البحر الرائق شرح كنز الدقائق ط احياء التراث

ج / 2 ص -481-       6- كتاب الحج
هو زيارة مكان مخصوص في زمان مخصوص بفعل مخصوص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
6- كتاب الحج
لما كان مركبا من المال والبدن وكان واجبا في العمر مرة أخره ولمراعاة ترتيب حديث الصحيحين
"بني الإسلام على خمس" وختم بالحج، وفي رواية ختم بالصوم وعليها اعتمد البخاري في تقديم الحج على الصوم.
وهو في اللغة بفتح الحاء وكسرها وبهما قرئ في التنزيل القصد إلى معظم لا مطلق القصد كما ظنه الشارح وجعله كالتيمم.
وفي الفقه ما ذكره بقوله:
"هو زيارة مكان مخصوص في زمان مخصوص بفعل مخصوص" والمراد بالزيارة الطواف والوقوف والمراد بالمكان المخصوص البيت الشريف والجبل المسمى بعرفات والمراد بالزمان المخصوص في الطواف من طلوع الفجر يوم النحر إلى آخر العمر وفي الوقوف زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر.
وبهذا التقرير ظهر أن الحج اسم لأفعال مخصوصة من الطواف الفرض والوقوف في وقتهما محرما بنية الحج سابقا كما سيأتي أن الإحرام شرط واندفع به ما قرره الشارح من فهم كلام المصنف على أنه في الشريعة جعل لقصد خاص مع زيادة وصف فإن المصنف لم يتعرض للقصد وإنما عرفه بالزيارة وهي فعل لا قصد بدليل ما في عمدة الفتاوى.
إذا حلف ليزورن فلانا غدا فذهب ولم يؤذن له لا يحنث، ولو لم يستأذن ورجع يحنث. ا هـ.
فلا بد من الذهاب مع الاستئذان وسلم من بحث المحقق ابن الهمام على المشايخ من أن التعريف بالقصد الخاص تعريف له بشرطه وليوافق تعريف بقية العبادات فإن الصلاة اسم لأفعال مخصوصة هي القيام والقراءة والركوع والسجود والصوم اسم للإمساك الخاص والزكاة اسم للإيتاء المخصوص فليكن الحج اسما لأفعال مخصوصة.

 

ج / 2 ص -482-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يراد بالزيارة البيت فقط فإنه حينئذ يصير الحج اسما للطواف فقط وليس كذلك.
فإن ركنه شيئان الطواف بالبيت والوقوف بعرفة بالشرط السابق ويشكل عليه ما قالوا إن المأمور بالحج إذا مات بعد الوقوف بعرفة قبل طواف الزيارة فإنه يكون مجزئا بخلاف ما إذا رجع قبله فإنه لا وجود للحج إلا بوجود ركنيه ولم يوجدا فينبغي أن لا يجزئ الآمر سواء مات المأمور أو رجع.
وسببه: البيت لأنه يضاف إليه ولهذا لم يتكرر الحج على المكلف.
وشرائطه ثلاثة: شرائط وجوب وشرائط وجوب أداء وشرائط صحة.
فالأولى ثمانية على الأصح الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والوقت والقدرة على الزاد والقدرة على الراحلة والعلم بكون الحج فرضا وقد ذكر المصنف منها ستة وترك الأول والأخير والعذر له كغيره أنهما شرطان لكل عبادة وقد يقال كذلك العقل والبلوغ والعلم المذكور يثبت لمن في دار الإسلام بمجرد الوجود فيها سواء علم بالفرضية، أو لم يعلم ولا فرق في ذلك بين أن يكون نشأ على الإسلام فيها، أو لا فيكون ذلك علما حكميا ولمن في دار الحرب بإخبار رجلين أو رجل وامرأتين، ولو مستورين أو واحد عدل وعندهما لا تشترط العدالة والبلوغ والحرية فيه وفي نظائره الخمسة كما عرف أصولا وفروعا.
والثانية خمسة على الأصح صحة البدن وزوال الموانع الحسية عن الذهاب إلى الحج وأمن الطريق وعدم قيام العدة في حق المرأة وخروج الزوج، أو المحرم معها.
والثالثة أعني شرائط الصحة أربعة الإحرام بالحج والوقت المخصوص والمكان المخصوص والإسلام ومنهم من ذكر بدل الإحرام النية وهذا أولى لاستلزامه النية وغيرها.
وواجباته أعني التي يلزم بترك واحد منها دم إنشاء الإحرام من الميقات ومد الوقوف بعرفة إلى الغروب والوقوف بالمزدلفة فيما بين طلوع فجر يوم النحر إلى طلوع الشمس والحلق، أو التقصير والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط وكونه بعد طواف معتد به ورمي الجمار وبداية الطواف من الحجر الأسود والتيامن فيه والمشي فيه لمن ليس له عذر يمنعه منه والطهارة فيه من الحدث الأصغر والأكبر وستر العورة وأقل الأشواط السبعة وهي ثلاثة وبداية السعي بين الصفا والمروة من الصفا والمشي فيه لمن ليس له عذر وذبح الشاة للقارن، أو المتمتع وصلاة ركعتين لكل أسبوع وطواف الصدر والترتيب بين الرمي والحلق والذبح يوم النحر وتوقيت الحلق بالمكان وتوقيته بالزمان وفعل طواف الإفاضة في أيام النحر وما

 

ج / 2 ص -483-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عدا هذه المذكورات مما سيأتي بيانه مفصلا سنن وآداب.
وأما محظوراته فنوعان ما يفعله في نفسه وهو الجماع وإزالة الشعر وقلم الأظافر والتطيب وتغطية الرأس والوجه ولبس المخيط.
وما يفعله في غيره وهو حلق رأس الغير والتعرض للصيد في الحل والحرام وأما قطع شجر الحرم فلا ينبغي عده مما نحن فيه كما في النهاية فإن حرمته لا تتعلق بالحج ولا بالإحرام كذا في فتح القدير وقد يقال إنه كصيد الحرم وقد عده من محظوراته فلا بدع في أن يكون حراما بجهتين كما لا يخفى.
ولمن أراد الحج مهمات ينبغي الاعتناء بها وهي البداية بالتوبة بشروطها من رد المظالم إلى أهلها عند الإمكان وقضاء ما قصر في فعله من العبادات والندم على تفريطه في ذلك والعزم على عدم العود إلى مثل ذلك والاستحلال من ذوي الخصومات والمعاملات وتحصيل رضا من يكره السفر بغير رضاه وفي الخلاصة معزيا إلى العيون إذا أراد الابن أن يخرج إلى الحج وأبوه كاره لذلك إن كان الأب مستغنيا عن خدمته فلا بأس به وإن كان محتاجا يكره وكذا الأم في السير الكبير إذا لم يخف عليه الضعف فلا بأس به وكذا إن كرهت خروجه زوجته ومن عليه نفقته وإن لم يكن عليه نفقته فلا بأس به مطلقا وفي النوازل إن كان الابن أمرد صبيح الوجه للأب أن يمنعه عن الخروج حتى يلتحي وإن كان الطريق مخوفا لا يخرج وإن لم يكن أمرد. ا هـ.
وفي فتح القدير والأجداد والجدات كالأبوين عند فقدهما ويكره الخروج للغزو والحج لمديون وإن لم يكن له مال يقضي به إلا أن يأذن الغريم فإن كان بالدين كفيل بإذنه لا يخرج إلا بإذنهما وإن بغير إذنه فبإذن الطالب وحده. ا هـ.
وهذا كله في حج الفرض أما في حج النفل فطاعة الوالدين أولى مطلقا كما صرح به في الملتقط ويشاور ذا رأي في سفره في ذلك الوقت لا في نفس الحج فإنه خير وكذا يستخير الله في ذلك ويجتهد في تحصيل نفقة حلال فإنه لا يقبل بالنفقة الحرام كما ورد في الحديث مع أنه يسقط الفرض عنه معها وإن كانت مغصوبة ولا تنافي بين سقوطه وعدم قبوله فلا يثاب لعدم

 

ج / 2 ص -484-       فرض مرة على الفور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القبول ولا يعاقب في الآخرة عقاب تارك الحج ولا بد له من رفيق صالح يذكره إذا نسي ويصبره إذا جزع ويعينه إذا عجز وكونه من الأجانب أولى من الأقارب عند بعض الصالحين تبعدا من ساحة القطيعة ويرى المكارى ما يحمله ولا يحمل أكثر منه إلا بإذنه وقد ذكر عن بعض السلف ويقال إنه الشافعي وقيل ابن المبارك وقيل ابن القاسم صاحب الإمام مالك أنه دفع إليه مطالعة ليحملها إلى إنسان فامتنع من حملها بدون إذن المكاري لكونه لم يشارطه على ذلك ورعا من فاعله وكذا يحترز من تحميلها فوق ما تطيق ومن تقليل علفها المعتاد بلا ضرورة، ولو مملوكة له وفي إجارة الخلاصة حمل البعير مائتان وأربعون منا وحمل الحمار مائة وخمسون منا قالوا ولا يشارك في الزاد واجتماع الرفقة كل يوم على طعام أحدهم أحد وينبغي أن يستثنى ما إذا علمت المسامحة بينهما فله المشاركة وإلا شارك فالاستحلال من الشركاء مخلص وتجريد السفر عن التجارة أحسن، ولو اتجر لا ينقص ثوابه كالغازي إذا اتجر كما ذكره الشارح في السير وأما عن الرياء والسمعة والفخر ظاهرا، أو باطنا ففرض وخلط التجارة بهذا القسم كما في فتح القدير مما لا ينبغي وأما الركوب في المحمل فكرهه بعضهم خوفا مما ذكرنا ولم يكرهه بعضهم إذا تجرد عن ذلك ففي التحقيق لا اختلاف وركوب الجمل أفضل ويكره الحج على الحمار والظاهر أنها تنزيهية بدليل أفضلية ما قابله والمشي أفضل من الركوب لمن يطيقه ولا يسيء خلقه وأما حج النبي صلى الله عليه وسلم راكبا فلأنه كان القدوة فكانت الحاجة ماسة إلى ظهوره ليراه الناس وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في محله ولا يماكس في شراء الأدوات والزاد ويستحب أن يجعل خروجه يوم الخميس، أو يوم الاثنين ويفعل ما ذكره العلماء في آداب السفر.
"قوله: فرض مرة على الفور" أي فرض الحج في العمر مرة واحدة في أول سني الإمكان.
والفور في اللغة من فور القدر غليانها وفعل ذلك من فوره أي من وجهه ذلك وهو من فور القدر قبل أن تسكن قال الله تعالى:
{مِنْ فَوْرِهِمْ} [آل عمران: 125] هذا ولم يذكر المصنف فرضيته قصدا؛ لأنها من المسائل الاعتقادية فليست من مسائل الفقه؛ لأن مسائله ظنية وإنما ذكره توطئة لما بعده ودليله القرآني {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] والسنة كثيرة وأما كونه لا يتعدد فلأن سببه وهو البيت كذلك وأما تكرر وجوب الزكاة مع

 

ج / 2 ص -485-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اتحاد المال فلأن سببه هو النامي تقديرا وتقدير النماء دائر مع حولان الحول إذا كان المال معدا للاستنماء في الزمان المستقبل وتقدير النماء الثابت في هذا الحول غير تقدير النماء في حول آخر فالمال مع هذا النماء غير المجموع منه ومن النماء الآخر فيتعدد حكما كتعدد الوجوب بتعدد النصاب ولرواية أحمد مرفوعا
"الحج مرة فمن زاد فهو تطوع" وأما كونه على الفور فهو قول أبي يوسف وأصح الروايتين عن أبي حنيفة وعند محمد يجب على التراخي والتعجيل أفضل كذا في الخلاصة.
وتحقيقه أن الأمر إنما هو طلب المأمور به ولا دلالة له على الفور ولا على التراخي فأخذ به محمد وقواه بأنه عليه السلام حج سنة عشر وفرضية الحج كانت سنة تسع فبعث أبا بكر حج بالناس فيها ولم يحج هو إلى القابلة وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فقالا الاحتياط في تعيين أول سني الإمكان؛ لأن الحج له وقت معين في السنة والموت في سنة غير نادر فتأخيره بعد التمكن في وقته تعريض له على الفوات فلا يجوز وبهذا حصل الجواب عن تأخيره عليه الصلاة والسلام إذ لا يتحقق في حقه تعريض الفوات وهو الموجب للفور؛ لأنه كان يعلم أنه يعيش حتى يحج ويعلم الناس مناسكهم تكميلا للتبليغ وبهذا التقرير علم أن الفورية ظنية؛ لأن دليل الاحتياط ظني ومقتضاه الوجوب فإذا أخره وأداه بعد ذلك وقع أداء ويأثم بالتأخير لترك الواجب.
وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا أخره فعلى الصحيح يأثم ويصير فاسقا مردود الشهادة وعلى قول محمد لا وينبغي أن لا يصير فاسقا من أول سنة على المذهب الصحيح بل لا بد أن يتوالى عليه سنون؛ لأن التأخير في هذه الحالة صغيرة؛ لأنه مكروه تحريما ولا يصير فاسقا بارتكابها مرة بل لا بد من الإصرار عليها وإذا حج في آخر عمره ارتفع الإثم اتفاقا.
قال الشارح ولو مات ولم يحج أثم بالإجماع ولا يخفى ما فيه فإن المشايخ اختلفوا على قول محمد فقيل يأثم مطلقا وقيل لا يأثم مطلقا.
وقيل إن خاف الفوات بأن ظهرت له مخائل الموت في قلبه فأخره حتى مات أثم وإن فجأه الموت لا يأثم وينبغي اعتماد القول الأول وتضعيف القول الثاني؛ لأنه حينئذ يفوت القول

 

ج / 2 ص -486-       بشرط حرية وبلوغ وعقل وصحة وقدرة زاد وراحلة فضلت عن مسكنه وعما لا بد منه ونفقة ذهابه وإيابه وعياله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بفرضية الحج؛ لأن فائدتها الإثم عند عدم الفعل سواء كان مضيقا، أو موسعا اللهم إلا أن يقال فائدتها على هذا القول وجوب الإيصاء عليه قبيل موته فإذا لم يوص يأثم لترك هذا الواجب لا لترك الحج وعلم من قوله فرض مرة أن ما زاد عليها فهو تطوع ويشهد له الحديث السابق وعند الشافعية أن الحج لا يوصف بالنفلية بل المرة الأولى فرض عين وما زاد ففرض كفاية؛ لأن من فروض الكفاية أن يحج البيت كل عام ولم أره لأئمتنا بل صرحوا بالنفلية فقالوا حج النفل أفضل من الصدقة ولا يخفى أنه إذا نذر الحج فإنه يصير فرضا أيضا.
ومن فروعه ما في الخلاصة رجل قال لله علي مائة حجة لزمته كلها، ولو قال أنا أحج لا حج عليه، ولو قال إذا دخلت الدار فأنا أحج يلزمه عند الشرط.
ولو قال المريض إن عافاني الله تعالى من مرضي هذا فعلي حجة فبرئ لزمته حجة وإن لم يقل علي حجة لله؛ لأن الحجة لا تكون إلا لله، ولو برأ وحج جاز عن حجة الإسلام، ولو نوى غير حجة الإسلام صحت نيته. ا هـ.
وظاهره أنه ينصرف إلى حجة الإسلام من غير نيته وينبغي أن ينصرف إلى غير حجة الإسلام بغير نية إلا أن ينويها وقد صرح به الشارح الزيلعي في كتاب الأضحية لكن علل المحقق ابن الهمام لما في الخلاصة بأن الغالب أن يريد به المريض الذي فرط في الفرض حتى مرض وقد قدمنا أن الحج يتصف بالحرمة إذا كان المال حراما ويمكن أن يقال إنه يكون واجبا وهو ما إذا جاوز الميقات بغير إحرام فإنهم قالوا يجب عليه أحد النسكين إما الحج، أو العمرة فإذا اختار الحج فإنه يتصف بالوجوب وقد قدمنا أنه يتصف بالكراهة وهو حجه بغير إذن أبويه بشرطه، أو بغير إذن صاحب الدين فتحرر من هذا أنه يكون فرضا وواجبا ونفلا وحراما ومكروها والظاهر أنه لا يتصف بالإباحة؛ لأنه عبادة وضعا.
"قوله: بشرط حرية وبلوغ وعقل وصحة وقدرة زاد وراحلة فضلت عن مسكنه وعما لا بد منه ونفقة ذهابه وإيابه وعياله" فلا حج على عبد ولو مدبرا، أو أم ولد، أو مكاتبا أو مبعضا، أو مأذونا له في الحج، ولو كان بمكة لعدم ملكه بخلاف الصوم والصلاة؛ لأن الحج لا يتأتى إلا بالمال غالبا بخلافهما ولفوات حق المولى في مدة طويلة وحق العبد مقدم بإذن الشرع والمولى وإن أذنه فقد أعاره منافعه والحج لا يجب بقدرة عارية ولا على صبي ولا مجنون وفي

 

ج / 2 ص -487-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعتوه خلاف في الأصول فذهب المصنف تبعا لفخر الإسلام إلى أنه يوضع عنه الخطاب كالصبي فلا يجب عليه شيء من العبادات وذهب الدبوسي في التقويم إلى أنه مخاطب بالعبادات احتياطا.
والمراد بالصحة صحة الجوارح فلا يجب أداء الحج على مقعد ولا على زمن ولا مفلوج ولا مقطوع الرجلين ولا على المريض والشيخ الذي لا يثبت بنفسه على الراحلة والأعمى والمجبوس والخائف من السلطان الذي يمنع الناس من الخروج إلى الحج لا يجب عليهم الحج بأنفسهم. ولا الإحجاج عنهم إن قدروا على ذلك هذا ظاهر المذهب عن أبي حنيفة وهو رواية عنهما وظاهر الرواية عنهما أنه يجب عليهم الإحجاج فإن أحجوا أجزأهم ما دام العجز مستمرا بهم فإن زال فعليهم الإعادة بأنفسهم.
وظاهر ما في التحفة اختياره فإنه اقتصر عليه وكذا الإسبيجابي وقواه المحقق في فتح القدير ومشى على أن الصحة من شرائط وجوب الأداء.
فالحاصل أنها من شرائط الوجوب عنده ومن شرائط وجوب الأداء عندهما.
وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الإحجاج كما ذكرنا في وجوب الإيصاء ومحل الخلاف فيما إذا لم يقدر على الحج وهو صحيح أما إن قدر عليه وهو صحيح ثم زالت الصحة قبل أن يخرج إلى الحج فإنه يتقرر دينا في ذمته فيجب عليه الإحجاج اتفاقا أما إن خرج فمات في الطريق فإنه لا يجب عليه الإيصاء بالحج؛ لأنه لم يؤخر بعد الإيجاب كذا في التجنيس.
ولا فرق في الأعمى بين أن يجد قائدا، أو لا وهو المشهور عن أبي حنيفة؛ لأن القادر بقدرة غيره ليس بقادر ولو تكلف هؤلاء الحج بأنفسهم سقط عنهم حتى لو صحوا بعد ذلك لا يجب عليهم الأداء؛ لأن سقوط الوجوب عنهم لدفع الحرج فإذا تحملوه وقع عن حجة الإسلام كالفقير إذا حج.
وأما القدرة على الزاد والراحلة فالفقهاء على أنه من شرط الوجوب فلا وجوب أصلا يتعلق بالفقير لاشتراط الاستطاعة في آية الحج وفسرت بهما والذي عليه أهل الأصول ومنهم صاحب التوضيح تبعا لفخر الإسلام أن القدرة الممكنة كالزاد والراحلة للحج شرط وجوب الأداء لا شرط الوجوب؛ لأن الوجوب جبري لا صنع للعبد فيه وليس فيه تكليف؛ لأنه طلب إيقاع الفعل من العبد ونفس الوجوب ليس كذلك ألا ترى أن صوم المريض والمسافر واجب ولا تكليف عليهما وكذا الزكاة قبل الحول وقد ظهر للعبد الضعيف أن الفقهاء إنما لم يوافقوا الأصوليين على ذلك

 

ج / 2 ص -488-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لما أنه لا فائدة في جعله شرط وجوب الأداء؛ لأن فائدة الفرق بينهما هو لزوم الإيصاء عند الموت وعدمه والفقير لا يتأتى فيه ذلك فلهذا جعلوا القدرة من شرائط أصل الوجوب ولم أر من نبه على هذا.
وقول المحقق في فتح القدير واعلم أن القدرة على الزاد والراحلة شرط الوجوب لا نعلم عن أحد خلافه مراده عن أحد من الفقهاء وإلا فقد علمت أن الأصوليين على خلافه وعلى ما ذكره الأصوليون فلا يتأتى بحثه المذكور في الفقير كما لا يخفى وأطلق في الزاد فأفاد أنه يعتبر في حق كل إنسان ما يصح به بدنه والناس متفاوتون في ذلك.
والراحلة في اللغة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى وهي فاعلة بمعنى مفعولة وفيه إشارة إلى أنه لو قدر على غير الراحلة من بغل أو حمار فإنه لا يجب عليه ولم أره صريحا وإنما صرحوا بالكراهية ويعتبر في حق كل إنسان ما يبلغه فمن قدر على رأس زاملة وهو المسمى في عرفنا راكب مقتب وأمكنه السفر عليه وجب وإلا بان كان مترفها فلا بد أن يقدر على شق محمل وهو المسمى في عرفنا محارة أو موهية وإن أمكنه أن يكتري عقبة لا يجب عليه؛ لأنه غير قادر على الراحلة في جميع الطريق وهو الشرط سواء كان قادرا على المشي، أو لا والعقبة أن يكتري اثنان راحلة يتعقبان عليها يركب أحدهما مرحلة والآخر. مرحلة وشق المحمل جانبه؛ لأن للمحمل جانبين ويكفي للراكب أحد جانبيه وقد رأيت في كتب الشافعية أن من الشرائط أن يجد له من يركب في الجانب الآخر وهو المسمى بالمعادل فإن لم يجد لا يجب الحج عليه ولم أره لأئمتنا ولعلهم إنما لم يذكروه لما أنه ليس بشرط لإمكان أن يضع زاده وقربته وأمتعته في الجانب الآخر وقد وقع لي ذلك في الحجة الثانية في الرجعة لم أجد معادلا يصلح لي ففعلت ذلك لكن حصل لي نوع مشقة حين يقل الماء والزاد والله أعلم بحقيقة الحال.
ثم القدرة على الزاد لا تثبت إلا بالملك لا بالإباحة.
والقدرة على الراحلة لا تثبت إلا بالملك، أو الإجارة بالعارية والإباحة فلو بذل الابن لأبيه الطاعة وأباح له الزاد والراحلة لا يجب عليه الحج وكذا لو وهب له مال ليحج به لا يجب عليه القبول؛ لأن شرائط أصل الوجوب لا يجب عليه تحصيلها عند عدمها ثم اشتراط القدرة على الزاد عام في حق كل أحد حتى أهل مكة وأما القدرة على الراحلة فشرط في حق غير المكي وأما هو فلا ومن حولها كأهلها؛ لأنه لا يلحقهم مشقة فأشبه السعي إلى الجمعة أما إذا كان لا يستطيع المشي أصلا فلا بد منه في حق الكل.
وفي قوله وما لا بد منه إشارة إلى أن المسكن لا بد أن يكون محتاجا إليه للسكنى فلا تثبت

 

ج / 2 ص -489-       وأمن طريق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستطاعة بدار يسكنها وعبد يستخدمه وثياب يلبسها ومتاع يحتاج إليه وتثبت الاستطاعة بدار لا يسكنها وعبد لا يستخدمه فعليه أن يبيعه ويحج بخلاف ما إذا كان سكنه وهو كبير يفضل عنه حتى يمكنه بيعه والاكتفاء بما دونه ببعض ثمنه ويحج بالفضل فإنه لا يجب بيعه لذلك كما لا يجب بيع مسكنه والاقتصار على السكنى بالإجارة اتفاقا بل إن باع واشترى قدر حاجته وحج بالفضل كان أفضل، ولو لم يكن له مسكن ولا خادم وعنده مال يبلغ ثمن ذلك ولا يبقى بعده قدر ما يحج به فإنه لا يجب عليه الحج؛ لأن هذا المال مشغول بالحاجة الأصلية إليه أشار في الخلاصة.
وأشار بقوله وما لا بد منه إلى أنه لا بد أن يفضل له مال بقدر رأس مال التجارة بعد الحج إن كان تاجرا وكذا الدهقان والمزارع أما المحترف فلا كذا في الخلاصة ورأس المال يختلف باختلاف الناس.
والمراد بالعيال من تلزمه نفقته قال الشارح ويعتبر في نفقة عياله الوسط من غير تبذير ولا تقتير وقد يقال اعتبار الوسط في نفقة الزوجة مخالف للمفتى به فيها فإن الفتوى اعتبار حالهما والوسط إنما يعتبر فيما إذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا كما سيأتي في باب النفقات إن شاء الله تعالى.
وأشار بقوله نفقة ذهابه وإيابه إلى أنه ليس من الشرط قدرته على نفقته ونفقة عياله بعد عوده وهو ظاهر الرواية وقيل لا بد من زيادة نفقة يوم وقيل شهر والأول عن أبي حنيفة والثاني عن أبي يوسف ودخل تحت نفقة عياله سكناهم ونفقتهم وكسوتهم فإن النفقة تشمل الطعام والكسوة والسكنى.
وقد قدمنا أن من الشرائط الوقت أعني أن يكون مالكا لما ذكر في أشهر الحج حتى لو ملك ما به الاستطاعة قبلها كان في سعة من صرفها إلى غيره وأفاد هذا قيدا في صيرورته دينا افتقر هو أن يكون مالكا في أشهر الحج فلم يحج والأولى أن يقال إذا كان قادرا وقت خروج أهل بلده إن كانوا يخرجون قبل أشهر الحج لبعد المسافة أو كان قادرا في أشهر الحج إن كانوا يخرجون فيها ولم يحج حتى افتقر تقرر دينا وإن ملك في غيرها وصرفها إلى غيره لا شيء عليه كذا في فتح القدير.
"قوله: وأمن طريق" أي وبشرط أمن طريق يعني وقت خروج أهل بلده وإن كان مخيفا في غيره.

