعيونا ومسالح في جبل اللكام وأن لا يؤخذوا بالجزية وأن ينفلوا أسلاب من يقتلون من عدو المسلمين إذا حضروا معهم حربا في مغازيهم ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع منَ الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هَذَا الصلح فسموا الرواديف لأنهم تلوهم وليسوا منهم، ويقال: أنهم جاءوا إِلَى عسكر المسلمين وهم أرداف لهم فسموا رواديف فكان الجراجمة يستقيمون للولاة مرة ويعرجون أخرى فيكاتبون الروم ويمالئونهم، فلما كانت أيام ابْن الزبير وموت مروان بْن الحكم وطلب عَبْد الملك الخلافة بعده لتوليته إياه عهده واستعداده للشخوص إِلَى العراق لمحاربة المصعب ابن الزبير خرجت خيل للروم إِلَى جبل اللكام، وعليها قائد من قوادهم ثُمَّ صارت إِلَى لبنان وقد ضوت إليها جماعة كثيرة منَ الجراجمة وأنباط وعُبَيْد أباق من عُبَيْد المسلمين فاضطر عَبْد الملك إِلَى أن صالحهم عَلَى ألف دينار في كل جمعة، وصالح طاغية الروم عَلَى مال يؤديه إليه لشغله عن محاربته وتخوفه أن يخرج إِلَى الشام فيغلب عَلَيْهِ، واقتدى في صلحه بمعاوية حين شغل بحرب أهل العراق فإنه صالحهم عَلَى أن يؤدى إليهم مالا وارتهن منهم رهناء [1] وضعهم ببعلبك ووافق ذلك أيضا طلب عَمْرو بْن سعيد بن العاصي الخلافة وإغلاقه أبواب دمشق حين خرج عَبْد الملك عنها فازداد شغلا وذلك في سنة سبعين [1] ثُمَّ أن عَبْد الملك وجه إِلَى الرومي سحيم بن المهاجر
__________
[1] من المعروف تاريخيا أن المنتصر فى الحروب قد يأخذ الرهائن ليأمن جانب المنكسر خشية أن ينقلب

(1/160)


فتلطف حَتَّى دخل عَلَيْهِ متنكرا فأظهر الممالأة له وتقرب إليه بذم عَبْد الملك وشتمه وتوهين أمره حَتَّى أمنه واغتر به ثُمَّ أنه انكفى عَلَيْهِ بقوم من موالى عَبْد الملك وجنده كان أعدهم لمواقعته ورتبهم بمكان عرفه فقتله ومن كان معه منَ الروم ونادى في سائر من ضوى إليه بالأمان فتفرق الجراجمة بقرى حمص ودمشق ورجع أكثرهم إِلَى مدينتهم باللكام وأتى الأنباط قراهم فرجع العُبَيْد إِلَى مواليهم، وكان ميمون الجرجماني عبدا روميا لبنى أم الحكم أخت معاوية بْن أَبِي سُفْيَان وهم ثقفيون، وإنما نسب إِلَى الجراجمة لاختلاطه بهم وخروجه بجبل لبنان معهم فبلغ عَبْد الملك عنه بأس وشجاعة فسأل مواليه أن يعتقوه ففعلوا وقوره عَلَى جماعة منَ الجند وصيره بانطاكية فغزا مع مسلمة بْن عَبْد الملك الطوانة وهو عَلَى ألف من أهل انطاكية فاستشهد بعد بلاء حسن وموقف مشهود فغم عَبْد الملك مصابه وأغزى الروم جيشا عظيما طلبا بثأرة.
قَالُوا: ولما كانت سنة تسع وثمانين اجتمع الجراجمة إِلَى مدينتهم وأتاهم قوم منَ الروم من قبل الاسكندرونة وروسس، فوجه الوليد بْن عَبْد الملك إليهم مسلمة بْن عَبْد الملك فأناخ عليهم في خلق منَ الخلق فافتتحها عَلَى أن ينزلوا بحيث أحبوا منَ الشام ويجري عَلَى كل امرئ منهم ثمانية دنانير وعلى عيلاتهم القوت منَ القمح والزيت وهو مدان من قمح وقسطان من زيت، وعلى أن لا يكرهوا ولا أحد من أولادهم ونسائهم عَلَى ترك النصرانية، وعلى أن يلبسوا لباس المسلمين ولا يؤخذ منهم ولا من أولادهم ونسائهم جزية وعلى أن يغزوا مع المسلمين فينفلوا أسلاب من يقتلونه مبارزة وعلى أن يؤخذ من تجاراتهم وأموال موسريهم ما يؤخذ من أموال
__________
[ () ] عليه، وينقض تعهداته له. وهكذا فعل عبد الملك مقتديا بمعاوية بن أبي سفيان عند ما صالح أهل العراق.

(1/161)


المسلمين فأخرب مدينتهم وأنزلهم فأسكنهم جبل الحوار وسنح اللولون وعمق تيزين وصار بعضهم إِلَى حمص ونزل بطريق الجرجومة في جماعة معه انطاكية ثُمَّ هرب إلى بلاد الروم، وقد كان بعض العمال ألزم الجراجمة بأنطاكية جزية رؤسهم فرفعوا ذلك إِلَى الواثق بالله رحمه اللَّه وهو خليفة فأمر بإسقاطها عنهم.
وحدثني بعض من أثق به منَ الكتاب: أن المتوكل عَلَى اللَّه رحمه اللَّه أمر بأخذ الجزية من هؤلاء الجراجمة وأن يجرى عليهم الأرزاق إذ كانوا ممن يستعان به في المسالح وغير ذلك، وزعم أَبُو الخطاب الأزدي: أن أهل الجرجومة كانوا يغيرون في أيام عَبْد الملك عَلَى قرى انطاكية والعمق وإذا غزت الصوائف قطعوا عَلَى المتخلف واللاحق ومن قدروا عَلَيْهِ ممن في أواخر العسكر وغالوا في المسلمين فأمر عَبْد الملك ففرض لقوم من أهل أنطاكية وأنباطها وجعلوا مسالح وأردفت بهم عساكر الصوائف ليؤذنوا الجراجمة عن أواخرها فسموا الرواديف، وأجرى عَلَى كل امرء منهم ثمانية دنانير:
والخبر الأول أثبت.
وحدثني أَبُو حفص الشامي عن مُحَمَّد بْن راشد عن مكحول، قَالَ: نقل معاوية في سنة تسع وأربعين أو سنة خمسين إِلَى السواحل قوما من زط البصرة والسباتجة وأنزل بعضهم انطاكية، قال أبو حفص فبانطاكية محلة تعرف بالزط وببوقا من عمل انطاكية قوم من أولادهم يعرفون بالزط.
وقد كان الوليد بْن عَبْد الملك نقل إِلَى أنطاكية قوما منَ الزط السند ممن حمله مُحَمَّد بْن الْقَاسِم إِلَى الحجاج فبعث بهم الحجاج إِلَى الشام.
وحدثني مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الواقدي، قَالَ: خرج بجبل لبنان قوم شكوا عامل خراج بعلبك، فوجه صالح بْن عَلي بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس من قتل

(1/162)


