البحر الرائق شرح كنز الدقائق ط احياء التراث

ج / 3 ص -5-            بسم الله الرحمن الرحيم
4- باب الجنايات
تجب شاة إن طيب محرم عضوا، وإلا تصدق، أو خضب رأسه بحناء، أو ادّهن بزيت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4- باب الجنايات
لما كانت الجناية من العوارض أخرها، وهي في اللغة: ما تجنيه من شر، أي: تحدثه، تسمية بالمصدر من جنى عليه شرا, وهو عام إلا أنه خص بما يحرم من الفعل، وأصله من جني الثمر، وهو أخذه من الشجر.
وفي الشرع اسم لفعل محرم شرعا سواء حل بمال أو نفس إلا أن الفقهاء خصوه بالجناية على الفعل في النفس والأطراف وخصوا الفعل في المال باسم الغصب والمراد هنا خاص، وهو ما يكون حرمته بسبب الإحرام أو الحرم.
وحاصل الأول أنه الطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس أو الوجه، وإزالة الشعر من البدن، وقص الأظفار والجماع صورة، ومعنى أو معنى فقط وترك واجب من واجبات الحج والتعرض للصيد.
وحاصل الثاني التعرض لصيد الحرم وشجره فبدأ بالأول من الأول فقال :
"قوله: تجب شاة إن طيب محرم عضوا، وإلا تصدق أو خضب رأسه بحناء أو أدهن بزيت "; لأن الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق وذلك في العضو الكامل فيترتب عليه كمال الموجب وتتقاصر الجناية فيما دونه فوجبت الصدقة، وقال محمد: يجب بقدره من الدم اعتبارا للجزء بالكل فإن كان ذلك يبلغ نصف العضو تجب عليه الصدقة قدر نصف قيمة الشاة، وإن كان يبلغ ربعا يجب عليه الصدقة قدر ربع قيمة الشاة، وعلى هذا القياس واختاره الإمام الإسبيجابي مقتصرا عليه من غير نقل خلاف. ثم ما اختاره أصحاب المتون من أن الكثير هو العضو والقليل ما دونه هو ما صرح به الإمام محمد عن الإمام في بعض المواضع، وقد أشار في بعض المواضع إلى أن الدم يجب بالتطيب الكثير والصدقة بالقليل، ولم يذكر العضو، وما دونه ففهم من ذلك الفقيه

 

ج / 3 ص -6-            ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبو جعفر الهندواني أن الكثرة تعتبر في نفس الطيب لا في العضو فلو كان كثيرا مثل كفين من ماء الورد، وكف من الغالية والمسك بقدر ما يستكثره الناس فإنه يكون كثيرا، وإن كان قليلا في نفسه والقليل ما يستقله الناس، وإن كان في نفسه كثيرا، وكف من ماء الورد يكون قليلا، ووفق بعضهم بين القولين وصححه في المحيط وغيره.
وقال في فتح القدير: إن التوفيق هو التوفيق بأن الطيب إن كان قليلا فالعبرة للعضو لا للطيب فإن طيب عضوا كاملا لزمه دم، وإن كان أقل فصدقة، وإن كان الطيب كثيرا فالعبرة للطيب لا للعضو حتى لو طيب به ربع عضو يلزمه دم، وفيما دونه صدقة ونظيره ما قاله محمد في تقدير النجاسة الكثيرة اعتبر المساحة في النجاسة الرقيقة واعتبر الوزن في النجاسة الكثيفة.اهـ ما في المحيط.
وحاصله أن ما في المتون محمول على ما إذا كان الطيب قليلا أما إذا كان كثيرا فلا اعتبار بالعضو، ولا يخفى أن ما ذكره محمد من اعتبار العضو صريح، وما ذكره من الكثرة إشارة يمكن حملها على المصرح به فيتحد القولان ويترجح ما في المتون من اعتبار العضو، وهو كالرأس والساق والفخذ واليد.
وفي المبسوط والمحيط إذا خضبت المرأة كفها بحناء يجب عليها دم قال: وجعل الكف عضوا كاملا، وحقيقة التطيب أن يلزق ببدنه أو ثوبه طيبا، وما زاده في فتح القدير من فراشه فراجع إليهما.
والطيب جسم له رائحة طيبة مستلذة كالزعفران والبنفسج والياسمين والغالية والريحان والورد والورس والعصفر، ولا فرق بين أن يلتزق بثوبه عينه أو رائحته فلذا صرحوا أنه لو بخر ثوبه بالبخور فتعلق به كثير فعليه دم، وإن كان قليلا فصدقة؛ لأنه انتفاع بالطيب بخلاف ما إذا دخل بيتا قد أجمر فيه فعلق بثيابه رائحة فلا شيء عليه؛ لأنه غير منتفع بعينه، ولا بأس أن يجلس في حانوت عطار، ولا فرق أيضا بين أن يقصده أو لا ولذا قال في المبسوط: وإن استلم الركن فأصاب فمه أو يده خلوف كثير فعليه دم، وإن كان قليلا فصدقة.

 

ج / 3 ص -7-            ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي المجمع: ونوجبه في الناسي لا الصبي ونعكس في شمسه، وأكل كثيره موجب له, وفي قليله صدقة بقدره.اهـ. فعلم أن مفهوم شرطه أنه لو شم الطيب فإنه لا يلزمه شيء, وإن كان مكروها كما لو توسد ثوبا مصبوغا بالزعفران، وما ذكره المصنف قاصر على الطيب الملتزق بالبدن، وأما الملتزق بالثياب فلم يمكن اعتبار العضو فيه فيعتبر فيه كثرة الطيب وقلته، وهو مرجح بقول الهندواني المتقدم فإنه يعم البدن والثوب، ولا يجوز له أن يمسك مسكا في طرف إزاره.
وفي فتح القدير: وكان المرجح في الفرق بين القليل والكثير العرف إن كان, وإلا فما يقع عند المبتلى.
وما في المجرد إن كان في ثوبه شبر في شبر فمكث عليه يوما يطعم نصف صاع من بر وإن كان أقل من يوم فصدقة يفيد التنصيص على أن الشبر في الشبر داخل في حد القليل، وعلى تقدير الطيب في الثوب بالزمان بخلاف تطييب العضو فإنه لا يعتبر فيه الزمان حتى لو غسله من ساعته فالدم واجب كما في فتح القدير ولذا أطلقه في المتن.
قيد بكونه تطيّب, وهو محرم; لأنه لو تطيب قبل الإحرام ثم انتقل بعده من مكان إلى آخر من بدنه فإنه لا شيء عليه اتفاقا, وإذا وجب الجزاء بالتطيب فلا بد من إزالته من بدنه أو ثوبه; لأنه معصية فلا بد من الإقلاع عنها, وذبح الهدي لا يبيح بقاءه فلو لم يزله بعد ما كفر له اختلفوا في وجوب دم آخر لبقائه, وأظهر القولين الوجوب; لأن ابتداءه كان محظورا فيكون لبقائه حكم ابتدائه, والرواية توافقه, وهي ما في المبتغى عن محمد إذا مس طيبا كثيرا فأراق له دما ثم ترك الطيب على حاله يجب عليه لتركه دم آخر, ولا يشبه هذا الذي تطيب قبل أن يحرم ثم أحرم وترك الطيب; لأنه لم يكن محظورا. واختاره في المحيط, وفي فتح القدير.
وقد علم من بيانه حكم العضو وما دونه أن ما زاد عليه فهو كالعضو كما صرحوا به ثم إنما تجب كفارة واحدة بتطييب كل البدن إذا كان في مجلس واحد فإن كان في مجالس فلكل طيب كفارة كفر للأول أو لا عندهما، وقال محمد عليه كفارة واحدة ما لم يكفر للأول، وإن داوى قرحة بدواء فيه طيب ثم خرجت قرحة أخرى فداواها مع الأولى فليس عليه إلا كفارة ما لم تبرأ الأولى، ولو كان الطيب في أعضاء متفرقة يجمع ذلك كله فإن بلغ عضوا كاملا فعليه دم، وإلا فصدقة.
وفي المحيط اكتحل بكحل ليس فيه طيب فلا بأس به. وإن كان فيه طيب فعليه صدقة إلا أن يكون مرارا كثيرة فدم والمراد بالمرار المرتان فأكثر كما صرح به قاضي خان في فتاويه،

 

ج / 3 ص -8-            ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال: لو جعل الملح الذي فيه طيب في طعام قد طبخ وتغير، وأكله لا شيء عليه، وإن لم يطبخ وريحه يوجد منه يكره ذلك، ولا شيء عليه، ولو جعل الزعفران في الملح فإن كان الزعفران غالبا فعليه كفارة، وإن كان الملح غالبا لا كفارة عليه.اهـ.
وأشار بقوله شاة، إلى أن سبع البدنة لا يكفي في هذا الباب بخلاف دم الشكر, ولو قال المصنف عضوه بالإضافة كان أولى لما في الفتاوى الظهيرية: وإذا ألبس المحرم محرما أو حلالا مخيطا أو طيبه بطيب فلا شيء عليه بالإجماع, وكذلك إذا قتل قملة على غيره.اهـ
وقوله: أو خضب رأسه معطوف على طيب, وإنما صرح بالحناء مع دخولها تحت الطيب لقوله عليه السلام "الحناء طيب" للاختلاف، وإنما اقتصر على الرأس، ولم يذكر اللحية كما وقع في الأصل ليفيد أن الرأس بانفرادها مضمونة, وأن الواو بمعنى أو في عبارة الأصل بدليل الاقتصار على الرأس في الجامع الصغير, ولما كان مصرحا فيما يأتي بأن تغطية الرأس موجبة للدم لم يقيد الحناء بأن تكون مائعة فإن كانت ملبدة ففيه دمان دم للتطيب مطلقا ودم للتغطية إن دام يوما، وليلة وغطى الكل أو الربع فلو كان التلبيد بغير الحناء لزمه دم أيضا. والتلبيد أن يأخذ شيئا من الخطمي والآس والصمغ فيجعله في أصول الشعر ليتلبد.، وما ذكره رشيد الدين في مناسكه وحسن أن يلبد رأسه قبل الإحرام مشكل؛ لأنه لا يجوز استصحابه التغطية الكائنة قبل الإحرام بخلاف الطيب كذا في فتح القدير ويشكل عليه ما في الصحيحين عن ابن عمر أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا, ولم تحل أنت من عمرتك قال:
"إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر" فلا فرق بين التلبيد والطيب فإن كلا منهما محظور بعد الإحرام وجاز استصحاب الطيب الكائن قبل الإحرام بالسنة فكذلك التلبيد قبله بالسنة.
وقيد الخضاب بالرأس؛ لأن المحرمة لو خضبت يدها أو كفها فعليها دم إن كان كثيرا فاحشا, وإن كان قليلا فعليها صدقة كما ذكره الإسبيجابي وغيره بخلاف خضاب الرأس بالحناء فإنه موجب للدم مطلقا.

 

ج / 3 ص -9-            ...........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما خضاب اللحية فوقع في الهداية أن كلا من الرأس واللحية مضمون، ولم يقل بالدم وزاد الشارح أن كلا منهما مضمون بالدم، وهو سهو منه; لأن اللحية مضمونة بالصدقة كما في معراج الدراية معزيا للمبسوط, وقيد بالحناء; لأنه لو خضب بالوسمة فليس عليه دم, ولكن إن خاف أن يقتل الهوام أطعم شيئا; لأن فيه معنى الجناية من هذا الوجه, ولكنه غير متكامل فيلزمه الصدقة كما في المبسوط والوسمة بسكون السين وكسرها, وهو الأفصح شجر يخضب بورقه, وفي الهداية, وعن أبي يوسف إذا خضب رأسه بالوسمة لأجل المعالجة من الصداع فعليه الجزاء باعتبار أنه يغلف رأسه، وهذا صحيح.اهـ.
يعني: ينبغي أن لا يكون فيه خلاف; لأن التغطية موجبة بالاتفاق غير أنها للعلاج فلهذا ذكر الجزاء, ولم يذكر الدم والحناء منون في عبارة المصنف; لأنه فعال لا فعلاء ليمنع صرفه ألف التأنيث.
وقوله: أو ادهن بزيت معطوف على قوله طيب أطلقه فشمل ما إذا كان مطبوخا أو غير مطبوخ مطيبا أو غير مطيب, ولم يقيده بالكثير لما علم من تقييده في الطيب; لأنه إذا فرق في الطيب بين العضو, وما دونه فالزيت أولى; لأنه لا خلاف في الطيب, وفي الزيت الذي ليس بمطيب, ولا مطبوخ خلافهما فقالا: يجب فيه صدقة; لأن الجناية فيه قاصرة; لأنه من الأطعمة إلا أن فيه ارتفاقا لمعنى قتل الهوام، وإزالة الشعث، وقال: الإمام يجب دم; لأنه أصل الطيب باعتبار أنه يلقي فيه الأنوار كالورد والبنفسج فيصير نفسه طيبا، ولا يخلو عن نوع طيب ويقتل الهوام ويلين الشعر ويزيل التفث والشعث، وأراد بالزيت دهن الزيتون والسمسم, وهو المسمى بالشيرج فخرج بقية الأدهان كالشحم والسمن.
وقيد بالادّهان; لأنه لو أكله أو داوى به شقوق رجليه أو أقطر في أذنه لا يجب دم, ولا صدقة بخلاف المسك والعنبر والغالية والكافور ونحوها حيث يلزم الجزاء بالاستعمال على وجه التداوي لكنه يتخير إذا كان لعذر كما سيأتي, وكذا إذا أكل الكثير من الطيب, وهو ما يلتزق بأكثر فمه فعليه الدم.
قال في فتح القدير: وهذه تشهد لعدم اعتبار العضو مطلقا في لزوم الدم بل ذاك إذا لم يبلغ مبلغ الكثرة في نفسه على ما قدمناه. وقد قدمنا عن قاضي خان أنه لو خلط الطيب بطعام من

 

ج / 3 ص -10-         أو لبس مخيطا أوغطى رأسه يوما,وإلا تصدق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غير طبخ فالعبرة للغالب فإن كان الطيب مغلوبا فلا شيء أصلا زاد بعضهم إلا أنه يكره إذا كان رائحته توجد فيه، وإن كان غالبا فهو كالخالص، وهكذا في المحيط وغيره.
وقالوا: ولو خلطه بمشروب, وهو غالب ففيه الدم, وإن كان مغلوبا فصدقة إلا أن يشرب مرارا فدم فإن كان للتداوي خير وينبغي أن يسوي بين المأكول والمشروب المخلوط كل منهما بطيب مغلوب أما بعدم شيء أصلا كما هو الحكم في المأكول أو بوجوب الصدقة فيهما كما هو الحكم في المشروب, وما فرق به في المحيط من أن الطيب مما يقصد شربه فإذا خلطه بمشروب لم يصر تبعا لمشروب مثله إلا أن يكون المشروب غالبا كما لو خلط اللبن بالماء فشربه الصبي تثبت حرمة الرضاع إلا أن يكون الماء غالبا بخلاف أكله فإنه ليس مما يقصد عادة فإذا خلط بالطعام صار تبعا للطعام وسقط حكمه ففيه نظر من وجهين:
الأول: أن من الطيب ما يقصد أكلا إذا كان من المأكولات للمعنى القائم به، وهو الطيبية إما مداواة أو تنعما منفردا أو مخلوطا كما يقصد شربا الثاني أن القصد من هذا الباب ليس بشرط؛ لأن الناسي والعامد والجاهل سواء.
وذكر الحلبي في مناسكه أني لم أرهم تعرضوا بماذا تعتبر الغلبة؟. وظهر لي أنه إن وجد في المخالط رائحة الطيب كما قبل الخلط وحس الذوق السليم بطعمه فيه حسا ظاهرا فهو غالب, وإلا فهو مغلوب; لأن المناط كثرة الأجزاء ثم قال: لم أرهم تعرضوا في هذه المسألة في التفصيل أيضا بين القليل والكثير كما في مسألة أكل الطيب وحده, وإنه بإثباته فيها أيضا لجدير ويقال إن كان الطيب غالبا, وأكل منه أو شرب كثيرا فعليه الكفارة, وإلا فصدقة, وإن كان مغلوبا, وأكل منه أو شرب كثيرا فصدقة, وإلا فلا شيء عليه, ولعل الكثير ما يعده العارف العدل الذي لا يشوبه شره ونحوه كثيرا والقليل ما عداه. ثم قال: ولا شيء في أكل ما يتخذ من الحلواء المبخرة بالعود ونحوه, وإنما يكره إذا كانت رائحته توجد منه بخلاف الحلواء المسمى بالقاووت المضاف إلى أجزائها الماورد والمسك فإن في أكل الكثير دما والقليل صدقة, والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأحوال.
"قوله:أو لبس مخيطا أوغطى رأسه يوما,وإلا تصدق": معطوف على طيب بيان للثاني

 

ج / 3 ص -11-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثالث من النوع الأول وجمع بينهما; لأن الحكم فيهما واحد من حيث التقدير بالزمان فإن قوله يوما راجع إلى اللبس والتغطية, وكذا قوله: وإلا تصدق أي, وإن كان لبس المخيط وتغطية الرأس أقل من يوم لزمه صدقة لما علم أن كمال العقوبة بكمال الجناية, وهو بكمال الارتفاق, وهو بالدوام; لأن المقصود من كل منهما دفع الحر والبرد, واليوم يشتمل عليهما فوجب الدم والجناية قاصرة فيما دونه فوجبت الصدقة.
والتحقيق أن تغطية الرأس من جملة لبس المخيط فهي جناية واحدة لما سيأتي أنه لو لبس القميص والعمامة يلزمه دم واحد عللوا بأن الجناية واحدة وحقيقة لبس المخيط أن يحصل بواسطة الخياطة اشتمال على البدن واستمساك، فلذا لو ارتدى بالقميص أو اتشح أو ائتزر بالسراويل فلا بأس به; لأنه لم يلبسه لبس المخيط لعدم الاشتمال, وكذا لو أدخل منكبيه في القباء, ولم يدخل يديه في الكمين, ولم يزره لعدم الاشتمال أما إذا أدخل يديه أو زره فهو لبس المخيط لوجودهما بخلاف الرداء فإنه إذا اتزر به لا ينبغي أن يعقده بحبل أو غيره, ومع هذا لو فعل لا شيء عليه; لأنه لم يلبسه لبس المخيط لعدم الاشتمال.
أطلق في اللبس فشمل ما إذا أحدث اللبس بعد الإحرام أو أحرم, وهو لابسه فدام على ذلك بخلاف انتفاعه بعد الإحرام بالطيب السابق عليه قبله للنص, ولولاه لأوجبنا فيه أيضا وشمل ما إذا كان ناسيا أو عامدا عالما أو جاهلا مختارا أو مكرها فيجب الجزاء على النائم لو غطى إنسان رأسه; لأن الارتفاق حصل له، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه كالنائم المنقلب على شيء أتلفه, وشمل ما إذا لبس ثوبا واحدا أو جمع اللباس كله القميص والعمامة والخفين ولذا لم يقل لبس ثوبا كغيره. وبين المصنف حكم اليوم، وما دونه, ولم يذكر حكم الزائد عليه ليفيد أنه كاليوم فلو لبس المخيط ودام عليه أياما أو كان ينزعه ليلا ويعاوده نهارا أو عكسه يلزمه دم واحد ما لم يعزم على الترك عند النزع فإن عزم عليه ثم لبس تعدد الجزاء كفر للأول أولا, وفي الثاني خلاف محمد, ولو لبس يوما فأراق دما ثم داوم على لبسه يوما آخر كان عليه دم آخر بلا خلاف; لأن للدوام فيه حكم الابتداء.
وفي الفتاوى الظهيرية: وعندي المودع إذا لبس قميص الوديعة بغير إذن المودع فنزعه بالليل للنوم فسرق القميص في الليل فإن كان من قصده أن يلبس القميص من الغد لا يعد هذا ترك الخلاف والعود إلى الوفاق حتى يضمن, وإن كان من قصده أن لا يلبس القميص من الغد كان هذا ترك الخلاف حتى لا يضمن.
فالحاصل أن اللبس شيء واحد ما لم يتركه ويعزم على الترك.اهـ.

 

ج / 3 ص -12-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أن ما ذكرناه من إيجاب الجزاء إذا لبس جميع المخيط محله ما إذا لم يتعدد سبب اللبس فإن تعدد كما إذا اضطر إلى لبس ثوب فلبس ثوبين فإن لبسهما على موضع الضرورة فعليه كفارة واحدة يتخير فيها, وإن لبسهما على موضع الضرورة وغيره لزمه كفارتان يتخير فيها للضرورة فقط, ومن صور تعدد اللبس واتحاده ما إذا كان به مثلا حمى يحتاج إلى اللبس لها ويستغني عنه في وقت زوالها فإن عليه كفارة واحدة, وإن تعدد اللبس ما لم تزل عنه فإن زالت وأصابه مرض آخر أو حمى غيرها فعليه كفارتان كفر للأولى أو لا خلافا لمحمد في الثاني.
وكذا إذا حصره عدو فاحتاج إلى اللبس للقتال أياما يلبسها إذا خرج إليه وينزعها إذا رجع فعليه كفارة واحدة ما لم يذهب هذا العدو فإن ذهب وجاء عدو غيره لزمه كفارة أخرى. والأصل في جنس هذه المسائل أنه ينظر إلى اتحاد الجهة واختلافها لا إلى صورة اللبس كيف كانت, ولو لبس لضرورة فزالت فدام بعدها يوما ويومين فما دام في شك من زوال الضرورة فليس عليه إلا كفارة واحدة, وإن تيقن زوالها كان عليه كفارة أخرى لا يتخير فيها هكذا ذكروا.
وذكر الحلبي في مناسكه أن مقتضاه أنه إذا لبس شيئا من المخيط لدفع برد ثم صار ينزع ويلبس كذلك ثم زال ذلك البرد ثم أصابه برد آخر غير الأول عرف ذلك بوجه من الوجوه المفيدة لمعرفته فلبس لذلك أنه يجب عليه كفارتان.اهـ. وشمل كلامه أيضا ما إذا لم يجد غير المخيط فلذا قال في المجمع: ولو لم يجد إلا السراويل فلبسه, ولم يفتقه نوجبه أي الدم, وأطلق في التغطية فانصرفت إلى الكامل, وهو ما يغطي به عادة كالقلنسوة والعمامة فخرج ما لا يغطى به عادة كالطست والإجانة والعدل فلا شيء عليه, وعلى هذا يفرع ما في الظهيرية ما لو دخل المحرم تحت ستر الكعبة فإن كان يصيب وجهه ورأسه فهو مكروه لا شيء عليه, وإلا فلا بأس به.
وظاهر ما في المتون يقتضي أنه لا بد من تغطية جميع الرأس في لزوم الدم, وما رأيته رواية، ولهذا لم يصرحوا بحكم ما دونها, وإنما المنقول عن الأصل اعتبار الربع، ومشى عليه كثير واختاره في الظهيرية مقتصرا عليه, وعزاه في الهداية إلى أنه عن أبي حنيفة, وعن محمد اعتبار الأكثر, وهو مروي عن أبي يوسف أيضا كما اعتبر أكثر اليوم في لزوم الدم واختاره في فتح القدير من جهة الدراية.
فالحاصل: أن الربع راجح رواية، والأكثر راجح دراية باعتبار أن تكامل الجناية لا يحصل

 

ج / 3 ص -13-         أو حلق ربع رأسه أو لحيته, وإلا تصدق كالحالق أو رقبته أو إبطيه أو أحدهما أو محجمه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بما دون الأكثر، بخلاف حلق ربع الرأس فإنه معتاد ويتفرع على هذا ما لو عصب رأسه بعصابة فعلى اعتبار الربع إن أخذت قدره من الرأس لزمه دم، وإن كان أقل فصدقة.
فما في المبسوط والظهيرية من أنه لو عصب رأسه يوما فعليه صدقة محمول على ما إذا لم تأخذ قدر الربع أو مفرع على اعتبار الأكثر. وأراد بالرأس عضوا يحرم تغطيته على المحرم فدخل الوجه فلو غطى ربعه لزمه دم رجلا كان أو امرأة وخرج ما لا يحرم تغطيته فلا شيء عليه لو عصب موضعا آخر من جسده, ولو كثر لكنه يكره من غير عذر كعقد الإزار وتخليل الرداء, ولا بأس بأن يغطي أذنيه وقفاه, ومن لحيته ما هو أسفل من الذقن بخلاف فيه, وعارضه وذقنه, ولا بأس بأن يضع يده على أنفه دون ثوب وبين المصنف حكم اليوم, وما دونه فأفاد أن الليلة كاليوم كما صرح به في غاية البيان والمحيط; لأن الارتفاق الكامل الحاصل في اليوم حاصل في الليلة, وإن ما دونها كما دونه.
وأطلق في وجوب الصدقة فيما دون اليوم فشمل الساعة الواحدة, وما دونها خلافا لما في خزانة الأكمل أنه في ساعة واحدة نصف صاع, وفي أقل من ساعة قبضة من بر ولما روي عن محمد أن في لبس بعض اليوم قسطه من الدم كثلث اليوم فيه ثلث الدم, وفي نصفه نصفه, ومن الغريب ما في فتاوى الظهيرية هنا فإن لبس ما لا يحل له لبسه من غير ضرورة أراق لذلك دما فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.ا هـ. فإن الصوم لا مدخل له في وجوب الجناية بل يكون الدم في ذمته إلى الميسرة, وإنما يدخل الصوم فيما إذا فعل شيئا للعذر كما سيأتي.
"قوله: أو حلق ربع رأسه أو لحيته, وإلا تصدق كالحالق أو رقبته أو إبطيه أو أحدهما أو محجمه"معطوف على طيب.
وقوله أو لحيته بالجر معطوف على رأسه أي حلق ربع لحيته، وقوله: وإلا أي, وإن كان حلق أقل من ربع الرأس أو أقل من ربع اللحية يلزمه صدقة كما يلزم المحرم إذا حلق رأس غيره, وقوله أو رقبته, وما عطف عليه معطوف على الربع أي يجب الدم بحلق المحرم رقبته كلها أو بحلق إبطيه أو أحدهما أو بحلق محاجمه.
والمحجمة هنا - بالفتح- موضع المحجمة من العنق والمحجمة بالكسر قارورة الحجام, وكذا المحجم بطرح الهاء, وقولهم يجب غسل المحاجم يعني مواضع الحجامة من البدن كذا في

 

ج / 3 ص -14-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"المغرب", وإنما كان حلق ربع الرأس أو ربع اللحية موجبا للدم لتكامل الجناية بتكامل الارتفاق; لأن بعض الناس يعتاده بخلاف تطييب ربع العضو فإن الجناية فيه قاصرة, وكذا تغطية ربع الرأس على قول من اعتبر الأكثر, وإذا حلق أقل من الربع فيهما تقاصرت الجناية فوجبت الصدقة واعتبار الربع في الحلق رواية الجامع الصغير اعتمدها المشايخ.
وأما رواية الأصل فاعتبار الثلث, وفي المحيط: وعند أبي حنيفة يجب الدم بحلق الأكثراهـ.
وأراد المصنف بالحلق الإزالة، سواء كان بالموسى أو بغيره, وسواء كان مختارا أو لا فلو أزاله بالنورة أو نتف لحيته أو احترق شعره بخبزة أو مسه بيده فسقط فهو كالحلق كما في المحيط وغيره بخلاف ما إذا تناثر شعره بالمرض أو النار فلا شيء عليه; لأنه ليس للزينة, وإنما هو شين كذا في المحيط أيضا، وأطلق في وجوب الصدقة فيما إذا حلق أقل من ربع الرأس أو اللحية فشمل ما إذا بقي شيء بعد الحلق أو لا فكذا لو كان أصلع على ناصيته أقل من ربع الرأس فإنما فيه صدقة وكذا لو حلق كل رأسه, وما عليه أقل من ربع شعره كما أطلق وجوب الدم بحلق الربع فلذا لو كان على رأسه قدر ربع شعره لو كان شعر رأسه كاملا ففيه دم.
قال في فتح القدير: وعلى هذا يجيء مثله فيمن بلغت لحيته الغاية في الخفة, وعلم من إيجابه الدم بحلق أحد الإبطين أو الإبطين أن جناية الحلق واحدة, وإن تعددت في البدن فلذا لو حلق رأسه ولحيته, وإبطيه بل كل بدنه في مجلس واحد فدم واحد بشرطين: الأول: أن لا يكون كفر للأول فلو أراق دما لحلق رأسه ثم حلق لحيته لزمه آخر. الثاني أن يتحد المجلس فإذا اختلف المجلس فلكل مجلس موجب جنايته إن تعدد المحل كما ذكرنا, وإن اتحد فدم واحد, وإن اختلف المجلس كما إذا حلق الرأس في مجالس وخالف محمد فيما إذا تعدد المحل فألحقه بما إذا اتحد.
وظاهر قول المصنف, وإلا تصدق أن في إزالته لشعر الرأس أو اللحية إذا كان أقل من الربع نصف صاع, ولو كان شعرة واحدة فإنهم قالوا كل صدقة في الإحرام غير مقدرة فهي نصف صاع من بر إلا ما يجب بقتل القملة والجرادة كما أن واجب الدم يتأدى بالشاة في جميع المواضع إلا في موضعين من طاف للزيارة جنبا أو حائضا أو نفساء, ومن جامع بعد الوقوف بعرفة قبل الطواف فإنه بدنة كذا في الهداية وغيرها لكن ذكر قاضي خان في فتاويه أنه إن نتف من رأسه أو من أنفه أو لحيته شعرات فلكل شعرة كف من طعام.
وفي خزانة الأكمل: في خصلة نصف صاع. فظهر بهذا أن في كلام المصنف اشتباها; لأنه

 

ج / 3 ص -15-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يبين الصدقة, ولم يفصلها, وأطلق في لزوم الصدقة على الحالق فشمل ما إذا كان محرما سواء كان المحلوق محرما أو لا أو حلالا والمحلوق رأسه محرم, ولا يرد عليه ما إذا كانا حلالين; لأنه ليس بجناية منهما, وكلامه فيما يكون جناية, وإنما لزمه الصدقة فقط لقصور جنايته; لأنه ينتفع بإزالة شعر غيره انتفاعا قليلا بخلاف المحلوق, وإنما صار جناية من الحالق الحلال باعتبار أن شعر المحرم استحق الأمن, وقد أزاله عنه فكان جانيا, وإذا كان المحلوق رأسه مكرها وجب الدم عليه, ولا رجوع له على الحالق عندنا كذا في المحيط. وظاهر كلامه أنه لا بد من حلق جميع الرقبة والإبط والمحجمة في لزوم الدم بكل منهم فلو بقي من الرقبة أو الإبط شيء لا يلزمه, وإن كان قليلا.
ولهذا قال الإسبيجابي: ولو حلق من أحد الإبطين أكثره وجبت الصدقة فعلى هذا فما صرح به في المحيط من أن الأكثر من الرقبة كالكل في لزوم الدم, وأن الأصل أن كل عضو له نظير في البدن لا يقوم أكثره مقام كله،وكل عضو لا نظير له في البدن كالرقبة يقوم أكثره مقام كله.
وما في فتاوى قاضي خان: من أن في الإبط إذا كان كثير الشعر يعتبر فيه الربع لوجوب الدم, وإلا فالأكثر ضعيف; لأنه لم يقيد أحد حلق ربع غير اللحية والرأس فليس فيه ارتفاق كامل.
ولهذا قال الشارح: ثم الربع من هذه الأعضاء لا يعتبر بالكل; لأن العادة لم تجر في هذه الأعضاء بالاقتصار على البعض فلا يكون حلق البعض ارتفاقا كاملا حتى لو حلق أكثر الإبط لا يجب عليه إلا صدقة بخلاف الرأس واللحية. اهـ.
فالمذهب ما في الكتاب من اعتبار الربع في الرأس واللحية والكل في غيرهما في لزوم الدم، وأراد بالرقبة, وما عطف ما عدا الرأس واللحية كالصدر والساق والعانة كالرقبة لكن في فتاوى قاضي خان, وفي حلق العانة دم إن كان الشعر كثيرا. اهـ. فشرط كثرة الشعر فصار الحاصل أن فيما عدا الرأس واللحية إن حلق عضوا كاملا فعليه دم, وإن كان أقل فعليه صدقة.
وفي المبسوط: ومتى حلق عضوا مقصودا بالحلق فعليه دم, وإن حلق ما ليس بمقصود فصدقة ثم قال: ومما ليس بمقصود حلق الصدر والساق ورجحه في فتح القدير ودفع ما في الهداية من أنه مقصود بطريق التنور بأن القصد إلى حلقهما إنما هو في ضمن غيرهما إذ ليست العادة تنوير الساق وحده بل تنوير المجموع من الصلب إلى القدم فكان بعض المقصود بالحلق فالحق أن يجب في كل منهما الصدقة.اهـ. فعلى هذا فالتقييد بالرقبة, وما عطف عليه للاحتراز عن الصدر والساق بما ليس بمقصود.