 

ج / 2 ص -490-       ومحرم أو زوج لا مرأة في سفر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحقيقة أمن الطريق أن يكون الغالب فيه السلامة كما اختاره الفقيه أبو الليث وعليه الاعتماد وما أفتى به أبو بكر الرازي من سقوط الحج عن أهل بغداد وقول أبي بكر الإسكاف لا أقول: الحج فريضة في زماننا قاله سنة ست وعشرين وثلثمائة وقول الثلجي ليس على أهل خراسان حج مذ كذا وكذا سنة كان وقت غلبة النهب والخوف في الطريق فلا يعارض ما ذكرنا وما قاله الصفار من إني لا أرى الحج فرضا من حين خرجت القرامطة.
وما علل به في الفتاوى الظهيرية بأن الحاج لا يتوصل إلى الحج إلا بالرشوة للقرامطة وغيرهم فتكون الطاعة سببا للمعصية مردود بأن هذا لم يكن من شأنهم؛ لأنهم طائفة من الخوارج كانوا يستحلون قتل المسلمين وأخذ أموالهم وكانوا يغلبون على أماكن ويترصدون للحاج وعلى تقدير أخذهم الرشوة فالإثم في مثله على الآخذ لا المعطي على ما عرف من تقسيم الرشوة في كتاب القضاء ولا يترك الفرض لمعصية عاص قال في فتح القدير والذي يظهر أن يعتبر مع غلبة السلامة عدم غلبة الخوف حتى إذا غلب الخوف على القلوب من المحاربين لوقوع النهب والغلبة منهم مرارا وسمعوا أن طائفة تعرضت للطريق ولها شوكة والناس يستضعفون أنفسهم عنهم لا يجب واختلف في سقوطه إذا لم يكن بد من ركوب البحر فقيل البحر يمنع الوجوب.
وقال الكرماني إن كان الغالب في البحر السلامة من موضع جرت العادة بركوبه يجب وإلا فلا وهو الأصح وسيحون وجيحون والفرات والنيل أنهار لا بحار كما في الحديث
"سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة".
"قوله: ومحرم أو زوج لامرأة في سفر" أي وبشرط محرم إلى آخره لما في الصحيحين
"لا تسافر امرأة ثلاثا إلا ومعها محرم". وزاد مسلم في رواية "أو زوج". وروى البزار: "لا تحج امرأة إلا ومعها محرم" فقال رجل: يا رسول الله إني كتبت في غزوة وامرأتي حاجة قال: "ارجع فحج

 

ج / 2 ص -491-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معها" فأفاد هذا كله أن النسوة الثقات لا تكفي قياسا على المهاجرة والمأسورة؛ لأنه قياس مع النص ومع وجود الفارق فإن الموجود في المهاجرة والمأسورة ليس سفرا؛ لأنها لا تقصد مكانا معينا بل النجاة خوفا من الفتنة حتى لو وجدت مأمنا كعسكر المسلمين وجب أن تقر ولأنه يخاف عليها الفتنة وتزاد بانضمام غيرها إليها.
ولهذا تحرم الخلوة بالأجنبية وإن كان معها غيرها من النساء.
والمحرم من لا يجوز له مناكحتها على التأبيد بقرابة، أو رضاع، أو مصاهرة أطلقه فشمل المسلم والذمي والحر والعبد ولا يرد عليه المجوسي الذي يعتقد إباحة نكاحها والمسلم القريب إذا لم يكن مأمونا والصبي الذي لم يحتلم والمجنون؛ لأن المقصود من المحرم الحفظ والصيانة لها وهو مفقود في هؤلاء الأربعة ولم أر من شرط في الزوج شروط المحرم وينبغي أنه لا فرق؛ لأن الزوج إذا لم يكن مأمونا، أو كان صبيا، أو مجنونا لم يوجد منه ما هو المقصود كما ذكرنا وعبارة المجمع أولى وهي يشترط في حج المرأة من سفر زوج أو محرم بالغ عاقل غير مجوسي ولا فاسق مع النفقة عليه.
وأطلق المرأة فشمل الشابة والعجوز لإطلاق النصوص والمرأة هي البالغة؛ لأن الكلام فيمن يجب عليه الحج فلذا قالوا في الصبية التي لم تبلغ حد الشهوة تسافر بلا محرم فإن بلغتها لا تسافر إلا به.
والمراد خطاب وليها بأن يمنعها من السفر فإن لم يكن لها ولي فلا تستصحب في السفر لا أن المراد أنها يحرم عليها؛ لأنها غير مكلفة حتى تبلغ وبلوغها حد الشهوة لا يستلزمه وقيد بالسفر وهو ثلاثة أيام بلياليها؛ لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون ذلك لحاجة بغير محرم.
وأشار بعدم اشتراط رضا الزوج إلى أنه ليس له منعها عن حجة الإسلام إذا وجدت محرما؛ لأن حقه لا يظهر في الفرائض بخلاف حج التطوع والمنذور.
وأشار المصنف إلى أن أمن الطريق والمحرم من شرائط الوجوب؛ لأنه عطفه على ما قبله وهو أحد القولين وقيل شرط وجوب الأداء.
وثمرة الاختلاف تظهر في وجوب الوصية وفي وجوب نفقة المحرم وراحلته إذا أبى أن

 

ج / 2 ص -492-       فلو أحرم صبي، أو عبد فبلغ أو عتق فمضى لم يجز عن فرضه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يحج. معها إلا بهما وفي وجوب التزوج عليها ليحج معها إن لم تجد محرما فمن قال هو شرط الوجوب قال لا يجب عليها شيء من ذلك؛ لأن شرط الوجوب لا يجب تحصيله ولهذا لو ملك المال كان له الامتناع من القبول حتى لا يجب عليه الحج وكذا لو أبيح له ومن قال إنه شرط وجوب الأداء وجب جميع ذلك ورجح المحقق في فتح القدير أنهما مع الصحة شروط وجوب أداء بأن هذه العبادة تجري فيها النيابة عند العجز لا مطلقا توسطا بين المالية المحضة والبدنية المحضة لتوسطها بينهما والوجوب أمر دائر مع فائدته فيثبت مع قدرة المال ليظهر أثره في الإحجاج والإيصاء.
واعلم أن الاختلاف في وجوب الإيصاء إذا مات قبل أمن الطريق فإن مات بعد حصول الأمن فالاتفاق على الوجوب.
وأشار باشتراط المحرم، أو الزوج إلى أن عدم العدة في حقها شرط أيضا بجامع حرمة السفر عليها أي عدة كانت والعبرة لوجوبها وقت خروج أهل بلدها وعن ابن مسعود أنه رد المعتدات من النجف بفتحتين مكان لا يعلوه الماء مستطيل فإن لزمتها العدة في السفر فسيأتي في محله إن شاء الله تعالى.
"قوله: فلو أحرم صبي، أو عبد فبلغ أو عتق فمضى لم يجز عن فرضه"؛ لأن الإحرام انعقد للنفل فلا ينقلب للفرض وهو وإن كان شرطا عندنا لكنه شبيه بالركن من حيث إمكان اتصال الأداء به فاعتبرنا الشبه فيما نحن فيه احتياطا وفي إسناد الإحرام إلى الصبي دليل على صحته منه وهو محمول على ما إذا كان يعقله فإن كان لا يعقله فأحرم عنه أبوه صار محرما فينبغي أن يجرده قبله ويلبسه إزارا و رداء ولما كان الصبي غير مخاطب كان إحرامه غير لازم ولذا لو أحصر وتحلل لا دم عليه ولا جزاء ولا قضاء، ولو جدده بعد بلوغه قبل الوقوف ونوى الفرض أجزأه؛ لأنه يمكنه الخروج عنه لعدم اللزوم بخلاف العبد لا يمكنه الخروج عنه للزوم فلو جدده بعد عتقه لا يصح والكافر والمجنون كالصبي فلو حج كافر، أو مجنون فأفاق، أو أسلم فجددا الإحرام أجزأهما قيل وهذا دليل أن الكافر إذا حج لا يحكم بإسلامه بخلاف الصلاة بجماعة كذا في فتح القدير.
وفيه بحث من وجهين الأول كيف يتصور إحرام المجنون فإنه لا يتصور منه إحرام بنفسه وكون وليه أحرم عنه يحتاج إلى نقل صريح يفيد أن المجنون البالغ كالصبي في هذا الثاني: أن

 

ج / 2 ص -493-       ومواقيت الإحرام ذو الحليفة وذات عرق والجحفة وقرن ويلملم لأهلها ولمن مر بها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا لا يدل على أن الكافر إذا حج لا يحكم بإسلامه إذا حج؛ لأن في هذه المسألة لم يوجد منه الحج إنما وجد الإحرام فقط ؛ لأنه لو وقف بعرفة لم يكن موضوع المسألة ولم يكن للتجديد فائدة.
فالحاصل أنه لا يكون مسلما إلا بالإحرام والوقوف وشهود المناسك فلا منافاة بين الفرعين كما لا يخفى وفي الذخيرة عن النوادر البالغ إذا جن بعد الإحرام ثم ارتكب شيئا من محظورات الإحرام فإن فيه الكفارة فرقا بينه وبين الصبي.
"قوله: ومواقيت الإحرام ذو الحليفة وذات عرق والجحفة وقرن ويلملم لأهلها ولمن مر بها" أي الأمكنة التي لا يتجاوزها الآفاقي إلا محرما خمسة فالميقات مشترك بين الوقت المعين والمكان المعين والمراد هنا الثاني وسيأتي الأول.
وذو الحليفة بضم الحاء المهملة وبالفاء بينه وبين مكة نحو عشر مراحل، أو تسع وبينه وبين المدينة ستة أميال كما ذكره النووي وقيل سبعة كما ذكره القاضي عياض ميقات أهل المدينة وهو أبعد المواقيت وبهذا المكان آبار تسميه العوام آبار علي قيل؛ لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل الجن في بعض تلك الآبار وهو كذب من قائله كما ذكره الحلبي في مناسكه.
وذات عرق بكسر العين وسكون الراء لجميع أهل المشرق وهي بين المشرق والمغرب من مكة قيل وبينها وبين مكة مرحلتان.
والجحفة بضم الجيم وسكون الحاء المهملة واسمها في الأصل مهيعة نزل بها سيل جحف أهلها أي استأصلهم فسميت جحفة قال النووي بينهما وبين مكة ثلاث مراحل وهي قرية بين المغرب والشمال من مكة من طريق تبوك وهي طريق أهل الشام ونواحيها اليوم وهي ميقات أهل مصر والمغرب والشام.
وقرن بفتح القاف وسكون الراء وهو جبل مطل على عرفات بينه وبين مكة نحو مرحلتين وفي الصحاح أنه بفتح الراء وأن أويسا القرني منسوب إليه ورد بأنه بسكون الراء وأن أويسا منسوب إلى قبيلة يقال لها بنو قرن بطن من مراد وهو ميقات أهل نجد.

 

ج / 2 ص -494-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما يلملم فهو ميقات أهل اليمن وهو مكان جنوبي مكة وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة فهذا هو المراد بقوله لأهلها وهذه المواقيت ما عدا ذات عرق ثابتة في الصحيحين وذات عرق في صحيح مسلم وسنن أبي داود.
وقوله لمن مر بها يعني من غير أهلها وقد أفاد أنه لا يجوز مجاوزة الجميع إلا محرما فلا يجب على المدني أن يحرم من ميقاته وإن كان هو الأفضل وإنما يجب عليه أن يحرم من آخرها عندنا ويعلم منه أن الشامي إذا مر على ذي الحليفة في ذهابه لا يلزمه الإحرام منه بالطريق الأولى وإنما يجب عليه أن يحرم من الجحفة. كالمصري لكن قيل إن الجحفة قد ذهبت أعلامها ولم يبق بها إلا رسوم خفية لا يكاد يعرفها إلا سكان بعض البوادي ولهذا والله أعلم اختار الناس الإحرام من المكان المسمى برابض وبعضهم يجعله بالغين احتياطا؛ لأنه قبل الجحفة بنصف مرحلة، أو قريب من ذلك.
وقد قالوا ومن كان في بر، أو بحر لا يمر بواحد من هذه المواقيت المذكورة فعليه أن يحرم إذا حاذى آخرها ويعرف بالاجتهاد وعليه أن يجتهد فإذا لم يكن بحيث يحاذي فعلى مرحلتين إلى مكة ولعل مرادهم بالمحاذاة المحاذاة القريبة من الميقات وإلا فآخر المواقيت باعتبار المحاذاة قرن المنازل.
ذكر لي بعض أهل العلم من الشافعية المقيمين بمكة في الحجة الرابعة للعبد الضعيف أن المحاذاة حاصلة في هذا الميقات فينبغي على مذهب الحنفية أن لا يلزم الإحرام من رابغ بل من خليص القرية المعروفة فإنه حينئذ يكون محاذيا لآخر المواقيت وهو قرن فأجبته بجوابين:
الأول أن إحرام المصري والشامي لم يكن بالمحاذاة وإنما هو بالمرور على الجحفة وإن لم تكن معروفة وإحرامهم قبلها احتياطا والمحاذاة إنما تعتبر عند عدم المرور على المواقيت.
الثاني أن مرادهم المحاذاة القريبة ومحاذاة المارين لقرن بعيدة؛ لأن بينهم وبينه بعض جبال والله أعلم بحقيقة الحال.
أطلق في الإحرام فشمل إحرام الحج وإحرام العمرة؛ لأنه لا فرق بينهما في حق الآفاقي وشمل ما إذا كان قاصدا عند المجاوزة الحج، أو العمرة أو التجارة، أو القتال، أو غير ذلك بعد أن يكون قد قصد دخول مكة؛ لأن الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فاستوى فيه الكل وأما دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بغير إحرام يوم الفتح فكان مختصا بتلك الساعة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم:
"مكة

 

ج / 2 ص -495-       وصح تقديمه عليها لا عكسه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حرام لم تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما" يعني الدخول بغير إحرام لإجماع المسلمين على حل الدخول بعده عليه الصلاة والسلام للقتال وقيدنا بقصد مكة؛ لأن الآفاقي إذا قصد موضعا من الحل كخليص يجوز له أن يتجاوز الميقات غير محرم وإذا وصل إليه التحق بأهله ومن كان داخل الميقات فله أن يدخل مكة بغير إحرام إذا لم يقصد الحج أو العمرة وهي الحيلة لمن أراد أن يدخل مكة بغير إحرام وينبغي أن لا تجوز هذه الحيلة للمأمور بالحج؛ لأنه حينئذ لم يكن سفره للحج ولأنه مأمور بحجة آفاقية وإذا دخل مكة بغير إحرام صارت حجته مكية فكان مخالفا وهذه. المسألة يكثر وقوعها فيمن يسافر في البحر الملح وهو مأمور بالحج ويكون ذلك في وسط السنة فهل له أن يقصد البندر المعروف بجدة ليدخل مكة بغير إحرام حتى لا يطول الإحرام عليه لو أحرم بالحج فإن المأمور بالحج ليس له أن يحرم بالعمرة.
"قوله: وصح تقديمه عليها لا عكسه" أي جاز تقديم الإحرام على المواقيت ولا يجوز تأخيره عنها.
أما الأول فلقوله تعالى:  
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وفسرت الصحابة الإتمام بأن يحرم بها من دويرة أهله ومن الأماكن القاصية وقال عليه السلام "من أهل من المسجد الأقصى بحجة، أو بعمرة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" رواه الإمام أحمد ولم يتكلم المصنف على أفضلية التقديم وعدمها لما أن فيه تفصيلا ذكره في الكافي وهو أن التقديم أفضل إذا كان يملك نفسه أن لا يقع في محظور؛ لأن المشقة فيه أكثر فكان أكثر ثوابا؛ لأن الأجر بقدر التعب بخلاف التقديم على الأشهر أجمعوا على أنه مكروه من غير تفصيل بين خوف الوقوع في محظور، أو لا كما أطلقه في المجمع ومن فصل كصاحب الظهيرية قياسا على الميقات المكاني فقد أخطأ وإنما ذكره مطلقا قبل الميقات الزماني شبهه بالركن وإن كان شرطا فيراعى مقتضى ذلك الشبه احتياطا، ولو كان ركنا حقيقة لم يصح قبل أشهر الحج فإن كان شبيها به كره قبلها لشبهه وقربه من عدم الصحة ولشبه الركن لم يجز لفائت الحج استدامة الإحرام ليقضي به من قابل.
وأما الثاني فلقوله عليه السلام:
"لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما" وفائدة التأقيت بالمواقيت الخمسة المنع من التأخير.

 

ج / 2 ص -496-       ...................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: ولداخلها الحل" أي الحل ميقات من كان داخل المواقيت وهو بكسر الحاء المواضع التي بين المواقيت والحرم ولا فرق بين أن يكون في نفس الميقات، أو بعده كما نص عليه محمد في كتبه.
وقول المحقق في فتح القدير المتبادر من هذه العبارة أن يكون بعد المواقيت غير مسلم بل المتبادر منها من كان فيها نفسها وهو غير مقصود للمصنفين وإنما المقصود الإطلاق كما ذكرنا وإنما كان الحل ميقاته؛ لأن خارج الحرم كله كمكان واحد في حقه والحرم حد في حقه كالميقات للآفاقي فلا يدخل الحرم عند قصد النسك إلا محرما وأما عند عدم هذا القصد فله الدخول بغير إحرام للحاجة والضرورة كالمكي إذا خرج من الحرم لحاجة له أن يدخل مكة بغير إحرام بشرط أن لا يكون جاوز الميقات كالآفاقي فإن جاوزه فليس له أن يدخل مكة من غير إحرام؛ لأنه صار آفاقيا.
"قوله: وللمكي الحرم للحج والحل للعمرة" أي ميقات المكي إذا أراد الحج الحرم فإن أحرم له من الحل لزمه دم وإذا أراد العمرة الحل فإذا أحرم بها من الحرم لزمه دم؛ لأنه ترك ميقاته فيهما وهو مجمع عليه.
والمراد بالمكي من كان داخل الحرم سواء كان بمكة، أو لا وسواء كان من أهلها، أو لا وبه يعلم أن المراد بداخل المواقيت من كان ساكنا في الحل والله سبحانه أعلم بالصواب.

 

ولداخلها الحل وللمكي الحرم للحج والحل للعمرة.
1- باب الإحرام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- باب الإحرام
أحرم الرجل إذا دخل في حرمة لا تنتهك من ذمة وغيرها، وأحرم للحج لأنه يحرم عليه ما يحل لغيره من الصيد والنساء ونحو ذلك، وأحرم الرجل إذا دخل في الحرم أو دخل في الشهر الحرام وأحرمه لغة في حرمه العطية أي منعه كذا في ضياء الحلوم مختصر شمس العلوم.
وهو في الشريعة نية النسك من حج أو عمرة مع الذكر أو الخصوصية على ما سيأتي.
وهو شرط صحة النسك كتكبيرة الافتتاح في الصلاة، فالصلاة والحج لهما تحريم وتحليل بخلاف الصوم والزكاة لكن الحج أقوى من غيره من وجهين:

 

ج / 2 ص -497-       وإذا أردت أن تحرم فتوضأ والغسل أفضل والبس إزارا ورداء جديدين أو غسيلين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأول أنه إذا تم الإحرام للحج أو للعمرة لا يخرج عنه إلا بعمل النسك الذي أحرم به، وإن أفسده إلا في الفوات فبعمل العمرة وإلا الإحصار فبذبح الهدي.
الثاني أنه لا بد من قضائه مطلقا ولو كان مظنونا فلو أحرم بالحج على ظن أنه عليه، ثم ظهر خلافه وجب عليه المضي فيه والقضاء إن أبطله بخلاف المظنون في الصلاة فإنه لا قضاء لو أفسده.
"قوله: وإذا أردت أن تحرم فتوضأ والغسل أفضل" قد تقدم دليله في الغسل وهو للنظافة لا للطهارة فيستحب في حق الحائض أو النفساء والصبي لما روي أن  أبا بكر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أسماء قد نفست فقال:
"مرها فلتغتسل ولتحرم بالحج" ولهذا لا يشرع التيمم له عند العجز عن الماء، قال الشارح بخلاف الجمعة والعيدين يعني أن الغسل فيهما للطهارة لا للتنظيف، ولهذا يشرع التيمم لهما عند العجز وفيه نظر؛ لأن التيمم لم يشرع لهما عند العجز إذا كان طاهرا عن الجنابة ونحوها والكلام فيه؛ لأنه ملوث ومغير لكن جعل طهارة ضرورة أداء الصلاة ولا ضرورة فيهما، ولهذا سوى المصنف في الكافي بين الإحرام وبين الجمعة والعيدين وأشار المصنف إلى أنه يستحب لمن أراده كمال التنظيف من قص الأظفار والشارب وحلق الإبطين والعانة والرأس لمن اعتاده من الرجال أو أراده، وإلا فتسريحه وإزالة الشعث والوسخ عنه وعن بدنه بغسله بالخطمي والأشنان ونحوهما ومن المستحب عند إرادته جماع زوجته أو جاريته إن كانت معه، ولا مانع من الجماع فإنه من السنة والله أعلم بالصواب.
"قوله: والبس إزارا ورداء جديدين أو غسيلين"؛ لأنه عليه السلام لبسهما هو وأصحابه كما رواه مسلم ولأنه ممنوع عن لبس المخيط ولا بد من ستر العورة ودفع الحر والبرد، وذلك فيما عيناه.
والإزار: من السرة إلى ما تحت الركبة يذكر ويؤنث كما في ضياء الحلوم.

 

ج / 2 ص -498-       وتطيب، وصل ركعتين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والرداء على الظهر والكتفين والصدر ويشده فوق السرة، وإن غرز طرفيه في إزاره فلا بأس به ولو خلله بخلال أو مسلة أو شده على نفسه بحبل أساء ولا شيء عليه، وما في الكتاب بيان للسنة، وإلا فساتر العورة كاف كما في المجمع. وأشار بتقديم الجديد إلى أفضليته، وكونه أبيض أفضل من غيره كالتكفين وفي عدم غسل الثوب العتيق ترك للمستحب، ولا يخفى أن هذا في حق الرجل.
"قوله: وتطيب" أي يسن له استعمال الطيب في بدنه قبيل الإحرام أطلقه فشمل ما تبقى عينه بعده كالمسك والغالية، وما لا تبقى لحديث عائشة في الصحيحين كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم. وفي لفظ لهما كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، وفي لفظ لمسلم: كأني أنظر إلى وبيص المسك. وهو البريق واللمعان، وكرهه محمد بما تبقى عينه، والحديث حجة عليه وقيدنا بالبدن إذ لا يجوز التطيب في الثوب بما تبقى عينه على قول الكل على أحد الروايتين عنهما. قالوا وبه نأخذ والفرق لهما بينهما أنه اعتبر في البدن تابعا على الأصح، والمتصل بالثوب منفصل عنه فلم يعتبر تابعا والمقصود من استنانه حصول الارتفاق به حالة المنع منه كالسحور للصوم، وهو يحصل بما في البدن فأغنى عن تجويزه في الثوب إذا لم يقصد كمال الارتفاق حالة الإحرام؛ لأن الحاج الشعث التفل، وظاهر ما في الفتاوى الظهيرية أن ما عن محمد رواية ضعيفة، وأن مشهور مذهبه كمذهبهما.
"قوله: وصل ركعتين" أي على وجه السنية بعد اللبس والتطيب؛ لأنه عليه السلام صلاهما كما في الصحيحين ولا يصليهما في الوقت المكروه، وتجزئه المكتوبة كتحية

 

ج / 2 ص -499-       ولب دبر الصلاة تنوي بها الحج، وهي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسجد ثم ينوي بقلبه الدخول في الحج، ويقول بلسانه مطابقا لجنانه اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني؛ لأني محتاج في أداء أركانه إلى تحمل المشقة فيطلب التيسير والقبول اقتداء بالخليل وولده عليهما السلام حيث قالا
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] ولم يؤمر بمثل هذا الدعاء عند إرادة الصلاة؛ لأن سؤال التيسير يكون في العسير لا في اليسير، وأداؤها يسير عادة كذا في الكافي وقدمنا ما فيه من الخلاف في بحث نية الصلاة.
"قوله: ولب دبر الصلاة تنوي بها الحج" أي لب عقبها ناويا بالتلبية الحج.
والدبر: بضم الباء وسكونها آخر الشيء كذا في الصحاح، وإنما يلبي لما صح عنه عليه السلام من تلبيته بعد الصلاة، وفي قوله تنوي بها إشارة إلى أن ما ذكره المشايخ من أنه يقول اللهم إني أريد الحج إلى آخره ليس محصلا للنية، ولهذا قال في فتح القدير ولم نعلم أن أحدا من الرواة لنسكه روى أنه سمعه عليه السلام يقول نويت العمرة ولا الحج، ولهذا قال مشايخنا إن الذكر باللسان حسن ليطابق القلب وعلى قياس ما قدمناه في نية الصلاة إنما يحسن إذا لم تجتمع عزيمته وإلا فلا.
فالحاصل أن التلفظ باللسان بالنية بدعة مطلقا في جميع العبادات وفي بعض النسخ وقل اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ولب، وقوله تنوي الحج بيان للأكمل، وإلا فيصح الحج بمطلق النية وإذا أبهم الإحرام بأن لم يعين ما أحرم به جاز وعليه التعيين قبل أن يشرع في الأفعال، والأصل حديث: علي رضي الله عنه حين قدم من اليمن فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه. فإن لم يعين، وطاف شوطا كان للعمرة، وكذا إذا أحصر قبل الأفعال فتحلل بدم تعين للعمرة حتى يجب عليه قضاؤها لا قضاء حجة، وكذا إذا جامع فأفسد وجب عليه المضي في عمرة قال في الظهيرية ولم يذكر في الكتاب أن حجة الإسلام تتأدى بنية التطوع ا هـ.
والمنقول في الأصول أنها لا تتأدى بنية النفل، وتتأدى بمطلق النية نظرا إلى أن الوقت له فيه شبهة المعيارية وشبهة الظرفية فالأول للثاني والثاني للأول.
"قوله: وهي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" هكذا روى أصحاب الكتب الستة تلبيته صلى الله عليه وسلم ولفظها مصدر مثنى تثنية يراد بها

 

ج / 2 ص -500-       وزد فيها ولا تنقص فإذا لبيت ناوياً فقد أحرمت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التكثير، وهو ملزوم النصب والإضافة، والناصب له من غير لفظه تقديره أجبت إجابتك إجابة بعد إجابة إلى ما لا نهاية له، وكأنه من ألب بالمكان إذا أقام فهو مصدر محذوف الزوائد، والقياس إلباب ومفرد لبيك لب، واختلف في الداعي فقيل هو الله تعالى وقيل إبراهيم الخليل عليه السلام ورجحه المصنف في الكافي، وقال إنه الأظهر وقيل رسولنا صلى الله عليه وسلم واختلف في همز إن الحمد بعد الاتفاق على جواز الكسر والفتح، واختار في الهداية أن الأوجه الكسر على استئناف الثناء، وتكون التلبية للذات، وقال الكسائي الفتح أحسن على أنه تعليل للتلبية أي لبيك؛ لأن الحمد ورجح الأول في فتح القدير بأن تعليق الإجابة التي لا نهاية لها بالذات أولى منه باعتبار صفة هذا، وإن كان استئناف الثناء لا يتعين مع الكسر لجواز كونه تعليلا مستأنفا كما في قولك علم ابنك العلم إن العلم نافعه قال تعالى:
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وهذا مقرر في مسالك العلة من علم الأصول لكن لما جاز فيه كل منهما يحمل على الأول لأولويته ولأكثريته بخلاف الفتح، ليس فيه سوى أنه تعليل.
"قوله: وزد فيها ولا تنقص" أي في التلبية ولا تنقص منها، والزيادة مثل لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل لبيك إله الخلق غفار الذنوب لبيك ذا النعمة والفضل الحسن لبيك عدد التراب لبيك إن العيش عيش الآخرة كما ورد ذلك عن عدة من الصحابة وصرح المصنف في الكافي بأن الزيادة حسنة كالتكرار، وصرح الحلبي في مناسكه باستحبابها عندنا.
وأما النقص فقال المصنف إنه لا يجوز، وقال ابن الملك في شرح المجمع إنه مكروه اتفاقا، والظاهر أنها كراهة تنزيهية لما أن التلبية إنما هي سنة فإن الشرط إنما هو ذكر الله تعالى فارسيا كان أو عربيا هو المشهور عن أصحابنا، وخصوص التلبية سنة فإذا تركها أصلا ارتكب كراهة تنزيهية فإذا نقص عنها فكذلك بالأولى فقول المصنف لا يجوز فيه نظر ظاهر وقول من قال إن التلبية شرط مراده ذكر يقصد به التعظيم لا خصوصها، قيدنا بالزيادة في التلبية؛ لأن الزيادة في الأذان غير مشروعة؛ لأنه للإعلام ولا يحصل بغير المتعارف وفي التشهد في الصلاة إن كان الأول فليست بمشروعة كتكراره؛ لأنه في وسط الصلاة فيقتصر فيه على الوارد، وإن كان الأخير فهي مشروعة؛ لأنه محل الذكر والثناء.
"قوله: فإذا لبيت ناويا فقد أحرمت" أفاد أنه لا يكون محرما إلا بهما فإذا أتى بهما فقد دخل في حرمات مخصوصة فهما عين الإحرام شرعا.

 

 

ج / 2 ص -501-       فاتق الرفث والفسوق والجدال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر حسام الدين الشهيد أنه يصير شارعا بالنية لكن عند التلبية لا بالتلبية كما يصير شارعا في الصلاة بالنية لكن عند التكبير لا بالتكبير ولا يصير شارعا بالنية وحدها قياسا على الصلاة.
وروي عن أبي يوسف أن النية تكفي قياسا على الصوم بجامع أنهما عبادة كف عن المحظورات وقياسنا أولى؛ لأنه التزام أفعال كالصلاة لا مجرد كف بل التزام الكف شرط فكان بالصلاة أشبه.
والمراد بالتلبية شرط من خصوصيات النسك سواء كان تلبية أو ذكرا يقصد به التعظيم أو سوق الهدي أو تقليد البدن كما ذكره المصنف في المستصفى.
وذكر الإسبيجابي أنه لو ساق هديا قاصدا إلى مكة صار محرما بالسوق نوى الإحرام أو لم ينو شيئا وسيأتي تفصيله إن شاء الله ` تعالى ثم إذا أحرم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم عقب إحرامه سرا وهكذا يفعل عقب التلبية ودعا بما شاء من الأدعية وإن تبرك بالمأثور فهو حسن.
"قوله: فاتق الرفث والفسوق والجدال" للآية الكريمة
{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وهذا نهي بصيغة النفي وهو آكد ما يكون من النهي كأنه قيل فلا يكونن رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وهذا لأنه لو بقي إخبارا لتطرق الخلف في كلام الله تعالى لصدور هذه الأشياء من البعض فيكون المراد بالنفي وجوب انتفائها، وأنها حقيقة بأن لا تكون كذا في الكافي.
والرفث الجماع لقوله تعالى
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] وقيل الكلام الفاحش؛ لأنه من دواعيه فيحرم كالجماع إلا أن ابن عباس يقول إنما يكون الكلام الفاحش رفثا بحضرة النساء حتى روي أنه كان ينشد في إحرامه. 

