الأصل المعروف بالمبسوط للشيباني

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله الْوَاحِد الْأَحَد
// كتاب التَّحَرِّي
// حَدثنَا أَبُو عصمَة قَالَ أخبرنَا أَبُو سُلَيْمَان قَالَ سَمِعت مُحَمَّدًا يَقُول

(3/1)


إِذا خرج الرجل بِزَكَاة مَاله يُرِيد أَن يتَصَدَّق بهَا فَأعْطَاهُ قوما وَلم يحضرهُ عِنْد إعطائها أَن الَّذين أَعْطَاهُم فُقَرَاء وَلَا أَغْنِيَاء ذهل عَن

(3/3)


ذَلِك وَلم يسألوه فَلَمَّا أَعْطَاهُم تفكر فِي ذَلِك فَلم يدر أَغْنِيَاء هم أم لَا فان ذَلِك يجْزِيه فَإِن علم على أَي هَيْئَة كَانُوا حِين أَعْطَاهُم فَوَقع فِي قلبه أَن بَعضهم كَانَ مُحْتَاجا عَلَيْهِ هَيْئَة الْمُحْتَاج وَأَن بَعضهم كَانَ غَنِيا عَلَيْهِ هَيْئَة الْأَغْنِيَاء وَكَانَ على ذَلِك أكبر رَأْيه وَذَلِكَ بعد الْإِعْطَاء أجزته عطيته لمن كَانَ أكبر رَأْيه أَنه فَقير وَلم تجزه عطيته لمن أَكثر رَأْيه أَنه غَنِي لِأَن من خرج بِزَكَاة مَاله يُرِيد أَن يتَصَدَّق بهَا فَهُوَ عِنْدَمَا يُرِيد أَن يُعْطِيهَا الْفُقَرَاء فَمن أعْطى من النَّاس فَهُوَ فَقير يجْزِيه عطيته إِيَّاه إِلَّا أَن يكون أعْطى من أَكثر رَأْيه أَنه غَنِي فَإِذا كَانَ على ذَلِك لم تجزه عطيته إِلَّا أَن يعلم أَنه فَقير فتجزيه عطيته
فَأَما إِذا أعْطى رجلا يرى أَنه فَقير وَلم يسْأَله وَلم يَأْتِ من أمره أَمر يدل على أَنه فَقير فَظن أَنه فَقير فَأعْطَاهُ أَو أعطَاهُ على غير ظن حَضَره ثمَّ ظن بعد الْعَطِيَّة أَنه فَقير ثمَّ علم بعد ذَلِك أَنه غَنِي لم يجزه مَا أعطَاهُ لِأَنَّهُ أعطَاهُ على غير مَسْأَلَة وَلَا دلَالَة

(3/4)


وَإِن كَانَ الرجل سَأَلَهُ وَأخْبرهُ أَنه مُحْتَاج فَأعْطَاهُ ثمَّ علم بعد ذَلِك أَنه غَنِي فان أَبَا حنيفَة قَالَ فِي ذَلِك يجْزِيه زَكَاته وَكَذَلِكَ قَول مُحَمَّد وَأما فِي قَول أبي يُوسُف فَلَا يجْزِيه إِذا علم أَنه غَنِي وَقَالَ هُوَ بِمَنْزِلَة رجل تَوَضَّأ بِمَاء غير طَاهِر ثمَّ صلى وَهُوَ لَا يعلم فَهُوَ يجْزِيه مَا لم يعلم فَإِذا علم أعَاد الْوضُوء وَأعَاد الصَّلَاة
وَقَالَ مُحَمَّد لَا تشبه الصَّلَاة الصَّدَقَة لِأَن هَذَا لَا تعد صلَاته صَلَاة لِأَنَّهُ صلى على غير وضوء والمتصدق صدقته جَائِزَة عَلَيْهِ أَلا ترى أَنه لَو أَرَادَ أَن يَأْخُذهَا من الَّذِي أَعْطَاهَا إِيَّاه لم يكن لَهُ ذَلِك فِي الحكم لِأَنَّهَا صَدَقَة نَافِذَة جَائِزَة لَا رُجُوع فِيهَا وَلَو كَانَ لَهُ أَن يَأْخُذهَا من الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ لِأَنَّهَا لَيست بِصَدقَة كَانَ هَذَا قِيَاس الصَّلَاة بِغَيْر وضوء لِأَن الصَّلَاة بِغَيْر وضوء لَيست بِصَلَاة فَيَنْبَغِي أَن تكون هَذِه لَيست بِصَدقَة وَيَنْبَغِي لصَاحِبهَا أَن يَأْخُذهَا من الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ فَإِذا كَانَ لَا يقدر على أَخذهَا مِنْهُ كَانَت صَدَقَة تَامَّة فَكيف يغرمها صَاحبهَا مرَّتَيْنِ وَلم يكن على صَاحبهَا أَكثر من الَّذِي صنع وَقد وَافَقنَا أَبُو يُوسُف أَن الصَّدَقَة لَا ترد على صَاحبهَا وَلكنهَا نَافِذَة للمتصدق عَلَيْهِ وَلذَلِك افْتَرَقت الصَّدَقَة وَالصَّلَاة على غير وضوء

(3/5)


إِنَّمَا مثل الصَّدَقَة على الْغَنِيّ إِذا تصدق عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يعلم ثمَّ علم بعد ذَلِك رجل صلى وتحرى الْقبْلَة أَو أخبرهُ مخبر أَن الْقبْلَة كَذَا فصلى بقوله أَو بتحريه حَتَّى إِذا فرغ علم أَنه صلى لغير الْقبْلَة فَصلَاته تَامَّة وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ فِيهَا لِأَنَّهُ صلى وَلم يكن عَلَيْهِ أَكثر من الَّذِي صنع
فَكَذَلِك الصَّدَقَة على الْغَنِيّ إِذا لم يعلم وَسَأَلَهُ وَأخْبرهُ أَنه فَقير فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكثر مِمَّا صنع وَلَو لم يُخبرهُ أَنه فَقير وَلم يسْأَله عَن ذَلِك وَلكنه صادفه فِي مجْلِس الْفُقَرَاء قد صنع صَنِيع أَصْحَاب الْمَسْأَلَة فَأعْطَاهُ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَة من سَأَلَهُ وَأخْبرهُ أَنه فَقير لِأَن هَذَا دلَالَة على الْفقر بِمَنْزِلَة الْمَسْأَلَة وَقد يَجِيء من هَذَا مَا هُوَ أدل من الْمَسْأَلَة أَو قريب مِنْهَا أَو مثلهَا
وَكَذَلِكَ فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد إِن أعْطى ذِمِّيا من زَكَاته وَقد أخبرهُ