 

ج / 3 ص -16-         وفي أخذ شاربه حكومة عدل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأطلق في المحجمة, وهو مقيد بما إذا كان الحلق لهذا الموضع وسيلة إلى الحجامة فلو حلقها, ولم يحتجم لزمه صدقة; لأنه غير مقصود كما في فتح القدير.
وفي فتح القدير: واعلم أنه يجمع المتفرق في الحلق كما في الطيب, وفي الهداية ذكر في الإبطين الحلق هنا, وفي الأصل النتف, وهو السنة, وفي النهاية, وأما العانة فالسنة فيها الحلق لما جاء في الحديث:
"عشر من السنة منها الاستحداد" وتفسيره: حلق العانة بالحديد.
"قوله: وفي أخذ شاربه حكومة عدل"مخالف لما أفاده أولا بقوله: وإلا تصدق فإن الشارب بعض اللحية, وهو إذا كان أقل من الربع ففيه الصدقة, ومبني على ضعيف, وهو قول محمد في تطييب بعض العضو حيث قال: يجب بقدره من الدم, وأما المذهب فوجوب الصدقة فالحاصل كما في المحيط أن في حلق الشارب ثلاثة أقوال:
المذهب وجوب الصدقة كما ذكره في الكافي للحاكم الشهيد الذي هو جمع كلام محمد وصححه في غاية البيان والمبسوط; لأنه تبع للحية, وهو قليل; لأنه عضو صغير, وسواء حلقه كله أو بعضه.
والقول الثاني: ما ذكره في الكتاب تبعا لما في الهداية أنه ينظر إلى الشارب كم يكون من ربع اللحية فيلزمه من الصدقة بقدره حتى لو كان مثل ربع ربعها لزمه ربع قيمة الشاة أو ثمنها فثمنها, وفي فتح القدير والواجب أن ينظر إلى نسبة المأخوذ من ربع اللحية معتبرا معها الشارب كما يفيده ما في المبسوط من كون الشارب طرفا من اللحية هو معها عضو واحد لا أنه ينسب إلى ربع اللحية غير معتبر الشارب معها فعلى هذا إنما يجب ربع قيمة الشاة إذا بلغ المأخوذ من الشارب ربع المجموع من اللحية مع الشارب لا دونه اهـ.
القول الثالث: لزوم الدم بحلقه; لأنه مقصود بالحلق يفعله الصوفية وغيرهم, وقد ظن صاحب الهداية من تعبير محمد في الجامع الصغير هنا بالأخذ أن السنة قص الشارب لا حلقه ردا على الطحاوي القائل بسنية الحلق, وليس كما ظن; لأن محمدا لم يقصد هنا بيان السنة, وإنما قصد بيان حكم هذه الجناية بإزالة الشعر بأي طريق كان; ولهذا ذكر الحلق في الإبط واختار في الهداية سنية النتف لا الحلق; ولأن الأخذ أعم من الحلق; لأن الحلق أخذ, وليس القص متبادرا من الأخذ والوارد في الصحيحين
"أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى", وهو المبالغة في القطع فبأي

 

ج / 3 ص -17-         وفي شارب حلال، أو قلم أظفاره طعام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شيء حصل حصل المقصود غير أنه بالحلق بالموسى أيسر منه بالقصة فلذا قال الطحاوي: الحلق أحسن من القص, وقد يكون مثله بسبب بعض الآلات الخاصة بقص الشارب, وأما ذكر القص في بعض الأحاديث فالمراد منه المبالغة في الاستئصال وبما قررناه اندفع ما في البدائع من أن الصحيح أن السنة فيه القص, وإعفاء اللحية تركها حتى تكث وتكثر, والسنة قدر القبضة فما زاد قطعه.
"قوله: وفي شارب حلال أو قلم أظفاره طعام"أي يجب طعام على محرم أخذ شارب حلال أو قلم أظفاره; لأن إزالته عن غيره ارتفاق لكنه قاصر فوجبت الصدقة أو; لأنه أزال إلا من عن الشعر المستحق له ثم المصنف تبع صاحب الهداية في جمعه بين الشارب وتقليم الأظفار في وجوب الطعام, ولم يذكر الصدقة, وقد تعقبه في غاية البيان بأنه إن أراد بالطعام ما يعم القليل والكثير فهو غير صحيح بالنسبة إلى تقليم الأظفار; لأن المنصوص عليه في الرواية أن المحرم إذا قص أظافير حلال فإنه يجب عليه صدقة, وهي نصف صاع, وإن أراد به الصدقة التي هي نصف صاع التي هي المرادة عند إطلاقهم الصدقة في هذا الباب فلا يصح أيضا; لأن المحرم إذا حلق شاربه وجبت عليه الصدقة فإذا حلق شارب غيره أطعم ما شاء كسرة خبزا, وكفا من طعام لقصور الجناية, وقد وقع التعبير بإطعام شيء جوابا للمسألتين في الجامع الصغير لكنه أتى بمن التبعيضية في تقليم الأظفار فقال في المحرم يأخذ من شارب الحلال أو يقص من أظفاره: يطعم ما شاء فسلم من الاعتراض فيكون المراد بما شاء العموم. اهـ.
وأشار في فتح القدير إلى جوابه بأن المنقول في الأصل وكافي الحاكم أن المحرم إذا حلق رأس حلال تصدق بشيء, وإذا حلق رأس محرم فعليه صدقة, وأن الجواب في قص الأظفار كالجواب في الحلق. اهـ. فقوله في غاية البيان أن المحرم إذا قص أظافير حلال وجبت عليه الصدقة المعينة نصا معارض بالمنصوص عليه في ظاهر الرواية من التصدق بشيء, وهو يعم القليل والكثير بدليل مقابلته بما إذا حلق رأس محرم فحينئذ المراد بالطعام في عبارة الهداية ما يعم القليل والكثير, وهو صحيح بالنسبة إلى الشارب والأظفار كلها.
وبهذا علم أن التقييد بالحلال ليخرج ما إذا قص المحرم أظافير محرم آخر فإنه يجب عليه الصدقة المعينة.
وظاهر ما في غاية البيان يقتضي أنه إذا حلق شارب غيره محرما كان أو حلالا فإنه يطعم ما شاء فليس الحلال قيدا بالنسبة إلى الشارب كما لا يخفى, وعلم أيضا أن قوله فيما مضى كالحالق فيه اشتباه بالنسبة إلى المحلوق رأسه فإنه إن كان محرما فالتشبيه تام, وإن كان حلالا

 

ج / 3 ص -18-         أو قص أظفار يديه ورجليه بمجلس، أو يدا أو رجلا، وإلا تصدق، كخمسة متفرقة، وإلا شيء بأخذ ظفر منكسر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلا يتم; لأن الواجب إطعام شيء لا الصدقة المعينة.
"قوله: أو قص أظفار يديه ورجليه بمجلس أو يدا أو رجلا, وإلا تصدق كخمسة متفرقة ".
معطوف على طيب أول الباب فيلزمه دم بالقص; لأنه من المحظورات لما فيه من قضاء التفث, وإزالة ما ينمو من البدن فإذا قلمها كلها فهو ارتفاق كامل, وكذا إذا قص يدا أو رجلا إقامة للربع مقام الكل كما في الحلق, وإن لم يقص يدا كاملة, ولا رجلا كاملة فعليه صدقة لتقاصر الجناية قيد بالمجلس; لأنه لو قص الكل في مجالس في كل مجلس عضو لزمه أربعة دماء; لأن الغالب في هذه الكفارة معنى العبادة فيتقيد التداخل باتحاد المجلس كما في آية السجدة سواء كفر للأولى أو لا, وفي الأول خلاف محمد, وقيد التداخل بكونه من جنس واحد; لأنه لو قلم أظافير يده وحلق ربع رأسه وطيب عضوا فإنه يلزمه لكل جناية دم سواء اتحد المجلس أو اختلف اتفاقا.
وقيد بكون المحل مختلفا; لأنه لو كان متحدا إذا حلق الرأس في أربع مرات فإنه لا تتعدد الكفارة اتفاقا اتحد المجلس أو اختلف, وقيد بكونها كفارة في الإحرام; لأن كفارة الفطر في رمضان كما إذا أفسد أياما من رمضان تتعدد إن كفر للأول, وإن لم يكفر بكفارة واحدة اتفاقا; لأنها شرعت للزجر فالغالب فيها معنى العقوبة, وهذه شرعت لجبر النقصان, وفي قوله, وإلا تصدق اشتباه; لأنه يقضي أن يلزمه صدقة واحدة فيما إذا لم يقص يدا كاملة أو رجلا كاملة, وليس كذلك بل يلزمه لكل ظفر قصه نصف صاع من بر حتى لو قص ستة عشر ظفرا من كل عضو أربعة فعليه لكل ظفر طعام مسكين إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص ما شاء كذا في المبسوط, وإنما صرح بالخمسة المتفرقة مع أنها فهمت مما ذكره لدفع قول محمد المنقول في المجمع أن الخمسة المتفرقة كطرف كامل فيجب دم فأفاد أن في كل ظفر من الخمسة صدقة كما قررناه.
"قوله: ولا شيء بأخذ ظفر منكسر"; لأنه لا ينمو بعد الانكسار فأشبه اليابس من أشجار الحرم قيد بالانكسار; لأنه لو أصابه أذى في كفه فقص أظافيره فعليه أي الكفارات شاء كذا في غاية البيان, وأطلقه فشمل ما إذا كان قد انكسر بعد الإحرام فأخذه أو كان منكسرا قبله فأخذه بعده, وهو أولى مما في الهداية كما لا يخفى, وأولى مما في الخانية من قوله: ولو انكسر ظفر المحرم وصار بحال لا يثبت فأخذه فلا شيء عليه; لأن العلة المذكورة تشمل الكل.
وفي فتح القدير: وكل ما يفعله العبد المحرم مما فيه الدم عينا أو الصدقة عينا فعليه ذلك إذا عتق لا في الحال, ولا يبدل بالصوم.

 

ج / 3 ص -19-         وإن تطيب، أو لبس، أو حلق بعذر، ذبح شاة، أو تصدق بثلاثة أصوع على ستة، أو صام ثلاثة أيام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: وإن تطيب أو لبس أو حلق بعذر ذبح شاة أو تصدق بثلاثة أصوع على ستة أو صام ثلاثة أيام":
لقوله تعالى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [ البقرة:196], وكلمة أو للتخيير, وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا والآية نزلت في المعذور, وهو كعب بن عجرة الذي أذاه هوام رأسه فأبيح له الحلق كما في صحيح البخاري, وهي وإن نزلت في حلق الرأس لكن قيس الطيب واللبس والقص عليه لوجود الجامع, وهو المرض أو الأذى كذا في غاية البيان وظاهر النهاية أنه إلحاق له بطريق الدلالة؛ لأنه في معنى المنصوص عليه، وهو الأولى لما عرف في الأصول أن ما ثبت بخلاف القياس فغيره عليه لا يقاس فهو كإلحاق الأكل والشرب بالجماع في كفارة الفطر في رمضان, وفسر العذر المبيح كما ذكره قاضي خان في فتاويه بخوف الهلاك من البرد والمرض أو لبس السلاح للقتال, وهكذا في الظهيرية, وفتح القدير، ولعل المراد بالخوف الظن لا مجرد الوهم فإذا غلب على ظنه هلاكه أو مرضه من البرد جاز له تغطية رأسه مثلا أو ستر بدنه بالمخيط لكن بشرط أن لا يتعدى موضع الضرورة فيغطي رأسه بالقلنسوة فقط إن اندفعت الضرورة بها وحينئذ فلف العمامة عليها حرام موجب للدم أو الصدقة كما قدمناه. وكذا إذا اندفعت الضرورة بلبس جبة فلبس جبتين فإنه يكون آثما إلا أنه لا دم عليه حيث كان اللبس على موضع الضرورة إنما يلزمه كفارة مخيرة كما قدمناه ذكره الإمام ابن أمير حاج الحلبي في مناسكه فليحفظ هذا فإن كثيرا من المحرمين يغفل عنه كما شاهدناه.
فالحاصل أنه لا إثم عليه إذا كان لعذر ويأثم إذا كان لغيره وصرحوا بالحرمة, ولم أر لهم صريحا هل ذبح الدم أو التصدق مكفر لهذا الإثم مزيل له من غير توبة أو لا بد منها معه وينبغي أن يكون مبنيا على الاختلاف في الحدود هل هي كفارات لأهلها أو لا هل يخرج الحج عن أن

 

ج / 3 ص -20-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكون مبرورا بارتكاب هذه الجناية, وإن كفر عنها أو لا الظاهر بحثا لا نقلا أنه لا يخرج والله أعلم بحقيقة الحال.
وقيد بالعذر; لأنه لو فعل شيئا منها لغيره لزمه دم أو صدقة معينة, ولا يجزئه غيره كما صرح به الإمام الإسبيجابي وبهذا ظهر ضعف ما قدمناه عن الظهيرية من أنه إن لم يقدر على الدم يصوم ثلاثة أيام, ولم أره لغيرها, وإنما لم يقيد المصنف ذبح الشاة بالحرم مع أنه مقيد به اتفاقا لما سنبينه في باب الهدي أن الكل مختص بالحرم فإن ذبح في غيره لا يجزئه عن الذبح إلا إذا تصدق بلحمه على ستة مساكين على كل واحد منهم قدر قيمة نصف صاع من حنطة فإنه يجوز بدلا عن الإطعام كذا ذكره الإسبيجابي, ولا يختص بزمان اتفاقا.
وأشار بقوله: ذبح، إلى أنه يخرج عن العهدة بالذبح حتى لو هلك المذبوح بعده أو سرق فإنه لا شيء عليه بخلاف ما إذا سرق, وهو حي فإنه يلزمه غيره. ومقتضاه جواز الأكل منه كهدي المتعة والقران والأضحية لكن الواقع لزوم التصدق بجميع لحمه كما سيأتي في بابه; لأنه كفارة.
فالحاصل أن له جهتين جهة الإراقة، وجهة التصدق فللأولى لا يجب غيره إذا سرق مذبوحا وللثانية يتصدق بلحمه, ولا يأكل منه كذا في فتح القدير.
وأطلق في التصدق والصوم فأفاد أن له التصدق في غير الحرم, وفيه على غير أهله.
قال: في المحيط والتصدق على فقراء مكة أفضل, وإنما لم يتقيد بالحرم لإطلاق النص بخلاف الذبح; لأن النسك في اللغة الدم المهراق بمكة ويقال للمذبوح لوجه الله تعالى ويقال لكل عبادة, ومنه قوله تعالى:
{إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [ الأنعام:162] كما في المغرب. وأشار المصنف بلفظ التصدق الموافق للفظ الصدقة المذكورة في الآية إلى أن طعام الإباحة لا يكفي; لأن التصدق ينبئ عن التمليك لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، [ التوبة:103] وحكى خلافا في المجمع بين أبي يوسف ومحمد فعند أبي يوسف تكفي الإباحة, وعند محمد لا بد من التمليك ورجح في غاية البيان قول أبي يوسف بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الصدقة بالإطعام هنا فكان ككفارة اليمين وتعقبه في فتح القدير بأن الحديث ليس مفسرا لمجمل بل مبين للمراد

 

ج / 3 ص -21-         فصل
ولا شيء إن نظر إلى فرج امرأة بشهوة فأمنى، وتجب شاة إن قبل، أو لمس بشهوة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالإطعام, وهو حديث مشهور عملت به الأمة فجازت الزيادة به ثم المذكور في الآية الصدقة, وتحقق حقيقتها بالتمليك فيجب أن يحمل في الحديث الإطعام على الإطعام الذي هو الصدقة, وإلا كان معارضا, وغاية الأمر أنه يعتبر بالاسم الأعم انتهى.
فالحاصل ترجيح قول محمد رحمه الله ولهذا قيل إن قول أبي حنيفة رحمه الله كقوله كما في الظهيرية لكن ذكر الإسبيجابي أن أبا حنيفة مع أبي يوسف رحمهما الله.
وأفاد المصنف بإطلاقه أن الصوم يجوز متفرقا، ومتتابعا كما صرح به الإسبيجابي.
والأصوع على وزن أرجل جمع صاع وظاهر كلامهم أنه لا بد من التصدق على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع حتى لو تصدق بالثلاثة على أقل من ستة أو على أكثر منها بها فإنه لا يجوز; لأن العدد منصوص عليه في الحديث وينبغي على القول بجواز الإباحة أنه لو غدى مسكينا واحدا, و عشاه ستة أيام يجوز أخذا من مسألة الكفارات, والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
قدم النوع السابق على هذا; لأنه كالمقدمة له إذ الطيب, وإزالة الشعر والظفر مهيجات للشهوة لما يعطيه من الرائحة والزينة.
"قوله: ولا شيء عليه إن نظر إلى فرج امرأة بشهوة فأمنى "; لأن المحرم هو الجماع, ولم يوجد فصار كما لو تفكر فأمنى, وعلم منه أنه لو احتلم فأمنى لا شيء عليه بالأولى وبإطلاقه أنه لا فرق بين زوجته والأجنبية, وإن كان محرما.
"قوله: وتجب شاة إن قبل أو لمس بشهوة"أطلقه فشمل ما إذا لم ينزل, وهو موافق لما في المبسوط حيث صرح بوجوب الدم, وإن لم ينزل واختاره في الهداية مخالفا لما في الجامع الصغير من اشتراط الإنزال وصححه قاضي خان في شرحه ليكون جماعا من وجه فإن المحرم هو الجماع صورة ومعنى أو معنى فقط, وهو بالإنزال, وعلل في النهاية وغيرها لوجوب الدم بأن الجماع فيما دون الفرج من جملة الرفث فكان منهيا عنه بسبب الإحرام وبالإقدام عليه يصير مرتكبا محظور إحرامه.
وتعقبهم في فتح القدير بأن الإلزام إن كان للنهي فليس كل نهي يوجب كالرفث, وإن كان

 

ج / 3 ص -22-         أو أفسد حجه بجماع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة
ــــــــــــــــــ
للرفث فكذلك إذ أصله الكلام بحضرتهن, وليس موجبا شيئا. انتهى.
وقد يقال إن إيجاب الدم إنما هو لكونه ارتكب ما هو حرام بسبب الإحرام فقط, وليس ذكر الجماع بحضرة النساء منهيا عنه لأجل الإحرام فقط بل منهي عنه مطلقا, وإن كان في الإحرام أشد وبهذا يظهر ترجيح إطلاق الكتاب; لأن الدواعي محرمة لأجل الإحرام مطلقا فيجب الدم مطلقا, وإنما لم يفسد الحج بالدواعي مع الإنزال كما فسد بها الصوم؛ لأن فساده تعلق بالجماع حقيقة بالنص, والجماع معنى دونه فلم يلحق به, وأما فساد الصوم فمعلق بقضاء الشهوة, وقد وجد.
وفي المحيط: محرم عبث بذكره فلا شيء عليه, وإن أنزل فعليه دم; لأنه وجد قضاء الشهوة بالمس كما لو مس امرأة فأنزل, ولو أتى بهيمة فأنزل لم يفسد حجه, وعليه دم كما لو جامع فيما دون الفرج, وإن لم ينزل فلا شيء عليه.
"قوله: أو أفسد حجه بجماع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة"معطوف على قبل أي تجب شاة لما ورد عن الصحابة من الفساد به ووجوب الهدي, وأدناه شاة ويقوم الشرك في البدنة مقامها كما صرح به في غاية البيان, وما اختاره المصنف من الفساد بالجماع في الدبر هو أصح الروايتين عن أبي حنيفة كقولهما لكمال الجناية كما في فتح القدير, ومراده من آدمية. أما وطء البهيمة فلا يفسد مطلقا لقصوره وأطلق في الجماع فشمل ما إذا أنزل أو لم ينزل أولج ذكره كله أو بقدر الحشفة.
وفي معراج الدراية: ولو استدخلت ذكر الحمار أو ذكرا مقطوعا يفسد حجها بالإجماع, ولو لف ذكره بخرقة, وأدخله إن وجد حرارة الفرج واللذة يفسد, وإلا فلا. انتهى. وشمل ما إذا كان عامدا أو ناسيا عالما أو جاهلا مختارا أو مكرها رجلا أو امرأة, ولا رجوع له على المكره كما ذكره الإسبيجابي.
وحكى في فتح القدير خلافا بين ابن شجاع والقاضي أبي حازم في رجوع المرأة بالدم إذا أكرهها الزوج على الجماع فقال الأول لا, وقال الثاني نعم, ولم أر قولا في رجوعها بمؤنة حجها وشمل الحر والعبد لكن في العبد يلزمه الهدي, وقضاء الحج بعد العتق سوى حجة الإسلام, وكل ما يجب فيه المال يؤاخذ به بعد عتقه بخلاف ما فيه الصوم فإنه يؤاخذ به للحال,

 

ج / 3 ص -23-         ويمضي ويقضي، ولم يفترقا فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يجوز إطعام المولى عنه إلا في الإحصار فإن المولى يبعث عنه ليحل هو فإذا عتق فعليه حجة وعمرة, وشمل الوطء الحلال والحرام ووطء المكلف وغيره كما صرح به في المحيط وصرح الولوالجي بأن الصبي والمعتوه يفسد حجهما بالجماع لكن لا دم عليهما.
وفي مناسك ابن الضياء: وإذا جامع الصبي حتى فسد حجه لا يلزمه شيء. انتهى. وبهذا ظهر ضعف ما في فتح القدير من قوله: ولو كان الزوج صبيا يجامع مثله فسد حجها دونه, ولو كانت هي صبية أو مجنونة انعكس الحكم. انتهى. فإن هذا الحكم تعلق بعين الجماع وبالعذر لا ينعدم الجماع فلا ينعدم الحكم المتعلق به, وإنما لم يلزمهما حكم الفساد لما فيه من الضرر ويؤيده أن المفسد للصلاة والصوم لا فرق بين المكلف وغيره فكذلك الحج وشمل ما إذا تعدد الجماع فإنه يلزمه دم واحد إن كان المجلس متحدا سواء كان لامرأة أو نسوة أما إذا تعدد المجلس, ولم يقصد به رفض الحجة الفاسدة لزمه دم آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف, ولو نوى بالجماع الثاني رفض الفاسدة لا يلزمه بالثاني شيء كذا في فتاوى قاضي خان مع أن نية الرفض باطلة; لأنه لا يخرج عنه إلا بالأعمال لكن لما كانت المحظورات مستندة إلى قصد واحد, وهو تعجيل الإحلال كانت متحدة فكفاه دم واحد ولهذا نص في ظاهر الرواية أن المحرم إذا جامع النساء ورفض إحرامه, وأقام يصنع ما يصنعه الحلال من الجماع والطيب, وقتل الصيد عليه أن يعود كما كان حراما ويلزمه دم واحد كما ذكره في المبسوط.
"قوله: ويمضي ويقضي, ولم يفترقا فيه": أي ويجب المضي في أفعال الحج بعد إفساده كما يمضي فيه, وهو صحيح ويلزمه قضاؤه من قابل, سواء كانت حجة الإسلام أو لا; لأنه قد أدى الأفعال مع وصف الفساد, والمستحق عليه أداؤها بوصف الصحة.
وفي فتاوى قاضي خان: ويجتنب في الفاسدة ما يجتنب في الجائزة, وقد ظن بعض أهل عصرنا أن الحج إذا فسد لا يفسد الإحرام ولهذا قالوا: إن الإحرام باق فيقضي فيه, وليس كما ظن بل فسد الإحرام كالحج, وقد صرحوا بفساده في مواضع عديدة في هذا الفصل, ومعنى بقائه عدم الخروج عنه بغير الأفعال, ومعنى الافتراق الذي ليس بواجب أن يأخذ كل واحد منهما في

 

ج / 3 ص -24-         وبدنة لو بعده ولا فساد، أو جامع بعد الحلق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طريق غير طريق صاحبه, وإنما لم يجب; لأن الجامع بينهما, وهو النكاح قائم فلا معنى للافتراق قبل الإحرام لإباحة الوقوع, ولا بعده; لأنهما يتذاكران ما لحقهما من المشقة الشديدة بسبب لذة صغيرة فيزدادان ندما وتحرزا لكنه مستحب إذا خاف الوقاع كما في المحيط وغيره.
"قوله: وبدنة لو بعده, ولا فساد": أي يجب بدنة لو جامع بعد الوقوف بعرفة قبل الحلق، ولا يفسد حجه للحديث: "من وقف بعرفة فقد تم حجه"، أي أمن من فساده لبقاء الركن الثاني, وهو الطواف, ووجوب البدنة مروي عن ابن عباس والأثر فيه كالخبر.
أطلقه فشمل ما إذا جامع مرة أو مرارا إن اتحد المجلس, وأما إذا اختلف فبدنة للأول وشاة للثاني في قولهما, وقال محمد: إن ذبح للأول فيجب للثاني شاة، وإلا فلا ذكره الإسبيجابي, وعلل له في المبسوط بأنه دخل إحرامه نقصان بالجماع الأول وبالجماع الثاني صادف إحراما ناقصا فيكفيه شاة.
"قوله: أو جامع بعد الحلق": معطوف على قوله أول الفصل قبل أي يجب شاة إن جامع بعد الحلق قبل الطواف لقصور الجناية لوجود الحل الأول بالحلق.
ثم اعلم أن أصحاب المتون على ما ذكره المصنف من التفصيل فيما إذا جامع بعد الوقوف فإن كان قبل الحلق فالواجب بدنة, وإن كان بعده فالواجب شا، ومشى جماعة من المشايخ كصاحب المبسوط والبدائع والإسبيجابي على وجوب البدنة مطلقا.
وقال في فتح القدير: إنه الأوجه; لأن إيجابها ليس إلا بقول ابن عباس والمروي عنه ظاهره فيما بعد الحلق ثم المعنى يساعده وذلك; لأن وجوبها قبل الحلق ليس إلا للجناية على الإحرام, ومعلوم أن الوطء ليس جناية عليه إلا باعتبار تحريمه له لا لاعتبار تحريمه لغيره فليس الطيب جناية على الإحرام باعتبار تحريمه الجماع أو الحلق بل باعتبار تحريمه للطيب, وكذا كل جناية على الإحرام ليست جناية عليه إلا باعتبار تحريمه لها لا لغيرها فيجب أن يستوي ما قبل الحلق, وما بعده في حق الوطء; لأن الذي به كان جناية قبله بعينه ثابت بعده, والزائل لم يكن الوطء جناية باعتباره لا جرم أن المذكور في ظاهر الرواية إطلاق لزوم البدنة بعد الوقوف من غير

 

ج / 3 ص -25-         أو في العمرة قبل أن يطوف لها الأكثر، وتفسد ويمضي ويقضيها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفصيل بين كونه قبل الحلق أو بعده. انتهى. ويرد عليه أنهم اتفقوا أنه لو جامع مرة ثانية بعد الوقوف قبل الحلق فإنه لا يجب بدنة, وإنما تجب شاة مع أن وجوبها للجماع الأول ليس إلا باعتبار حرمته عليه, وهو بعينه موجود في كل جماع أتى به قبل الطواف فتعين أن ينظر إلى أن البدنة لا تجب إلا إذا كملت الجناية, وكمالها بمصادفتها إحراما كاملا فالجماع في المرة الثانية صادف إحراما ناقصا فلم تجب البدنة, وكذا الجماع بعد الحلق صادف إحراما ناقصا لخروجه عنه في حق غير النساء، وهذا الباب أعني باب الجنايات على الإحرام ينظر فيه إلى كمال الجناية, وقصورها ليجب الجزاء بقدره كما تقدم من تطييب العضو, وما دونه, ومن لبس المخيط يوما أو أقل إلى غير ذلك لا إلى تحريم الفعل فقط.
فالحاصل أن مسائلهم شاهدة بأن الجناية إن كملت تغلظ الجزاء كما في لبس المخيط يوما أو أقل إلى غير ذلك لا إلى تحريم الفعل فقط, وإن قصرت خف الجزاء فالأوجه ما في المتون والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولم يذكر المصنف حكم القارن إذا جامع وحكمه أنه إن كان قبل الوقوف بعرفة وطواف العمرة فسد حجه وعمرته, ولزمه دمان وقضاؤهما وسقط عنه دم القران, وإن كان بعد طواف العمرة أو أكثره قبل الوقوف فسد الحج فقط، ولزمه دمان أيضا, وقضاء الحج فقط وسقط عنه دم القران, وإن كان بعد الطواف والوقوف قبل طواف الزيارة لم يفسدا, وعليه بدنة للحج وشاة للعمرة إن كان قبل الحلق اتفاقا واختلفوا فيما إذا كان بعد الحلق في موضعين: الأول: في وجوب البدنة للحج أو الشاة, وقدمناه والثاني في وجوب شاة للعمرة فالذي اختاره صاحب المبسوط والبدائع والإسبيجابي أنه يجب شاة للعمرة والذي اختاره الوبري أنه لا يجب شيء لأجل العمرة; لأنه خرج من إحرامها بالحلق وبقي إحرام الحج في حق النساء واستشكله الشارح بأنه إذا بقي محرما بالحج فكذا في العمرة ورده في فتح القدير بأن إحرام العمرة لم يعهد بحيث يتحلل منه بالحلق من غير النساء ويبقى في حقهن بل إذا حلق بعد أفعالها حل بالنسبة إلى كل ما حرم عليه, وإنما عهد ذلك في إحرام الحج فإذا ضم إحرام الحج إلى إحرام العمرة استمر كل على ما عهد له في الشرع فينطوي بالحلق إحرام العمرة بالكلية فالصواب ما عن الوبري. اهـ.
"قوله: أو في العمرة قبل أن يطوف لها الأكثر وتفسد ويمضي ويقضي"أي لو جامع في إحرام العمرة قبل أن يطوف أربعة أشواط لزمه شاة, وفسدت عمرته كما لو جامع في الحج قبل

 