مقاتلتهم وأقر من بقي منهم عَلَى دينهم وردهم إِلَى قراهم وأجلى قوما من أهل لبنان. فَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ كَثِيرٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ الأَوْزَاعِيَّ:
كَتَبَ إِلَى صَالِحٍ رِسَالَةً طَوِيلَةً حَفِظَ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَجِلاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مُمَالِئًا لِمَنْ خَرَجَ عَلَى خُرُوجِهِ مِمَّنْ قَتَلْتُ بَعِضَهُمْ وَرَدَدْتُ بَاقِيهِمْ إِلَى قُرَاهُمْ مَا قَدْ عَلِمْتُ فَكَيْفَ تُؤْخَذُ عَامَّةٌ بِذُنُوبِ خَاصَّةٍ حَتَّى يُخْرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وحكم الله تعالى (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) 53: 38 وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به، وأحق الوصايا أَنْ تُحْفَظَ وَتُرْعَى وَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَالَ: «مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا وَكَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ فَأَنَا حَجِيجُهُ» ثُمَّ ذَكَرَ كَلامًا.
حدثني مُحَمَّد بْن سهم الأنطاكي، قَالَ: حدثني معاوية بْن عَمْرو عن أَبِي إِسْحَاق الفزاري، قَالَ: كانت بنو أمية تغزو الروم بأهل الشام والجزيرة صائفة وشاتية مما يلي ثغور الشام والجزيرة وتنيم للراكب الغزو وترتب الحفظة في السواحل ويكون الإغفال والتفريط خلال الحزر والتيقظ فلما ولى أَبُو جَعْفَر المَنْصُور تتبع حصون السواحل ومدنها فعمرها وحصنها وبنى ما احتاج إِلَى البناء منها وفعل مثل ذلك بمدن الثغور، ثُمَّ لما استخلف المهدي استتم ما كان بقي منَ المدن والحصون وزاد في شحنها، قال معاوية ابن عَمْرو: وقد رأينا منَ اجتهاد أمير الْمُؤْمِنِين هارون فى الغزو نفاذ بصيرته في الجهاد أمرًا عظيما أقام منَ الصناعة ما لم يقم قبله وقسم الأموال في الثغور والسواحل وأشجى الروم وقمعهم وأمر المتوكل عَلَى اللَّه بترتيب المراكب في جميع السواحل وأن تشحن بالمقاتلة وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين
.

(1/163)


فتح الثغور الشامية
حدثني مشايخ من أهل انطاكية وغيرهم، قَالُوا: ثغور المسلمين الشامية أيام عُمَر وعُثْمَان رضي اللَّه عنهما وما بعد ذلك أنطاكية وغيرها منَ المدن الَّتِي سماها الرشيد عواصم، فكان المسلمون يغزون ما وراءها كغزوم اليوم ما وراء طرسوس، وكان فيما بَيْنَ الاسكندرونة وطرسوس حصون ومسالح للروم كالحصون والمسالح الَّتِي يمر بها المسلمون اليوم فربما أخلاها أهلها وهربوا إِلَى بلاد الروم خوفا وربما نقل إليها من مقاتلة الروم من تشحن به، وقد قيل: إن هرقل أدخل أهل هَذِهِ المدن معه عند انتقاله منَ انطاكية لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بَيْنَ أنطاكية وبلاد الروم والله أعلم:
وحدثني ابْن طسون [1] البغراسي عن أشياخهم أنهم قَالُوا: الأمر المتعالم عندنا أن هرقل نقل أهل هَذِهِ الحصون معه وشعثها فكان المسلمون إذا غزوا لم يجدوا بها أحدا وربما كمن عندها القوم منَ الروم فأصابوا غرة المتخلفين عَنِ العسكر والمنقطعين عنها، فكان ولاة الشواتي والصوائف إذا دخلوا بلاد الروم خلفوا بها جندا كثيفا إِلَى خروجهم [1] .
وقد اختلفوا في أول من قطع الدرب وهو درب بغراس، فقال بعضهم:
قطعة ميسرة بْن مسروق العبسي وجهه أَبُو عُبَيْدة بْن الجراح فلقي جمعا للروم ومعهم مستعربة من غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بهرقل فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثُمَّ لحق به مَالِك الأشتر النخعي مددا من قبل أَبِي عُبَيْدة وهو بانطاكية، وقال بعضهم: أول من قطع الدرب عُمَر بْن سَعْد الأنصاري حين توجه في أمر جبلة بْن الأيهم وقال أَبُو الخطاب الأزدي: بلغني أن أبا
__________
[1] أي ليمثلونهم أثناء غيابهم، ويحافظوا على السلطة، والأمن في البلاد.

(1/164)


عُبَيْدة نفسه غزا الصائفة فمر بالمصيصة وطرسوس وقد جلا أهلها وأهل الحصون الَّتِي تليها فأدرب فبلغ في غزاته زندة، وقال غيره: إنما وجه ميسرة بْن مسروق فبلغ زندة.
حدثني أَبُو صالح الفراء عن رجل من أهل دمشق يقال له عَبْد اللَّهِ بْن الوليد بن هِشَام بْن الغاز عن عبادة بْن نسى فيما يحسب أَبُو صالح، قَالَ: لما غزا معاوية غزوة عمورية في سنة خمس وعشرين وجد الحصون فيما بَيْنَ أنطاكية وطرسوس خالية فوقف عندها جماعة من أهل الشام والجزيرة وقنسرين حَتَّى انصرف من غزاته، ثُمَّ أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد ابن الحر العبسي الصائفة وأمره ففعل مثل ذلك، وكانت الولاة تفعله، وقال هَذَا الرجل: ووجدت في كتاب مغازي معاوية أنه غزا سنة إحدى وثلاثين من ناحية المصيصة فبلغ درولية فلما خرج جعل لا يمر بحصن فيما بينه وبين أنطاكية إلا هدمه.
وحدثني مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الواقدي وغيره، قَالَ، لما كانت سنة أربع وثمانين غزا عَلَى الصائفة عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الملك بْن مروان فدخل من درب انطاكية وأنى المصيصة فبنى حصنها عَلَى أساسه القديم ووضع بها سكانا من الجند فيهم ثلاثمائة رجل انتخبهم من ذوي البأس والنجدة المعروفين ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك وبنى فيها مسجدا فوق تل الحصن ثُمَّ سار في جيشه حَتَّى غزا حصن سنان ففتحه ووجه يزيد بْن حنين الطائي الأنطاكي فأغار ثُمَّ انصرف إليه، وقال أَبُو الخطاب الأزدي: كان أول منَ ابتنى حصن المصيصة في الإسلام عَبْد الملك بْن مروان عَلَى يد ابنه عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الملك في سنة أربع وثمانين عَلَى أساسها القديم فتم بناؤها وشحنها في سنة خمس وثمانين وكانت في الحصن كنيسة جعلت هريا وكانت الطوالع منَ انطاكية تطلع عليها في كل عام فتشتو بها ثُمَّ تنصرف وعدة من كان يطلع إليها ألف وخمسمائة إلى الألفين،

(1/165)


قال: وشخص عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ حَتَّى نزل هرى المصيصة وأراد هدمها وهدم الحصون بينها وبين أنطاكية، وقال: أكره أن يحاصر الروم أهلها فاعلمه الناس أنها إنما عمرت ليدفع من بها منَ الروم عَنِ انطاكية وأنه إن أخربها لم يكن للعدو ناحية دون انطاكية فأمسك وبنى لأهلها مسجدا جامعا من ناحية كفربيا واتخذ فيه صهريجا وكان اسمه عَلَيْهِ مكتوبا، ثُمَّ إن المسجد خرب في خلافة المعتصم بالله وهو يدعى مَسْجِد الحصن، قال: ثُمَّ بنى هِشَام بْن عَبْد الملك الربض ثُمَّ بنى مروان بْن مُحَمَّد الخصوص في شرقي جيحان وبنى عليها حائطا وأقام عَلَيْهِ باب خشب وخندق خندقا فلما استخلف أَبُو العَبَّاس فرض بالمصيصة لأربعمائة رجل زيادة في شحنتها وأقطعهم، ثُمَّ لما استخلف المَنْصُور فرض بالمصيصة لأربعمائة رجل ثُمَّ لما دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة أمر بعمران مدينة المصيصة، وكان حائطها متشعثا منَ الزلازل وأهلها قليل في داخل المدينة فبنى سور المدينة وأسكنها أهلها سنة أربعين ومائة وسماها المعمورة وبنى فيها مسجدا جامعا في موضع هيكل كان بها وجعله مثل مَسْجِد عُمَر مرات، ثُمَّ زاد فيه المأمون أيام ولاية عَبْد اللَّهِ بْن طَاهِر بْن الْحُسَيْن المغرب وفرض المَنْصُور فيها لألف رجل، ثُمَّ نقل أهل الخصوص وهم فرس وصقالبة وأنباط نصارى، وكان مروان أسكنهم إياها وأعطاهم خططا في المدينة عوضا عن منازلهم عَلَى ذرعها ونقض منازلهم وأعانهم عَلَى البناء وأقطع الفرض قطائع ومساكن، ولما استخلف المهدي فرض بالمصيصة لألفي رجل ولم يقطعهم لأنها قَدْ كانت شحنت منَ الجند والمطوعة، ولم تزل الطوالع تأتيها منَ انطاكية في كل عام حَتَّى وليها سالم البرلسى وفرض موضعه لخمسمائة مقاتل عَلَى خاصة عشرة دنانير عشرة دنانير فكثر من بها وقووا وذلك في خلافة المهدي.
وحدثني مُحَمَّد بْن سهم عن مشايخ الثغر، قَالُوا: ألحت الروم على أهل