(3/6)


أَنه مُسلم أَو عَلَيْهِ سِيمَا فَأعْطَاهُ من زَكَاته ثمَّ علم أَنه ذمِّي أجزاه ذَلِك

(3/8)


وَكَذَلِكَ إِن أعطَاهُ ولدا أَو والدا وَهُوَ لَا يعلم ثمَّ علم أجزاه ذَلِك
وَإِن أعطَاهُ عبدا لَهُ أَو مكَاتبا لَهُ وَهُوَ لَا يعلم بِهِ أَو أخبرهُ أَنه حر فَأعْطَاهُ ثمَّ علم بعد ذَلِك أَنه عبد لَهُ عَلَيْهِ دين أَو مكَاتب لم يجزه

(3/9)


ذَلِك لِأَن هَذَا مَاله أعطَاهُ مَاله فَصَارَ مَاله بعضه فِي بعض فَلَا يجزى ذَلِك من شَيْء فَأَما مَا أعْطى ولدا أَو والدا وَهُوَ لَا يعلم ثمَّ علم بعد ذَلِك أجزاه فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد

(3/10)


أَبُو سُلَيْمَان قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد قَالَ أخبرنَا إِسْرَائِيل عَن أبي الجويرية الْجرْمِي عَن معن بن يزِيد السّلمِيّ قَالَ خَاصَمت أبي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى لي عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَن أبي أعْطى صدقته رجلا فِي الْمَسْجِد وَأمره أَن يتَصَدَّق بهَا فَأَتَيْته فَأَعْطَانِيهَا ثمَّ أتيت أبي فَعلم بهَا فَقَالَ وَالله يَا بني مَا إياك أردْت بهَا فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ

(3/11)


وَسلم فَقَالَ يَا يزِيد لَك مَا نَوَيْت وَيَا معن لَك مَا أخذت
قَالَ مُحَمَّد قد جعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك مجزيا عَن يزِيد وَجعله لِمَعْنٍ فَكَذَلِك نقُول

(3/12)


وَلَو أَن رجلا تَوَضَّأ فِي لَيْلَة مظْلمَة فِي سفر ثمَّ قَامَ عَامِدًا إِلَى الصَّلَاة فصلى وَلم يحضرهُ نِيَّة حَتَّى صلى فِي تحري الْقبْلَة فَلَمَّا قضى صلَاته علم أَنه صلى لغير الْقبْلَة فانه يُعِيد صلَاته وَإِن كَانَ حِين فرغ لم يدر أصلى إِلَى الْقبْلَة أَو إِلَى غَيرهَا فان كَانَ أكبر رَأْيه أَنه صلى إِلَى الْقبْلَة فَصلَاته تَامَّة وَإِن كَانَ أكبر رَأْيه أَنه صلى إِلَى غير الْقبْلَة أعَاد صلَاته وَإِن لم يكن لَهُ فِي ذَلِك رأى أَو كَانَ قد ركب فَمضى عَن ذَلِك الْموضع فَلم يجز لَهُ رأى فِي تحري الْقبْلَة وَلَا غَيرهَا فَصلَاته تَامَّة لِأَنَّهُ حِين قَامَ عَامِدًا إِلَى الصَّلَاة حَتَّى دخل فِيهَا فصلى فَهُوَ عندنَا على تحري الْقبْلَة حَتَّى يعلم غير ذَلِك وَلَو كَانَ حِين انْتهى إِلَى مَوضِع الصَّلَاة شكّ فَلم يدر

(3/13)


أَيْن الْقبْلَة فَلم يتحر أكبر رَأْيه حَتَّى مضى فصلى إِلَى بعض تِلْكَ الْوُجُوه بِغَيْر تحر وَلَا أكبر رَأْيه حَتَّى فرغ من صلَاته فَعَلَيهِ أَن يُعِيد صلَاته إِلَّا أَن يعلم أَنه صلى للْقبْلَة فان كَانَ أكبر رَأْيه أَنه صلى للْقبْلَة إِلَّا أَن

(3/14)


ذَلِك إِنَّمَا كَانَ مِنْهُ بعد دُخُوله فِي صلَاته لم تجزه تِلْكَ الصَّلَاة حَتَّى يستقبلها بتكبير مُسْتَقْبل لِأَنَّهُ افتتحها على غير التَّحَرِّي وَكَانَ الْوَاجِب عَلَيْهِ حِين شكّ فَلم يدر أَيْن الْقبْلَة أَن يتحَرَّى فيمضي على أكبر ظَنّه ورأيه فَلَمَّا افْتتح على غير تحر لم يجزه التَّحَرِّي بعد الِافْتِتَاح إِلَّا بتكبير مُسْتَقْبل
وَلَو تحرى فَكَانَ أكبر رَأْيه وَجها من تِلْكَ الْوُجُوه أَنه الْقبْلَة فَتَركه وَصلى إِلَى غَيره فقد أَسَاءَ وأثم وَصلَاته فَاسِدَة
وَإِن علم بعد مَا فرغ مِنْهَا أَنه صلى إِلَى الْقبْلَة لِأَن قبلته الَّتِي ظن أَنَّهَا الْقبْلَة فقد صلى إِلَى غير الْقبْلَة الَّتِي وَجَبت عَلَيْهِ فَعَلَيهِ أَن يُعِيد الصَّلَاة
وَلَو علم أَنَّهَا الْقبْلَة بعد مَا افْتتح الصَّلَاة لم يجزه ذَلِك الِافْتِتَاح حَتَّى يفْتَتح افتتاحا مُسْتَقْبلا وَيُعِيد صلَاته

(3/15)