ج / 3 ص -26-         أو بعد طواف الأكثر ولا فساد، وجماع الناسي كالعامد، أو طاف للركن محدثا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوقوف بجامع حصوله قبل إدراك الركن فيهما ويمضي في فاسدها كما يمضي في صحيحها، ويلزمه قضاؤها.
"قوله: أو بعد طواف الأكثر, ولا فساد"أي لو جامع بعد ما طاف أربعة أشواط لزمه شاة, ولا تفسد عمرته; لأنه أتى بالركن فصار كالجماع بعد الوقوف, وإنما لم تجب بدنة كما في الحج إظهارا للتفاوت بين الفرض والسنة كذا في الهداية وغيرها, وقد يقال إنه يتم في حجة الإسلام أما في غيرها فلا فرق بين الحج والعمرة; لأن كلا منهما نفل قبل الشروع واجب بعده اللهم إلا أن يقال: نفل الحج أقوى من نفل العمرة, والفرق بينهما بأن الجماع في الحج بعد الوقوف يكون قبل أداء بقية أركان الحج; لأنه بقي الطواف, وهو ركن فتغلظت الجناية فتغلظ الجزاء بخلافه بعد طواف الأكثر في العمرة فإنه لم يبق عليه إلا الواجبات لا يصح; لأنه يقتضي وجوب البدنة لو جامع قبل طواف الأكثر, وليس كذلك.
وشمل قوله: بعد طواف الأكثر ما إذا طاف الباقي وسعى بين الصفا والمروة أولا لكن بشرط أن يكون قبل الحلق وتركه للعلم به; لأن بالحلق يخرج عن إحرامها بالكلية بخلاف إحرام الحج, ولما بين المصنف حكم المفرد بالحج والمفرد بالعمرة علم منه حكم القارن والمتمتع.
"قوله: وجماع الناسي كالعامد"يعني في جميع ما ذكرنا من أحكام الجنايات فيفسد حجه لو جامع ناسيا قبل الوقوف.
وحاصل ما ذكره الأصوليون أن النسيان لا ينافي الوجوب لكمال العقل, وليس عذرا في حقوق العباد, وفي حقوق الله تعالى عذر في سقوط الإثم أما الحكم فإن كان مع مذكر, ولا داعي إليه كأكل المصلي وجناية المحرم لم يسقط بتقصيره بخلاف سلامه في القعدة, وإن كان ليس مع مذكر مع داع إليه سقط كأكل الصائم, وإن لم يكن معهما فكذلك بالأولى كترك الذابح التسمية. انتهى. وقد قدمنا أن الجاهل والعالم والمختار والمكره والنائم والمستيقظ سواء لحصول الارتفاق.
"قوله: أو طاف للركن محدثا"أي يلزمه شاة لترك الطهارة؛ لأنه أدخل نقصا في الركن فصار كترك شوط منه, وظاهر كلام غاية البيان أن الدم واجب اتفاقا أما على القول بوجوبها, وهو الأصح فظاهر, وأما على القول بسنيتها فلأنه لا يمتنع أن تكون سنة, ويجب بتركها الكفارة, ولهذا قال: محمد فيمن أفاض من عرفة قبل الإمام يجب عليه دم; لأنه ترك سنة الدفع. اهـ.
وبهذا علم أن الخلاف لفظي لا ثمرة له, وإنما كانت الطهارة واجبة لما ثبت في الصحيحين

 

ج / 3 ص -27-         وبدنة لو جنبا و يعيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن عائشة أنها حاضت فقال لها عليه السلام:
"اقض ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت"، رتب منع الطواف على انتفاء الطهارة, وهذا حكم وسبب, وظاهره أن الحكم يتعلق بالسبب فيكون المنع لعدم الطهارة لا لعدم دخول المسجد, وإنما لم يكن شرطا كما قال الشافعي; لأنه يلزمه تقييد مطلق القطع، وهو {وَلْيَطَّوَّفُوا} بخبر الواحد, وهو نسخ عندنا فلا يجوز كما عرف في الأصول. وأما قوله عليه السلام: "الطواف بالبيت صلاة"فالمراد به التشبيه في الثواب, قيد بالحدث; لأنه لو طاف، وعلى ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم فإنه لا يلزمه شيء لكنه يكره لإدخال النجاسة المسجد, ولم ينص في ظاهر الرواية إلا على الثوب, والتعليل يفيد عدم الفرق بين الثوب والبدن, وما في الظهيرية من أن نجاسة الثوب كله فيه الدم لا أصل له في الرواية فلا يعول عليه. وأشار إلى أنه لو طاف منكشف العورة قدر ما لا تجوز الصلاة معه فإنه يلزمه دم لترك الواجب, وهو ستر العورة كما صرح به في الظهيرية.
ودليل الوجوب قوله: عليه السلام:
"ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان" بناء على أن خبر الواحد يفيد الوجوب عندنا, وقيد بالركن, وهو الأكثر; لأنه لو طاف أقله محدثا, ولم يعد وجب عليه لكل شوط نصف صاع من حنطة إلا إذا بلغت قيمته دما فإنه ينقص منه ما شاء كذا في غاية البيان.
"قوله: وبدنة لو جنبا ويعيد"أي يجب بدنة لو طاف للركن جنبا كذا روي عن ابن عباس; ولأن الجنابة أغلظ فيجب جبر نقصانها في البدنة إظهارا للتفاوت بينهما, والحيض والنفاس كالجنابة قيد بالركن, وهو الأكثر; لأنه لو طاف الأقل جنبا, ولم يعد وجب عليه شاة فإن أعاده وجبت عليه صدقة لتأخير الأقل من طواف الزيارة لكل شوط نصف صاع, وقوله: ويعيد راجع إلى الطواف محدثا أو جنبا, ولم يذكر صفة الإعادة للاختلاف وصحح في الهداية أنها واجبة في الطواف جنبا مستحبة في الطواف محدثا للفحش في الأول والقصور في الثاني فإن أعاده فلا دم عليه فيهما مطلقا لجبر النقصان الحاصل بالإعادة إلا أنه إن أعاده, وقد طاف جنبا

 

ج / 3 ص -28-         وصدقة لو محدثا للقدوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الواجب بمعنى شيئين إما لزوم الشاة أو الإعادة, والإعادة هي الأصل ما دام بمكة ليكون الجابر من جنس المجبور فهي أفضل من الدم, وأما إذا رجع إلى أهله ففي الحدث الأصغر اتفقوا أن بعد أيام النحر لزمه دم للتأخير عند أبي حنيفة وبهذا علم أن الواو في قوله ويعيد بمعنى أو; لأن بعث الشاة أفضل من الرجوع.
واختلفوا في الحدث الأكبر فاختار في الهداية أن العود إلى الإعادة أفضل لما ذكرنا واختار في المحيط أن بعث الدم أفضل; لأن الطواف الأول وقع معتدا به, وفيه منفعة للفقراء, وإذا عاد للأول يرجع بإحرام جديد بناء على أنه حل في حق النساء بطواف الزيارة جنبا, وهو آفاقي يريد مكة فلا بد له من إحرام بحج أو عمرة فإذا أحرم بعمرة يبدأ بها فإذا فرغ منها يطوف للزيارة ويلزمه دم لتأخير طواف الزيارة عن وقته, وفهم الرازي من ذلك أن الطواف الثاني معتد به, وأن الأول قد انفسخ وذهب الكرخي إلى أن الأول معتبر في فصل الجناية كما في فصل الحدث اتفاقا وصححه صاحب الإيضاح إذ لا شك في وقوع الأول معتدا به حتى حل به النساء واستدل له بما في الأصل لو طاف لعمرته محدثا أو جنبا في رمضان وحج من عامه لم يكن متمتعا إن أعاده في شوال أو لم يعده, وقواه في فتح القدير. وإنما وجب الدم لترك الواجب; لأن الواجب الإعادة في أيام النحر فإذا مضت ترك واجبا والظاهر أن الخلف لفظي لا ثمرة له; لأن الدم واجب اتفاقا, وإن اختلف التخريج.
"قوله:وصدقة لو محدثا للقدوم": أي يجب عليه صدقة لو طاف للقدوم محدثا; لأنه دخله نقص بترك الطهارة فينجبر بالصدقة إظهارا لدنو رتبته عن الواجب بإيجاب الله تعالى, وهو طواف الزيارة. وأشار إلى أن كل طواف هو تطوع فهو كذلك, وقيد بالحدث; لأنه لو طاف للقدوم جنبا لزمه الإعادة ودم, وإن لم يعد; لأن النقص فيه متغلظ فتلزمه الإعادة احتياطا، وقال محمد: ليس عليه أن يعيد طواف التحية; لأنه سنة, وإن أعاد فهو أفضل كذا في المحيط وبهذا ظهر بطلان ما في غاية البيان معزيا إلى الإسبيجابي من أنه لا شيء عليه لو طاف للقاء محدثا أو جنبا; لأنه يقتضي عدم وجوب الطهارة للطواف; ولأن طواف التطوع إذا شرع فيه صار واجبا بالشروع ثم يدخله النقص بترك الطهارة فيه. غاية الأمر أن وجوبه ليس بإيجابه تعالى ابتداء فأظهرنا التفاوت في الحط من الدم إلى الصدقة فيما إذا طافه محدثا, ومن البدنة إلى الشاة فيما إذا طافه جنبا, وظاهر كلامهم يقتضي وجوب الشاة فيما إذا طاف للتطوع جنبا.

 

ج / 3 ص -29-         والصدر، أو ترك أقل طواف الركن، ولو ترك أكثره بقي محرما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر في غاية البيان أنه إن طاف للقدوم محدثا وسعى ورمل عقبه فهو جائز والأفضل أن يعيدهما عقيب طواف الزيارة, وإن طاف له جنبا وسعى ورمل عقبه فإنه لا يعتد به ويجب عليه السعي عقب طواف الزيارة ويرمل فيه.
"قوله: والصدر"بالجر عطف على القدوم فتجب صدقة لو طاف محدثا ودم لو جنبا فقد سووا بين طواف القدوم وبين طواف الصدر مع أن الأول سنة والثاني واجب, وأجاب عنه في الهداية بأن طواف القدوم يصير واجبا أيضا بالشروع, وأقره الشارحون, وقد يقال إن ما وجب ابتداء قبل الشروع أقوى مما وجب بالشروع فينبغي عدم المساواة قيد بترك الطهارة للطواف; لأن السعي محدثا أو جنبا لا يوجب شيئا سواء كان سعي عمرة أو حج; لأنه عبادة تؤدى لا في المسجد الحرام والأصل أن كل عبادة تؤدى لا في المسجد في أحكام المناسك فالطهارة ليست بواجبة لها كالسعي والوقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار بخلاف الطواف فإنه عبادة تؤدى في المسجد فكانت الطهارة واجبة فيه كذا في الفتاوى الظهيرية.
"قوله: أو ترك أقل طواف الركن, ولو ترك أكثره بقي محرما"أي يجب دم بترك شوط أو شوطين أو ثلاثة من طواف الزيارة، ولو ترك أربعة منه فإنه محرم في حق النساء بناء على أن الركن عندنا أكثر السبعة, وهو أربعة أشواط على الصحيح كما قدمناه, وإنما أقيم الأكثر مقام الكل; لأن الشرع أقام الأكثر في الحج مقام الكل في وقوع الأمن عن الفوات احتياطا بقوله: من وقف بعرفة فقد تم حجه, وقد قلنا من جامع بعد الوقوف لا يفسد وبعد الرمي لا يفسد بالإجماع, ولو حلق أكثر الرأس صار متحللا فلما كان الأمر على هذا الوجه للتيسير جرينا على هذا الأصل فأقمنا الأكثر مقام الكل في باب التحلل, وما يجري مجراه صيانة لهذه العبادة عن الفوات وتحقيقا للأمر يعني أن الطواف أحد سببي التحلل فلما أقيم الأكثر مقام الكل في أحد السببين, وهو الحلق بالإجماع أقيم في السبب الآخر, وهو الطواف أيضا كذا في النهاية وتعقبه في فتح القدير بأن إقامة الأكثر في تمام العبادة إنما هو في حق حكم خاص, وهو أمن الفساد والفوات ليس غير ولذا لم يحكم بأن ترك ما بقي أعني الطواف يتم معه الحج, وهو مورد ذلك النص فلا يلزم جواز إقامة أكثر كل جزء منه مقام تمام ذلك الجزء وترك باقيه كما لم يجز ذلك في نفس مورد النص أعني الحج فلا ينبغي التعويل على هذا الحكم, والله أعلم بل الذي ندين به أن لا يجزئ أقل من السبعة, ولا يجبر بعضه بشيء غير أنا نستمر معهم في التقرير على أصلهم. اهـ. وهذا من

 

ج / 3 ص -30-         أو ترك أكثر الصدر، أو طاف جنبا، وصدقة بترك أقله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبحاثه المخالفة لأهل المذهب قاطبة لكن لم يجب عن تمسكهم بحلق أكثر الرأس في أنه يفيد التحلل بالإجماع فإقامتنا الأكثر في الطواف لأجل التحلل مستفاد من دلالة الإجماع المذكور, وإنما لزمه الدم بترك الأقل؛ لأنه أدخل نقصا في طوافه فصار كما لو طافه محدثا. وأشار بالترك إلى أن الدم إنما يجب إذا لم يأت بما تركه أما إذا أتم الباقي فليس عليه شيء إن كان الإتمام في أيام النحر أما بعدها فيلزمه صدقة عند أبي حنيفة لكل شوط نصف صاع من بر خلافا لهما فإن رجع إلى أهله بعث شاة لما بقي من طواف الزيارة وشاة أخرى لترك طواف الصدر, وهذا; لأن بعث الشاة لترك الأقل من طواف الزيارة لا يتصور إلا إذا لم يكن طاف للصدر؛ لأنه إذا طاف للصدر انتقل منه إلى طواف الزيارة ما يكمله ثم ينظر إلى الباقي من طواف الصدر إن كان أقله لزمه صدقة، وإلا فدم، ولو كان طاف للصدر في آخر أيام التشريق, وقد ترك من طواف الزيارة أكثره كمله من الصدر, ولزمه دمان في قول أبي حنيفة دم لتأخيره ذلك ودم آخر لترك أكثر الصدر, وإن ترك أقله لزمه للتأخير دم وصدقة للمتروك من الصدر مع ذلك الدم وجملته كما ذكره الحاكم الشهيد في الكافي أن عليه في ترك الأقل من طواف الزيارة دما, وفي تأخير الأقل صدقة، وفي ترك الأكثر من طواف الصدر دم, وفي ترك أقله صدقة.
وفي فتح القدير: ومبنى هذا النقل ما تقدم من أن طواف الزيارة ركن عبادة, والنية ليست شرطا لكل ركن إلا ما يستقل عبادة بنفسه فشرط نية أصل الطواف دون التعيين فلو طاف في وقته ينوي النذر أو النفل وقع عنه كما لو نوى بالسجدة من الظهر النفل لغت ووقعت عن الركن, وإن توالي الأشواط ليس بشرط لصحة الطواف كمن خرج من الطواف لتجديد وضوء ثم رجع بنى.
"قوله: أو ترك أكثر الصدر أو طافه جنبا وصدقة بترك أقله"أي يجب الدم, ولما كان طواف الصدر واجبا وجب بترك كله أو أكثره دم وبترك أقله صدقة لكل شوط نصف صاع من بر تفرقة بين الأكثر والأقل بخلاف الأقل من طواف الزيارة والعمرة حيث يجب دم بتركه; لأنه طواف ركن فكان أقوى من الواجب, وقد قدمنا حكم ما إذا طاف للصدر جنبا لكن في عبارته قصور حيث لم يبين حكم طواف القدوم جنبا. وعبارة المجمع أولى, وهي وإن طاف للقدوم أو للصدر محدثا وجبت صدقة وجنبا دم فأفاد أنه لا فرق بينهما في الحدثين. وأشار بالترك إلى أنه لو أتى بما تركه فإنه لا يلزمه شيء مطلقا; لأنه ليس بمؤقت.
وفي الهداية ويؤمر بالإعادة ما دام بمكة إقامة للواجب في وقته.

 

ج / 3 ص -31-         أو طاف للركن محدثا، وللصدر طاهرا في آخر أيام التشريق، ودمان لو طاف للركن جنبا، أو طاف لعمرته وسعى محدثا ولم يعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: أو طاف للركن محدثا وللصدر طاهرا في آخر أيام التشريق ودمان لو طاف للركن جنبا"أي تجب شاة في الأولى وشاتان في الثانية أما في الأولى فهي بسبب الحدث, ولم ينقل طواف الصدر إلى الزيارة; لأنه لا فائدة في النقل; لأنه لو نقل يجب عليه الدم لترك طواف الصدر إجماعا إن كان رجع إلى أهله سواء طاف للصدر في أيام النحر أو لا, قيد بقوله في آخر أيام التشريق; لأنه لو طاف للصدر في أيام النحر, ولم يرجع إلى أهله فإنه ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة; لأن في النقل فائدة, وهو سقوط الدم لأجل الحدث ثم يطوف للصدر, ولا شيء عليه بخلاف ما إذا طاف للصدر في آخر أيام التشريق, ولم يرجع إلى أهله حيث لا ينقل عند أبي حنيفة; لأنه لا فائدة في النقل لوجوب دم بالتأخير على تقديره خلافا لهما. وأما في الثانية فلأن في النقل فائدة, وهي سقوط البدنة فيجب دم لتأخيره عن أيام النحر عنده ودم لترك طواف الصدر إن رجع إلى أهله, وإن كان بمكة فإنه يطوف للصدر، ولا يلزمه إلا دم واحد للتأخير فإن كان طاف للصدر في أيام النحر فإنه ينقل إلى طواف الزيارة ثم يطوف للصدر, ولا شيء عليه أصلا, قيد بكون الطواف الثاني للصدر; لأنه لو أعاده بعد أيام النحر فإن كان في الحدث الأصغر لا يلزمه شيء; لأن بعد الإعادة لا يبقى إلا شبهة النقصان, وفي الحدث الأكبر يلزمه دم عند أبي حنيفة للتأخيركذا في الهداية وتعقبه في غاية البيان بأنه سهو; لأن الرواية مسطورة في شرح الطحاوي أنه يلزمه الدم إذا أعاده بعد أيام النحر للتأخير سواء كان بسبب الحدث أو الجناية. اهـ. وهكذا في المحيط سوى بين الحدثين, وهذا قصور نظر من صاحب الغاية; لأن في المسألة ثلاث روايات فما في الهداية رواية عن أبي حنيفة ذكرها الإمام الولوالجي في فتاويه وصدر بها واعتمدها، وما في شرح الطحاوي والمحيط رواية ثانية وذكر الولوالجي أيضا رواية ثالثة عن أبي حنيفة أن عليه الصدقة في الحدث الأصغر ووجهها بأنه أخر الجبر عن وقت الطواف فيبقى نوع نقص لكن نقصان التأخير دون نقصان ترك القضاء, والواجب بترك القضاء هو الدم فكان الواجب بتأخير القضاء هو الصدقة اهـ.
"قوله: أو طاف لعمرته وسعى محدثا, ولم يعد"أي تجب شاة لتركه الواجب، وهو الطهارة قيد بقوله, ولم يعد; لأنه لو أعاد الطواف طاهرا فإنه لا يلزمه شيء لارتفاع النقصان بالإعادة, ولا يؤمر بالعود إذا رجع إلى أهله لوقوع التحلل بأداء الركن مع الحلق, والنقصان يسير, وما دام بمكة يعيد الطواف; لأنه الأصل, والأفضل أن يعيد السعي لأنه تبع للطواف, وإن لم يعده فلا شيء عليه, وهو الصحيح; لأن الطهارة ليست بشرط في السعي, وقد وقع عقب طواف معتد به, وإعادته لجبر

 

ج / 3 ص -32-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النقصان كوجوب الدم لا لانفساخ الأول.
ولو قال المصنف: محدثا أو جنبا لكان أولى; لأنه لا فرق بين الحدثين في طواف العمرة كما في المحيط وغيره والقياس أنه لا يكتفي بالشاة فيما إذا طاف لعمرته جنبا; لأن حكم الجنابة أغلظ من الحدث كما في طواف الزيارة لكن اكتفى بها استحسانا; لأن طواف الزيارة فوق طواف العمرة, وإيجاب أغلظ الدماء, وهو البدنة في طواف الزيارة كان لمعنيين وكادة الطواف وغلظ أمر الجنابة فإذا وجد أحد المعنيين دون الثاني تعذر إيجاب أغلظ الدماء فاقتصرنا على الشاة كذا في غاية البيان.
وفي المحيط: ولو طاف القارن طوافين وسعى سعيين محدثا أعاد طواف العمرة قبل يوم النحر، ولا شيء عليه للجبر بجنسه في وقته فإن لم يعد حتى طلع فجر يوم النحر لزمه دم لطواف العمرة محدثا, وقد فات وقت القضاء ويرمل في طواف الزيارة يوم النحر ويسعى بعده استحبابا ليحصل الرمل والسعي عقب طواف كامل، وإن لم يعد فلا شيء عليه; لأنه سعى عقب طواف معتد به إذ الحدث الأصغر لا يمنع الاعتداد، وفي الجنابة إن لم يعد فعليه دم للسعي, وكذا الحائض. اهـ.
فالحاصل أن قولهم: إن المعتمر يعيد الطواف محله ما إذا لم يكن قارنا أما في القارن إذا دخل يوم النحر فلا إعادة, وعلل له محمد كما نقله ابن بدار في شرح الجامع الصغير بأنه لو أعاده لانتقضت عمرته; لأنه يصير رافضا لها بالوقوف, وقد تأكدت فلا يمكن استدراك النقص بجنسه فيجبر بالدم قال ابن سماعة فقلت لمحمد: إنك قلت في الأصل إن القارن لو طاف لها أربعة أشواط وسعى, ولم يطف لحجته حتى وقف إنه يتم طواف العمرة يوم النحر, ولا شيء عليه فقد أوجبت الإتمام, وما أوجبت الدم قال محمد; لأن هناك قدم شيئا على شيء, وهنا الفساد وجد في جميع الطواف فإن لم نجوز, وأبطلنا طوافه لرفضنا عمرته بمنزلة من لم يطف.اهـ.
وقيد بكون طواف العمرة كله محدثا, والأكثر كالكل; لأنه لو طاف أقله محدثا وجب عليه لكل شوط نصف صاع من حنطة إلا إذا بلغت قيمته دما فينقص منه ما شاء, ولو طاف أقله جنبا وجب عليه دم وتجب الإعادة في الحدثين كما في الظهيرية وينبغي أن يكون هذا على الضعيف أما على الصحيح من أن الإعادة فيما إذا طاف للركن محدثا إنما هي مستحبة ففي طواف العمرة أولى, ولم يذكر المصنف حكم ما إذا ترك الأقل من طواف العمرة وصرح في الظهيرية بلزوم

 

ج / 3 ص -33-         أو ترك السعي، أو أفاض من عرفات قبل الإمام، أو ترك الوقوف بمزدلفة، أو رمى الجمار كلها أو رمى يوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدم، ولهذا لو طاف للعمرة في جوف الحجر, ولم يعد حتى رجع إلى أهله لزمه; لأنه ترك من الطواف ربعه; لأن الحجر ربع البيت, وإذا كان ذلك في طواف العمرة ففي طواف الفرض أولى, وأما في الطواف الواجب إذا دخل في جوف الحجر فإنه ينبغي أن تجب فيه الصدقة كذا ذكر الشارح, ولا ينبغي التعبير بينبغي; لأن المصنف في المختصر قد صرح بلزوم الصدقة بترك الأقل من طواف الصدر وينبغي أن لا فرق بين الطواف الواجب والتطوع في لزوم الصدقة لما أن الطواف وراء الحطيم واجب في كل طواف.
"قوله: أو ترك السعي أو أفاض من عرفات قبل الإمام أو ترك الوقوف بمزدلفة أو رمي الجمار كلها أو رمي يوم": أي تجب شاة بترك واجب من واجبات الحج, وقد ذكرناها كلها في أول الكتاب أراد بالترك الترك لغير عذر أما إذا ترك واجبا لعذر فإنه لا شيء عليه كما صرح به في البدائع في ترك السعي أنه إن تركه لعذر فلا شيء عليه, وإن بغير عذر لزمه دم; لأن هذا حكم ترك الوجوب في هذا الباب أصله طواف الصدر حيث سقط عن الحائض بالحديث وصرح في الهداية بأن في ترك الوقوف بمزدلفة بغير عذر دما لا لعذر وصرح الولوالجي في فتاويه بأنه لو سعى راكبا من غير عذر لزمه دم إن لم يعده; لأن المشي واجب وترك الواجب من غير عذر يوجب الدم، ولو أعاده بعد ما حل وجامع لم يلزمه دم; لأن السعي غير مؤقت في نفسه إنما الشرط أن يأتي به بعد الطواف, وقد وجد.اهـ. وكذا لو أتى به بعد ما رجع إلى أهله، وعاد إلى مكة لكنه يعود بإحرام جديد كذا ذكره الإسبيجابي, وقيد بتركه كله; لأنه لو ترك ثلاثة أشواط أطعم لكل شوط نصف صاع إلا أن يبلغ دما فينقص منه ما شاء وترك أكثره كترك كله, وقد قدمنا أن من الواجبات في السعي الابتداء بالصفا فلو بدأ بالمروة لزمه دم.
وأراد بالإفاضة قبل الإمام الدفع من عرفات قبل غروب الشمس سواء كان مع الإمام أو وحده وسواء كان الإمام أو غيره لما أن استدامة الوقوف إلى غروب الشمس واجبة حتى لو أبطأ الإمام بالدفع يجوز للناس الدفع قبله, وهذا الواجب إنما هو في حق من وقف نهارا أما إن وقف ليلا فلا شيء عليه اتفاقا; لأن الجزء الأول من وقوفه اعتبر ركنا والجزء الثاني اعتبر واجبا كذا في غاية البيان فإن دفع قبل الغروب ثم عاد إن عاد بعد الغروب ففيه روايتان ظاهر الرواية عدم السقوط والصحيح السقوط; لأنه استدرك المتروك كذا في غاية البيان.

 

ج / 3 ص -34-         أو أخر الحلق، أوطواف الركن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن عاد قبل الغروب ففيه اختلاف. والقول بالسقوط أظهر خصوصا على التصحيح السابق بل أولى. وقد قدمنا أن وقت الوقوف بمزدلفة من طلوع الفجر وآخره طلوع الشمس فالوقوف في غير وقته كتركه, وإنما وجب دم واحد بترك الجمار في الأيام كلها; لأن الجنس متحد كما في الحلق, والترك إنما يتحقق بغروب الشمس من آخر أيام الرمي, وهو الرابع; لأنه لم يعرف قربة إلا فيها, وما دامت الأيام باقية فالإعادة ممكنة فيرميها على التأليف ثم بتأخيرها يجب الدم عند أبي حنيفة خلافا لهما، وإن ترك رمي يوم فعليه دم, ولو يوم النحر; لأنه نسك تام. قيد برمي يوم; لأنه لو ترك إحدى الجمار الثلاث فعليه صدقة; لأن الكل نسك واحد في يوم فكان المتروك أقل فيلزمه لكل حصاة نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو صاع من شعير إلا أن يبلغ دما فينقص ما شاء إلا أن يكون المتروك أكثر من النصف بأن يترك أحد عشر من أحد وعشرين فحينئذ يلزمه الدم; لأن للأكثر حكم الكل وذكر الإسبيجابي أنه إن أخر رمي جمرة العقبة إلى اليوم الثاني لزمه دم, وإن أخر رميها في اليوم الثاني إلى الثالث أو في اليوم الثالث إلى الرابع ورمي الجمرتين لزمه صدقة; لأنها في اليوم الأول كل الرمي في ذلك اليوم, وفي غيره ثلث الرمي فيكون مؤخرا للأقل, ولو لم يرم الجمرتين لزمه دم لتأخير الأكثر وعندهما لا شيء عليه للتأخير أصلا.
"قوله: أو أخر الحلق أو طواف الركن"أي تجب شاة بتأخير النسك عن زمانه فإن الحلق وطواف الزيارة مؤقتان بأيام النحر فإذا أخرهما عن أيام النحر ترك واجبا فيلزمه دم, وكذا بتأخير الرمي عن وقته كما قدمناه، وهذا عند أبي حنيفة وعندهما لا شيء عليه لحديث الصحيحين: لم أشعر حلقت قبل أن أذبح قال
"افعل ولا حرج", وقال آخر نحرت قبل أن أرمي قال افعل ولا حرج فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم أو أخر إلا قال "افعل ولا حرج". وله أن التأخير عن المكان يوجب الدم فيما إذا جاوز الميقات غير محرم فكذا التأخير عن الزمان قياسا والجامع كون التأخير نقصانا والمراد بالحرج المنفي الإثم بدليل أنه قال: لم أشعر فعذرهم لعدم العلم بالمناسك قبل ذلك، وقوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم" يفيد الوجوب, وعلى هذا الاختلاف إذا قدم نسكا على نسك.
قال: في معراج الدراية: اعلم أن ما يفعل في أيام النحر أربعة أشياء الرمي والنحر والحلق

 

ج / 3 ص -35-         أو حلق في الحل، ودمان لو حلق القارن قبل الذبح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والطواف, وهذا الترتيب واجب عند أبي حنيفة ومالك وأحمد.اهـ. لأثر ابن مسعود أو ابن عباس من قدم نسكا على نسك لزمه دم وظاهره أنه إذا قدم الطواف على الحلق يلزمه دم عنده, وقد نص في المعراج في مسألة حلق القارن قبل الذبح أنه إذا قدم الطواف على الحلق لا يلزمه شيء.
فالحاصل أنه إن حلق قبل الرمي لزمه دم مطلقا, وإن ذبح قبل الرمي لزمه دم إن كان قارنا أو متمتعا لا إن كان مفردا; لأن أفعاله ثلاثة الرمي والحلق والطواف, وأما ذبحه فليس بواجب فلا يضره تقديمه وتأخيره وعندهما لا يلزمه شيء بتقديم نسك على نسك للحديث السابق إلا أنه مسيء نص عليه في المبسوط قيد بحلق الحج وطوافه; لأن حلق العمرة وطوافها ليسا بمؤقتين بالزمان فلا يلزمه بتأخيرهما شيء، وكذا طواف الصدر, وقيد بالطواف; لأنه لا يلزمه بتأخير السعي شيء لعدم توقيته بزمان.
"قوله: أو حلق في الحل"أي تجب شاة بتأخير النسك عن مكانه كما إذا خرج من الحرم وحلق رأسه سواء كان الحلق للحج أو للعمرة عند أبي حنيفة ومحمد, وقال أبو يوسف لا شيء عليه; لأن النبي عليه السلام, وأصحابه أحصروا بالحديبية وحلقوا في غير الحرم, ولهما القياس على الذبح وبعض الحديبية من الحرم فلعلهم حلقوا فيه مع أن المحصر لا حلق عليه, وإن فعل فحسن كما في المحيط وغيره, وقوله عليه السلام
"خذوا عني مناسككم" فالحاصل أن الحلق يتوقت بالمكان والزمان عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف لا يتوقت بهما, وعند محمد يتوقت بالمكان دون الزمان, وعند زفر على عكسه, وهذا الخلاف في التوقيت في حق التضمين بالدم أما لا يتوقت في حق التحلل بالاتفاق.
"قوله: ودمان لو حلق القارن قبل الذبح"أي يجب دمان عند أبي حنيفة بتقديم القارن أو المتمتع الحلق على الذبح وعندهما يلزمه دم واح، وقد نص ضابط المذهب محمد بن الحسن في الجامع الصغير على أن أحد الدمين دم القران والآخر لتأخير النسك عن وقته, وأن عندهما يلزم دم القران فقط لكن وقع لكثير من المشايخ اشتباه بسبب ذكر الدمين في باب الجناية فإن الظاهر من العبارات أن الدمين لأجل الجناية، وإلا كان ذكر الدم الواحد كافيا للعلم بدم القران من بابه, ومنهم صاحب الهداية فإنه قال: فعليه دمان عند أبي حنيفة دم بالحلق في غير أوانه; لأن أوانه بعد الذبح ودم لتأخير الذبح عن الحلق وعندهما يجب دم واحد, وهو الأول, ولا يجب

