فتوح مصر والمغرب

ذكر كتاب رسول الله صلّى الله عليه واله إلى المقوقس
(* حدثنا «3» هشام بن إسحاق وغيره، قال: لما كانت سنة ستّ من مهاجرة «4» رسول الله صلّى الله عليه واله، ورجع رسول الله صلّى الله عليه واله من الحديبية بعث إلى الملوك.
حدثنا أسد بن موسى، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنى يونس بن يزيد، عن ابن

(1/65)


شهاب، قال: حدثنى عبد الرحمن بن عبد القارىّ، أن رسول الله صلّى الله عليه واله قام ذات يوم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وتشهد، ثم قال: أمّا بعد فإنى أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك العجم فلا تختلفوا علىّ كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى بن مريم، وذلك أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى عيسى أن ابعث إلى ملوك الأرض فبعث الحواريّين، فأما القريب مكانا فرضى، وأما البعيد مكانا فكره، وقال: لا أحسن كلام من تبعثنى إليه، فقال عيسى: اللهمّ أمرت الحواريّين بالذى أمرتنى فاختلفوا علىّ؛ فأوحى الله إليه إنى سأكفيك، فأصبح كل إنسان منهم يتكلّم بلسان الذي وجه إليهم «1» .
فقال المهاجرون: يا رسول الله، والله لا نختلف عليك أبدا فى شىء، فمرنا وابعثنا، فبعث حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وشجاع بن وهب الأسدى [إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى، وعبد الله بن أبى حذافة السهمى «2» ] إلى كسرى، وبعث دحية بن خليفة إلى قيصر، وبعث عمرو بن العاص إلى ابنى الجلندى أميرى عمان، ثم ذكر الحديث.
ثم رجع إلى حديث هشام بن إسحاق وغيره، قال: فمضى حاطب بكتاب رسول الله صلّى الله عليه واله، فلما انتهى إلى الإسكندرية وجد المقوقس فى مجلس مشرف على البحر، فركب البحر؛ فلما حاذى مجلسه، أشار بكتاب رسول الله صلّى الله عليه واله، بين إصبعيه فلما رآه أمر بالكتاب فقبض، وأمر به فأوصل إليه، فلما قرأ الكتاب قال: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو علىّ فيسلّط علىّ! فقال له، حاطب: ما منع عيسى بن مريم أن يدعو على من أبى عليه أن يفعل به ويفعل! فوجم ساعة، ثم استعادها فأعادها عليه حاطب، فسكت، فقال له حاطب: إنه قد كان قبلك رجل زعم أنه الربّ الأعلى فانتقم الله به ثمّ انتقم منه؛ فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك. وإنّ لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه، وهو الإسلام الكافى الله به فقد ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنّا نأمرك به، ثم قرأ الكتاب:
بسم الله الرّحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام

(1/66)


على من اتّبع الهدى، أما بعد فانى أدعوك بدعاية «1» الإسلام، فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «2» .
فلما قرأه أخذه، فجعله فى حقّ من عاج، وختم عليه*) .
حدثنا عبد الله بن سعيد المذحجى، عن ربيعة بن عثمان، عن أبان بن صالح، قال: (3 أرسل المقوقوس إلى حاطب ليلة «4» ، وليس عنده أحد إلا ترجمان له فقال: ألا تخبرنى عن أمور أسألك عنها، فإنى أعلم أن صاحبك قد تخيّرك حين بعثك! قال: لا تسألنى عن شىء إلا صدقتك، قال إلام يدعو محمد؟ قال: إلى أن تعبد الله، لا تشرك به شيئا، وتخلع ما سواه، ويأمر بالصلاة. قال: فكم تصلّون؟ قال: خمس صلوات فى اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان، وحجّ البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدّم.
قال: من أتباعه؟ قال: الفتيان من قومه وغيرهم، قال: فهل يقاتل قومه؟ قال: نعم، قال:
صفه لى، قال: فوصفه بصفة من صفته «5» ، لم آت عليها، قال: قد بقيت أشياء، لم أرك ذكرتها؛ فى عينيه حمرة قلّما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوّة، يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزئ بالتمرات «6» والكسر، لا يبالى من لاقى من عمّ ولا ابن عمّ، قلت: هذه صفته قال: قد كنت أعلم أن نبيّا قد بقى، وقد كنت أظنّ أن مخرجه الشام «7» ، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج فى العرب، فى أرض جهد وبؤس، والقبط لا تطاوعنى فى اتّباعه، ولا أحبّ أن يعلم بمحاورتى إيّاك، وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما هاهنا «8» ، وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفا، فارجع إلى صاحبك 3) .

(1/67)


ثم رجع إلى حديث هشام بن إسحاق، قال: ثم دعا كاتبا يكتب بالعربية فكتب لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط. سلام (1 أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيّا قد بقى؛ وقد كنت أظنّ أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها. والسلام 1) .
(2 حدثنا أسد بن موسى، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنى يونس بن يزيد عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد القارىّ، قال: لمّا مضى حاطب بكتاب رسول الله صلّى الله عليه واله، قبل المقوقس الكتاب، وأكرم حاطبا، وأحسن نزله، ثم سرّحه إلى رسول الله صلّى الله عليه واله، وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها وجاريتين، إحداهما أمّ إبراهيم، ووهب الأخرى لجهم بن قيس العبدرىّ، فهى أمّ زكرياء بن جهم، الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر ويقال: بل وهبها لحسان بن ثابت، فهى أمّ عبد الرحمن بن حسان؛ ويقال:
بل وهبها رسول الله صلّى الله عليه واله لمحمد بن مسلمة الأنصارى، ويقال: بل لدحية بن خليفة الكلبى 2) .
حدثنا النضر بن سلمة السامىّ، عن حاتم بن إسماعيل، عن أسامة بن زيد الليثى، عن المنذر بن عبيد، عن عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت، عن أمّه سيرين «3» ، قالت:
حضرت موت إبراهيم، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه واله كلّما صحت أنا وأختى ما ينهانا؛ فلما مات نهانا عن الصياح.
(* حدثنا عبد الملك بن هشام، حدثنا زياد بن عبد الله البكّائى، عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة أن صفوان بن المعطّل ضرب حسان بن ثابت بالسيف قال ابن إسحاق فحدثنى محمد بن إبراهيم التيمى أن ثابت بن قيس بن شمّاس وثب على صفوان بن المعطّل حين ضرب حسان فجمع يديه إلى عنقه بحبل [ثم انطلق به إلى دار بنى الحارث بن الخزرج] فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ فقال: ضرب حسان

(1/68)


بالسيف! والله ما أراه إلا قد قتله، قال: هل علم رسول الله صلّى الله عليه واله بشىء ممّا صنعت؟ قال:
لا، قال: لقد اجترأت أطلق الرجل فأطلقه ثم أتوا رسول الله صلّى الله عليه واله فذكروا ذلك له فدعا حسّان وصفوان بن المعطّل فقال آذانى يا رسول الله وهجانى فاحتملنى الغضب فضربته فقال رسول الله صلّى الله عليه واله: أحسن يا حسّان فى الذي قد أصابك، قال: هى لك فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه واله عوضا منها بيرحا وهى قصر بنى حديلة اليوم [بالمدينة] كانت مالا لأبي طلحة تصدّق بها إلى رسول الله صلّى الله عليه واله فأعطاها حسّان فى ضربته وأعطاه سيرين أمة قبطيّة فولدت له عبد الرحمن بن حسان*) .
حدثنا هانئ بن المتوكّل، حدثنا ابن لهيعة قال حدثنى يزيد بن أبى حبيب أن المقوقس لما أتاه كتاب رسول الله صلّى الله عليه واله ضمّه: إلى صدره وقال: هذا زمان يخرج فيه النّبيّ الذي نجد نعته «1» وصفته فى كتاب الله وإنّا لنجد صفته أنه لا يجمع بين أختين «2» فى ملك يمين ولا نكاح وأنه يقبل الهديّة ولا يقبل الصدقة وأن جلساءه المساكين وأن خاتم النّبوة بين كتفيه ثم دعا رجلا عاقلا ثم لم يدع بمصر أحسن ولا أجمل من مارية وأختها وهما من أهل حفن من كورة أنصنا فبعث بهما إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وأهدى له بغلة شهباء وحمارا أشهب وثيابا من قباطىّ مصر وعسلا من عسل بنها وبعث إليه بمال صدقة وأمر رسوله أن ينظر من جلساؤه وينظر إلى ظهره هل يرى شامة كبيرة «3» ذات شعر ففعل ذلك الرسول فلما قدم على رسول الله صلّى الله عليه واله قدّم إليه الأختين والدابّتين والعسل والثياب وأعلمه أن ذلك كله هديّة، فقبل رسول الله صلّى الله عليه واله الهديّة وكان لا يردّها من «4» أحد من الناس. قال فلما نظر إلى مارية وأختها أعجبتاه وكره أن يجمع بينهما، وكانت إحداهما تشبه الأخرى فقال: اللهمّ اختر لنبيّك فاختار الله له مارية، وذلك أنه قال لهما: قولا نشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فبدرت مارية فتشهّدت وآمنت قبل أختها ومكثت أختها ساعة ثم تشهّدت وآمنت، فوهب رسول الله صلّى الله عليه واله أختها لمحمد بن مسلمة الأنصارى وقال بعضهم: بل وهبها لدحية بن خليفة الكلبىّ.

(1/69)


(* قال فحدثنا هانئ بن المتوكّل، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة المهرى أحسبه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه واله على أمّ إبراهيم أمّ ولده القبطية «1» ، فوجد عندها نسيبا كان لها قدم معها من مصر، وكان كثيرا ما يدخل عليها فوقع فى نفسه شىء فرجع فلقيه عمر ابن الخطاب فعرف ذلك فى وجهه فسأله فأخبره فأخذ عمر السيف ثم دخل على مارية وقريبها عندها، فأهوى إليه بالسيف فلما رأى ذلك كشف عن نفسه وكان مجبوبا ليس بين رجليه شىء، فلما رآه عمر رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه واله فأخبره فقال رسول الله صلّى الله عليه واله: إنّ جبريل أتانى فأخبرنى أنّ الله قد برّأها وقريبها وأن فى بطنها غلاما منى وأنه أشبه الخلق بى وأمرنى أن أسميّه إبراهيم وكنّانى بأبى إبراهيم*) .
وحدثنا دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد ابن أبى حبيب عن الزهرىّ عن أنس قال: لما ولدت أمّ إبراهيم إبراهيم كأنه وقع فى نفس النّبيّ صلّى الله عليه واله منه شىء حتى جاءه جبريل فقال السلام عليك يا أبا إبراهيم.
ويقال إن المقوقس بعث معها بخصىّ فكان يأوى إليها.
(* حدثنا أحمد بن سعيد الفهرى «2» حدثنا مروان بن يحيى الحاطبىّ حدثنى إبراهيم بن عبد الرحمن بن أدعج قال حدثنى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه (قال: حدثنى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه) «3» عن جدّه حاطب بن أبى بلتعة قال بعثنى رسول الله صلّى الله عليه واله إلى المقوقس ملك الإسكندرية فجئته بكتاب رسول الله صلّى الله عليه واله فأنزلنى فى منزل وأقمت عنده ليالى ثم بعث إليّ وقد جمع بطارقته فقال إنى «4» سأكلّمك بكلام وأحبّ أن تفهمه عنى قال قلت هلم قال أخبرنى عن صاحبك أليس هو بنبىّ؟ قال قلت: بلى هو رسول الله، قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على

(1/70)


قومه حيث «1» أخرجوه من بلده إلى غيرها قال فقلت له فعيسى بن مريم تشهد «2» أنه رسول الله فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه ألّا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حتى رفعه الله إليه فى السماء الدنيا فقال أنت حكيم جاء من عند حكيم هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد وأرسل معك مبذرقة يبذر قونك إلى مأمنك «3» قال فأهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث جوار منهنّ أمّ إبراهيم وواحدة وهبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبى جهم بن حذيفة العبدرى وواحدة وهبها لحسان بن ثابت وأرسل إليه بثياب مع طرف من طرفهم*) فولدت مارية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إبراهيم فكان من أحبّ الناس إليه حتى مات فوجد به رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة حدثنا حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن أبى نضرة عن أبى سعيد الخدرىّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلى على ابنه ابراهيم وكبّر عليه أربعا قال ورشّ الماء على قبره كما حدثنا ابن بكير. وحدثنا عبد الملك بن مسلمة حدثنا قريش ابن حيّان عن ثابت البنانىّ عن أنس بن مالك قال دخلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أبى سيف قين كان بالمدينة وكان ظئر إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتاه بإبراهيم فشمّه ثم دخلنا عليه وهو فى الموت فذرفت عيناه فقال له ابن عوف وأنت يا رسول الله قال إنها رحمة وأتبعها بالأخرى تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما لا يرضى ربّنا. وحدثنا أبى عبد الله بن عبد الحكم حدثنا مسلم بن خالد الزنجى عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أسماء ابنة يزيد أنها حدثته قالت لما توفّى إبراهيم بكى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أبو بكر وعمر أنت أحقّ من علم الله حقّه قال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ولولا أنه وعد صادق وموعد «4» جامع وأن الآخر منّا يتبع الأوّل لوجدنا عليك يا إبراهيم أشدّ ممّا وجدنا وإنا بك لمحزونون.
حدثنا على بن معبد حدثنا عيسى بن يونس عن محمد بن أبى ليلى عن عطاء ابن أبى رباح، عن جابر بن عبد الله، قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيد عبد الرحمن بن

(1/71)