وَلَو أَن رجلا دخل مَسْجِدا لَا محراب فِيهِ وقبلته مشكلة وَفِيه قوم من أَهله فتحرى الدَّاخِل الْقبْلَة فصلى فَلَمَّا فرغ علم أَنه قد أَخطَأ الْقبْلَة فَعَلَيهِ أَن يُعِيد صلَاته لِأَنَّهُ قد كَانَ يقدر على أَن يسْأَل عَن ذَلِك فيعلمه بِغَيْر تحر وَإِنَّمَا يجوز التَّحَرِّي إِذا أعجزه من يُعلمهُ بذلك وَأما إِذا كَانَ لَهُ من يُعلمهُ بذلك لم يجزه التَّحَرِّي أَلا ترى لَو أَن رجلا أَتَى مَاء من الْمِيَاه فَطلب المَاء فَلم يجده حَتَّى صلى بِتَيَمُّم ثمَّ سَأَلَهُمْ فأخبروه لم تجزه صلَاته حَتَّى يتَوَضَّأ وَيُعِيد الصَّلَاة وَلَو سَأَلَهُمْ فَلم يخبروه أَو لم يكن بِحَضْرَتِهِ من يسْأَله فَطلب فَلم يجد فَتَيَمم وَصلى ثمَّ وجد المَاء أجزته صلَاته وَلم يكن عَلَيْهِ غير مَا صنع وَكَذَلِكَ الْقبْلَة فِيمَا وصفت لَك

(3/16)


وَلَو أَن رجلا كَانَت لَهُ غنم مساليخ ذكية فاختلطت بهَا شَاة

(3/17)


مسلوخة ذَبِيحَة مَجُوسِيّ أَو ذَبِيحَة مُسلم ترك التَّسْمِيَة عمدا أَو ميتَة فَلم يدر صَاحب الْغنم أيتهن هِيَ فانه لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يَأْكُل مِنْهُ شَيْئا حَتَّى يتحَرَّى فَيلقى من ذَلِك الَّذِي يظنّ أَنه ميتَة وَيَأْكُل الْبَقِيَّة وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الذكي شَاتين وَالْميتَة وَاحِدَة فَأَما إِذا كَاتب الْميتَة اثْنَتَيْنِ والذكية وَاحِدَة فَلَا تجزى هَا هُنَا لِأَن الْغَالِب هُوَ الْحَرَام وَلَا يَنْبَغِي أَن ينْتَفع بِشَيْء من ذَلِك وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد

(3/18)


وَكَذَلِكَ لَو كَانَت وَاحِدَة ميتَة وَوَاحِدَة ذكية لم يَأْكُل من ذَلِك شَيْئا بتحر وَلَا غَيره إِلَّا فِي خصْلَة وَاحِدَة إِن كَانَ لَهُ فِي الذكي علم وَدلَالَة تدل عَلَيْهِ حَتَّى يعرف بذلك من الْميتَة فَلَا بَأْس بِأَكْل ذَلِك بِالدّلَالَةِ وَالْعلم الَّذِي يعلم بِهِ وَإِنَّمَا افترق الْغَالِب من ذَلِك وَغَيره لِأَن الْغَالِب يَقع عَلَيْهِ التَّحَرِّي إِذا كَانَ غَالِبا وَهُوَ حَلَال وَفِي ذَلِك وُجُوه كَثِيرَة من الْفِقْه مِنْهَا أَن رجلا لَو كَانَ لَهُ زَيْت فاختلط بِهِ بعض ودك ميتَة أَو شَحم خِنْزِير إِلَّا أَن الزَّيْت هُوَ الْغَالِب على ذَلِك لم نر بَأْسا بِأَن يستصبح بِهِ وَأَن يدبغ بِهِ الْجُلُود ثمَّ يغسلهُ وَأَن يَبِيعهُ وَيبين عَيبه وَلَو كَانَ ودك الْميتَة أَو شَحم الْخِنْزِير هُوَ الْغَالِب على الزَّيْت أَو كَانَا سَوَاء لَا يغلب وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه لم يَنْبغ أَن ينْتَفع بِشَيْء مِنْهُ وَلَا يُبَاع وَلَا يستصبح بِهِ وَلَا يدهن بِهِ جلد وَلَا غير ذَلِك لِأَن ودك الْميتَة وشحم الْخِنْزِير إِذا كَانَا الغالبين على الزَّيْت فَكَأَنَّهُ لَا زَيْت مَعَهُمَا وَكَانَ ذَلِك كُله ميتَة وشحم الْخِنْزِير وَلَا يَنْبَغِي الِانْتِفَاع بذلك على حَال

(3/19)


أَبُو سُلَيْمَان قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد قَالَ أخبرنَا زَمعَة بن صَالح عَن

(3/20)


أبي الزبير عَن جَابر بن عبد الله قَالَ جَاءَ نفر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا إِن لنا سفينة فِي الْبَحْر وَقد احْتَاجَت إِلَى الدّهن وَوجدنَا نَاقَة كَثِيرَة الشَّحْم ميتَة أفندهنها بشحمها فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تنتفعوا من الْميتَة بِشَيْء وَكَذَلِكَ نقُول إِذا كَانَت الْميتَة هِيَ الْغَالِبَة فَكَأَنَّهَا ميتَة كلهَا

(3/21)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَو أَن قوما من الْمُسلمين وجدوا موتى فيهم كَافِر أَو كَافِرَانِ لَا يعرف الْكَافِر من الْمُسلم غسلوا وكفنوا وَصلى عَلَيْهِم وَنوى المصلون بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاء الْمُسلمين مِنْهُم دون الْكَافرين وَصلى عَلَيْهِم جمَاعَة وَإِن كَانُوا كفَّارًا فيهم الْمُسلم والمسلمان لم يصل على أحد مِنْهُم ويغسلون ويكفنون ويدفنون وَلَا يصلى على أحد مِنْهُم
وَكَذَلِكَ قَول أبي يُوسُف وَقَول مُحَمَّد ويدفنون فِي قَول مُحَمَّد فِي مَقَابِر الْمُشْركين فَأَما الْأَولونَ الَّذين أَكْثَرهم الْمُسلمُونَ فانهم يدفنون فِي مَقَابِر الْمُسلمين

(3/22)