 

ج / 3 ص -36-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسبب التأخير شيء.اهـ، فجعل الدمين للجناية فنسبه في غاية البيان إلى التخبيط، وإلى التناقض فإنه جعل في باب القران أحدهما للشكر والآخر للجناية ونسبه في فتح القدير إلى أنه سهو من القلم؛ لأنه لو وجب ذلك لزم في كل تقديم نسك على نسك دمان; لأنه لا ينفك عن الأمرين, ولا قائل به. ولوجب في حلق القارن قبل الذبح ثلاثة دماء في تفريع من يقول: إن إحرام عمرته انتهى بالوقوف, وفي تفريع من لا يراه كما قدمناه خمسة دماء; لأنه جناية على إحرامين والتقديم والتأخير جنايتان ففيهما أربعة دماء ودم القران.اهـ. وهكذا في النهاية والعناية, ولم أر جوابا عنه وظهر لي أنه لا تخبيط, ولا سهو من صاحب الهداية لما أن في المسألة اختلافا فما في الهداية مبني على قول بعضهم أنه يلزمه دم بالحلق في غير أوانه إجماعا كما صرح به في معراج الدراية وغيرها ويجب دم القران إجماعا ووقع الاختلاف بينهم في الدم الثالث فهاهنا مشى على هذا القول, وأما قوله قريبا: وقالا لا شيء عليه في الوجهين, وذكر منه ما إذا حلق قبل الذبح فهو بناء على أصل الرواية المنقولة في الجامع الصغير عنهما أو معناه لا شيء عليه عندهما بسبب التأخير, وأما بسبب الجناية فيقولان بوجوب الدم وبهذا اندفع ما في العناية, وأما التناقض الذي ذكره صاحب الغاية فممنوع; لأن ما ذكره في باب القران من لزوم دم واحد لو حلق قبل الذبح فإنما هو لمن عجز عن الهدي كما هو صورة المسألة فلم يكن جانيا بالحلق في غير أوانه; لأن الشارع أباح له التحلل بالحلق, وإنما قدم نسكا على نسك فقط فلزمه دم, وأما ما ذكره هنا من لزوم دمين لو حلق قبل الذبح فإنما هو لكونه جناية؛ لأن الحلق لا يحل له قبل الذبح لقدرته عليه فكان جانيا مؤخرا فلزمه دمان, وأما إلزام أن ذلك يوجب دمين فيما إذا قدم نسكا على نسك; لأنه لا ينفك عن الأمرين, ولم يقل به أبو حنيفة فممنوع أيضا; لأن الحلق قبل الذبح لا يحل فكان جناية على الإحرام بخلاف الذبح قبل الرمي فإنه ليس بجناية; لأنه مباح مشروع في نفسه, وإنما لم يكن نسكا كاملا إذا قدمه فكيف يوجب دما, وليس بجناية, وإنما يجب دم واحد باعتبار التقديم وبهذا يعلم أنه لو حلق قبل الرمي فهو كما لو حلق قبل الذبح بالأولى. وأما قوله: لوجب ثلاثة دماء فنلتزمه; لأنه على هذا القول يلزمه ثلاثة دماء دمان للجناية ودم القران، وأما لزوم خمسة دماء فممنوع على كل قول؛ لأن جناية القارن إنما تكون مضمونة بدمين فيما على المفرد فيه دم والمفرد لو حلق قبل الذبح لا يلزمه شيء فلا يتضاعف الغرم على القارن هكذا أجاب في العناية, وأجاب في غاية البيان بأن التضاعف على القارن إنما يكون فيما إذا أدخل نقصا في إحرام عمرته أما فيما لا يوجب نقصا فيه فلا يجب إلا دم واحد كما قدمناه فإنه قد أتى بركنها وواجبها ولهذا إذا أفاض القارن قبل الإمام أو طاف للزيارة جنبا أو محدثا لا يلزمه إلا

 

ج / 3 ص -37-         فصل
إن قتل محم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه الجزاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دم واحد; لأنه لا تعلق للعمرة بالوقوف وطواف الزيارة, وعلى تقدير أن يكون جناية القارن مضمونة بدمين مطلقا فإنه يلزمه أربعة دماء لا خمسة؛ لأن حلقه قبل أوانه جناية توجب دمين وتقديم النسك على النسك يوجب دما واحدا ودم القران, ولا يمكن أن يتعدد دم القران, ولا يمكن أن يتعدد دم التقديم باعتبار أنه جناية; لأن الجناية على الحلق قبل أوانه, وقد وجب فيها دمان فلا يجب شيء آخر هذا ما ظهر لي في توجيه كلام الهداية لكن المذهب خلافه كما قدمناه، والله أعلم.
فصل
إن قتل محرم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه الجزاء
لقوله تعالى:
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}،[ المائدة: 95] الآية, ولحديث أبي قتادة السابق الدال على تحريم الإشارة والأمر فألحقت بالقتل استحسانا باعتبار تفويت الأمن وارتكاب محظور إحرامه, وليس زيادة على الكتاب بخبر الواحد; لأن الكتاب إنما نص على القتل, وتخصيص الشيء بالذكر لا ينفي الحكم عما عداه, وحقيقة الصيد حيوان ممتنع متوحش بأصل الخلقة سواء كان بقوائمه أو بجناحه فدخل الظبي المستأنس, وإن كانت ذكاته بالذبح وخرج البعير والشاة إذا استوحشا, وإن كانت ذكاتهما بالعقر; لأن المنظور إليه في الصيدية أصل الخلقة وفي الذكاة الإمكان وعدمه, وخرج الكلب والنسور مطلقا أهليا كان أو وحشيا, وإنما لم يذكر المصنف تعريفه; لأنه علم من إباحته بعد ذلك الشاة والبقر, وما عطف عليه فعلم أن الصيد هو ما ذكر ثم هو على نوعين بري وبحري فالبري ما يكون توالده في البر, ولا عبرة بالمثوى أي المكان, والمائي ما يكون توالده في الماء, ولو كان مثواه في البر; لأن التوالد أصل والكينونة بعده عارض فكلب الماء والضفدع مائي, وأطلق قاضي خان في الضفدع, وقيده في فتح القدير بالمائي لإخراج الضفدع البري قال: ومثله السرطان والتمساح والسلحفاة والمائي حلال للمحرم والبري حرام عليه للآية: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}، [المائدة:96], وهو بعمومه متناول لما يؤكل منه, وما لا يؤكل فيجوز للمحرم اصطياد الكل، وهو الصحيح كما في المحيط والبدائع وغيرهما, وبه يظهر ضعف ما في مناسك الكرماني من أنه لا يحل إلا ما يؤكل, وهو السمك خاصة فالمراد بالصيد في المختصر صيد البر إلا ما يستثنيه بعد ذلك من الذئب والغراب والحدأة وبقية السباع.

 

ج / 3 ص -38-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما الذئب والغراب والحدأة فلا شيء في قتلها أصلا, وأما بقية السباع ففيها تفصيل نذكره, وليس هذا الحكم المذكور هنا يشملها, وأما بقية الفواسق فليست بصيود فلا حاجة إلى استثنائها, وأطلق في الصيد فشمل ما يؤكل, وما لا يؤكل حتى الخنزير كما في المحيط, وفيه طير البحر لا يحل قتله؛ لأن مبيضه, ومفرخه في الماء ويعيش في البر والبحر فكان صيد البر من وجه فلا يجوز للمحرم. وشمل الصيد المملوك وغيره فإذا قتل المحرم صيدا مملوكا لزمه قيمتان قيمة لمالكه وجزاؤه حقا لله تعالى كذا ذكره في المحيط في مسألة الهبة.
وأطلق في القتل فشمل ما إذا كان عن اضطرار أو اختيار كما سياتي وشمل ما إذا كان مباشرة أو بتسبب لكن في المباشرة لا يشترط التعدي فلو انقلب نائم على صيد فقتله يجب عليه الجزاء كما في المحيط وغيره, وأما التسبب فلا بد من التعدي فلو نصب شبكة للصيد أو حفر بئرا للصيد فعطب ضمن; لأنه متعد, ولو نصب فسطاطا لنفسه فتعقل به فمات أو حفر حفيرة للماء أو لحيوان مباح قتله كالذئب فعطب فيها لا شيء عليه, وكذا لو أرسل كلبه إلى حيوان مباح فأخذ ما يحرم أو أرسل إلى صيد في الحل, وهو حلال فجاوز إلى الحرم فقتل صيدا لا شيء عليه; لأنه غير متعد في السبب بخلاف ما لو رمى إلى فهد في الحل فأصابه في الحرم عليه الجزاء; لأنه مباشرة, ولا يشترط فيها التعدي حتى لو رمى إلى صيد فتعدى إلى آخر فقتلهما ضمن قيمتهما. وكذا لو ضرب بالسهم فوقع على بيض أو فرخ فأتلفهما ضمنهما, وعلى هذا فما في المحيط من أن أربعة نزلوا بيتا بمكة ثم خرجوا إلى منى فأمروا أحدهم أن يغلق الباب, وفيه حمام وغيرها فلما رجعوا وجدوها ماتت عطشا فعلى كل واحد منهم جزاؤها; لأن الآمرين جمع آمر تسببوا بالأمر, والمغلق بالإغلاق. انتهى. محمول على ما إذا علموا بالطيور في البيت; لأنه لا يكون تعديا إلا به, وإلا فلا شيء عليهم لفقد شرط التسبب, وأراد بالدلالة الإعانة على قتله سواء كانت دلالة حقيقية بالإعلام بمكانه, وهو غائب أو لا وشرطوا في وجوب الجزاء على الدال المحرم خمسة شروط وإن كان آثما مطلقا أن يتصل القتل بدلالته فلا شيء على الدال لو لم يقتل المدلول, وأن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد, وأن يصدقه في الدلالة, وأن يبقى الدال محرما إلى أن يقتله المدلول, وأن لا ينفلت الصيد; لأنه إذا انفلت صار كأنه جرحه ثم اندمل فتفرع على الشرط الثالث ما في المحيط لو أخبر المحرم بالصيد فلم يره حتى أخبره محرم آخر فإن كذب الأول لم يكن عليه جزاء, وإن لم يكذبه, ولم يصدقه فعلى كل واحد منهما جزاء كامل; لأنه بخبر الأول

 

ج / 3 ص -39-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقع العلم بمكان الصيد غالبا وبالثاني استفاد علم اليقين فكان لكل واحد منهما دلالة على الصيد, وإن أرسل محرم إلى محرم فقال: إن فلانا يقول لك أن في هذا الموضع صيدا فذهب فقتله فعلى الرسول والمرسل والقاتل الجزاء; لأن الدلالة وجدت منهما وظهر بالشرط الثاني ضعف ما في المحيط معزيا إلى المنتقى من أنه لو قال: خذ أحد هذين, وهو يراهما فقتلهما كان على الدال جزاء واحد, وإن كان لا يراهما فعليه جزاءان.اهـ. لأنه إذا كان يراهما كان عالما بمكانهما, وقد شرط وأعدم العلم بمكانه ولهذا لم يذكروا هنا الإشارة كما ذكروها في باب الإحرام; لأنها خاصة بالحاضر وشرط وجوب الجزاء عدم العلم بالمكان.
فالحاصل: أن الإشارة والدلالة سواء في منع المحرم منهما لكن الدلالة موجبة للجزاء بشروطها والإشارة لا توجب الجزاء اللهم إلا أن يقال: إن الأمر بالأخذ ليس من قبيل الدلالة فيوجب الجزاء مطلقا ويدل عليه ما في فتح القدير وغيره لو أمر المحرم غيره بأخذ صيد فأمر المأمور آخر فالجزاء على الآمر الثاني; لأنه لم يمتثل أمر الأول; لأنه لم يأتمر بالأمر بخلاف ما لو دل الأول على الصيد, وأمره فأمر الثاني ثالثا بالقتل حيث يجب الجزاء على الثلاثة, وكذا الإرسال كما ذكرناه آنفا فقد فرقوا بين الأمر المجرد والأمر مع الدلالة. ودخل تحت الإعانة ما ذكره في المحيط محرم رأى صيدا في موضع لا يقدر عليه فدله محرم آخر على الطريق إليه أو رأى صيدا دخل غارا فلم يعرف باب الغار فدله محرم آخر على بابه فذهب إليه فقتله فعلى الدال الجزاء أيضا; لأنه حين دله على الطريق والباب كأنه دله على الصيد, وكذلك محرم رأى صيدا في موضع لا يقدر عليه إلا أن يرميه بشيء فدله محرم على قوس ونشاب أو دفع ذلك إليه فرماه فقتله فعلى كل واحد جزاء كامل.اهـ. مع أنه في هذه المسائل مشاهد للصيد فعلم أن الدلالة إذا فقد شرط منها لا يمتنع وجوب الجزاء بسبب الإعانة.
واختلفوا في إعارة السكين أو القوس أو النشاب هل هي إعارة موجبة للجزاء على المعير فصريح عبارة الأصل أنه لا جزاء على صاحب السكين, وإن كان مكروها فحمله أكثر المشايخ على ما إذا كان مع القاتل سلاح أما إذا لم يكن معه ما يقتل به فالجزاء واجب; لأن التمكن بإعارته وجزم به في المحيط, وإليه أشار في السير وصحح السرخسي في مبسوطه أنه لا جزاء على المعير على كل حال; لأن الإعارة ليست إتلافا حقيقة, ولا حكما بخلاف الدلالة فإنها إتلاف معنى, والظاهر ما عليه الأكثر من التفصيل لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي

 

ج / 3 ص -40-         وهو قيمة الصيد بتقويم عدلين في مقتله، أو أقرب موضع منه، فيشتري بها هديا وذبحه إن بلغت هديا أو طعاما، وتصدق به كافطرة، أو صام عن طعام كل مسكين يوما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قتادة: "هل أعنتم", ولا شك أن إعارة السكين إعانة عليه.
ثم اعلم أن هذا الجزاء كفارة وبدل عندنا أما كونه كفارة فلوجود سببها، وهو الجناية على الإحرام بارتكاب محظور إحرامه ولهذا قال:
{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95], وأما كونه بدلا فلوجود سببه, وهو إتلاف صيد متقوم ولهذا اعتبرت المماثلة بين المقتول والجزاء ولهذا ذكر المصنف آخر الباب أنه لو اجتمع محرمان في قتل صيد تعدد الجزاء; لأن الواجب كفارة في حق الجاني وجب جزاء على فعله, وفعل كل واحد جناية على حدة بخلاف الحلالين كما سيأتي.
ثم اعلم أيضا أن الجزاء يتعدد بتعدد المقتول إلا إذا قصد به التحلل ورفض إحرامه كما صرح به في الأصل فقال: اصطاد المحرم صيدا كثيرا على قصد الإحلال والرفض لإحرامه فعليه لذلك كله دم; لأنه قاصد إلى تعجيل الإحلال لا إلى الجناية على الإحرام, وتعجيل الإحلال يوجب دما واحدا كما في المحصر كذا في المبسوط, وقد يقال لا يصح القياس لما أن تعجيل الإحلال في المحصر مشروع بخلافه هنا ولهذا كان قصده باطلا, ولا يرتفض به الإحرام فوجوده, وعدمه سواء.
"قوله: وهو قيمة الصيد بتقويم عدلين في مقتله أو أقرب موضع منه فيشتري بها هديا وذبحه إن بلغت هديا أو طعاما وتصدق به كالفطرة أو صام عن طعام كل مسكين يوما": أي الجزاء ما ذكر لقوله تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] أطلق المصنف, ولم يقيد بالعمد كما في الآية; لأنه لا فرق بين الناسي والعامد كإتلاف الأموال; لأن هذا الجزاء ليس كفارة محضة كما قدمنا والتقييد به, وفي الآية لأجل الوعيد المذكور في آخرها لا لوجوب الجزاء; ولأن الآية نزلت في حق من تعدى كما ذكره القاضي البيضاوي. وأشار بذكر القيمة فقط إلى أنها المراد بالمثل في الآية, وهو المثل معنى لا المثل صورة ومعنى, وإنما لم يعمل بالكامل كما قال محمد والشافعي فإنهما أوجبا النظير فيما له نظير; لأن المعهود في الشرع في القيميات المثل معنى فإنه لو أتلف بقرة لإنسان مثلا لا يلزمه بقرة مثلها اتفاقا; لأن المثل معنى مراد بالإجماع فيما لا نظير له, وهو مجاز فلا يراد المعنى الحقيقي, وهو المثل صورة,

 

ج / 3 ص -41-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى لعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذلك في قوله تعالى
{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أريد المثل معنى, وهو القيمة, وأما رد العين فثابت بالسنة أو لما في حملنا على المثل معنى من التعميم لشموله ما له نظير له, وما لا نظير له, وإذا حمل على المثل الكامل كانت الآية قاصرة على ما له نظير, وعلى هذا فكلمة من النعم بيان لما, وهو المقتول لا للمثل والنعم كما يطلق على الأهلي يطلق على الوحشي كما قاله أبو عبيدة والأصمعي, وأراد بقيمة الصيد قيمة لحمه قال: الكرماني في مناسكه يقوم الصيد لحما عندنا, وقال: زفر يجب قيمته بالغة ما بلغت.
وفائدة الخلاف لو قتل بازيا معلما فعندنا تجب قيمته لحما, وعنده تجب قيمته معلما.
وفي الاختيار: وإذا كان المراد من الجزاء القيمة يقوم العدلان اللحم لا الحيوان والمراد أنه يقوم من حيث الذات لا من حيث الصفة; لأنها أمر عارض, ولو كانت الصفة بأمر خلقي كما إذا كان طيرا يصوت فازدادت قيمته لذلك ففي اعتبار ذلك في الجزاء روايتان ورجح في البدائع اعتبارها بخلاف ما إذا أتلف شيئا مملوكا فإن القيمة تعتبر من حيث الذات والصفات إلا إذا كان الوصف لمحرم من اللهو كقيمة الديك لنقاره والكبش لنطاحه فإنها لا تعتبر كالجارية المغنية, وليس مرادهم أنه يقوم لحمه بعد قتله، وإنما يقوم, وهو حي باعتبار ذاته بدليل أن ما لا يؤكل لحمه لا يصح أن يقوم لحمه بعد قتله إذ ليس له قيمة, وإنما يقوم باعتبار جلده, وكونه صيدا حيا ينتفع به, وليس مرادهم إهدار صفة الصيد بالكلية لما أنهم اتفقوا على أنه لو قتل صيدا حسنا مليحا له زيادة قيمة تجب قيمته على تلك الصفة كما لو قتل حمامة مطوقة أو فاختة مطوقة كما صرح به في البدائع. وإنما المراد إهدار ما كان بصنع العباد.
وأراد بالعدل من له معرفة وبصارة بقيمة الصيد لا العدل في باب الشهادة, وقيد بالعدلين; لأن العدل الواحد لا يكفي لظاهر النص وصححه في شرح الدرر.
وفي الهداية قالوا: والواحد يكفي والمثنى أولى; لأنه أحوط, وأبعد من الغلط كما في حقوق العباد, وقيل يعتبر المثنى هاهنا بالنص.اهـ.
وفي فتح القدير والذين لم يوجبوه حملوا العدد في الآية على الأولوية; لأن المقصود زيادة الأحكام والإتقان, والظاهر الوجوب, وقصد الأحكام, والإتقان لا ينافيه بل قد يكون داعيته.اهـ.

 

ج / 3 ص -42-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وينبغي أن يكتفي بالقاتل إذا كان له معرفة بالقيمة, وأن يحمل ذكر الحكمين على الأولوية على قول من يكتفي بالواحد لكنه يتوقف على نقل, ولم أره, وكلمة أو في قوله أو أقرب المواضع للتوزيع لا للتخيير يعني أن الحكمين يقومانه في مكان قتله إن كان يباع فيه, وفي أقرب المواضع إلى مكان قتله كالبرية, ولا بد من اعتبار المكان, ومن اعتبار زمان قتله لاختلاف القيم باختلاف الأمكنة والأزمنة, والضمير في قوله فيشتري راجع إلى القاتل فأفاد أنه بعد تقويم الحكمين الخيار للقاتل بين الأشياء الثلاثة, ولا خيار للحكمين; لأن التخيير شرع رفقا بمن عليه فيكون الخيار إليه كما في كفارة اليمين، وليس في الآية دلالة على اختيارهما؛ لأن قوله أو كفارة أو عدل بالرفع عطفا على جزاء، وليس منصوبا عطفا على هديا فاقتضى أن لا خيار لهما في الإطعام والصيام فلزم أن لا خيار لهما في الهدي لعدم القائل بالفصل كما في العناية أو; لأن
{هَدْياً} [المائدة: 95] حال من ضمير به, وهي حال مقدرة أي صائرا هديا به وذلك في نفس الأمر بواسطة الشراء بها أو بغير ذلك, وكون الحال مقدرة كثير, وهو وإن لم يلزم على تقدير المخالف فيها يلزم على تقديره في وصفها, وهو بالغ الكعبة فإنه لا يصح حكمهما بالهدي موصوفا ببلوغه إلى الكعبة حال حكمهما به على التحقيق بل المراد يحكمان به مقدار بلوغه فلزوم التقدير ثابت غير أنه يختلف محله على الوجهين. ثم على كل تقدير لا دلالة للآية على أن الاختيار للحكمين بل الظاهر منها أنه إلى من عليه فإن مرجع ضمير المحذوف من الخبر أو متعلق المبتدأ إليه أعني ما قررناه من قولنا فالواجب عليه أو فعليه كذا في فتح القدير.
وأشار بقوله
{هَدْياً} إلى أنه لو اختار الهدي لا يذبحه إلا بالحرم لصريح قوله {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] مع أن الهدي ما يهدى من النعم إلى الحرم, وقول الفقهاء لو قال: إن فعلت كذا فثوبي هذا هدي أو إن لبست من غزلك فهو هدي مجاز عن الصدقة بقرينة التقييد بالثوب والغزل. والكلام في مطلق الهدي فلو ذبحه في الحل لا يجزئه عن الهدي بل عن الإطعام فيشترط أن يعطي كل فقير قدر قيمة نصف صاع حنطة أو صاع من غيرها إن كانت قيمة اللحم مثل قيمة المقتول, وإلا فيكمل.
وأشار بقوله إن بلغت هديا إلى أنه إذا وقع الاختيار على الهدي يهدي ما يجزئ في الأضحية حتى لو لم تبلغ قيمة المقتول إلا عناقا أو حملا يقوم بالإطعام أو الصوم لا بالهدي, ولا يتصور التفكير بالهدي إلا أن تبلغ قيمته جذعا عظيما من الضأن أو ثيبا من غيره; لأن مطلق الهدي في الشرع ينصرف إلى ما يبلغ ذلك السن; لأنه المعهود في إطلاق هدي المتعة والقران والأضحية, وإنما يراد به غير ما ذكرنا مجازا بقرينة التقييد كما قدمناه

 

ج / 3 ص -43-         ولو فضل أقل من نصف صاع تصدق به، أو صام يوما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأفاد بقوله ذبحه إلى أن المراد التقرب إلى الله تعالى بالإراقة فلهذا لو سرق بعد الذبح أجزأه, ولو تصدق بالهدي حيا لا يجزئه, وأما التصدق بلحم القربان فواجب عند الإمكان فلو أتلفه بعد الذبح ضمنه فيتصدق بقيمته, ولا ينعدم الإجزاء به, وكذا لو أكل بعضه فإنه يغرم قيمة ما أكل, ويجوز أن يتصدق بجميع اللحم على مسكين واحد, وكذا ما يغرمه من قيمة أكله.
وأطلق في الطعام والصوم فدل على أنهما يجوز إن في الحل والحرم ومتفرقا ومتتابعا لإطلاق النص فيهما, وأشار بقوله كالفطرة إلى أنه يطعم كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير, وليس له أن يطعم واحدا أقل منه, وله أن يطعم أكثر تبرعا حتى لا يحتسب الزيادة من القيمة كي لا ينتقص عدد المساكين هكذا ذكروه هاهنا, وقد حققنا في باب صدقة الفطر أنه يجوز أن يفرق نصف الصاع على مساكين على المذهب, وإن القائل بالمنع الكرخي فينبغي أن يكون كذلك هنا خصوصا، والنص هنا مطلق فيجري على إطلاقه لكن لا يجوز أن يعطي لمسكين واحد كالفطرة; لأن العدد منصوص عليه، وإلى أنه يجوز التصدق على الذمي كالمسلم كما هو الحكم في المشبه به والمسلم أحب، وإلى أنه لا يجوز أن يتصدق بجزاء الصيد على أصله, وإن علا, وفرعه وإن سفل وزوجته وزوجها كما هو الحكم في كل صدقة واجبة كما أسلفناه في باب المصرف, وصرحوا هنا بأنه لا يجوز التصدق بشيء من جزاء الصيد على من لا تقبل شهادته له, وما ذكرناه أولى لكن يرد على المصنف أن الإباحة تكفي في جزاء الصيد في الإطعام كالتمليك كما صرح به الإمام الإسبيجابي, ولا يكفي في الفطرة.
وأشار أيضا بقوله: كالفطرة إلى أن دفع القيمة جائز فيدفع لكل مسكين قيمة نصف صاع من بر, ولا يجوز النقص عنها كما في العين كما صرحوا به في مسألة ذبح الهدي في الحل فإنه يجزئه باعتبار القيمة كما قدمناه.
"قوله: ولو فضل أقل من نصف صاع تصدق به أو صام يوما"; لأن الواجب عليه مراعاة المقدار, وعدد المساكين, وقد عجز عن مراعاة المقدار فسقط, وقدر على مراعاة العدد فلزمه ما قدر عليه بخلاف كفارة اليمين; لأنها مقدرة بإطعام عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع لا يزيد, ولا ينقص أما القيمة هنا تزيد وتنقص فيخير إن شاء تصدق به على مسكين, وإن شاء صام يوما

 

ج / 3 ص -44-         وإن جرحه، أو قطع عضوه، أو نتف شعره، ضمن ما نقص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاملا; لأن الصوم أقل من يوم غير مشروع, وأشار إلى أن الواجب لو كان دون طعام مسكين بأن قتل يربوعا أو عصفورا فهو مخير أيضا، وإلى أنه يجوز الجمع بين الصوم والإطعام بخلاف كفارة اليمين, والفرق أن في كفارة الصيد الصوم أصل كالإطعام حتى يجوز الصوم مع القدرة على الإطعام فجاز الجمع بينهما, وإكمال أحدهما بالآخر, وأما في كفارة اليمين فالصوم بدل عن التفكير بالمال حتى لا يجوز المصير إليه مع القدرة على المال فلا يجوز الجمع بين الأصل والبدل للتنافي وشمل كلامه ما إذا كان هذا الفاضل من جنس ما فعله أولا حتى لو اختار الهدي, وفضل من القيمة ما لا يبلغ هديا فهو مخير في الفضل أيضا، وعلى هذا لو بلغت قيمته هديين إن شاء ذبحهما, وإن شاء تصدق بالطعام, وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما, وإن شاء ذبح أحدهما, وأطعم وصام عما بقي فيجمع بين الأنواع الثلاثة أو يتصدق بالقيمة من الدراهم أو الدنانير وذكر الولوالجي في فتاويه أن المعتبر في الطعام قيمة الصيد، وفي الصوم قيمة الطعام، وهكذا في البدائع.
"قوله: وإن جرحه أو قطع عضوه أو نتف شعره ضمن ما نقص": اعتبارا للبعض بالكل كما في حقوق العباد أفاد بمقابلة الجرح للقتل المتقدم أنه لم يمت من هذا الجرح; لأنه لو مات منه وجب كمال القيمة فإن غاب, ولم يعلم موته, ولا حياته فالقياس أن يضمن النقصان للشك في سبب الكمال كالصيد المملوك إذا جرحه وغاب والاستحسان أن يلزمه جميع القيمة احتياطا كمن أخذ صيدا من الحرم ثم أرسله, ولا يدري أدخل الحرم أم لا فإنه تجب قيمته; لأن جزاء الصيد يسلك به مسلك العبادة من وجه كذا في المحيط. وأطلق في ضمانه النقصان بسبب الجرح فشمل ما إذا برئ منه فإنه لا يسقط الجزاء ببرئه; لأن الجزاء يجب بإتلاف جزء من الصيد بالاندمال لا يتبين أن الإتلاف لم يكن بخلاف ما إذا جرح آدميا فاندملت جراحته فلم يبق لها أثر أنه لا ضمان عليه; لأن الضمان هناك إنما يجب لأجل الشين, وقد ارتفع كذا في البدائع.
وفي المحيط خلافه فإنه قال: وإن برئ منه, ولم يبق له أثر لا يضمن; لأن سبب الضمان قد زال فيزول الضمان كما في الصيد المملوك.اهـ. والظاهر الأول لما تقدم من الفرق بين جزاء الصيد, والصيد المملوك في مسألة ما إذا غاب بعد الجرح, وعلى هذا لو قلع سن ظبي أو نتف ريش صيد فنبت أو ضرب عين صيد فابيضت ثم ذهب البياض فلا شيء عليه عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف عليه صدقة الألم.
وأشار بكون الجراحة جناية مستقلة إلى أنه لو جرح صيدا فكفر ثم قتله كفر أخرى; لأنهما جنايتان, وإلى أنه لو لم يكفر حتى قتله لزمه كفارة بالقتل ونقصان بالجراحة كما في المحيط.