عوف فانطلق به إلى النخل الذي فيه ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه فأخذه فوضعه فى حجره ثم بكى فقال له عبد الرحمن تبكى! أو لم تكن نهيت عن البكاء قال: لا ولكنى نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشقّ جيوب ورنّة شيطان، وصوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان وهذه رحمة ومن لا يرحم لا يرحم ولولا أنه أمر حق ووعد صدق «1» وأنها سبيل مأتيّة لحزنّا عليك حزنا هو أشدّ «2» من هذا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الربّ.
حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن السامىّ «3» حدثنا حاتم «4» ابن إسماعيل حدثنا أسامة بن زيد عن المنذر بن عبيد عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أمّه سيرين أخت مارية قالت: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرجة فى القبر يعنى قبر إبراهيم فأمر بها فسدت فقيل يا رسول الله فقال: أما إنما لا تضرّ ولا تنفع ولكن تقرّ بعين الحىّ وإن العبد إذا عمل عملا أحبّ الله أن يتقنه.
حدثنا دحيم حدثنا مروان بن معاوية عن إسرائيل عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال: كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان «5» لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فعليكم بالدعاء حتى ينكشفا.
قال ولما ولدت أمّ إبراهيم كما حدثنا القعنبىّ عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله ابن عباس عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما ولدت مارية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعتقها ولدها وكان سنّ إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم مات كما حدثنا على بن معبد «6» عن عيسى بن يونس عن الأعمش عن رجل قد سمّاه عن البراء بن عازب ستّة عشر شهرا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن له ظئرا فى الجنّة يتمّ رضاعه. وحدثنا يزيد بن أبى سلمة عن

(1/72)


عبد الرحمن بن زياد حدثنا الحجاج بن أرطأة عن أبى بكر بن عمرو عن يزيد بن البراء عن أبيه قال: لما توفّى إبراهيم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن له مرضعا فى الجنّة يتمّ بقيّة رضاعه.
ثم رجع إلى حديث يزيد بن أبى حبيب قال وكانت البلغة والحمار أحبّ دوابّه إليه وسمّى البغلة دلدل وسمى الحمار يعفور وأعجبه العسل فدعا فى عسل بنها بالبركة وبقيت تلك الثياب حتى كفن فى بعضها صلّى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن عبد الجبّار حدثنا موسى بن داود عن سلّام عن عبد لملك بن عبد الرحمن عن الحسن العرنى عن أشعث بن طليق عن مرّة بن المطلب أو الطيّب عن عبد الله بن مسعود. وحدثنا عبد الملك بن مسلمة حدثنا القاسم بن عبد الله عن عبيد الله بن عمر عن الثقة عن ابن مسعود قال قلنا يا رسول الله فيم نكفنك؟ قال: فى ثيابى هذه أو فى ثياب مصر. قال محمد بن عبد الجبار فى حديثه أو فى ثياب مصر أو فى حلّة قال أحدهما أو فى يمنة.
قال ابن أبى مريم قال ابن لهيعة وكان اسم أخت مارية قيصرا. «1» ويقال بل كان اسمها سيرين «2» .
وحدثنا عبد الملك بن مسلمة حدثنا ابن لهيعة عن الأعرج قال بعث المقوقس صاحب الإسكندرية بمارية وأختها حنّة فأسكنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى صدقته فى بنى قريظة.
وحدثنا هانئ بن المتوكّل حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب وابن هبيرة أن الحسن بن علىّ كلّم معاوية بن أبى سفيان فى أن يضع الجزية عن جميع قرية أمّ إبراهيم لحرمتها ففعل ووضع الخراج عنهم فلم يكن على أحد منهم خراج وكان جميع أهل القرية من أهلها وأقربائها فانقطعوا إلا بيتا واحدا قد بقى منهم أناس.
حدثنا عبد الملك بن [مسلمة حدثنا إسماعيل بن «3» ] عيّاش عن أبى بكر بن أبى

(1/73)


مريم عن راشد بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لو بقى إبراهيم ما تركت قبطيّا إلّا وضعت عنه الجزية وكانت وفاة مارية فى المحرّم سنة خمس عشرة ودفنت بالبقيع وصلىّ عليها عمر بن الخطاب. وكان الرسول بها من قبل المقوقس كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة، ابن جبر.
ثم إن أبا بكر الصدّيق بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة عن ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علىّ بن رباح اللخمىّ بعث حاطبا إلى المقوقس بمصر فمرّ على ناحية قرى الشرقية «1» فهادنهم وأعطوه فلم يزالوا على ذلك حتى دخلها عمرو بن العاص فقاتلوه فانتقض ذلك العهد. قال عبد الملك وهى أوّل هدنة كانت بمصر.
(2 قال ابن هشام: اسم أبى بلتعة عمرو وحاطب لخمى 2) وفى ذلك يقول حسان ابن ثابت كما حدثنا وثيمة بن موسى:
قل لرسل النّبيّ صاح الى النا ... س شجاع ودحية بن خليفه
ولعمرو وحاطب وسليط ... ولعمرو وذاك رأس الصحيفه
فى أبيات ذكر فيها رسل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الملوك.
ذكر سبب دخول عمرو بن العاص مصر
قال ثم رجع إلى حديث عثمان بن صالح قال فلما كانت سنة ثمانى عشرة وقدم عمر الجابية خلا به عمرو بن العاص فاستأذنه فى المسير إلى مصر، وكان عمرو قد دخل مصر فى الجاهليّة وعرف طرقها ورأى كثرة ما فيها، وكان سبب دخول عمرو إياها كما حدثنا يحيى بن خالد العدوىّ عن ابن لهيعة ويحيى بن أيوب «3» عن خالد بن يزيد أنه بلغه أن عمرا قدم إلى بيت المقدس لتجارة فى نفر من قريش فإذا هم بشمّاس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية قدم للصلاة فى بيت المقدس، فخرج فى بعض

(1/74)


جبالها يسيح «1» ، وكان عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه، وكانت رعية الإبل نوبا بينهم.
فبينا عمرو يرعى إبله إذ مرّ به ذلك الشمّاس وقد أصابه عطش شديد فى يوم شديد الحرّ، فوقف على عمرو فاستسقاه فسقاه عمرو من قربة له، فشرب حتى روى ونام الشمّاس مكانه. وكانت إلى جنب الشمّاس حيث نام حفرة فخرجت منها حيّة عظيمة، فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم «2» فقتلها، فلما استيقظ الشماس نظر إلى حيّة عظيمة قد أنجاه الله منها. فقال: لعمرو: ما هذه؟ فأخبره عمرو أنه رماها فقتلها. فأقبل إلى عمرو فقبل رأسه وقال: قد أحيانى «3» الله بك مرّتين، مرّة من شدّة العطش، ومرّة من هذه «4» الحيّة. فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: قدمت مع أصحاب لى نطلب الفضل فى تجارتنا. فقال له الشمّاس: وكم تراك ترجو أن تصيب فى تجارتك؟ قال: رجائى أن أصيب ما أشترى به بعيرا، فإنى لا أملك إلّا بعيرين، فأملى أن أصيب بعيرا آخر فتكون ثلاثة أبعرة.
فقال له الشمّاس: أرأيت دية أحدكم بينكم كم هى؟ قال: مائة من الإبل. قال له الشمّاس: لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب دنانير قال يكون ألف دينار فقال له الشمّاس: إنى رجل غريب فى هذه البلاد وإنما قدمت أصلّى فى كنيسة بيت المقدس وأسيح فى هذه الجبال «5» شهرا جعلت ذلك نذرا على نفسى وقد قضيت ذلك وأنا أريد الرجوع إلى بلادى فهل لك أن تتبعنى إلى بلادى ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين لأن الله تعالى أحيانى بك مرّتين فقال له عمرو أين بلادك؟ قال: مصر فى مدينة يقال لها الإسكندرية فقال له عمرو لا أعرفها ولم أدخلها قطّ فقال له الشمّاس لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قطّ مثلها فقال عمرو وتفى لى بما تقول وعليك بذلك العهد والميثاق؟ فقال له الشمّاس نعم لك الله علىّ بالعهد والميثاق أن أفى لك وأن أردّك إلى أصحابك فقال عمرو وكم يكون مكثى فى ذلك؟ قال شهرا تنطلق معى ذاهبا عشرا وتقيم عندنا عشرا وترجع فى عشر ولك علىّ أن أحفظك ذاهبا وأن أبعث معك من يحفظك راجعا فقال له عمرو أنظرنى حتى أشاور أصحابى فى ذلك فانطلق عمرو إلى

(1/75)


أصحابه فأخبرهم بما عاهده عليه الشمّاس وقال لهم تقيموا علىّ حتى أرجع إليكم ولكم علىّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبنى رجل منكم آنس به فقالوا نعم وبعثوا معه رجلا منهم، فانطلق عمرو وصاحبه مع الشمّاس إلى مصر حتى انتهى إلى الإسكندرية، فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير ما أعجبه، وقال ما رأيت مثل مصر قطّ وكثرة ما فيها من الأموال ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة بنائها وكثرة أهلها وما بها من الأموال فازداد عجبا. ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم ولهم أكرة من ذهب مكلّلة يترامى بها ملوكهم وهم يتلقّونها بأكمامهم. وفيما اختبروا من تلك الأكرة على ما وضعها من مضى منهم أنها من وقعت الأكرة فى كمّه واستقرّت فيه لم يمت حتى يملكهم. فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه الشمّاس الإكرام كلّه وكساه ثوب ديباج ألبسه إيّاه وجلس عمرو والشمّاس مع الناس. فى ذلك المجلس حيث يترامون بالأكرة وهم يتلقّونها بأكمامهم فرمى بها رجل منهم فأقبلت تهوى حتى وقعت فى كمّ عمرو فعجبوا من ذلك وقالوا ما كذبتنا هذه الأكرة قط إلّا هذه المرّة. أترى هذا الأعرابىّ يملكنا هذا ما لا يكون أبدا! وان ذلك الشمّاس مشى فى أهل الإسكندرية وأعلمهم أن عمرا أحياه مرّتين وأنه قد ضمن له ألفى دينار وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم ففعلوا ودفعوها إلى عمرو فانطلق عمرو وصاحبه وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا وزودّهما وأكرمهما حتى رجع وصاحبه إلى أصحابهما، فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد وأكثره مالا. فلما رجع عمرو إلى أصحابه دفع إليهم فيما بينهم ألف دينار وأمسك لنفسه ألفا قال عمرو فكان أوّل مال اعتقدته وتأثّلته.
ذكر فتح مصر
حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبى جعفر، وعيّاش ابن عبّاس القتبانىّ وغيرهما، يزيد بعضهم على بعض، قال: (* فلما قدم عمر بن الخطاب

(1/76)


الجابية «1» قام إليه عمرو فخلا به وقال يا أمير المؤمنين ائذن «2» لى أن أسير إلى مصر وحرّضه عليها وقال إنك إن فتحتها كانت قوّة للمسلمين وعونا لهم، وهى أكثر الأرض أموالا وأعجزها عن القتال والحرب، فتخّوف عمر بن الخطّاب على المسلمين، وكره ذلك، فلم يزل عمرو يعظّم أمرها عند عمر بن الخطّاب ويخبره بحالها ويهوّن عليه فتحها حتى ركن «3» لذلك عمر، فعقد له على أربعة آلاف رجل كلهم من عكّ. ويقال بل ثلاثة آلاف وخمسمائة.
حدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أن عمرو بن العاص دخل مصر بثلاثة آلاف وخمسمائة.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب مثله، إلّا أنه قال: ثلثهم غافق.
قال ثم رجع إلى حديث عثمان «4» قال: فقال له عمر: سر وأنا مستخير الله فى مسيرك، وسيأتيك كتابى سريعا إن شاء الله، فإن أدركك كتابى آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئا من أرضها فانصرف، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابى فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره.
فسار عمرو بن العاص من جوف الليل ولم يشعر به أحد من الناس، واستخار عمر الله فكأنه تخوّف على المسلمين فى وجههم ذلك، فكتب إلى عمرو بن العاص أن ينصرف بمن معه من المسلمين، فأدرك الكتاب عمرا وهو برفح، فتخوّف عمرو بن العاص إن هو أخذ الكتاب وفتحه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول ودافعه وسار كما هو حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش، فسأل

(1/77)


عنها فقيل إنها من مصر «1» ، فدعا بالكتاب فقرأه على المسلمين، فقال عمرو لمن معه:
ألستم تعلمون أن هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى، قال: فإنّ «2» أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى إن لحقنى كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقنى كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله «3» .
ويقال بل كان عمرو بفلسطين، فتقدّم بأصحابه إلى مصر بغير إذن فكتب فيه إلى عمر، فكتب إليه عمر وهو دون العريش، فحبس الكتاب فلم يقرأه حتى بلغ العريش فقرأه، فإذا فيه: من عمر بن الخطّاب إلى العاص بن العاص، أمّا بعد، فإنك سرت إلى مصر ومن «4» معك، وبها جموع الروم، وإنما معك نفر يسير، ولعمرى لو كانوا ثكل أمّك ما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع. فقال عمرو: الحمد لله، أيّة أرض هذه؟ قالوا: من مصر، فتقدّم كما هو*) . حدثنا ذلك عثمان بن صالح عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب.
ويقال بل كان عمرو فى جنده على قيساريّة مع من كان بها من أجناد المسلمين، وعمر بن الخطّاب إذ ذاك بالجابية، فكتب سرّا، فاستأذن إلى مصر، وأمر أصحابه فتنحّوا كالقوم الذين يريدون أن يتنحّوا من منزل إلى منزل قريب، ثم سار بهم ليلا، فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذي فعل، ورأوا أن قد غرر، فرفعوا ذلك إلى عمر ابن الخطّاب، فكتب إليه عمر: إلى العاص بن العاص، أما بعد، فإنك قد غررت بمن معك، فإن أدركك كتابى ولم تدخل مصر فارجع، وإن أدركك وقد دخلت «5» فامض واعلم أنى ممدّك. فيما حدثنا عبد الله بن مسلمة، ويحيى بن خلد، عن الليث بن سعد.
قال ويقال: إن عمر بن الخطّاب كتب إلى عمرو بن العاص بعد ما فتح الشام: أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خفّ معك فسر به وبعث به مع شريك بن عبدة، فندبهم عمرو فأسرعوا إلى الخروج مع عمرو، ثم إن عثمان بن عفان دخل على

(1/78)


عمر بن الخطّاب، فقال عمر: كتبت إلى «1» عمرو بن العاص يسير إلى مصر من الشام، فقال عثمان: يا أمير المؤمنينّ، إن عمرا لمجرّأ، وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج فى غير ثقة ولا جماعة، فيعرّض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدرى «2» تكون أم لا، فندم عمر بن الخطاب على كتابه إلى عمرو إشفاقا ممّا قال عثمان، فكتب إليه إن أدركك كتابى قبل أن تدخل مصر فارجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت فامض لوجهك.
(* وكانت صفة عمرو بن العاص كما حدثنا سعيد بن عفير، عن الليث بن سعد، قصيرا عظيم الهامة، ناتئ الجبهة، واسع الفم، عظيم اللحية، عريض ما بين المنكبين، عظيم الكفّين والقدمين. قال الليث يملأ هذا المسجد.
قال فلمّا بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، توجّه إلى الفسطاط فكان يجهّز على عمرو الجيوش، وكان على القصر رجل من الروم يقال له الأعيرج «3» واليا عليه، وكان «4» تحت يدى المقوقس، وأقبل عمرو حتى إذا كان بجبل الحلال نفرت معه راشدة وقبائل من لخم، فتوجّه عمرو حتى إذا كان بالعريش أدركه النحر.
فحدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، قال:
فضحّى عمرو عن أصحابه يومئذ بكبش.
وكان رجل ممّن كان خرج مع عمرو بن العاص حين خرج من الشام إلى مصر كما حدثنا هانئ بن المتوكل، عن أبى شريح عبد الرحمن بن شريح، عن عبد الكريم بن الحارث أصيب بجمل له، فأتى إلى عمرو يستحمله، فقال له عمرو: تحمّل مع أصحابك حتى نبلغ «5» أوائل العامر، فلما بلغوا العريش جاءه فأمر له بجملين «6» ، ثم قال له: لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمّتكم، فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا.