(1/166)


المصيصة في أول أيام الدولة المباركة حَتَّى جلوا عنها فوجه صالح بْن علي جبريل بْن يَحْيَى البجلي إليها فعمرها وأسكنها الناس في سنة أربعين ومائة وبنى الرشيد كفربيا ويقال بل كانت ابتدئت في خلافة المهدي ثُمَّ غير الرشيد بناءها وحصنها بخندق ثُمَّ رفع إِلَى المأمون في أمر غلة كانت عَلَى منازلها فأبطلها وكانت منازلها كالخانات وأمر فجعل لها سور فرفع فلم يستتم حَتَّى تُوُفِّيَ فأمر المعتصم بالله بإتمامه وتشريفه، قَالُوا: وكان الَّذِي حصن المثقب هِشَام بْن عَبْد الملك عَلَى يد حسان بْن ماهويه الأنطاكي، ووجد في خندقه حين حضر ساق مفرط الطول فبعث به إِلَى هِشَام، وبنى هِشَام حصن قطر غاش عَلَى يدي عَبْد الْعَزِيزِ بْن حيان الأنطاكي، وبنى هِشَام حصن مورة عَلَى يدي رجل من أهل انطاكية وكان سبب بنائه إياه أن الروم عرضوا لرسول له في درب اللكام عند العقبة البيضاء ورتب فيه أربعين رجلا وجماعة منَ الجراجمة وأقام ببغراس مسلحة فى خمسين رجلا وابنتى لها حصنا وبنى هشام حصن يوقا من عمل انطاكية ثم جدد وأصلح حديثا، وبنى مُحَمَّد بْن يوسف المروزي المعروف بأبي سَعِيد حصنا بساحل أنطاكية بعد غارة الروم عَلَى ساحلها في خلافة المعتصم بالله رحمه اللَّه.
حدثني داود بْن عَبْد الحميد قاضي الرقة عن أبيه عن جده أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أراد هدم المصيصة ونقل أهلها عنها لما كانوا يلقون منَ الروم فتُوُفِّيَ قبل ذلك.
وحدثني بعض أهل انطاكية وبغراس: أن مسلمة بْن عَبْد الملك لما غزا عمورية حمل معه نساءه وحمل ناس ممن معه نساءهم وكانت بنو أمية تفعل ذلك ارادة الجد في القتال للغيرة عَلَى الحرم فلما صار في عقبة بغراس عند الطريق المستدقة الَّتِي تشرف عَلَى الوادي سقط محمل فيه امرأة إلى الحضيض

(1/167)


فأمر مسلمة أن تمشي سائر النساء فمشين فسميت تلك العقبة عقبة النساء، وقد كان المعتصم بالله رحمه اللَّه بنى عَلَى حد تلك الطريق حائطا قصيرا من حجارة وقال أَبُو النعمان الأنطاكي: كان الطريق فيما بَيْنَ انطاكية والمصيصة مسبعة يعترض للناس فيها الأسد، فلما كان الوليد بن عبد الملك شكا ذلك إليه فوجه أربعة آلاف جاموسة وجاموس فنفع اللَّه بها، وكان مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الثقفي عامل الحجاج عَلَى السند بعث منها بألوف جواميس فبعث الحجاج إِلَى الوليد منها بما بعث منَ الأربعة آلاف وألقى باقيها في آجام كسكر، ولما خلع يزيد بْن المهلب فقتل وقبض يزيد بْن عَبْد الملك أموال بني المهلب أصاب لهم أربعة آلاف جاموسة كانت بكور دجلة وكسكر فوجه بها يزيد بْن عَبْد الملك إِلَى المصيصة أيضا مع زطها فكان أصل الجواميس بالمصيصة ثمانية آلاف جاموسة وكان أهل انطاكية وقنسرين قَدْ غلبوا عَلَى كثير منها واختاروه لأنفسهم في أيام فتنة مروان بْن مُحَمَّد بْن مروان، فلما استخلف المَنْصُور أمر بردها إِلَى المصيصة وأما جواميس انطاكية فكان أصلها ما قدم به الزط، معهم وكذلك جواميس بوقا، وقال أَبُو الخطاب بني الجسر الَّذِي عَلَى طريق أذنة منَ المصيصة وهو عَلَى تسعة أميال منَ المصيصة سنة خمس وعشرين ومائة ويدعى جسر الوليد وهو الوليد بْن يزيد بْن عَبْد الملك المقتول، وقال أَبُو النعمان الأنطاكي وغيره: بنيت أذنة في سنة إحدى وأربعين ومائة أو اثنتين وأربعين ومائة والجنود من أهل خراسان معسكرون عليها مع مسلمة بْن يحيى البجلي ومن أهل الشام بن مَالِك بْن أدهم الباهلي ووجههما صالح بْن علي.
قَالُوا: ولما كانت سنة خمس وستين ومائة أغزى المهدي ابنه هارون الرشيد بلاد الروم فنزل عَلَى الخليج ثُمَّ خرج فرم المصيصة ومسجدها وزاد في شحنتها وقوى أهلها وبنى القصر الَّذِي عند جسر أذنة عَلَى سيحان، وقد كان

(1/168)


المَنْصُور أغزى صالح بْن علي بلاد الروم فوجه هلال بْن ضيغم في جماعة من أهل دمشق والأردن وغيرهم فبنى ذلك القصر ولم يكن بناؤه محكما فهدمه الرشيد وبناه ثُمَّ لما كانت سنة أربع وتسعين ومائة بنى أَبُو سليم فرج الخادم أذنة فأحكم بناءها وحصنها وندب إليها رجالا من أهل خراسان وغيرهم عَلَى زيادة في العطاء وذلك بأمر مُحَمَّد بْن الرشيد فرم قصر سيحان وكان الرشيد تُوُفِّيَ سنة ثلاث وتسعين ومائة وعامله عَلَى أعشار الثغور أَبُو سليم فأقره مُحَمَّد وأبو سليم هَذَا هُوَ صاحب الدار بأنطاكية.
وحدثني مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الواقدي، قَالَ: غزا الْحَسَن بْن قحطبة الطائي بلاد الروم سنة اثنتين وستين ومائة في أهل خراسان وأهل الموصل والشام وأمداد اليمن ومطوعة العراق والحجاز خرج مما يلي طرسوس فأخبر المهدي بما في بنائها وتحصينها وشحنتها بالمقاتلة من عظيم الغناء عن الإسلام والكبت العدو والوقم له فيما يحاول ويكيد. وكان الْحَسَن قَدْ أبلى في تلك الغزاة بلاء حسنا ودوخ أرض الروم حتى سموه الشيتن، وكان معه في غزاته مندل العنزي المحدث الكوفي ومعتمر بْن سُلَيْمَان البصري.
وحدثني مُحَمَّد بْن سَعْد، قَالَ: حدثني سَعْد بْن الْحَسَن، قَالَ لما خرج الْحَسَن من بلاد الروم نزل مرج طرسوس فركب إِلَى مدينتها وهي خراب فنظر إليها وأطاف بها من جميع جهاتها وحزر عدة من يسكنها فوجدهم مائة ألف فلما قدم عَلَى المهدي وصف له أمرها وما في بنائها وشحنتها من غيظ العدو وكبته وعز الإِسْلام وأهله وأخبره في الحدث أيضا بخبر رغبه في بناء مدينتها فأمره ببناء طرسوس وأن يبدأ بمدينة الحدث فبنيت وأوصى المهدي ببناء طرسوس.
فلما كانت سنة إحدى وسبعين ومائة بلغ الرشيد أن الروم ائتمروا