وهن يمشين بنا هميسا         إن يصدق الطير ننك لميسا

فقيل له أترفث وأنت محرم فقال إنما الرفث بحضرة النساء، والضمير في هن للإبل والهميس صوت نقل إخفافها، وقيل المشي الخفي ولميس اسم جارية والمعنى نفعل بها ما نريد إن صدق الفال.
والفسوق المعاصي وهو منهي عنه في الإحرام وغيره إلا أنه في الإحرام أشد كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن.
والجدال الخصومة مع الرفقاء والخدم والمكارين ومن ذكر من الشارحين أن المراد به

 

ج / 2 ص -502-       وقتل الصيد والإشارة إليه والدلالة عليه ولبس القميص والسراويل والعمامة والقلنسوة والقباء والخفين إلا أن لا تجد النعلين فاقطعهما أسفل من الكعبين والثوب المصبوغ بورس أو زعفران أو عصفر إلا أن يكون غسيلا لا ينفض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجادلة المشركين بتقديم وقت الحج وتأخيره أو التفاخر بذكر آبائهم حتى أفضى ذلك إلى القتال فإنه يناسب تفسير الجدال في الآية لا الجدال في كلام الفقهاء فلهذا اقتصرنا على الأول وفي المحيط إذا رفث يفسد حجه وإذا فسق أو جادل لا؛ لأن الجماع من محظورات الإحرام ا هـ ولا يخفى أنه مقيد بما قبل الوقوف بعرفة وإلا فلا فساد في الكل.
"قوله: وقتل الصيد والإشارة إليه والدلالة عليه" أي فاتق إذا أحرمت التعرض لصيد البر. قال المصنف في المستصفى: أريد بالصيد هاهنا المصيد إذ لو أريد به المصدر وهو الاصطياد لما صح إسناد القتل إليه وحرمة قتله ثابتة بالقرآن وحرمة الإشارة والدلالة بحديث أبي قتادة كما سيأتي، والفرق بين الإشارة والدلالة أن الإشارة تقتضي الحضرة والدلالة تقتضي الغيبة.
"قوله: ولبس القميص والسراويل والعمامة والقلنسوة والقباء والخفين إلا أن لا تجد النعلين فاقطعهما أسفل من الكعبين والثوب المصبوغ بورس أو زعفران أو عصفر إلا أن يكون غسيلا لا ينفض" كما دل عليه حديث الصحيحين والسراويل أعجمية والجمع سراويلات منصرف في أحد استعماليه، ويؤنث والقباء بالمد على وزن فعال بالفتح.
والورس صبغ أصفر يؤتى به من اليمن واختلف في قولهم لا ينفض فقيل لا يفوح، وقيل لا يتناثر والثاني غير صحيح؛ لأن العبرة للطيب لا للتناثر ألا ترى أنه لو كان ثوبا مصبوغا له رائحة طيبة ولا يتناثر منه شيء فإن المحرم يمنع منه كذا في المستصفى.
والمراد بلبس القباء أن يدخل منكبيه ويديه في كميه؛ لأنه لو لم يدخل يديه في كميه فإنه يجوز عندنا خلافا لزفر كذا في غاية البيان.
والكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك فيما روى هشام عن محمد بخلافه في الوضوء فإنه العظم الناتئ أي المرتفع ولم يعين في الحديث أحدهما لكن لما كان

 

ج / 2 ص -503-       وستر الوجه، والرأس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكعب يطلق عليه وعلى الثاني حمله عليه احتياطا، كذا في فتح القدير أي حمل الكعب في الإحرام على المفصل المذكور لأجل الاحتياط؛ لأن الأحوط فيما كان أكثر كشفا وهو قيما:
فالحاصل أنه يجوز لبس كل شيء في رجله لا يغطي الكعب الذي في وسط القدم سرموزه كان أو مداسا أو غير ذلك، ويدخل في لبس القميص لبس الزردة والبرنس، وخرج باللبس الارتداء بالقميص ونحوه؛ لأنه ليس بلبس وذكر الحلبي في مناسكه أن ضابطه لبس كل شيء معمول على قدر البدن أو بعضه بحيث يحيط به بخياطة أو تلزيق بعضه ببعض أو غيرهما، ويستمسك عليه بنفس لبس مثله إلا المكعب، ويدخل في الخفين الجوربان، ولم أر من صرح بما إذا كان قادرا على النعلين فهل له أن يقطع الخفين أسفل من الكعبين، والظاهر من الحديث وكلامهم أنه لا يجوز بمعنى لا يحل لما فيه من إتلاف ماله لغير ضرورة.
"قوله: وستر الوجه والرأس" أي واجتنب تغطيتهما لحديث الأعرابي الذي وقصته ناقته
"لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا".
واعلم أن أئمتنا استدلوا بهذا الحديث على حرمة تغطية الوجه على المحرم الحي المفهوم من التعليل ولم يعملوا بمنطوقه في حق الميت المحرم فإن حكمه عندنا كسائر الأموات في تغطية الوجه والرأس والشافعية عملوا به فيما إذا مات المحرم ولم يعملوا به في حالة الحياة، وأجاب في غاية البيان عن أئمتنا بأنهم إنما لم يعملوا به في الموت؛ لأنه معارض بحديث:
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" والإحرام عمل فهو منقطع فيغطى العضوان، ولهذا لا يبني المأمور بالحج على إحرام الميت اتفاقا، وهو يدل على انقطاعه بالموت والأعرابي مخصوص من

 

ج / 2 ص -504-       وغسلهما بالخطمي ومس الطيبن وحلق رأسه، وقص شعرهن وظفره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء إحرامه وهو في غيره مفقود فقلنا بانقطاعه بالموت، ولأن المرأة لا تغطي وجهها إجماعا مع أنها عورة مستورة وفي كشفه فتنة فلأن لا يغطي الرجل وجهه للإحرام أولى.
والمراد بستر الرأس تغطيتها بما يغطى به عادة كالثوب احترازا عن شيء لا يغطى به عادة كالعدل والطبق والإجانة ولا فرق بين ستر الكل والبعض والعصابة، ولهذا ذكر قاضي خان في فتاويه أنه لا يغطي فاه ولا ذقنه ولا عارضه ولا بأس بأن يضع يديه على أنفه.
"قوله: وغسلهما بالخطمي" أي وليجتنب غسل رأسه ولحيته بالخطمي واللحية لما كانت في الوجه أعاد الضمير عليها، وإن لم يتقدم لها ذكر ووجوب اجتنابه متفق عليه لكن يجب عليه دم إذا لم يجتنبه عنده؛ لأنه نوع طيب وعندهما صدقة لأنه يقتل الهوام ويلين الشعر، وليس بطيب وهذا الاختلاف راجع إلى تفسيره، وليس باختلاف حقيقة كالاختلاف في الصائبة والإفطار بالإقطار في الإحليل والخطمي بكسر الخاء نبت يغسل به الرأس وقيد بالخطمي؛ لأنه لو غسل رأسه بالحرض والصابون لا شيء عليه باتفاقهم.
"قوله: ومس الطيب" أي واجتنبه مطلقا في الثوب والبدن لقوله عليه السلام
"الحاج الشعث التفل" وهو بكسر العين مغبر الرأس والتفل بكسر الفاء تارك الطيب، وهو في اللغة نقيض الخبث وفي الشريعة هو جسم له رائحة طيبة كالزعفران والبنفسج والياسمين والغالية والورد والورس والعصفر والحناء، ولم يذكر المصنف هنا الدهن كما في الوافي إما أنه أصل الطيب فدخل تحته، وإما للاختلاف كما سيأتي في باب الجنايات.
"قوله: وحلق رأسه وقص شعره وظفره" أي واجتنب هذه الأشياء لقوله تعالى
{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} [البقرة: 196] والقص في معناه فثبت دلالة، والمراد إزالة الشعر كيفما كان حلقا وقصا ونتفا وتنورا وإحراقا من أي مكان كان من الرأس والبدن مباشرة أو تمكينا، لكن قال الحلبي في مناسكه ويستثنى منه قلع الشعر النابت في العين فقد ذكر بعض مشايخنا أنه لا شيء فيه عندنا.

 

ج / 2 ص -505-       لا الاغتسال، ودخول الحمام،والاستظلال بالبيت، والمحمل، وشد الهميان في وسطه، وأكثر التلبية متى صليت أو علوت شرفاً أو هبطت وادياً، أو لقيت ركباً وبالأسحار رافعاً صوتك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: لا الاغتسال ودخول الحمام" أي لا يتقيهما لما روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم
"اغتسل وهو محرم".
"قوله: والاستظلال بالبيت والمحمل" أي لا يجتنبه والمحمل بفتح الميم الأولى وكسر الثانية أو عكسه وهو مقيد بما إذا لم يصب رأسه ولا وجهه فلو أصاب أحدهما يكره كما لو حمل ثيابا على رأسه فإنه يلزمه الجزاء بخلاف ما إذا حمل نحو الطبق أو الإجانة والعدل المشغول.
"قوله: وشد الهميان في وسطه" أي لا يجتنبه وهو بالكسر ما يجعل فيه الدراهم، ويشد على الحقو أطلقه فشمل ما إذا كان فيه نفقته أو نفقة غيره؛ لأنه ليس بلبس مخيط ولا في معناه. وأشار إلى أنه لا يكره شد المنطقة والسيف والسلاح والتختم بالخاتم، ومما لا يكره له أيضا الاكتحال بغير المطيب وأن يختتن ويفتصد ويقلع ضرسه ويجبر الكسر ويحتجم، وأن يحك رأسه وبدنه غير أنه إن خاف سقوط شيء من شعره بسبب ذلك حكه برفق وإن لم يخف من ذلك فلا بأس بالحك الشديد.
"قوله: وأكثر من التلبية متى صليت أو علوت شرفا أو هبطت واديا أو لقيت ركبا وبالأسحار رافعا صوتك" أي أكثر منها على وجه الاستحباب عند اختلاف الأحوال كتكبير الصلاة عند الانتقال أطلق الصلاة فشمل فرضها وواجبها ونفلها، وهو ظاهر الرواية وخصها الطحاوي بالمكتوبات قياسا على تكبيرات التشريق كما ذكره الإسبيجابي وعلوت شرفا أي صعدت مكانا مرتفعا وقيل بضم الشين جمع شرفة، والركب جمع راكب كتجر جمع تاجر.
والسحر السدس الأخير من الليل وصرح في المحيط بأن الزيادة منها على المرة الواحدة سنة حتى تلزمه الإساءة بتركها. قال في فتح القدير فظهر أن التلبية فرض وسنة ومندوب، ويستحب أن يكررها كلما أخذ فيها ثلاث مرات، ويأتي بها على الولاء ولا يقطعها بكلام، ولو رد السلام في خلالها جاز لكن يكره لغير السلام عليه في حالة التلبية.
وإذا رأى شيئا يعجبه قال لبيك إن العيش عيش الآخرة وتقدم أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عقب تلبيته سرا، ويسأل الله الجنة، ويتعوذ من النار ورفع الصوت بها سنة إلا أنه لا يجهد نفسه كما يفعله العوام.

 

ج / 2 ص -506-       وابدأ بالمسجد بدخول مكة، وكبر وهلل تلقاء البيت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: وابدأ بالمسجد بدخول مكة" الباء الأولى باء التعدية وهو إيصال معنى متعلقها بمدخولها، والثانية للسببية وعبارة أصله أولى وهي إذا دخل مكة بدأ بالمسجد الحرام؛ لأنه أول شيء فعله عليه السلام، وكذا الخلفاء بعده وقد قدمنا في كتاب الطهارة أن من الاغتسالات المسنونة الاغتسال لدخولها، وهو للنظافة فيستحب للحائض والنفساء ولم يقيد دخول مكة بزمن خاص فأفاد أنه لا يضره ليلا دخلها أو نهارا؛ لأنه عليه السلام دخلها نهارا في حجته وليلا في عمرته فهما سواء في عدم الكراهة، وما روي عن ابن عمر أنه كان ينهى عن الدخول ليلا فليس تقريرا للسنة بل شفقة على الحاج من السراق.
وأما المستحب فالدخول نهارا كما في الخانية، ويستحب أن يدخل مكة من باب المعلا ليكون مستقبلا في دخوله باب البيت تعظيما، وإذا خرج فمن السفلى ولا يخفى أن تقديم الرجل اليمنى سنة دخول المساجد كلها، ويستحب أن يكون ملبيا في دخوله حتى يأتي باب بني شيبة فيدخل المسجد الحرام منه؛ لأنه عليه السلام دخل منه وهو المسمى بباب السلام متواضعا خاشعا ملبيا ملاحظا جلالة البقعة مع التلطف بالمزاحم.
"قوله: وكبر وهلل تلقاء البيت" أي مواجها له لحديث جابر أنه عليه السلام: 
"كبر ثلاثا وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، فالمراد من التكبير الله أكبر أي من هذه الكعبة المعظمة كذا في غاية البيان، والأولى أي من كل ما سواه، ومن التهليل لا إله إلا الله ولم يذكر المصنف الدعاء عند مشاهدة البيت وهكذا في المتون وهي غفلة عما لا يغفل عنه فإن الدعاء عندها مستجاب ومحمد رحمه الله لم يعين في الأصل لمشاهد الحج شيئا من الدعوات؛ لأن التوقيت يذهب بالرقة، وإن تبرك بالمنقول منها فحسن كذا في الهداية وفي الولوالجية من فصل القراءة للمصلي ينبغي أن يدعو في الصلاة بدعاء محفوظ لا بما يحضره؛ لأنه يخاف أن يجري على لسانه ما يشبه كلام الناس فتفسد صلاته فأما في غير الصلاة فينبغي أن يدعو بما يحضره، ولا يستظهر الدعاء؛ لأن حفظ الدعاء يمنعه عن الرقة ا هـ.
وقد ذكر في المناقب أن أبا حنيفة أوصى رجلا يريد السفر إلى مكة بأن يدعو الله عند مشاهدة البيت باستجابة دعائه فإن استجيبت هذه الدعوة صار مستجاب الدعوة، وفي فتح القدير

 

ج / 2 ص -507-       ثم استقبل الحجر مكبراً مهللاً مستلماً بلا إيذاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن أهم الأدعية طلب الجنة بلا حساب والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا من أهم الأذكار كما ذكره الحلبي في مناسكه.
"قوله: ثم استقبل الحجر مكبرا مهللا مستلما بلا إيذاء" لفعله عليه السلام كذلك ولنهي عمر عن المزاحمة ولأن الاستلام سنة والكف عن الإيذاء واجب فالإتيان بالواجب متعين، والاستلام أن يضع يديه على الحجر الأسود ويقبله لفعله عليه السلام الثابت في الصحيحين وإن لم يقدر وضع يديه وقبلهما أو إحداهما فإن لم يقدر أمس الحجر شيئا كالعرجون ونحوه، وقبله لرواية مسلم وإن عجز عن ذلك للزحمة استقبله ورفع يديه حذاء أذنيه، وجعل باطنهما نحو الحجر مشيرا بهما إليه وظاهرهما نحو وجهه هكذا المأثور وإن أمكنه أن يسجد على الحجر فعل لفعله عليه السلام والفاروق بعده وقول القوام الكاكي الأولى أن لا يسجد عندنا ضعيف، وهذا التقبيل المسنون إنما يكون بوضع الشفتين من غير تصويت كما ذكره الحلبي في مناسكه، وقد أشار إلى أنه لا يبدأ بالصلاة؛ لأن تحية البيت الطواف فإن كان حلالا فيطوف طواف التحية وإن كان محرما بالحج فطواف القدوم وهو أيضا تحية إلا أنه خص بهذه الإضافة، وإن دخل في يوم النحر بعد الوقوف فطواف الفرض يغني كصلاة الفرض تغني عن تحية المسجد أو بالعمرة فطواف العمرة، ولا يسن في حقه طواف القدوم.
واستثنى علماؤنا من ذلك ما إذا دخل في وقت منع الناس من الطواف أو كان عليه فائتة مكتوبة أو خاف خروج الوقت للمكتوبة أو الوتر أو سنة راتبة أو فوت الجماعة في المكتوبة فإنه يقدم الصلاة على الطواف في هذه المسائل، ثم يطوف وفي قوله الحجر دون أن يصفه بالسواد إشارة إلى أنه حين أخرج من الجنة كان أبيض من اللبن، وإنما اسود بمس المشركين والعصاة كذا في المحيط.

 

ج / 2 ص -508-       وطف مضطبعا وراء الحطيم آخذا عن يمينك مما يلي الباب سبعة أشواط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: وطف مضطبعا وراء الحطيم آخذا عن يمينك مما يلي الباب سبعة أشواط" لفعله عليه السلام كذلك لما رواه أبو داود، وهو أن يدخل ثوبه تحت يده اليمنى ويلقيه على عاتقه الأيسر يقال اضطبع بثوبه وتأبط به وقولهم اضطبع رداءه سهو، وإنما الصواب بردائه كذا في المغرب وهو سنة مأخوذ من الضبع وهو العضد؛ لأنه يبقى مكشوفا وينبغي أن يفعله قبل الشروع في الطواف بقليل، وأما إدخال الحطيم في طوافه فهو واجب؛ لأن الحطيم ثبت كونه من البيت بخبر الواحد حتى لو تركه يؤمر بإعادة الطواف من الأصل أو إعادته على الحطيم ما دام بمكة، ولو لم يعد لزمه دم ولو استقبل الحطيم وحده لا تجوز صلاته؛ لأن فرضية التوجه ثبتت بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت بخبر الواحد احتياطا.
وله ثلاث أسام حطيم وحظيرة وحجر وهو اسم لموضع متصل بالبيت من الجانب الغربي بينه وبين البيت فرجة وسمي به؛ لأنه حطم من البيت أي كسر فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى المقتول؛ أو لأن من دعا على من ظلمه فيه حطمه الله كما جاء في الحديث فهو بمعنى فاعل كذا في كشف الأسرار، وليس كله من البيت بل مقدار ستة أذرع من البيت برواية مسلم عن عائشة وفي غاية البيان أن فيه قبر هاجر وإسماعيل عليهما السلام، وأما أخذه عن يمينه مما يلي الباب فهو واجب أيضا حتى لو طاف منكوسا صح، وأثم لتركه الواجب ويجب إعادته ما دام بمكة فإن رجع قبل إعادته فعليه دم.
والحكمة في كونه يجعل البيت عن يساره أن الطائف بالبيت مؤتم به، والواحد مع الإمام يكون الإمام على يساره وقيل لأن القلب في الجانب الأيسر، وقيل ليكون الباب في أول طوافه لقوله تعالى:
{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]. وأشار بقوله مما يلي الباب أن الافتتاح من الحجر الأسود واجب؛ لأنه عليه السلام لم يتركه قط، وقيل شرط حتى لو افتتح من غيره لا يجزئه؛ لأن الأمر بالطواف في الآية مجمل في حق الابتداء فالتحق فعله عليه السلام بيانا له كذا في فتح القدير هنا وفي باب الجنايات ذكر أن ظاهر الروايات أنه سنة، وذكر في المحيط أنه سنة

 

ج / 2 ص -509-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عند عامة المشايخ حتى لو افتتح من غير الحجر جاز ويكره، وذكر محمد في الرقيات أنه لم يجز ذلك القدر وعليه الإعادة، وإليه أشار في الأصل فقد جعل البداية منه فرضا ا هـ.
والأوجه الوجوب للمواظبة والافتراض بعيد عن الأصول للزوم الزيادة على القطعي بخبر الواحد، ولعل صاحب المحيط أراد بالسنة السنة المؤكدة التي بمعنى الواجب، وتكون الكراهة تحريمية، ولما كان الابتداء من الحجر واجبا كان الابتداء من الطواف من الجهة التي فيها الركن اليماني قريبا من الحجر الأسود متعينا ليكون مارا بجميع بدنه على جميع الحجر الأسود، وكثير من العوام شاهدناهم يبتدئون الطواف وبعض الحجر خارج عن طوافهم فاحذره.
وقوله سبعة أشواط بيان للواجب لا للفرض في الطواف فإنا قدمنا أن أقل الأشواط السبعة واجبة تجبر بالدم فالركن أكثر الأشواط، واختلف فيه فقيل أربعة أشواط وهو الصحيح نص عليه محمد في المبسوط، وذكر الجرجاني أنه ثلاثة أشواط وثلثا شوط، وخالف المحقق ابن الهمام أهل المذهب، وجزم بأن السبعة ركن فإنه لا يجزئ أقل منها، وأن هذا ليس من قبيل ما يقام فيه الأكثر مقام الكل، وأطال الكلام فيه في الجنايات، وهذا التقدير أعني السبعة مانع للنقصان اتفاقا، واختلفوا في منعه للزيادة حتى لو طاف ثامنا، وعلم أنه ثامن اختلفوا فيه والصحيح أنه يلزم إتمام الأسبوع؛ لأنه شرع فيه ملتزما بخلاف ما إذا ظن أنه سابع ثم تبين له أنه ثامن فإنه لا يلزمه الإتمام؛ لأنه شرع فيه مسقطا لا ملتزما كالعبادة المظنونة كذا في المحيط، وبهذا علم أن الطواف خالف الحج فإنه إذا شرع فيه مسقطا يلزمه إتمامه بخلاف بقية العبادات.
والأشواط جمع شوط وهو جري مرة إلى الغاية كذا في المغرب وفي الخانية من الحجر إلى الحجر شوط، واعلم أن مكان الطواف داخل المسجد الحرام حتى لو طاف بالبيت من وراء زمزم أو من وراء السواري جاز ومن خارج المسجد لا يجوز وعليه أن يعيد؛ لأنه لا يمكنه الطواف ملاصقا لحائط البيت فلا بد من حد فاصل بين القريب والبعيد فجعلنا الفاصل حائط المسجد؛ لأنه في حكم بقعة واحدة فإذا طاف خارج المسجد فقد طاف بالمسجد لا بالبيت؛ لأن حيطان المسجد تحول بينه وبين البيت كذا في المحيط وقد علمت مما قدمناه من واجبات الحج أن الطهارة فيه من الحدثين واجب، وكذا ستر العورة فلو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز الصلاة معه لزمه دم كذا في الظهيرية، وأما الطهارة من الخبث فمن السنة لا يلزمه بتركها شيء كما صرح به في المحيط وغيره لكن صرح في الفتاوى الظهيرية بأنه لو طاف طواف الزيارة في

 

ج / 2 ص -510-       ترمل في الثلاثة الأول فقط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثوب كله نجس فهذا وما لو طاف عريانا سواء فإن كان من الثوب قدر ما يواري عورته طاهرا والباقي نجسا جاز طوافه ولا شيء عليه، وأطلق الطواف فأفاد أنه لا يكره في الأوقات التي تكره الصلاة فيها؛ لأن الطواف ليس بصلاة حقيقة، ولهذا أبيح الكلام فيه كما ورد في الحديث، ولا تبطله المحاذاة، وقالوا لا بأس بأن يفتي في الطواف ويشرب ويفعل ما يحتاج إليه، لكن يكره إنشاد الشعر فيه والحديث لغير حاجة والبيع، وأما قراءة القرآن فيه فمباحة في نفسه ولا يرفع بها صوته كما في المحيط، والمعروف في الطواف إنما هو مجرد ذكر الله روى ابن ماجه عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"من طاف بالبيت سبعا ولم يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله محيت عنه عشر سيئات وكتبت له عشر حسنات ورفع له بها عشر درجات" وفي المحيط لو خرج من طوافه إلى جنازة أو مكتوبة أو تجديد وضوء ثم عاد بنى.
"قوله: ترمل في الثلاثة الأول فقط" بيان للسنة أي في الأشواط الثلاثة الأول دون غيرها فأفاد أنه من الحجر إلى الحجر لحديث ابن عمر وابن عباس في حجة الوداع المروي في الصحيحين ردا على ما قال إنه ينتهي إلى الركن اليماني، واعلم أن الأصل زوال الحكم عند زوال العلة؛ لأن الحكم ملزوم لوجود العلة، ووجود الملزوم بدون اللازم محال، وقول من قال إن علة الرمل في الطواف زالت وبقي الحكم ممنوع فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع. تذكيرا لنعمة الأمن بعد الخوف ليشكر عليها فقد أمر الله بذكر نعمه في مواضع من كتابه وما أمرنا بذكرها إلا لنشكرها، ويجوز أن يثبت الحكم بعلل متبادلة فحين غلبة المشركين كانت علة الرمل إيهام المشركين قوة المؤمنين وعند زوال ذلك تكون علته تذكير نعمة الأمن كما أن علة الرق في الأصل استنكاف الكافر عن عبادة ربه، ثم صار علته حكم الشرع برقه وإن أسلم وكالخراج فإنه

 

ج / 2 ص -511-       واستلم الحجر كلما مررت به إن استطعت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يثبت في الابتداء بطريق العقوبة، ولهذا لا يبتدأ به على المسلم ثم صار علته حكم الشرع بذلك حتى لو اشترى المسلم أرض خراج لزمه عليه الخراج، كذا ذكره المحقق أكمل الدين في شرح البزدوي من بحث القدرة الميسرة وقد رد المحقق ابن الهمام في باب العشر والخراج كون الحكم ملزوما لوجود العلة في العلل الشرعية؛ لأن العلل الشرعية أمارات على الحكم لا مؤثرات فيجوز بقاء الحكم بعد زوال علته، وإنما ذلك في العلل العقلية. وأشار بقوله بعد ذلك ثم اخرج إلى الصفا إلى أنه لا يرمل إلا في طواف بعده سعي فلو أراد تأخير السعي إلى طواف الزيارة لا يرمل في طواف القدوم، وذكر الشارح معزيا إلى الغاية إذا كان قارنا لم يرمل في طواف القدوم إن كان رمل في طواف العمرة وأشار بقوله فقط إلى أنه لو ترك الرمل في الشوط الأول لا يرمل إلا في الشوطين بعده وبنسيانه في الثلاثة الأول لا يرمل في الباقي؛ لأن ترك الرمل في الأربعة سنة فلو رمل فيها لكان تاركا للسنتين، وكان ترك أحدهما أسهل فإن زاحمه الناس في الرمل وقف فإذا وجد مسلكا رمل؛ لأنه لا بدل له فيقف حتى يقيمه على الوجه المسنون بخلاف استلام الحجر؛ لأن الاستقبال بدل له.
وفي الولوالجية ولو رمل في الكل لم يلزمه شيء. ا هـ. وينبغي أن يكره تنزيها لمخالفة السنة، والرمل كما في الهداية أن يهز في مشيته الكتفين كالمبارز يتبختر بين الصفين، وقيل هو إسراع مع تقارب الخطا دون الوثوب والعدو وهو في اللغة كما في ضياء الحلوم بفتح الفاء والعين الهرولة وفي فتح القدير وهو بقرب البيت أفضل فإن لم يقدر فهو في البعد من البيت أفضل من الطواف بلا رمل مع القرب منه.
"قوله: واستلم الحجر كلما مررت به إن استطعت" أي من غير إيذاء لحديث البخاري أنه عليه السلام طاف على بعير كلما أتى في الركن أشار بشيء في يده وكبر.
وفي المغرب استلم الحجر تناوله بيده أو بالقبلة أو مسحه بالكف من السلمة بفتح السين وكسر اللام، وهي الحجر أفاد أن استلام الحجر بين كل شوطين سنة كما صرح به في غاية البيان، وذكر في المحيط والولوالجي في فتاواه أن الاستلام في الابتداء والانتهاء سنة، وفيما

 