 

ج / 3 ص -45-         وتجب القيمة بنتف ريشه، وقطع قوائمه، وحلبه، وكسر بيضه، وخروج فرخ ميت به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الولوالجية لو جرح صيدا ثم كفر عنه ثم مات أجزأته الكفارة التي أداها; لأنه أدى بعد وجود سبب الوجوب.
وفي المحيط: معزيا إلى الجامع محرم بعمرة جرح صيدا جرحا لا يستهكله ثم أضاف إليها حجة ثم جرحه أيضا فمات من الكل فعليه للعمرة قيمته صحيحا, وقيمته للحج وبه الجرح الأول, ولو حل من العمرة ثم أحرم بالحجة ثم جرحه الثانية فعليه للعمرة قيمته وبه الجرح الثاني وللحج قيمته وبه الجرح الأول, ولو كان حين أحل من العمرة قرن بحجة, وعمرة ثم جرح الصيد فمات ضمن للعمرة القيمة وبه الجرح الثاني وضمن للقران قيمتين وبه الجرح الأول, ولو كان الجرح الأول استهلاكا غرم للإحرام الأول قيمته صحيحا وللقران قيمتين وبه الجرح الأول.اهـ.
وفي مناسك الكرماني: ولو ضرب صيدا فمرض وانتقصت قيمته أو ازدادت ثم مات كان عليه أكثر القيمتين من قيمته وقت الجرح أو وقت الموت.
"قوله: وتجب القيمة بنتف ريشه, وقطع قوائمه وحلبه, وكسر بيضه وخروج فرخ ميت به أما نتف ريشه, وقطع قوائمه فلأنه فوت عليه الأمن بتفويت آلة الامتناع فصار كأنه قتله فلزمه قيمة كاملة, وأما حلبه فلأن اللبن من أجزائه فيكون معتبرا بكله فيجب عليه ضمان ما أتلف, وهو قيمة اللبن, وأما كسر بيضه فلأنه أصل الصيد، وله عرضية أن يصير صيدا فنزل منزلة الصيد احتياطا, وهو مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما فوجب عليه قيمة البيض. وأما إذا خرج فرخ ميت بسبب الكسر فالقياس أن لا يغرم سوى قيمة البيضة; لأن حياة الفرخ غير معلوم. وجه الاستحسان أن البيض معد ليخرج منه الفرخ الحي والكسر قبل أوانه سبب لموته فيحال به عليه احتياطا فتجب قيمته حيا كما صرح به والريش جمع الريشة, وهو الجناح والقوائم الأرجل, وأطلق في كسر بيضه, وقيده في الهداية بأن لا يكون فاسدا; لأنه لو كسر بيضة مذرة لا شيء عليه; لأن ضمانها ليس لذاتها بل لعرضية الصيد, وهو مفقود في الفاسدة, وبهذا انتفى قول الكرماني إذا كسر بيضة نعامة مذرة وجب الجزاء; لأن لقشرها قيمة، وإن كانت غير نعامة لا يجب شيء وذلك; لأن المحرم بالإحرام ليس منهيا عن التعرض للقشر بل للصيد فقط، وليس للمذرة عرضية الصيدية كذا في فتح القدير.
وفي البدائع ولو شوى بيضا أو جرادا فضمنه لا يحرم أكله, ولو أكله أو غيره حلالا كان أو حراما لا يلزمه شيء, وعلل له في المحيط بأنه لا يفتقر إلى الذكاة فلا يصير ميتة ولهذا يباح أكل البيض قبل الشيء, وأفاد بمسألة خروج الفرخ أنه لو ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ميتا فإنه

 

ج / 3 ص -46-         ولا شيء بقتل غراب، وحدأة، وذئب، وحية، وعقرب، وفأرة، وكلب عقور، وبعوض ونمل وبرغوث، وقراد وسلحفاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يضمن قيمته حيا فإن ماتت الأم ضمن قيمتها أيضا بخلاف جنين المرأة إذا خرج ميتا لا يلزم الضارب شيئا; لأنه في حكم النفس في جزاء الصيد احتياطا, وفي حقوق العباد في حكم الجزء; لأن غرامات الأموال لا تبتني على الاحتياط كذا في النهاية, وقيد بقوله به; لأنه لو علم موته بغير الكسر فلا ضمان عليه للفرخ لانعدام الأمانة, ولا للبيض لعدم العرضية, وإذا ضمن الفرخ لا يجب في البيض شيء; لأن ما ضمانه لأجله قد ضمنه.
وأشار بخروج الفرخ إلى أنه لو نفر صيدا عن بيضه ففسد أنه يضمن إحالة للفساد عليه; لأنه السبب الظاهر كما لو أخذ بيضة الصيد فدفنها تحت دجاجة ففسدت, ولو لم تفسد وخرج منها فرخ وطار فلا شيء عليه.
"قوله: ولا شيء بقتل غراب وحدأة, وذئب وحية وعقرب, وفأرة وكلب عقور, وبعوض ونمل وبرغوث, وقراد وسلحفاة"أما الفواسق, وهي السبعة المذكورة هنا فلما في صحيح البخاري:
"خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور" وزاد في سنن أبي داود "الحية والسبع العادي", وفي رواية الطحاوي "الذئب" فلذا ذكر المصنف سبعة, ومعنى الفسق فيهن خبثهن, وكثرة الضرر فيهن, وهو حديث مشهور فلذا خص به الكتاب القطعي كذا في النهاية, وأطلق المصنف في نفي شيء بقتلها فأفاد أنه لا فرق بين أن يكون محرما أو حلالا في الحرم, وأطلق في الغراب فشمل الغراب بأنواعه الثلاثة, وما في الهداية من قوله والمراد بالغراب الذي يأكل الجيف أو يخلط; لأنه يبتدئ بالأذى أما العقعق غير مستثنى; لأنه لا يسمى غرابا, ولا يبتدئ بالأذى ففيه نظر; لأنه دائما يقع على دبر الدابة كما في غاية البيان.
وسوى المصنف بين الذئب والكلب العقور, وهو رواية الكرخي واختارها في الهداية; لأن الذئب يبتدئ بالأذى غالبا والغالب كالمتحق؛ ولأنه ذكر في بعض الروايات, وفرق بينهما الإمام

 

ج / 3 ص -47-         وبقتل قملة وجرادة تصدق بما شاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطحاوي فلم يجعل الذئب من الفواسق, وأطلق في الفأرة فشملت الأهلية والوحشية, وقيد الكلب بالعقور اتباعا للحديث مع أن العقور وغيره سواء أهليا كان أو وحشيا; لأن غير العقور ليس بصيد فلا يجب الجزاء به كما صرح به قاضي خان في فتاويه واختاره في الهداية، وفي السنور البري روايتان.
ثم اعلم أن الكلام إنما هو في وجوب الجزاء بقتله, وأما حل القتل فما لا يؤذي لا يحل قتله فالكلب الأهلي إذا لم يكن مؤذيا لا يحل قتله؛ لأن الأمر بقتل الكلاب نسخ فقيد القتل بوجوب الإيذاء. وأما البعوض, وما كان مثله من هوام الأرض فلأنها ليست بصيود أصلا, وإن كان بعضها يبتدئ بالأذى كالبرغوث, ودخل الزنبور والسرطان والذباب والبق والقنافذ والخنافس والوزغ والحلمة وصياح الليل وابن عرس, وينبغي أن يكون العقرب والفأرة من هذا القسم; لأن حد الصيد لا يوجد فيهما والبعوض من صغار البق الواحدة بعوضة بالهاء واشتقاقها من البعض; لأنها كبعض البقة قال الله تعالى:
{مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} [البقرة: 26] كذا في ضياء الحلوم, وفيه الحدأة بكسر الحاء طائر معروف والجمع الحدأ, وأما الحدأة بفتح الحاء فأس ينقر بها الحجارة لها رأسان.
والذئب بالهمزة معروف وجمعه أذؤب وأذواب وذئاب وذؤبان قيل اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه, وهو من أسماء الرجال أيضا ويصغر ذويب.
والسلحفاة بضم الحاء, وفتح الفاء واحدة السلاحف من خلق الماء, ويقال أيضا سلحفية بالياء والفأرة بالهمز واحدة الفأر وجمعه فيران.
"قوله: وبقتل قملة وجرادة تصدق بما شاء"أما وجوب الصدقة بقتل القملة فلأنها متولدة من التفث الذي على البدن والمحرم ممنوع من إزالته بمنزلة إزالة الشعر حتى لو
قتل ما على الأرض من القمل فإنه لا شيء عليه أو قتلها من بدن غيره فكذلك كما في الظهيرية وغيرها.

 

ج / 3 ص -48-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي المحيط ويكره قتل القملة, وما تصدق به فهو خير منها أطلق في قتل القملة فشمل ما إذا كان مباشرة أو تسببا لكن يشترط في الثاني القصد كما قدمناه فعليه الجزاء لو وضع ثيابه في الشمس ليقتل حر الشمس القمل كالصيد, ولا شيء عليه لو لم يقصد ذلك كما لو غسل ثوبه فمات القمل كذا في غاية البيان, وقد علم من كلامه أن القمل كالصيد فأفاد أن الدلالة موجبة فيها فلو أشار المحرم إلى قملة على بدنه فقتلها الحلال وجب الجزاء, وعلم من التعليل أن إلقاء القملة كالقتل; لأن الموجب إزالتها عن البدن لا خصوص القتل كما صرح به الإسبيجابي وغيره.
وأراد بالقملة القليل منه؛ لأن الكثير منه جزاء قتله صدقة معينة, وهي نصف صاع لا التصدق بما شاء. وظاهر كلام الإسبيجابي أن ما زاد على الثلاث كثير, وكلام قاضي خان أن العشرة فما فوقها كثير واقتصر شراح الهداية على الأول فكان هو المذهب, وأما وجوبها بقتل الجرادة فلأن الجراد من صيد البر فإن الصيد ما لا يمكن أخذه إلا بحيلة ويقصده الآخذ, وقال: عمر رضي الله عنه تمرة خير من جرادة فأوجبها على من قتل جرادة كما رواه مالك في الموطإ وتبعه أصحاب المذاهب. أما ما في سنن أبي داود والترمذي عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة أو غزوة فاستقبلنا رجل من جراد فجعلنا نضربه بأسيافنا, وقسينا فقال: صلى الله عليه وسلم
"كلوه فإنه من صيد البحر" فقد أجاب النووي رحمه الله في شرح المهذب بأن الحفاظ اتفقوا على تضعيفه لضعف أبي المهزم, وهو بضم الميم, وكسر الزاي, وفتح الهاء بينهما, واسمه يزيد بن سفيان, وفي رواية لأبي داود عن أبي رافع عن أبي هريرة قال البيهقي وغيره: ميمون غير معروف. اهـ. فليس هنا حديث ثابت فثبت أنه من صيد البر بإيجاب عمر الجزاء فيه بحضرة الصحابة, وقد روى البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: في الجراد قبضة من طعام, ولم أر من تكلم على الفرق بين الجراد القليل والكثير كالقمل وينبغي أن يكون كالقمل ففي الثلاث وما دونها يتصدق بما شاء, وفي الأربع فأكثر يتصدق بنصف صاع.

 

ج / 3 ص -49-         ولا يجاوز عن شاة بقتل السبع، وإن صال لا شيء بقتله، بخلاف المضطر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي المحيط مملوك أصاب جرادة في إحرامه إن صام يوما فقد زاد, وإن شاء جمعها حتى تصير عدة جرادات فيصوم يوما. اهـ. وينبغي أن يكون القمل كذلك في حق العبد لما علم أن العبد لا يكفر إلا بالصوم ثم أطلق المصنف رحمه الله في الصدقة; لأنه لم يذكر في ظاهر الرواية مقدارها, وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه يطعم في الواحدة كسرة, وفي الاثنين أو الثلاثة قبضة من الطعا، وفي الأكثر نصف صاع كذا ذكره الإسبيجابي.
"قوله: ولا يجاوز عن شاة بقتل السبع, وإن صال لا شيء بقتله بخلاف المضطر"; لأن السبع صيد, وليس هو من الفواسق; لأنه لا يبتدئ بالأذى حتى لو ابتدأ بالأذى كان منها فلا يجب بقتله شيء, وهو معنى قوله صال أي وثب بخلاف الذئب فإنه من الفواسق; لأنه ينتهب الغنم, وأراد بالسبع كل حيوان لا يؤكل لحمه مما ليس من الفواسق السبعة والحشرات سواء كان سبعا أو لا, ولو خنزيرا أو قردا أو فيلا كما في المجمع والسبع اسم لكل مختطف منتهب جارح قاتل عاد عادة فإذا وجب الجزاء بقتله لا يجاوز به شاة; لأن كثرة قيمته إما لما فيه من معنى المحاربة, وهو خارج عن معنى الصيدية أو لما فيه من الإيذاء, وهو لا تقوم له شرعا فبقي اعتبار الجلد واللحم على تقدير كونه مأكولا وذلك لا يزيد على قيمة الشاة غالبا؛ لأن لحم الشاة خير من لحم السبع. وقيد بالسبع; لأن الجمل إذا صال على إنسان فقتله وجب عليه قيمته بالغة ما بلغت والفرق بينهما أن الإذن في مسألة السبع بقتله حاصل من صاحب الحق، وهو الشارع, وأما في مسألة الجمل فلم يحصل الإذن من صاحبه, وأورد عليه العبد إذا صال بالسيف على إنسان فقتله المصول عليه فإنه لا يضمنه مع أنه لا إذن له أيضا من مالكه وأجيب بأن العبد مضمون في الأصل حقا لنفسه بالآدمية لا للمولى؛ لأنه مكلف كسائر المكلفين ألا ترى أنه لو ارتد أو قتل يقتل, وإذا كان مضمونا لنفسه سقط هذا الضمان بمبيح جاء من قبله, وهو المصال به, ومالية المولى فيه وإن كانت متقومة مضمونة له فهي تبع لضمان النفس فيسقط التبع في ضمن سقوط الأصل أطلق في عدم وجوب شيء إذا صال فشمل ما إذا أمكنه دفعه بغير سلاح أو لا, وذكر في المحيط أنه إذا أمكنه دفعه بغير السلاح فقتله فعليه الجزاء.
وقيد قاضي خان السبع بكونه غير مملوك; لأنه لو كان مملوكا وجبت قيمته بالغة ما بلغت يعني عليه قيمتان إذا كان محرما قيمة لمالكه مطلقا, وقيمة لله تعالى لا تجاوز قيمة شاة كما أسلفناه, ومعنى قوله بخلاف المضطر أن المحرم إذا اضطر إلى أكل الصيد للمخمصة فذبحه, وأكله فإنه يجب الجزاء عليه; لأن الإذن مقيد بالكفارة بالنص في قوله تعالى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] الآية, فدل على أن الضرورة لا تسقط الكفارة. وأراد بالشاة

 

ج / 3 ص -50-         وللمحرم ذبح شاة، وبقرة، وبعير، ودجاجة، وبط أهلي، وعليه الجزاء بذبح حمام مسرول، وظبي مستأنس، ولو ذبح المحرم صيدا حرم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنا أدنى ما يجزئ في الهدي والأضحية, وهو الجذع من الضأن.
"قوله: وللمحرم ذبح شاة وبقرة وبعير ودجاجة وبط أهلي"; لأنها ليست بصيود, وعليه إجماع الأمة, وقيد البط بالأهلي, وهو الذي يكون في المساكن والحياض; لأنه ألوف بأصل الخلقة احترازا عن الذي يطير فإنه صيد فيجب الجزاء بقتله قال الشارح فينبغي أن تكون الجواميس على هذا التفصيل فإنه في بلاد السودان وحشي, ولا يعرف منه مستأنس عندهم. اهـ.
وفي المجمع: ولو نزا ظبي على شاة يلحق ولدها بها يعني فلا يجب بقتل الولد جزاء; لأن الأم هي الأصل.
"قوله: وعليه الجزاء بذبح حمام مسرول وظبي مستأنس"لما قدمناه أن العبرة للتوحش بأصل الخلقة, ولا عبرة للعارض والحمام متوحش بأصل الخلقة ممتنع بطيرانه, وإن كان بطيء النهوض, والاستئناس عارض واشتراط ذكاة الاختيار لا يدل على أنه ليس بصيد; لأن ذلك كان للعجز, وقد زال بالقدرة عليه.
وفي المغرب حمام مسرول في رجليه ريش كأنه سراويل, وإنما قيد به مع أن الحكم في الحمام مطلقا كذلك لما أن فيه خلاف مالك وليفهم غيره بالأولى.
"قوله: ولو ذبح محرم صيدا حرم"أي فهو ميتة; لأن الذكاة فعل مشروع, وهذا فعل حرام فلا يكون ذكاة كذبيحة المجوسي فأفاد أنه يحرم على المحرم والحلال, وأشار إلى أن الحلال لو ذبح صيد الحرم فإنه يكون ميتة أيضا كما في غاية البيان، وأطلقه فشمل ما إذا كان المحرم الذابح مضطرا أو لا واختلفت العبارات فيما إذا اضطر المحرم هل يذبح الصيد فيأكله أو يأكل الميتة ففي المبسوط أنه يتناول من الصيد ويؤدي الجزاء, ولا يأكل الميتة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف; لأن حرمة الميتة أغلظ؛ لأن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام أو الحرم فهي مؤقتة به بخلاف حرمة الميتة فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما, والصيد وإن كان محظور الإحرام لكن عند الضرورة ترتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء. اهـ. والمراد بالقتل الذبح.
وفي فتاوى قاضي خان المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى في قول أبي حنيفة ومحمد, وقال أبو يوسف والحسن يذبح الصيد, ولو كان الصيد مذبوحا فالصيد أولى عند الكل, ولو وجد لحم صيد, ولحم آدمي كان ذبح الصيد أولى, ولو وجد صيدا أو كلبا فالكلب أولى;

 

ج / 3 ص -51-         وغرم بأكله، لا محرم آخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن في الصيد ارتكاب المحظورين, وعن محمد الصيد أولى من لحم الخنزير. اهـ. والذي يظهر ترجيح ما في الفتاوى لما أن في أكل الصيد ارتكاب حرمتين الأكل والقتل, وفي أكل الميتة ارتكاب حرمة واحدة, وهي الأكل, وكون الحرمة ترتفع لا يوجب التخفيف ولهذا قال في المجمع: والميتة أولى من الصيد للمضطر ويجيزه له مكفرا.
وذكر في المحيط أن رواية تقديم الميتة رواية المنتقى.
وذكر الشارح أنه لو وجد صيدا حيا, ومال مسلم يأكل الصيد لا مال المسلم; لأن الصيد حرام حقا لله تعالى, والمال حرام حقا للعبد فكان الترجيح لحق العبد لافتقاره.
وفي فتاوى قاضي خان: وعن بعض أصحابنا من وجد طعام الغير لا يباح له الميتة, وهكذا عن ابن سماعة وبشر أن الغضب أولى من الميتة, وبه أخذ الطحاوي, وقال الكرخي هو بالخيار اهـ.
"قوله: وغرم بأكله لا محرم آخر"للفرق بينهما, وهي أن حرمته على الذابح من جهتين كونه ميتة وتناوله محظور إحرامه; لأن إحرامه هو الذي أخرج الصيد عن الحلية والذابح عن الأهلية في حق الذكاة فأضيفت حرمة التناول إلى إحرامه فوجبت عليه قيمة ما أكله، وأما المحرم الآخر فإنما هي حرام عليه من جهة واحدة, وهو كونه ميتة فلم يتناول محظور إحرامه, ولا شيء عليه بأكل الميتة سوى التوبة والاستغفار وبهذا اندفع قولهما بعدم الفرق قياسا على أكل الميتة أطلقه فشمل ما إذا أكل منه قبل أداء الجزاء أو بعده لكن إن كان قبله دخل ضمان ما أكل في ضمان الصيد فلا يجب له شيء بانفراده.
وقيد بأكل المحرم; لأن الحلال لو ذبح صيدا في الحرم فأدى جزاءه ثم أكل منه لا شيء عليه اتفاقا; لأن وجوب الجزاء لفوات الأمن الثابت بالحرم للصيد لا للحمه, وقيد بأكله أي أكل لحمه; لأن مأكول المحرم لو كان بيض صيد بعد ما كسره, وأدى جزاءه لا شيء عليه اتفاقا كما قدمناه عن المحيط; لأن وجوب الجزاء فيه باعتبار أنه أصل الصيد وبعد الكسر انعدم هذا المعنى.
وفي فتح القدير: ويكره بيعه فإن باعه جاز ويجعل ثمنه في الفداء إن شاء، وكذا شجر الحرم واللبن. اهـ. وأشار إلى أن مأكوله لو كان لحم جزاء الصيد فإنه يضمن قيمة ما أكل بالأولى, وهو متفق عليه, وقد قدمناه, وأراد بالأكل الانتفاع بلحمه فشمل ما إذا أطعمه لكلابه فإنه يضمن قيمته.
وفي المحيط: محرم وهب لمحرم صيدا فأكله قال أبو حنيفة على الآكل ثلاثة أجزية:

 

ج / 3 ص -52-         وحل له لحم ما صاده حلال وذبحه، إن لم يدل عليه ولم يأمره بصيده، وبذبح الحلال صيد الحرم قيمة يتصدق بها لا صوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيمة للذبح, وقيمة للأكل المحظور, وقيمة للواهب; لأن الهبة كانت فاسدة, وعلى الواهب قيمته, وقال محمد على الآكل قيمتان قيمة للواهب, وقيمة للذبح, ولا شيء للأكل عنده. اهـ. وهو صريح في لزوم قيمتين على المحرم بقتل الصيد المملوك كما ذكرناه أول الفصل.
"قوله: وحل له لحم ما صاده حلال وذبحه إن لم يدل عليه, ولم يأمره بصيده"لحديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين حين اصطاد, وهو حلال حمارا وحشيا, وأتى به لمن كان محرما من الصحابة فإنهم لما سألوه عليه السلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت موجودة أم لا فقال: عليه السلام
"هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا فقال: "كلوا" إذا فدل على حله للمحرم, ولو صاده الحلال لأجله; لأنه لو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسأل عنه منها قيد بعدم الدلالة والأمر; لأنه لو وجد أحدهما من المحرم للحلال فإنه يحرم على المحرم أكله على ما هو المختار, وفيه روايتان وذكر الطحاوي تحريمه, وقال الجرجاني: لا يحرم وغلطه القدوري واعتمد رواية الطحاوي وظاهر ما في غاية البيان أن الروايتين في حرمة الصيد على الحلال بدلالة المحرم مع أن ظاهر الكتب أن الدلالة من المحرم محرمة عليه للصيد لا على الصائد الحلال.
ثم اعلم أن عطفهم الأمر على الدلالة هنا يفيد أنه غيرها, وهو مؤيد لما قدمناه أول الفصل فراجعه.
"قوله: وبذبح الحلال صيد الحرم قيمة يتصدق بها لا صوم"أي وتجب قيمة بذبح صيد الحرم ويلزمه التصدق بها, ولا يجزئه الصوم; لأن الصيد استحق الأمن بسبب الحرم للحديث الصحيح, ولا ينفر صيدها فأفاد حرمة التنفير فالقتل أولى وانعقد الإجماع على وجوب الجزاء بقتله فيتصدق بقيمته على الفقراء, ولا يجزئه الصوم; لأن الضمان فيه باعتبار المحل, وهو الصيد فصار كغرامة الأموال بخلاف المحرم فإن الضمان ثمة جزاء الفعل لا جزاء المحل, والصوم يصلح له; لأنه كفارة له ولصريح النص
{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95], وإنما اقتصر المصنف على نفي الصوم ليفيد أن الهدي جائز, وهو ظاهر الرواية; لأنه فعل مثل ما جنى; لأن جنايته كانت بالإراقة, وقد أتى بمثل ما فعل, وفي رواية الحسن لا تجزئه الإراقة.

 

ج / 3 ص -53-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا كانت قيمة المذبوح قبل الذبح أقل من قيمة الصيد فعلى ظاهر الرواية تكفيه الإراقة, وعلى رواية الحسن يتصدق بتمام القيمة, وفيما إذا سرق المذبوح فعلى الظاهر لا يجب أن يقيم غيره مقامه, وعلى رواية الحسن تجب الإقامة, وإنما قيد بالحلال ليفيد أن حكم المحرم في صيد الحرم كحكم الحلال بالأولى والقياس أن يلزمه جزاءان لوجود الجناية في الإحرام والحرم, وفي الاستحسان يلزمه جزاء واحد; لأن حرمة الإحرام أقوى لتحريمه القتل في الحل والحرم فاعتبر الأقوى وأضيفت الحرمة إليه عند تعذر الجمع بينهما ولهذا وجب الجزاء به لا لنفسه, وأما شجر الحرم وحشيشه فهما فيه سواء; لأنه ليس من محظورات الإحرام والظاهر أنه قيد احترازي; لأن المحرم تلزمه قيمة يخير فيها بين الهدي والإطعام والصوم كما صرح به في النهاية في صيد المحرم في الحرم.
وقيد بذبح الحلال؛ لأنه لو دل إنسانا على صيد الحرم فإنه لا يلزمه شيء, ولو كان المدلول محرما والفرق بين دلالة المحرم ودلالة الحلال أن المحرم التزم ترك التعرض بالإحرام فلما دل ترك ما التزمه فضمن كالمودع إذا دل السارق على الوديعة, ولا التزام من الحلال فلا ضمان بها كالأجنبي إذا دل السارق على مال إنسان والتحقيق أن الضمان على المحرم جزاء الفعل والدلالة فعل, وعلى الحلال في صيد الحرم جزاء المحل, وفي الدلالة لم يتصل بالمحل شيء, وليس مقصوده تقييد الضمان بالذبح فقط؛ لأنه سيصرح آخر الفصل أن من أخرج ظبية الحرم فإنه يضمنها.
وقال في المحيط: ومن أخرج صيدا من الحرم يرده إلى مأمنه فإن أرسله في الحل ضمنه; لأنه أزال أمنه بالإخراج فما لم يعده إلى مأمنه بإرساله في الحرم لا يبرأ عن الضمان. اهـ.
فعلم أن المراد بالذبح إتلافه حقيقة أو حكما, ولا فرق في الإتلاف بين المباشرة والتسبب بشرط أن يكون التسبب عدوانا كما قدمناه في صيد المحرم ولهذا قال في المحيط هنا: ولو أدخل المحرم بازيا فأرسله فقتل حمام الحرم لم يضمن; لأنه أقام واجبا, وما قصد الاصطياد فلم يكن متعديا في السبب بل كان مأمورا به فلا يضمن. انتهى. فعلم بهذا أن صيد الحرم يضمن بالمباشرة وبالتسبب ووضع اليد حتى لو وضع يده على صيد الحرم فتلف بآفة سماوية فإنه يكون ضامنا كما سيأتي صريحا في الكتاب.
والصيد يضمن على المحرم بهذه الثلاثة أيضا ويزاد عليها رابع, وهو الإعانة على قتله حتى لو أحرم, وفي يده حقيقة صيد فلم يرسله حتى هلك بآفة سماوية لزمه جزاؤه كما صرح به في

 

ج / 3 ص -54-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتح القدير, ولم أر من صرح بحكم جزء صيد الحرم كبيضه ولبنه, ولعله لفهمه من صيد الحرم فإنه لا شك أن الجزء معتبر بالكل فإذا كسر بيض صيد الحرم أو جرحه ضمن ثم رأيت التصريح في المحيط بأن جراحته مضمونة فقال: حلال جرح صيدا في الحرم فزادت قيمته من شعر أو بدن ثم مات من الجراحة فعليه ما نقصته الجراحة, وقيمته يوم مات وتمام تفاريعه فيه, وأطلق المصنف في صيد الحرم فشمل ما إذا كان الصيد في الحرم والصائد في الحل أو عكسه, وقد صرحوا به.
قال في المحيط: ثم الصيد إنما يصير آمنا بثلاثة أشياء بإحرام الصائد وبدخول الصيد الحرم وبدخول الصائد في الحرم, وفي الأخير خلاف زفر ونحن نقول إن الداخل للحرم يحرم عليه الاصطياد مطلقا كما يحرم بالإحرام والعبرة لقوائم الصيد لا لرأسه حتى لو كان بعض قوائمه في الحل ورأسه في الحرم فلا شيء عليه في قتله, ولا يشترط أن تكون جميع قوائمه في الحرم حتى لو كان بعض قوائمه في الحرم وبعضها في الحل وجب الجزاء بقتله لتغليب الحظر على الإباحة ولهذا لو كان الصيد ملقى على الأرض في الحل ورأسه في الحرم وجب الجزاء بقتله; لأنه ليس بقائم في الحل وبعضه في الحرم وبما ذكرنا علم أنه لو رمى إلى صيد من الحل في الحل غير أن ممر السهم في الحرم فإنه لا شيء عليه، وكذلك حكم الكلب والبازي إذا أرسلهما كما صرح به الإسبيجابي, وهل المعتبر حالة الرمي أو الإصابة؟. ففي فتاوى قاضي خان لو رمى صيدا في الحل فنفر الصيد ووقع السهم في الحرم قال محمد عليه الجزاء في قول أبي حنيفة فيما أعلم. اهـ.
وذكر في المبسوط مثله في آخر المناسك وذكر في موضع آخر أنه لا يلزمه الجزاء; لأنه في الرمي غير مرتكب للنهي, ولكن لا يحل تناول ذلك الصيد, وهذه المسألة المستثناة من أصل أبي حنيفة فإن عنده المعتبر حالة الرمي إلا في هذه المسألة خاصة فإنه يعتبر في حل التناول حالة الإصابة احتياطا; لأن الحل يحصل بالذكاة, وإنما يكون ذلك عند الإصابة, وعلى هذا إرسال الكلب. اهـ. وقد اختلف كلامه لكن ذكر في البدائع أنه لا جزاء عليه قياسا، وفي الاستحسان عليه الجزاء فيحمل الاختلاف على القياس والاستحسان, وفي فتاوى الولوالجي لا يجب الجزاء ويكره أكله. اهـ.
وبما ذكرنا علم أن الصيد لو كان على أغصان شجرة متدلية في الحرم, وأصل الشجرة في الحل فإن قتله عليه الجزاء; لأن المعتبر في الصيد مكانه لا أصله, وفي حرمة قطع الشجرة العبرة للأصل لا للأغصان; لأن الأغصان تبع للشجرة, وليس الصيد تبعا لها, وهكذا في المحيط وغيره،

 

ج / 3 ص -55-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وليس المراد من كون الصيد في الحرم أن يكون في أرضه; لأنه لا يشترط الكون في الأرض; لأنه لو كان طائرا في الحرم, وليس في الأرض فإنه من صيد الحرم; لأنه دخله, وقد قال تعالى:
{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97], وهواء الحرم كالحرم, وأما مسألة ما إذا رمى حلال إلى صيد فأحرم ثم أصابه أو عكسه فصرحوا في آخر الجنايات بأن المعتبر وقت الرمي.
ههنا فروع لم أرها صريحا في كلام أئمتنا, وإن أمكن استخراجها منه.
منها لو نفر صيدا فهلك في حال هربه ونفاره وينبغي أن يكون ضامنا, ولا يخرج عن العهدة حتى يسكن, ومنها لو صاح على صيد فمات من صياحه يضمن وينبغي أن يقاس على ما إذا صاح على صبي فمات, ومنها ما لو رمى إلى صيد فنفذ فيه السهم فأصاب صيدا آخر فقتلهما فينبغي أن يلزمه جزاءان; لأن العمد والخطأ في هذا الباب سواء, وهم قد صرحوا به في صيد الحرم ومنها إذا حفر بئرا فهلك فيها صيد الحرم وينبغي أنه إذا كان في ملكه أو موات لا ضمان, وإلا ضمن بناء على أن التسبب يشترط فيه التعدي للماء لا يضمن, وإن كان للاصطياد يضمن. ومنها لو جرح الحلال صيدا في الحل ثم دخل الصيد الحرم فجرحه فمات منها وينبغي أن يلزمه قيمته مجروحا كما تقدم في صيد الحرم, ومنها لو أمسك صيدا في الحل, وله فرخ في الحرم فمات الفرخ وينبغي أن يكون ضامنا للفرخ; لأنه من صيد الحرم, وقد تسبب في موته إن قلنا إن إمساكه. عن فرخه معصية ومنها لو وقف على غصن في الحل، وأصل الشجرة في الحرم ورمى إلى صيد في الحل أو كان الغصن في الحرم والشجرة والصيد في الحل وينبغي أن يكون الواقف على الغصن حكمه كحكم الطائر إذا كان على الغصن فلا ضمان في الأولى وضمن في الثانية. ومنها إذا أدخل شيئا من الجوارح فأتلفت شيئا لا بصنعه وينبغي أنه إن لم يرسله فأتلف ضمن, وأما إذا أرسله فقد قدمنا عن المحيط عدم الضمان, ومنها لو رأى حلال جالس في الحرم صيدا في الحل هل يحل له أن يعدو إليه ليقتله في الحل, وقد قدمنا أن الصيد يصير آمنا بواحد من ثلاثة, وقد يقال لما خرج من الحرم لم يبق واحد من الثلاثة فحل له ويجاب بأن الكلام في حل سعيه في الحرم مع أن المقصود بالسعي أمن.
وفي الفتاوى الظهيرية وغيرها, ومقدار الحرم من قبل المشرق ستة أميال, ومن الجانب الثاني اثنا عشر ميلا, ومن الجانب الثالث ثمانية عشر ميلا, ومن الجانب الرابع أربعة وعشرون ميلا هكذا قال الفقيه أبو جعفر, وهذا شيء لا يعرف قياسا, وإنما يعرف نقلا.