(1/169)


بينهم بالخروج إِلَى طرسوس لتحصينها وترتيب المقاتلة فيها فأغزى الصائفة في سنة إحدى وسبعين ومائة هرثمة بْن أعين وأمره بعمارة طرسوس وبنائها وتمصيرها ففعل وأجرى أمرها عَلَى يد فرج بْن سليم الخادم بأمر الرشيد فوكل فرج ببنائها وتوجه أَبُو سليم إِلَى مدينة السلام فاشخص الندبة الأولى من أهل خراسان وهم ثلاثة آلاف رجل فوردوا طرسوس ثُمَّ أشخص الندبة الثانية وهم ألفا رجل ألف من أهل المصيصة وألف من أهل انطاكية عَلَى زيادة عشرة دنانير عشرة دنانير لكل رجل في أصل عطائه فعسكروا مع الندبة الأولى بالمدائن عَلَى باب الجهاد في مستهل المحرم سنة اثنتين وسبعين ومائة إِلَى أن استتم بناء طرسوس وتحصينها وبناء مسجدها ومسح فرج ما بَيْنَ النهر إِلَى النهر فبلغ ذلك أربعة آلاف خطة كل خطة عشرون ذراعا في مثلها وأقطع أهل طرسوس الخطط وسكنتها الندبتان في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين ومائة.
قَالُوا: وكان عَبْد الملك بْن صالح قَدِ استعمل يزيد بْن مخلد الفزاري عَلَى طرسوس فطرده بها من أهل خراسان واستوحشوا منه للهبيرية فاستخلف أبا الفوارس فأقره عَبْد الملك بْن صالح وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائة.
قَالَ مُحَمَّد بْن سَعْد حدثني الواقدي، قَالَ: جلا أهل سيسية ولحقوا بأعلى الروم في سنة أربع وتسعين ومائة أو ثلاث وتسعين ومائة وسيسية مدينة تل عين زربة وقد عمرت في خلافة المتوكل عَلَى اللَّه عَلَى يدي عَلي بْن يَحْيَى الأرمني ثُمَّ أخربتها الروم. قَالُوا: فكان الَّذِي أحرق انطاكية المحترقة ببلاد الروم عَبَّاس بْن الوليد بْن عَبْد الملك.
قَالُوا: وتل جبير نسبت إِلَى رجل من فرس انطاكية كانت له عنده وقعة وهو من طرسوس عَلَى أقل من عشرة أميال، قَالُوا: والحصن المعروف بذي الكلاع إنما هُوَ الحصن ذو القلاع لأنه عَلَى ثلاث قلاع فحرف اسمه

(1/170)


وتفسير اسمه بالرومية الحصن الَّذِي مع الكواكب، وقالوا: سميت كنيسة الصلح لأن الروم لما حملوا صلحهم إِلَى الرشيد نزلوها، ونسب مرج حسين إِلَى حسين بْن مُسْلِم الأنطاكي، وذلك أنه كانت له به وقعة ونكاية في العدو قَالُوا. وأغزى المهدي ابنه هارون الرشيد في سنة ثلاث وستين ومائة فحاصر أهل ضمالو وهي الَّتِي تدعوها العامة سمالو فسألوا الأمان لعشرة أهل أبيات فيهم القومس فأجابهم إِلَى ذلك، وكان في شرطهم أن لا يفوق بينهم فأنزلوا ببغداد عَلَى باب الشماسية فسموا موضعهم سمالو فهو معروف، ويقال بل نزلوا عَلَى حكم المهدي فاستحياهم وجمعهم بذلك الموضع وأمر أن يسمى سمالو وأمر الرشيد فنودي عَلَى من بقي في الحصن فبيعوا وأخذ حبشي كان يشتم الرشيد والمسلمين فصلب عَلَى برج من أبراجه.
وحدثني أَحْمَد بْن الحارث الواسطي عن مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الواقدي، قَالَ: لما كانت سنة ثمانين ومائة أمر الرشيد بابتناء مدينة عين زربة وتحصينها وندب إليها ندبة من أهل خراسان وغيرهم فأقطعهم بها المنازل ثُمَّ لما كانت سنة ثلاث وثمانين ومائة أمر ببناء الهارونية فبنيت وشحنت أيضا بالمقاتلة ومن نزح إليها منَ المطوعة ونسبت إليه، ويقال أنه بناها في خلافة المهدى ثم أنمت في خلافته، قَالُوا: وكانت الكنيسة السوداء من حجارة سود بناها الروم عَلَى وجه الدهر، ولها حصن قديم أخرب فيما أخرب فأمر الرشيد ببناء مدينة الكنيسة السوداء وتحصينها وندب إليها المقاتلة في زيادة العطاء.
وأخبرني بعض أهل الثغر عزون بْن سَعْد: أن الروم أغارت عليها والْقَاسِم بْن الرشيد مقيم بدابق فاستاقوا مواشي أهلها وأسروا عدة منهم فنفر إليهم أهل المصيصة ومطوعتها فاستنقذوا جميع ما صار إليهم وقتلوا منهم بشرا ورجع الباقون منكوبين مفلولين، فوجه القاسم من حصن المدينة

(1/171)


وزمها وزاد في شحنتها، وقد كان المعتصم بالله نقل إِلَى عين زربة ونواحيها بشرا منَ الزط الَّذِينَ قَدْ كانوا غلبوا عَلَى البطائح بَيْنَ واسط والبصرة فانتفع أهلها بهم.
حدثني أَبُو صالح الأنطاكي، قَالَ: كان أَبُو إِسْحَاق الفزاري يكره شراء أرض بالثغر، ويقول غلب عَلَيْهِ قوم في بدء الأمر وأجلوا الروم عنه فلم يقسموه وصار إِلَى غيرهم وقد دخلت في هَذَا الأمر شبهة العاقل حقيق بتركها.
وكانت بالثغارات قَدْ تحيفت ما يرتفع من أعشاره حَتَّى قصرت عن نفقائه فأمر المتوكل في سنة ثلاث وأربعين ومائتين بإبطال تلك الإيغارات فأبطلت.
فتوح الجزيرة
حدثني داود بْن عَبْد الحميد قاضي الرقة عن أبيه عن جده عن ميمون ابن مهران، قال: الجزيرة كلها فتوح عياص بْن غنم بعد وفاة أَبِي عُبَيْدة ولاه إياها عُمَر بْن الخطاب وكان أَبُو عُبَيْدة استخلفه على الشام فولى عمر ابن الخطاب يزيد بْن أَبِي سُفْيَان ثُمَّ معاوية من بعده الشام وأمر عياضا بغزو الجزيرة وحدثني الحسين بن الأسود، قال: حدثنا يحيى بْن آدم عن عدة منَ الجزريين عن سُلَيْمَان بْن عطاء القرشي، قَالَ: بعث أَبُو عُبَيْدة عياض بْن غنم إِلَى الجزيرة فمات أَبُو عُبَيْدة وهو بها فولاه عُمَر إياها بعد.
وحدثني بكر بْن الهيثم، قَالَ: حَدَّثَنَا النفيلي عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن عطاء، قَالَ: لما فتح عياض بْن غنم الرها وكان أَبُو عُبَيْدة وجهه وقف عَلَى بابها عَلَى فرس له كميت فصالحوه عَلَى أن لهم هيكلهم وما حوله وعلى أن لا يحدثوا كنيسة إلا ما كان لهم وعلى معونة المسلمين عَلَى عدوهم فإن تركوا شيئا