وَإِن كَانُوا نِصْفَيْنِ من الْكَافرين وَالْمُسْلِمين لم يصل على أحد مِنْهُم حَتَّى يكون الْأَكْثَر من الْمُسلمين وَهَذَا أَيْضا يدلك على الْوَجْه الأول فان كَانَ بِأَحَدِهِمَا عَلامَة من عَلَامَات الْمُسلمين أَو كَانَ بِأَحَدِهِمَا عَلامَة من عَلَامَات الْمُشْركين فَهَذِهِ دلَالَة فيصلى على الَّذِي بِهِ عَلامَة الْمُسلمين وَيتْرك الَّذِي بِهِ عَلامَة الْمُشْركين وَمن عَلَامَات الْمُسلمين الْخِتَان والخضاب وَلبس السوَاد مِمَّا يعرف بِهِ الْمُسلم من الْكَافِر

(3/23)


وَإِذ أَكَانَ الرجل فِي سفر وَمَعَهُ ثَوْبَان لَا ثوب مَعَه غَيرهمَا فِي أَحدهمَا نَجَاسَة خُفْيَة وَالْآخر طَاهِر وَلَيْسَ مَعَه مَا يغسلهما بِهِ فانه يتحَرَّى الَّذِي يظنّ أَنه لَا نَجَاسَة فِيهِ ثمَّ يصلى فِيهِ ويدع الآخر
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ مَعَه ثَلَاثَة أَثوَاب نجسان وثوب طَاهِر وَكَذَلِكَ مَا كثر من

(3/24)


5 - ذَلِك أَو قل فانه يتحَرَّى فَيصَلي فِي الثَّوْب الَّذِي يظنّ أَنه طَاهِر مِنْهَا وَلَا يشبه هَذَا مَا وصفت لَك قبله من الْغنم بَعْضهَا ميتَة إِذا كَانَ الْغَالِب عَلَيْهَا الْمَيِّت لِأَن هَذِه الثِّيَاب لَو كَانَت كلهَا نَجِسَة لَكَانَ عَلَيْهِ أَن يصلى فِي بَعْضهَا ثمَّ لَا يُعِيد صلَاته لِأَنَّهُ مُضْطَر إِلَى الصَّلَاة فِيهَا وَالَّذِي وصفت لَك من الْغنم لَيْسَ بمضطر إِلَيْهَا
فَإِن كَانَ فِي مَوضِع لَا يجد من الطَّعَام غير تِلْكَ الْغنم اسْتَوَت حَالهَا وَحَال الثِّيَاب فتحرى وَأكل

(3/25)


فان تحرى ثوبا من الثَّوْبَيْنِ فَكَانَ أكبر ظَنّه أَنه هُوَ الطَّاهِر فصلى فِيهِ الظّهْر ثمَّ تحول رَأْيه فَكَانَ أكبر رَأْيه أَن الآخر هُوَ الطَّاهِر فصلى فِيهِ الْعَصْر فان الْعَصْر لَا يجْزِيه لِأَن الظّهْر قد أجزته وَلَا يجْزِيه غَيرهَا لِأَنَّهُ قد فرغ مِنْهَا على تَمام فَلَا تفْسد بعد التَّمام إِلَّا بِالْيَقِينِ فَإِذا استيقن أَن الثَّوْب الَّذِي صلى فِيهِ الظّهْر هُوَ النَّجس أعَاد صَلَاة الظّهْر فأجزته

(3/26)


صَلَاة الْعَصْر فان لم يحضرهُ تحر حَتَّى صلى أَو لم يعلم أَن فِي وَاحِد مِنْهُمَا نَجَاسَة حَتَّى صلى وَهُوَ ساه فصلى فِي أَحدهمَا الظّهْر وَصلى فِي الآخر الْعَصْر وَصلى فِي الأول الْمغرب وَصلى فِي الآخر الْعشَاء ثمَّ نظر فَإِذا فِي أَحدهمَا قذر وَلَا يدْرِي أهوَ الأول أَو الآخر فان صَلَاة الظّهْر وَالْمغْرب جائزتان وَصَلَاة الْعَصْر وَالْعشَاء فاسدتان لِأَنَّهُ صلى الظّهْر فِي أَحدهمَا فتمت صلَاته فَلَا يفْسد بعد تَمامهَا إِلَّا بِيَقِين وَكَذَلِكَ كل صَلَاة صلاهَا فِي ذَلِك الثَّوْب فَهِيَ بمنزلتها
وَأما مَا صلى فِي الثَّوْب الثَّانِي فان ذَلِك لَا يجْزِيه لِأَنَّهُ إِن أجزاه لم يجزه الأول لأَنا قد علمنَا أَن أَحدهمَا نجس فَلَا يَسْتَقِيم أَن يجزيا جَمِيعًا

(3/27)


وَلَو أَن رجلا كَانَ فِي سفر وَمَعَهُ آنِية ثَلَاثَة فِي كل إِنَاء مَاء أَحدهَا نجس والآخران طاهران وَلم يعرف الطَّاهِر من غَيره فانه يتحَرَّى وَيتَوَضَّأ وَيُصلي لِأَن الْأَكْثَر مِنْهَا الطَّاهِر فالتحري يجْزِيه وَإِن كَانَ اثْنَان مِنْهَا نجسين وَوَاحِد طَاهِر أهراقها كلهَا وَتيَمّم وَصلى فان تيَمّم وَصلى وَلم يهرقها أجزاه ذَلِك لِأَنَّهُ لَا تحرى عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَلَكِن الْأَفْضَل لَهُ أَن يهريقها حَتَّى يعلم أَنه لَا مَاء مَعَه ثمَّ بِتَيَمُّم وَكَذَلِكَ إِن كَانَ إناءين أَحدهمَا طَاهِر وَالْآخر نجس أهراقهما وَتيَمّم وَصلى وَهَذَا بِمَنْزِلَة مَا وصفت لَك من الْغنم قبله إِذا كَانَ أَكثر الْآنِية نجسا تيَمّم وَلم يتحر وَإِن كَانَ أَكْثَرهَا طَاهِرا فتحرى وَتَوَضَّأ وَصلى أجزاه ذَلِك مَا لم يعلم أَنه تَوَضَّأ بِمَاء نجس

(3/29)


وَلَو أَن رجلا لَهُ جوَار أعتق وَاحِدَة مِنْهُنَّ بِعَينهَا ثمَّ نَسِيَهَا فَلم يدر أيتهن أعتق لم يَسعهُ أَن يتحَرَّى فِي هَذَا فيطأهن على التَّحَرِّي حَتَّى يعلم أيتهن الْحرَّة من غَيرهَا وَكَذَلِكَ لَا يَسعهُ أَن يَبِيع مِنْهُنَّ شَيْئا وَكَذَلِكَ لَا يسع الْحَاكِم أَن يخلي بَينه وبينهن حَتَّى يبين الْمُعتقَة من غَيرهَا