ج / 2 ص -512-       واختم الطواف به وبركعتين في المقام أو حيث تيسر من المسجد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين ذلك أدب ولم يذكر المصنف استلام غير الحجر؛ لأنه لا يستلم الركن العراقي والشامي وأما اليماني فيستحب أن يستلمه ولا يقبله وعند محمد هو سنة وتقبيله مثل الحجر الأسود، الدلائل تشهد له فإن ابن عمر قال لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين. كما في الصحيحين. وعن ابن عباس أنه عليه السلام: كان يقبل الركن اليماني، ويضع يده عليه. رواه الدارقطني وعنه عليه السلام: إذا استلم الركن اليماني قبله. رواه البخاري في تاريخه. وعن ابن عمر أنه قال: ما تركت استلام هذين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما، رواه مسلم وأبو داود وقد علمت أن استلام الحجر والركن اليماني يعم التقبيل فقد دل على سنية استلامه وأظهر منه ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر أنه عليه السلام لا يدع أن يستلم الحجر والركن اليماني في كل طوافه فإنه صريح في المواظبة الدالة على السنية، واعلم أنه قد صرح في غاية البيان أنه لا يجوز استلام غير الركنين وهو تساهل، فإنه ليس فيه ما يدل على التحريم، وإنما هو مكروه كراهة التنزيه والحكمة في عدم استلامهما أنهما ليسا من أركان البيت حقيقة؛ لأن بعض الحطيم من البيت فيكون الركنان إذن وسط البيت وأن الأصل في النسبة إلى اليمن والشام يمني وشامي ثم حذفوا إحدى يائي النسبة، وعوضوا منها ألفا فقالوا اليماني والشامي بالتخفيف، وبعضهم يشدده كما في الصحاح.
"قوله: واختم الطواف به وبركعتين في المقام أو حيث تيسر من المسجد"، أما ختم الطواف بالاستلام فهو سنة لفعله عليه السلام كذلك في حجة الوداع، وأما صلاة ركعتي الطواف بعد كل

 

ج / 2 ص -513-       للقدوم وهو سنة لغير المكي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسبوع فواجبة على الصحيح لما ثبت في حديث جابر الطويل أنه عليه السلام لما انتهى إلى مقام إبراهيم عليه السلام قرأ
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] فنبه بالتلاوة قبل الصلاة على أن صلاته هذه امتثالا لهذا الأمر، والأمر للوجوب إلا أن استفادة ذلك من التنبيه، وهو ظني فكان الثابت الوجوب، ويلزمه حكمنا بمواظبته عليه السلام من غير ترك إذ لا يجوز عليه ترك الواجب، ويكره وصل الأسابيع عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف وهي كراهة تحريم لاستلزامها ترك الواجب، ويتفرع على الكراهة أنه لو نسيهما لم يتذكر إلا بعد أن شرع في طواف آخر إن كان قبل إتمام شوط رفضه وبعد إتمامه لا، ولو طاف بصبي لا يصلي ركعتي الطواف عنه كذا في فتح القدير.
وقيد بعضهم قول أبي يوسف بأن ينصرف عن وتر، والمراد بالمقام مقام إبراهيم وهي حجارة يقوم عليها عند نزوله وركوبه من الإبل حين يأتي إلى زيارة هاجر وولدها إسماعيل كذا ذكر المصنف في المستصفى، وذكر القاضي في تفسيره أنه الحجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج، وقيل مقام إبراهيم الحرم كله، وقول المصنف من المسجد بيان للفضيلة وإلا فحيث أراد ولو بعد الرجوع إلى أهله؛ لأنها على التراخي ما لم يرد أن يطوف أسبوعا آخر فتكون على الفور لما قدمنا من كراهة وصل الأسابيع، وقد تقدم في الأوقات المكروهة أنه لا يصليهما فيها فحمل قولهما يكره وصل الأسابيع إنما هو في وقت لا يكره التطوع فيه، ولم أر نقلا فيما إذا وصل الأسابيع في وقت الكراهة ثم زال وقتها أنه يكره الطواف قبل الصلاة لكل أسبوع ركعتين، وينبغي أن يكون مكروها لما أن الأسابيع في هذه الحالة صارت كأسبوع واحد وفي الفتاوى الظهيرية يقرأ في الركعة الأولى بـ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تبركا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن قرأ غير ذلك جاز، وإذا فرغ من صلاته يدعو للمؤمنين والمؤمنات.
"قوله: للقدوم وهو سنة لغير المكي" أي طف هذا الطواف لأجل القدوم وهذا الطواف سنة للآفاقي دون المكي لأنه كتحية المسجد لا يسن للجالس فيه هكذا ذكروا، وليس هذا كتحية المسجد من كل وجه فإن الفرض أو السنة تغني عن تحية المسجد بخلاف طواف القدوم لما سيأتي من أن القارن يطوف للعمرة أولا، ثم يطوف للقدوم ثانيا ولا يكفيه الأول ولم يذكر المصنف الشرب من ماء زمزم بعد ختم الطواف، وإنما ذكره بعد الفراغ من أفعال الحج، وكذا إتيان الملتزم والتشبث به، وكذا العود إلى الحجر الأسود قبل السعي، والكل مستحب لكن الأخير

 

ج / 2 ص -514-       ثم اخرج إلى الصفا وقم عليه مستقبل البيت مكبرا مهللا مصليا على النبي صلى الله عليه وسلم داعيا ربك بحاجتك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشروط بإرادة السعي حتى لو لم يرده لم يعد إلى الحجر بعد ركعتي الطواف كما في الولوالجية.
"قوله: ثم اخرج إلى الصفا وقم عليه مستقبل البيت مكبرا مهللا مصليا على النبي صلى الله عليه وسلم داعيا ربك بحاجتك" لما ثبت في حديث جابر الطويل وقد قدمنا أن هذا السعي واجب وليس بركن للحديث:
"اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" قاله عليه السلام حين كان يطوف بين الصفا والمروة فإنه ظني وبمثله لا يثبت الركن؛ لأنه إنما يثبت عندنا بدليل مقطوع فما في الهداية من تأويله بمعنى كتب استحبابا فمناف لمطلوبه؛ لأنه الوجوب وجميع السبعة الأشواط واجب لا الأكثر فقط فإنهم قالوا في باب الجنايات لو ترك أكثر الأشواط لزمه دم وإن ترك الأقل لزمه صدقة فدل على وجوب الكل إذ لو كان الواجب الأكثر لم يلزمه في الأقل شيء أشار بثم إلى تراخي السعي عن الطواف، فلو سعى ثم طاف أعاده؛ لأن السعي تبع ولا يجوز تقدم التبع على الأصل، كذا ذكر الولوالجي، وصرح في المحيط بأن تقديم الطواف شرط لصحة السعي وبهذا علم أن تأخير السعي عن الطواف واجب، وإلى أن السعي لا يجب بعد الطواف فورا بل لو أتى به بعد زمان ولو طويلا لا شيء عليه والسنة الاتصال به كالطهارة فصح سعي الحائض والجنب، وكذا الصعود عليه مع ما بعده سنة حتى يكره أن لا يصعد عليهما كما في المحيط.
وقد قدمنا أن المشي فيه واجب حتى لو سعى راكبا من غير عذر لزمه دم ولم يذكر أي باب يخرج منه إلى الصفا؛ لأنه مخير؛ لأن المقصود يحصل به، وإنما خرج عليه السلام من باب بني مخزوم المسمى الآن بباب الصفا؛ لأنه أقرب الأبواب إليه فكان اتفاقا لا قصدا فلم يكن سنة، ولم يذكر رفع اليدين في هذا الدعاء، وهو مندوب حذو منكبيه جاعلا باطنهما إلى السماء، ثم اعلم أن أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس وهو والمروة جبلان معروفان بمكة، وكان الصفا مذكرا؛ لأن آدم عليه السلام وقف عليه فسمي به ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة فأنث لذلك كذا ذكر القرطبي في تفسيره.

 

ج / 2 ص -515-       ثم اهبط نحو المروة ساعيا بين الميلين الأخضرين وافعل عليها فعلك على الصفا وطف بينهما سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتختم بالمروة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي التحفة الأفضل للحاج أن لا يسعى بعد طواف القدوم؛ لأن السعي واجب لا يليق أن يكون تبعا للسنة بل يؤخره إلى طواف الزيارة؛ لأنه ركن، واللائق للواجب أن يكون تبعا للفرض.
"قوله: ثم اهبط نحو المروة ساعيا بين الميلين الأخضرين وافعل عليها فعلك على الصفا" أي على المروة من الصعود والتكبير والتهليل والصلاة والدعاء، والكل سنة حتى لو ترك الهرولة بين الميلين لا شيء عليه، وهما شيئان على شكل الميلين منحوتان من نفس جدار المسجد الحرام إلا أنهما منفصلان عنه وهما علامتان لموضع الهرولة في ممر بطن الوادي بين الصفا والمروة كذا في المغرب.
"قوله: وطف بينهما سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتختم بالمروة" كما صح في حديث جابر الطويل، وقوله تبدأ بالصفا بيان للواجب حتى لو بدأ بالمروة لا يعتد بالأول هو الصحيح لمخالفة الأمر وهو قوله عليه السلام:
"ابدءوا بما بدأ الله به" وإشارة إلى أن الذهاب إلى المروة شوط والعود منها إلى الصفا شوط آخر، وهو الصحيح لما صح في حديث جابر أنه قال: فلما كان آخر طوافه على المروة. ولو كان من الصفا إلى الصفا شوطا لكان آخر طوافه الصفا، ونقل الشارح عن الطحاوي أن الذهاب من الصفا إلى المروة والرجوع منها إلى الصفا شوط قياسا على الطواف فإنه من الحجر إلى الحجر شوط وفي الفتاوى الظهيرية ما يخالفه فإنه قال لا خلاف بين أصحابنا أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط محسوب من الأشواط السبعة فأما الرجوع من المروة إلى الصفا هل هو شوط آخر. قال الطحاوي لا يعتبر الرجوع من المروة إلى الصفا شوطا آخر، والصحيح أنه شوط آخر ا هـ. وفرق المحقق ابن الهمام بين الطوافين بالفرق لغة بين طاف كذا وكذا سبعا الصادق بالتردد من كل من الغايتين إلى الأخرى سبعا وبين طاف بكذا فإن حقيقته متوقفة على أن يشمل بالطواف ذلك الشيء فإذا قال طاف به سبعا كان بتكرير تعميمه بالطواف سبعا فمن هنا افترق الحال بين الطواف بالبيت حيث لزم في شوطه كونه من المبدإ إلى المبدإ، والطواف بين الصفا والمروة حيث لم يستلزم ذلك ا هـ. ولم يذكر صلاة ركعتين بعد السعي ختما له وهي مستحبة لفعله عليه السلام لذلك لما رواه أحمد.

 

ج / 2 ص -516-       ثم أقم بمكة حراما؛ لأنك محرم بالحج، فطف بالبيت كلما بدا لك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: ثم أقم بمكة حراما؛ لأنك محرم بالحج" فلا يجوز له التحلل حتى يأتي بأفعاله فأفاد أن فسخ الحج إلى العمرة لا يجوز وما في الصحيحين من أنه عليه السلام أمر بذلك أصحابه إلا من ساق منهم الهدي فهو مخصوص بهم لما في صحيح مسلم عن أبي ذر أن المتعة كانت لأصحاب محمد خاصة وفي بعض الشروح أنها كانت مشروعة على العموم، ثم نسخت كمتعة النكاح أو معارض بما في الصحيحين أيضا أن من أهل بالحج أو بالحج والعمرة لم يحلوا إلى يوم النحر.
"قوله: فطف بالبيت كلما بدا لك" أي ظهر لك لحديث الطحاوي وغيره:
"الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل لكم المنطق" والصلاة خير موضوع فكذا الطواف إلا أنه لا يسعى لكونه لا يتكرر لا وجوبا ولا نفلا، وكذا الرمل ويجب أن يصلي لكل أسبوع ركعتين كما قدمناه فالطواف التطوع أفضل للغرباء من صلاة التطوع ولأهل مكة الصلاة أفضل منه هكذا أطلقه كثير، وينبغي تقييده بزمن الموسم وإلا فالطواف أفضل من الصلاة مكيا كان أو غريبا وينبغي أن يكون قريبا من البيت في طوافه إذا لم يؤذ به أحدا والأفضل للمرأة أن تكون في حاشية المطاف، ويكون طوافه وراء الشاذروان كي لا يكون بعض طوافه بالبيت بناء على أنه منه، وقال الكرماني الشاذروان ليس عندنا من البيت وعند الشافعي منه حتى لا يجوز الطواف عليه، وهو تلك الزيادة الملصقة بالبيت من الحجر الأسود إلى فرجة الحجر قيل بقي منه حين عمرته قريش وضيقته.
وفي التجنيس الذكر أفضل من القراءة في الطواف وفي فتح القدير معزيا لكافي الحاكم يكره أن يرفع صوته بالقراءة فيه ولا بأس بقراءته في نفسه ولم يذكر المصنف دخول البيت وهو مستحب إذا لم يؤذ أحدا كذا قالوا يعني لا نفسه ولا غيره، وقليل أن يوجد هذا الشرط في زمن الموسم كما شاهدناه، ويستحب أن يصلي فيه اقتداء به عليه السلام، وينبغي أن يقصد مصلاه عليه السلام وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل مشى قبل وجهه، ويجعل الباب قبل ظهره حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع، ثم يصلي ويلزم الأدب ما استطاع بظاهره وباطنه ولا برفع بصره إلى السقف فإذا صلى إلى الجدار يضع خده عليه، ويستغفر

 

ج / 2 ص -517-       ثم اخطب قبل يوم التروية بيوم وعلم فيها المناسك، ثم رح يوم التروية إلى منى، ثم إلى عرفات بعد صلاة الفجر يوم عرفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويحمد ثم يأتي الأركان فيحمد ويهلل ويسبح ويكبر ويسأل الله تعالى ما شاء.
"قوله: ثم اخطب قبل يوم التروية بيوم وعلم فيها المناسك" يعني في اليوم السابع من الحجة بعد صلاة الظهر خطبة واحدة لا جلوس فيها، ويوم التروية هو يوم الثامن سمي به؛ لأن الناس يروون إبلهم فيه لأجل يوم عرفة، وقيل لأن إبراهيم عليه السلام رأى في تلك الليلة في منامه أن يذبح ولده بأمر ربه فلما أصبح روى في النهار كله أي تفكر أن ما رآه من الله تعالى فيأتمره أولا فلا، وظاهر كلام المغرب تعينه فإنه قال والأصل الهمزة وأخذها من الرؤية خطأ ومن الري منظور فيه، وأراد بالمناسك الخروج إلى منى وإلى عرفة والصلاة فيها والوقوف والإفاضة، وهذه أول الخطب الثلاث التي في الحج، ويبدأ في الكل بالتكبير ثم بالتلبية ثم بالتحميد كابتدائه في خطبة العيدين، ويبدأ بالتحميد في ثلاث خطب وهي خطبة الجمع والاستسقاء والنكاح كذا في المبتغى.
"قوله: ثم رح يوم التروية إلى منى" وهي قرية فيها ثلاث سكك بينها وبين مكة فرسخ وهي من الحرم، والغالب عليه التذكير والصرف وقد يكتب بالألف كذا في المغرب أطلقه فأفاد أنه يجوز التوجه إليها في أي وقت شاء من اليوم، واختلف في المستحب على ثلاثة أقوال أصحها أنه يخرج إليها بعدما طلعت الشمس لما ثبت من فعله عليه السلام كذلك في حديث جابر الطويل وابن عمر مع اتفاق الرواة أنه صلى الظهر بمنى فالبيتوتة بها سنة والإقامة بها مندوبة كذا في المحيط، ولو لم يخرج من مكة إلا يوم عرفة أجزأه أيضا، ولكنه أساء لترك السنة، وأفاد أنه لا فرق بين أن يكون يوم التروية يوم الجمعة أو لا فله الخروج إليها يوم الجمعة قبل الزوال، وأما بعده فلا يخرج ما لم يصلها كما إذا أراد أن يسافر يوم الجمعة من مصره وينبغي أن لا يترك التلبية في الأحوال كلها حال الإقامة بمكة داخل المسجد الحرام وخارجه إلى حال كونه في الطواف، ويلبي عند الخروج إلى منى ويدعوا بما شاء، ويستحب أن ينزل بالقرب من مسجد الخيف والله أعلم.
"قوله: ثم إلى عرفات بعد صلاة الفجر يوم عرفة" وهي علم للموقف وهي منونة لا غير، ويقال لها عرفة أيضا ويوم عرفة التاسع من ذي الحجة وسمي به؛ لأن إبراهيم عليه السلام عرف أن الحكم من الله فيه أو لأن جبريل عرفه المناسك فيه، أو لأن آدم وحواء تعارفا فيه بعد الهبوط إلى الأرض وهذا بيان الأفضل حتى لو ذهب قبل طلوع الفجر إليها جاز كما يفعله الحجاج في

 

ج / 2 ص -518-       ثم اخطب ثم صل بعد الزوال الظهر والعصر بأذان وإقامتين بشرط الإمام والإحرام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زماننا فإن أكثرهم لا يبيت بمنى لتوهم الضرر من السراق، ويستحب أن يسير على طريق ضب، ويعود على طريق المأزمين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في العيدين، وينزل مع الناس حيث شاء وبقرب الجبل أفضل والبعد عن الناس في هذا المكان تجبر والحال حال تضرع ومسكنة أو إضرار بنفسه أو متاعه أو تضييق على المارة إن كان بالطريق، والسنة أن ينزل الإمام بنمرة ونزول النبي صلى الله عليه وسلم بها لا نزاع فيه كذا في فتح القدير.
"قوله: ثم اخطب" يعني خطبتين بعد الزوال والآذان قبل الصلاة يجلس بينهما كما في الجمعة للاتباع، وإنما أطلقه لإفادة أنها جائزة قبل الزوال واكتفى بما ذكره في الأولى من تعليم المناسك عن أن يقول ويعلم الناس فيها المناسك التي هي إلى الخطبة الثالثة وهي الوقوف بعرفة والمزدلفة، والإفاضة منهما ورمي جمرة العقبة يوم النحر والذبح والحلق وطواف الزيارة، ولما كان الإطلاق مصروفا إلى المعهود دل أنه إذا صعد الإمام المنبر وجلس أذن المؤذن وهو ظاهر المذهب وهو الصحيح للاتباع الثابت عنه عليه السلام.
"قوله: ثم صل بعد الزوال الظهر والعصر بأذان وإقامتين بشرط الإمام والإحرام" لما ثبت من حديث جابر من الجمع بينهما كذلك فيؤذن للظهر ثم يقيم له ثم يقيم للعصر؛ لأنها تؤدى قبل وقتها المعتاد فتفرد بالإقامة للإعلام. وأشار بذكر العصر بعد الظهر إلى أنه لا يصلي سنة الظهر البعدية، وهو الصحيح كما في التصحيح فبالأولى أن لا ينتقل بينهما فلو فعل كره، وأعاد الأذان للعصر لانقطاع فوره فصار كالاشتغال بينهما بفعل آخر وفي اقتصاره في بيان شرط الجمع على ما ذكر دليل على أن الخطبة ليست من شرطه بخلاف الجمعة وعلى أن الجماعة ليست من شرطه حتى لو لحق الناس الفزع بعرفات فصلى الإمام وحده الصلاتين فإنه يجوز بالإجماع على الصحيح كذا في الوجيز وفي البدائع، ولا يلزم عليه ما إذا سبق الإمام الحدث في صلاة الظهر فاستخلف رجلا، وذهب الإمام ليتوضأ فصلى الخليفة الظهر والعصر ثم جاء الإمام أنه لا يجوز له أن يصلي العصر إلا في وقتها؛ لأن عدم الجواز هناك ليس لعدم الجماعة بل لعدم الإمام؛ لأنه خرج عن أن يكون إماما، وصار كواحد من المؤتمين أو يقال الجماعة شرط الجمع عند أبي حنيفة لكن في حق غير الإمام لا في حق الإمام. ا هـ. فما في النقاية والجوهرة والمجمع من اشتراط الجماعة ضعيف، ولو أحدث بعد الخطبة قبل أن يشرع في الصلاة فاستخلف من لم يشهد

 

ج / 2 ص -519-       ثم إلى الموقف، وقف بقرب الجبل، وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة حامداً مكبراً مهللاً ملبياً مصلياً داعياً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخطبة جاز، ويجمع بين الصلاتين بخلاف الجمعة، وذكر الإمام والإحرام بالتعريف للإشارة إلى تعيينهما، فالمراد بالإمام الإمام الأعظم أو نائبه مقيما كان أو مسافرا فلا يجوز الجمع مع إمام غيرهما، ولو مات الإمام وهو الخليفة جمع نائبه أو صاحب شرطه لأن النواب لا ينعزلون بموت الخليفة، والأصلي كل واحدة منهما في وقتها، والمراد بالإحرام إحرام الحج حتى لو كان محرما بالعمرة يصلي العصر في وقته عنده، وهذان الشرطان لا بد منهما في كل من الصلاتين لا في العصر وحدها حتى لو كان محرما بالعمرة في الظهر محرما بالحج في العصر لا يجوز له الجمع عنده كما لو لم يكن محرما في الظهر، وأطلق في وقت الإحرام فأفاد أنه لا فرق بين أن يكون محرما قبل الزوال أو بعده وهو الصحيح؛ لأن المقصود حصوله عند أداء الصلاتين، ولا يشترط الإمام لجميع أداء الظهر حتى لو أدرك جزءا منه معه جاز له الجمع كذا في المحيط وهذا كله مذهب الإمام وعندهما لا يشترط إلا الإحرام عند العصر وهو رواية فجوز للمنفرد الجمع وفي قوله صلى الظهر إشارة إلى الصحيحة فلو صلاها، ثم تبين فساد الظهر أعادهما جميعا؛ لأن الفاسد عدم شرعا، وذكر في معراج الدراية أنه يؤخر هذا الجمع إلى آخر وقت الظهر وفي المحيط لا يجهر بالقراءة فيهما.
"قوله: ثم إلى الموقف وقف بقرب الجبل" أي ثم رح والمراد بالجبل جبل الرحمة.
"قوله: وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة" لحديث البخاري:
"عرفات كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر وشعاب مكة كلها منحر" وفي المغرب عرنة واد بحذاء عرفات وبتصغيرها سميت عرينة ينسب إليها العرنيون وذكر القرطبي في تفسيره أنها بفتح الراء وضمها بغربي مسجد عرفة حتى لقد قال بعض العلماء إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة، وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل وعرنة في الحرم.
"قوله: حامدا مكبرا مهللا ملبيا مصليا داعيا" أي قف حامدا إلى آخره لحديث مالك وغيره

 

ج / 2 ص -520-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير" وكان عليه السلام يجتهد في الدعاء في هذا الموقف حتى روي عنه أنه عليه السلام دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم ثم أعاد الدعاء بالمزدلفة فأجيب حتى الدماء والمظالم. خرجه ابن ماجه وهو ضعيف بالعباس بن مرداس فإنه منكر الحديث ساقط الاحتجاج كما ذكره الحفاظ لكن له شواهد كثيرة فمنها ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال كان فلان ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"ابن أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره غفر له" ومنها ما رواه البخاري مرفوعا "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" ومنها ما رواه مسلم في صحيحه مرفوعا "أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله" ومنها ما رواه مالك في الموطإ مرفوعا "ما رئي الشيطان يوما هو أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رئي يوم بدر فإنه رأى جبريل يزع الملائكة" فإنها تقتضي تكفير الصغائر والكبائر، ولو كانت من حقوق العباد لكن ذكر الأكمل في شرح المشارق أن الإسلام يهدم ما كان قبله أن المقصود أن الذنوب السالفة تحبط بالإسلام والهجرة والحج صغيرة كانت أو كبيرة، وتتناول

 

ج / 2 ص -521-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حقوق الله وحقوق العباد بالنسبة إلى الحربي حتى لو أسلم لا يطالب بشيء منها حتى لو كان قتل وأخذ المال وأحرزه بدار الحرب ثم أسلم لا يؤاخذ بشيء من ذلك وعلى هذا كان الإسلام كافيا في تحصيل مراده ولكن ذكر صلى الله عليه وسلم الهجرة والحج تأكيدا في بشارته وترغيبا في مبايعته فإن الهجرة والحج لا يكفران المظالم، ولا يقطع فيهما بمحو الكبائر، وإنما يكفران الصغائر ويجوز أن يقال والكبائر التي ليست من حقوق العباد أيضا كالإسلام من أهل الذمة وحينئذ لا يشك أن ذكرهما كان للتأكيد ا هـ. وهكذا ذكر الإمام الطيبي في شرح هذا الحديث، وقال إن الشارحين اتفقوا عليه، وهكذا ذكر الإمام النووي والقرطبي في شرح مسلم وذكر القاضي عياض أن أهل السنة أجمعوا على أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة.
فالحاصل أن المسألة ظنية، وأن الحج لا يقطع فيه بتكفير الكبائر من حقوق الله تعالى فضلا عن حقوق العباد وإن قلنا بالتكفير للكل فليس معناه كما يتوهمه كثير من الناس أن الدين يسقط عنه، وكذا قضاء الصلوات والصيامات والزكاة إذ لم يقل أحد بذلك، وإنما المراد أن إثم مطل الدين وتأخيره يسقط بعد الوقوف بعرفة إذا مطل صار آثما الآن، وكذا إثم تأخير الصلاة عن أوقاتها يرتفع بالحج لا القضاء ثم بعد الوقوف بعرفة يطالب بالقضاء فإن لم يفعل كان آثما على القول بفوريته، وكذا البقية على هذا القياس وبالجملة فلم يقل أحد بمقتضى عموم الأحاديث الواردة في الحج كما لا يخفى. وأشار بقوله ملبيا إلى الرد على من قال يقطعها إذا وقف ثم اعلم أن الوقوف ركن من أركان الحج كما قدمناه، وهو أعظم أركانه للحديث الصحيح:
"الحج عرفة". وشرطه شيئان: أحدهما كونه في أرض عرفات. الثاني أن يكون في وقته كما سيأتي بيانه وليس القيام من شرطه ولا من واجباته حتى لو كان جالسا جاز؛ لأن الوقوف المفروض هو الكينونة فيه، وكذا النية ليس من شرطه وواجبه الامتداد إلى الغروب وأما سننه فالاغتسال للوقوف والخطبتان والجمع بين الصلاتين وتعجيل الوقوف عقيبهما، وأن يكون مفطرا لكونه أعون على الدعاء وأن يكون متوضئا لكونه أكمل، وأن يقف على راحلته وأن يكون مستقبل القبلة وأن يكون وراء الإمام بالقرب منه وأن يكون حاضر القلب فارغا من الأمور الشاغلة من الدعاء، فينبغي أن يجتنب في موقفه طريق القوافل وغيرهم لئلا ينزعج بهم، وأن يقف عند

 

ج / 2 ص -522-       ثم إلى مزدلفة بعد الغروب وأنزل بقرب جبل قزح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصخرات السود موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن تعذر عليه يقف بقرب منه بحسب الإمكان وأما ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بالوقوف عند جبل الرحمة الذي هو بوسط عرفات، وترجيحهم له على غيره فخطأ ظاهر ومخالف للسنة، ولم يذكر أحد ممن يعتد به في صعود هذا الجبل فضيلة تختص به بل له حكم سائر أراضي عرفات غير موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أفضل إلا الطبري والماوردي في الحاوي فإنهما قالا باستحباب قصد هذا الجبل الذي يقال له جبل الدعاء. قال وهو موقف الأنبياء وما قالاه لا أصل له ولم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف كذا ذكر النووي في شرح المهذب ومن السنة أن يكثر من الدعاء والتكبير والتهليل والتلبية والاستغفار وقراءة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وليحذر كل الحذر من التقصير في شيء من هذا فإن هذا اليوم لا يمكن تداركه ويكثر من التلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب، وأن يكثر البكاء مع الذكر فهناك تسكب العبرات، وتستقال العثرات وترتجى الطلبات، وأنه لمجمع عظيم وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين وأوليائه المخلصين، وهو أعظم مجامع الدنيا، وقد قيل إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل الموقف وأنه أفضل من سبعين حجة في غير يوم جمعة كما ورد في الحديث، وليحذر كل الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح بل ومن المباح أيضا في مثل هذا اليوم.
"قوله: ثم إلى مزدلفة بعد الغروب" أي ثم رح كما ثبت في صحيح مسلم من فعله عليه السلام، وهذا بيان للواجب حتى لو دفع قبل الغروب وجاوز حدود عرفة لزمه دم. وأشار إلى أن الإمام لو أبطأ بالدفع بعد الغروب فإن الناس يدفعون؛ لأنه لا موافقة في مخالفة السنة، ولو مكث بعد الغروب وبعد دفع الإمام وإن كان قليلا لخوف الزحام فلا بأس به وإن كان كثيرا كان مسيئا لمخالفة السنة، والأفضل أن يمشي على هينته، وإذا وجد فرجة أسرع، ويستحب أن يدخل مزدلفة ماشيا، وأن يكبر ويهلل ويحمد ويلبي ساعة فساعة.
"قوله: وانزل بقرب جبل قزح" يعني المشعر الحرام وهو غير منصرف للعدل والعلمية كعمر من قزح الشيء ارتفع يقال إنه كانون آدم عليه السلام وهو موقف الإمام، كما رواه أبو داود ولا

 

ج / 2 ص -523-       وصل بالناس العشاءين بأذان وإقامة، ولم تجز المغرب في الطريق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينبغي النزول على الطريق ولا الانفراد على الناس فينزل عن يمينه أو يساره، ويستحب أن يقف وراء الإمام كالوقوف بعرفة.
"قوله: وصل بالناس العشاءين بأذان وإقامة" أي المغرب والعشاء جمع تأخير لرواية مسلم عن ابن عمر أنه عليه السلام أذن للمغرب بجمع فأقام ثم صلى العشاء بالإقامة الأولى. وأشار إلى أنه لا تطوع بين الصلاتين ولو سنة مؤكدة على الصحيح، ولو تطوع بينهما أعاد الإقامة كما لو اشتغل بينهما بعمل آخر وفي الهداية، وكان ينبغي أن يعاد الأذان كما في الجمع الأول إلا أنا اكتفينا بإعادة الإقامة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة بالعشاء. وإلى أن هذا الجمع لا يختص بالمسافر؛ لأنه جمع بسبب النسك فيجوز لأهل مكة ومزدلفة ومنى وغيرهم.
وإلى أن هذا الجمع لا يشترط فيه الإمام كما شرط في الجمع المتقدم؛ لأن العشاء تقع أداء في وقتها، والمغرب قضاء، والأفضل أن يصليهما مع الإمام بجماعة وينبغي أن يصلي الفرض قبل حط رحله بل ينيخ جماله ويعقلها، وهذه ليلة جمعت شرف المكان والزمان فينبغي أن يجتهد في إحيائها بالصلاة والتلاوة والذكر والتضرع.
"قوله: ولم تجز المغرب في الطريق" أي لم تحل صلاة المغرب قبل الوصول إلى مزدلفة للحديث:
"الصلاة أمامك" قاله حين قال قيل له الصلاة يا رسول الله وهو في طريق مزدلفة أي وقتها فدل كلامه أنها لا تحل بعرفات بالطريق الأولى. وأشار إلى أن العشاء لا تحل بالطريق الأولى وإن كان بعد دخول وقتها؛ لأن صاحبة الوقت وهي المغرب إذا كانت لا تحل به فغيرها أولى، ولما كان وقت هاتين الصلاتين وقت العشاء علم أنه لو خاف طلوع الفجر جاز أن يصليهما في الطريق؛ لأنه لو لم يصلهما لصارتا قضاء، وإذا لم يحل له أداؤهما بالطريق فإذ صلاهما أو إحداهما فقد ارتكب كراهة التحريم.