(1/172)


مما شرط عليهم فلا ذمة لهم ودخل أهل الجزيرة فيما دخل فيه أهل الرها.
وقال مُحَمَّد بْن سَعْد، قَالَ الواقدي: أثبت ما سمعنا في أمر عياض أن أَبَا عُبَيْدة مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، واستخلف عياضا فورد عَلَيْهِ كتاب عُمَر بتوليته حمص وقنسرين والجزيرة: فسار إِلَى الجزيرة يوم الخميس للنصف من شعبان سنة ثماني عشرة في خمسة آلاف وعلى مقدمته ميسرة بْن مسروق العبسي وعلى ميمنته سَعِيد بْن عَامِر بْن حذيم الجمحي وعلى ميسرته صفوان بن المعطل السلمى، وكان خَالِد بْن الوليد عَلَى ميسرته، ويقال: إن خالدا لم يسر تحت لواء احد بعد أَبِي عُبَيْدة ولزم حمص حَتَّى توفي بها سنة إحدى وعشرين وأوصى إِلَى عُمَر: وبعضهم يزعم أنه مات بالمدينة وموته بحمص أثبت.
قَالُوا: فانتهت طليعة عياض إِلَى الرقة فأغاروا عَلَى حاضر كان حولها للعرب وعلى قوم منَ الفلاحين فأصابوا مغنما وهرب من نجا من أولئك فدخلوا مدينة الرقة، وأقبل عياض في عسكرة حَتَّى نزل باب الرها وهو أحد أبوابها في تعبئة فرمى المسلمون ساعة حَتَّى جرح بعضهم ثُمَّ إنه تأخر عنهم لئلا تبلغه حجارتهم وسهامهم وركب فطاف حول المدينة ووضع عَلَى أبوابها روابط ثُمَّ رجع إِلَى عسكره وبث السرايا فجعلوا يأتون بالأسرى منَ القرى وبالأطعمة الكثيرة وكانت الزروع مستحصدة، فلما مضت خمسة أيام أو ستة وهم عَلَى ذلك أرسل بطريق المدينة إِلَى عياض يطلب الأمان فصالحه عياض عَلَى أن أمن جميع أهلها عَلَى أنفسهم وذراريهم وأموالهم ومدينتهم، وقال عياض: الأرض لنا قَدْ وطئناها وأحرزناها فأقرها في أيديهم عَلَى الخراج ودفع منها ما لم يرده أهل الذمة فرفضوه إِلَى المسلمين عَلَى العشر ووضع الجزية عَلَى رقابهم فألزم كل رجل منهم دينارا في كل سنة وأخرج النساء والصبيان ووظف عليهم مع الدينار أقفزة من قمح وشيئا من

(1/173)


زيت وخل وعسل، فلما ولى معاوية جعل ذلك جزية عليهم ثُمَّ أنهم فتحوا أبواب المدينة وأقاموا للمسلمين سوقا عَلَى باب الرها فكتب لهم عياض.
بسم اللَّه الرَّحْمَنِ الرحيم: هَذَا ما أعطى عياض بْن غنم أهل الرقة يوم دخلها أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم لا تخرب ولا تسكن إذا أعطوا الجزية الَّتِي عليهم ولم يحدثوا مغيلة وعلى أن لا يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا يظهروا ناقوسا ولا باعوثا ولا صليبا شهد الله «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» 4: 79 وختم عياض بخاتمه.
ويقال: إن عياضا ألزم كل حالم من أهل الرقة أربعة دنانير والثبت أن عُمَر كتب بعد إِلَى عمير بْن سَعْد وهو واليه أن ألزم كل امرئ منهم أربعة دنانير كما ألزم أهل الذهب.
قَالُوا: ثُمَّ سار عياض إِلَى حران فنزل بأجدى وبعث مقدمته فأغلق أهل حران أبوابها دونهم ثُمَّ اتبعهم، فلما نزل بها بعث إليه الحرنانية من أهلها يعلمونه أن فى أيديهم طائفة من المدينة ويسئلونه أن يصير إِلَى الرها فما صالحوه عَلَيْهِ من شيء قنعوا به وخلوا بينه وبين النصارى حَتَّى يصيروا إليه وبلغ النصارى ذلك فأرسلوا إليه بالرضى بما عرض الحرنانية وبذلوا فأتى الرها وقد جمع له أهلها فرموا المسلمين ساعة، ثُمَّ خرجت مقاتلتهم فهزمهم المسلمون حتى ألجئوهم إِلَى المدينة فلم ينشبوا إن طلبوا الصلح والأمان، فأجابهم عياض إليه وكتب لهم كتابا نسخته.
بسم اللَّه الرَّحْمَنِ الرحيم: هَذَا كتاب من عياض بْن غنم لأسقف الرها إنكم إن فتحتم لي باب المدينة عَلَى أن تؤدوا إلي عن كل رجل دينارا ومدي قمح فأنتم آمنون عن أنفسكم وأموالكم ومن تبعكم وعليكم إرشاد الضال وإصلاح الجسور والطرق ونصيحة المسلمين «شهد اللَّه وكفى بالله شهيدا» .

(1/174)


وحدثني داود بْن عَبْد الحميد عن أبيه عن جده، إن كتاب عياض لأهل الرها:
بسم اللَّه الرَّحْمَنِ الرحيم: هَذَا كتاب من عياض بْن غنم ومن معه منَ المسلمين لأهل الرها أني أمنتهم عَلَى دمائهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم ومدينتهم وطواحينهم إذا أدوا الحق الَّذِي عليهم، ولنا عليهم أن يصلحوا جسورنا ويهدوا ضالنا شهد اللَّه وملائكته والمسلمون.
قَالَ: ثُمَّ أتى عياض حران ووجه صفوان بْن المعطل وحبيب بْن مسلمة الفهري إِلَى سميساط فصالح عياض أهل حران عَلَى مثل صلح الرها وفتحوا له أبوابها وولاها رجلا، ثُمَّ سار إِلَى سميساط فوجد صفوان بْن المعطل، وحبيب بْن مسلمة مقيمين عليها وقد غلبا عَلَى قرى وحصون من قراها وحصونها فصالحه أهلها عَلَى مثل صلح أهل الرها، وكان عياض يغزو منَ الرها ثُمَّ يرجع إليها.
وحدثني مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الواقدي عن معمر عَنِ الزهري، قَالَ: لم يبق بالجزيرة موضع قدم إلا فتح عَلَى عهد عُمَر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه عَلَى يد عياض بْن غنم فتح حران، والرها، والرقة، وقرقيسيا، ونصيبين، وسنجار.
وحدثني مُحَمَّد عَنِ الواقدي عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مسلمة عن فرات بْن سلمان عن ثابت بْن الحجاج، قَالَ: فتح عياض الرقة وحران والرها ونصيبين وميافارقين وقرقيسيا وقرى الفرات ومدائنها صلحا وأرضها عنوة وحدثني مُحَمَّد عَنِ الواقدي عن ثور بْن يزيد عن راشد بْن سَعْد أن عياضًا افتتح الجزيرة ومدائنها صلحا وأرضها عنوة.
وقد روى: أن عياضا لما أتى حران منَ الرقة وجدها خالية قَدِ انتقل أهلها إِلَى الرها فلما فتحت الرها صالحوه عن مدينتهم وهم بها وكان صلحهم مثل صلح الرها.