(3/31)


وَكَذَلِكَ رجل لَهُ أَربع نسْوَة طلق مِنْهُنَّ وَاحِدَة ثَلَاثًا بِعَينهَا ثمَّ نَسِيَهَا فَلم يعرفهَا فَلَيْسَ لَهُ أَن يقرب مِنْهُنَّ شَيْئا بتحر حَتَّى يعلم الْمُطلقَة بِعَينهَا من غَيرهَا وَكَذَلِكَ إِن متن كُلهنَّ إِلَّا وَاحِدَة لم يَسعهُ أَن يقربهَا حَتَّى يعلم أَنَّهَا غير الْمُطلقَة وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي للْقَاضِي إِذا رفعت إِلَيْهِ أَن يمْنَعهَا مِنْهُ حَتَّى يبين فيخبر أَنَّهَا غير الْمُطلقَة فَإِذا أخبر بذلك استحلفه الْبَتَّةَ مَا طلق هَذِه بِعَينهَا ثَلَاثًا ثمَّ خلى بَينه وَبَينهَا فان كَانَ حلف وَهُوَ جَاهِل بِمَا حلف عَلَيْهِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يقربهَا
وَلَو كَانَ لَهُ جوَار فَأعتق وَاحِدَة مِنْهُنَّ بِعَينهَا ثمَّ نَسِيَهَا فَبَاعَ مِنْهُنَّ

(3/32)


ثَلَاثًا فَحكم عَلَيْهِ القَاضِي بِأَن أجَاز بيعهنَّ وَجعل الْبَاقِيَة هِيَ الْمُعتقَة فَأعْتقهَا وَحكم بذلك وَكَانَ ذَلِك من رَأْيه ثمَّ رَجَعَ بعض اللَّاتِي بَاعَ إِلَيْهِ بشرَاء

(3/33)


أَو هبة أَو مِيرَاث أَو غير ذَلِك فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يَطَأهَا لِأَن القَاضِي قضى فِي ذَلِك بِغَيْر علم فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يطَأ شَيْئا مِنْهُنَّ بِالْملكِ إِلَّا أَن يَتَزَوَّجهَا فَإِن فعل فَلَا بَأْس بِأَن يَطَأهَا لِأَنَّهَا على إِحْدَى خَصْلَتَيْنِ إِمَّا حرَّة فَتحل بِالنِّكَاحِ وَإِمَّا أمة فَتحل بِالْملكِ
وَلَا يجوز التَّحَرِّي فِي الْفروج كَمَا يجوز التَّحَرِّي فِيمَا وصفت لَك قبله من جَمِيع هَذِه الْوُجُوه من الْميتَة وَغَيرهَا لِأَن التَّحَرِّي يجوز فِي كل مَا جَازَت فِي الضَّرُورَة أَلا ترى أَن الْميتَة يجوز أكلهَا فِي الضَّرُورَة وكل مَا جَازَ الْعَمَل بِهِ فِي الضَّرُورَة وَصَاحبه يعلم أَنه حرَام فَإِذا كَانَ مُشكلا وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الْحَلَال أجزاه فِي ذَلِك التَّحَرِّي وَأما الْفروج فانه لَا يجوز التَّحَرِّي فِيهَا فَإِنَّهَا لَا تحل بضرورة أبدا وَلَا بغَيْرهَا فَكَذَلِك لَا يجوز التَّحَرِّي فِيهَا
وَلَو أَن قوما عشرَة أَو أقل كَانَت لكل رجل مِنْهُم جَارِيَة فَأعتق أحدهم جَارِيَته وَلم يعرفوا الْجَارِيَة الْمُعتقَة فَلِكُل رجل مِنْهُم أَن يطَأ

(3/34)


جَارِيَته حَتَّى يعلم أَنَّهَا الْمُعتقَة بِعَينهَا فان كَانَ أكبر رأى أحدهم أَنه هُوَ الَّذِي أعتق فَأحب إِلَى أَن لَا يقربهَا حَتَّى يستيقن ذَلِك وَإِن قرب لم يكن ذَلِك عَلَيْهِ حَرَامًا لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم على حِدته لم يعلم أَنه أعتق فجاريته لَهُ حَلَال حَتَّى يعلم أَنه قد أعْتقهَا وَلَكِن لَو اشتراهن جَمِيعًا رجل وَاحِد قد علم مَا قَالَ أحدهم من الْعتْق لم يحل لَهُ أَن يقرب وَاحِدَة مِنْهُنَّ جَمِيعًا حَتَّى يعرف الْمُعتقَة وَلَو اشتراهن كُلهنَّ إِلَّا وَاحِدَة حل لَهُ 2 أَن يطأهن جَمِيعًا فان فعل ثمَّ اشْترى الْبَاقِيَة اجْتَمعْنَ جَمِيعًا فِي ملكه لم يحل لَهُ أَن يطَأ مِنْهُنَّ شَيْئا وَلَا يَبِيع شَيْئا مِنْهُنَّ حَتَّى يستبين لَهُ الْمُعتقَة مِنْهُنَّ
وَكَذَلِكَ لَو اشْترى كُلهنَّ بعض أَصْحَاب الْجَوَارِي إِلَّا جَارِيَة مِنْهُنَّ حل لَهُ أَن يطأهن كُلهنَّ الَّتِي كَانَت عِنْده وَغَيرهَا فَإِن اشْترى الْبَاقِيَة فاجتمعن فِي ملكه لم يَنْبغ لَهُ أَن يقرب مِنْهُنَّ شَيْئا لِأَنَّهُ قد استيقن

(3/35)