 

ج / 2 ص -524-       ثم صل الفجر بغلس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكل صلاة أديت معها وجب إعادتها فيجب إعادتهما ما لم يطلع الفجر فإن طلع سقطت الإعادة؛ لأن الإعادة للجمع بينهما في وقت العشاء، وقد خرج في الفتاوى الظهيرية ثم هاهنا مسألة لا بد من معرفتها وهو أنه لو قدم العشاء على المغرب بمزدلفة يصلي المغرب ثم يعيد العشاء فإن لم يعد العشاء حتى انفجر الصبح عاد العشاء إلى الجواز، وهذا كما قال أبو حنيفة فيمن ترك صلاة الظهر ثم صلى بعدها خمسا، وهو ذاكر للمتروكة لم يجز فإن صلى السادسة عاد إلى الجواز.
واعلم أن المشايخ صرحوا في كتبهم بعدم الجواز، وهو يوهم عدم الصحة، وليس بمراد بل المراد عدم الحل، ولهذا صرحوا بالإعادة ولو كانت باطلة لكان أداء إن كان في الوقت وقضاء إن كان خارجه، ولو صرحوا بعدم الحل لزال الاشتباه.
وحاصل دليلهم المقتضي لعدم الحل أنه ظني مفيد تأخير وقت المغرب في خصوص هذه الليلة ليتوصل إلى الجمع بمزدلفة فعملنا بمقتضاه ما لم يلزم تقديم الدليل القاطع وهو الدليل الموجب للمحافظة على الوقت فقبل طلوع الفجر لم يلزم تقديمه على القطعي، وبعده انتفى إمكان تدارك هذا الواجب، وتقرر المأثم إذ لو وجبت الإعادة بعده كان حقيقته عدم الصحة فيما هو مؤقت قطعا، وفيه التقديم الممتنع وفي فتح القدير وقد يقال بوجوب الإعادة مطلقا لأنه أداها قبل وقتها الثابت بالحديث فتعليله بأنه للجمع فإذا فات سقطت الإعادة تخصيص للنص بالمعنى المستنبط منه، ومرجعه إلى تقديم المعنى على النص وكلمتهم على أن العبرة في المنصوص عليه لعين النص لا لمعنى النص لا يقال لو أجريناه على إطلاقه أدى إلى تقديم الظني على القطعي؛ لأنا نقول ذلك لو قلنا بافتراض ذلك لكنا نحكم بالإجزاء ونوجب إعادة ما وقع مجزئا شرعا مطلقا ولا بدع في ذلك فهو في نظير وجوب إعادة صلاة أديت مع كراهة التحريم حيث نحكم بإجزائها، ويجب إعادتها مطلقا ا هـ.
وفي المحيط لو صلاهما بعدما جاوز المزدلفة جاز ا هـ.
"قوله: ثم صل الفجر بغلس" لرواية ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم صلاها يومئذ بغلس، وهو في ثم

 

ج / 2 ص -525-       ثم قف مكبرا مهللا ملبيا مصليا على النبي صلى الله عليه وسلم داعيا ربك بحاجتك وقف على جبل قزح إن أمكنك، وإلا فبقرب منه وهي موقف إلا بطن محسر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللغة آخر الليل، والمراد هنا بعد طلوع الفجر بقليل للحاجة إلى الوقوف بالمزدلفة.
"قوله: ثم قف مكبرا مهللا ملبيا مصليا على النبي صلى الله عليه وسلم داعيا ربك بحاجتك وقف على جبل قزح إن أمكنك، وإلا فبقرب منه" بيان للسنة فلو وقف قبل الصلاة أجزأه.
ووقته من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقدمنا أنه واجب، وصرح في الهداية بسقوطه للعذر بأن يكون به ضعف أو علة أو كانت امرأة تخاف الزحام لا شيء عليه وسيأتي في الجنايات أن هذا لا يخص هذا الواجب بل كل واجب إذا تركه للعذر لا شيء عليه، ولم يقيد في المحيط خوف الزحام بالمرأة بل أطلقه فشمل الرجل لو مر قبل الوقت لخوفه لا شيء عليه، ولو مر بها من غير أن يقف جاز كالوقوف بعرفة ولو مر في جزء من أجزاء المزدلفة جاز كذا في المعراج.
واختلف في جبل قزح فقيل هو المشعر الحرام وقيل المشعر جميع المزدلفة، ولم يذكر البيتوتة بمزدلفة وهي سنة لا شيء عليه لو تركها كما لو وقف بعدما أفاض الإمام قبل الشمس؛ لأن البيتوتة شرعت للتأهب للوقوف، ولم تشرع نسكا.
"قوله: وهي موقف إلا بطن محسر" أي المزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر وهو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة المشددة وبالراء سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي عيي وكل ووادي محسر موضع فاصل بين منى ومزدلفة ليس من واحدة منهما. قال الأزرقي إن وادي محسر خمسمائة ذراع وخمس وأربعون ذراعا، وأما مزدلفة فإنها كلها من الحرم سميت بذلك من التزلف، والازدلاف وهو التقرب؛ لأن الحجاج يتقربون منها وحدها ما بين وادي محسر ومأزمي عرفة ويدخل فيها جميع تلك الشعاب والجبال الداخلة في الحد المذكور، وظاهر كلام المصنف كغيره أن بطن محسر ليس مكان الوقوف كبطن عرنة في عرفات فلو وقف فيهما فقط لا يجوز كما لو وقف في منى سواء قلنا أن عرنة ومحسرا من عرفة ومزدلفة أو لا ووقع في البدائع، وأما مكانه يعني الوقوف بمزدلفة فجزء من أجزاء مزدلفة إلا أنه لا ينبغي له أن ينزل في وادي محسر، ولو وقف به أجزأه مع الكراهة، وذكر مثله في بطن عرنة قال في فتح القدير، وما ذكره في البدائع غير مشهور من كلام الأصحاب بل الذي يقتضيه كلامهم عدم

 

ج / 2 ص -526-       الإجزاء وهو الذي يقتضيه النظر لأنهما ليسا من مسمى المكانين والاستثناء منقطع.
"قوله: ثم إلى منى بعدما أسفر جدا" أي ثم رح وفسر الأسفار بأن تدفع بحيث لم يبق إلى طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلى ركعتين كما في المحيط وفي الظهيرية، وينبغي أن يكثر من الذكر والصلاة عليه عليه السلام والدعاء وهو ذاهب فإذا بلغ بطن محسر أسرع إن كان ماشيا، وحرك دابته إن كان راكبا قدر رمية حجر؛ لأنه عليه السلام فعل ذلك.
"قوله: فارم جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات كحصى الخذف" أي المكان المسمى بذلك، والجمار هي الصغار من الحجارة جمع جمرة وبها سموا المواضع التي ترمى جمارا وجمرات لما بينهما من الملابسة وقيل لتجمع ما هنالك من الحصى من تجمر القوم إذا تجمعوا وجمر شعره إذا جمعه على قفاه والخذف بالخاء والذال المعجمتين أن ترمي بحصاة أو نواة أو نحوها تأخذه بين سبابتيك وقيل أن تضع طرف الإبهام على طرف السبابة، وفعله من باب ضرب كذا في المغرب، وصحح الولوالجي القول الثاني؛ لأنه أكثر إهانة للشيطان، وهذا بيان للسنة فلو رمى كيف أراد جاز ولو رمى من فوق العقبة أجزأه، وكان مخالفا للسنة قيد بالرمي؛ لأنه لو وضعها وضعا لم يجز لترك الواجب والطرح رمي إلى قدميه فيكون مجزئا إلا أنه مخالف للسنة ومقدار الرمي أن يكون بين الرامي وموضع السقوط خمسة أذرع كذا في الهداية وفي الظهيرية يجب أن يكون بينهما هذا القدر فلو رماها فوقعت قريبا من الجمرة يكفيه، ولو وقعت بعيدا لم يجزه؛ لأنه لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص، والقريب عفو ولو وقعت الحصاة على ظهر رجل أو على محمل وثبتت عليه كان عليه إعادتها، وإذا سقطت عن المحمل أو عن ظهر الرجل في سننها ذلك أجزأه.
وأشار بقوله كحصى الخذف إلى أنه لو رمى بسبع حصيات جملة واحدة فإنه يكون عن واحدة لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال والتقييد بالسبع لمنع النقص لا لمنع الزيادة فإنه لو رماها بأكثر من السبع لم يضره.
والتقييد بالحصى لبيان الأكمل، وإلا فيجوز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض كالحجر والمدر وما يجوز التيمم به ولو كفا من تراب ولا يجوز بالخشب والعنبر واللؤلؤ والجواهر والذهب والفضة.

 

ج / 2 ص -527-       وكبر بكل حصاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إما لأنها ليست من جنس الأرض أو؛ لأنها نثار وليست برمي أو؛ لأنه إعزاز لا إهانة، وكذا التقييد بحصى الخذف لبيان الأكمل فإنه لو رماها بأكبر منه جاز لحصول المقصود غير أنه لا يرمى بالكبار من الحجارة كي لا يتأذى به غيره، ولو رمى صح وكره.
ولم يبين الموضع المأخوذ منه الحصا لأنه يجوز أخذه من أي موضع شاء فليأخذها من مزدلفة أو من قارعة الطريق، ويكره من عند الجمرة تنزيها؛ لأنه حصى من لم يقبل حجه فإنه من قبل حجه رفع حصاه كما ورد في الحديث ولم يشترط طهارة الحجارة؛ لأنه يجوز الرمي بالحجر النجس، والأفضل غسلها وفي مناسك الحصيري جرى التوارث بحمل الحصى من جبل على الطريق فيحمل منه سبعين حصاة قال وفي مناسك الكرماني يدفع من المزدلفة بسبع حصيات، وقال قوم بسبعين حصاة، وليس مذهبنا ا هـ. كذا في معراج الدراية وفي فتح القدير: ويكره أن يلتقط حجرا واحدا فيكسره سبعين حجرا صغيرا كما يفعله كثير من الناس اليوم، ولم يبين وقته.
وله أوقات أربعة وقت الجواز ووقت الاستحباب ووقت الإباحة ووقت الكراهة.
فالأول ابتداؤه من طلوع الفجر يوم النحر وانتهاؤه إذا طلع الفجر من اليوم الثاني حتى لو أخره حتى طلع الفجر في اليوم الثاني لزمه دم عند أبي حنيفة خلافا لهما ولو رمى قبل طلوع فجر يوم النحر لم يصح اتفاقا.
والثاني من طلوع الشمس إلى الزوال.
والثالث من الزوال إلى الغروب.
والرابع قبل طلوع الشمس وبعد الغروب كذا في المحيط وغيره وجعل في الفتاوى الظهيرية الوقت المباح من المكروه فهي ثلاثة عنده والأكثرون على الأول.
"قوله: وكبر بكل حصاة" أي مع كل حصاة من السبعة بيان للأفضل فلو لم يذكر الله أصلا

 

ج / 2 ص -528-       واقطع التلبية بأولها، ثم اذبح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو هلل أو سبح أجزأه ولم يذكر الدعاء آخره؛ لأن السنة أن لا يقف عندها كما سيشير إليه في رمي الجمار الثلاث.
وضابطه أن كل جمرة بعدها جمرة فإنه يقف بعدها للدعاء؛ لأنه في أثناء العبادة وكل جمرة ليس بعدها جمرة ترمى في يومه لا يقف عندها؛ لأنه خرج من العبادة كذا في الظهيرية وهو مشكل فإن الدعاء بعد الخروج من العبادة مستحب كما في الصلاة والصوم إذا خرج منهما فالأولى الاستدلال بفعله عليه السلام، كذلك وإن لم تظهر له حكمة وقد يقال هي كون الوقوف يقع في جمرة العقبة في الطريق فيوجب قطع سلوكها على الناس وشدة ازدحام الواقفين والمارين، ويفضي ذلك إلى ضرر عظيم بخلافه في باقي الجمرات فإنه لا يقع في نفس الطريق بل بمعزل عنه.
"قوله: واقطع التلبية بأولها" أي مع أول حصاة ترميها لحديث الصحيحين لم يزل عليه السلام يلبي حتى رمى جمرة العقبة ولا فرق بين المفرد والمتمتع والقارن وقيد بالمحرم بالحج؛ لأن المعتمر يقطع التلبية إذا استلم الحجر؛ لأن الطواف ركن في العمرة فيقطع التلبية قبل الشروع فيها.
وقيد بكونه مدركا للحج بإدراك الوقوف بعرفة؛ لأن فائت الحج إذا تحلل بالعمرة يقطع التلبية حين يأخذ في الطواف؛ لأن العمرة واجبة عليه فصار كالمعتمر.
والمحصر يقطعها إذا ذبح هديه؛ لأن الذبح للتحلل.
والقارن إذا كان فائت الحج يقطع حين يأخذ في الطواف الثاني؛ لأنه يتحلل بعده.
وأشار بالرمي إلى أنه يقطعها إذا فعل واحدا من الأمور الأربعة التي تفعل في الحج يوم النحر فيقطعها إن حلق قبل الرمي أو طاف الزيارة قبل الرمي والذبح والحلق أو ذبح قبل الرمي دم التمتع أو القران، ومضى وقت الرمي المستحب كفعله فيقطعها إذا لم يرم جمرة العقبة حتى زالت الشمس كذا في المحيط.
"قوله: ثم اذبح" أي على وجه الأفضلية؛ لأن الكلام في المفرد وهو ليس بواجب عليه، وإنما يجب على القارن والمتمتع، وأما الأضحية فإن كان مسافرا فلا أضحية عليه، وإلا فعليه كالمكي وقد ثبت في حديث جابر الطويل أنه عليه السلام ذبح بيده ثلاثا وستين بدنة وأمر عليا فذبح ما بقي وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها

 

ج / 2 ص -529-       ثم احلق أو قصر و الحلق أحب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وشربا من مرقها ثم ركب إلى البيت فصلى بمكة الظهر. قال ابن حبان والحكمة في أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثا وستين بدنة أنه كان له يومئذ ثلاث وستون سنة فنحر لكل سنة بدنة.
"قوله: ثم احلق أو قصر و الحلق أحب" بيان للواجب والمراد بالحلق إزالة شعر ربع الرأس إن أمكن وإلا بأن كان أقرع فيجري الموسى على رأسه إن أمكن وأحب على المختار وإلا بأن كان على رأسه قروح لا يمكنه إمرار الموسى عليه ولا يصل إلى تقصيره فقد سقط هذا الواجب وحل كمن حلقها، والأحسن أن يؤخر الإحلال إلى آخر الوقت من أيام النحر ولو أمكنه الحلق لكن لم يجد آلة ولا من يحلقها فليس بعذر وليس له الإحلال؛ لأن إصابة الآلة مرجو في كل ساعة ولا كذلك برء القروح واندمالها والإزالة لا تختص بالموسى بل بأي آلة كانت أو بالنورة، والمستحب الحلق بالموسى؛ لأن السنة وردت به والمراد بالتقصير أن يأخذ الرجل أو المرأة من رءوس شعر ربع الرأس مقدار الأنملة كذا ذكر الشارح، ومراده أن يأخذ من كل شعرة مقدار الأنملة كما صرح به في المحيط وفي البدائع قالوا يجب أن يزيد في التقصير على قدر الأنملة حتى يستوفي قدر الأنملة من كل شعرة برأسه؛ لأن أطراف الشعر غير متساو عادة.
قال الحلبي: في مناسكه وهو حسن.
والأنملة بفتح الهمزة والميم وضم الميم لغة مشهورة، ومن خطأ راويها فقد أخطأ واحدة الأنامل ثم التخيير بين الحلق والتقصير إنما هو عند عدم العذر فلو تعذر الحلق لعارض تعين التقصير، أو التقصير تعين الحلق كأن لبده بصمغ فلا يعمل فيه المقراض، وإنما كان الحلق أفضل لدعائه عليه السلام للمحلقين بالرحمة ثنتين أو ثلاثا وفي الثالثة أو الرابعة للمقصرين بها، ويستحب حلق الكل للاتباع ولم يذكر سنن الحلق؛ لأنه لا يخص الحلق في الحج؛ لأن أصل الحلق في كل جمعة مستحب كما صرح به في القنية ويعتبر في سنته البداءة باليمين للحالق لا المحلوق فيبدأ بشقه الأيسر ومقتضى النص البداءة بيمين الرأس لما في الصحيحين أنه عليه السلام قال:

 

ج / 2 ص -530-       وحل لك كل شيء غير النساء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للحلاق خذ وأشار إلى الجانب الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس. وفي فتح القدير أنه هو الصواب وهو خلاف ما ذكر في المذهب، ويستحب دفن شعره والدعاء عند الحلق وبعد الفراغ مع التكبير وإن رمى الشعر فلا بأس به، وكره إلقاؤه في الكنيف والمغتسل كذا في فتاوى العلامي ويستحب له أن يقص أظفاره وشواربه بعد الحلق للاتباع ولا يأخذ من لحيته شيئا؛ لأنه مثلة ولو فعل لا يلزمه.
"قوله: وحل لك غير النساء" أي بالحلق أي فحل التطيب لحديث الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت. وحرم الدواعي كالوطء أفاد أنه ليس قبل الحلق تحليل لشيء مما كان حلالا بالإحرام ويدل عليه ما في المبسوط.
فالحاصل أن في الحج إحلالين: أحدهما بالحلق والثاني بالطواف وما في الهداية وغيرها من أن الرمي ليس من أسباب التحلل عندنا يخالفه ما في فتاوى قاضي خان، ولفظه وبعد الرمي قبل الحلق يحل له كل شيء إلا الطيب والنساء وعن أبي يوسف يحل له الطيب أيضا، وإن كان لا يحل له النساء، والصحيح ما قلنا؛ لأن الطيب داع إلى الجماع، وإنما عرفنا حل الطيب بعد الحلق قبل طواف الزيارة بالأثر ا هـ. وينبغي أن يحكم بضعف ما في الفتاوى لما قدمنا ولما في المحيط ولفظه ولو أبيح له التحلل فغسل رأسه بالخطمي، وقلم ظفره قبل الحلق فعليه دم؛ لأن الإحرام باق لأنه لا يحل إلا بالحلق فقد جنى عليه.
وقد ذكر الطحاوي لا دم عليه عند أبي يوسف ومحمد لأنه أبيح له التحلل فيقع به التحلل ا هـ.
فلو كان التحلل بالرمي حاصلا في غير الطيب والنساء لم يلزمه دم بتقليم الأظفار، وتخريجه على قول الطحاوي عندهما بعيد كما لا يخفى.

 

ج / 2 ص -531-       ثم إلى مكة يوم النحر أو غدا أو بعده فطف للركن سبعة أشواط بلا رمل وسعي إن قدمتهما وإلا فعلا، وحل لك النساء، وكره تأخيره عن أيام النحر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: ثم إلى مكة يوم النحر أو غدا أو بعده فطف للركن سبعة أشواط بلا رمل وسعي إن قدمتهما وإلا فلا" أي ثم رح في واحد من هذه الأيام الثلاثة لأداء الركن الثاني من ركني الحج، وقد قدمنا أن الركن أكثرها وهو أربعة أشواط على الصحيح، وما زاد عليها واجب ينجبر بالدم، وأول وقت صحته إذا طلع الفجر يوم النحر ولو قبل الرمي والحلق، وليس له وقت آخر تفوت الصحة بفوته بل وقته العمر.
وأما الواجب فهو فعله في يوم من الأيام الثلاثة عند أبي حنيفة حتى لو أخره عنها مع الإمكان لزمه دم وأفضلها أولها كالأضحية، وقد ورد في الحديث أنه عليه السلام طاف بعد صلاة الظهر يوم النحر للركن. وأفاد أنه مخير في تقديم الرمل والسعي إذا طاف للقدوم وفي تأخيرهما لطواف الركن، وأنهما لا يتكرران في الحج ولم يتكلم على الأفضلية، وقالوا الأفضل تأخيرهما لطواف الركن ليصيرا تبعا للفرض دون السنة.
"قوله: وحل لك النساء" يعني بالحلق السابق لا بالطواف؛ لأن الحلق هو المحلل دون الطواف غير أنه آخر عمله في حق النساء إلى ما بعد الطواف فإذا طاف عمل الحلق عمله كالطلاق الرجعي آخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته إلى الاسترداد فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت به.
والدليل على ذلك أنه لو لم يحلق حتى طاف بالبيت لم يحل له شيء حتى يحلق كذا ذكر الشارح وغيره، وهكذا صرح في فتح القدير أنه لا يخرج من الإحرام إلا بالحلق فأفاد أنه لو ترك الحلق أصلا وقلم ظفره أو غطى رأسه قاصدا التحلل من الإحرام كان ذلك جناية موجبة للجزاء، وحل النساء موقوف على الركن منها وهي أربعة فقط.
"قوله: وكره تأخيره عن أيام النحر" أي تأخير الطواف كراهة تحريم لترك الواجب وهو أداؤه فيها. وأشار به إلى رد ما ذكره القدوري في شرحه من أن آخره آخر أيام التشريق.
ولو قال وكره تأخيرهما عن أيام النحر لكان أولى ليفيد حكم الحلق كالطواف ومحل

 

ج / 2 ص -532-       ثم إلى منى فارم الجمار الثلاث في ثاني النحر بعد الزوال بادئا بما يلي المسجد ثم بما يليها ثم بجمرة العقبة وقف عند كل رمي بعده رمي ثم غدا كذلك ثم بعده كذلك إن مكثت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكراهة ولزوم الدم بالتأخير إنما هو عند الإمكان كما في المحيط من أن الحائض إذا طهرت في آخر أيام النحر فإن أمكنها الطواف قبل الغروب ولم تفعل فعليها دم للتأخير، وإن لم يمكنها طواف أربعة أشواط فلا شيء عليها ولو حاضت بعدما قدرت على الطواف فلم تطف حتى مضى الوقت لزمها الدم؛ لأنها مقصرة بتفريطها وفي الظهيرية وليالي أيام النحر منها.
"قوله: ثم إلى منى فارم الجمار الثلاث في ثاني النحر بعد الزوال بادئا بما يلي المسجد ثم بما يليها ثم بجمرة العقبة وقف عند كل رمي بعده رمي ثم غدا كذلك ثم بعده كذلك إن مكثت" أي ثم رح إلى منى فارم الجمار اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر البيتوتة بمنى؛ لأنها ليست بواجبة؛ لأن المقصود الرمي لكن هي سنة حتى قال الإسبيجابي ولا يبيت بمكة ولا بالطريق، ويكره أن يبيت في غير أيام منى.
وأشار بقوله بعد الزوال إلى أول وقته في ثاني النحر وثالثه حتى لو رمى قبل الزوال لا يجوز، ولم يذكر آخره وهو ممتد إلى طلوع الشمس من الغد فلو رمى ليلا صح وكره كذا في المحيط فظهر أن له وقتين وقتا لصحة ووقتا لكراهة بخلاف الرمي في اليوم الأول فإن له أربعة أوقات كما بيناه وما في الفتاوى الظهيرية من أن اليوم الثاني من أيام التشريق كاليوم الأول ولو أراد أن ينفر في هذا اليوم له أن يرمي قبل الزوال، وإنما لا يجوز قبل الزوال لمن لا يريد النفر فمحمول على غير ظاهر الرواية فإن ظاهر الرواية أنه لا يدخل وقته في اليومين إلا بعد الزوال مطلقا وفي المحيط لو أخر رمي الجمار كلها إلى اليوم الرابع رماها على التأليف؛ لأن أيام التشريق كلها وقت رمي فيقضي مرتبا كالمسنون وعليه دم واحد عند أبي حنيفة؛ لأن الجنايات اجتمعت من جنس واحد فيتعلق بها كفارة واحدة ولو تركها حتى غابت الشمس في آخر أيام التشريق يسقط الرمي لانقضاء وقته وعليه دم واحد اتفاقا ا هـ.
فظهر بهذا أن للرمي وقت أداء ووقت قضاء، وأفاد بقوله بادئا إلى آخره إلى الترتيب بين الجمار الثلاث وهو ثابت من فعله عليه السلام ولم يبين أنه واجب أو سنة وفيه اختلاف ففي الظهيرية فإن غير هذا الترتيب فبدأ في اليوم الثاني بجمرة العقبة فرماها ثم بالوسطى ثم بالتي تلي مسجد الخيف بمنى وهو بعد في يومه أعاد الجمرة الوسطى وجمرة العقبة ليأتي بها مرتبا مسنونا وعلل في المحيط بأن الترتيب مسنون قال وإن لم يعد أجزأه لأن رمي كل جمرة قربة تامة بنفسها وليست بتابعة للبعض فلا يتعلق جوازها بتقديم البعض دون البعض كالطواف قبل الرمي يقع معتدا به وإذا كان مسنونا فإن رمى كل جمرة بثلاث أتم الأولى بأربع ثم أعاد الوسطى

 