(1/175)


وحدثني أَبُو أيوب الرقي المؤدب، قَالَ: حدثني الحجاج بْن أَبِي منيع الرصافي عن أبيه عن جده، قَالَ: فتح عياض الرقة ثُمَّ الرها ثُمَّ حران ثُمَّ سميساط عَلَى صلح واحد، ثم أتى سروج وراسكيفا والأرض البيضاء فغلب عَلَى أرضها وصالح أهل حصونها عَلَى مثل صلح الرها. ثُمَّ إن سميساط كفروا فلما بلغه ذلك رجع إليهم فحاصرها حَتَّى فتحها وبلغه أن أهل الرها قَدْ نقضوا فلما أناخ عليهم فتحوا له أبواب مدينتهم فدخلها وخلف بها عامله في جماعة ثم أتى قرايات الفرات وهي جسر منبج وذواتها ففتحها عَلَى ذلك وأتى عين الوردة وهي رأس العين فامتنعت عَلَيْهِ فتركها وأتى تل موزن ففتحها عَلَى مثل صلح الرها وذلك في سنة تسع عشرة، ووجه عياض إِلَى قرقيسيا حبيب ابن مسلمة الفهري ففتحها صلحا عَلَى مثل صلح الرقة وفتح عياض آمد بغير قتال عَلَى مثل صلح الرها، وفتح ميافارقين عَلَى مثل ذلك وفتح حصن كفرتوثا، وفتح نصيبين بعد قتال عَلَى مثل صلح الرها، وفتح طور عبدين وحصن ماردين ودارا عَلَى مثل ذلك، وفتح قردى وبازبدى عَلَى مثل صلح نصيبين وأتاه بطريق الزوزان فصالحه عن أرضه عَلَى إتاوة وكل ذلك في سنة تسع عشرة وأيام منَ المحرم سنة عشرين، ثم سار إلى أوزن ففتحها عَلَى مثل صلح نصيبين ودخل الدرب فبلغ بدليس وجازها إلى خلاط وصلح بطريقها وانتهى إِلَى العين الحامضة من أرمينية فلم يعدها ثُمَّ عاد فضمن صاحب بدليس خراج خلاط وجماجمها وما عَلَى بطريقها، ثُمَّ إنه انصرف إِلَى الرقة ومضى إِلَى حمص وقد كان عُمَر ولاه إياها فمات سنة عشرين. وولى عُمَر سَعِيد بْن عَامِر بْن حذيم فلم يلبث إلا قليلا حَتَّى مات فولى عُمَر عمير بْن سَعْد الأنصاري ففتح عين الوردة بعد قتال شديد.
وقال الواقدي: حدثني من سمع إِسْحَاق بْن أَبِي فروة يحدث عن أَبِي

(1/176)


وهب الجيشاني ديلم بْن الموسع أن عُمَر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه كتب إِلَى عياض يأمره أن يوجه عمير بْن سَعْد إِلَى عين الوردة فوجهه إليها فقدم الطلائع أمامه فأصابوا قوما منَ الفلاحين وغنموا مواشي من مواشي العدو ثُمَّ إن أهل المدينة غلقوا أبوابها ونصبوا العرادات عليها فقتل منَ المسلمين بالحجارة والسهام بشر واطلع عليهم بطريق من بطارقتها فشتمهم وقال:
لسنا كمن لقيتم ثُمَّ أنها فتحت بعد عَلَى صلح.
حدثني عَمْرو بْن مُحَمَّد عَنِ الحجاج بْن أبي منيع عن أبيه عن جده، قَالَ:
امتنعت رأس العين على عياض بْن غنم ففتحها عمير بْن سَعْد وهو والى عُمَر عَلَى الجزيرة بعد أن قاتل أهلها المسلمين قتالا شديدا فدخلها المسلمون عنوة، ثُمَّ صالحوهم بعد ذلك عَلَى أن دفعت الأرض إليهم ووضعت الجزية على رؤسهم عَلَى كل رأس أربعة دنانير ولم تسب نساؤهم ولا أولادهم، وقال الحجاج: وقد سمعت مشايخ من أهل رأس العين يذكرون أن عميرا لما دخلها قَالَ لهم: لا بأس لا بأس إلى إلي فكان ذلك أمانا لهم، وزعم الهيثم بْن عدي: أن عُمَر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه بعث أَبَا موسى الأشعري إِلَى عين الوردة فغزاها بجند الجزيرة بعد وفاة عياض، والثبت أن عميرا فتحها عنوة فلم تسب وجعل عليهم الخراج والجزية ولم يقل هَذَا أحد غير الهيثم، وقال الحجاج بْن أَبِي منيع: جلا خلق من أهل رأس العين واعتمل المسلمون أراضيهم وازدرعوها بإقطاع.
وحدثني مُحَمَّد بْن المفضل الموصلي عن مشايخ من أهل سنجار، قَالُوا:
كانت سنجار في أيدي الروم ثُمَّ إن كسرى المعروف بأبرويز أراد قتل مائة رجل منَ الفرس كانوا حملوا إليه بسبب خلاف ومعصية، فكلم فيهم فأمر أن يوجهوا إِلَى سنجار وهو يومئذ يعاني فتحها فمات منهم رجلان ووصل إليها

(1/177)


ثمانية وتسعون رجلا فصاروا مع المقاتلة الَّذِينَ كانوا بإزائها ففتحوها دونهم وأقاموا بها وتناسلوا، فلما انصرف عياض من خلاط وصار إِلَى الجزيرة بعث إِلَى سنجار ففتحها صلحا وأسكنها قوما منَ العرب، وقد قَالَ بعض الرواة أن عياضا فتح حصنا منَ الموصل وليس ذلك بثبت. قَالَ ابْن الكلبي:
عمير بْن سَعْد عامل عُمَر هُوَ عمير بْن سَعْد بْن شهيد بْن عَمْرو أحد الأوس، وقال الواقدي: هُوَ عمير بْن سَعْد بْن عُبَيْد وقتل أبوه سَعْد يوم القادسية، وسعد هَذَا هُوَ الَّذِي يروي الكوفيون إنه احد من جمع القرآن عَلَى عهد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الواقدي: وقد روى قوم أن خَالِد بْن الوليد ولى لعمر بعض الجزيرة فاطلى في حمام بآمد أو غيرها بشيء فيه خمر فعزله عُمَر: وليس ذلك بثبت.
وحدثني عَمْرو الناقد، قَالَ: حدثني الحجاج بن أبي منيع عن أبيه عن جده عن ميمون بْن مهران، قَالَ: أخذ الزيت والخل والطعام لمرفق المسلمين بالجزيرة مدة ثُمَّ خفف عنهم واقتصر بهم عَلَى ثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين واثني عشر نظرا من عُمَر للناس وكان عَلَى كل إنسان مع جزيته مدا قمح وقسطان من زيت وقسطان من خل.
وحدثني عدة من أهل الرقة، قَالُوا: لما مات عياض وولى الجزيرة سعيد ابن عَامِر بْن حذيم بنى مَسْجِد الرقة ومسجد الرها ثُمَّ توفي فبنى المساجد بديار مضر وديار ربيعة عمير بْن سَعْد، ثُمَّ لما ولي معاوية الشام والجزيرة لعُثْمَان بْن عَفَّان رضي اللَّه عنه أمره أن ينزل العرب بمواضع نائية عَنِ المدن والقرى ويأذن لهم في اعتمال الأرضين الَّتِي لا حق فيها لأحد فأنزل بني تميم الرابية وأنزل المازحين والمديبر أخلاطا من قيس وأسد وغيرهم وفعل ذلك في جميع نواحي ديار مضر ورتب ربيعة في ديارها عَلَى ذلك، وألزم المدن

(1/178)