حِين اجْتَمعْنَ فِي ملكه أَن إِحْدَاهُنَّ حرَّة فَهُوَ إِن وطئ إِحْدَاهُنَّ وَطئهَا بِغَيْر علم وَلَا يدْرِي أحرة هِيَ أم لَا وإحداهن حرَام عَلَيْهِ لَا شكّ فِيهِ فَإِذا بقيت وَاحِدَة لم يشترها لم يعلم أَن فِيمَا اشْترى حَرَامًا عَلَيْهِ وَلَا شكّ فِيهِ فَإِذا لم يعلم ذَلِك لم يحرم شَيْء من ذَلِك إِلَّا بِالْيَقِينِ وَلَا يكون الْيَقِين إِلَّا باجتماعهن جَمِيعًا فِي ملكه
وَمِمَّا يدلك أَيْضا أَن التَّحَرِّي لَا يجوز فِي الْفروج أَن الْمُعْتق لجارية من رَقِيقه إِذا نَسِيَهَا ثمَّ مَاتَ أَن القَاضِي لَا يُوجب فِي ذَلِك تحريا فَيَقُول للْوَرَثَة أعتقوا أيتهن شِئْتُم أَو أعتقوا الَّتِي أكبر ظنكم أَنَّهَا حرَّة وَلكنه يسألهم عَن ذَلِك فان استيقنوا مِنْهُ شَيْئا أَمْضَاهُ على مَا استيقنوا فأعتقوا الَّذِي زَعَمُوا أَن الْمَيِّت أعْتقهَا بِعَينهَا واستحلفوا على مَا بَقِي مِنْهُنَّ على علمهن فان لم يعرفوا من ذَلِك شَيْئا أعتقن جَمِيعًا فَأبْطل من قيمتهن قيمَة وَاحِدَة وسعين فِيمَا بَقِي فَإِن كن عشرا أبطل من قيمَة كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ عشرا وسعت كل وَاحِدَة فِي تِسْعَة أعشار قيمتهَا

(3/36)


أَبُو سُلَيْمَان قَالَ سَمِعت مُحَمَّدًا يَقُول فِي رجل لَهُ عبد فآجره من

(3/37)


رجل سنة بِمِائَة دِرْهَم للْخدمَة فخدمه العَبْد سِتَّة أشهر ثمَّ إِن الْمولى أعْتقهُ فَالْعَبْد بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ مضى على إِجَارَته وَإِن شَاءَ فَسخهَا فِيمَا بَقِي فَإِن فَسخهَا فِي مَا بَقِي بَطل نصف الْأجر وَأخذ الْمولى من الْمُسْتَأْجر نصف الْأجر وَكَانَ لَهُ دون العَبْد وَإِن مضى العَبْد على إِجَارَته أجزاه ذَلِك فَلَيْسَ لَهُ بعد ذَلِك أَن ينقضها فَإِن مضى عَلَيْهَا حَتَّى تتمّ السّنة فالأجر كُله وَاجِب على الْمُسْتَأْجر نصفه للسَّيِّد حِصَّة الشُّهُور الَّتِي مَضَت وَهُوَ عبد قبل أَن يعْتق العَبْد وَالنّصف الْبَاقِي للْعَبد حِصَّة الشُّهُور الَّتِي بقيت بعد الْعتْق وَلَيْسَ للْعَبد أَن يقبض شَيْئا من الْأجر إِلَّا بوكالة الْمولى إِنَّمَا الَّذِي يقبض

(3/38)


الْأجر الْمولى لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ولى الْإِجَارَة فَيقبض الْأجر كُله فَيكون لَهُ نصفه وَلِلْعَبْدِ نصفه فَإِن كَانَ الْمولى حِين آجر العَبْد سِتَّة مائَة دِرْهَم عجل لَهُ الْمُسْتَأْجر الْمِائَة قبل أَن يعْمل العَبْد شَيْئا ثمَّ إِن العَبْد خدم الْمُسْتَأْجر سِتَّة أشهر ثمَّ أعْتقهُ الْمولى فَالْعَبْد أَيْضا بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ مضى على الْإِجَارَة وَإِن شَاءَ فَسخهَا فان فَسخهَا فَالْقَوْل فِي ذَلِك كالقول فِي الْمَسْأَلَة الأولى وَإِن مضى على الْإِجَارَة حَتَّى يخْدم السّنة كلهَا فالأجر كُله للْمولى وَلَا شَيْء للْعَبد مِنْهُ لِأَن الْمولى قد كَانَ ملك الْأجر كُله قبل أَن يعْتق العَبْد فَلَا يتَحَوَّل شَيْء من ملك الْآجر إِلَى العَبْد بعد عتقه فَإِذا لم يقبض الْأجر فَإِنَّمَا يجب الْأجر بِالْعَمَلِ يَوْمًا بِيَوْم وشهرا بِشَهْر فَإِذا أعتق العَبْد فِي بعض السّنة فَعمل مَا بَقِي مِنْهَا كَانَ لَهُ أجر مَا بَقِي لِأَن ذَلِك لم يملكهُ الْمولى حِين عتق العَبْد
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الْأجر دَنَانِير أَو شَيْئا بِمَا يُكَال أَو يُوزن أَو عرضا من الْعرُوض أَو جَارِيَة أَو ثوبا بِعَيْنِه أَو غير ذَلِك إِذا قَبضه الْمولى بِإِذن الْمُسْتَأْجر قبل أَن يعْتق العَبْد فقد ملكه الْمولى فَإِذا مضى العَبْد على الْإِجَارَة كَانَ الَّذِي قبض الْمولى لَهُ دون العَبْد وَإِن كَانَ الْمولى لم يقبض ذَلِك وَالْأَجْر جَارِيَة بِعَينهَا فَعمل العَبْد وَهُوَ مَمْلُوك نصف السّنة ثمَّ عتق

(3/39)