(1/79)


قال ثم رجع إلى حديث عثمان بن صالح، قال: فتقدّم «1» عمرو بن العاص فكان أول موضع قوتل فيه الفرما، قاتلته الروم قتالا شديدا نحوا من شهر، ثم فتح الله على يديه.
وكان عبد الله بن سعد، كما حدثنا سعيد بن عفير على ميمنة عمرو بن العاص منذ توجّه من قيساريّة إلى أن فرغ من حربه.
وقال غير ابن عفير من مشايخ أهل مصر: وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو بنيامين فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، كتب إلى القبط يعلّمهم أنه لا تكون للروم دولة وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقّى عمرو. فيقال إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا.
قال عثمان فى حديثه ثم توجّه عمرو لا يدافع الا بالأمر الخفيف، حتى نزل القواصر*) .
فحدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن وهب، حدثنا عبد الرحمن بن شريح، أنه سمع شراحيل بن يزيد، يحدّث عن أبى الحسين، أنه سمع رجلا من لخم يحدث كريب بن أبرهة، قال: كنت أرعى غنما لأهلى «2» بالقواصر، فنزل عمرو ومن معه فدنوت إلى أقرب «3» منازلهم، فإذا بنفر من القبط كنت قريبا منهم فقال بعضهم لبعض:
ألا تعجبون من هؤلاء القوم يقدمون على جموع الروم، وإنما هم فى قلّة من الناس، فأجابه رجل آخر منهم، فقال: إنّ هؤلاء القوم لا يتوجّهون إلى أحد إلا ظهروا عليه، حتى يقتلوا خيرهم، قال فقمت إليه فأخذت بتلابيبه فقلت: أنت تقول هذا. انطلق معى إلى عمرو بن العاص حتى يسمع الذي قلت فطلب إلىّ أصحابه وغيرهم حتى خلّصوه، فرددت الغنم إلى منزلى، ثم جئت حتى دخلت فى القوم.
قال عثمان فى حديثه فيقدم «4» عمرو لا يدافع إلّا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس، فقاتلوه به نحوا من شهر حتى فتح الله عليه، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر

(1/80)


حتى أتى أمّ دنين، فقاتلوه بها قتالا شديدا وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمدّه فأمدّه بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف فقاتلهم.
ثم رجع إلى حديث ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، عن شراحيل بن يزيد، عن أبى الحسين، أنه سمع رجلا من لخم. قال: فجاء رجل إلى عمرو بن العاص فقال اندب معى خيلا حتى آتى من ورائهم عند القتال، فأخرج معه خمسمائة فارس، فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بنى وائل قبل الصبح. وكانت الروم قد خندقوا خندقا وجعلوا له أبوابا وبثّوا فى أفنيتها «1» حسك الحديد. فالتقى القوم حين صبحوا «2» ، وخرج اللخمىّ بمن معه من ورائهم فانهزموا حتى دخلوا الحصن.
قال غير ابن وهب: بعث خمسمائة عليهم خارجة بن حذافة، قال: فلما كان فى وجه الصبح نهض القوم فصلّوا الصبح ثم ركبوا خيلهم. وغدا عمرو بن العاص على القتال فقاتلهم «3» من وجههم وحملت «4» الخيل التى وجّه من ورائهم وأقحمت عليهم فانهزموا، وكانوا قد خندقوا حول الحصن وجعلوا للخندق أبوابا.
قال ابن وهب فى حديثه عن عبد الرحمن بن شريح: فسار عمرو بمن معه حتى نزل على الحصن فحاصرهم حتى سألوه أن يسيّر منهم بضعة عشر أهل بيت ويفتحوا له الحصن ففعل ذلك، ففرض «5» عليهم عمرو لكلّ رجل من أصحابه دينارا وجبّة وبرنسا وعمامة وخفّين، وسألوه أن يأذن لهم أن يهيئوا له ولأصحابه صنيعا ففعل.
فحدثنى أبى عبد الله بن عبد الحكم، أن عمرو بن العاص أمر أصحابه فتهيّأوا ولبسوا البرود ثم أقبلوا.
قال ابن وهب فى حديثه: فلما فرغوا من طعامهم سألهم عمرو كم أنفقتم؟
قالوا: عشرين ألف دينار، قال عمرو: لا حاجة لنا بصنيعكم بعد اليوم، أدّوا إلينا عشرين ألف دينار. فجاءه النفر من القبط فاستأذنوه إلى قراهم وأهليهم، فقال لهم عمرو: كيف

(1/81)


رأيتم أمرنا؟ قالوا: لم نر إلّا حسنا، فقال الرجل الذي قال فى المرّة الأولى ما قال لهم:
إنكم لن تزالوا تظهرون على كلّ من لقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا، فغضب عمرو وأمر به فطلب إليه أصحابه وأخبروه أنه لا يدرى ما يقول حتى خلّصوه، فلما بلغ عمرا قتل عمر بن الخطّاب أرسل فى طلب ذلك القبطىّ فوجده «1» قد هلك، فعجب عمرو من قوله.
قال غير ابن وهب، قال عمرو بن العاص: فلما طعن عمر بن الخطاب قلت هو ما قال القبطىّ، فلما حدّثت أنه إنما قتله أبو لؤلؤة رجل نصرانىّ، قلت: لم يعن هذا، إنما عنى من قتله المسلمون، فلما قتل عثمان عرفت أنّ ما قال الرجل حقّ.
قال أبى فى حديثه: فلما فرغوا من صنيعهم أمر عمرو بن العاص بطعام فصنع لهم وأمرهم أن يحضروا لذلك، فصنع لهم الثريد والعراق وأمر أصحابه بلباس الأكسية واشتمال الصمّاء والقعود على الركب، فلما حضرت الروم وضعوا كراسىّ الديباجّ «2» فجلسوا عليها، وجلست العرب إلى جوانبهم، فجعل الرجل من العرب يلتقم اللقمة العظيمة من الثريد وينهش من ذلك اللحم فيتطاير على من إلى جنبه من الروم، فبشعت الروم بذلك، وقالوا: أين أولئك الذين كانوا أتونا قبل؟ فقيل لهم: أولئك أصحاب المشورة، وهؤلاء أصحاب الحرب.
قال: وقد سمعت فى فتح القصر وجها غير هذا.
حدثنا عثمان بن صالح، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبى جعفر، وعياش ابن عبّاس وغيرهما «3» ، يزيد بعضهم على بعض، أن عمرو بن العاص حصرهم بالقصر الذي يقال له بابليون «4» حيّنا، وقاتلهم قتالا شديدا يصبّحهم ويمسّيهم، فلما أبطأ الفتح عليه، كتب إلى عمر بن الخطّاب يستمدّه «5» ويعلمه ذلك «6» ، فأمدّه عمر بأربعة آلاف

(1/82)


رجل على كلّ ألف رجل منهم رجل، وكتب إليه عمر بن الخطاب: إنى قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كلّ ألف رجل منهم رجل مقام الألف «1» ، الزبير بين العوّام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلّد. وقال آخرون: بل خارجة بن حذافة الرابع، لا يعدّون مسلمة.
وقال عمر بن الخطاب: اعلم أنّ معك اثنى عشر ألفا ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة.
قال عثمان، قال ابن وهب: فحدثنى الليث بن سعد، قال: بلغنى عن كسرى أنه كان له رجال إذا بعث أحدهم فى جيش وضع من عدّة الجيش الذي كان معه ألفا مكانه لإجزاء ذلك الرجل فى الحرب، وإذا احتاج إلى أحدهم فكان فى جيش فحبسه لحاجته إليه، زادهم ألف رجل.
قال الليث: فأنزلت الذي صنع عمر بن الخطاب فى بعثته بالزبير والمقداد ومن بعث معهما نحو ما كان يصنع كسرى.
حدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، قال: كان عمر بن الخطّاب قد أشفق على عمرو فأرسل الزبير فى أثره فى اثنى عشر ألفا فشهد معه الفتح.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث وابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أن عمر بن الخطّاب بعث الزبير بن العوّام فى اثنى عشر ألفا.
وقال غير عثمان: فكانوا قد خندقوا حول حصنهم، وجعلوا للخندق أبوابا وجعلوا سكك الحديد موتدة بأفنية الأبواب، وكان عمرو قد قدم من الشام فى عدّة قليلة، فكان يفرّق أصحاب ليرى العدوّ «2» أنهم أكثر ممّا هم، فلمّا انتهى إلى الخندق نادوه أن قد رأينا ما صنعت، وإنما معك من أصحابك كذا وكذا، فلم يخطئوا برجل واحد، فأقام عمرو على ذلك أيّاما، يغدو فى السحر فيصفّ أصحابه على أفواه الخندق عليهم السلاح، فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير بن العوّام ثم قدم الزبير بن العوّام فى اثنى عشر ألفا،

(1/83)


فتلقّاه عمرو، ثم أقبلا يسيران، ثم لم يلبث الزبير أن ركب ثم طاف بالخندق ثم فرّق الرجال حول الخندق.
ثم رجع إلى حديث عثمان، عن ابن لهيعة، قال: فلما قدم المدد على عمرو بن العاص ألحّ على القصر ووضع عليه المنجنيق، وقال عمرو يومئذ:
يوم لهمدان ويوم للصّدف ... والمنجنيق فى لىّ تختلف
وعمرو يرقل ارقال الشّيخ الخرف
وكان عمرو إنما يقف تحت راية بلىّ فيما يزعمون.
(* وقد كان عمرو بن العاص كما أخبرنى شيخ من أهل مصر قد دخل إلى صاحب الحصن فتناظرا فى شىء مما هم فيه، فقال عمرو: أخرج أستشير «1» أصحابى، وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على باب إذا مرّ به «2» عمرو أن يلقى عليه صخرة فيقتله، فمرّ عمرو، وهو يريد الخروج، برجل من العرب، فقال له: قد دخلت فانظر كيف تخرج، فرجع عمرو إلى صاحب الحصن، فقال له: إنى أريد أن آتيك بنفر من أصحابى حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت. فقال العلج فى نفسه: قتل جماعة أحبّ إلىّ من قتل واحد، وأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره به من قتل عمرو ألّا تعرّض «3» له رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم وخرج عمرو.*) هذا أو معناه.
حدثنا عيسى بن حمّاد. قال: لما حصر المسلمون الحصن، كان عبادة بن الصامت فى ناحية يصلّى وفرسه عنده، فرآه قوم من الروم فخرجوا إليه وعليهم «4» حلية وبزّة فلما دنوا منه سلّم من صلاته، ووثب على فرسه، ثم حمل عليهم، فلما رأوه غير مكذّب عنهم ولّوا راجعين، واتّبعهم، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم، ولا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن، ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة،

(1/84)


فرجع ولم يعرض لشىء مما كانوا طرحوا من متاعهم حتى رجع إلى موضعه الذي كان به، فاستقبل الصلاة، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه «1» .
حدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار، حدثنا المفضّل بن فضالة، أخبرنا عياش بن عبّاس القتبانىّ، عن شييم «2» بن بيتان، عن شيبان بن أميّة، عن رويفع بن ثابت، قال:
كان أحدنا فى زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأخذ نضو أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم، وله النصف، حتى إنّ أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح «3» . وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من استنجى برجيع دابّته أو بعظم فإن محمّدا منه برئ.
قال عيّاش بن عبّاس: وأخبرنى شييم بن بيتان، عن أبى سالم الجيشانى أنه سمع عبد الله بن عمرو وهو مرابط حصن بابليون، يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهذا الحديث.
(4 قال عثمان فى حديثه: فلما أبطأ الفتح على عمرو بن العاص، قال الزبير: إنى أهب نفسى لله، أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلّما إلى جانب الحصن «5» من ناحية سوق الحمّام، ثم صعد، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا.
قال غير عثمان: فما شعروا إلّا والزبير على رأس الحصن يكبّر، معه «6» السيف، وتحامل الناس على السلّم حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر.
قال ثم رجع إلى حديث عثمان، قال: فلما اقتحم الزبير، وتبعه من تبعه، وكبّر وكبّر من معه، وأجابهم المسلمون من خارج لم يشكّ أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعا، فهربوا، فعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن، فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه فحينئذ سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه على أن يفرض للعرب على القبط دينارين دينارين على كل رجل منهم فأجابه عمرو إلى ذلك 4) .