ج / 2 ص -533-       ولو رميت في اليوم الرابع قبل الزوال صح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسبع ثم العقبة بسبع؛ لأنه رمى من الأولى أقلها، والأقل لا يقوم مقام الكل فلا عبرة به فكأنه أتى بهما قبل الأولى أصلا فيعيدهما فإن رمى كل واحدة بأربع أتم كل واحدة بثلاث؛ لأنه أتى بالأكثر من الأولى وللأكثر حكم الكل فكأنه رمى الثانية والثالثة بعد الأولى، وإن استقبل رميها كان أفضل ليكون إتيانه له على الوجه المسنون وعن محمد لو رمى الجمار الثلاث فإذا في يده أربع حصيات لا يدري من أيتهن هي يرميهن عن الأولى، ويستقبل الجمرتين الباقيتين لاحتمال أنها من الأولى فلم يجز رمي الأخريين، ولو كن ثلاثا أعاد على كل جمرة واحدة ولو كانت حصاة أو حصاتين أعاد كل واحدة ويجزئه؛ لأنه رمى كل واحدة بأكثرها فوقع معتدا به، ولكن لم يقع مسنونا ا هـ ما في المحيط وهو صريح في الخلاف وفي اختيار السنية واعتمده المحقق ابن الهمام وقال في المجمع، ويسقط الترتيب في الرمي وأفاد بقوله إن مكثت أنه مخير في اليوم الثالث بين النفر والإقامة للرمي في اليوم الرابع، والإقامة أفضل اتباعا لفعله عليه السلام كذلك وأن الإقامة لطلوع الفجر يوم الرابع موجبة للرمي فيه وبإطلاقه أنه لا فرق بين المكي والآفاقي في هذه الأحكام لعموم قوله تعالى:
{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] وهو كالمسافر مخير بين الصوم والفطر، والصوم أفضل وقد قدمنا معنى قوله وقف عند كل رمي بعده رمي في بحث رمي جمرة العقبة فراجعه.
وينبغي أن يحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ويدعو الله بحاجته ويجعل باطن كفيه إلى السماء في رفع يده، وأن يستغفر لأبويه وأقاربه ومعارفه للحديث:
"اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج" وفي فتح القدير ومن كان مريضا لا يستطيع الرمي يوضع في يده ويرمى بها أو يرمي عنه غيره، وكذا المغمى عليه ولو رمى بحصاتين إحداهما لنفسه والأخرى للآخر جاز، ويكره.
ولا ينبغي أن يترك الجماعة مع الإمام بمسجد الخيف ويكثر من الصلاة فيه أمام المنارة عند الأحجار ا هـ.
وقد قدمنا أن المرأة لو تركت الوقوف بالمزدلفة لأجل الزحام لا يلزمها شيء فينبغي أنها لو تركت الرمي له لا يلزمها شيء والله سبحانه أعلم.
"قوله: ولو رميت في اليوم الرابع قبل الزوال صح" يعني عند أبي حنيفة اقتداء بابن عباس

 

ج / 2 ص -534-       وكل رمي بعده رمي فارمه ماشياً وإلا فراكباً، وكره أن تقدم ثقلك إلى مكة، وتقيم بمنى للرمي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقياسا على الترك وقالا لا يجوز اعتبارا بسائر الأيام قيد بالرابع احترازا عن الثاني والثالث فإنه لا يجوز قبل الزوال اتفاقا لوجوب اتباع المنقول عنه عليه السلام لعدم المعقول فلم يظهر أثر تخفيف فيها بتجويز الترك بالتقديم.
وفي المحيط: وأما وقت الرمي في اليوم الرابع فعند أبي حنيفة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس إلا أن ما قبل الزوال وقت مكروه وما بعده مسنون ا هـ. فعلم أنه قبل الزوال صحيح مكروه عنده.
"قوله: وكل رمي بعده رمي فارمه ماشيا وإلا فراكبا" بيان للأفضل واختيار لقول أبي يوسف على ما حكاه في الظهيرية عن إبراهيم بن الجراح قال: دخلت على أبي يوسف فوجدته مغمى عليه ففتح عينه فرآني فقال يا إبراهيم أيما أفضل للحاج أن يرمي راجلا أو راكبا فقلت راجلا فخطأني ثم قلت راكبا فخطأني ثم قال ما كان يوقف عندها فالأفضل أن يرميها راجلا وما لا يوقف عندها فالأفضل أن يرميها راكبا قال فخرجت من عنده فما بلغت الباب حتى سمعت صراخ النساء أنه قد توفي إلى رحمة الله تعالى فلو كان شيء أفضل من مذاكرة العلم لاشتغل به في هذه الحالة؛ لأن هذه الحالة حالة الندامة والحسرة ا هـ.
وأما قول أبي حنيفة ومحمد فعلى ما في فتاوى قاضي خان أن الرمي كله راكبا أفضل في قول أبي حنيفة ومحمد وعلى ما في فتاوى الظهيرية أن الرمي كله ماشيا أفضل فإن ركب إليها فلا بأس به يعني عندهما؛ لأنه حكى قول أبي يوسف بعده فتحصل أن في هذه المسألة ثلاثة أقوال ورجح في فتح القدير ما في الظهيرية لأن أداءها ماشيا أقرب إلى التواضع والخشوع وخصوصا في هذا الزمان فإن عامة المسلمين مشاة في جميع الرمي فلا يؤمن من الأذى بالركوب بينهم بالزحمة ورميه عليه السلام راكبا إنما هو ليظهر فعله ليقتدى به كطوافه راكبا ا هـ.
ولو قيل بأنه ماشيا أفضل إلا في رمي جمرة العقبة في اليوم الأخير فهو راكبا أفضل لكان له وجه باعتبار أنه ذاهب إلى مكة في هذه الساعة كما هو العادة، وغالب الناس راكب فلا إيذاء في ركوبه مع تحصيل فضيلة الاتباع له صلى الله عليه وسلم.
"قوله: ويكره أن تقدم ثقلك إلى مكة وتقيم بمنى للرمي" لأثر ابن أبي شيبة عن ابن عمر

 

ج / 2 ص -535-       ثم إلى المحصب فطف للصدر سبعة أشواط، وهو واجب إلا على أهل مكة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رضي الله عنه
"من قدم ثقله قبل النفر فلا حج له" وأراد نفي الكمال، ولأنه يوجب شغل قلبه وهو في العبادة فيكره والظاهر أنها تنزيهية.
والثقل متاع المسافر وحشمه وهو بفتحتين وجمعه أثقال.
وأشار إلى أنه يكره ترك أمتعته بمكة والذهاب إلى عرفات بالطريق الأولى؛ لأنها العبادة المقصودة بخلاف الرمي وينبغي أن يكون محل الكراهة في المسألتين عند عدم الأمن عليها بمكة أما إن أمن فلا لعدم شغل القلب.
"قوله: ثم إلى المحصب" أي ثم رح إليه وهو بضم الميم وفتح المهملتين وهو الأبطح موضع ذات حصى بين منى ومكة، وليست المقبرة منه وكانت الكفار اجتمعوا فيه وتحالفوا على إضرار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه السلام فيه إراءة لهم لطيف صنع الله به وتكريمه بنصرته فصار ذلك سنة كالرمل في الطواف، وعبارة المجمع أولى من عبارة المصنف حيث قال ثم ينزل بالمحصب فإن الرواح إليه لا يستلزم النزول فيه وفي فتاوى قاضي خان، وينزل بالمحصب ساعة وفي فتح القدير ويصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويهجع هجعة ثم يدخل مكة ا هـ.
فحاصله أن النزول به ساعة محصل لأصل السنة، وأما الكمال فما ذكره الكمال.
"قوله: فطف للصدر سبعة أشواط وهو واجب إلا على أهل مكة" وله خمسة أسام ما في الكتاب لأنه يصدر عنه أي يرجع والصدر الرجوع وطواف الوداع؛ لأنه يودع البيت به وطواف الإفاضة؛ لأنه لأجله يفيض إلى البيت من منى وطواف آخر عهد بالبيت؛ لأنه لا طواف بعده وطواف الواجب.
واختلف في المراد بالصدر الذي هو الرجوع فعندنا هو الرجوع عن أفعال الحج، وعند الشافعي هو الرجوع إلى أهله ويبتنى عليه أنه لو طاف للصدر ثم أقام بمكة لشغل لم تلزمه الإعادة عندنا خلافا له، والصحيح قولنا لأن الإضافة للاختصاص وهو إما باعتبار أن الصدر سبب أو شرط وكل منهما سابق على الحكم وهو بما قلنا وعلى قوله يكون متأخرا عن الحكم والفراغ عن الأفعال يسمى صدورا ورجوعا عنها إلى الحالة التي كانت من قبل، ولم يبين وقته وله وقتان وقت الجواز ووقت الاستحباب، فالأول أوله بعد طواف الزيارة إذا كان على عزم السفر حتى لو طاف كذلك ثم أطال الإقامة بمكة ولو سنة ولم ينو الإقامة بها، ولم يتخذها دارا جاز طوافه وأما آخره فليس بموقت ما دام مقيما حتى لو أقام عاما لا ينوي الإقامة فله أن يطوف ويقع أداء.

 

ج / 2 ص -536-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثاني أن يوقعه عند إرادة السفر حتى روي عن أبي حنيفة أنه لو طافه ثم أقام إلى العشاء فأحب إلي أن يطوف طوافا آخر ليكون توديع البيت آخر مورده كذا في المحيط، ولم يشترط المصنف له نية معينة فأفاد أنه لو طاف بعدما أحل النفر ونوى التطوع أجزأه عن الصدر كما لو طاف بنية التطوع في أيام النحر وقع عن الفرض، وأفاد ببيان صفته أنه لو نفر ولم يطف يجب عليه أن يرجع فيطوفه، لكن قالوا ما لم يجاوز المواقيت فإن جاوزها لم يجب الرجوع عينا بل إما أن يمضي وعليه دم، وإما أن يرجع فيرجع بإحرام جديد؛ لأن الميقات لا يجاوز بلا إحرام فيحرم بعمرة فإذا رجع ابتدأ بطواف العمرة ثم يطوف للصدر ولا شيء عليه لتأخيره، وقالوا الأولى أن لا يرجع ويريق دما؛ لأنه أنفع للفقراء وأيسر عليه لما فيه من دفع ضرر التزام الإحرام ومشقة الطريق.
والدليل على وجوبه من السنة أحاديث أصرحها ما في صحيح مسلم كانوا ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا ينصرفن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"، وأراد بأهل مكة من اتخذ مكة أو داخل المواقيت دارا فلا طواف صدر على من كان داخل المواقيت وكذا الآفاقي الذي اتخذ مكة دارا ثم بدا له الخروج وقيده في البدائع بأن ينوي الإقامة بها قبل أن يحل النفر الأول، وأما إن نواه بعده لا يسقط عنه في قول أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف. ا هـ.
والظاهر الإطلاق وحكى الخلاف في المجمع بين أبي يوسف ومحمد.
والمراد بالنفر الأول الرجوع إلى مكة في اليوم الثالث من أيام النحر وكذا لا طواف صدر على مكي إذا أراد الخروج منها وقيد بالمحرم بالحج باعتبار أن الكلام فيه؛ لأن المعتمر ليس عليه طواف الصدر وقيد بكونه أدرك الحج فإن فائت الحج ليس عليه طواف الصدر؛ لأن العود مستحق عليه ولأنه كالمعتمر وأشار إلى أنه لا سعي عليه ولا رمي في هذا الطواف لعدم ذكرهما، ولم يستثن الحائض والنفساء مع أهل مكة في سقوطه عنهم لما سيصرح به في باب التمتع ولما علم أن واجبات الحج تسقط بالعذر، وقد صرح قاضي خان في فتاواه بسقوط طواف الصدر بالعذر والحيض، والنفاس عذر.
ولهذا قال في المحيط لو طهرت الحائض قبل أن تخرج من مكة يلزمها طواف الصدر، وإن جاوزت بيوت مكة مسيرة سفر وطهرت فليس عليها العود، وكذا لو انقطع دمها فلم تغتسل ولم يذهب وقت الصلاة حتى لو خرجت من مكة لم يلزمها العود؛ لأنه لم يثبت لها أحكام الطاهرات وقت الطواف، وإن خرجت وهي حائض ثم اغتسلت ثم رجعت إلى مكة قبل أن تجاوز المواقيت

 

ج / 2 ص -537-       ثم اشرب من زمزم والتزم الملتزم وتشبث بالأستار والتصق بالجدار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعليها الطواف وإن جاوزت فلا تعود إلا بإحرام جديد.
وأشار بطواف الصدر إلى الرجوع إلى أهله وعدم المجاورة بمكة ولهذا قال في المجمع بعده ثم يعود إلى أهله، والمجاورة بها مكروهة يعني عند أبي حنيفة وعندهما لا تكره لقوله تعالى:
{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
والمجاورة هي العكوف وله أن المجاورة في العادة تفضي إلى الإخلال بإجلال بيت الله لكثرة المشاهدة، والعكوف في الآية بمعنى اللبث دون المجاورة، وقد قرر في فتح القدير فيها كلاما حسنا فراجعه.
"قوله: ثم اشرب من زمزم والتزم الملتزم وتشبث بالأستار والتصق بالجدار" بيان للمستحب وقدم الشرب من ماء زمزم على غيره؛ لأن المختار تقديمه كما ذكره الشارح، واختار في فتح القدير تأخيره عن التزام الملتزم وتقبيل العتبة.
وكيفيته أن يأتي زمزم فيستقي بنفسه الماء ويشربه مستقبل القبلة ويتضلع منه ويتنفس مرات ويرفع بصره في كل مرة، وينظر إلى البيت ويمسح به وجهه ورأسه وجسده ويصب عليه إن تيسر.
والملتزم ما بين الركن والباب كما رواه البيهقي حديثا مرفوعا، والتشبث التعلق والمراد بالأستار أستار الكعبة إن كانت قريبة بحيث ينالها، وإلا وضع يديه فوق رأسه مبسوطتين على الجدار قائمتين ويجتهد في إخراج الدمع من عينه ولم يذكر المصنف أنه يمشي القهقرى وذكره في المجمع لكن يفعله على وجه لا يحصل منه صدم أو وطء لأحد وهو باك متحسر على فراق البيت الشريف وبصره ملاحظ له حتى يخرج من المسجد.
وفي رسالة الحسن البصري التي أرسلها إلى أهل مكة أن الدعاء هناك يستجاب في خمسة عشر موضعا في الطواف وعند الملتزم وتحت الميزاب وفي البيت وعند زمزم وخلف المقام وعلى الصفا وعلى المروة وفي السعي وفي عرفات وفي مزدلفة وفي منى وعند الجمرات الثلاث، وزاد غيره وعند رؤية البيت وفي الحطيم لكن الثاني هو تحت الميزاب فهو ستة عشر موضعا.

 

ج / 2 ص -538-       فصل
ومن لم يدخل مكة ووقف بعرفة سقط عنه طواف القدوم، ومن وقف بعرفة ساعة من الزوال إلى فجر النحر فقد تم حجه ولو جاهلا أو نائما أو مغمى عليه، ولو أهل عنه رفيقه بإغمائه جاز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
"قوله: ومن لم يدخل مكة ووقف بعرفة سقط عنه طواف القدوم" مجاز عن عدم سنيته في حقه فإن حقيقة السقوط لا تكون إلا في اللازم إما لأنه ما شرع إلا في ابتداء الأفعال فلا يكون سنة عند التأخر ولا شيء عليه بتركه؛ لأنه سنة، وإما لأن طواف الزيارة أغنى عنه كالفرض يغني عن تحية المسجد ولذا لم يكن للعمرة طواف قدوم؛ لأن طوافها أغنى عنه قيد بطواف القدوم؛ لأن القارن إذا لم يدخل مكة ووقف بعرفة فإنه صار رافضا لعمرته فيلزمه دم لرفضها، وقضاؤها كما سيأتي في آخر القران.
"قوله: ومن وقف بعرفة ساعة من الزوال إلى فجر النحر فقد تم حجه ولو جاهلا أو نائما أو مغمى عليه"؛ لأنه عليه السلام وقف بعد الزوال، وقال:
"من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج" فكان فعله بيانا لأول وقته، وقوله بيانا لآخره والمراد بالساعة الساعة العرفية وهو اليسير من الزمان وهو المحمل عند إطلاق الفقهاء لا الساعة عند المنجمين كما بيناه في الحيض والمراد بتمام الحج بالوقوف في الحديث وعبارتهم الأمن من البطلان لا حقيقته إذ بقي الركن الثاني وهو الطواف، وأفاد أن النية ليست بشرط لصحة الوقوف وقيد به؛ لأن الطواف لا بد له من النية حتى لو طاف هاربا من عدو، ولا يصح والفرق بينهما أن الطواف عبادة مقصودة ولهذا يتنفل به فلا بد من اشتراط أصل النية وإن كان غير محتاج إلى تعيينه حتى إن المحرم لو طاف يوم النحر ونوى به النذر يجزيه عن طواف الزيارة لا عما وجب عليه، وأما الوقوف فليس بعبادة مقصودة، ولهذا لا يتنفل به فوجود النية في أصل العبادة وهو الإحرام يغني عن اشتراطه في الوقوف مع أن الوقوف أعظم الركنين لكن باعتبار الأمن على البطلان عند فعله لا من كل وجه.
"قوله: ولو أهل عنه رفيقه بإغمائه جاز" أي أحرم أطلقه فشمل ما إذا كان أمره بأن يحرم عنه عند عجزه أولا، والأول متفق عليه وفي الثاني خلاف أبي يوسف ومحمد بناء على أن المرافقة أمر به دلالة عند العجز عند أبي حنيفة، وعندهما إنما تراد المرافقة لأمر السفر لا غير، ويتفرع على ثبوت الإذن دلالة مسائل ذكرها في جامع الفصولين:

 

ج / 2 ص -539-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منها مسألة الحج ومنها ذبح شاة قصاب شدها للذبح لا ضمان عليه لا لو لم يشدها، ومنها ذبح أضحية غيره من أيامها بلا إذنه ذكرها في أكثر الكتب مطلقة وقيدت في بعضها بما إذا أضجعها للذبح ومنها وضع القدر على كانون وفيه اللحم ووضع الحطب تحتها فوقد النار رجل وطبخ لا ضمان عليه، ومنها جعل بره في دورق وربط الحمار فساقه رجل حتى طحنه، ومنها سقط حمل في الطريق فحمل بلا إذن ربه فتلفت الدابة ومنها رفع جرة نفسه فأعانه آخر على الرفع فانكسرت. ومنها مزارع زرع الأرض ببذر ربها ولم ينبت حتى سقاها ربها بلا أمره فالخارج بينهما؛ لأنه لما هيئت للسقي والتربية صار مستعينا بكل من قام به دلالة، وكذا لو سقاها أجنبي والمسألة بحالها ومنها من أحضر فعلة لهدم دار فهدم آخر بلا إذن لا يضمن استحسانا.
والأصل في جنسها أن كل عمل لا يتفاوت فيه الناس تثبت الاستعانة فيه بكل أحد دلالة وكل عمل يتفاوت فيه الناس لا تثبت الاستعانة فيه بكل أحد كما لو ذبح شاة وعلقها للسلخ فسلخها رجل بلا إذنه ضمن ا هـ.
وقد قدمنا أن الإحرام هو النية مع التلبية فإذا نوى الرفيق ولبى صار المغمى عليه محرما لا الرفيق ولذا يجوز للرفيق بعده أن يحرم عن نفسه، ويصح منه عن المغمى عليه ولو كان محرما لنفسه ولا يلزم النائب التجرد عن المخيط لأجل إحرامه عن المغمى عليه، ولو أحرم عن نفسه وعن رفيقه وارتكب محظور إحرامه لزمه جزاء واحد بخلاف القارن يلزمه جزاءان؛ لأنه محرم بإحرامين. وشمل ما إذا أحرم عنه بحجة أو عمرة أو بهما من الميقات أو بمكة، ولم أره صريحا والمراد بالرفيق واحد من أهل القافلة سواء كان مخالطا له أو لا كما قالوا فيما إذا خاف عطش رفيقه في التيمم أنه الواحد من القافلة، كما صرح به الحدادي في السراج الوهاج فحينئذ ذكر الرفيق في عبارتهم هنا لبيان الواقع، لكن ذكر في المحيط أنه لو أحرم عنه غير رفيقه على قول أبي حنيفة قيل يجوز وقيل لا يجوز، ولم يرجح ورجح في فتح القدير الجواز؛ لأن هذا من باب الإعانة لا الولاية ودلالة الإعانة قائمة عند كل من علم قصده رفيقا كان أو لا، وأصله أن الإحرام شرط عندنا اتفاقا كالوضوء وستر العورة، وإن كان له شبه بالركن فجازت النيابة فيه بعد وجود نية العبادة منه عند خروجه من بلده. وإنما اختلفوا في هذه المسألة بناء على أن المرافقة تكون أمرا به دلالة عند العجز أو لا ا هـ. ويرجحه أيضا أن المسائل التي ذكرنا أن الإذن ثابت فيها دلالة لم تختص بواحد معين بل الناس كلهم فيها على السواء. وأشار إلى أنه لو استمر مغمى

 

ج / 2 ص -540-       والمرأة كالرجل غير أنها تكشف وجهها لا رأسها ولا تلبي جهرا ولا ترمل ولا تسعى بين الميلين ولا تحلق رأسها ولكن تقصر وتلبس المخيط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليه إلى وقت أداء الأفعال فأدى عنه رفيقه فإنه يجوز، وإن لم يشهد به المشاهد ولم يطف به، وصححه صاحب المبسوط؛ لأن هذه العبادة مما تجزئ فيها النيابة عند العجز كما في استنابة الزمن غير أنه إن أفاق قبل الأفعال تبين أن عجزه كان في الإحرام فقط فصحت النيابة فيه، ثم يجري هو على موجبه، وإن لم يفق تحقق عجزه عن الكل غير أنه لا يلزم الرفيق بفعل المحظور شيء بخلاف النائب في الحج عن الميت؛ لأنه يتوقع إفاقته في كل ساعة فنقلنا الإحرام إليه بخلاف الميت وقيد بكونه أغمي عليه قبل الإحرام إذ لو أغمي عليه بعد الإحرام فلا بد من أن يشهد به الرفيق المناسك عند أصحابنا جميعا على ما ذكره فخر الإسلام؛ لأنه هو الفاعل. وقد سبقت النية منه، ويشترط نيتهم الطواف إذا حملوه كما يشترط نيته.
وقيدنا بالإغماء؛ لأن المريض الذي لا يستطيع الطواف إذا طاف به رفيقه وهو نائم إن كان بأمره جاز؛ لأن فعل المأمور كفعل الآمر وإلا فلا كذا في المحيط فظهر أن النائم يشترط صريح الإذن منه بخلاف المغمى عليه، وأنه يشترط نية الحامل للطواف إن كان المحمول مغمى عليه حتى لو حمله وطاف به طالبا الغريم لم يجزه بخلاف النائم لا تشترط نية الحامل له للطواف؛ لأن نية الإحرام منه كافية كما صرح به في المحيط وفيه بحث فإن الطواف لا بد له من أصل النية ولا يكفي نية الإحرام له كما قدمناه فينبغي أنه لا بد من نية الحامل في المسألتين اللهم إلا أن يقال أن نية الإحرام لا تكفي للطواف عند القدرة عليها. وأما النائم فلا قدرة له عليها وذكر في المحيط أن استئجار المريض من يحمله ويطوف به صحيح وله الأجرة إذا طاف به، وأن المريض الذي لا يستطيع الرمي توضع الحصاة في كفه ليرمي به أو يرمي عنه غيره بأمره، ودل كلامه أن للأب أن يحرم عن ولده الصغير والمجنون ويقضي المناسك كلها بالأولى، ولو ترك رمي الجمار أو الوقوف بالمزدلفة لا يلزمه شيء كذا في المحيط، وذكر الإسبيجابي ومن طيف به محمولا أجزأه ذلك الطواف عن الحامل والمحمول جميعا، وسواء نوى الحامل الطواف عن نفسه وعن المحمول أو لم ينو، أو كان للحامل طواف العمرة وللمحمول طواف الحج أو للحامل طواف الحج وللمحمول طواف العمرة أو يكون الحامل ليس بمجرد والمحمول عما أوجبه إحرامه وإن طيف به لغير علة طواف العمرة أو الزيارة وجب عليه الإعادة أو الدم ا هـ.
"قوله: والمرأة كالرجل غير أنها تكشف وجهها لا رأسها ولا تلبي جهرا ولا ترمل ولا تسعى بين الميلين ولا تحلق رأسها ولكن تقصر وتلبس المخيط"؛ لأن أوامر الشرع عامة جميع

 

ج / 2 ص -541-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المكلفين ما لم يقم دليل على الخصوص، وإنما لا تكشف رأسها لأنه عورة بخلاف وجهها فاشتركا في كشف الوجه وانفردت بتغطية الرأس، ولما كان كشف وجهها خفيا؛ لأن المتبادر إلى الفهم أنها لا تكشفه لما أنه محل الفتنة نص عليه وإن كانا سواء فيه ولما قدم في باب الإحرام أن الرجل يكشف وجهه ورأسه لم يتوهم هنا من عبارته اختصاصها بكشف الوجه، والمراد بكشف الوجه عدم مماسة شيء له فلذا يكره لها أن تلبس البرقع لأن ذلك يماس وجهها كذا في المبسوط ولو أرخت شيئا على وجهها وجافته لا بأس به كذا ذكر الإسبيجابي لكن في فتح القدير أنه يستحب، وقد جعلوا لذلك أعوادا كالقبة توضع على الوجه وتستدل من فوقها الثوب وفي فتاوى قاضي خان ودلت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة ا هـ. وهو يدل على أن هذا الإرخاء عند الإمكان ووجود الأجانب واجب عليها إن كان المراد لا يحل أن تكشف فمحمل الاستحباب عند عدمهم وعلى أنه عند عدم الإمكان فالواجب من الأجانب غض البصر.
لكن قال النووي في شرح مسلم قبيل كتاب السلام في قوله: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري. قال العلماء وفي هذا حجة أنه لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة مستحبة لها، ويجب على الرجال غض البصر عنها إلا لغرض شرعي ا هـ. وظاهره نقل الإجماع فيكون معنى ما في الفتاوى لا ينبغي كشفها، وإنما لا تجهر بالتلبية لما أن صوتها يؤدي إلى الفتنة على الصحيح أو عورة على ما قيل كما حققناه في شروط الصلاة، وإنما لا رمل ولا سعي لها لما أنه يخل بالستر أو لأن أصل المشروعية لإظهار الجلد وهو للرجال وأشار إلى أنها لا تضطبع؛ لأنه سنة الرمل، وإنما لا تحلق لكونه مثلة كحلق اللحية وأطلق في التقصير فأفاد أنها كالرجل فيه خلافا لما قيل أنه لا يتقدر في حقها بالربع بخلاف الرجل، وإنما تلبس المخيط لما أنها عورة. وأشار بعدم الرمل إلا أنها لا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع؛ لأنها ممنوعة عن مماسة الرجال بخلاف ما إذا لم يكن لعدم المانع. وأشار بلبس المخيط إلى لبس الخفين والقفازين، وما ذكره الشارح من أنها لا تحج إلا بمحرم بخلاف الرجل

 

ج / 2 ص -542-       ومن قلد بدنة تطوع أو نذر أو جزاء صيد أو نحوه فتوجه معها يريد الحج فقد أحرم فإن بعث بها ثم توجه إليها لا يصير محرما حتى يلحقها إلا في بدنة المتعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس مما نحن فيه؛ لأن هذا لا يختص بالحج بل هو حكم كل سفر، ومن أنها تترك طواف الصدر بعذر الحيض فليس منه أيضا؛ لأن الحيض غير ممكن من الرجل حتى تخالفه في أحكامه، وكذا ما ذكره الإسبيجابي من أنه لا يجب فيها بتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر لأجل الحيض والنفاس شيء. قالوا: والخنثى المشكل في جميع ما ذكرنا كالمرأة احتياطا ولا يخلو بامرأة ولا برجل لأنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى.
"قوله: ومن قلد بدنة تطوع أو نذر أو جزاء صيد أو نحوه فتوجه معها يريد الحج فقد أحرم" بيان لما يقوم مقام التلبية لأن المقصود من التلبية إظهار الإجابة للدعوة وهو حاصل بتقليد الهدي قيد بكونه محرما بثلاثة التقليد والتوجه وإرادة النسك فأفاد أن التقليد وحده لا يكفي، وكذا أخواه وكذا لو تقلد وساق ولم ينو لا يكون محرما فما ذكره الإسبيجابي من أنه لو قلدها وساقها قاصدا إلى مكة صار محرما بالسوق نوى الإحرام أو لم ينو مخالف لما عليه العامة فلا يعول عليه كذا في فتح القدير، وقد يقال إن قصد مكة منه نية فلا يحتاج معه إلى نية أخرى فلا مخالفة منه لما عليه العامة، وأراد بجزاء الصيد جزاء صيد عليه في حجة سابقة فقلده في السنة الثانية أو جزاء صيد الحرم، وأفاد بقوله أو نحوه إلى أن هذا الحكم لا يختص بشيء بل المراد أنه قلد بدنة مطلقة، والتقليد أن يعلق على عنق بدنته قطعة نعل أو شراك نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر أو نحو ذلك مما يكون علامة على أنه هدي، والمعنى بالتقليد إفادة أنه عن قريب يصير جلده كذا اللحاء والنعل في اليبوسة لإراقة دمه، وكان في الأصل يفعل ذلك كي لا تهاج عن الورود والكلإ ولترد إذا ضلت للعلم بأنه هدي، وذكر الشارح أنه لو اشترك جماعة في بدنة فقلدها أحدهم صاروا محرمين إن كان ذلك بأمر البقية وساروا معها.
"قوله: فإن بعث بها ثم توجه إليها لا يصير محرما حتى يلحقها إلا في بدنة المتعة" لفقد أحد الشروط الثلاثة، وهو السوق في الابتداء فإذا أدركها اقترنت نيته بفعل ما هو من خصائصها إلا في هدي هو من خصائص الحج وضعا، وهو هدي المتعة والقران فإنه لا يحتاج فيه إلى الإدراك، والمتعة تشمل التمتع العرفي والقران؛ لأن المذكور في الآية إنما هو التمتع بقوله تعالى:  
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] إلى آخره فهو دليلهما فلذا اقتصر المصنف على المتعة، ولما كان التمتع لا يكون قبل أشهر الحج لم يقيد البعث بأشهر الحج فاستغنى عن تقييد النهاية ثم المصنف تبعا للجامع الصغير شرط اللحوق فقط، ولم يشترط السوق معه وشرطهما في المبسوط، والظاهر الأول؛ لأن فعل الوكيل بحضرة الموكل كفعل الموكل كذا

 

ج / 2 ص -543-       وإن جللها أو أشعرها أو قلد شاة لم يكن محرما، والبدن من الإبل والبقر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علل به في فتح القدير، وقد يقال لا يحتاج إليه؛ لأنه يصير محرما باللحوق، وإن لم يسقها أحد وهذا التعليل إنما هو على قول من يشترط السوق مع اللحوق، وأفاد المصنف أنه لا بد من التوجه إلى بدنة المتعة ولا يكفي البعث.
"قوله: وإن جللها أو أشعرها أو قلد شاة لم يكن محرما" يعني وإن ساقها لأنه ليس من خصائص الحج فلم يقم مقام التلبية شيء؛ لأن التجليل لدفع الأذى عنها، والإشعار مكروه عند أبي حنيفة وهو أن يطعن من الجانب الأيسر في السنام فيسيل الدم فلا يكون من النسك، وعندهما وإن كان حسنا فقد يفعل للمعالجة بخلاف التقليد فإنه يختص بالهدي ولذا كان التقليد أحب من التجليل؛ لأنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتجليل حسن للاتباع، ويستحب التصدق به، وأما تقليد الشاة فغير متعارف وليس بسنة أيضا فلا يقوم مقامها، وقد علم مما قرره المصنف أنه لا يكون محرما بمجرد النية من غير تلبية أو ما يقوم مقامها وهو المذهب وعن أبي يوسف أنه يكتفى بالنية ولا خلاف أن التلبية وحدها لا تكفي بلا نية.
"قوله: والبدن من الإبل والبقر" يعني لغة وشرعا قال الجوهري البدنة ناقة أو بقرة، وقال النووي أنه قول أكثر أهل اللغة فإذا طلب من المكلف بدنة خرج عن العهدة بالبقرة كالناقة، وأما حديث الرواح يوم الجمعة وعطفه البقرة على البدنة فمحمول على أنه أراد بالأعم بعض الأفراد وهو الجزور لا كل ما يصدق عليه لأنه لو كانت البدنة اسما للجزور فقط للزم النقل عن المعنى اللغوي، وهو خلاف الأصل.
 فالحاصل أن العطف في الحديث يقتضي المغايرة بينهما ظاهرا، ولزوم النقل عن المعنى اللغوي على تقديره خلاف الأصل، فالظاهر عدمه فتعارضا فرجحنا ما ذهبنا إليه لما ثبت في حديث جابر كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل والبقرة فقال وهل هي إلا من البدن، ذكره مسلم في صحيحه.
وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا التزم بدنة فإن نوى شيئا فهو على ما نوى؛ لأن المنوي إذا كان من محتملات كلامه فهو كالمصرح به، وإن لم يكن له نية فعليه بقرة أو جزور فينحرها حيث شاء 
 

 

ج / 2 ص -544-       ......................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في قولهما خلافا لأبي يوسف فإنه يقيسه على الهدي، وهو يختص بمكة اتفاقا وهما قاساه على ما إذا التزم جزورا فإنه لا يختص بمكة اتفاقا كذا في المبسوط والله أعلم.