فَعمل نصف السّنة الْأُخْرَى وَلم يكن الْمولى قبض الْجَارِيَة فنصفها للْمولى وَنِصْفهَا للْعَبد وَالَّذِي يَلِي قبضهَا من الْمُسْتَأْجر الْمولى لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ولى الْإِجَارَة فَيدْفَع نصفهَا إِلَى العَبْد وَيكون لَهُ نصفهَا وَلَو كَانَ الْمولى قبض الْجَارِيَة قبل الْعتْق وَالْمَسْأَلَة على حَالهَا سلمت الْجَارِيَة كلهَا للْمولى وَلم يكن للْعَبد مِنْهَا قَلِيل وَلَا كثير أَلا ترى أَن رجلا لَو زوج جَارِيَة لَهُ من رجل بِصَدَاق وَقَبضه الْمولى أَو لم يقبضهُ حَتَّى أعْتقهَا الْمولى فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَت أَقَامَت مَعَ زَوجهَا وَإِن شَاءَت فارقته فَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا وَلم يكن الزَّوْج دخل بهَا بَطل صَدَاقهَا وَكَانَت فرقة بِغَيْر طَلَاق وَإِن اخْتَارَتْ زَوجهَا كَانَ الصَدَاق لمولاها إِن كَانَ قبض الصَدَاق أَو لم يقبض وَهَذَا الْوَجْه إِذا لم يقبض الصَدَاق يُخَالف الْإِجَارَة إِذا لم يقبض الْأجر لِأَن الصَدَاق يجب بِالنِّكَاحِ حِين يَقع لَا يجب مِنْهُ شَيْء دون شَيْء وَأَن الْإِجَارَة إِنَّمَا تجب بِالْعَمَلِ كلما عمل يَوْمًا وَجب لَهُ أجره فَلهَذَا اخْتلفَا إِذا لم يقبض الصَدَاق وَالْأَجْر أما إِذا قبضهَا الْمولى جَمِيعًا فَهُوَ سَوَاء فِي جَمِيع مَا وصفت
وَلَو أَن رجلا قَالَ لعَبْدِهِ آجر نَفسك بِمِائَة دِرْهَم مِمَّن شِئْت فآجر نَفسه من رجل سنة بِمِائَة دِرْهَم كَمَا أمره مَوْلَاهُ فخدم الْمُسْتَأْجر سِتَّة أشهر ثمَّ أعْتقهُ الْمولى فَالْعَبْد أَيْضا بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ فسخ الْإِجَارَة

(3/40)


فَأخذ العَبْد نصف الْأجر حِصَّة مَا مضى من الشُّهُور فَدفع ذَلِك إِلَى مَوْلَاهُ وَإِن شَاءَ مضى على الْإِجَارَة حَتَّى يتم وَأخذ العَبْد الْأجر كُله وَأعْطى مَوْلَاهُ نصفه وَأخذ نصفه وَلَيْسَ للْمولى على الْمُسْتَأْجر سَبِيل فِي قبض شَيْء من الْأجر إِلَّا بوكالة من العَبْد لِأَن العَبْد هُوَ الَّذِي ولى الْإِجَارَة وَإِن كَانَ العَبْد قبض الْأجر قبل الْعَمَل ثمَّ أعْتقهُ الْمولى بعد مَا عمل نصف السّنة فَالْعَبْد أَيْضا بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ نقض الْإِجَارَة ورد على الْمُسْتَأْجر نصف مَا أَخذ مِنْهُ من الْأجر وَإِن كَانَ الْمولى أَخذ ذَلِك من عَبده فاستهلكه كَانَ للْمُسْتَأْجر أَن يَأْخُذ العَبْد بذلك حَتَّى يُؤَدِّيه هُوَ إِلَيْهِ وَلَا سَبِيل لَهُ على الْمولى وَلِلْعَبْدِ أَن يرجع على الْمولى فَيَأْخُذ مِنْهُ نصف مَا أَخذ إِن كَانَ قَائِما بِعَيْنِه عرضا أَو غَيره وَإِن كَانَ الْمولى اسْتَهْلكهُ كَانَ لَهُ أَيْضا أَن يرجع على الْمولى بِنصْف مَا قبض لِأَن هَذَا المَال لم يجب على الْمولى للْعَبد فِي حَال رقّه إِنَّمَا وَجب لَهُ بعد الْعتْق وَبعد فسخ الْإِجَارَة أَلا ترى أَن الْمُسْتَأْجر لَا سَبِيل لَهُ على الْمولى وَإِن كَانَ العَبْد معدما لِأَن الْمولى قبض ذَلِك من العَبْد يَوْم قبض وَلَا دين على العَبْد وَلَو كَانَ على العَبْد يَوْمئِذٍ دين لَكَانَ للْغَرِيم أَن يَأْخُذ

(3/41)


الْمولى بِمَا أَخذ من مَال عَبده حَتَّى يَدْفَعهُ إِلَيْهِ قَضَاء من دينه فَلذَلِك كَانَ للْعَبد أَن يرجع على الْمولى بِمَا أَخذ مِنْهُ حَتَّى يُوفيه الْمُسْتَأْجر وَإِن اخْتَار العَبْد الْمُضِيّ على الْإِجَارَة فَمضى حَتَّى أتم الْخدمَة فان كَانَ لم يقبض الْأجر فِي حَال رقّه فالأجر بَين الْمولى وَعَبده نِصْفَانِ نصف للْمولى حِصَّة مَا مضى من الشُّهُور وَنصفه للْعَبد فان كَانَ العَبْد قبض الْأجر فِي حَال رقّه ثمَّ مضى على الْإِجَارَة حَتَّى انْتهى فالأجر كُله للْمولى دَرَاهِم كَانَت أَو دَنَانِير أَو كَيْلا أَو وزنا أَو عرضا من الْعرُوض كَائِنا مَا كَانَ
فَإِن قَالَ قَائِل وَكَيف يكون للْعَبد أَن يفْسخ الْإِجَارَة وَهُوَ الَّذِي وَليهَا قيل لَهُ لِأَنَّهَا تمت فِي حَال رقّه بِإِذن الْمولى لَهُ فِي ذَلِك أَلا ترى لَو أَن أمة زوجت نَفسهَا بِإِذن مَوْلَاهَا ثمَّ أعتقت كَانَ لَهَا الْخِيَار إِن شَاءَت أَقَامَت مَعَ زَوجهَا وَإِن شَاءَت فارقته وَهِي الَّتِي وليت النِّكَاح وَكَذَلِكَ العَبْد إِذا ولى الْإِجَارَة فَإِن قَالَ قَائِل وَكَيف يكون للْعَبد أَن يفْسخ الْإِجَارَة فِي وَجه من هَذِه الْوُجُوه وَقد كَانَت جَائِزَة قيل لَهُ لِأَن الْإِجَارَة تفسخ بِعُذْر فالعتق من أفضل الْعذر لِأَن الْأَمر رَجَعَ إِلَى العَبْد وَصَارَ أَحَق بِنَفسِهِ من الْمولى أَلا ترى أَن رجلا لَو توفى فأوصى إِلَى

(3/42)