(1/85)


حدثنا سعيد بن عفير، قال: وصعد مع الزبير الحصن محمّد بن مسلمة ومالك بن أبى سلسلة السلامىّ، ورجال من بنى حرام، وأن شرحبيل بن حجيّة المرادىّ نصب سلّما آخر من ناحية زقاق الزمامرة اليوم، فصعد عليه، فكان بين الزبير وبين شرحبيل شىء على باب أو مدخل، فكأنّ شرحبيل نال من الزبير بعض ما كره، فبلغ ذلك عمرو بن العاص، فقال له: استقد منه إن شئت، فقال الزبير: أمن نغفة من نغف اليمن أستقيد يا بن النابغة؟
وكانت صفة الزبير بن العوّام، كما حدثنا هشام بن إسحاق فيما يزعمون، أبيض حسن القامة، ليس بالطويل، قليل شعر اللحية أهلب؛ كثير شعر الجسد.
وكان مكثهم كما حدثنا عثمان بن صالح، عن عبد الله بن وهب، عن الليث على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر. وقد سمعت فى فتح القصر وجها آخر مخالفا للحديثين جميعا. والله أعلم.
(1 حدثنا عثمان بن صالح، أخبرنا خالد بن نجيح، عن يحيى بن أيّوب، وخالد بن حميد، قالا: حدثنا خالد بن يزيد، عن جماعة من التابعين، بعضهم يزيد على بعض، أن المسلمين لما حاصروا بابليون، وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس «2» ، فقاتلوهم بها شهرا، فلما رأى القوم الجدّ منهم على فتحه، والحرص، ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه، خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحّى المقوقس وجماعة من أكابر القبط، وخرجوا من باب القصر القبلىّ ودونهم جماعة يقاتلون العرب فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة اليوم، وأمروا بقطع الجسر وذلك فى جرى النيل. وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الأعيرج «3» كان تخلّف «4» فى الحصن بعد المقوقس، فلما خاف فتح الحصن ركب هو وأهل القوّة والشرف، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة 1) .

(1/86)


(* ثم رجع إلى حديث يحيى بن أيّوب، وخالد بن حميد، قال: فأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص إنكم قوم قد ولجتم فى بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم فى أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلّتكم الروم وجهّزوا إليكم ومعهم من العدّة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم «1» ، فلعلّه أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبّون ونحبّ، وينقطع عنّا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلّكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم، فابعث إلينا رجالا من أصحابكم «2» نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شىء. فلما أتت عمرو ابن العاص رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أترون أنهم يقتلون الرسل، ويحبسونهم «3» ، ويستحلّون ذلك فى دينهم؟ وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين، فردّ عليهم عمرو مع رسله، أنه ليس بينى وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال: إمّا أن دخلتم «4» فى الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإمّا أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
فلما جاءت رسل المقوقس إليه، قال: لهم كيف رأيتموهم؟ قالوا: رأينا قوما الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحبّ إليه من الرفعة، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة «5» إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركّبهم وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيّد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلّف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشّعون فى صلاتهم.
فقال عند ذلك المقوقس: والذي يحلف به لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها،

(1/87)


وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل، لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من موضعهم.
فردّ إليهم «1» المقوقس رسله ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم، ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، أحدهم عبادة بن الصامت.
حدثنا سعيد بن عفير، قال: أدرك الإسلام من العرب عشرة نفر طول كلّ رجل منهم عشرة أشبار، عبادة بن الصامت أحدهم.
ثم رجع إلى حديث عثمان قال: وأمره عمرو أن يكون متكلّم القوم، وألّا يجيبهم إلى شىء دعوه إليه إلّا إحدى هذه الثلاث خصال؛ فإن أمير المؤمنين قد تقدّم إلىّ فى ذلك، وأمرنى ألّا أقبل شيئا سوى خصلة من هذه الثلاث خصال*) .
(* وكان عبادة بن الصامت أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه، تقدّم عبادة، فهابه المقوقس لسواده فقال: نحّوا عنّى هذا الأسود، وقدّموا غيره يكلّمنى، فقالوا جميعا: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيّدنا وخيرنا والمقدّم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به، وأمرنا بأن لا نخالف رأيه وقوله، قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم؟ وإنما ينبغى أن يكون هو دونكم، قالوا: كلّا، إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيّا، وليس ينكر السواد فينا.
فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود، وكلّمنى برفق؛ فإنى أهاب سوادك، وإن اشتدّ كلامك علىّ ازددت لذلك هيبة، فتقدّم إليه عبادة، فقال: قد سمعت مقالتك، وإنّ فيمن خلّفت من أصحابى ألف رجل أسود، كلّهم أشدّ سوادا منى وأفظع منظرا ولو رأيتهم «2» لكنت أهيب لهم منك لى، وأنا قد وليت، وأدبر شبابى، وإنى مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوّى لو استقبلونى جميعا، وكذلك أصحابى، وذلك أنّا

(1/88)


إنما رغبتنا وهمّتنا الجهاد فى الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدوّنا ممّن حارب الله لرغبة فى دنيا، ولا طلبا للاستكثار منها؛ إلا أن الله قد أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من ذهب، أم كان لا يملك إلّا درهما! لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعته لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله واقتصر على هذا الذي بيده ويبلغه ما كان فى الدنيا، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء فى الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمرنا به نبيّنا، وعهد إلينا ألا تكون همّة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همّته وشغله فى رضا ربّه وجهاد عدوّه.
فلما سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قطّ! لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندى من منظره؛ إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظنّ ملكهم إلا سيغلب على الأرض «1» كلّها.
ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت، فقال: أيّها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمرى ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبّهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدّة، ما يبالى أحدهم من لقى، ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم فى ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرقّ عليكم لضعفكم وقلّتكم وقلّة ما بأيديكم؛ ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكلّ رجل منكم دينارين دينارين؛ ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به*) .
«2» فقال عبادة بن الصامت: يا هذا؛ لا تغرنّ نفسك ولا أصحابك، أمّا ما تخوّفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنّا لا نقوى عليهم فلعمرى ما هذا بالذى تخوّفنا

(1/89)


به، ولا بالذى يكسرنا عمّا نحن فيه، إن كان ما قلتم حقّا فذلك والله أرغب ما يكون «1» فى قتالهم، وأشدّ لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربّنا إذا قدمنا عليه، إن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنّته، وما من شىء أقرّ لأعيننا، ولا أحبّ إلينا من ذلك؛ وإنّا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين؛ إمّا أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحبّ الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منّا، وإن الله عزّ وجلّ قال لنا فى كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «2»
، وما منّا رجل الّا وهو يدعو ربّه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وألّا يردّه إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همّ فيما خلّفه، وقد استودع كلّ واحد منا ربّه أهله وولده؛ وإنما همّنا ما أمامنا.
وأمّا قولك: إنا فى ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا؛ فنحن فى أوسع السعة لو كانت الدنيا كلّها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه.
فانظر الذي تريد فبيّنه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك، ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أيّها شئت، ولا تطمع نفسك فى الباطل؛ بذلك أمرنى الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قبل إلينا، إمّا أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا، وكان أخانا فى دين الله؛ فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك، فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلّ أذاكم، ولا التعرّض لكم، فإن أبيتم إلا الجزية فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شىء نرضى به نحن وأنتم فى كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم فى شىء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم، إذ كنتم فى ذمّتنا، وكان لكم به عهد علينا «3» ، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا، أو نصيب ما نريد منكم؛ هذا ديننا الذي ندين الله به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.

(1/90)


فقال له المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا، ما تريدون إلا أن تتخذونا نكون لكم عبيدا ما كانت الدنيا.
فقال له عبادة بن الصامت: هو ذاك، فاختر ما شئت.
فقال له المقوقس: أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الثلاث خصال؟ فرفع عبادة يديه، فقال: لا وربّ هذه السماء وربّ هذه الأرض وربّ كل شىء، ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.
فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه، فقال: قد فرغ القوم فما ترون؟ فقالوا:
أو يرضى أحد بهذا الذلّ! أمّا ما أرادوا من دخولنا فى دينهم؛ فهذا ما لا يكون أبدا أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل فى دين غيره لا نعرفه، وأمّا ما أرادوا من أن يسبونا ويجعلونا عبيدا فالموت أيسر من ذلك؛ لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا، كان أهون علينا.
فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم فما ترى؟ فراجع صاحبك، على أن نعطيكم فى مرّتكم هذه ما تمنّيتم «1» وتنصرفون.
فقام عبادة وأصحابه، فقال المقوقس عند ذلك لمن حوله: أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين، لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم كارهين.
فقالوا: وأىّ خصلة نجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم، أمّا دخولكم فى غير دينكم، فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا اعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثالثة؛ قالوا: أفنكون لهم عبيدا أبدا؟ قال: نعم تكونوا عبيدا مسلّطين فى بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا من آخركم، وتكونوا عبيدا تباعوا وتمزّقوا فى البلاد مستعبدين أبدا، أنتم وأهلوكم وذراريكم، قالوا: فالموت أهون علينا.

(1/91)


وأمروا بقطع الجسر «1» من «2» الفسطاط؛ وبالجزيرة «3» وبالقصر من جمع «4» القبط والروم جمع كثير، فألحّ عليهم المسلمون عند ذلك بالقتال على من فى القصر حتى ظفروا بهم، وأمكن الله منهم، فقتل منهم خلق كثير، وأسر من أسر، وانحازت السفن كلّها إلى الجزيرة، وصار المسلمون قد أحدق بهم الماء من كل وجه «5» ، لا يقدرون على أن ينفذوا «6» نحو الصعيد، ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم؟ ما تنتظرون! فو الله لتجيبنّهم «7» إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهّم «7» إلى ما هو أعظم منه كرها، فأطيعونى من قبل أن تندموا.
فلما رأوا منهم ما رأوا، وقال لهم المقوقس ما قال، أذعنوا بالجزية، ورضوا بذلك على صلح يكون بينهم يعرفونه، وأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص: إنى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التى أرسلت إلىّ بها، فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الروم والقبط، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم، وقد عرفوا نصحى لهم وحبّى صلاحهم، ورجعوا إلى قولى، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت فى نفر من أصحابى وأنت فى نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تمّ ذلك لنا جميعا؛ وإن لم يتمّ رجعنا إلى ما كنّا عليه.
فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك فقالوا: لا نجيبهم إلى شىء من الصلح ولا الجزية، حتى يفتح الله علينا وتصير الأرض كلّها لنا فيئا وغنيمة، كما صار لنا القصر وما فيه، فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التى عهد إلىّ فيها أجبتهم إليها، وقبلت منهم، مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم. فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران عن كل نفس شريفهم

(1/92)


ووضيعهم، من «1» بلغ الحلم منهم، ليس على الشيخ الفانى، ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا النساء «2» شىء، وعلى أن للمسلمين عليهم النزل لجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك، كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة «3» عليهم، وأن لهم أرضهم وأموالهم، لا يعرض لهم فى شىء منها.
فشرط هذا كلّه على القبط خاصّة، وحصوا «4» عدد القبط يومئذ خاصّة من بلغ منهم الجزية، وفرض عليه الديناران، رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكّدة، فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط فيما أحصوا وكتبوا ورفعوا «5» أكثر من ستّة آلاف ألف نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كل سنة.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن ميمون الحضرمىّ، قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر، صالح عن جميع من فيها من الرجال من القبط ممّن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبىّ، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين، فبلغت عدّتهم ثمانية.
قال وحدثنى عبد الله بن صالح، حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، أن المقوقس صالح عمرو بن العاص على أن يفرض على القبط دينارين دينارين على كل رجل منهم.
ثم رجع إلى حديث يحيى بن أيوب وخالد بن حميد، قال: وشرط المقوقس للروم أن يخيّروا، فمن أحبّ منهم أن يقيم على مثل هذا أقام على ذلك لازما له، مفترضا عليه ممّن أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلّها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج، وعلى أن للمقوقس الخيار فى الروم خاصّة؛ حتى يكتب إلى ملك

(1/93)


الروم يعلمه ما «1» فعل، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم؛ وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه.
وكتبوا به كتابا، وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتابا يعلمه على وجه الأمر كلّه، فكتب إليه ملك الروم يقبّح رأيه ويعجّزه، ويردّ عليه ما فعل، ويقول فى كتابه: إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا، وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى؛ فإن كان القبط كرهوا القتال، وأحبّوا أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا، فإنّ عندك بمصر من الروم بالإسكندرية «2» ومن معك أكثر من مائة ألف، معهم العدّة والقوّة.
والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت، فعجزت عن قتالهم، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم فى حال القبط أذلّاء، ألا تقاتلهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت، أو تظهر «3» عليهم؛ فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوّتكم، وعلى قدر قلّتهم وضعفهم كأكلة، فناهضهم القتال، ولا يكون لك رأى غير ذلك. وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم.
فقال المقوقس لّما أتاه كتاب ملك الروم: والله إنهم على قلّتهم وضعفهم أقوى وأشدّ منّا على كثرتنا وقوّتنا، إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منّا؛ وذلك أنهم قوم الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل «4» ، يتمنّى ألّا يرجع إلى أهله ولا بلده ولا ولده، ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوا منا، ويقولون:
إنهم إن قتلوا دخلوا الجنّة، وليس لهم رغبة فى الدنيا، ولا لذّة إلّا قدر بلغة العيش من الطعام واللباس، ونحن قوم نكره الموت، ونحبّ الحياة ولذّتها، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء، وكيف صبرنا معهم! واعلموا معشر الروم، والله إنى لا أخرج مما دخلت فيه، ولا صالحت العرب عليه؛ وإنى لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى رأيى وقولى «5» وتتمنون أن لو كنتم أطعتمونى؛ وذلك أنى قد عاينت ورأيت، وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره، ولم

(1/94)