2- باب القرآن
هو أفضل، ثم التمتع، ثم الإفراد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2- باب القران
هو مصدر قرن من باب نصر وفعال يجيء مصدرا من الثلاثي كلباس وهو الجمع بين شيئين يقال قرنت البعيرين إذا جمعت بينهما بحبل، وسيأتي معناه شرعا ثم اعلم، أن المحرمين أربعة:
مفرد بالحج إن أحرم به مفردا.
أو مفرد بالعمرة إن أحرم بها في غير أشهر الحج وطاف لها كذلك حج من عامه أو لا أو طاف فيها ولم يحج من عامه أو أحرم بها في أشهر الحج وطاف كذلك ولم يحج من عامه أو حج وألم بينهما بأهله إلماما صحيحا ومتمتع إن أتى بأكثر أشواط العمرة في أشهر الحج بعدما أحرم بها فقط مطلقا، ثم حج من عامه من غير أن يلم بأهله إلماما صحيحا.
وقارن إن أحرم بهما معا، أو أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة قبل أن يطوف لها أكثر الأشواط أو أدخل إحرام العمرة إلى إحرام الحج قبل أن يطوف للقدوم ولو شوطا ولا إساءة في القسمين الأولين وهو قارن مسيء في الثالث، وأما الإحرام المبهم كأن يحرم بنسك مبهم ثم يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو لهما.
الإحرام المعلق كأن يحرم بإحرام كإحرام زيد فليس خارجا عن الأربعة كما لا يخفى."قوله: هو أفضل ثم التمتع ثم الإفراد" بيان لأمرين:
الأول جواز الثلاثة وهو مجمع عليه إلا ما ثبت في الصحيحين عن عمرو وعن عثمان رضي الله عنهما أنهما كان ينهيان عن التمتع، وحمله العلماء على نهي التنزيه حملا للناس على ما هو الأفضل لا أنهما يعتقدان بطلانه مع علمهما بالآية الشريفة، وحمله على أن المراد به فسخ الحج

 

ج / 2 ص -545-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى العمرة ضعيف؛ لأن سياق الحديث في الصحيح يقتضي خلافه، وهو ثابت بالكتاب والسنة أيضا، أما الأول فقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] دليل الإفراد. وقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] دليل القران، وقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] دليل التمتع، وأما الثاني فما في الصحيحين من حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. وفي رواية لمسلم: منا من أهل بالحج مفردا ومنا من قرن ومنا من تمتع.
الثاني تفضيل القران ثم التمتع ثم الإفراد، وفضل مالك والشافعي الإفراد، وفضل أحمد التمتع وأصله الاختلاف في حجته صلى الله عليه وسلم وقد أكثر الناس الكلام فيها، وأوسعهم نفسا في ذلك الإمام الطحاوي فإنه تكلم في ذلك زيادة على ألف ورقة، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ليس علي شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح يعني لما كانت الثلاثة مباحة لم يكن في الاختلاف تغيير حكم لكن لما كانت حجة واحدة ولم يتفقوا على نقلها كان اختلافهم قبيحا منهم.
فما يرجح أنه عليه السلام كان قارنا ما رواه علي في الصحيحين وأنس في الصحيحين بروايات كثيرة وعمران بن الحصين في صحيح مسلم وعمر بن الخطاب في صحيح البخاري وأبي داود والنسائي وحفصة في الصحيحين وأبو موسى الأشعري في الصحيحين.

 

ج / 2 ص -546-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومما يرجح أنه عليه السلام كان مفردا ما ثبت في الصحيح من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم في الصحيحين.
ومما يرجح أنه كان متمتعا ما ثبت عن ابن عمر وعائشة في الصحيحين وعن ابن عباس فيما رواه الترمذي وحسنه وعن عمران بن الحصين في الصحيحين، وجمع أئمتنا بين الروايات بأن سبب رواية الإفراد سماع من رأى تلبيته بالحج وحده، ورواية التمتع سماع من سمعه يلبي بالعمرة، ورواية القران سماع من سمعه يلبي بهما، وهذا لأنه لا مانع من إفراد ذكر نسك في التلبية وعدم ذكر شيء أصلا وجهة أخرى مع نية القران فهو نظير سبب الاختلاف في تلبيته عليه السلام أكانت دبر الصلاة أو عند استواء ناقته أو حين علا على البيداء فروى كل بحسب ما سمع، وما يرجح القران أن من روى الإفراد روى التمتع فتناقض بخلاف من روى التمتع وهو بلغة القرآن الكريم وعرف الصحابة أعم من القران، وترجح الفرد المسمى بالقران في الاصطلاح بما في الصحيح عن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول:
"أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال صل في هذا الوادي المبارك ركعتين" وقل عمرة في حجة ولا بد له من امتثال ما أمر به في مقامه الذي هو وحي ولأئمتنا ترجيحات كثيرة. وقال النووي في شرح المهذب والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج أولا مفردا ثم أدخل عليه العمرة فصار قارنا وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا وعلى الأصح لا يجوز لنا، وجاز للنبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة للحاجة وأمر به في قوله: "لبيك عمرة وحجة" فمن روى أنه كان مفردا اعتمد أول الإحرام، ومن روى أنه كان قارنا اعتمد آخره، ومن روى أنه كان متمتعا أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع بأن كفاه عن النسكين فعل واحد ويؤيده أنه عليه السلام لم يعتمر تلك السنة عمرة مفردة لا قبل الحج

 

ج / 2 ص -547-       وهو أن يهل بالعمرة والحج من الميقات ويقول اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما مني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا بعده، وقد قدمنا أن القران أفضل من إفراد الحج من غير عمرة بلا خلاف ولو جعلت حجته عليه السلام مفردة لزم أن لا يكون اعتمر تلك السنة، ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران ا هـ. وبهذا تبين صحة ما في النهاية من أن محل الاختلاف بيننا وبين الشافعي إنما هو أن إفراد كل نسك بإحرام في سنة واحدة أفضل أو الجمع بينهما بإحرام واحد أفضل، وأنه لم يقل أحد بتفضيل الحج وحده على القران وتبين به بطلان ما ذكره الشارح هنا ردا على صاحب النهاية. وما روي عن محمد أنه قال حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل عندي من القران فليس بموافق لمذهب الشافعي في تفضيل الإفراد فإنه يفضل الإفراد سواء أتى بنسكين في سفرة واحدة أو في سفرتين ومحمد إنما فضل الإفراد إذا اشتمل على سفرين، وبهذا اندفع ما ذكره الشارح من لزوم موافقة محمد للشافعي رضي الله عنهما.
"قوله: وهو أن يهل بالعمرة والحج من الميقات ويقول اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما مني" أي القران أن يلبي بالنسكين مع النية حقيقة أو حكما من غير مكة وما كان في حكمها وإنما عبر بالإهلال للإشارة إلى أن رفع الصوت بها مستحب، وأراد بالميقات ما ذكرنا، وإنما ذكره للإشارة إلى أن القارن لا يكون إلا آفاقيا، وهو أحسن مما ذكره الشارح من أنه قيد اتفاقي فإنه لو أحرم بهما من دويرة أهله أو بعد الخروج قبل الميقات أو داخله فإنه يكون قارنا وقلنا حقيقة أو حكما ليدخل ما إذا أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج قبل أن يطوف لها الأكثر أو أحرم بالحج ثم أحرم بالعمرة قبل أن يطوف له، وإن كان مسيئا في الثاني كما قدمناه لوجود الجمع بينهما في الإحرام حكما، والمراد من قوله ويقول النية لا التلفظ إن عطفه على يهل فيكون منصوبا من تمام الحد، وإن رفع كان ابتداء كلام بيانا للسنة فإن السنة للقارن التلفظ بها وتقديم العمرة في الذكر مستحب؛ لأن الواو للترتيب ولم يشترط المصنف وقوع الإحرام في أشهر الحج أو طواف العمرة فيها كما هو شرط في التمتع لما روي عن محمد أنه لو طاف لعمرته في رمضان فهو قارن ولا دم عليه إن لم يطف لعمرته في أشهر الحج فتوهم بعضهم من هذه الرواية الفرق بين القران والتمتع فيه، وليس كما توهموا فإن القران في هذه الرواية بمعنى الجمع لا القران الشرعي المصطلح عليه بدليل أنه نفى لازم القران بالمعنى الشرعي، وهو لزوم الدم شكرا ونفي اللازم الشرعي نفي للملزوم الشرعي.
والحاصل أن النسك المستعقب للدم شكرا هو ما تحقق فيه فعل المشروع المرتفق به

 

ج / 2 ص -548-       ويطوف ويسعى لها ثم يحج كما مر فإن طاف لهما طوافين وسعى سعيين جاز وأساء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الناسخ لما كان في الجاهلية، وذلك بفعل العمرة في أشهر الحج فإن كان مع الجمع في الإحرام قبل أكثر طواف العمرة فهو المسمى بالقران، وإلا فهو التمتع بالمعنى العرفي وكلاهما التمتع بالإطلاق القرآني وعرف الصحابة، وهو في الحقيقة إطلاق اللغة لحصول الرفق به هذا كله على أصول المذهب كذا في فتح القدير.
"قوله: ويطوف ويسعى لها ثم يحج كما مر" يعني يأتي بأفعال العمرة أولا من الطواف والسعي بين الصفا والمروة والرمل في الأشواط الثلاثة والسعي بين الميلين الأخضرين وصلاة ركعتي الطواف ثم يأتي بأفعال الحج كلها ثانيا فيبدأ بطواف القدوم ويسعى بعده إن شاء، وهذا الترتيب أعني تقديم العمرة في أفعال الحج واجب لقوله تعالى:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] جعل الحج غاية وهو شامل للقران والتمتع كما قدمناه فأفاد أنه لو طاف أولا لحجته وسعى لها ثم طاف لعمرته وسعى لها فطوافه الأول وسعيه يكون للعمرة ونيته لغو، ولم يذكر الحلق للعمرة؛ لأنه لا يتحلل بينهما بالحلق فلو حلق كان جناية على الإحرامين أما على إحرام الحج فظاهر؛ لأن أوان التحلل فيه يوم النحر، وأما على إحرام العمرة فكذلك؛ لأن أوان تحلل القارن يوم النحر كما صرح به الإمام محمد قال الشارح ويؤيده أن المتمتع إذا ساق الهدي وفرغ من أفعال العمرة وحلق يجب عليه الدم ولا يتحلل بذلك من عمرته بل يكون جناية على إحرامها مع أنه ليس محرما بالحج فهذا أولى.
"قوله: فإن طاف لهما طوافين وسعى سعيين جاز وأساء" بأن طاف للعمرة والحج أربعة عشر شوطا وسعى كذلك، وأراد بالواو معنى ثم أو الفاء؛ لأن المسألة مفروضة فيما إذا أتى بالسعي بعد الطوافين ولا يفهم هذا من الواو لأنها لمطلق الجمع، ولهذا أتى في الجامع الصغير بثم واختلفوا في ثاني الطوافين في قولهم طاف طوافين فذهب صاحب الهداية والشارحون تبعا للمبسوط إلى أنه طواف القدوم، ولهذا قال في الهداية وقد أساء بتأخير سعي العمرة وتقديم طواف التحية عليه ولا يلزمه شيء أما عندهما فظاهر؛ لأن التقديم والتأخير في المناسك لا يوجب الدم عندهما وعنده طواف التحية سنة وتركه لا يوجب الدم فتقديمه أولى، والسعي بتأخيره بالاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم فكذا بالاشتغال بالطواف ا هـ. وذهب صاحب غاية البيان إلى أن المراد بأحدهما طواف العمرة وبالآخر طواف الزيارة بأن أتى بطواف العمرة ثم اشتغل بالوقوف ثم طاف للزيارة يوم النحر، ثم سعى أربعة عشر شوطا بدليل قولهم في جواب المسألة يجزئه والمجزئ عبارة عما يكون كافيا في الخروج عن عهدة الفرض ولا يحصل الإجزاء بترك

 

ج / 2 ص -549-       وإذا رمى يوم النحر ذبح شاة، أو بدنة، أو سبعها وصام العاجز عنه ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا فرغ ولو بمكة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرض والإتيان بالسنة وبدليل قولهم إن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين عندنا ليس المراد بهما إلا طواف العمرة وطواف الزيارة.
"قوله: وإذا رمى يوم النحر ذبح شاة أو بدنة أو سبعها" لقوله تعالى:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] والتمتع يشمل القران العرفي والتمتع العرفي كما قدمناه قيد بالذبح بعد الرمي لأن الذبح قبله لا يجوز لوجوب الترتيب، ولم يقيد الذبح بالمحبة كما قيده بها في ذبح المفرد لما أنه واجب على القارن والمتمتع، وأطلق البدنة فشملت البعير والبقرة والسبع جزء من سبعة أجزاء، وإنما كان مجزئا لحديث الصحيحين عن جابر حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة. وأشار بالتخيير بين البدنة وسبعها إلى أنه دم عبادة لا دم جناية فيأكل منه كما سيأتي وسيأتي في الأضحية أنه لا بد أن يكون الكل مريدا للقربة، وإن اختلفت جهة القربة فلو أراد أحد السبعة لحما لأهله لا يجزئهم. واستدل له بعض شارحي المصابيح بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" وما في المبتغى ولو بعث القارن بثمن هديين فلم يوجد بذلك بمكة إلا هدي واحد فبذبحه لا يتحلل عن الإحرامين ولا عن أحدهما ا هـ. محمول على هدي الإحصار؛ لأن التحلل موقوف عليه لا على ذبح دم الشكر وفي الظهيرية والخانية: والاشتراك في البقرة أفضل من الشاة والجزور أفضل من البقرة كما في الأضحية فإن كان القارن ساق الهدي مع نفسه كان أفضل.
"قوله: وصام العاجز عنه ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة وسبعة إذا فرغ ولو بمكة" أي صام العاجز عن الهدي لقوله تعالى:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] والعبرة لأيام النحر في العجز والقدرة وكذا لو قدر على الهدي قبل أن يكمل صوم الثلاثة أيام أو بعدما أكمل قبل أن يحلق ويحل وهو في أيام الذبح بطل صومه، ولا يحل إلا بالهدي ولو وجد الهدي بعدما حلق وحل قبل أن يصوم السبعة صح صومه، ولا

 

ج / 2 ص -550-       فإن لم يصم إلى يوم النحر تعين الدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يجب عليه ذبح الهدي ولو صام ثلاثة أيام ولم يحلق ولم يحل حتى مضت أيام الذبح ثم وجد الهدي فصومه ماض ولا شيء عليه كذا ذكر الإسبيجابي، ويدل على أنه لو صام في وقته مع وجود الهدي ينظر فإن بقي إلى يوم النحر لم يجزه للقدرة على الأصل وإن هلك قبل الذبح جاز للعجز عن الأصل فكان المعتبر وقت التحلل كذا في فتح القدير، وقوله آخرها يوم عرفة بيان للأفضل وإلا فوقته وقت الحج بعد الإحرام بالعمرة؛ لأن المراد بالحج في الآية وقته؛ لأن نفسه لا يصلح ظرفا، وإنما كان الأفضل التأخير؛ لأن الصوم بدل عن الهدي فيستحب تأخيره إلى آخر وقته رجاء أن يقدر على الأصل كذا في الهداية. وأشار بقوله إذا فرغ إلى أن المراد بالرجوع في الآية الفراغ من أعمال الحج مجازا إذ الفراغ سبب للرجوع إلى أهله، وقد عمل الشافعي بالحقيقة فلم يجوز صومها بمكة، ويشهد له حديث البخاري مرفوعا:
"وسبعة إذا رجعتم إلى أهليكم" وإنما عدل أئمتنا عن الحقيقة إلى المجاز لفرع مجمع عليه وهو أنه لو لم يكن له وطن أصلا ليرجع إليه بل مستمر على السياحة وجب عليه صومها بهذا النص ولا يتحقق في حقه سوى الرجوع عن الأعمال، وكذا لو رجع إلى مكة غير قاصد للإقامة بها حتى تحقق رجوعه إلى غير أهله ووطنه ثم بدا له أن يتخذها وطنا كان له أن يصوم بها مع أنه لم يتحقق منه الرجوع إلى وطنه كذا في فتح القدير وأراد بالفراغ الفراغ من أعمال الحج فرضا وواجبا وهو بمضي أيام التشريق؛ لأن اليوم الثالث منها يوم للرمي الواجب على من أقام به حتى طلع الفجر فيفيد أنه لو صام السبعة وبعضها من أيام التشريق فإنه لا يجوز، ولما قدمه في بحث الصوم من النهي عن الصوم فيها مطلقا فلذا لم يقيد هاهنا.
"قوله: فإن لم يصم إلى يوم النحر تعين الدم" أي إن لم يصم الثلاثة حتى دخل يوم النحر لم يجزه الصوم أصلا، وصار الدم متعينا؛ لأن الصوم بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا، والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل وعن ابن عمر أنه أمر في مثله بذبح الشاة فلو لم يقدر على الهدي تحلل وعليه دمان دم التمتع ودم التحلل قبل الهدي كذا في الهداية هنا.
وقال فيما يأتي في آخر الجنايات فإن حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان عند أبي

 

ج / 2 ص -551-       وإن لم يدخل مكة ووقف بعرفة فعليه دم لرفض العمرة وقضاؤها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حنيفة دم بالحلق في غير أوانه؛ لأن أوانه بعد الذبح، ودم بتأخير الذبح عن الحلق وعندهما يجب عليه دم واحد وهو الأول فنسبه صاحب غاية البيان إلى التخليط لكونه جعل أحد الدمين هنا دم الشكر والآخر دم الجناية وهو صواب وفيما يأتي أثبت عند أبي حنيفة دمين آخرين سوى دم الشكر، ونسبه في فتح القدير أيضا في باب الجنايات إلى السهو، وليس كما قالا بل كلامه صواب في الموضعين فهنا لما لم يكن جانيا بالتأخير لأنه لعجزه لم يلزمه لأجله دم ولزمه دم للحلق في غير أوانه وفي باب الجنايات لما كان جانيا بحلقه قبل الذبح لزمه دمان كما قرره، ولم يذكر دم الشكر؛ لأنه قدمه في باب القران وليس الكلام إلا في الجناية، وسيأتي تمامه هناك بأزيد من هذا إن شاء الله تعالى.
"قوله: وإن لم يدخل مكة ووقف بعرفة فعليه دم لرفض العمرة وقضاؤها" يعني إن لم يأت القارن بالعمرة حتى أتى بالوقوف فعليه دم لترك العمرة؛ لأنه تعذر عليه أداؤها؛ لأنه يصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج، وذلك خلاف المشروع فعدم دخول مكة كناية عن عدم طواف العمرة؛ لأن الدخول وعدمه سواء إذا لم يطف لها، والمراد أكثر أشواطه حتى لو طاف لها أربعة أشواط ثم وقف بعرفة فإنه لا يصير رافضا لها إذ قد أتى بركنها ولم يبق إلا واجباتها من الأقل والسعي، ويأتي بها يوم النحر وهو قارن على حاله بخلاف ما إذا طاف الأقل ثم وقف فإنه كالعدم فيصير رافضا، والمراد بعدم الطواف للعمرة عدم الطواف أصلا فإنه لو طاف طوافا ما ولو قصد به طواف القدوم للحج فإنه ينصرف إلى طواف العمرة، ولم يكن رافضا لها بالوقوف؛ لأن الأصل أن المأتي به من جنس ما هو متلبس به في وقت يصلح له ينصرف إلى ما هو متلبس به.
وعن هذا قلنا لو طاف وسعى للحج ثم طاف وسعى للعمرة كان الأول لها والثاني له ولا شيء عليه كمن سجد في الصلاة بعد الركوع ينوي سجدة تلاوة انصرف إلى سجدة الصلاة، ولم يقيد الوقوف بعرفة بكونه بعد الزوال كما وقع في كافي الحاكم؛ لأنه لا حاجة إليه؛ لأن الوقوف قبل وقته لا اعتبار به وقيد بالوقوف؛ لأنه لا يكون رافضا لها بمجرد التوجه إلى عرفات هو الصحيح، والفرق بينه وبين مصلي الظهر يوم الجمعة إذا توجه إليها أن الأمر هناك بالتوجه متوجه بعد أداء الظهر والتوجه في القران والتمتع منهي عنه قبل أداء العمرة فافترقا.

 

ج / 2 ص -552-       ............................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأطلق في رفضها فشمل ما إذا قصده أو لا، وأشار به إلى سقوط دم القران عنه لعدمه، وإنما وجب دم لرفضها؛ لأن كل من تحلل بغير طواف يجب عليه دم كالمحصر ووجب قضاؤها؛ لأن الشروع ملزم كالنذر والله أعلم.

3- باب التمتع
وهو أن يحرم بعمرة من الميقات فيطوف لها ويسعى ويحلق أو يقصر وقد حل منها ويقطع التلبية بأول الطواف ثم يحرم بالحج يوم التروية من الحرم ويحج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3- باب التمتع
أخره في القران لتأخره عنه رتبة كما قدمه وهو في اللغة من المتاع أو المتعة وهو الانتفاع أو النفع وفي الشريعة ما ذكره بقوله:
"وهو أن يحرم بعمرة من الميقات فيطوف لها ويسعى ويحلق أو يقصر وقد حل منها ويقطع التلبية بأول الطواف ثم يحرم بالحج يوم التروية من الحرم ويحج".
فقوله من الميقات للاحتراز عن مكة فإنه ليس لأهلها تمتع ولا قران لا للاحتراز عن دويرة أهله أو غيرها كما بيناه في القران، ولم يقيد إحرامها بأشهر الحج؛ لأنه ليس بشرط لكن أداء أكثر طوافها فيها شرط فلو طاف الأقل في رمضان مثلا ثم طاف الباقي في شوال ثم حج من عامه كان متمتعا، وإنما لم يقيد الطواف به لما يصرح به في هذا الباب.
وإنما ذكر الحلق لبيان تمام أفعال العمرة لا؛ لأنه شرط في التمتع؛ لأنه مخير بينه وبين بقائه محرما بها إلى أن يدخل إحرام الحج ولا يرد عليه المتمتع الذي ساق الهدي فإنه لا يجوز له الحلق للعمرة حتى لو حلق لها لزمه دم؛ لأن سوق الهدي عارض منعه من التحلل على خلاف الأصل.
وفي قوله ثم يحرم بالحج دلالة على تراخي إحرامه عن أفعالها فخرج القران ولم يقيد الحج بأن يكون من عامه للعلم به؛ لأن معنى التمتع الترفق بأداء النسكين في سفرة واحدة. ولا يشترط أن يكون من عام الإحرام بالعمرة بل من عام فعلها حتى لو أحرم بعمرة في رمضان، وأقام على إحرامه إلى شوال من العام القابل ثم طاف لعمرته من القابل ثم حج من عامه ذلك كان متمتعا بخلاف من وجب عليه أن يتحلل من الحج بعمرة كفائت الحج فأخر إلى قابل فتحلل بها في شوال وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا؛ لأنه ما أتى بأفعالها عن إحرام عمرة بل للتحلل عن إحرام الحج فلم تقع هذه الأفعال معتدا بها عن العمرة فلم يكن متمتعا.