والقرى والمسالح من يقوم بحفظها ويذب عنها من أهل العطاء ثُمَّ جعلهم مع عماله.
وحدثني أَبُو حفص الشامي عن حَمَّاد بْن عَمْرو النصيبي قَالَ: كتب عامل نصيبين إِلَى معاوية وهو عامل عُثْمَان عَلَى الشام والجزيرة يشكو إليه أن جماعة منَ المسلمين ممن معه أصيبوا بالعقارب فكتب إليه يأمره أن يوظف عَلَى أهل كل حيز منَ المدينة عدة منَ العقارب مسماة في كل ليلة ففعل فكانوا يأتونه بها فيأمر بقتلها.
وحدثني أَبُو أيوب المؤدب الرقى عن أَبِي عَبْد اللَّهِ القرقساني عن أشياخه أن عمير بْن سَعْد لما فتح رأس العين سلك الخابور وما يليه حَتَّى أتى قرقيسيا وقد نقض أهلها فصالحهم عَلَى مثل صلحهم الأول، ثُمَّ أتى حصون الفرات حصنا حصنا ففتحها عَلَى ما فتحت عَلَيْهِ قرقيسيا ولم يلق في شيء منها كثير قتال، وكان بعض أهلها ربما رموا بالحجارة، فلما فرغ من تلبس وعانات أتى النأوسة وآلوسة وهيت فوجد عمار بْن ياسر وهو يومئذ عامل عُمَر بْن الخطاب عَلَى الكوفة وقد بعث جيشا يستغزي ما فوق الأنبار عَلَيْهِ سَعْد بْن عَمْرو بْن حرام الأنصاري، وقد أتاه أهل هَذِهِ الحصون فطلبوا الأمان فأمنهم واستثنى عَلَى أهل هيت نصف كنيستهم فانصرف عمير إِلَى الرقة.
وحدثني بعض أهل العلم، قَالَ: كان الَّذِي توجه إِلَى هيت والحصون الَّتِي بعدها منَ الكوفة مدرج بْن عَمْرو السلمي حليف بني عَبْد شمس وله صحبة فتولى فتحها وهو بنى الحديثة الَّتِي عَلَى الفرات وولده بهيت وكان منهم رجل يكنى أَبَا هارون باقي الذكر هناك، ويقال: أن مدلاجا كان من قبل سَعْد بْن عَمْرو بْن حرام والله أعلم.
قالوا: وكان موضع نهر سَعِيد بْن عَبْد الملك بْن مروان- وهو الذي

(1/179)


يقال له سَعِيد الخير وكان يظهر نسكا- غيضة ذات سباع فأقطعه إياها الوليد فحفر النهر وعمر ما هناك، وقال بعضهم: الَّذِي اقطعه ذلك عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ قَالُوا: ولم يكن للرافقة أثر قديم إنما بناها أمير الْمُؤْمِنِين المَنْصُور رحمه اللَّه سنة خمس وخمسين ومائة عَلَى بناء مدينته ببغداد، ورتب فيها جندا من أهل خراسان وجرت عَلَى يدي المهدي وهو ولي عهد، ثُمَّ أن الرشيد بنى قصورها فكان بَيْنَ الرقة والرافقة فضاء مزارع، فلما قدم علي بْن سُلَيْمَان بْن علي واليا عَلَى الجزيرة نقل أسواق الرقة إِلَى تلك الأرض، فكان سوق الرقة الأعظم فيما مضى يعرف بسوق هِشَام العتيق، ثُمَّ لما قدم الرشيد الرقة استزاد في تلك الأسواق فلم تزل تجتبي مع الصوافي، وأمار صافة هِشَام فإن هِشَام بْن عَبْد الملك أحدثها وكان ينزل قبلها الزيتونة وحفر الهنى والمرى، واستخرج الضيعة الَّتِي تعرف بالهنى والمرى، وأحدث فيها واسط الرقة، ثُمَّ إن تلك الضيعة قبضت في أول الدولة ثُمَّ صارت لأم جَعْفَر زبيدة بنت جَعْفَر بْن المَنْصُور فابتنت فيها القطيعة الَّتِي تنسب إليها وزادت في عمارتها، ولم يكن للرحبة الَّتِي في أسفل قرقيسيا أثر قديم إنما بناه وأحدثها مَالِك بْن طوق بْن عتاب التغلبي في خلافة المأمون. وكانت أذرمة من ديار ربيعة قرية قديمة فأخذها الْحَسَن بْن عَمْرو بْن الخطاب التغلبي من صاحبها وبنى بها قصرا وحصنها، وكانت كفرتوثا حصنا قديما فاتخذها ولد أَبِي رمثة منزلا فمدنوها وحصنوها.
حدثني معافى بْن طاوس عن أبيه، قَالَ: سألت المشايخ عن أعشار بلد وديار ربيعة والبرية، فقال: هي أعشار ما أسلمت عَلَيْهِ العرب أو عمرته من لموات الَّذِي ليس في يد أحد أو رفضه النصارى فمات وغلب عليها الدغل فأقطعه العرب.
حدثني أَبُو عَفَّان الرقى عن مشايخ من كتاب الرقة وغيرهم، قَالُوا: كانت

(1/180)


عين الرومية وماؤها للوليد بْن عقبة بْن أَبِي معيط فأعطاها أَبَا زبيد الطائي ثُمَّ صارت لأبي العَبَّاس أمير الْمُؤْمِنِين فأقطعها ميمون بْن حَمْزَة مولى عَلي بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس ثُمَّ ابتاعها الرشيد من ورثته وهي من أرض الرقة، قَالُوا:
وكان بْن هبيرة أقطع غابة ابن هبيرة فقبضت وأقطعها بشر بْن ميمون صاحب الطاقات ببغداد بناحية باب الشام ثُمَّ ابتاعها الرشيد وهي من أرض سروج، وكان هِشَام أقطع عائشة ابنته قطيعة برأسكيفا تعرف بها فقبضت وكانت لعبد الملك وهِشَام قرية تدعى سلعوس ونصف قرية تدعى كفر جدا منَ الرها وكانت بحران للغمر بْن يزيد تل عفراء وأرض تل مذابا (كذا) وأرض المصلى وصوافي في ربض حران أو مستغلاتها، وكان مرج عَبْد الواحد حمى المسلمون قبل أن تبنى الحدث وزبطرة فلما بنيتا استغنى بهما فعمر، فضمه الْحُسَيْن الخادم إِلَى الأحواز في خلافة الرشيد ثُمَّ توثب الناس عَلَى مزارعه حَتَّى قدم عَبْد اللَّهِ بْن طَاهِر الشام فرده إِلَى الضياع، وقال أَبُو أيوب الرقى: سمعت أن عَبْد الواحد الَّذِي نسب المرج إليه عبد الواحد بن الحارث ابن الحكم بن أبى العاصي وهو ابْن عم عَبْد الملك كان المرج له فجعله حمى للمسلمين وهو الَّذِي مدحه القطامي فقال:
أهل المدينة لا يحزنك شأنهم ... إذا تخطأ عَبْد الواحد الأجل
أمر نصارى بن تغلب بْن وائل
حَدَّثَنَا شيبان بْن فروخ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عوانة عَنِ المغيرة عَنِ السفاح الشيباني، أن عُمَر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه أراد أن يأخذ الجزية من نصارى بني تغلب فانطلقوا هاربين ولحقت طائفة منهم ببعد من الأرض، فقال النعمان ابن زرعة أو زرعة بْن النعمان: أنشدك اللَّه في بني تغلب فإنهم قوم منَ العرب

(1/181)