يعرفه، ويحكم! أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السنة!
ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن العاص، فقال له: إنّ الملك قد كره ما فعلت وعجّزنى، وكتب إلىّ وإلى جماعة الروم ألا نرضى بمصالحتك، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم، ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه، وإنما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى، وقد تمّ صلح القبط فيما بينك وبينهم؛ ولم يأت من قبلهم نقض، وأنا متمّ لك على نفسى، والقبط متمّون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاهدتهم، وأما الروم فأنا منهم برئ. وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال.
قال له عمرو: ما هنّ؟ قال: لا تنقض بالقبط، وأدخلنى معهم وألزمنى ما لزمهم، وقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه، فهم متمّون لك على ما تحبّ.
وأما الثانية إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا، فإنهم أهل ذلك، لأنى «1» نصحتهم فاستغشّونى، ونظرت لهم فاتّهمونى. وأما الثالثة، أطلب إليك إن أنا متّ، تأمرهم يدفنونى فى أبى يحنّس بالإسكندرية.
فأنعم له عمرو بن العاص بذلك وأجابه إلى ما طلب، على أن يضمنوا له الجسرين جميعا، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة والأسواق والجسور؛ ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية ففعلوا.
وقال عثمان: وصارت لهم القبط أعوانا كما جاء فى الحديث.
ويقال: إن المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص على الروم وهو محاصر الإسكندرية.
حدثنا يحيى بن خالد العدوىّ، عن الليث بن سعد، أن عمرو بن العاص لما فتح «2» الإسكندرية حاصر أهلها ثلاثة أشهر، وألحّ عليهم، وخافوه، وسأله المقوقس الصلح عنهم كما صالحه على القبط على أن يستنظر رأى الملك.
قال فحدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، أن

(1/95)


المقوقس الرومىّ الذي كان ملكا على مصر، صالح عمرو بن العاص على أن يسير من الروم من أراد المسير ويقرّ من أراد الإقامة من الروم على أمر قد سمّاه، فبلغ ذلك هرقل ملك الروم فتسخّطه أشدّ التسخّط، وأنكره أشدّ الإنكار، وبعث الجيوش فأغلقوا الإسكندرية وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب، فخرج إليه المقوقس فقال أسألك ثلاثا، قال:
ما هنّ؟ قال: لا تبذل للروم ما بذلت لى، فإنى قد نصحت لهم فاستغشوا نصحى ولا تنقض بالقبط فإن النقض لم يأت من قبلهم، وأن تأمر بى إذا متّ فادفنّي فى أبى يحنّس، فقال عمرو: هذه أهونهنّ علينا.
ثم رجع إلى حديث عثمان، قال: فخرج عمرو بن العاص بالمسلمين حين أمكنهم الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد «1» أصلحوا لهم الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم، وسمعت بذلك الروم فاستعدّت واستجاشت، وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الروم فيها جمع من الروم عظيم بالعدّة والسلاح، فخرج إليهم عمرو بن العاص من الفسطاط متوجّها إلى الإسكندرية، فلم يلق منهم أحدا حتى بلغ ترنوط، فلقى بها طائفة من الروم فقاتلوه قتالا خفيفا، فهزمهم الله ومضى عمرو بمن معه حتى لقى جمع الروم بكوم شريك، فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله للمسلمين وولىّ الروم أكتافهم.
ويقال بل أرسل عمرو بن العاص شريك بن سمىّ فى آثارهم كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب فأدركهم عند الكوم الذي يقال له كوم شريك فقاتلهم شريك فهزمهم.
قال غير عبد الملك بن مسلمة: فلقيهم شريك بكوم شريك وكان على مقدّمة عمرو بن العاص وعمرو بترنوط فألجأوه إلى الكوم فاعتصم به، وأحاطت الروم به، فلما رأى ذلك شريك بن سمىّ أمر أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصدفىّ «2» وهو صاحب الفرس الأشقر الذي يقال له أشقر صدف، وكان لا يجارى سرعة فانحطّ عليهم من الكوم، وطلبته الروم فلم تدركه حتى أتى عمرا فأخبره، فأقبل عمرو متوجّها نحوه وسمعت به الروم فانصرفت.

(1/96)


وبالفرس الأشقر سمّيت خوخة الأشقر التى بمصر، وذلك أن الفرس نفق فدفنه صاحبه هنالك، فسمّى المكان به.
ثم رجع إلى حديث يحيى بن أيّوب، وخالد بن حميد، قال: ثم التقوا بسلطيس فاقتتلوا بها قتالا شديدا، ثم هزمهم الله، ثم التقوا بالكريون فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما، وكان عبد الله بن عمرو على المقدّمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو.
فحدثنا طلق بن السمح، ويحيى بن عبد الله بن بكير، قالا: حدثنا ضمام بن إسماعيل المعافرى حدثنا أبو قبيل، عن عبد الله بن عمرو، أنه لقى العدوّ بالكريون، وكان على المقدّمة، وحامل اللواء وردان مولى عمرو، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة، فقال: يا وردان، لو تقهقرت قليلا نصيب الروح؛ فقال: وردان: الروح تريد؟ الروح أمامك وليس هو خلفك، فتقدّم عبد الله فجاءه رسول أبيه يسأله عن جراحه، فقال عبد الله:
أقول إذا جاشت النفس إصبرى ... فعمّا قليل تحمدى أو تلامى «1»
فرجع الرسول إلى عمرو، فأخبره بما قال، فقال عمرو: هو ابنى حقّا.
حدثنا عثمان بن صالح أخبرنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص صلى يومئذ صلاة الخوف.
حدثنا أبى عبد الله بن عبد الحكم، والنضر بن عبد الجبّار، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، أن شيخا حدّثهم أنه صلّى صلاة الخوف بالإسكندرية مع عمرو بن العاص بكلّ طائفة ركعة وسجدتين.
ثم رجع إلى حديث يحيى بن أيّوب، وخالد بن حميد، قال: ثم فتح الله للمسلمين «2» وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية، فتحصّن بها الروم، وكانت عليهم حصون مبنيّة لا ترام، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس، إلى ما وراء ذلك؛ ومعهم رؤساء القبط يمدّونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة.

(1/97)


قال: فحدثنا هانئ بن المتوكّل، حدثنا ابن لهيعة، عن بكر بن عمرو الخولانى، أن عبد العزيز بن مروان حين قدم الإسكندرية سأل عن فتحها، فقيل له: لم يبق ممّن أدرك فتحها إلا شيخ كبير من الروم، فأمرهم فأتوه به، فسأله عمّا حضر من فتح الإسكندرية، فقال: كنت غلاما شابّا، وكان لى صاحب ابن بطريق «1» من بطارقة الروم، فأتانى، فقال: ألا تذهب بنا حتى ننظر إلى هؤلاء العرب الذين يقاتلوننا؟ فلبس ثياب ديباج، وعصابة ذهب، وسيفا محلّى، وركب برذونا سمينا كثير اللحم، وركبت أنا برذرنا خفيفا، فخرجنا من الحصون كلها حتى برزنا على شرف، فرأينا قوما فى خيام لهم عند كل خيمة فرس مربوط ورمح مركوز، ورأينا قوما ضعفاء، فعجبنا من ضعفهم، وقلنا: كيف بلغ هؤلاء القوم ما بلغوا؟ فبينا نحن وقوف ننظر إليهم ونعجب إذ خرج رجل منهم من بعض تلك الخيام، فنظر، فلما رآنا حلّ فرسه، فمعّكه، ثم مسحه، ووثب على ظهره وهو عرى، وأخذ الرمح بيده، وأقبل نحونا، فقلت لصاحبى: هذا والله يريدنا، فلما رأيناه مقبلا إلينا لا يريد غيرنا أدبرنا مولّين نحو الحصن، وأخذ فى طلبنا، فلحق صاحبى لأن برذونه كان ثقيلا كثير اللحم، فطعنه برمحه، فصرعه، ثم خضخض الرمح فى جوفه حتى قتله.
ثم أقبل فى طلبى، وبادرت، وكان برذونى خفيف اللحم، فنجوت منه حتى دخلت الحصن؛ فلما دخلت الحصن أمنت، فصعدت على سور الحصن أنظر إليه، فإذا هو لمّا أيس منى رجع، فلم يبال بصاحبى الذي قتله، ولم يرغب فى سلبه، ولم ينزعه عنه، وقد كان سلبه ثياب الديباج وعصابة من ذهب ولم يطلب دابّته، ولم يلتفت إلى شىء من ذلك، وانصرف من طريق أخرى، وأنا انظر إليه، وأسمعه يتكلّم بكلام، ويرفع به صوته، فظننت أنه إنما يقرأ بقرآن العرب، فعرفت عند ذلك أنهم إنما قووا على ما قووا عليه، وظهروا على البلاد لأنهم لا يطلبون الدنيا ولا يرغبون فى شىء منها، حتى بلغ خيمته، فنزل عن فرسه فربطه، وركز رمحه، ودخل خيمته، ولم يعلم بذلك أحدا من أصحابه.
فقال عبد العزيز: صف لى ذلك الرجل وهيئته وحالته «2» فقال: نعم، هو قليل

(1/98)


دميم، ليس بالتّام من الرجال فى قامته، ولا فى لحمه، رقيق آدم كوسج. فقال عبد العزيز عند ذلك: إنه ليصف صفة رجل يمانىّ.
قال: وحدثنا هانئ بن المتوكّل، حدثنا محمد بن يحيى الإسكندرانىّ، قال: نزل عمرو بن العاص بحلوة فأقام بها شهرين، ثم تحوّل إلى المقس، فأخرجت عليه الخيل من ناحية البحيرة مستترة بالحصن، فواقعوه، فقتل من المسلمين يومئذ بكنيسة الذهب اثنى عشر رجلا.
ثم رجع إلى حديث يحيى بن أيوب، وخالد بن حميد، قال: ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية فى المراكب بمادّة الروم، وكان ملك الروم يقول: لئن ظهرت العرب على الإسكندرية، إن ذلك انقطاع ملك الروم وهلاكهم؛ لأنه ليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية، وإنما كان عيد الروم بالإسكندرية حيث غلبت العرب على الشام، فقال الملك: لئن غلبونا على الإسكندرية لقد هلكت الروم، وانقطع ملكها، فأمر بجهازه ومصلحته لخروجه إلى الإسكندرية، حتى يباشر قتالها بنفسه إعظاما لها، وأمر ألا يتخلّف عنه أحد من الروم، وقال: ما بقاء الروم بعد الإسكندرية، فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته، وكفى المسلمين مئونته، وكان موته فى سنة تسع عشرة، فكسر الله بموته شوكة الروم، فرجع جمع كثير ممن كان قد توجّه إلى الإسكندرية.
حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث بن سعد، قال: مات هرقل فى سنة عشرين، وفيها فتحت «1» قيسارية الشام «2» .
قال ثم رجع إلى حديث يحيى بن أيوب، وخالد بن حميد، قال: واستأسدت العرب عند ذلك، وألحّت بالقتال على أهل الإسكندرية فقاتلوهم قتالا شديدا.
فحدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، قال:
خرج طرف من الروم من باب حصن الإسكندرية، فحملوا على الناس فقتلوا رجلا من مهرة فاحتزّوا رأسه، وانطلقوا به «3» ، فجعل المهريّون يتغضّبون ويقولون: لا ندفنه أبدا إلّا

(1/99)


برأسه، فقال عمرو بن العاص: تتغضّبون كأنكم تتغضّبون على من يبالى بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا منهم رجلا، ثم ارموا برأسه يرموكم برأس صاحبكم؛ فخرجت الروم إليهم، فاقتتلوا، فقتل من الروم رجل من بطارقتهم، فاحتزّوا رأسه، فرموا به إلى الروم، فرمت الروم برأس المهرىّ إليهم، فقال: دونكم الآن، فادفنوا صاحبكم.
وكان عمرو بن العاص كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، يقول: ثلاث قبائل من مصر، أمّا مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأمّا غافق فقوم يقتلون ولا يقتلون «1» ، وأمّا بلىّ فأكثرها رجلا صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأفضلها فارسا.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ضمام بن إسماعيل، حدثنا عيّاش بن عباس، أنه قال: لمّا حاصر المسلمون الإسكندرية، قال لهم صاحب المقدّمة: لا تعجلوا حتى آمركم برأيى، فلما فتح الباب دخل رجلان، فقتلا، فبكى صاحب المقدّمة، فقيل له: لم بكيت وهما شهيدان «2» ؟ قال: ليت أنّهما شهيدان، ولكن «3» سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنّة عاص، وقد أمرت ألّا يدخلوا حتى يأتيهم رأيى، فدخلوا بغير إذنى.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا الليث بن سعد، عن موسى بن علىّ، أن رجلا قال لعمرو بن العاص: لو جعلت المنجنيق ورميتهم به لهدم منه حائطهم، فقال عمرو: أتستطيع أن تغبّى مقامك من الصفّ؟ قال الليث: وقيل لعمرو، إن العدوّ قد غشوك، ونحن نخاف على رائطة، يريدون امرأته، قال: إذا تجدون رياطا كثيرة.
ثم رجع إلى حديث عثمان بن صالح، قال: حدثنى خالد بن نجيح، قال: أخبرنى الثقة أنّ عمرو بن العاص قاتل الروم بالإسكندرية يوما من الأيام قتالا شديدا؛ فلما استحرّ القتال بينهم بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلّد، فصرعه الرومى وألقاه عن فرسه، وهوى «4» إليه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه؛ وكان مسلمة لا يقام لسبيله «5» ،

(1/100)


ولكنها مقادير، ففرحت «1» بذلك الروم، وشقّ ذلك على المسلمين، وغضب عمرو بن العاص لذلك، وكان مسلمة كثير اللحم، ثقيل البدن. فقال عمرو بن العاص عند ذلك:
ما بال الرجل المسّته الذي يشبه النساء يتعرّض مداخل الرجال ويتشبّه بهم؟ فغضب من ذلك مسلمة، ولم يراجعه.
ثم اشتدّ القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية، فقاتلتهم «2» العرب فى الحصن، ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلّا أربعة نفر، بقوا فى الحصن، وأغلقوا عليهم باب الحصن، أحدهم عمرو بن العاص، والآخر مسلمة بن مخلّد، ولم نحفظ «3» الآخرين وحالوا بينهم وبين أصحابهم ولا تدرى الروم من هم، فلما رأي ذلك عمرو بن العاص وأصحابه التجأوا إلى ديماس من حمّاماتهم، فدخلوا فيه فاحترزوا به، فأمروا روميّا أن يكلّمهم بالعربيّة، فقال لهم: إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى، فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم، فامتنعوا عليهم؛ ثم قال لهم: إن فى أيدى أصحابكم منّا رجالا أسروهم ونحن نعطيكم العهود، نفادى بكم أصحابنا، ولا نقتلكم، فأبوا عليهم.
فلما رأى ذلك الرومىّ منهم قال لهم: هل لكم الى خصلة وهى نصف «4» فيما بيننا وبينكم، أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله على أن يبرز منكم رجل، ومنّا رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا، وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلّينا سبيلكم إلى أصحابكم، فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه، وعمرو ومسلمة وصاحباهما فى الحصن فى الديماس، فتداعوا إلى البراز، فبرز رجل من الروم قد وثقت الروم بنجدته وشدّته، وقالوا: يبرز رجل منكم لصاحبنا. فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة، وقال: ما هذا؟ تخطئ مرّتين، تشذّ عن «5» أصحابك وأنت أمير، وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلّقة نحوك، لا يدرون ما أمرك، ثم لا ترضى حتى تبارز وتتعرض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك. مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله.