رجل وَترك ابْنا صَغِيرا فآجره الْوَصِيّ فِي عمل من الْأَعْمَال فَلم يتم الْعَمَل حَتَّى بلغ الْغُلَام مبلغ الرِّجَال فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ مضى على الْعَمَل حَتَّى يتمه وَأخذ الْأجر كُله وَإِن شَاءَ فسخ الْإِجَارَة فِيمَا بَقِي وَكَانَ لَهُ أجر مَا مضى وَهَذَا قَول أبي حنيفَة فَإِذا كَانَ للغلام أَن ينْقض الْإِجَارَة وَالْأَجْر لَهُ فَالْعَبْد أَحْرَى أَن ينْقض الْإِجَارَة إِذا أعتق وَالْأَجْر يكون لمَوْلَاهُ إِن كَانَ قد قَبضه فِي حَال الرّقّ
وَكَذَلِكَ لَو أَن الْأَب نَفسه آجر ابْنه وَهُوَ صَغِير فِي عمل من الْأَعْمَال سِنِين مَعْلُومَة بِأَجْر مَعْلُوم فَبلغ الْغُلَام قبل أَن يتمم السنون فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ فسخ الْإِجَارَة وَإِن شَاءَ مضى عَلَيْهَا وَكَانَت حَاله كَحال الَّذِي آجره الْوَصِيّ
وَلَو كَانَ الْوَصِيّ أَو الْوَالِد آجر دَارا للصَّغِير سِنِين مَعْلُومَة فَبلغ الْغُلَام فَأَرَادَ أَن يبطل الْإِجَارَة لم يكن لَهُ ذَلِك وَلَا يشبه هَذَا فِي

(3/43)


هَذَا الْوَجْه إِجَارَة نَفسه لِأَن الْوَالِد وَالْوَصِيّ فِي مَال الصَّغِير بِمَنْزِلَة الوكيلين اللَّذين يوكلهما الْكَبِير أَلا ترى أَن الْكَبِير لَو وكل رجلا يُؤَاجر دَاره فآجرها كَمَا وَكله لم يكن لَهُ أَن ينْقض إِجَارَة وَكيله فَكَذَلِك هَذَا
وَلَو آجر العَبْد نَفسه وَهُوَ مَحْجُور عَلَيْهِ رجلا سنة بِمِائَة دِرْهَم فخدمه سِتَّة أشهر ثمَّ أعتق العَبْد فَالْقِيَاس فِي هَذَا أَنه لَا أجر

(3/44)


للْعَبد فِيمَا مضى لِأَن الْمُسْتَأْجر كَانَ ضَامِنا لَهُ وَلَا يجْتَمع الْأجر وَالضَّمان وَلَكنَّا نستحسن إِذا سلم العَبْد أَن يَجْعَل لَهُ الْأجر فِيمَا مضى فَيَأْخذهُ العَبْد فيدفعه إِلَى مَوْلَاهُ فَيكون ذَلِك لمَوْلَاهُ دونه وَتجوز الْإِجَارَة فِيمَا بَقِي من السّنة وَلَيْسَ للْعَبد أَن يقبض ذَلِك لِأَن الْإِجَارَة فِيمَا بَقِي إِنَّمَا جَازَت بعد مَا أعتق العَبْد فَلَيْسَ للْعَبد أَن ينْقض مَا جَازَ بعد عتقه لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ بِغَيْر إِجَارَة الْمولى أَلا ترى أَن أمة لَو تزوجت رجلا بِغَيْر أَمر مَوْلَاهَا فَأعْتقهَا الْمولى جَازَ نِكَاحهَا عَلَيْهَا وَلم يكن لَهَا خِيَار فِي إِبْطَاله لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ بعد الْعتْق وَكَذَلِكَ الْإِجَارَة بِمَا جَازَ مَا بَقِي مِنْهَا بعد الْعتْق لم يكن للْعَبد إبِْطَال ذَلِك وَلَكِن الْإِجَارَة تلْزم

(3/45)


العَبْد وَيكون للْمولى أجر مَا مضى من الشُّهُور قبل الْعتْق وَيكون أجر مَا بَقِي من الشُّهُور بعد الْعتْق للْعَبد فان كَانَ العَبْد قبض الْأجر فِي حَال الرّقّ وَهُوَ دَرَاهِم أَو دَنَانِير أَو شَيْء مِمَّا يُكَال أَو يُوزن أَو عرض من الْعرُوض أَو لم يقبض ذَلِك فَهُوَ سَوَاء يكون للْمولى من ذَلِك حِصَّة مَا مضى من الشُّهُور وَلِلْعَبْدِ حِصَّة مَا بَقِي من الشُّهُور بعد مَا عتق وَلَا يشبه هَذَا الْوَجْه فِيمَا قبض العَبْد من الْأجر مَا مضى قبله من الْإِجَارَات بِإِذن الْمولى وَإِجَارَة الْمولى لِأَن العَبْد لما قبض الْأجر فِي هَذَا الْوَجْه فقد قبض شَيْئا لَيْسَ بجائز وَلَا يجب بِهِ الْأجر حَتَّى يجوز بعد الْعَمَل فَلَمَّا أعتق العَبْد وَقد قبض الْأجر فان كَانَ لم يعْمل شَيْئا وَلم يمض من السّنة شَيْء فَإِنَّمَا جَازَت الْإِجَارَة بعد الْعتْق وَوَجَب الْأجر بعد الْعتْق وَصَارَ الْأجر كُله للْعَبد فَإِن كَانَ قد مضى من الشُّهُور شَيْء قبل الْعتْق وَجب أجر ذَلِك للْمولى بِالْعَمَلِ دون الْقَبْض فَصَارَ ذَلِك بِمَنْزِلَة من لم يقبض فَأَما أجر مَا لم يمض من الْعَمَل فَإِنَّهُ لَا يجب بِالْقَبْضِ حَتَّى تجوز الْإِجَارَة وَإِنَّمَا جَازَت الْإِجَارَة بعد الْعتْق فَصَارَ ذَلِك للْعَبد دون الْمولى فَلذَلِك افترق جَوَاز الْإِجَارَة قبل الْعتْق وجوازها بعد الْعتْق فِيمَا قبض

(3/46)


العَبْد من الْأجر
آخر كتاب التَّحَرِّي وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل

(3/47)