 

ج / 3 ص -56-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الصدر الشهيد: فيما قاله نظر فإن من الجانب الثاني ميقات العمرة, وهو التنعيم, وهذا قريب من ثلاثة أميال. اهـ.
وذكر الإمام النووي في شرح المهذب أن حده من جهة المدينة دون التنعيم على ثلاثة أميال من مكة, ومن طريق اليمن على سبعة أميال من مكة, ومن طريق الطائف على عرفات من بطن نمرة على سبعة أميال, ومن طريق العراق على ثنية جبل بالمقطع على سبعة أميال, ومن طريق الجعرانة في شعب أبي عبد الله بن خالد على تسعة أميال, ومن طريق جدة على عشرة أميال من مكة, وإن عليه علامات منصوبة في جميع جوانبه نصبها إبراهيم الخليل عليه السلام, وكان جبريل يريه مواضعها ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجديدها ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية رضي الله عنهم, وهي إلى الآن بينة, وقد جمعها القاضي أبو الفضل النوبري فقال:

وللحرم التحديد من أرض طيبة               ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه

وسبعة أميال عراق وطائف                     وجدة عشر ثم تسع جعرانة

ومن يمن سبع بتقديم سينها                وقد كملت فاشكر لربك إحسانه

واختلف العلماء في أن مكة مع حرمها هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم عليه السلام أم كانت قبله كذلك, والأصح أنها ما زالت محرمة من حين خلق الله السموات والأرض. اهـ. ثم اعلم أنه ليس للمدينة حرم عندنا فيجوز الاصطياد فيها, وقطع أشجارها, وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرها صريحة في تحريم المدينة كمكة, وأولها أصحابنا بأن المراد بالتحريم التعظيم ويرده ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا تقطع أغصانها, ولا يصاد صيدها" فهو صريح في أن لها حرما كمكة فلا يجوز قطع شجرها, ولا الاصطياد فيها والأحسن الاستدلال بحديث أنس الثابت في الصحيحين أنه كان له أخ صغير يقال له أبو عمير, وكان له نغير يلعب به فمات النغير فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول "يا أبا عمير ما فعل النغير", ولو كان للمدينة حرم لكان إرساله واجبا عليه, ولأنكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في إمساكه, ولا

 

ج / 3 ص -57-         ومن دخل الحرم بصيد أرسله، فإن باعه رد البيع إن بقي، وإن فات فعليه الجزاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يمازحه, وأجاب في المحيط عن الأحاديث الصحيحة في أن لها حرما أنها من أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى; لأن الشجر للمدينة أمر تعم به البلوى وخبر الواحد إذا ورد فيما تعم به البلوى لا يقبل إذ لو كان صحيحا لاشتهر نقله فيما عم به البلوى. اهـ.
"قوله: ومن دخل الحرم بصيد أرسله"أي فعليه أن يطلق؛ لأنه لما حصل في الحرم وجب ترك التعرض لحرمة الحرم إذ هو صار من صيد الحرم فاستحق الأمن أراد به ما إذا دخل به, وهو ممسك له بيده الجارحة; لأنه سيصرح بأنه إذا أحرم, وفي بيته أو في قفصه صيد لا يرسله فكذلك إذا دخل الحرم, ومعه صيد في قفصه لا في يده لا يرسله; لأنه لا فرق بينهما.
فالحاصل أن من أحرم, وفي يده صيد حقيقة أو دخل الحرم كذلك وجب إرساله, وإن كان في بيته أو قفصه لا يجب إرساله فيهما فنبه بمسألة دخول الحرم هنا على مسألة المحرم ونبه بمسألة المحرم الآتية على مسألة الحرم, وعمم الداخل ليشمل الحلال والمحرم, وليس المراد من إرساله تسييبه; لأن تسيب الدابة حرام بل يطلقه على وجه لا يضيع, ولا يخرج عن ملكه بهذا الإرسال حتى لو خرج إلى الحل فله أن يمسكه, ولو أخذه إنسان يسترده, وأطلق في الصيد فشمل ما إذا كان من الجوارح أو لا فلو دخل الحرم, ومعه بازي فأرسله فقتل حمام الحرم فإنه لا شيء عليه; لأنه فعل ما هو الواجب عليه, وقد قدمناه.
"قوله: فإن باعه رد البيع إن بقي, وإن فات فعليه الجزاء"; لأن البيع لم يجز لما فيه من التعرض للصيد وذلك حرام, ولزمه الجزاء بفوته لتفويت الأمن المستحق, وأشار بقوله رد البيع إلى أنه فاسد لا باطل، وأطلق في بيعه فشمل ما إذا باعه في الحرم أو بعد ما أخرجه إلى الحل; لأنه صار بالإدخال من صيد الحرم فلا يحل إخراجه إلى الحل بعد ذلك, وقيد بكون الصيد داخل الحرم; لأنه لو كان في الحل والمتبايعان في الحرم فإن البيع صحيح عند أبي حنيفة, ومنعه محمد قياسا على منع رميه من الحرم إلى صيد في الحل كما قدمناه, وفرق الإمام بأن البيع ليس بتعرض له حسا بل حكما, وليس هو بأبلغ من أمره بذبح هذا الصيد بخلاف ما لو رماه من الحرم للاتصال الحسي هذا ما ذكر الشارحون.
وفي المحيط خلافه فإنه قال: لو أخرج ظبية من الحرم فباعها أو ذبحها أو أكلها جاز البيع والأكل ويكره; لأنه مال مملوك; لأن قيام يده على الصيد, وهما في الحل يفيد الملك له في

 

ج / 3 ص -58-         ومن أحرم وفي بيته أو قفصه صيد لا يرسله، ولو أخذ حلال صيدا فأحرم ضمن مرسله، ولو أخذه محرم، لا يضمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصيد، كما لو أثبت اليد عليه ابتداء إلا أن لله تعالى فيه حقا, وهو رده إلى الحرم لكن حق الله تعالى في العين لا يمنع جواز البيع كبيع مال الزكاة والأضحية. اهـ. فقوله في المختصر: فإن باعه أي الصيد, وهو في الحرم لا مطلقا.
"قوله: ومن أحرم, وفي بيته أو قفصه صيد لا يرسله"أي لا يجب إطلاقه; لأن الصحابة كانوا يحرمون, وفي بيوتهم صيود ودواجن, ولم ينقل عنهم إرسالها وبذلك جرت العادة الفاشية, وهي من إحدى الحجج; ولأن الواجب عدم التعرض, وهو ليس بمتعرض من جهته ؛ لأنه محفوظ بالبيت والقفص لا به غير أنه في ملكه، ولو أرسله في مفازة فهو على ملكه فلا يعتبر ببقاء الملك أطلقه فشمل ما إذا كان القفص في يده; لأنه في القفص لا في يده بدليل جواز أخذ المصحف بغلافه للمحدث, وقيل يلزمه إرساله على وجه لا يضيع بأن يرسله في بيت أو يودعه عند إنسان بناء على كونه في يده بدليل أنه يصير غاصبا له بغصب القفص, وقيد بكونه في بيته أو قفصه; لأنه لو كان بيده الجارحة لزمه إرساله اتفاقا فلو هلك, وهو في يده لزمه الجزاء, وإن كان مالكا له للجناية على الإحرام بإمساكه, وفي المغرب شاة داجن ألفت البيوت, وعن الكرخي الدواجن خلاف السائمة. اهـ. فالمراد بالصيد نحو الصقر والشاهين وبالدواجن نحو الغزالة.
"قوله: ولو أخذ حلال صيدا فأحرم ضمن مرسله"يعني عند الإمام وقالا لا يضمن; لأن المرسل آمر بالمعروف ناه عن المنكر, و
{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91], وله أنه ملك الصيد بالأخذ ملكا محترما فلا يبطل احترامه بإحرامه, وقد أتلفه المرسل فيضمنه والواجب عليه ترك التعرض ويمكنه ذلك بأن يخليه في بيته فإذا قطع يده عنه كان متعديا.
قال في الهداية: ونظيره الاختلاف في كسر المعازف. اهـ. وهو يقتضي أن يفتى بقولهما هنا; لأن الفتوى على قولهما في عدم الضمان بكسر المعازف. اهـ. وهي آلات اللهو كالطنبور, أطلق في الإرسال فشمل ما إذا أرسله من يده الحقيقية أو الحكمية أي من بيته لكن يضمنه في الثاني اتفاقا كذا في شرح ابن الملك للمجمع.
"قوله: ولو أخذه محرم لا يضمن"أي لا يضمن مرسله من يده اتفاقا; لأنه لم يملكه بالأخذ; لأن المحرم لا يملك الصيد بسبب من الأسباب; لأنه محرم عليه فصار كالخمر والخنزير كذا قالوا, ومقتضاه أنه لو باعه المحرم فبيعه غير منعقد أصلا, وقد صرح في المحيط بفساد البيع, والمراد

 

ج / 3 ص -59-         فإن قتله محرم آخر ضمنا ورجع آخذه على قاتله. فإن قطع حشيش الحرم، أو شجرا غير مملوك، ولا مما ينبته الناس، ضمن قيمته إلا فيما جف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من قولهم: المحرم لا يملك الصيد بسبب من الأسباب الاختيارية كالشراء والهبة والصدقة والوصية, وأما السبب الجبري فيملكه به كما إذا ورث من قريبه صيدا كما صرح به في المحيط, وأشار إلى أنه لو أرسله المحرم فأخذه حلال ثم حل مرسله فإنه يأخذه مرسله في الصورة الأولى ممن هو في يده; لأنه لم يخرج عن ملكه, ولا يأخذه في الثانية; لأنه لم يكن مالكا أصلا.
"قوله: فإن قتله محرم آخر ضمنا ورجع آخذه على قاتله"لوجود الجناية منهما الآخذ بالأخذ والقاتل بالقتل فلزم كل واحد منهما جزاء كامل ورجع الآخذ على القاتل بما غرم; لأن أداء الضمان يوجب ثبوت الملك في المضمون بالأخذ السابق, وقد تعذر إظهاره في عين الصيد فأظهرناه في بدله; لأنه قائم مقام الملك في حق الرجوع ببدله كمن غصب مدبرا, وقتله إنسان في يده يرجع بما ضمن على القاتل, وإن لم يملك المدبر فكذا هذا بل أولى; لأن المدبر لا يملك بسبب ما والمحرم يملك الصيد بسبب الإرث كما قدمناه, وإنما قيد بكون القاتل محرما آخر لقوله ضمنا فإن القاتل لو كان حلالا فإن كان الصيد في الحرم لزمه الجزاء، وإن كان من صيد الحل لا ضمان عليه بالقتل لكن يرجع عليه الآخذ بما ضمن فالرجوع لا فرق فيه بين المحرم والحلال.
وفي المحيط: ولو كان القاتل نصرانيا أو صبيا فلا جزاء عليه لله تعالى ويرجع عليه الآخذ بقيمته; لأنه يلزمه حقوق العباد دون حقوق الله تعالى, وقيد بكون القاتل آدميا فإنه لو قتله بهيمة إنسان فإن الجزاء على الآخذ وحده, ولا رجوع للآخذ على أحد كما ذكره الإسبيجابي, وأطلق في الرجوع فشمل ما إذا كان الآخذ كفر بالصوم فيرجع الآخذ بالقيمة مطلقا, وهو ظاهر ما في النهاية لكن صرح في المحيط عن المنتقى أنه إن كفر بالصوم فلا رجوع له; لأنه لم يغرم شيئا. اهـ. وجزم به الشارح واختاره في فتح القدير.
"قوله: فإن قطع حشيش الحرم أو شجر غير مملوك, ولا مما ينبته الناس ضمن قيمته إلا فيما جف"لحديث الصحيحين:
"لا يختلى خلاها, ولا يعضد شوكها", والخلا بالقصر

 

ج / 3 ص -60-         الحشيش، واختلاؤه قطعه والعضد قطع الشجر من باب ضرب كذا في المغرب.
وفي فتح القدير الخلا هو الرطب من الكلأ والشجر اسم للقائم الذي بحيث ينمو فإذا جف فهو حطب, وقد ذكر النووي عن أهل اللغة أن العشب, والخلا اسم للرطب والحشيش اسم لليابس, وأن الفقهاء يطلقون الحشيش على الرطب واليابس مجازا وسمي الرطب حشيشا باعتبار ما يئول إليه. اهـ. فقد أفاد الحديث أن المحرم هو المنسوب إلى الحرم والنسبة إليه على الكمال عند عدم النسبة إلى غيره, قيد بكونه غير مملوك; لأنه لو قطع ما أنبته الناس فإنه لا يضمن للحرم بل يضمن قيمته لمالكه, وقيد بقوله مما لا ينبته الناس; لأنه لو قطع ما نبت بنفسه, وهو من جنس ما ينبته الناس فإنه لا ضمان عليه; لأنه إنما نبت ببذر وقع فيه فصار كما إذا علم أنه أنبته الناس ولهذا يحل قطع الشجر المثمر; لأنه أقيم كونه مثمرا مقام إنبات الناس; لأن إنبات الناس في الغالب للثمر.
وقال في المحيط وغيره: ولو نبت شجر أم غيلان بأرض رجل فقطعه آخر لزمه قيمتان قيمة للشرع, وقيمة للمالك كالصيد المملوك في الحرم أو الإحرام. اهـ. وهي واردة على المصنف فالمراد من قوله أو شجرا غير مملوك الشجر الذي لم ينبته أحد سواء كان مملوكا أو لا ولذا لم يذكر الملك في أكثر الكتب إنما ذكروا ما لم ينبته الناس.
فالحاصل أن النابت في الحرم أما إذخر أو غيره فالأول سيستثنيه, والثاني على ثلاثة إما أن يجف أو ينكسر أو ليس واحدا منهما, وقد استثنى ما جف أي يبس ويلحق به المنكسر, وأما ما ليس واحدا منهما فهو على قسمين إما أن يكون أنبته الناس أو لا والأول لا شيء فيه سواء كان من جنس ما ينبته الناس أو لا والثاني إن كان من جنس ما ينبته الناس فلا شيء عليه, وإلا ففيه الجزاء فما فيه الجزاء هو ما نبت بنفسه, وليس من جنس ما أنبته الناس, ولا منكسرا, ولا جافا, ولا إذخرا.
وفي المحيط: ولو قطع شجرة في الحرم فغرم قيمتها ثم غرسها مكانها ثم نبتت ثم قلعها ثانيا فلا شيء عليه; لأنه ملكها بالضمان, وأشار بقوله ضمن قيمته إلى أنه لا مدخل للصوم هنا كصيد الحرم, وأطلق في القاطع فشمل الحلال والمحرم, وقيد بالقطع; لأنه ليس في المقلوع ضمان ذكره ابن بندار في شرح الجامع, وأشار بالضمان أيضا إلى أنه يملكه بأداء الضمان كما

 

ج / 3 ص -61-         وحرم رعي حشيش الحرم وقطعه، إلا الإذخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في حقوق العباد ويكره الانتفاع به بعد القطع بيعا وغيره; لأنه لو أبيح ذلك لتطرق الناس إليه, ولم يبق فيه شجر كذا قالوا, وهو يدل على أن الكراهة تحريمية.
وفي المحيط: ولو باعه جاز للمشتري الانتفاع به; لأن إباحة الانتفاع للقاطع تؤدي إلى استئصال شجر الحرم, وفي حق المشتري لا; لأن تناوله بعد انقطاع النماء. اهـ.
وفي شرح المجمع: وبخلاف الصيد فإن بيعه لا يجوز, وإن أدى قيمته. اهـ.
فالحاصل أن شجر الحرم يملك بأداء القيمة وصيد الحرم لا يملك أصلا, وأشار بعدم الضمان فيما جف إلى أنه يحل الانتفاع به; لأنه حطب. ثم اعلم أن قولهم لو نبت الشجر بأرض رجل ملكه إنما يتصور على قولهما أما على قول أبي حنيفة لا يتصور; لأنه لا يتحقق عنده تملك أرض الحرم بل هي سوائب عنده كذا في فتح القدير, وأراد بالسوائب الأوقاف, وإلا فلا سائبة في الإسلام وصرح في الهداية بأن قولهما رواية عن الإمام.
وفي غاية البيان: قال محمد في أم غيلان نبتت في الحرم في أرض رجل ليس لصاحبه قطعه, ولو قطعه فعليه لعنة الله تعالى. اهـ. وقد قدمنا أن العبرة لأصل الشجرة لا لأغصانها لكن قال في الأجناس: الأغصان تابعة لأصلها وذلك على ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون أصلها في الحرم والأغصان في الحل فعلى قاطع أغصانها القيمة. والثاني: أن يكون أصلها في الحل, وأغصانها في الحرم لا ضمان على القاطع في أصلها, وأغصانها. والثالث: بعض أصلها في الحل وبعضه في الحرم فعلى القاطع الضمان سواء كان الغصن من جانب الحل أو من جانب الحرم. اهـ.
"قوله: وحرم رعي حشيش الحرم, وقطعه إلا الإذخر"لإطلاق الحديث:
"ولا يختلى خلاها"؛ لأنه لا فرق بين القطع بالمناجل والمشافر والمنجل ما يحصد به الزرع والمشفر للبعير كالحجلة من الفرس والشفة من الإنسان وجوز أبو يوسف رعيه لمكان الحرج في حق الزائرين والمقيمين, وأجابا بمنع الحرج؛ لأن الحمل من الحل متيسر, ولئن كان فيه حرج فلا يعتبر; لأن الحرج إنما يعتبر في موضع لا نص عليه, وأما مع النص بخلافه فلا, وأما الإذخر فهو نبت معروف بمكة, وقد استثناه عليه الصلاة والسلام بالتماس العباس كما عرف في الصحيح وذكر في البدائع ثلاثة أوجه: الأول أنه عليه الصلاة والسلام كان في قلبه هذا الاستثناء إلا أن العباس

 

ج / 3 ص -62-         وكل شيء على المفرد به دم فعلى القارن دمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبقه فأظهر النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه ما كان في قلبه. الثاني: يحتمل أن الله تعالى أمره أن يخبر بتحريم كل خلا مكة إلا ما يستثنيه العباس وذلك غير ممتنع. الثالث: يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام عمم المنع فلما سأله العباس جاءه جبريل برخصة الإذخر فاستثناه, وهو استثناء صورة تخصيص معنى والتخصيص المتراخي عن العام نسخ عندنا والنسخ قبل التمكن من الفعل بعد التمكن من الاعتقاد جائز عندنا. ا هـ.
وقيد بالحشيش; لأن الكماة من الحرم يجوز أخذها; لأنها ليست من نبات الأرض, وإنما هي مودعة فيها; ولأنها لا تنمو, ولا تبقى فأشبهت اليابس من النبات, وأشار المصنف بذكر صيد الحرم وشجره وحشيشه إلى أنه لا بأس بإخراج حجارة الحرم وترابه إلى الحل; لأنه يجوز استعماله في الحرم ففي الحل أولى كذا في المحيط وغيره, وكذلك يجوز نقل ماء زمزم إلى سائر البلاد للعلة المذكورة, وأما ثياب الكعبة فنقل أئمتنا أنه لا يجوز بيعها, ولا شراؤها لكن الواقع الآن أن الإمام أذن في إعطائها لبني شيبة عند التجديد وللإمام ذلك فأئمتنا إنما منعوا من بيعها; لأنها مال بيت المال, ولا شك أن التصرف فيه للإمام فحيث جعله عطاء لقوم مخصوصين فإن البيع جائز, وهكذا اختاره الإمام النووي في شرح المهذب فقال: إن الأمر فيها إلى الإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعا, وعطاء لما رواه الأزرقي أن عمر رضي الله عنه كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج; ولأنه لو لم يجز التصرف في كسوتها لتلفت بطول الزمان قال: ابن عباس وعائشة تباع كسوتها ويجعل ثمنها في سبيل الله والمساكين وابن السبيل, ولا بأس أن يلبس كسوتها من صارت إليه من حائض وجنب وغيرهما ثم قال النووي: لا يجوز أخذ شيء من طيب الكعبة لا للتبرك, ولا لغيره, ومن أخذ شيئا منه لزمه رده إليها فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده فمسحها به ثم أخذه هـ.
"قوله: وكل شيء على المفرد به دم فعلى القارن دمان"أي دم لحجته ودم لعمرته; لأنه محرم بإحرامين عندنا على ما قدمناه، وقد جنى عليهما, وليس إحرام الحج أقوى من إحرام العمرة حتى يستتبعه كما قلنا في المحرم إذا قتل صيد الحرم أنه يلزمه جزاء واحد للإحرام؛ لأنه أقوى; لأن الإحرامين سواء; لأنه يحرم بكل واحد منهما ما يحرم بالآخر والتفاوت إنما هو في أداء الأفعال. والتحقيق أن التعدد إنما هو بسبب إدخال النقص على العبادتين بسبب الجناية, وأراد بوجوب الدم على المفرد ما كان بسبب الجناية على الإحرام بفعل شيء من محظوراته لا مطلقا فإن

 

ج / 3 ص -63-         إلا أن يجاوز الميقات غير محرم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المفرد إذا ترك واجبا من واجبات الحج لزمه دم, وإذا تركه القارن لا يتعدد الدم عليه; لأنه ليس جناية على الإحرام، وأراد بالدم الكفارة سواء كانت دما أو صدقة فإذا فعل القارن ما يلزم المفرد به صدقة لزمه صدقتان كما صرح به الولوالجي في فتاويه وسواء كانت كفارة جناية أو كفارة ضرورة فإذا لبس أو غطى رأسه للضرورة تعددت الكفارة, وأراد بالقارن من كان محرما بإحرامين قارنا كان أو متمتعا ساق الهدي فإنا قدمنا أن المتمتع إذا ساق الهدي لا يخرج عن إحرام العمرة إلا بالحلق يوم النحر وسيأتي في باب إضافة الإحرام إلى الإحرام أن من جمع بين حجتين وجنى جناية قبل الشروع في الأعمال فإنه يلزمه دمان عند أبي حنيفة; لأنه محرم بإحرامين كالقارن, وأطلق في لزوم الدمين فشمل ما إذا كان قبل الوقوف بعرفة أو بعده, ولا خلاف فيما قبله، وأما فيما بعده فقد قدمنا اختلاف المشايخ في أن إحرام العمرة في حق القارن ينتهي بالوقوف أولا فمن قال بانتهائه لا يقول بالتعدد, ومن قال ببقائه قال به. وذكر شيخ الإسلام أن وجوب الدمين على القارن إذا كانت الجناية قبل الوقوف في الجماع وغيره أما بعد الوقوف ففي الجماع يجب دمان, وفي سائر المحظورات دم واحد. اهـ. وقد قدمنا أن المذهب بقاء إحرام عمرة القارن بعد الطواف إلى الحلق فيلزمه بالجناية بعد الوقوف دمان سواء كان جماعا أو قتل صيد أو غيرهما، وقدمنا أن الصواب أنه ينتهي بالحلق حتى في حق النساء حتى لو جامع القارن بعد الحلق لا يلزمه لأجل العمرة شيء فما في الأجناس كما نقله في غاية البيان من أن القارن إذا قتل صيدا بعد الوقوف يلزمه دم واحد ففرع على قول من قال بانتهاء إحرام العمرة بالوقوف, وقد علمت ضعفه.
"قوله: إلا أن يجاوز الميقات غير محرم"استثناء منقطع; لأنه ليس داخلا فيما قبله; لأن صدر الكلام إنما هو فيما لزم المفرد بسبب الجناية على إحرامه, والمجاوز بغير إحرام لم يكن محرما ليخرج; لأنه يلزمه دم سواء أحرم بعد ذلك بحج أو عمرة أو بهما أو لم يحرم أصلا فلا حاجة إلى استثنائه في كلامهم لكن على تقدير أن يحرم بعد المجاوزة فقد أدخل نقصا في إحرامه, وهو ترك جزء منه بين الميقات والموضع الذي أحرم فيه فتوهم زفر أنه إذا أحرم قارنا أنه أدخل هذا النقص على الإحرامين فأوجب دمين, وقلنا إن الواجب عليه عند دخول الميقات أحد النسكين فإذا جاوزه بغير إحرام ثم أحرم بهما فقد أدخل النقص على ما لزمه, وهو أحدهما فلزمه جزاء واحد. وأورد في غاية البيان على اقتصارهم في الاستثناء على هذه المسألة مسائل منها أن القارن إذا أفاض قبل الإمام يجب عليه دم واحد كالمفرد, ومنها إذا طاف طواف الزيارة جنبا أو محدثا, وقد رجع إلى أهله يجب عليه دم واحد, ومنها أن القارن إذا وقف بعرفة ثم قتل صيدا فعليه قيمة واحدة كما في الأجناس ومنها إذا حلق قبل أن يذبح فإنه يلزمه دم واحد, ومنها أن القارن إذا قطع شجر الحرم فإنه يلزمه قيمة واحدة كالمفرد. اهـ.

 

ج / 3 ص -64-         ولو قتل المحرمان صيدا، تعدد الجزاء، ولو حلالان، لا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالحاصل أن المستثنى عدة مسائل لا مسألة واحدة والتحقيق أنه لا استثناء أصلا أما مسألة الكتاب فقد قدمنا أنه استثناء منقطع, وأما مسألة الإفاضة فإنما وجب دم بسبب ترك واجب من واجبات الحج, وليس هو جناية على الإحرام كما قدمناه, ولا خصوصية لهذا الواجب بل كل واجب من واجبات الحج فإنه لا تعلق للعمرة به, وأما مسألة الطواف جنبا فإنما وجب دم واحد لترك واجب من واجبات الطواف لا للجناية على الإحرام ولهذا لو طاف جنبا, وهو غير محرم فإنه يلزمه دم, وإن كان الدم متنوعا إلى بدنة وشاة نظرا إلى كمال الجناية وخفتها, وأما مسألة قتل الصيد بعد الوقوف فالمذهب لزوم دمين, وما في الأجناس ضعيف كما قدمناه, وأما مسألة الحلق قبل الذبح فإنه لا يلزم المفرد به شيء; لأن الذبح ليس بواجب عليه, وهو إنما أوجبوا التعدد على القارن فيما يلزم المفرد به كفارة, وليس على المفرد به شيء فلا يتعدد الدم على القارن, وأما مسألة قطع شجر الحرم فهو من باب الغرامات لا تعلق للإحرام به بخلاف صيد الحرم إذا قتله القارن فإنه يلزمه قيمتان كما صرح به الإسبيجابي وغيره; لأنها جناية على الإحرام, وهو متعدد كما قدمنا أن أقوى الحرمتين تستتبع أدناهما والإحرام أقوى فكان وجوب القيمة بسبب الإحرام فقط لا بسبب الحرم, وإنما ينظر إلى الحرم إذا كان القاتل حلالا, والله سبحانه الموفق.
وذكر في النهاية صورة يجب فيها على القارن دمان لأجل المجاوزة, وهي ما إذا جاوز فأحرم بحج ثم دخل مكة فأحرم بعمرة, ولم يعد إلى الحل محرما, وهي غير واردة عليهم; لأن أحد الدمين للمجاوزة, وهو الأول والثاني لتركه ميقات العمرة; لأنه لما دخل مكة التحق بأهلها, وميقاتهم في العمرة الحل.
"قوله: ولو قتل المحرمان صيدا تعدد الجزاء, ولو حلالان لا"أي لا يتعدد الجزاء بقتل صيد الحرم لما قدمنا أن الضمان في حق المحرم جزاء الفعل, وهو متعدد, وفي صيد الحرم جزاء المحل, وهو ليس بمتعدد كرجلين قتلا رجلا خطأ يجب عليهما دية واحدة; لأنها بدل المحل، وعلى كل واحد منهما كفارة; لأنها جزاء الفعل أشار المصنف إلى أنه لو اشترك محرم وحلال في قتل صيد الحرم فعلى المحرم جميع القيمة, وعلى الحلال نصفها لما أن الضمان يتبعض في حق الحلال, وإلى أنه لو كانوا أكثر من اثنين في صيد الحرم قسم الضمان على عددهم, وإلى أنه لو اشترك مع الحلال من لا يجب عليه الجزاء من كافر أو صبي وجب على الحلال بقدر ما يخصه من القيمة إذا قسمت على العدد.
وفي الجامع الكبير: لو أخذ حلال صيد الحرم فقتله نصراني أو صبي أو بهيمة في يده فعلى الحلال قيمته, ولا شيء على النصراني والصبي ويرجع الحلال بما ضمن عليهما; لأنه لولا

 

ج / 3 ص -65-         ويبطل بيع المحرم صيدا وشراؤه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قتلهما لتمكن الحلال من إرساله. وذكر الإسبيجابي أنه لو اشترك حلال ومفرد وقارن في قتل صيد الحرم فعلى الحلال ثلث الجزاء، وعلى المفرد جزاء كامل، وعلى القارن جزاءان. ا هـ. ولم يبين المصنف الجزاء الذي يجب على الحلالين بقتل صيد الحرم مع أن فيه تفصيلا، وهو أنهما إن ضرباه ضربة واحدة فمات كان على كل واحد منهما نصف قيمته صحيحا، وإن ضربه كل واحد منهما ضربة فإن وقعا معا فإنه يجب على كل واحد منهما ما نقصته جراحته ثم يجب على كل واحد منهما نصف قيمته مجروحا بجراحتين؛ لأن عند اتحاد فعلهما جميع الصيد صار متلفا بفعلهما فضمن كل نصف الجزاء، وعند الاختلاف الجزء الذي تلف بضربة كل هو المختص بإتلافه فعليه جزاؤه والباقي متلف بفعلهما فعليهما ضمانه، وإن كان الضارب له حلالا، ومحرما كذلك ضمن كل واحد ما نقصته جراحته ثم يضمن الحلال نصف قيمته مضروبا بالضربتين، وعلى المحرم جميع قيمته مضروبا بالضربتين، ولو لم يقعا معا بأن جرحه الحلال أولا ثم ثنى المحرم ضمن الحلال ما انتقص بجرحه صحيحا ونصف قيمته وبه الجراحتان؛ لأن النقصان حصل بالجرح، وهو صحيح والهلاك حصل بأثر الفعل، وهو منقوص بالجراحتين، وعلى المحرم قيمته وبه الجرح الأول؛ لأنه حين جرح كان منقوصا بالجرح الأول، ولو قطع حلال يد صيد ثم فقأ محرم عينه ثم جرحه قارن فمات فعلى الحلال قيمته كاملة؛ لأنه استهلكه معنى، وهو صحيح؛ لأنه فوت عليه جنس المنفعة، وعلى الثاني قيمته وبه الجرح الأول؛ لأنه استهلكه معنى، وعلى القارن قيمتان وبه الجنايات؛ لأنه أتلفه حقيقة بأثر الفعل، وهو منقوص بهما وتمام تفاريعه في المحيط.
"قوله: ويبطل بيع المحرم صيدا وشراؤه"; لأن بيعه حيا تعرض للصيد بفوات الأمن وبيعه بعد ما قتله بيع ميتة كذا علله في الهداية والظاهر من الصيد هو الحي, وأما الميتة فمعلوم بطلان بيعها, وأشار إلى أنه لو هلك في يد المشتري فإنه لا ضمان عليه للبائع إذا كان قد اصطاده البائع, وهو محرم; لأنه لم يملكه, وإن كان قد اصطاده, وهو حلال ثم أحرم فباعه فإن المشتري يضمن له قيمته, وأما الجزاء فعلى كل واحد جزاء كامل; لأن البائع جنى بالبيع والمشتري بالشراء والأخذ, وإنما كان البيع باطلا, ولم يكن فاسدا; لأن الصيد في حق المحرم محرم العين بقوله تعالى
{حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] أضاف التحريم إلى العين فأفاد سقوط التقوم في حقه كالخمر في حق المسلم, وحاصله إخراج العين عن المحلية لسائر التصرفات فيكون التصرف فيها عبثا فيكون قبيحا لعينه فيبطل سواء كانا محرمين أو أحدهما ولهذا أطلقه المصنف فإنه أفاد أن بيع المحرم باطل، ولو كان المشتري حلالا, وأن شراءه باطل, وإن كان البائع حلالا. وأما الجزاء فإنما يكون على المحرم حتى لو كان البائع حلالا والمشتري محرم لزم المشتري فقط, وعلى هذا كل تصرف فإن وهب صيدا فإن كانا محرمين لزم كل واحد جزاء, وإن كان أحدهما