(1/101)


فقال عمرو: دونك، فربّما فرجها الله بك، فبرز مسلمة والرومىّ، فتجاولا ساعة، ثم أعانه الله عليه فقتله، فكبّر مسلمة وأصحابه، ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه، ففتحوا لهم باب الحصن، فخرجوا، ولا تدرى الروم أن أمير القوم فيهم، حتى بلغهم بعد ذلك، فأسفوا على ذلك، وأكلوا أيديهم تغيّظا على ما فاتهم.
فلما خرجوا استحيا عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب، فقال عمرو عند ذلك: استغفر لى ما كنت قلت لك، فاستغفر له. وقال عمرو: ما أفحشت قطّ إلّا ثلاث مرار «1» ، مرّتين فى الجاهليّة، وهذه الثالثة، وما منهنّ مرّة إلا وقد ندمت واستحييت، وما استحييت من واحدة منهنّ أشدّ مما استحييت مما قلت لك، وو الله إنى لأرجو ألا أعود إلى الرابعة ما بقيت.
قال: ثم رجع إلى حديث عثمان، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، قال:
أقام عمرو بن العاص محاصرا الإسكندرية أشهرا، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطّاب قال:
ما أبطأوا «2» بفتحها إلا لما أحدثوا.
حدثنا يحيى بن خالد، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: لما أبطأ على عمر بن الخطّاب فتح مصر، كتب إلى عمرو بن العاص: أمّا بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر؛ إنكم تقاتلونهم منذ سنتين؛ وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحبّ عدوّكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق «3» نيّاتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيّرهم ما غيّر غيرهم؛ فإذا أتاك كتابى هذا، فاخطب الناس، وحضّهم على قتال عدوّهم، ورغبهم فى الصبر والنيّة، وقدّم أولئك الأربعة فى صدور الناس، ومر الناس جميعا أن يكون «4» لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزّل الرحمة ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عّدوهم.

(1/102)


فلما أتى عمرا الكتاب، جمع الناس، وقرأ عليهم كتاب عمر، ثم دعا أولئك النفر، فقدّمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهّروا، ويصلّوا ركعتين، ثم يرغبوا الى الله عزّ وجلّ ويسألوه النصر، ففعلوا ففتح الله عليهم «1» .
ويقال إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلّد كما حدثنا عثمان بن صالح، عمّن حدثه، قال: أشر علىّ فى قتال هؤلاء، فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيك. قال: عمرو ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت. قال: فدعا عمرو عبادة فأتاه، وهو راكب على فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت ناولنى سنان رمحك. فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له، وولّاه قتال الروم. فتقدّم عبادة مكانه، فصافّ الروم وقاتلهم، ففتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك.
حدثنا أبى عبد الله بن عبد الحكم- قال: لما أبطأ على عمرو بن العاص فتح الإسكندرية استلقى على ظهره، ثم جلس فقال: إنى فكّرت فى هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من «2» أصلح أوّله، يريد الأنصار؛ فدعا عبادة بن الصامت، فعقد له، ففتح الله على يديه «3» الإسكندرية فى يومه ذلك «4» .
ثم رجع إلى حديث يحيى بن أيّوب، وخالد بن حميد، قال: حاصروا الإسكندرية تسعة أشهر بعد موت هرقل وخمسة قبل ذلك، وفتحت يوم الجمعة لمستهلّ المحرّم سنة عشرين.
حدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار، حدثنا ابن لهيعة، عن بكير بن عبد الله، عن بسر بن سعيد، عن جنادة بن أبى أميّة، قال: دعانى عبادة بن الصامت يوم الإسكندرية، وكان على قتالها، فأغار العدوّ على طائفة من الناس ولم يأذن لهم بقتالهم،

(1/103)


فسمعنى، فبعثنى أحجز بينهم، فأتيتهم، فحجزت بينهم، ثم رجعت إليه، فقال: أقتل أحد من الناس هنالك؟ قلت: لا. قال: الحمد لله الذي لم يقتل أحد منهم عاصيا.
قال: وحدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن مالك بن أنس، أن مصر فتحت سنة عشرين.
قال فلما هزم الله تبارك وتعالى الروم وفتح الإسكندرية كما حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، وهرب الروم فى البر «1» والبحر خلّف عمرو بن العاص بالإسكندرية ألف رجل من أصحابه، ومضى عمرو ومن معه فى طلب من هرب من الروم فى البرّ، فرجع من كان هرب من الروم فى البحر «2» إلى الاسكندرية، فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من هرب منهم، وبلغ ذلك عمرو بن العاص، فكرّ راجعا، ففتحها وأقام بها، وكتب إلى عمر بن الخطّاب: إن الله قد فتح علينا الإسكندرية عنوة بغير عقد ولا عهد، فكتب إليه عمر بن الخطّاب يقبّح رأيه، ويأمره ألا يجاوزها «3» .
قال ابن لهيعة: وهو فتح الإسكندرية الثانى. وكان سبب فتحها هذا كما حدثنا إبراهيم بن سعيد البلوى، أن رجلا يقال له ابن بسّامة كان بوّابا، فسأل عمرو بن العاص أن يؤمنه على نفسه وأرضه وأهل بيته، ويفتح له الباب، فأجابه عمرو إلى ذلك، ففتح له ابن بسّامة الباب، فدخل عمرو، وكان مدخله هذا من ناحية القنطرة التى يقال لها قنطرة سليمان، وكان مدخل عمرو بن العاص الأوّل من باب المدينة الذي من ناحية كنيسة الذهب. وقد بقى لابن بسّامة عقب بالإسكندرية إلى اليوم.
حدثنا هانئ بن المتوكّل، حدثنا ضمام بن إسماعيل المعافرى، قال: قتل من المسلمين من حين كان من أمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا «4» .
وبعث عمرو بن العاص كما حدثنا عثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، معاوية بن

(1/104)


حديج وافدا إلى عمر بن الخطاب بشيرا «1» بالفتح، فقال له معاوية: ألا تكتب معى «2» ؟
فقال له عمرو: وما أصنع بالكتاب: ألست رجلا عربيّا تبلغ الرسالة؛ وما رأيت وحضرت!
فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية، فخرّ عمر ساجدا، وقال: الحمد لله.
وحدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا موسى بن علىّ، عن أبيه، أنه سمعه يقول:
سمعت معاوية بن حديج يقول: بعثنى عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية، فقدمت المدينة فى الظهيرة، فأنخت راحلتى بباب المسجد، ثم دخلت المسجد، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب، فرأتنى شاحبا علىّ ثياب. السفر، فأتتنى، فقالت: من أنت؟ قال: فقلت: أنا معاوية بن حديج، رسول عمرو بن العاص، فانصرفت عنّى ثم أقبلت تشتدّ، أسمع «3» حفيف إزارها على ساقها أو على ساقيها حتى دنت منى، فقالت: قم فأجب أمير المؤمنين يدعوك، فتبعتها «4» ، فلما دخلت فإذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه بإحدى يديه، ويشدّ إزاره بالأخرى، فقال: ما عندك؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية. فخرج معى إلى المسجد، فقال للمؤذّن أذّن فى الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، ثم قال لى: قم فأخبر أصحابك.
فقمت فأخبرتهم، ثم صلّى، ودخل منزله، واستقبل القبلة، فدعا بدعوات، ثم جلس، فقال: يا جارية، هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت. فقال: كل، فأكلت على حياء؛ ثم قال: (5 كل فإن المسافر يحبّ الطعام، فلو كنت آكلا لأكلت معك، فأصبت على حياء، ثم قال: 5) يا جارية، هل من تمر؟ فأتت بتمر فى طبق، فقال: كل. فأكلت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلته «6» أمير المؤمنين قائل.
قال: بئس ما قلت أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيّعنّ الرعيّة، ولئن نمت الليل لأضيعنّ نفسى، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟.

(1/105)


ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك، كما حدثنا إبراهيم بن سعيد البلوىّ «1» إلى عمر بن الخطّاب أمّا بعد، فإنى فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أنى أصبت فيها أربعة آلاف منية بأربعة آلاف حمّام، وأربعين ألف يهودىّ عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.
قال: حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ضمام بن إسماعيل، عن أبى قبيل، أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثنى عشر ألف بقّال، يبيعون البقل الأخضر.
حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثنا ابن مقلاص، عن يحيى بن عبد الله بن داود، قال: أراه عن حيوة بن شريح، أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثنى عشر ألف بقّال.
حدثنا هانئ بن المتوكّل، حدثنا محمد بن سعيد الهاشمىّ، قال: ترحّل من الإسكندرية فى الليلة التى دخلها عمرو بن العاص- أو فى الليلة التى خافوا فيها دخول عمرو- سبعون ألف يهودىّ.
(* حدثنا هانئ بن المتوكّل، عن موسى بن أيّوب، ورشدين بن سعد، عن الحسن ابن ثوبان، عن حسين بن شفىّ بن عبيد، قال: كان بالإسكندرية، فيما أحصى من الحمّامات اثنا عشر ديماسا، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كل مجلس منها يسع جماعة نفر. وكان عدّة من بالإسكندرية من الروم مائتى ألف من الرجال، فلحق بأرض الروم أهل القوّة، وركبوا السفن، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار، فحمل فيها ثلاثون ألفا مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وبقى من بقى من الأسارى ممن بلغ الخراج، فأحصى يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان. فاختلف الناس على عمرو فى قسمهم، وكان أكثر الناس يريدون قسمها، فقال عمرو: لا أقدر على قسمها، حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه يعلمه بفتحها وشأنها، ويعلمه أن المسلمين طلبوا قسمها، فكتب إليه عمر: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين، وقوّة

(1/106)


لهم على جهاد عدوّهم، فأقرّها عمرو، وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج، فكانت مصر صلحا كلّها بفريضة دينارين دينارين على كل رجل، لا يزاد على أحد منهم فى جزية رأسه أكثر من دينارين، إلا أنه يلزم بقدر ما يتوسّع فيه من الأرض والزرع إلا الإسكندرية «1» ، فإنهم كانوا يؤدّون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليّهم «2» ، لأن الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة*) .
وقد كانت قرى من قرى مصر- كما حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب- قاتلت فسبوا «3» ، منها قرية يقال لها بلهيب، وقرية يقال لها الخيس، وقرية يقال لها سلطيس، فوقع سبايهم بالمدينة وغيرها، فردّهم عمر بن الخطاب إلى قراهم، وصيّرهم وجماعة القبط أهل ذمّة «4» .
حدثنا عثمان بن صالح، أخبرنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أن عمرا سبى أهل بلهيب وسلطيس وقرطسا وسخا، فتفّرقوا، وبلغ أوّلهم المدينة حين «5» نقضوا، ثم كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بردّهم، فردّ من وجد منهم.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أن عمر بن الخطاب كتب فى أهل سلطيس خاصّة: من كان منهم فى أيديكم فخيّروه بين الإسلام، فإن أسلم فهو من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن اختار دينه فخلّوا بينه وبين قريته، فكان البلهيبىّ خيّر يومئذ فاختار الإسلام.
(* ثم رجع إلى حديث عثمان، عن يحيى بن أيّوب، أن أهل سلطيس ومصيل وبلهيب، ظاهروا الروم على المسلمين فى جمع كان لهم، فلما ظهر عليهم المسلمون استحلّوهم وقالوا: هؤلاء لنا فىء مع الإسكندرية، فكتب عمرو بن العاص بذلك إلى عمر ابن الخطاب، فكتب إليه عمر بن الخطاب أن تجعل الإسكندرية وهؤلاء الثلاث قريات

(1/107)


ذمّة للمسلمين، ويضربون عليهم الخراج، ويكون خراجهم وما صالح عليه القبط قوّة للمسلمين على عدوّهم، ولا يجعلون فيئا ولا عبيدا. ففعلوا ذلك*) .
ويقال إنما ردّهم عمر بن الخطاب لعهد كان تقدّم لهم.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، وابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن عوف بن حطّان، أنه كان لقريات من مصر منها أمّ دنين وبلهيب عهد، وأن عمر لما سمع بذلك كتب إلى عمرو بن العاص يأمره أن يخيّرهم، فإن دخلوا فى الإسلام فذاك، وإن كرهوا فارددهم إلى قراهم.
قال وكان من أبناء السلطيسيّات عمران بن عبد الرحمن بن جعفر بن ربيعة، وأمّ عياض بن عقبة، وأبو عبيدة بن عقبة، وأمّ عون بن خارجة القرشىّ ثم العدوىّ، وأمّ عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، وموالى أشراف بعد ذلك وقعوا عند مروان بن الحكم، منهم: أبان، وعمّه أبو عياض، وعبد الرحمن البلهيبىّ.
ذكر من قال إن مصر فتحت بصلح
قال ثم رجع إلى حديث موسى بن أيّوب، ورشدين بن سعد، عن الحسن بن ثوبان، عن حسين بن شفىّ، أن عمرا لما فتح الإسكندرية، بقى من الأسارى بها ممن بلغ الخراج وأحصى يومئذ ستّمائة ألف سوى النساء والصبيان.
فاختلف الناس على عمرو فى قسمهم فكان أكثر المسلمين يريدون قسمها، فقال عمرو: لا أقدر على قسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه يعلمه بفتحها وشأنها، وأن المسلمين طلبوا قسمها، فكتب إليه عمر: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوّة لهم على جهاد عدوّهم، فأقّرها عمرو، وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج، فكانت مصر كلها صلحا بفريضة دينارين دينارين على كل رجل، لا يزاد على أحد منهم فى جزية رأسه أكثر من دينارين إلا أنه يلزم بقدر ما يتوسّع فيه من الأرض والزرع إلا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدّون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليّهم «1» ؛ لأن الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة.