نائفون منَ الجزية وهم قوم شديدة نكايتهم فلا يغن عدوك عليك بهم فأرسل عُمَر في طلبهم فردهم وأضعف عليهم الصدقة.
حَدَّثَنَا شيبان، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيزِ بْن مُسْلِم، قَالَ: حَدَّثَنَا ليث عن رجل عن سَعِيد بْن جبير عَنِ ابْن عَبَّاس، قَالَ: لا تؤكل ذبائح نصارى بني تغلب ولا تنكح نساؤهم: ليسوا منا ولا من أهل الكتاب.
حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن هِشَام عن أبيه عن عوانة بْن الحكم وأبي مخنف، قالا:
كتب عمير بْن سَعْد إِلَى عُمَر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه يعلمه أنه أتى شق الفرات الشامي ففتح عانات وسائر حصون الفرات وأنه أراد من هناك من بني تغلب عَلَى الإِسْلام فأبوه وهموا باللحاق بأرض الروم وقبلهم ما أراد من في الشق الشرقي عَلَى ذلك فامتنعوا منه وسألوه أن يأذن لهم في الجلاء واستطلع رأيه فيهم فكتب إليه عُمَر رضي اللَّه عنه يأمره أن يضعف عليهم الصدقة الَّتِي تؤخذ منَ المسلمين في كل سائمة وأرض وإن أبوا ذلك حاربهم حَتَّى يبيدهم أو يسلموا فقبلوا أن يؤخذ منهم ضعف الصدقة، وقالوا: أما إذ لم تكن جزية كجزية الأعلاج فإنا نرضى ونحفظ ديننا.
حدثني عَمْرو الناقد، قَالَ: حدثني أَبُو معاوية عَنِ الشيبان عَنِ السفاح عن داود بْن كردوس، قَالَ: صالح عُمَر بْن الخطاب بني تغلب بعد ما قطعوا الفرات وأرادوا اللحاق بأرض الروم عَلَى أن لا يصبغوا صبيا ولا يكرهوه عَلَى دينهم وعلى أن عليهم الصدقة مضعفة، قَالَ: وكان داود بْن كردوس يقول: ليست لهم ذمة لأنهم قَدْ صبغوا في دينهم يعني المعمودية فحدثني الْحُسَيْن بْن الأسود قال: حدثنا يحيى بن آدم عن ابن المبارك عن يونس بن يزيد الأيلي عَنِ الزهري، قَالَ: ليس في مواشي أهل الكتاب صدقة إلا نصارى بني تغلب أو قَالَ نصارى العرب الَّذِينَ عامة أموالهم المواشي فإن عليهم ضعف ما عَلَى المسلمين.

(1/182)


حدثنا سعيد بن سليمان سعدويه: حدثنا هشيم عن مغيرة عن السفاح ابن المثنى عن زرعة بْن النعمان أنه كان كلم عُمَر في نصارى بني تغلب وقال قوم عرب نائفون منَ الجزية وإنما هم أصحاب حروث ومواش وكان عُمَر قَدْ هم أن يأخذ الجزية منهم فتفرقوا في البلاد فصالحهم عَلَى أن أضعف عليهم ما يؤخذ منَ المسلمين من صدقاتهم في الأرض والماشية، واشترط عليهم أن لا ينصروا أولادهم، قال مغيرة: فكان علي عَلَيْهِ السلام يقول: لئن تفرغت لبنى تغلب ليكونن لي فيهم رأي لأقتلن مقاتلهم ولأسبين ذريتهم فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم. وحدثني أَبُو نَصْر التمار، قَالَ: حَدَّثَنَا شريك بْن عَبْد اللَّهِ عَنِ إِبْرَاهِيم بْن مهاجر عن زياد بْن حدير الأسدي، قَالَ: بعثني عُمَر إِلَى نصارى بني تغلب آخذ منهم نصف عشر أموالهم ونهاني أن أعشر مسلما أو ذميا يؤدي الخراج.
حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن ابن أَبِي سبرة عن عَبْد الملك بْن نوفل عن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن الحارث: أن عُثْمَان أمر أن لا يقبل من بني تغلب في الجزية إلا الذهب والفضة فجاءه الثبت أن عُمَر أخذ منهم ضعف الصدقة فرجع عن ذلك، قال الواقدي، وقال سُفْيَان الثوري، والأوزاعي، ومالك بْن أَنَس، وابن أَبِي ليلى، وابن أَبِي ذئب، وأبو حنيفة، وأبو يوسف يؤخذ منَ التغلبي ضعف ما يؤخذ منَ المسلم في أرضه وماشيته وماله، فأما الصبي والمعتوه منهم فإن أهل العراق يرون أن يؤخذ ضعف الصدقة من أرضه ولا يأخذون من ماشيته شيئا، وقال أهل الحجاز يؤخذ ذلك من ماشيته وأرضه، وقالوا جميعا: أن سبيل ما يؤخذ من أموال بني تغلب سبيل مال الخراج لأنه بدل منَ الجزية.
غزو الثغور الجزرية
قَالُوا: لما استخلف عُثْمَان بْن عَفَّان رضي اللَّه عنه كتب إِلَى معاوية بولايته

(1/183)


الشام وولى عمير بْن سَعْد الأنصاري الجزيرة ثُمَّ عزله وجمع لمعاوية الشام والجزيرة وثغورهما وأمره يغزو شمشاط وهي أرمينية الرابعة أن يغزيها فوجه إليها حبيب بْن مسلمة الفهري وصفوان بْن معطل السلمي: ففتحاها بعد أيام من نزولهما عليها عَلَى مثل صلح الرها وأقام صفوان بها، وبها توفي في آخر خلافة معاوية ويقال بل غزاها معاوية نفسه وهذان معه فولاها صفوان فأوطنها وتوفي بها قالوا: وقد كان قسطنطين الطاغة أناخ عليها بعد نزوله في ملطية في سنة ثلاث وثلاثين ومائة فلم يمكنه فيها شيء فأغار عَلَى ما حولها ثُمَّ انصرف ولم تزل شمشاط خراجية حَتَّى صيرها المتوكل عَلَى اللَّه رحمه اللَّه عشرية أسوة غيرها من الثغور، وقالوا: أغزى حبيب بْن مسلمة حصن كمخ بعد فتح شمشاط فلم يقدر عَلَيْهِ وغزاه صفوان فلم يمكنه فتحه ثُمَّ غزاه في سنة تسع وخمسين وهي السنة الَّتِي مات فيها ومعه عمير بْن الحباب السلمي فعلا عمير سوره ولم يزل يجالد عَلَيْهِ وحده حَتَّى كشف الروم وصعد المسلمون ففتحه لعمير بْن الحباب وبذلك كان يفخر ويفخر له، ثُمَّ أن الروم غلبوا عَلَيْهِ ففتحه مسلمة بْن عَبْد الملك ولم يزل يفتح وتغلب الروم عَلَيْهِ فلما كانت سنة تسع وأربعين ومائة شخص المَنْصُور عن بغداد حَتَّى نزل حديثه الموصل، ثُمَّ أغزى منها الْحَسَن بْن قحطبة وبعده مُحَمَّد بْن الأشعث وجعل عليهما العَبَّاس بْن مُحَمَّد وأمره أن يغزو بهم كمخ فمات مُحَمَّد بْن الأشعث بآمد وسار العَبَّاس والحسن حَتَّى صار إِلَى ملطية فحملا منها الميرة ثُمَّ أناخ عَلَى كمخ، وأمر العَبَّاس بنصب المناجنيق عَلَيْهِ فجعلوا عَلَى حصنهم خشب العرعر لئلا يضربه حجارة المنجنيق، ورموا المسلمين فقتلوا منهم بالحجارة مائتي رجل فاتخذ المسلمون الدبابات وقاتلوا قتالا شديدا حَتَّى فتحوه، وكان مع العباس ابن مُحَمَّد بْن علي في غزاته هَذِهِ مطر الوراق، ثم أن الروم أغلقوا كمخ فلما كانت سنة سبع وسبعين ومائة غزا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بن أبى

(1/184)


عمرة الأنصاري وهو عامل عَبْد الملك بْن صالح عَلَى شمشاط ففتحه ودخله لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر من هَذِهِ السنة فلم يزل مفتوحا حَتَّى كان هيج مُحَمَّد بْن الرشيد فهرب أهله وغلبت عَلَيْهِ الروم، ويقال أن عَبْد اللَّهِ بْن الأقطع دفعه إليهم وتخلص ابنه وكان أسيرا عندهم، ثُمَّ أن عَبْد اللَّهِ بْن طَاهِر فتحه في خلافة المأمون فكان في أيدي المسلمين حَتَّى لطف قوم من نصارى شمشاط وقاليقلا وبقراط بْن أشوط بطريق خلاط في دفعه إِلَى الروم والتقرب إليهم بذلك بسبب ضياع لهم فى عمل شمشاط.