 

ج / 3 ص -66-         ومن أخرج ظبية الحرم فولدت فماتا ضمنهما، فإن أدى جزاءها فولدت لا يضمن الولد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محرما لزمه فقط, ولو تبايعا صيدا في الحل ثم أحرما أو أحدهما ثم وجد المشتري به عيبا رجع بالنقصان, وليس له الرد, وعلى هذا لو غصب حلال صيد حلال ثم أحرم الغاصب والصيد في يده لزمه إرساله وضمان قيمته للمغصوب منه فلو لم يفعل ودفعه إلى المغصوب منه حتى برئ من الضمان له كان عليه الجزاء, وقد أساء, وهذا لغز يقال غاصب يجب عليه عدم الرد بل إذا فعل يجب به الضمان فلو أحرم المغصوب منه ثم دفعه إليه فعلى كل واحد منهما الجزاء.
"قوله: ومن أخرج ظبية الحرم فولدت فماتا ضمنهما فإن أدى جزاءها فولدت لا يضمن الولد"; لأن الصيد بعد الإخراج من الحرم بقي مستحق الأمن شرعا ولهذا وجب رده إلى مأمنه, وهذه صفة شرعية فتسري إلى الولد فإن أدى جزاءها ثم ولدت ليس عليه جزاء الولد; لأن بعد أداء الجزاء لم تبق آمنة; لأن وصول الخلف كوصول الأصل ولهذا يملكها الذي أخرجها بعد أداء الجزاء ولهذا لو ذبحها لم تكن ميتة لكنه مكروه كذا قالوا: وقد بحث فيه المحقق في فتح القدير فقال: والذي يقتضيه النظر أن أداء الجزاء إن كان حال القدرة على إعادة مأمنها بالرد إلى المأمن لا يقع كفارة, ولا يحل بعده التعرض له بل حرمة التعرض إليها قائمة, وإن كان حال العجز عنه بأن هربت في الحل بعد ما أخرجها إليه خرج به عن عهدتها فلا يضمن ما يحدث بعد التكفير من أولادها, وله أن يصطادها, وهذا; لأن المتوجه قبل العجز عن تأمينها إنما هو خطاب الرد إلى المأمن، ولا يزال متوجها ما كان قادرا; لأن سقوط الأمر إنما هو بفعل المأمور به ما لم يعجز, ولم يوجه فإذا عجز توحد خطاب الجزاء, وقد صرح بأن الأخذ ليس سببا للضمان بل القتل بالنص فالتفكير قبله واقع قبل السبب فلا يقع إلا نفلا فإذا ماتت بعد أداء هذا الجزاء لزم الجزاء; لأنه الآن تعلق خطاب الجزاء هذا الذي أدين الله به، وأقول: يكره اصطيادها إذا أدى الجزاء بعد الهرب ثم ظفر بها بشبهة كون دوام العجز شرط إجزاء الكفارة إلا إذا اصطادها ليردها إلى الحرم. اهـ. وقد يقال إنه لا يخلو إما أن يكون المخرج محرما أو حلالا فإن كان محرما فلا شك أن سبب الضمان قد وجد, وهو التعرض للصيد فإن الآية، وإن أفادت حرمة القتل أفادت السنة حرمة التعرض قتلا أو غيره ولهذا وجب الضمان بالدلالة, وليست قتلا, وقد صرحوا كما قدمناه بأن المحرم إذا جرح صيدا فكفر ثم مات فإنه لا يلزمه كفارة أخرى; لأنه أدى بعد السبب, وليس قتلا, وإن كان المخرج حلالا فالنص الحديثي أفاد حرمة التنفير كما قدمناه بقوله, ولا ينفر صيدها, ولم يخص القتل والمراد من التنفير التعرض له فإنه حرام كالقتل, وإن كان لا يجب عليه بالدلالة شيء فإذا أخرجها فقد اتصل فعله بها فوجد سبب الضمان فجاز التكفير فإذا أدى الجزاء ملكها ملكا خبيثا ولهذا قالوا يكره أكلها, وهي عند إطلاقهم منصرفة إلى الكراهة التحريمية فدل أنه يجب ردها إلى الحرم بعد أداء الجزاء, ولو كان القتل عينا سببا للجزاء لم يجب الجزاء بإخراجها, وعدم

 

ج / 3 ص -67-         ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قدرته على ردها إلى الحرم بهربها فالظاهر ما ذهب إليه أئمتنا.
وأشار المصنف رحمه الله تعالى بحكم الزيادة المنفصلة إلى الزيادة المتصلة كالسمن والشعر. فإن أخرج حلال ظبية الحرم فازدادت قيمتها من بدن أو شعر ثم ماتت فإن لم يؤد جزاءها قبل موتها فالزيادة مضمونة, وإن أدى جزاءها قبل موتها فهي غير مضمونة; لأنه انعدم أثر الفعل بالتكفير حتى لو أنشأ الفعل فيها لم يضمن, ولو أخرجها من الحرم فباعها أو ذبحها أو أكلها جاز البيع والأكل ويكره, وحكم الزيادة عند المشتري قبل التكفير وبعده على ما ذكرناه قبل الشراء كذا في المحيط, وهو كما قدمناه يفيد أن الإخراج من الحرم لما كان سببا للضمان كان سببا للملك، ولو لم يؤد الجزاء، والظبية الأنثى من الظباء, والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب, وإليه المرجع والمآب.

5- باب مجاوزة الميقات بغير إحرام
من جاوز الميقات غير محرم، ثم عاد محرما ملبيا، أو جاوز ثم أحرم بعمرة، ثم أقسد وقضى، بطل الدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5- "باب مجاوزة الميقات بغير إحرام ".
وصله بما قبله; لأنه جناية أيضا لكن ما سبق جناية بعد الإحرام, وهذا قبله والميقات مشترك بين الزمان والمكان بخلاف الوقت فإنه خاص بالزمان, والمراد به هنا الميقات المكاني بدليل المجاوزة, وقد قدمنا أنه لا يجوز مجاوزة آخر المواقيت إلا محرما فإذا جاوزه بلا إحرام لزمه دم، وأحد النسكين إما حج أو عمرة; لأن مجاوزة الميقات بنية دخول الحرم بمنزلة إيجاب الإحرام على نفسه, ولو قال: لله علي أن أحرم لزمه إما حج أو عمرة فكذلك إذا وجب بالفعل كما إذا افتتح صلاة التطوع ثم أفسدها وجب عليه قضاء ركعتين كما لو أوجبها بالقول.
"قوله: من جاوز الميقات غير محرم ثم عاد محرما ملبيا أو جاوز ثم أحرم بعمرة ثم أفسد، وقضى بطل الدم"أي من جاوز آخر المواقيت بغير إحرام ثم عاد إليه, وهو محرم, ولبى فيه فقد سقط عنه الدم الذي لزمه بالمجاوزة بغير إحرام; لأنه قد تدارك ما فاته أطلق الإحرام فشمل إحرام الحج فرضا كان أو نفلا, وإحرام العمرة, وأشار إلى أنه لو عاد بغير إحرام ثم أحرم منه فإنه يسقط الدم بالأولى; لأنه أنشأ التلبية الواجبة عند ابتداء الإحرام, ولهذا كان السقوط متفقا عليه, وقيد بكونه ملبيا في الميقات; لأنه لو عاد محرما, ولم يلب في الميقات فإنه لا يسقط الدم عنه, وهو قول الإمام; لأنه لا يكون متداركا لما فاته إلا بها, وعندهما يسقط الدم مطلقا كما لو أحرم من دويرة أهله, ومر بالمواقيت ساكتا فإنه لا شيء عليه اتفاقا وجوابه أن الإحرام من دويرة أهله هو

 

ج / 3 ص -68-         فلو دخل الكوفي البستان لحاجة، له دخول مكة بلا إحرام، ووقته البستان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العزيمة, وقد أتى به فإذا ترخص بالتأخير إلى الميقات وجب عليه قضاء حقه بإنشاء التلبية.
وأشار إلى أنه لو عاد محرما, ولم يلب فيه لكن لبى بعدما جاوزه ثم رجع, ومر به ساكتا فإنه يسقط عنه بالأولى; لأنه فوق الواجب عليه في تعظيم البيت, وأطلق في العود فشمل ما إذا عاد إلى الميقات الذي جاوزه غير محرم أو إلى غيره أقرب أو أبعد; لأن المواقيت كلها سواء في حق الإحرام والأولى أن يحرم من وقته كذا في المحيط.
وقيدنا بكونه جاوز آخر المواقيت لما قدمناه في باب الإحرام أنه لا يجب إلا عند آخرها ويجوز مجاوزة ميقاته بغير إحرام إذا كان بعده ميقات آخر وترك المصنف قيدا لا بد منه, وهو أن يكون العود إلى الميقات قبل الشروع في الأعمال فلو عاد إليه بعدما طاف شوطا لا يسقط عنه الدم اتفاقا, وكذا بعد الوقوف بعرفة من غير طواف; لأن ما شرع فيه وقع معتدا به فلا يعود إلى حكم الابتداء بالعود إلى الميقات. وما في الهداية من التقييد باستلام الحجر مع الطواف فليس احترازيا بل الطواف يؤكد الدم من غير استلام كما نبه عليه في العناية, ولم يذكر المصنف أن العود أفضل أو تركه.
وفي المحيط إن خاف فوت الحج إذا عاد فإنه لا يعود ويمضي في إحرامه, وإن لم يخف فوته عاد; لأن الحج فرض والإحرام من الميقات واجب, وترك الواجب أهون من ترك الفرض. اهـ. فاستفيد منه أنه لا تفصيل في العمرة, وأنه يعود; لأنها لا تفوت أصلا وبما قررناه علم أنه لا حاجة إلى قوله أو جاوز ثم أحرم إلى آخره لدخوله تحت قوله ثم عاد محرما ملبيا; لأنه لا فرق كما علمت بين إحرام الحج والعمرة أداء أو قضاء, وإن كان أفردها لأجل أن زفر يخالف فيها فهو مخالف أيضا فيما قبلها خصوصا أنه موهم غير المراد فإنه لم يشترط العود إلى الميقات في القضاء, ولا بد منه للسقوط, وقيد بالعمرة, وليس احترازيا بل إذا فسد الحج ثم قضاه بأن عاد إلى الميقات فالحكم كذلك من سقوط الدم.
"قوله: فلو دخل كوفي البستان لحاجة له دخول مكة بغير إحرام, ووقته البستان"; لأنه لم يقصد أولا دخول مكة, وإنما قصد البستان فصار بمنزلة أهله حين دخله وللبستاني أن يدخل مكة بغير إحرام للحاجة فكذلك له والمراد بقوله ووقته البستان جميع الحل الذي بينه وبين الحرم قالوا: وهذه حيلة الآفاقي إذا أراد أن يدخل مكة بغير إحرام فينوي أن يدخل خليصا مثلا فله مجاوزة رابغ الذي هو ميقات الشامي والمصري المحاذي للجحفة, ولم أر أن هذا القصد لا بد منه حين خروجه من بيته أولا, والذي يظهر هو الأول فإنه لا شك أن الآفاقي يريد دخول الحل الذي بين الميقات والحرم, وليس ذلك كافيا فلا بد من وجود قصد مكان مخصوص من الحل الداخل

 

ج / 3 ص -69-         ومن دخل مككة بلا إحرام وجب عليه أحد النسكين، ثم خرج عما عليه صح عن دخول مكة بلا إحرام، وإن تحولت السنة لا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الميقات حين يخرج من بيته, وإلا فالظاهر قول أبي يوسف أنه إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما في البستان فله دخول مكة بلا إحرام, وإلا فلا، لكن ظاهر المذهب الإطلاق. والله أعلم.
"قوله: ومن دخل مكة بلا إحرام ثم حج عما عليه في عامة ذلك صح عن دخول مكة بلا إحرام, وإن تحولت السنة لا"; لأنه تلافى المتروك في وقته; لأن الواجب عليه تعظيم هذه البقعة بالإحرام كما إذا أتاها بحجة الإسلام في الابتداء بخلاف ما إذا تحولت السنة; لأنه صار دينا في ذمته فلا يتأدى إلا بإحرام مقصود كما في الاعتكاف المنذور فإنه يتأدى بصوم رمضان من هذه السنة دون العام الثاني. فإن قلت: سلمنا أن الحجة بتحول السنة تصير دينا, ولكن لا نسلم أن العمرة تصير دينا; لأنها غير مؤقتة قلت: لا شك أن العمرة يكره تركها إلى آخر أيام النحر والتشريق فإذا أخرها إلى وقت يكره صار كالمفوت لها فصارت دينا كذا في غاية البيان.
وفي فتح القدير ولقائل أن يقول لا فرق بين سنة المجاوزة وسنة أخرى فإن مقتضى الدليل إذا دخلها بلا إحرام ليس إلا وجوب الإحرام بأحد النسكين فقط ففي أي وقت فعل ذلك يقع أداء إذ الدليل لم يوجب ذلك في سنة معينة ليصير بفواتها دينا يقضى فمهما أحرم من الميقات بنسك عليه تأدي هذا الواجب في ضمنه, وعلى هذا إذا تكرر الدخول بلا إحرام منه ينبغي أن لا يحتاج إلى التعيين, وإن كانت أسبابا متعددة الأشخاص دون النوع كما قلنا فيمن عليه يومان من رمضان ينوي مجرد قضاء ما عليه, ولم يعين الأول, ولا غيره جاز, وكذا لو كانا من رمضانين على الأصح, وكذا نقول إذا رجع مرارا فأحرم كل مرة بنسك حتى أتى على عدد دخلاته خرج عن عهدة ما عليه. اهـ. يشير إلى رد ما ذكره الإسبيجابي من أنه لو جاوز الميقات قاصدا مكة بلا إحرام مرارا فإنه يجب عليه لكل مرة إما حجة أو عمرة, ولو خرج من عامة ذلك إلى الميقات فأحرم بحجة الإسلام أو غيرها فإنه يسقط عنه ما وجب عنه لأجل المجاوزة الأخيرة, ولا يسقط عنه ما وجب لأجل مجاوزته قبلها; لأن الواجب قبل الأخيرة صار دينا فلا يسقط إلا بتعيين النية. اهـ.
وأطلق المصنف الحج فشمل حجة الإسلام والحجة المنذورة ويلحق به العمرة المنذورة فلو قال: ثم أحرم عما عليه في عامه ذلك لكان أولى ليشمل كل إحرام واجب حجا أو عمرة أداء, وقضاء.
وفي المحيط: وإذا جاوز العبد الميقات بغير إحرام ثم أذن له مولاه أن يحرم فأحرم لزمه دم الوقت إذا أعتق; لأنه من أهل الإحرام فلزمه الإحرام من الميقات, وأما الكافر إذا دخل مكة بغير

 

ج / 3 ص -70-        
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إحرام ثم أسلم فإنه لا يلزمه شيء كالصبي إذا جاوزه بغير إحرام ثم بلغ لعدم أهلية الوجوب ثم اعلم أنه لا خصوصية للآفاقي في وجوب الدم بترك الإحرام من الميقات بل المكي كذلك حتى لو أحرم المكي بالعمرة من الحرم فإنه يلزمه دم كما صرح به في المحيط. وكذا لو أحرم المكي من الحل بالحج فإنه يلزمه دم وتتأتى التفاريع المتقدمة في الآفاقي من عوده محرما ملبيا, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب, وإليه المرجع والمآب.

6- باب إضافة الإحرام إلى الإحرام
مكي طاف شوطا لعمرة فأحرم بحج رفضه، وعليه حج وعمرة ودم لرفضه، فلو مضى عليهما صح وعليه دم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
6- "باب إضافة الإحرام إلى الإحرام "
لما كان ذلك جناية في بعض الصور أورده عقيب الجنايات.
"قوله: مكي طاف شوطا لعمرة فأحرم بحج رفضه, وعليه حج, وعمرة ودم لرفضه فلو مضى عليهما صح, وعليه دم"بيان لحكم الجمع بين الحج والعمرة من المكي فإنه كما قدمناه منهي عن الجمع بينهما فإذا أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة بعد الشروع فيها فقد ارتكب المنهي فوجب عليه الخروج عنه فقالا: رفض العمرة أولى; لأنها أدنى حالا, وأقل أعمالا, وأيسر قضاء لكونها غير مؤقتة.
وقال الإمام الأعظم: رفض الحج أولى ولهذا قال في المختصر رفضه أي الحج; لأن إحرام العمرة قد تأكد بأداء شيء من أعمالها, وإحرام الحج لم يتأكد ورفض غير المتأكد أيسر; ولأن في رفض العمرة والحالة هذه إبطال العمل, وفي رفض الحج امتناعا عنه.
قيد بالمكي; لأن الآفاقي إذا أحرم بالحج بعد فعل أقل أشواط العمرة كان قارنا بلا إساءة كما لو لم يطف أصلا, وإن كان بعد فعل الأكثر كان متمتعا إن كان في أشهر الحج.
وقيد بالشوط, وأراد به أقل الأشواط, ولو ثلاثة; لأنه لو أتى بالأكثر ففي الهداية وشروحها أنه يرفض الحج بلا خلاف; لأن للأكثر حكم الكل فيتعذر رفضها, وفي المبسوط أنه لا يرفض واحدا منهما كما لو فرغ منها, وعليه دم لمكان النقص بالجمع بينهما فلذا لا يأكل منه وجعله الإسبيجابي ظاهر الرواية ونقل عن أبي يوسف أن رفض الحج أفضل واختاره الفقيه أبو الليث وقاضي خان في فتاويه ثم قال: ويمضي في عمرته ثم يقضي الحجة من عامه ذلك إن بقي وقته. اهـ. ولم يذكر في ظاهر الرواية أنه إذا رفض الحج يلزمه دم, وقضاء عمرة مع الحج كما

 

ج / 3 ص -71-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أوجبه أبو حنيفة فيما لو طاف الأقل كذا ذكره الإسبيجابي, ولو لم يطف للعمرة أصلا فإنه يرفضها اتفاقا ويقضيها, وعليه دم لرفضها كما لو قرن المكي فإنه يرفض العمرة ويمضي في الحج.
وأطلق في الطواف فشمل ما إذا كان في أشهر الحج أو لا كما في المبسوط, وأشار إلى أنه لو أحرم أولا بالحج وطاف له شوطا ثم أحرم بالعمرة فإنه يرفضها اتفاقا ويقضيها, وعليه دم لرفضها كما لو لم يطف وسيأتي أنه إن مضى عليهما وجب عليه دم, وقد ظهر بما قررناه أولا أن رفض الحج في مسألة الكتاب إنما هو مستحب, وليس بواجب حتى إذا رفض العمرة صح ولهذا قال في الهداية: وعليه دم بالرفض أيهما رفضه; لأنه تحلل قبل أوانه لتعذر المضي فيه فكان في معنى المحصر إلا أن في رفض العمرة قضاءها لا غير, وفي رفض الحج قضاؤه وعمرة; لأنه في معنى فائت الحج. اهـ.
ولم يذكر بماذا يكون رافضا؟ وينبغي أن يكون الرفض بالفعل بأن يلحق مثلا بعد الفراغ من أعمال العمرة, ولا يكتفي بالقول أو بالنية; لأنه جعله في الهداية تحللا, وهو لا يكون إلا بفعل شيء من محظورات الإحرام.
وقال: الولوالجي في فتاواه وتحليل الرجل لامرأته أن ينهاها ويصنع بها أدنى ما يحرم عليه بالإحرام, ولا يكون التحليل بالنهي, ولا بقوله قد حللتك; لأن التحليل شرع بالفعل دون القول. اهـ. بخلاف ما إذا أحرم بحجتين, وإن رفض أحدهما بشروعه في الأعمال على ظاهر الرواية كما سيأتي من غير تحليل; لأنه لا يمكن المضي فيهما, وهنا يمكن المضي فيهما فإنه إن مضى عليهما أجزأه; لأنه أدى أفعالهما كما التزمهما غير أنه منهي عنه والنهي لا يمنع تحقق الفعل على ما عرف من أصلنا, وعليه دم لجمعه بينهما; لأنه تمكن النقص في عمله لارتكابه المنهي عنه, وهو في حق المكي دم جبر, وفي حق الآفاقي دم شكر.
وأطلق في قوله: وعليه حجة, وعمرة ودم, وهو كذلك في وجوب الدم, وأما في وجوب العمرة فمقيد بما إذا لم يحج من سنته أما إذا حج من سنته فلا عمرة عليه; لأن وجوب العمرة مع الحج إنما هو لكونه في معنى فائت الحج, وإذا حج من سنته فليس في معناه كالمحصر إذا تحلل ثم حج في تلك السنة لا تجب العمرة عليه بخلاف ما إذا تحولت السنة ووقع في نسخة الزيلعي الشارح أنه أبدل العمرة بالدم فقال: إذا حج من سنته ينبغي أن لا يجب عليه الدم, وهو سبق قلم كما لا يخفى, والرفض الترك, وهو من بابي طلب وضرب كذا في المغرب. والله أعلم.

 

ج / 3 ص -72-         ومن أحرم بحج، ثم بآخر يوم النحر فإن حلق في الأول لزمه الآخر، ولا دم وإلا لزم وعليه دم قصر أو لا، ومن فرغ من عمرته إلا التقصير فأحرم بأخرى لزمه دم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: ومن أحرم بحج ثم بآخر يوم النحر فإن حلق في الأول لزمه الآخر, ولا دم، وإلا لزم, وعليه دم قصر أو لا, ومن فرغ من عمرته إلا التقصير فأحرم بأخرى لزمه دم"بيان للجمع بين إحرامين لشيئين متحدين وصرح في الهداية بأنه بدعة, وأفرط في غاية البيان فقال: إن الجمع بين الإحرامين لحجتين أو لعمرتين حرام; لأنه بدعة. اهـ. وهو سهو لما في المحيط والجمع بين إحرامي الحج لا يكره في ظاهر الرواية; لأن في العمرة إنما كره الجمع بين الإحرامين; لأنه يصير جامعا بينهما في الفعل; لأنه يؤديهما في سنة واحدة, وفي الحج لا يصير جامعا بينهما في الأداء في سنة واحدة فلا يكره. اهـ.
فإذا أحرم بحجة ووقف بعرفات ثم أحرم بأخرى يوم النحر فإن الثانية تلزمه مطلقا لإمكان الأداء; لأن الإحرام الثاني إنما يرتفض لتعذر الأداء, ولا تعذر هنا في الأداء; لأن إحرامه انصرف إلى حجة في السنة القابلة فإن كان الإحرام الثاني بعد الحلق للأول فلا دم عليه؛ لأنه أحرم بالثانية بعد التحلل من الأولى فلم يكن جامعا, وإن كان قبل الحلق لزمه دم عند أبي حنيفة مطلقا; لأنه إن حلق للأولى فقد جنى على إحرام الثانية, وإن كان نسكا في إحرام الأولى، وإن لم يحلق فقد أخر النسك عن وقته, وهما يخصان الوجوب بما إذا حلق; لأنهما لا يوجبان بالتأخير شيئا وبهذا علم أن المراد بالتقصير في قوله قصر أو لا الحلق، وإنما اختاره اتباعا للجامع الصغير كما في غاية البيان أو ليصير الحكم جاريا في المرأة؛ لأن التقصير عام في الرجل والمرأة كما في العناية. وإنما لزم الدم فيما إذا أحرم بعمرة بعد أفعال الأولى قبل الحلق; لأنه جمع بينهما, وقد تقدم أنه مكروه في العمرتين دون الحجتين فلذا فرق في المختصر بين الحج والعمرة فأوجب في العمرة دما للجمع بين العمرتين, ولم يوجبه في الحج؛ لأنه لو أوجبه لأوجب دمين فيما إذا أحرم بالثاني قبل الحلق للأول دم لما ذكرناه سابقا ودم للجمع وبه قال: بعض المشايخ اتباعا لرواية الأصل, وما في المختصر اتباع للجامع الصغير فإنه أوجب دما واحدا للحج، وقد علمت فيما سبق عن المحيط أن الفرق بينهما ظاهر الرواية وتعقبه في فتح القدير بأنه لا يتم; لأن كونه يتمكن من أداء العمرة الثانية لا يوجب الجمع فعلا فاستويا فالأوجه أنه ليس فيه إلا رواية الوجوب.اهـ.
وقيد بكونه أحرم للثاني يوم النحر؛ لأنه لو أحرم بالثاني بعرفات ليلا أو نهارا رفض الثانية, وعليه دم للرفض، وعمرة وحجة من قابل عندهما؛ لأنه كفائت الحج, وعند محمد لا يصح التزامه الثانية ثم عند أبي يوسف ارتفض كما انعقد, وعند أبي حنيفة ارتفض بوقوفه بعرفة كذا في المحيط, وهو ظاهر فيما إذا أحرم بالثاني يوم عرفة أو ليلة النحر, ولم يكن وقف نهارا, وأما إذا

 

ج / 3 ص -73-         ومن أحرم بحج، ثم بعمرة، ثم وقف بعرفات فقد رفض عمرته، وإن توجه إليها لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحرم ليلة النحر بعدما وقف نهارا فينبغي أن يرتفض عند أبي حنيفة بالوقوف بالمزدلفة لا بعرفة; لأنه سابق وسبب الترك إنما يكون متأخرا, وقيد بتراخي إحرام الثاني عن الأول; لأنه إن أحرم بهما معا أو على التعاقب لزماه عندهما, وعند محمد في المعية يلزمه إحداهما, وفي التعاقب الأولى فقط, وإذا لزماه عندهما ارتفضت إحداهما باتفاقهما ويثبت حكم الرفض واختلفا في وقت الرفض فعند أبي يوسف عقب صيرورته محرما بلا مهلة, وعند أبي حنيفة إذا شرع في الأعمال, وقيل إذا توجه سائرا ونص في المبسوط على أنه ظاهر الرواية; لأنه لا تنافي بين الإحرامين, وإنما التنافي بين الأداءين.
وثمرة الاختلاف فيما إذا جنى قبل الشروع فعليه دمان للجناية على إحرامين، ولو قتل صيدا لزمه قيمتان ودم عند أبي يوسف لارتفاض إحداهما قبلها، وإذا رفض إحداهما لزمه دم للرفض ويمضي في الأخرى ويقضي حجة، وعمرة لأجل التي رفضها، وإذا أحصر قبل أن يصير إلى مكة بعث بهديين عند الإمام وبواحد عندهما أما عند أبي يوسف فلأنه صار رافضا لإحداهما, وأما عند محمد فلأنه لم يلزمه إلا أحدهما فإذا لم يحج في تلك السنة لزمه عمرتان وحجتان; لأنه فاته حجتان في هذه السنة.
وقيد بكون إحرام العمرة الثانية بعد الفراغ من العمرة الأولى إلا التقصير؛ لأنه لو كان بعد التقصير فلا شيء عليه, وإن كانا معا أو على التعاقب فالحكم كما تقدم في الحجتين من لزومهما عندهما خلافا لمحمد من ارتفاع أحدهما بالشروع في عمل الأخرى عند الإمام خلافا لأبي يوسف ووجوب القضاء ودم للرفض، وإن كان قبل الفراغ بعدما طاف للأولى شوطا رفض الثانية، وعليه دم الرفض والقضاء. وكذا لو طاف الكل قبل أن يسعى فإن كان فرغ إلا الحلق لم يرفض شيئا، وعليه دم الجمع، وهي مسألة المختصر فإن حلق للأولى لزمه دم آخر للجناية على الثانية، ولو كان جامع في الأولى قبل أن يطوف فأفسدها ثم أدخل الثانية يرفضها ويمضي في الأولى حتى يتمها؛ لأن الفاسد معتبر بالصحيح في وجوب الإتمام، وإن نوى رفض الأولى والعمل في الثانية لم يكن عليه إلا الأولى، ومن أحرم لا ينوي شيئا فطاف ثلاثة فأقل ثم أهل بعمرة رفضها؛ لأن الأولى تعينت عمرة حين أخذ في الطواف فحين أهل بعمرة أخرى صار جامعا بين عمرتين فلهذا يرفض الثانية.
"قوله: ومن أحرم بحج ثم بعمرة ثم وقف بعرفات فقد رفض عمرته، وإن توجه إليها لا" أي لا يصير رافضا؛ لأنه يصير قارنا بالجمع بين الحج والعمرة؛ لأنه مشروع في حق الآفاقي، والكلام فيه لكنه مسيء بتقديم إحرام الحج على إحرام العمرة كما قدمناه

 

ج / 3 ص -74-         فلو طاف للحج ثم أحرم بعمرة، ومضى عليهما يجب وندب رفضها وإن أهل بعمرة يوم النحر لزمته، ولزمه الرفض والدم والقضاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في بابه، وقد تعذر عليه أداء العمرة بالوقوف إذ هي مبنية على الحج غير مشروعة، وقد تقدم الفرق بين الوقوف والتوجه، وإنما قلنا إن العمرة تحتمل الرفض لما روي عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال لها النبي صلى الله عليه وسلم
"وامشطي رأسك وارفضي عمرتك" والمراد بقوله ثم بعمرة أنه أحرم بالعمرة، ولم يأت بأكثر أشواطها حتى وقف بعرفات فالإتيان بالأقل كالعدم.
"قوله: فلو طاف للحج ثم أحرم بعمرة، ومضى عليهما يجب دم"يعني لجمعه بينهما؛ لأن الجمع بينهما مشروع فصح الإحرام بهما، وأراد بهذا الطواف طواف القدوم، وهو سنة فإن لم يأت بما هو ركن يمكنه أن يأتي بأفعال العمرة ثم بأفعال الحج فلهذا لو مضى عليهما جاز، ولزمه دم للجمع، وهو دم كفارة وجبر حتى لا يأكل منه؛ لأنه خالف السنة في هذا الجمع وصححه في الهداية، وقول المصنف.
"وندب رفضها": أي العمرة يدل على أنه دم شكر، وهو دم القران كما اختاره شمس الأئمة السرخسي فإن محمدا قال في الجامع الصغير: وأحب إلي أن يرفض العمرة فدل على أنه دم شكر فإنه لم يبن أفعال العمرة على أفعال الحج؛ لأن ما أتى به إنما هو سنة فيمكنه بناء أفعال الحج على أفعال العمرة فلا موجب للجبر. واختاره في فتح القدير، وقواه بأن طواف القدوم ليس من سنن نفس الحج بل هو سنة قدوم المسجد الحرام كركعتي التحية لغيره من المساجد ولذا سقط بطواف آخر من مشروعات الوقت، وأطال الكلام فيه قيد بالطواف بأنه لو لم يطف لم يستحب رفضها فإذا رفضها يقضيها لصحة الشروع فيها، وعليه دم لرفضها.
"قوله: وإن أهل بعمرة يوم النحر لزمته، ولزمه الرفض والدم والقضاء "لصحة الشروع مع الكراهة التحريمية فلزمت للأول، ولزم الترك تخلصا من الإثم، وإن رفضها لزمه دم للتحلل منها بغير أفعالها ووجب القضاء؛ لأنه ثمرة اللزوم.
وأراد بيوم النحر اليوم الذي تكره العمرة فيه، وهو يوم النحر، وأيام التشريق، وأطلقه فشمل ما إذا كان قبل الحلق أو بعده قبل طواف الزيارة أو بعده واختاره في الهداية وصححه الشارح؛ لأنه بعد الحلق والطواف بقي عليه من واجبات الحج كالرمي وطواف الصدر وسنة المبيت، وقد

 

ج / 3 ص -75-         فإن مضى عليها صح ويجب دم فاته الحج فأحرم بعمرة أو حجة: ومن رفضها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كرهت العمرة في هذه الأيام أيضا فيصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج بلا ريب، وهو مكروه.
"قوله: فإن مضى عليها صح ويجب دم "; لأن الكراهة لمعنى في غيرها، وهو كونه مشغولا بأداء بقية أفعال الحج في هذه الأيام فيجب تخليص الوقت له تعظيما، وهو لا يعدم المشروعية لكن يلزمه الدم كفارة للجمع بين الإحرامين أو للجمع بين الأفعال الباقية فهو دم جبر لا يؤكل منه كالأول.
"قوله: فاته الحج فأحرم بعمرة أو حجة: ومن رفضها "; لأن فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة من غير أن ينقلب إحرامه إحرام العمرة فيصير جامعا بين العمرتين من حيث الأفعال فلزمه الرفض كما لو أحرم بهما أو جامعا بين حجتين إحراما فعليه أن يرفض الثانية كما لو أحرم بحجتين، ولزمه القضاء لصحة الشروع ودم للرفض بالتحلل قبل أوانه، وقد شبهوا فائت الحج بالمسبوق فإنه مقتد تحريمة حتى لا يجوز اقتداء الغير به، ومنفرد أداء حتى تلزمه القراءة، والله تعالى أعلم.