(1/108)


حدثنا عثمان، أخبرنا الليث، قال: كان يزيد بن أبى حبيب، يقول: مصر كلّها صلح إلا الإسكندرية، فإنما فتحت عنوة.
حدثنا عثمان بن صالح، عن بكر بن مضر، عن عبيد الله بن أبى جعفر، قال:
حدثنى رجل ممن أدرك عمرو بن العاص، قال: للقبط عهد عند فلان، وعهد عند فلان، فسمّى ثلاثة نفر.
حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا يحيى بن أيّوب، عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن شيخ من كبراء الجند، أن عهد أهل مصر كان عند كبرائهم.
حدثنا هشام بن إسحاق العامرىّ، عن الليث بن سعد، عن عبيد الله بن أبى جعفر، قال: سألت شيخا من القدماء عن فتح مصر، فقال: هاجرنا إلى المدينة أيّام عمر بن الخطاب وأنا محتلم، فشهدت فتح مصر. قلت له: فإن ناسا يذكرون أنه لم يكن لهم عهد، فقال: ما يبالى ألّا يصلّى من قال إنه ليس لهم عهد، فقلت: فهل كان لهم كتاب؟ فقال: نعم، كتب ثلاثة: كتاب عند طلما صاحب إخنا، وكتاب عند قزمان صاحب رشيد، وكتاب عند يحنّس صاحب البرلس. قلت: كيف كان صلحهم؟ قال:
دينارين على كل إنسان جزية وأرزاق المسلمين، قلت: فتعلم ما كان من الشروط؟ قال:
نعم، ستّة شروط، لا يخرجون من ديارهم، ولا تنزع «1» نساؤهم، ولا كفورهم، ولا أرضيهم، لا يزاد عليهم.
وحدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أنه حدثه عن أبى جمعة مولى عقبة، قال: كتب عقبة بن عامر إلى معاوية بن أبى سفيان يسأله أرضا يسترفق فيها «2» عند قرية عقبة؛ فكتب له معاوية بألف ذراع فى ألف ذراع، فقال له مولى له كان عنده: انظر أصلحك الله أرضا صالحة، فقال عقبة: ليس لنا ذلك، إنّ فى عهدهم شروطا ستّة، ألا يؤخذ من أنفسهم شىء، ولا من نسائهم، ولا من أولادهم، ولا يزاد عليهم، ويدفع «3» عنهم موضع «4» الخوف من عدوّهم، وأنا شاهد لهم بذلك.

(1/109)


حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن وهب، عن أبى شريح عبد الرحمن بن شريح، عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن أبى جمعة حبيب بن وهب، قال: كتب عقبة ابن عامر إلى معاوية يسأله بقيعا فى قرية بينى فيه منازل ومساكن، فأمر له معاوية بألف ذراع فى ألف ذراع، فقال له مواليه ومن كان عنده: انظر إلى أرض تعجبك، فاختطّ فيها وابتن، فقال: ليس لنا ذلك، لهم فى عهدهم ستّة شروط، منها: ألا يؤخذ من أرضهم شىء، ولا يزاد عليهم، ولا يكلّفوا غير طاقتهم، ولا يؤخذ ذراريهم، وأن يقاتل عنهم عدوّهم من ورائهم.
حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا يحيى بن أيّوب، عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن رجل من كبراء الجند، قال: كتب معاوية بن أبى سفيان إلى وردان أن زد على كل رجل منهم قيراطا، فكتب وردان إلى معاوية: كيف تزيد عليهم وفى عهدهم ألا يزاد عليهم شىء، فعزل معاوية وردان.
ويقال إن معاوية إنما عزل وردان كما حدثنا سعيد بن عفير، أن عتبة بن أبى سفيان، وفد إلى معاوية فى نفر من أهل مصر، وكان معاوية ولّى عتبة الحرب، ووردان الخراج، وحويت «1» بن زيد الديوان، فسأل معاوية الوفد عن عتبة، فقال عبادة بن صمّل المعافرى: حوت بحر يا أمير المؤمنين، ووعل برّ. فقال معاوية لعتبة: اسمع ما تقول فيك رعيّتك. فقال: صدقوا يا أمير المؤمنين، حجبتنى عن الخراج ولهم علىّ حقوق، وأكره أن أجلس فأسأل فلا أفعل فأبخل فضمّ إليه معاوية الخراج.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، وابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن عوف بن حطّان، أنه قال كان لقريّات «2» من مصر منهن «3» أمّ دنين وبلهيب عهد، وأن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما سمع بذلك كتب إلى عمرو بن العاص، يأمره أن يخيّرهم، فإن دخلوا فى الإسلام فذلك، وإن كرهوا فارددهم إلى قراهم.
قال: وحدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب،

(1/110)


عن يحيى بن ميمون الحضرمىّ، قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط ممّن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم «1» امرأة ولا صبىّ ولا شيخ على دينارين دينارين، فأحصوا لذلك فبلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف.
(* حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن وهب، قال: سمعت حيوة بن شريح، قال:
سمعت الحسن بن ثوبان الهمدانىّ، يقول: حدثنى هشام بن أبى رقيّة اللخمى، أن عمرو ابن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر: إن من كتمنى كنزا عنده فقدرت عليه قتلته، وإن نبطيّا «2» من أهل الصعيد، يقال له بطرس، ذكر لعمرو أن عنده كنزا، فأرسل إليه فسأله، فأنكر وجحد، فحبسه فى السجن، وعمرو يسأل عنه: هل يسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا: لا، إنما سمعناه يسأل عن راهب فى الطور، فأرسل عمرو إلى بطرس، فنزع خاتمه من يده، ثم كتب إلى ذلك الراهب، أن ابعث إلىّ بما عندك، وختمه بخاتمه، فجاءه رسوله بقلّة شأميّة مختومة بالرصاص، ففتحها عمرو، فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها: ما لكم تحت الفسقيّة الكبيرة؛ فأرسل عمرو إلى الفسقيّة، فحبس عنها الماء، ثم قلع البلاط الذي تحتها، فوجد فيها اثنين وخمسين إردبا ذهبا مضروبة، فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد. فذكر ابن أبى رقيّة أنّ القبط أخرجوا كنوزهم شفقا أن يبغى على أحد منهم فيقتل، كما قتل بطرس*) .
حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أن عمرو بن العاص استحلّ مال قبطىّ من قبط مصر، لأنه استقرّ عنده أنه يظهر الروم على عورات المسلمين، ويكتب إليهم بذلك، فاستخرج منه بضعة وخمسين إردبّا دنانير.
قال: ثم رجع إلى حديث يحيى بن أيّوب، وخالد بن حميد، قال: ففتح الله أرض مصر كلها بصلح غير الإسكندرية، وثلاث قريات ظاهرت الروم على المسلمين:
(3 سلطيس، ومصيل، وبلهيب، فإنه كان للروم جمع فظاهروا الروم على المسلمين 3) ، فلما ظهر عليها المسلمون استحلّوها وقالوا: هؤلاء لنا فىء مع الإسكندرية، فكتب عمرو

(1/111)


ابن العاص بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: أن تجعل الإسكندرية وهؤلاء الثلاث قريات ذمّة للمسلمين ويضربون عليهم الخراج، ويكون خراجهم وما صالح «1» عليه القبط كلّه قوّة للمسلمين، لا يجعلون فيئا ولا عبيدا، ففعلوا ذلك إلى اليوم.
ذكر من قال فتحت مصر عنوة
وقال آخرون: بل فتحت مصر عنوة بلا عهد ولا عقد.
(* حدثنا عبد الملك بن مسلمة، وعثمان بن صالح، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، عمّن سمع عبيد الله بن المغيرة بن أبى بردة، يقول: سمعت سفيان ابن وهب الخولانى، يقول: إنا لما فتحنا مصر بغير عهد «2» قام الزبير بن العوّام فقال:
اقسمها يا عمرو بن العاص فقال عمرو: والله لا أقسمها. قال «3» الزبير والله لتقسمنّها كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر. قال «3» عمرو والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إليه عمر: أقرّها حتى يغزو منها «4» حبل الحبلة*) .
قال ابن لهيعة، وحدثنى يحيى بن ميمون، عن عبيد الله بن المغيرة، عن سفيان بن وهب بهذا إلا أنه قال: فقال عمرو: لم أكن لأحدث فيهم شيئا حتى أكتب إلى عمر ابن الخطاب، فكتب إليه، فكتب إليه بهذا.
قال عبد الملك فى حديثه: وإن الزبير صولح على شىء أرضى به.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، وعثمان بن صالح، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، أن مصر فتحت عنوة.
حدثنا عبد الملك، حدثنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، قال:
سمعت أشياخنا يقولون: إن مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد. قال ابن أنعم: منهم أبى يحدّثنا عن أبيه وكان ممّن شهد فتح مصر.

(1/112)


حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن وهب، عن ابن أنعم، قال: سمعت أشياخنا يقولون: فتحت مصر عنوة بغير عهد ولا عقد.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن أبى الأسود، عن عروة، أن مصر فتحت عنوة.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن أبى قنان أيوب بن أبى العالية، عن أبيه. وأخبرنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن وهب، عن داود بن عبد الله الحضرمىّ، أن أبا قنان حدثه عن أبيه، أنه سمع عمرو بن العاص يقول: لقد قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر علىّ عهد ولا عقد، إلا أهل أنطابلس فإن لهم عهدا يوفى لهم به.
قال ابن لهيعة فى حديثه إن شئت قتلت «1» وان شئت خمست وان شئت بعت.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن وهب، عن عياض بن عبد الله الفهرىّ، عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن، أن عمرو بن العاص فتح مصر بغير عقد ولا عهد، وأن عمر بن الخطاب حبس درّها وصرّها أن يخرج منه شىء نظرا للإسلام وأهله.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، عن يعقوب بن مجاهد، عن زيد بن أسلم، قال: كان تابوت لعمر بن الخطاب فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده «2» ، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد.
قال عبد الرحمن بن شريح: فلا أدرى أعن زيد حدّث أم شىء قاله. فمن أسلم منهم فأمّة ومن أقام منهم فذمّة.
حدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار، وعبد الملك بن مسلمة، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الملك بن جنادة كاتب حيّان بن سريج «3» من أهل مصر من موالى قريش، قال: كتب حيان إلى عمر بن عبد العزيز يسأله أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم «4» ، فسأل عمر عراك بن مالك، فقال عراك: ما سمعت لهم بعهد ولا عقد،

(1/113)


وانما أخذوا عنوة بمنزلة العبيد، فكتب عمر إلى حيّان بن سريج أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم.
قال وسمعت يحيى بن عبد الله بن بكير، يقول: خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن يريد الإسكندرية فى سفينة، فاحتاج إلى رجل يقذف به، فسخّر رجلا من القبط، فكلّم فى ذلك، فقال: إنما هم بمنزلة العبيد إن احتجنا إليهم.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة، عن الصلت بن أبى عاصم، أنه قرأ كتاب عمر بن العزيز إلى حيّان بن سريج «1» ، أن مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، عن عبيد الله بن أبى جعفر، أن كاتب حيّان حدثه أنه احتيج «2» إلى خشب لصناعة الجزيرة، فكتب حيّان إلى عمر يذكر ذلك له، وأنه وجد خشبا عند بعض أهل الذمّة، وأنه كره أن يأخذ منهم حتى يعلمه، فكتب إليه عمر: خذها منهم بقيمة عدل، فإنى لم أجد لأهل مصر عهدا أفى لهم به.
حدثنا عبد الرحمن. قال: حدثنا عبد الملك بن مسلمة، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى حيّان بن سريج: إن مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد.
حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن كعب بن أبى لبابة، أن عمر بن عبد العزيز، قال لسالم بن عبد الله: أنت تقول ليس لأهل مصر عهد؟ قال: نعم.
حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب فى رهبان يترهّبون بمصر فيموت أحدهم وليس له وارث. فكتب إليه عمر، أن من كان منهم له عقب فادفع ميراثه إلى عقبه، ومن لم يكن له عقب فاجعل ماله فى بيت مال المسلمين، فإنّ ولاءه للمسلمين.