 

ج / 2 ص -553-       ويذبح فإن عجز فقد مر فإن صام ثلاثة من شوال فاعتمر لم يجزه عن الثلاثة، وصح لو بعد ما أحرم بها قبل أن يطوف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله يوم التروية بيان للجواز وإلا فالأفضل أن يكون قبله للمسارعة إلى الخير.
وقوله من الحرم بيان للميقات المكاني لأهل مكة ولم يقيد بعدم الإلمام بأهله فيما بينهما إلماما صحيحا لما يصرح به قريبا.
وحاصله أنه إن ألم بينهما بأهله إلماما صحيحا بطل تمتعه وإلا فلا، والصحيح منه أن لا يكون العود مستحقا عليه يقال ألم بأهله نزل وهو يزور إلماما أي غبا كذا في المغرب، وإنما يقطع التلبية فيها بأوله لما صححه أبو داود عن ابن عباس أنه عليه السلام كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر ولم يذكر طواف القدوم؛ لأنه ليس على المتمتع طواف قدوم كذا في المبتغى أي لا يكون مسنونا في حقه بخلاف القارن؛ لأن المتمتع حين قدومه محرم بالعمرة فقط، وليس لها طواف قدوم ولا صدر.
والحكمة فيه أن المعتمر متمكن من أدائها حين وصل إلى البيت، وأما الحاج فغير متمكن من طواف الزيارة لعدم وقته فسن له طواف القدوم إلى أن يجيء وقته، والطواف ركن معظم في العمرة فلا يتكرر في الصدر كالوقوف للحج لا يتكرر كذا في النهاية.
وفي قوله ويحج دلالة على أنه يسعى للحج، ويرمل في طوافه والذي أتى به أولا إنما هو عن العمرة فإن سعى المتمتع ورمل في طوافه بعد إحرامه بالحج لا يعيدهما في طواف الزيارة؛ لأنهما لا يتكرران.
"قوله: ويذبح فإن عجز فقد مر" أي في باب القران فإن حكمهما واحد.
"قوله: فإن صام ثلاثة أيام من شوال فاعتمر لم يجزه عن الثلاثة"؛ لأن سبب وجوبه التمتع وهو في هذه الحالة غير متمتع فلا يجوز أداؤه قبل سببه.
"قوله: وصح لو بعد ما أحرم بها قبل أن يطوف" أي صح صوم الثلاثة بعد ما أحرم بالعمرة قبل الطواف؛ لأنه أداء بعد السبب؛ لأنه سببه التمتع بالمعنى اللغوي، وهو الترفق لترتيبه على التمتع بالنص ومأخذ الاشتقاق علة للمترتب، والعمرة في أشهر الحج هي السبب فيه؛ لأنها التي بها يتحقق الترفق الذي كان ممنوعا في الجاهلية، وهو معنى التمتع ولما لم يمكنه الخروج عن

 

ج / 2 ص -554-       فإن أراد سوق الهدي أحرم وساق وقلد بدنته بمزادة أو نعل ولا يشعر، ولا يتحلل بعد عمرته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إحرامها بلا فعل نزل الإحرام منزلتها فلذا جاز بعد إحرامها قبل الفراغ منها قيد بصوم الثلاثة لأن صوم السبعة لا يجوز إلا بعد الفراغ وإن كان السبب فيهما واحدا؛ لأن الله تعالى فصل بينهما فجعل الثلاثة في الحج أي في وقته والسبعة بعد الفراغ، وقيد بكون الصوم في شوال أي في أشهر الحج لأن الصوم قبل أشهر الحج لا يجوز سواء كان بعد ما أحرم للعمرة في أشهر الحج أو لا، وقد تقدم أن الأفضل تأخير صومها إلى السابع من ذي الحجة لرجاء القدرة على الأصل وهو الهدي.
"قوله: فإن أراد سوق الهدي أحرم وساق وقلد بدنته بمزادة أو نعل ولا يشعر" بيان لأفضل التمتع اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والواو في قوله وساق بمعنى ثم لأن الأفضل أن لا يحرم بالسوق والتوجه بل يحرم بالتلبية والنية، ثم يسوق.
وأفاد بالتقليد أنه أفضل من التحليل وبالسوق أنه أفضل من القود إلا إذا كانت لا تنساق فيقودها، والضمير في قوله أراد عائد إلى المتمتع بمعنى مريده، والمراد بالإحرام إحرام العمرة وقيد بالبدنة؛ لأن الشاة لا يسن تقليدها والإشعار في اللغة الإعلام بأن البدنة هدي، والمراد هنا أن يشق سنامها من الجانب الأيمن كذا في شرح الأقطع وفي الهداية قالوا والأشبه هو الأيسر وهو مكروه عند أبي حنيفة حسن عندهما للاتباع الثابت في صحيح مسلم وغيره، وأجيب لأبي حنيفة بأنه مثلة وقد نهى عنه فتعارضا فرجحنا المنع لأنه قول وهو مقدم على الفعل أو نهي وهو المقدم على المبيح ورد بأنه ليس منها؛ لأنها ما يكون تشويها كقطع الأنف والأذنين فليس كل جرح مثلة ولأنه نهى عنها في أول الإسلام وفعل الإشعار في حجة الوداع فلو كان منها لم يفعله وبان إشعاره عليه السلام لصيانة الهدي؛ لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به، وقال الطحاوي: إنما كره أبو حنيفة الإشعار المحدث الذي يفعل على وجه المبالغة ويخاف منه السراية إلى الموت لا مطلق الإشعار واختاره في غاية البيان وصححه وفي فتح القدير أنه الأولى.
"قوله: ولا يتحلل بعد عمرته"؛ لأن سوق الهدي يمنعه من التحلل لحديث البخاري:
"إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر"، وقد قدمنا أنه لو حلق رأسه بعد الفراغ من عمرته وقد كان ساق الهدي لزمه دم ومقتضاه أنه يلزمه موجب كل جناية على الإحرام كأنه محرم.

 

ج / 2 ص -555-       ويحرم بالحج يوم التروية وقبله أحب فإذا حلق يوم النحر حل من إحراميه، ولا تمتع ولا قران لمكي ومن حولها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والحاصل أن لسوق الهدي تأثيرا في إثبات الإحرام ابتداء فكان له أثر في استدامة الإحرام أيضا بل أولى؛ لأن البقاء أسهل كذا في النهاية.
"قوله: ويحرم بالحج يوم التروية وقبله أحب" لما ذكرناه في متمتع لا يسوق الهدي، وإنما ذكر يوم التروية؛ لأن الأفعال بعد ذلك تتعقب الإحرام.
"قوله: فإذا حلق يوم النحر حل من إحراميه" أي من إحرامي الحج والعمرة وهو تصريح ببقاء إحرام العمرة بعد الوقوف بعرفة إلى الحلق، وأورد عليه في النهاية بأن القارن إذا قتل صيدا بعد الوقوف بعرفة لا يلزمه قيمتان، وأجاب بأن إحرام العمرة قد انتهى بالوقوف في حق سائر الأحكام وإنما يبقى في حق التحلل لا غير كأحكام الحج تنتهي بالحلق في يوم النحر، ولا يبقى إلا في حق النساء خاصة واستبعده الشارح الزيلعي وهو المراد عند إطلاق الشارح في هذا الكتاب بأن القارن إذا جامع بعد الوقوف يجب عليه بدنة للحج وللعمرة شاة وبعد الحلق قبل الطواف شاتان ا هـ. لكن صاحب النهاية لم يجزم به إنما عزاه إلى شيخ الإسلام في مبسوطه وهو اختياره وأكثر عبارات الأصحاب كما قال الشارح وفي فتح القدير وهو الظاهر إذ قضاء الأعمال لا يمنع بقاء الإحرام، والوجوب إنما هو باعتبار أنه جناية على الإحرام لا على الأعمال، والفرع المنقول في الجماع يدل على ما قلنا وقد تناقض كلام شيخ الإسلام فإنه أوجب في جماع القارن بعد الوقوف شاتين فلا يخلو من أن يكون إحرام العمرة بعد الوقوف توجب الجناية عليه شيئا أو لا فإن أوجبت لزم شمول الوجوب وإلا فشمول العدم.
فالحاصل أن المذهب بقاء إحرام العمرة إلى الحلق، ويحل منه في كل شيء حتى في حق النساء إذا كان متمتعا ساق الهدي؛ لأن المانع له من التحلل سوقه وقد زال بذبحه وفي القارن يحل منه في كل شيء إلا في النساء كإحرام الحج، وهذا هو الفرق بين المتمتع الذي ساق الهدي وبين القارن وإلا فلا فرق بينهما بعد الإحرام بالحج على الصحيح كما ذكرنا.
وفي المحيط قارن طاف لعمرته، ثم حل فعليه دمان ولا يحل من عمرته بالحلق ولو أحرم بعمرة فطاف لها ثم أضاف إليها حجة ثم حلق يحل من عمرته ولا شيء عليه؛ لأنه بمنزلة من أحرم بالحجة بعدما حلق من العمرة.
"قوله: ولا تمتع ولا قران لمكي ومن حولها" لقوله تعالى:
{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] بناء على عود اسم الإشارة إلى التمتع لا إلى الهدي بقرينة وصلها

 

ج / 2 ص -556-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باللام وهي تستعمل فيما لنا أن نفعله بخلاف الهدي فإنه علينا فلو كان مرادا لقيل ذلك على من لم يكن، ولكونها اسم إشارة للبعيد والتمتع أبعد من الهدي ثم ظاهر الكتب متونا وشروحا وفتاوى أنه لا يصح منهم تمتع ولا قران لقولهم وإذا عاد المتمتع إلى أهله ولم يكن ساق الهدي بطل تمتعه. قال في غاية البيان ولهذا قلنا لم يصح تمتع المكي لوجود الإلمام الصحيح.
ومقتضاه أنه لو أحرم بعمرة في أشهر الحج، وحل منها ثم أحرم بحج فإنه لا يلزمه دم لكن صرح في التحفة بأنه يصح تمتعهم وقرانهم فإنه نقل في غاية البيان عنها أنهم لو تمتعوا جاز، وأساءوا ويجب عليهم دم الجبر، وهكذا ذكر الإسبيجابي ثم قال ولا يباح لهم الأكل من ذلك الدم ولا يجزئهم الصوم إن كانوا معسرين فتعين أن يكون المراد بالنفي في قولهم لا تمتع ولا قران لمكي نفي الحل لا نفي الصحة، ولذا وجب دم جبر لو فعلوا، وهو فرع الصحة واشتراطهم عدم الإلمام فيما بينهما إنما هو للتمتع المنتهض سببا للثواب المترتب عليه وجوب دم الشكر.
فالحاصل أن المكي إذا أحرم بعمرة في أشهر الحج فإن كان من نيته الحج من عامه فإنه يكون آثما؛ لأنه عين التمتع المنهي عنه لهم فإن حج من عامه لزمه دم جناية لا دم شكر، وإن لم يكن من نيته الحج من عامه ولم يحج فإنه لا يكون آثما بالاعتمار في أشهر الحج؛ لأنهم وغيرهم سواء في رخصة الاعتمار في أشهر الحج، وما في البدائع من أن الاعتمار في أشهر الحج للمكي معصية محمول على ما إذا حج من عامه، وإذا قرن فإنه يكون آثما أيضا ويلزمه دم جناية.
وفي الهداية بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وقرن حيث تصح؛ لأن عمرته وحجته ميقاتيتان فصار بمنزلة الآفاقي. قال الشارحون قيد بالقران لأنه لو تمتع فإنه لا يصح ويلزمه دم جناية لوجود الإلمام الصحيح بينهما فقد فرقوا بين التمتع والقران فشرطوا في التمتع عدم الإلمام دون القران، ومقتضى الدليل أنه لا فرق بينهما في هذا الشرط، وأن المكي يأثم إذا أحرم من الميقات بهما أو بالعمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه؛ لأن التمتع المذكور في الآية يعمهما كما قدمناه.
وإيجابهم دم الجناية على المكي إذا خرج إلى الميقات وتمتع مقتض لوجوب الدم على الآفاقي إذا تمتع، وقد ألم بينهما إلماما صحيحا ولم يصرحوا به، وإنما قالوا بطل تمتعه والمراد بمن حولها من كان داخل المواقيت فإنهم بمنزلة أهل مكة وإن كان بينهم وبين مكة مسيرة سفر؛ لأنهم في حكم حاضري المسجد الحرام.
وفي النهاية وأما القران من المكي فيكره ويلزمه الرفض والعمرة له في أشهر الحج لا تكره ولكن لا يدرك فضيلة التمتع لأن الإلمام قطع تمتعه ا هـ.

 

ج / 2 ص -557-       فإن عاد المتمتع إلى بلده بعد العمرة ولم يسق الهدي بطل تمتعه وإن ساق لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولم يبين المرفوض وبينه في المحيط فقال مكي أحرم بعمرة وحجة رفض العمرة ومضى في الحجة وعليه عمرة ودم فإن مضى في العمرة لزمه دم لجمعه بينهما فإنه لا يجوز له الجمع فإذا جمع فقد احتمل وزرا فارتكب محظورا فلزم دم كفارة ثم لا بد من رفض أحدهما خروجا عن المعصية فرفض العمرة أولى فإن طاف لعمرته ثلاثة أشواط ثم أحرم بالحج رفض الحج عند أبي حنيفة؛ لأنه امتناع وهو أسهل من الإبطال وعندهما برفض العمرة ولو طاف لها أربعة أشواط ثم أحرم بالحج أتمهما وعليه دم لارتكابه المنهي عنه ا هـ.
وفيها أيضا وذكر الإمام المحبوبي أن هذا المكي الذي خرج إلى الكوفة وقرن إنما يبيح قرانه إذا خرج من الميقات قبل دخول أشهر الحج، فأما إذا دخل أشهر الحج وهو بمكة ثم قدم الكوفة ثم عاد وأحرم بها من الميقات لم يكن قارنا؛ لأنه لما دخل أشهر الحج وهو بمكة صار ممنوعا من القران شرعا فلا يتغير ذلك بخروجه من الميقات وتعقبه في فتح القدير بأن الظاهر الإطلاق؛ لأن كل من حل بمكان صار من أهله مطلقا.
"قوله: فإن عاد المتمتع إلى بلده بعد العمرة ولم يسق الهدي بطل تمتعه وإن ساق لا" أي لا يبطل يعني إذا حج من عامه لا يلزمه دم الشكر في الأول ويلزمه في الثاني ومحمد رحمه الله تعالى أبطل التمتع فيهما؛ لأنه أداهما بسفرتين والمتمتع من يؤديهما بسفرة واحدة وهما جعلا استحقاق العود كعدمه فإنه بالهدي استدام إحرام العمرة إلى أن يحرم بالحج ويحل منهما، وظاهر كلامهم أن سوق الهدي يمنعه من التحلل وأنه التزام لإحرام الحج من عامه لكن في فتح القدير أنه لو بدا له بعد العمرة أن لا يحج من عامه لا يؤاخذ بذلك فإنه لم يحرم بالحج بعد وإذا ذبح الهدي أو أمر بذبحه يقع تطوعا ا هـ.
وكذا الشارح أيضا في دليل محمد لكون العود غير مستحق عليه أنه لو بعث هديه لينحر عنه ولم يحج كان له ذلك فقولهما أن العود مستحق عليه بسوق الهدي معناه إذا أراد المتعة لا مطلقا.
وفي المحيط فإن ذبح الهدي ورجع إلى أهله فله أن لا يحج؛ لأنه لم يوجد منه في حق الحج إلا مجرد النية وبمجردها لا يلزمه الحج فإذا نوى أن لا يحج ارتفعت نية الحج فصار كأنه لم ينو في الابتداء وإن أراد أن ينحر هديه، ويحل ولا يرجع إلى أهله ويحج من عامه ذلك لم يكن له ذلك؛ لأنه مقيم على عزم التمتع فيمنعه الهدي من الإحلال فإن فعله ثم رجع إلى أهله ثم حج لا شيء عليه؛ لأنه غير متمتع ولو حل بمكة ونحر هديه ثم حج قبل أن يرجع إلى أهله لزمه دم لتمتعه؛ لأنه لم يلم بأهله فيما بين النسكين وعليه دم آخر؛ لأنه حل قبل يوم النحر. ا هـ.

 

ج / 2 ص -558-       ومن طاف أقل أشواط العمرة قبل أشهر الحج وأتمها فيها كان متمتعا وبعكسه لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالحاصل أنه إذا ساق الهدي لا يخلو إما أن يتركه إلى يوم النحر أو لا فإن تركه إليه فتمتعه صحيح ولا شيء عليه غيره سواء عاد إلى أهله أو لا.
وإن تعجل ذبحه فإما أن رجع إلى أهله أو لا فإن رجع إلى أهله فلا شيء عليه مطلقا سواء حج من عامه أو لا وإن لم يرجع إليهم فإن لم يحج من عامه فلا شيء عليه وإن حج منه لزمه دمان دم المتعة ودم الحل قبل أوانه، ورجح في فتح القدير مذهب الشافعي في أن عدم الإلمام بينهما ليس بشرط في التمتع فلا يبطل تمتعه بعوده إلى أهله سواء ساق الهدي أو لا؛ لأن الآية إنما منعت التمتع لمن كان حاضر المسجد الحرام لا لأجل إلمامهم بأهلهم بينهما بل لتيسر العمرة لهم في كل وقت بخلاف الغير قيد بقوله بعد العمرة؛ لأنه لو عاد بعدما طاف لها الأقل لا يبطل تمتعه؛ لأن العود مستحق عليه؛ لأنه ألم بأهله محرما بخلاف ما إذا طاف الأكثر.
ودخل في قوله بعد العمرة الحلق فلا بد للبطلان منه؛ لأنه من واجباتها وبه التحلل فلو عاد بعد طوافها قبل الحلق ثم حج من عامه قبل أن يحلق في أهله فهو متمتع؛ لأن العود مستحق عليه عند من جعل الحرم شرطا في جواز الحلق وهو أبو حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف إن لم يكن مستحقا فهو مستحب كذا في البدائع وغيره.
"قوله: ومن طاف أقل أشواط العمرة قبل أشهر الحج وأتمها فيها كان متمتعا وبعكسه لا" أي لو طاف أكثر أشواطها قبلها وأتمها فيها لا يكون متمتعا؛ لأن للأكثر حكم الكل قال الإمام الأقطع فصار ذلك أصلا في أن كل ما يتعلق بالإحرام من الأفعال فحكم أكثره حكم جميعه في باب الجواز ومنع ورود الفساد عليه.
وأشار إلى أنه لا يشترط وجود إحرامها في أشهر الحج؛ لأن المعتبر إنما هو الطواف.
وفي المحيط ولو طاف كله في رمضان جنب أو محدث ثم أعاده في شوال لم يكن متمتعا؛ لأن طواف المحدث لا يرتفض بالإعادة فلم تقع العمرة والحج في أشهر الحج، وكذلك طواف الجنب على رواية الكرخي فكان الفرض هو الأول ولم يوجد في أشهر الحج وعلى قول غيره يرتفع الأول بالإعادة لكن تعلق بهذا الطواف في رمضان المنع عن العمرة لهذا السفر بدليل أنه لو أتم هذه العمرة ثم ابتدأ إحرام العمرة في أشهر الحج ثم اعتمر عمرة جديدة وحج من عامه لم يكن متمتعا فلا يرتفض هذا الطواف الأول بالإعادة بخلاف طواف الزيارة؛ لأنه لا يتعلق به منع عن شيء حتى ينتقض بالإعادة ا هـ.
وعلم من هذا أن الاعتمار في سنة قبل أشهر الحج مانع من التمتع في سنته سواء أتى بعمرة

 

ج / 2 ص -559-       وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخرى في أشهر الحج أو لا، وإنما اختصت المتعة بأفعال العمرة في أشهر الحج؛ لأن أشهر الحج كان متعينا للحج قبل الإسلام فأدخل الله العمرة فيها إسقاطا للسفر الجديد عن الغرباء فكان اجتماعهما في وقت واحد في سفر واحد رخصة وتمتعا.
وفي فتح القدير وهل يشترط في القران أيضا أن يفعل أكثر أشواط العمرة في أشهر الحج ذكر في المحيط أنه لا يشترط وكأنه مستند في ذلك إلى ما قدمناه عن محمد وقدمنا جوابه في باب القران.
"قوله: وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة" أي أشهر الحج المرادة في قوله تعالى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وهو مروي عن العبادلة الثلاثة ورواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر فالمراد حينئذ من الجمع شهران، وبعض الثالث.
وذكر في الكشاف فإن قلت فكيف كان الشهران وبعض الثالث أشهرا قلت اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى:
{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فلا سؤال فيه إذن، وإنما يكون موضعا للسؤال لو قيل ثلاثة أشهر معلومات ا هـ.
وما في غاية البيان من أنه عام مخصوص ففيه نظر؛ لأن أخص الخصوص في العام إذا كان جمعا ثلاثة لا يجوز التخصيص بعده فالأولى ما ذكره في الكشاف.
وفائدة التوقيت بهذه الأشهر أن شيئا من أفعال الحج لا يجوز إلا فيها حتى إذا صام المتمتع أو القارن ثلاثة أيام قبل أشهر الحج لا يجوز، وكذا السعي بين الصفا والمروة عقب طواف القدوم لا يجوز إلا في أشهر الحج، وأنه لا يكره الإحرام بالحج فيه مع أنه يكره الإحرام بالحج في غير أشهر الحج، وأنه لو أحرم بعمرة يوم النحر فأتى بأفعالها ثم أحرم من يومه ذلك بالحج وبقي محرما إلى قابل فحج كان متمتعا.
قال في فتح القدير وهذا يعكر على ما تقدم ويوجب أن يضع مكان قولهم وحج من عامه

 

ج / 2 ص -560-       وصح الإحرام به قبلها وكره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك في تصوير التمتع، وأحرم بالحج من عامه ذلك. ا هـ. وسيأتي في باب إضافة الإحرام إلى الإحرام أنه لو أحرم بعمرة يوم النحر وجب عليه الرفض والتحلل لارتكابه النهي فينبغي أن لا يكون متمتعا؛ لأنه مكي وعمرته وحجته مكية والمتمتع من عمرته ميقاتية وحجته مكية والقعدة بالكسر والفتح ولم يسمع في الحجة إلا الكسر.
"قوله: وصح الإحرام به قبلها وكره" أي صح الإحرام بالحج قبل أشهر الحج مع الكراهة بناء على أنه شرط وليس بركن لعدم اتصال الأفعال به فجاز تقديمه على الزمان كالتقديم على المكان وكالطهارة للصلاة بخلاف تحريمتها فإنه لا يجوز تقديمها على الوقت، وإن كانت شرطا عندنا لما أن الأفعال متصلة بها لقوله تعالى:
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] لأن الفاء للوصل والتعقيب بلا تراخ، وإنما كره للطول المفضي إلى الوقوع في محظوره أو على أنه شرط شبيه بالركن ولذا إذا أعتق العبد بعدما أحرم لا يتمكن عن أن يخرج عن ذلك الإحرام للفرض فالصحة للشرط والكراهة للشبه وأطلقوا الكراهة فهي تحريمية؛ لأنها المرادة عند إطلاقهم لها.
"قوله: ولو اعتمر كوفي فيها وأقام بمكة أو بصرة وحج صح تمتعه" أراد بالكوفي الآفاقي الذي يشرع له التمتع والقران كما أن المراد بالبصرة مكان لأهل التمتع والقران سواء كان البصرة أو غيرها أما إذا أقام بمكة أو خارجها داخل المواقيت فلأن عمرته آفاقية وحجته مكية، فلذا كان متمتعا اتفاقا، وأما إذا خرج إلى مكان لأهله التمتع وليس وطنه فلأن السفرة الأولى قائمة ما لم يعد إلى وطنه، وقد اجتمع له نسكان فيها فوجب دم التمتع ثم اختلف الطحاوي والجصاص فنقل الطحاوي أن هذا قول الإمام، وأن قول صاحبيه بطلان التمتع لما أن نسكيه هذين ميقاتيان، ولا بد فيه أن تكون حجته مكية، ونقل الجصاص أنه متمتع اتفاقا قال فخر الإسلام إنه الصواب وقوى الأول الشارح وأطلق في إقامة مكة أو بصرة فشمل ما إذا اتخذهما دارا أو لا كما صرح به الإسبيجابي والكيساني فما في الهداية من التقييد باتخاذهما دارا اتفاقي.
وقيد بكونه اعتمر في أشهر الحج إذ لو اعتمر قبلها لا يكون متمتعا اتفاقا، وقيد بالكوفي لأن المكي لا تمتع له اتفاقا، وقيد بكونه رجع إلى غير وطنه؛ لأنه لو رجع إلى وطنه بطل تمتعه اتفاقا إذا لم يكن ساق الهدي.

 

ج / 2 ص -561-       ولو أفسدها فأقام بمكة وقضى وحج لا إلا أن يعود إلى أهله، وأيهما أفسد مضى فيه ولا دم عليه، ولو تمتع وضحى لم يجزه عن المتعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعبارة المجمع وخرج إلى البصرة أولى من التعبير بالإقامة بها؛ لأن الحكم عند الإمام لا يختلف بين أن يقيم بها خمسة عشر يوما أو لا، والأول محل الخلاف وفي الثاني يكون متمتعا اتفاقا كذا في المصفى والله أعلم.
"قوله: ولو أفسدها فأقام بمكة وقضى وحج لا إلا أن يعود إلى أهله" أي لو أفسد الكوفي عمرته فأقام بمكة وقضى العمرة من عامه لا يكون متمتعا إلا أن يرجع إلى وطنه بعد الخروج عن إحرام الفاسدة ثم يعود محرما من الميقات بعمرة ثم يحج من عامه فإنه يكون متمتعا، أما الأول فلأن سفره انتهى بالفساد فلما قضاها صارت عمرته مكية ولا تمتع لأهل مكة، وأما الثاني فلأن عمرته ميقاتية وحجته مكية فصار متمتعا ولا يضره كون العمرة قضاء عما أفسده إن كانت قضاء.
وفي قوله إلا أن يعود إلى أهله دلالة على أن المراد بالإقامة بمكة الإقامة بمكان غير وطنه سواء كان مكة أو غيرها ولا خلاف فيما إذا أقام بمكة، وأما إذا أقام بغيرها فهو مذهب الإمام وقالا يكون متمتعا؛ لأنه إنشاء سفر فهو كالعود إلى وطنه، وله أن سفره الأول باق ما لم يعد إلى وطنه، وقد انتهى بالفاسد وهذه المسألة أيدت نقل الطحاوي.
وقيده في المبسوط بأن يجاوز المواقيت في أشهر الحج أما إذا جاوزها قبلها ثم أهل بعمرة فيها كان متمتعا عند الإمام أيضا؛ لأنه بمجاوزة الميقات صار في حكم من لم يدخل مكة إن كان في أشهر الحج فلأنه لما دخلت وهو داخل المواقيت حرم عليه التمتع كما هو حرام على أهل مكة، فلا تنقطع هذه الحرمة بخروجه من المواقيت بعد ذلك كالمكي.
"قوله: وأيهما أفسد مضى فيه ولا دم عليه" يعني الكوفي إذا قدم بعمرة ثم حج من عامه ذلك فأي النسكين أفسده مضى فيه؛ لأنه لا يمكنه الخروج عن عهدة الإحرام إلا بالأفعال ولا يجب عليه دم التمتع؛ لأنه لم ينتفع بأداء نسكين صحيحين في سفر واحد وهو السبب في وجوبه، وهذا هو المراد بنفي الدم في عبارته، وإلا فمن أفسد حجه لزمه دم.
"قوله: ولو تمتع وضحى لم يجزه عن المتعة"؛ لأنه أتى بغير الواجب لأن الواجب دم التمتع وإلا الأضحية فليست بواجبة عليه؛ لأنه مسافر أطلقه فشمل الرجل والمرأة، وإنما وضع محمد المسألة في المرأة إما لأنها واقعة امرأة، وإما لأن هذا إنما يشتبه على المرأة؛ لأن الجهل فيها أغلب فإذا لم يجز عن المتعة فإن كان تحلل بناء على جهله لزمه دمان دم التمتع ودم التحلل قبل أوانه وإلا فدم التمتع وقد استفيد من هذا أن دم التمتع يحتاج إلى النية، وقد يقال إنه ليس فوق طواف

 

ج / 2 ص -562-       ولو حاضت عند الإحرام أتت بغير الطواف، ولو عند الصدر تركته كمن أقام بمكة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الركن ولا مثله وقد قدمنا أنه لو نوى به التطوع أجزأه عن الركن فينبغي أن يكون الدم كذلك بل أولى.
"قوله: ولو حاضت عند الإحرام أتت بغير الطواف" لقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت بسرف:
"افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري" فأفاد أن طوافها حرام، وهو من وجهين دخولها المسجد وترك واجب الطهارة فإن الطهارة واجبة في الطواف فلا يحل لها أن تطوف حتى تطهر فإن طافت كانت عاصية مستحقة لعقاب الله ولزمها الإعادة فإن لم تعد كان عليها بدنة، وتم حجها.
"قوله: ولو عند الصدر تركته كمن أقام بمكة" يعني ولا شيء عليها؛ لأنه واجب يسقط بالعذر.
والحيض والنفاس عذر وكذا إذا أخرت طواف الزيارة إلى وقت طهرها فإنه لا يجب عليها شيء للعذر، وقد قدمنا ذلك كله في طواف الصدر.
وأطلق في سقوطه عمن أقام بمكة فشمل ما إذا أقام بعدما حل النفر الأول أو لا وفيه اختلاف، وقد قدمناه هناك والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

تم الجزء الثاني بحمده تعالى 
ويليه الجزء الثالث وأوله باب الجنايات