(1/114)


(1 حدثنا يحيى بن خلد، عن رشدين بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، أنه قال: كان فتح مصر بعضها بعهد وذمّة، وبعضها عنوة، فجعلها عمر بن الخطاب رضى الله عنه جميعا ذمّة، وحملهم على ذلك؛ فمضى ذلك فيهم إلى اليوم 1) .
ذكر الخطط
(* قال: حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها مفروغا منها، همّ أن يسكنها، وقال: مساكن قد كفيناها، فكتب إلى عمر بن الخطّاب يستأذنه فى ذلك؛ فسأل عمر الرسول: هل يحول بينى وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إذا جرى النيل.
فكتب عمر إلى عمرو: إنى لا أحبّ أن تنزل المسلمين منزلا يحول الماء بينى وبينهم فى شتاء ولا صيف. فتحوّل عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط*) .
حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب. وحدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن وهب، عن الليث، عن يزيد بن أبى حبيب أن عمر بن الخطاب، كتب إلى سعد بن أبى وقّاص، وهو نازل بمدائن كسرى، وإلى عامله بالبصرة، وإلى عمرو بن العاص وهو نازل بالإسكندرية؛ ألا تجعلوا بينى وبينكم ماء، متى أردت أن أركب إليكم راحلتى حتى أقدم عليكم قدمت. فتحوّل سعد بن أبى وقّاص من مدائن كسرى إلى الكوفة، وتحوّل صاحب البصرة من المكان الذي كان فيه، فنزل البصرة، وتحوّل عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط.
(2 قال: وإنما سمّيت الفسطاط كما حدثنا أبي عبد الله بن عبد الحكم، وسعيد بن عفير، أن عمرو بن العاص لمّا أراد التوجّه إلى الإسكندرية لقتال من بها من الروم، أمر بنزع فسطاطه، فإذا فيه يمام قد فرخ، فقال عمرو بن العاص: لقد تحرّم منّا بمتحرّم، فأمر به فأقرّ كما هو، وأوصى به صاحب القصر، فلما قفل المسلمون من الإسكندرية، فقالوا:
أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط- لفسطاط عمرو الذي كان خلّفه،- وكان مضروبا فى موضع الدار التى تعرف اليوم بدار الحصى، عند دار عمرو الصغيرة اليوم 2) .

(1/115)


وبنى عمرو بن العاص المسجد كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن الليث بن سعد، وكان «1» ما حوله حدائق وأعنابا، فنصبوا الحبال حتى استقام لهم، ووضعوا أيديهم، فلم يزل عمرو قائما حتى وضعوا القبلة؛ وإن عمرا وأصحاب رسول لله صلّى الله عليه وسلم الذين وضعوها.
واتّخذ فيه منبرا كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة، عن أبى تميم الجيشانى، قال: فكتب إليه عمر بن الخطاب: أمّا بعد؛ فإنه بلغنى أنك اتّخذت منبرا ترقى «2» به «3» على رقاب المسلمين، أو ما بحسبك «4» أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك! فعزمت عليك لمّا كسرته.
(5 حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبى الخير، أن أبا مسلم الغافقىّ صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يؤذّن لعمرو بن العاص، فرأيته يبخّر المسجد 5) .
قال: واختلط الناس. حدثنا عبد الملك بن مسلمة، أخبرنا ابن وهب، عن يحيى ابن أزهر، عن الحجّاج بن شدّاد، عن أبى صالح الغفارىّ، قال: كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب: إنّا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع. فكتب إليه عمر: أنّى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر! وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين.
قال ابن لهيعة: هى دار البركة، فجعلت سوقا، فكان يباع فيها الرقيق. هكذا قال ابن لهيعة.
قال وأما الليث بن سعد، فإن عبد الملك حدثنا عنه، أن دار البركة خطّة لعبد الله ابن عمر بن الخطاب، فسأله إيّاها عبد العزيز بن مروان، فوهبها له، فلم يثبه منها شيئا.
حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب،

(1/116)


الله بن عمر بن الخطاب، فسأله إيّاها عبد العزيز بن مروان، فوهبها له، فلم يثبه منها شيئا.
حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، قال: شهد عبد الله بن عمر فتح مصر واختطّ فيها دار البركة، بركة الرقيق، قال: فوهبتها لمعاوية رجاء أن يثيبنى منها، حتى مات فهو فى حلّ «1» .
وكان من حفظ من الذين شهدوا فتح مصر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم، ومن لم يكن له برسول الله صلّى الله عليه وسلم صحبة، كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة وغير عبد الملك قد ذكر بعض ذلك أيضا: الزبير بن العوّام، وسعد بن أبى وقّاص، وعمرو بن العاص، وهو كان أمير القرم، وعبد الله بن عمرو، وخارجة بن حذاقة العدوىّ، وعبد الله ابن عمر بن الخطّاب، وقيس بن أبى العاص السهمىّ، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح العامرىّ، ونافع بن عبد القيس الفهرىّ. (2 ويقال بل هو عقبة بن نافع، وأبو عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهرى. 2) وأبو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وابن عبدة، وعبد الرحمن وربيعة ابنا شرحبيل بن حسنة، ووردان مولى عمرو بن العاص، وكان حامل لواء عمرو بن العاص.
وقد اختلف فى سعد بن أبى وقّاص، فقيل: إنما دخلها بعد الفتح. حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن الليث بن سعد، أن سعد بن أبى وقّاص قدم مصر.
وشهد الفتح من الأنصار: عبادة بن الصامت، وقد شهد بدرا وبيعة العقبة، ومحمد ابن مسلمة الأنصارىّ، وقد شهد بدرا وهو الذي بعثه عمر بن الخطاب إلى مصر، فقاسم عمرو بن العاص ماله، وهو أحد «3» من كان صعد الحصن مع الزبير بن العوّام، ومسلمة ابن مخلّد الأنصارى يقال له صحبة.
حدّثونا عن وكيع، حدثنا موسى بن علىّ، عن أبيه، قال: سمعت مسلمة بن

(1/117)


مخلّد، يقول: ولدت حين قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة، وتوفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر.
وكان قد ولى البلد فى أيام معاوية وصدرا من خلافة يزيد، وتوفّى مسلمة بمصر سنة اثنتين وستّين. وأبو أيّوب الأنصارى واسمه خالد بن زيد، وقد شهد بدرا، وتوفّى بالقسطنطينة فى سنة خمسين. وأبو الدرداء، واسمه عويمر.
قال ابن هشام: عويمر بن عامر، ويقال: عويمر بن زيد «1» .
ومن أفناء القبائل: أبو بصرة الغفارىّ، واسمه حميل بن بصرة، وأبو ذرّ الغفارى واسمه جندب بن جنادة. ويقال برير. (2 قال ابن هشام: سمعت غير واحد من العلماء، يقول: أبو ذرّ جندب بن جناده 2) .
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، قال: وكان أبو ذرّ ممن شهد الفتح مع عمرو بن العاص: وهبيب بن مغفل. ولهم عنه حديث واحد، وهو حديث ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أن أسلم أبا عمران أخبره، عن هبيب ابن مغفل أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من جره خيلاء، يعنى إزاره وطئه فى النار «3» .
وإليه ينسب وادى هبيب الذي بالمغرب. وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدىّ، وكان اسمه العاص، فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله.
حدثنا عبد الله بن صالح، ويحيى بن عبد الله بن بكير، قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدى، قال: توفّى رجل ممن قدم على النبي صلّى الله عليه وسلم فأسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عند القبر: ما اسمك؟
فقلت: العاص. (4 وقال لابن عمرو: ما اسمك؟ فقال: العاصّ. وقال للعاص بن العاص:
ما اسمك؟ فقال: العاص 4) . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: العاص أنتم عبد الله، انزلوا، قال:
فوارينا صاحبنا ثم خرجنا من القبر وقد بدلت أسماؤنا. وكعب بن ضنّة العبسىّ، ويقال:
كعب بن يسار بن ضنّة. وعقبة بن عامر الجهنىّ يكنّى أبا حمّاد، وهو كان رسول عمر

(1/118)


ابن الخطاب إلى عمرو بن العاص حين كتب إليه يأمره أن يرجع إن لم يكن دخل أرض مصر. وأبو زمعة البلوىّ. وبرح «1» بن حسكل، وكان ممن قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مهرة، وشهد الفتح مع عمرو، واختطّ. هكذا قال ابن عفير، برح بن حسكل. والمهريّون يقولون برح بن عسكل. وجنادة بن أبى أميّة الأزدى. وسفيان بن وهب الخولانى، وله صحبة.
حدثنا عمرو بن سوّاد، حدثنا ابن وهب، حدثنى عبد الرحمن بن شريح، قال:
سمعت سعيد بن أبى شمر السبائى، يقول: سمعت سفيان بن وهب الخولانى، يقول:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقول: لا تأتى المائة وعلى ظهرها أحد باق «2» . قال: فحدّثت بها ابن حجيرة، فقام فدخل على عبد العزيز بن مروان، قال: فحمل سفيان وهو شيخ كبير حتى أدخل على عبد العزيز بن مروان، فسأله عن الحديث فحدّثه، فقال عبد العزيز:
فلعلّه يعنى لا يبقى أحد ممن كان معه إلى رأس المائة. فقال سفيان: هكذا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول.
ومعاوية بن حديج الكندى، وهو كان رسول عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية. وقد اختلف فى معاوية بن حديج، فقال قوم: له صحبة، واحتجوا فى ذلك، بحديث حدّثناه أبى عبد الله بن عبد الحكم، وشعيب بن الليث، وعبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية بن حديج، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، صلى يوما فسلّم ثم انصرف وقد بقى من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال: قد بقيت من الصلاة ركعة، فرجع فدخل المسجد فصلّى بالناس ركعة. فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أتعرف الرجل؟ قلت: لا، إلّا أن أراه.

(1/119)


وقال آخرون: ليست له صحبة، واحتجّوا بحديث حدّثناه يوسف بن عدىّ، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علىّ بن رباح، قال:
سمعت معاوية بن حديج، يقول: هاجرنا على عهد أبى بكر رحمه الله، فبينا نحن عندة إذ طلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه قدم علينا برأس ينّاق البطريق، ولم يكن لنا به حاجة، إنما هذه «1» سنّة العجم، ثم قال: قم يا عقبة. فقام رجل يقال له عقبة، فقال: إنى لا أريدك، إنما أريد عقبة بن عامر، قم يا عقبة، فقام رجل فصيح قارئ، فافتتح سورة البقرة، ثم ذكر قتالهم وما فتح الله لهم، فلم أزل أحبّه من يومئذ.
وعامر مولى جمل، الذي يقال له عامر جمل، شهد الفتح، وهو مملوك، وإنما قيل له عامر جمل، أنه كان مع عمرو بن العاص عند معاوية بن أبى سفيان فقال عامر لعمرو «2» : تكلّم، فإننى من ورائك، فقال له معاوية: ومن أنت؟ قال: أنا عامر مولى جمل، فقال له معاوية: بل أنت عامر جمل، فقيل له عامر جمل لقول معاوية ذلك.
منهم من أهل بدر ستّة نفر: الزبير بن العوّام، وسعد بن أبى وقّاص، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو أيّوب الانصارى، ومحمد بن مسلمة. وقد كان عمّار ابن ياسر دخل مصر، ولكن دخلها بعد الفتح فى أيام عثمان.
حدثنا عبد الحميد بن الوليد، حدثنا أبو عبد الرحمن، عن مجالد، عن الشعبىّ، أن عمّار بن ياسر دخل مصر فى أيام عثمان بن عفّان، وجّهه إليها فى بعض أموره. ولهم عنه حديث واحد.
حدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار، حدثنا ابن لهيعة، عن أبى عشانة، قال:
سمعت أبا اليقظان عمّار بن ياسر، يقول: أبشروا فو الله لأنتم أشدّ حبّا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من عامّة من قد رآه.
قال: منهم من اختطّ بالبلد فذكرنا خطّته، ومنهم من لم يذكر «3» له خطّة، فالله أعلم كيف كان الأمر فى ذلك.

(1/120)


قال: فاختطّ عمرو بن العاص داره التى هى له اليوم عند باب المسجد، بينهما الطريق. وداره الأخرى اللاصقة إلى جنبها، وفيها دفن عبد الله بن عمرو بن العاص فيما زعم بعض مشايخ البلد لحدث كان يومئذ فى البلد.
حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: توفّي عبد الله بن عمرو بن العاص بأرضه بالسبع من فلسطين. ويقال بل مات بمكّة، والله أعلم. ويكنّى أبا محمد، وكانت وفاته سنة ثلاث وسبعين. ولأهل مصر عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، قريب من مائة حديث.
والحمّام الذي يقال له حمّام الفأر. وإنما قيل له حمّام الفأر أن حمّامات الروم كانت ديماسات كبار، فلما بنى هذا الحمّام، ورأوا صغره، قالوا: من يدخل هذا! هذا حمّام الفأر «1» .
ودار عمرو التى هنالك. ويقال بل اختطّ عمرو لنفسه فى الموضع الذي فيه دار ابن أبى الرزّام.
واختطّ عبد الله ابنه هذه الدار الكبيرة التى عند المسجد الجامع، وهو الذي بناها هذا البناء، وبنى فيها قصرا على تربيع الكعبة الأولى.
واحتجّ من زعم أن هذه الدار الكبيرة التى عند المسجد هى خطّة عمرو نفسه بحديث ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن أبى تميم الجيشانىّ، أنه سمع عمرو بن العاص، يقول: أخبرنى رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: إن الله قد زادكم صلاة فصلّوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر، الوتر «2» ألا إنّه أبو بصرة الغفارىّ.
قال أبو تميم الجيشانى: وكنت أنا وأبو ذرّ قاعدين، فأخذ أبو ذرّ بيدى فانطلقنا إلى أبى بصرة، فوجدناه عند الباب الذي إلى دار عمرو؛ فقال أبو ذرّ: يا أبا بصرة، أنت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقول: إن الله قد زادكم صلاة فصلّوها فيما بين العشاء إلى الصبح، الوتر الوتر؟ قال: نعم. قال: أنت سمعته؟ قال: نعم.
حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، عن ابن هبيرة. وحدثناه عمرو بن سوّاد، عن

(1/121)


ابن وهب، عن ابن لهيعة. وقد حدثنى طلق بن السمح، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن أبى تميم الجيشانى ببعضه.
ولهم عن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحاديث عدّة. منها: حديث موسى بن علىّ، عن أبيه، عن أبى قيس، مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص، أن النبي صلّى الله عليه وسلم، قال:
فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، أكلة السحر «1» . حدثناه أبي، عن الليث، عن موسى بن علىّ. وحدثناه عبد الله بن صالح، عن موسى بن على نفسه.
ومنها حديث نافع بن يزيد، عن الحارث بن سعيد العتقى، عن عبد الله بن منين- من بنى «2» عبد كلال- عن عمرو بن العاص، قال: أقرأنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى القرآن خمس عشرة سجدة، منها فى المفصّل ثلاث، وفى سورة الحجّ سجدتان. حدثناه سعيد بن أبى مريم.