7- باب الإحصار
لمن أحصر بعدو أو مرض أن يبعث شاة تذبح عنه فيتحلل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7- "باب الإحصار ".
هو والفوات من العوارض النادرة فأخرهما، وقدم الإحصار؛ لأنه وقع له عليه السلام دون الفوات واختلف في معناه اللغوي فقيل الإحصار للمرض والحصر للعدو، وعليه فقوله تعالى:
{أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] لبيان حكم المرض، وألحق به الحصر بالعدو دلالة بالأولى؛ لأن منع العدو حسي لا يتمكن معه من المضي بخلافه مع المرض إذ يمكن بالمحمل والمركب والأكثر على أن الإحصار هو المنع سواء كان من خوف أو مرض أو عجز أو عدو واختاره في الكشاف.
وفي المغرب الحصر المنع من باب طلب يقال أحصر الحاج إذا منعه خوف أو مرض من الوصول لإتمام حجته أو عمرته، وإذا منعه سلطان أو مانع قاهر في حبس أو مدينة قيل حصر، هذا هو المشهور.
وفي الشريعة هو منع الوقوف والطواف.
"قوله: لمن أحصر بعدو أو مرض أن يبعث شاة تذبح عنه فيتحلل "لما تلونا من الآية،

 

ج / 3 ص -76-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأفاد بذكر اللام دون على أنه لو صبر ورجع إلى أهله بغير تحلل إلى أن يزول الخوف فإنه جائز فإن أدرك الحج، وإلا تحلل بالعمرة فالتحلل بذبح الهدي إنما هو للضرورة حتى لا يمتد إحرامه فيشق عليه كما ذكره الشارح فما وقع في المبسوط من التعبير بعلى في غير محله.
وأشار بذكر العدو والمرض إلى كل منع فيكون محصرا بهلاك النفقة، وموت محرم المرأة أو زوجها في الطريق وشرط في التجنيس عدم القدرة على المشي فيما إذا سرقت النفقة فإن قدر عليه فليس بمحصر، وعلله في المبسوط بأنه لا يبعد أن لا يلزمه المشي في الابتداء ويلزمه بعد الشروع كما لا تلزمه حجة التطوع ابتداء ويلزمه الإتمام إذا شرع فيها، وجعل في المحيط ما في التجنيس قول محمد، وقال: أبو يوسف إن قدر على المشي في الحال وخاف أن يعجز جاز له التحلل.
ومن الإحصار ما إذا أحرمت المرأة بغير زوج أو محرم فلا تحل إلا بالدم؛ لأن المنع الشرعي آكد من المنع الحسي، ومنه ما إذا أحرمت للتطوع بغير إذن الزوج لكن للزوج أن يحللها بغير الهدي بأن يصنع بها أدنى ما يحرم على المحرم كقص ظفر واختلفوا في كراهة تحليلها بالجماع، وذكر القولين في المحيط من غير ترجيح وينبغي ترجيح الكراهة لتصريحهم بالكراهة في إجازة نكاح الفضولي بالجماع ودواعيه، وعليها هدي الإحصار، وقضاء حجة وعمرة إن لم تحج في هذه السنة، وإلا فالحج كاف، ولا تحتاج إلى نية القضاء؛ لأنه لزمها حجة هذه السنة، وأنها متعينة فلا تفتقر إلى النية المتعينة.
ومنه ما إذا أحرم العبد بغير إذن مولاه وللمولى أن يحلله بغير هدي، وعلى العبد هدي، وقضاء حجة وعمرة بعد العتق، وإن أحرم بإذنه كره له أن يحلله وصح؛ لأن اللزوم، ولم يظهر في حق السيد؛ لأن منافعه مملوكة للسيد وبالإذن صار معيرا منافعه وللمعير أن يسترد ما أعار بخلاف المنكوحة إذا أحرمت بإذن الزوج فإنه ليس له أن يحللها؛ لأن منافعها مملوكة لها حقيقة، وإنما للزوج فيها حق، وقد أسقط حقه بالإذن، وأما إذا أحرم العبد بإذن المولى ثم أحصر بعدو أو مرض اختلفوا فاختار في المحيط، وفتاوى قاضي خان أنه لا يجب دم الإحصار على المولى، وإنما يجب على العبد بعد الإعتاق واختار الإسبيجابي وجوبه على المولى بمنزلة النفقة وذكر القولين في معراج الدراية وينبغي ترجيح الأول لما أنه عارض لم يلتزمه المولى بخلاف النفقة، وإنما كان الواجب الشاة؛ لأن المنصوص عليه هو ما استيسر من الهدي، وأدناه شاة، وليس المراد به بعث الشاة بعينها؛ لأن ذلك قد يتعذر بل له أن يبعث بقيمتها حتى يشترى بها شاة فتذبح في الحرم.

 

ج / 3 ص -77-         ولو قارنا بعث دمين ويتوقف بالحرم لا بيوم النحر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأفاد باقتصاره على بعث الشاة أنه لو لم يجد ما يذبح لا يقوم الصوم أو الإطعام مقامه بل يبقى محرما إلى أن يجد أو يطوف ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق كما في الخانية وغيرها.
وأفاد بالفاء التي للتعقيب في قوله فيتحلل إلى أنه لا يتحلل إلا بالذبح؛ ولهذا قالوا إنه يواعد من يبعثه بأن يذبحها في يوم معين فلو ظن أنه ذبح هديه ففعل ما يفعله الحلال ثم ظهر أنه لم يذبح كان عليه ما على الذي ارتكب محظورات إحرامه لبقاء إحرامه كذا في النهاية، وأفاد بذكر التحلل بعد الذبح إلى أنه لا حلق عليه، ولا تقصير، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وإن حلق فحسن.
وقال أبو يوسف عليه أن يحلق، وإن لم يحلق فلا شيء عليه، وأطلقه في الهداية فشمل ما إذا أحصر في الحل أو الحرم، وقيده المصنف في الكافي بما إذا أحصر في الحل أما إذا أحصر في الحرم فيحلق اتفاقا وينبغي أن لا خلاف فإنهما قالا: بأنه حسن، وهو قال: باستحبابه، ولم يقل بوجوبه بدليل أنه قال: وإن لم يفعل فلا شيء عليه كما في الخبازية، ومعراج الدراية.
"قوله: ولو قارنا بعث دمين "أي لو كان المحصر قارنا فإنه يبعث دما لعمرته ودما لحجته؛ لأنه محرم بهما أطلقه فأفاد أنه لا يحتاج إلى تعيين الذي للعمرة والذي للحج كما في المبسوط، وأفاد أنه لو بعث بهدي واحد ليتحلل عن أحدهما ويبقى في الآخر لم يتحلل عن واحد منهما؛ لأن التحلل منهما لم يشرع إلا في حالة واحدة فلو تحلل عن أحدهما دون الآخر يكون فيه تغيير للمشروع، ولو بعث بثمن هديين فلم يوجد بذلك بمكة إلا هدي واحد فذبح عنه فإنه لا يتحلل لا عنهما، ولا عن أحدهما، وأشار إلى أنه لو أحرم بعمرتين أو بحجتين ثم أحصر قبل السير فإنه يتحلل بذبح هديين في الحرم بخلاف ما إذا أحصر بعد السير فإنه يصير رافضا لأحدهما به كما قدمناه في الباب السابق، وأشار بالاكتفاء بالبعث في المفرد والقارن إلى أنه إذا بعث الهدي إن شاء رجع، وإن شاء أقام إذ لا فائدة في الإقامة.
"قوله: ويتوقف بالحرم لا بيوم النحر "يعني فيجوز ذبحه في أي وقت شاء لإطلاق قوله تعالى
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] من غير تقييد بالزمان، وأما تقييده بالمكان فبقوله تعالى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] أي مكانه، وهو الحرم فكان حجة عليهما في قياس الزمان على المكان فلو ذبح في الحل فحل على ظن الذبح في الحرم فهو محرم كما كان، ولا يحل حتى يذبح في الحرم، وعليه الدم لتناول محظورات إحرامه كذا ذكره الإسبيجابي أطلقه فشمل إحرام الحج، وإحرام العمرة لكن لا خلاف أن المحصر بالعمرة

 

ج / 3 ص -78-         وعلى المحصر بالحج إن تحلل حجة وعمرة، وعلى المعتمر عمرة، وعلى القارن حجة، وعمرتان فإن بعث ثم زال الإحصار، وقدر على الهدي والحج توجه، وإلا لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يتوقف ذبحه باليوم، وفي المحيط جعل المواعدة المتقدمة إنما يحتاج إليها على قول أبي حنيفة؛ لأن دم الإحصار عنده لا يتوقف باليوم فلا يصير وقت الإحلال معلوما للمحصر من غير مواعدة، ولا يحتاج إليها عندهما؛ لأن دم الإحصار مؤقت عندهما بيوم النحر فكان وقت الإحلال معلوما. ا هـ. وفيه نظر؛ لأنه موقت عندهما بأيام النحر لا باليوم الأول فيحتاج إلى المواعدة لتعيين اليوم الأول أو الثاني أو الثالث، وقد يقال يمكنه الصبر إلى مضي الأيام الثلاثة فلا يحتاج إليها.
"قوله: وعلى المحصر بالحج إن تحلل حجة وعمرة، وعلى المعتمر عمرة، وعلى القارن حجة، وعمرتان "بيان لحكم المحصر المآلي فإن له حكمين حاليا، ومآليا فما تقدم من بعث الشاة حكم الحالي والقضاء إذا تحلل وزال الإحصار حكمه المآلي فإن كان مفردا بالحج فإن حج من سنته فإنه لا يلزمه شيء، وإلا لزمه قضاؤها، وعمرة أخرى؛ لأنه فائت الحج أطلقه فشمل ما إذا كان الحج فرضا أو نفلا شرع فيه وشمل ما إذا قرن في القضاء أو أفردهما فإنه مخير؛ لأنه التزم الأصل لا الوصف، وأما نية القضاء فإن كان بحج نفل، وتحولت السنة فهي شرط، وإن كان بحجة الإسلام فلا ينوي القضاء بل حجة الإسلام، وإنما لزم القارن عمرة ثانية؛ لأنه فائت الحج فلذا لو حج من سنته، وأتى بهما فإنه لا يلزمه عمرة أخرى، وأطلقه أيضا فأفاد أن له في القضاء القران، وإفراد كل واحد من الثلاثة لما قدمناه هكذا صرحوا به هنا، وممن صرح به صاحب المبسوط والمحيط والولوالجي والمحقق ابن الهمام ويرد عليه ما قالوه في هذا الباب: من أنه إذا زال الإحصار إنما لم يجب عليه أن يأتي بالعمرة التي وجبت عليه بالشروع في القران؛ لأنه غير قادر على أدائها على الوجه الذي التزمه، وهو أن تكون أفعال الحج مرتبة عليها وبفوات الحج يفوت ذلك فإن هذا يقتضي أن ليس له الإفراد، وأن القران واجب في القضاء ويناقضه ما قالوه في باب الفوات من أن القارن إذا فاته الحج أدى عمرته من سنته، وأدى الحج من سنة أخرى؛ لأنها لا تفوت، ولا شك أن المحصر فائت للحج إذا لم يدركه في سنته والحق هو الأول؛ لأن بالشروع التزم أصل القربة لا صفتها، وهو القران كما لو شرع في التطوع قائما لا يلزمه القيام عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
"قوله: فإن بعث ثم زال الإحصار، وقدر على الهدي والحج توجه، وإلا لا "أي إن لم يقدر عليهما لا يلزمه التوجه، وهي رباعية فإن قدر عليهما لزمه التوجه إلى الحج، وليس له التحلل بالهدي؛ لأنه بدل عن إدراك الحج، وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود من البدل، وإن لم يقدر عليهما لا يلزمه التوجه، وهو ظاهر، وإن توجه ليتحلل بأفعال العمرة جاز؛ لأنه هو الأصل في التحلل، وفيه فائدة، وهو سقوط العمرة في القضاء، وإن كان قارنا فله أن يأتي بالعمرة لما قدمناه

 

ج / 3 ص -79-         ولا إحصار بعدما وقف بعرفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أنه مخير بين القران والإفراد في القضاء.
والثالث أن يدرك الهدي دون الحج فيتحلل والرابع عكسه فيتحلل أيضا صيانة لماله عن الضياع والأفضل التوجه، وذكر في الهداية أن هذا التقسيم لا يستقيم على قولهما في المحصر بالحج؛ لأن دم الإحصار عندهما يتوقف بيوم النحر فمن يدرك الحج يدرك الهدي. وإنما يستقيم على قول أبي حنيفة، وفي المحصر بالعمرة يستقيم بالاتفاق لعدم توقت الدم بيوم النحر وذكر في الجوهرة أنه يستقيم على الإجماع كما إذا أحصر بعرفة، وأمرهم بالذبح قبل طلوع الفجر يوم النحر فزال الإحصار قبل الفجر بحيث يدرك الحج دون الهدي؛ لأن الذبح بمعنى. ا هـ.
وجوابه أن الإحصار بعرفة ليس بإحصار لما سيأتي فلو أحصر بمكان قريب من عرفة لاستقام، وفي المحيط لو بعث المحصر هديا ثم زال الإحصار وحدث آخر ونوى أن يكون عن الثاني جاز وحل به، وإن لم ينو حتى نحر لم يجز كمن وكل في كفارة يمين فكفر الموكل ثم حنث في يمين آخر فنوى أن يكون ما في يد الوكيل كفارة الثانية فإنه يجوز، وإن لم ينو حتى تصدق المأمور لا، وكذا لو بعث هديا جزاء صيد ثم أحصر فنوى أن يكون للإحصار.
ولو قلد بدنة، وأوجبها تطوعا ثم أحصر فنوى أن يكون لإحصاره جاز، وعليه بدنة مكان ما أوجب. وقال: أبو يوسف لا يجزئه إلا عن التطوع؛ لأنها صارت كالوقف وخرجت عن ملكه عنده فلا يملك صرفها إلى غير تلك الجهة. ا هـ.
"قوله: ولا إحصار بعدما وقف بعرفة "; لأنه لا يتصور الفوات بعده فأمن منه، وإنما تحقق الإحصار في العمرة، وإن كانت لا تفوت للزوم الضرر بامتداد الإحرام فوق ما التزمه، وأما المحصر في الحج بعد الوقوف فيمكنه التحلل بالحلق يوم النحر في غير النساء فلا ضرورة إلى التحلل بالدم ثم إن دام الإحصار حتى مضت أيام التشريق فعليه لترك الوقوف بالمزدلفة دم ولترك الجمار دم ولتأخير الحلق دم ولتأخير الطواف دم في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد ليس عليه لتأخير الحلق والطواف شيء كذا في الكافي للحاكم الشهيد، وقد قدمنا عن البدائع وغيره أن واجب الحج إذا تركه بعذر لا شيء عليه حتى لو ترك الوقوف بالمزدلفة خوف الزحام لا شيء عليه كما لا شيء على الحائض بترك طواف الصدر فلا شك أن الإحصار عذر فلا شيء عليه بترك الواجبات للعذر مع أنه منقول في الحاكم كما رأيت، وهو جمع كلام محمد في كتبه الستة التي هي ظاهر الرواية، وقد ظهر لي أن كلامهم هنا محمول على الإحصار بسبب العدو لا

 

ج / 3 ص -80-         ومن منع بمكة عن الركنين فهو محصر، وإلا لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مطلقا فإنه إذا كان بالمرض فهو سماوي يكون عذرا في ترك الواجبات، وإن كان من قبل العباد فإنه لا يكون عذرا في إسقاط حق الله تعالى كما قالوه في باب التيمم أن العدو إذا أسروه حتى صلى بالتيمم فإنه يعيدها بالوضوء إذا أطلق؛ لأنه من قبل العباد ثم اختلفوا في تحلل المحصر بعد الوقوف قيل لا يتحلل في مكانه ويدل عليه عبارة الأصل حيث قال: وهو حرام كما هو حتى يطوف طواف الزيارة، وهو يدل على تأخير الحلق على أن يفعله في الحرم، وقيل يتحلل في مكانه ويدل عليه عبارة الجامع الصغير حيث قال: وهو محرم على النساء حتى يطوف طواف الزيارة قال العتابي: وهو الأظهر كذا في غاية البيان.
"قوله: ومن منع بمكة عن الركنين فهو محصر، وإلا لا "أي، وإن قدر على أحدهما فليس بمحصر؛ لأنه إذا منع عنهما في الحرم فقد تعذر عليه الإتمام فصار كما إذا أحصر في الحل، وإذا قدر على الطواف فلأن فائت الحج يتحلل به والدم بدل عنه في التحلل، وأما إن قدر على الوقوف فلما بينا، وقد قيل في المسألة خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف والصحيح ما تقدم من التفصيل كذا في النهاية، وهو إشارة إلى رد ما في المحيط حيث جعل ما في المختصر من التفصيل رواية النوادر، وأن ظاهر الرواية أن الإحصار بمكة عنهما ليس بإحصار؛ لأنه نادر، ولا عبرة به. والله أعلم.

8- باب الفوات
من فاته الحج بفوت الوقوف بعرفة فليحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل بلا دم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"باب الفوات".
"من فاته الحج بفوت الوقوف بعرفة فليحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل بلا دم "بيان لأحكام أربعة. الأول: أن فوات الحج لا يكون إلا بفوت الوقوف بعرفة بمضي وقته. الثاني: أنه إذا فاته فإنه يجب عليه أن يخرج منه بأفعال العمرة. الثالث: لزوم القضاء سواء كان ما شرع فيه حجة الإسلام أو نذرا أو تطوعا، ولا خلاف بين الأمة في هذه الثلاثة فدليلها الإجماع. والرابع: عدم لزوم الدم لحديث الدارقطني المفيد لذلك لكنه ضعيف لكن تعددت طرقه فصار حسنا.

 

ج / 3 ص -81-         ولا فوت لعمرة وهي طواف وسعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأشار بقوله فليحلل بعمرة إلى وجوبها كما صرح به في البدائع، وإلى أنه يطوف ويسعى ثم يحلق أو يقصر، وإلى أن إحرامه لا ينقلب إحرام عمرة بل يخرج عن إحرام الحج بأفعال العمرة، وهو قولهما خلافا لأبي يوسف ويشهد لهما أن القارن إذا فاته الحج أدى عمرته؛ لأنها لا تفوت ثم أتى بعمرة أخرى لفوات الحج ثم يحلق، ولا دم عليه؛ لأنه للجمع بين النسكين، ولم يوجد فلو انقلب إحرامه عمرة لصار جامعا بين إحرام عمرتين، وأدائهما في وقت واحد، وهو لا يجوز ويشهد لهما أنه لو مكث حراما حتى دخل أشهر الحج من قابل فتحلل بعمل العمرة ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا فلو انقلب إحرامه عمرة كان متمتعا كمن أحرم للعمرة في رمضان فطاف لها في شوال كذا في المبسوط ويشهد لأبي يوسف أن فائت الحج لو أقام حراما حتى يحج مع الناس من قابل بذلك الإحرام لا يجزئه من حجته فلو بقي أصل إحرامه لأجزأه. وأجاب عنه في المبسوط بأنه، وإن بقي الأصل لكن تعين عليه الخروج بأعمال العمرة فلا يبطل هذا التعيين بتحول السنة مع أن إحرامه انعقد لأداء الحج في السنة الأولى فلو صح أداء الحج به في السنة الثانية تغير موجب ذلك العقد بفعله، وليس إليه تغيير موجب عقد الإحرام وذكر في المحيط أن فائدة الخلاف تظهر فيما إذا فاته الحج فأهل بحجة أخرى غير الأولى صحت وبرفض الأخرى عند أبي حنيفة، وعند محمد لا تصح، وعند أبي يوسف يمضي في الأخرى؛ لأن عنده إحرام الأولى انقلب للعمرة، وهذا محرم بالعمرة، وقد أضاف إليها حجة، وعنده لما بقي إحرامه فإذا أحرم بحجة أخرى يرفضها لئلا يكون جامعا بين إحرامي حج، وعليه دم، وعمرة وحجتان من قابل فإن كان نوى بالثانية قضاء الفائتة فهي هي، وعليه القضاء؛ لأنه باق في إحرام الحج فإذا نوى به القضاء يصير ناويا للإحرام القائم فلا تصح نيته، ولا يصير محرما بإحرام آخر.
وأطلق في فوت الحج فشمل الحج الفاسد والصحيح فلو أهل بحج ثم أفسده بالجماع قبل الوقوف ثم فاته الحج فعليه دم للجماع ويحل بالعمرة؛ لأن الفاسد معتبر بالصحيح، وكذا لو انعقد فاسدا كما إذا أحرم مجامعا فإنه ملحق بالصحيح، وقول صاحب الهداية؛ لأن الإحرام بعدما انعقد صحيحا لا يخرج عنه إلا بأداء أحد النسكين محمول على اللازم للاحتراز عن غير اللازم ليخرج به العبد والزوجة إذا أحرما بغير إذن لا ما قابل الصحيح، وهو الفاسد وليخرج به ما إذا أدخل حجة على عمرة أو على حجة فإنه ليس بلازم ولذا وجب الرفض، ولا يرد عليه المحصر فإن إحرامه لازم مع أنه يخرج عنه بغير الأفعال؛ لأنه عارض لا بطريق الوضع. والله أعلم.
"قوله: ولا فوت لعمرة "لعدم توقيتها بالإجماع "قوله: وهي طواف وسعي "أي أفعال العمرة طواف بالبيت سبعة أشواط وسعي بين الصفا

 

ج / 3 ص -82-         وتصح في السنة، وتكره يوم عرفة ويوم النحر، وأيام التشريق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمروة، وليس مراده بيان ماهيتها؛ لأن ركنها الطواف فقط، وأما السعي فواجب، وإنما لم يصرح بوجوبه فيها للعلم به من الحج؛ لأن السعي فيه واجب ففي العمرة أولى، ولم يذكر الإحرام؛ لأنه شرط في النسكين حجا كان أو عمرة، ولم يذكر الحلق؛ لأنه محلل مخرج منها، وهو من واجباتها كما في فتاوى قاضي خان.
وهي في اللغة بمعنى الزيارة يقال اعتمر فلان فلانا إذا زاره، وفي المغرب أن أصلها القصد إلى مكان عامر ثم غلب على القصد إلى مكان مخصوص.
"قوله: وتصح في السنة، وتكره يوم عرفة ويوم النحر، وأيام التشريق" لما قدمنا أنها لا تتوقف، وقد اعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمر في ذي القعدة إلا التي اعتمر مع حجته كما في صحيح البخاري ثم المراد بالأربعة إحرامه بهن فأما ما تم له منها فثلاث.
الأولى: عمرة الحديبية سنة ست فأحصر بها فنحر الهدي بها وحلق هو وأصحابه، ورجع إلى المدينة.
الثانية: عمرة القضاء في العام المقبل، وهي قضاء عن الحديبية هذا مذهب أبي حنيفة وذهب مالك إلى أنها مستأنفة لا قضاء عنها وتسمية الصحابة وجميع السلف إياها بعمرة القضاء ظاهر في خلافه، وعدم نقل أنه عليه السلام أمر الذين كانوا معه بالقضاء لا يفيد بل المفيد له نقل العدم لا عدم النقل نعم هو مما يؤنس به في عدم الوقوع؛ لأن الظاهر أنه لو كان لنقل لكن ذلك إنما يعتبر لو لم يكن من الثابت ما يوجب القضاء في مثله على العموم فيجب الحكم بعلمهم به، وقضائها من غير تعيين طريق علمي
الثالثة: عمرته التي قرن مع حجته على قولنا أو التي تمتع بها إلى الحج على قول القائلين أنه حج متمتعا أو التي اعتمرها في سفره ذلك على قول القائلين بأنه أفرد واعتمر، ولا عبرة بالقول الرابع.
الرابعة عمرته من الجعرانة كذا في فتح القدير.
وأطلق في المختصر الكراهة فانصرفت الكراهة إلى كراهة التحريم؛ لأنها المحمل عند إطلاقها ويدل عليه ما عن عائشة رضي الله عنها قالت حلت العمرة في السنة كلها إلا أربعة أيام

 

ج / 3 ص -83-         وهي سنة مؤكدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوم عرفة ويوم النحر ويومان بعد ذلك، وعن ابن عباس أنها خمسة وذكر ثلاثة أيام التشريق، وأطلق في كراهتها يوم عرفة فشمل ما قبل الزوال، وما بعده، وهو المذهب خلافا لما عن أبي يوسف أنها لا تكره قبل الزوال، وأفاد بالاقتصار على الخمسة أنها لا تكره في أشهر الحج، وهو الصحيح عند أهل العلم كما في غاية البيان، ولا فرق بين المكي والآفاقي واختلفوا في أفضل أوقاتها فبالنظر إلى فعله عليه السلام فأشهر الحج أفضل وبالنظر إلى قوله فرمضان أفضل للحديث الصحيح
"عمرة في رمضان تعدل حجة"، وقد وقع في الينابيع هنا غلط فاجتنبه، وهو أنه قال: تكره العمرة في خمسة أيام وذكر منها يوم الفطر بدل يوم عرفة كما نبه عليه في غاية السروجي، وفي فتاوى قاضي خان تكره العمرة في خمسة أيام لغير القارن. ا هـ. وهو تقييد حسن وينبغي أن يكون راجعا إلى يوم عرفة لا إلى الخمسة كما لا يخفى، وأن يلحق المتمتع بالقارن.
"قوله: وهي سنة "أي العمرة سنة مؤكدة، وهو الصحيح في المذهب، وقيل بوجوبها وصححه في الجوهرة واختاره في البدائع، وقال: إنه مذهب أصحابنا، ومنهم من أطلق اسم السنة، وهذا لا ينافي الوجوب. ا هـ. والظاهر من الرواية ما في المختصر فإن محمدا نص في كتاب الحجر أن العمرة تطوع، وليس بينهما كبير فرق كما قدمناه مرارا واستدل لها في غاية البيان بما رواه الترمذي وصححه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال:
"لا، وأن تعتمروا هو أفضل"، وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] فالإتمام بعد الشروع، ولا كلام لنا فيه؛ لأن الشروع ملزم، وكلامنا فيما قبل الشروع والمراد أنها سنة في العمر مرة واحدة فمن أتى بها مرة فقد أقام السنة غير مقيد بوقت غير ما ثبت النهي عنها فيه إلا أنها في رمضان أفضل هذا إذا أفردها فلا ينافيه أن القران أفضل؛ لأن ذلك أمر يرجع إلى الحج لا العمرة.
فالحاصل أن من أراد الإتيان بالعمرة على وجه أفضل فيها ففي رمضان أو الحج على وجه

 

ج / 3 ص -84-        
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أفضل فبأن يقرن معه عمرة. ثم اعلم أن للعمرة معنى لغويا، ومعنى شرعيا وسببا وركنا وشرائط وجوب وشرائط صحة وواجبات وسننا وآدابا، ومفسدا كالحج، وقد بينا معناها وركنها وواجباتها، وأما سببها فالبيت وشرائط وجوبها وصحتها ما هو شرائط الحج إلا الوقت، وأما سننها وآدابها فما هو سنن الحج وآدابه إلى الفراغ من السعي، وأما مفسدها فالجماع قبل طواف الأكثر من السبعة كذا في البدائع وغيره، وقد قدمنا أنه ليس لها طواف الصدر، وقال الحسن بن زياد يجب عليه. والله أعلم بالصواب.

9- باب الحج عن الغير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
9- "باب الحج عن الغير "
لما كان الحج عن الغير كالتبع أخره، والأصل فيه أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو قراءة قرآن أو ذكرا أو طوافا أو حجا أو عمرة أو غير ذلك عند أصحابنا للكتاب والسنة:
أما الكتاب فلقوله تعالى
{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 34]، وإخباره تعالى عن ملائكته بقوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] وساق عبارتهم بقوله تعالى {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } إلى قوله {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9].
وأما السنة فأحاديث كثيرة منها ما في الصحيحين حين ضحى بالكبشين فجعل أحدهما عن أمته، وهو مشهور تجوز الزيادة به على الكتاب، ومنها ما رواه أبو داود
"اقرءوا على موتاكم سورة يس" وحينئذ فتعين أن لا يكون قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] على ظاهره، وفيه تأويلات أقربها ما اختاره المحقق ابن الهمام أنها مقيدة بما يهبه العامل يعني ليس للإنسان من سعي غيره نصيب إلا إذا وهبه له فحينئذ يكون له.
وأما قوله عليه السلام:
"لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد" فهو في حق الخروج عن العهدة لا في حق الثواب فإن من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من

 

ج / 3 ص -85-         النيابة تجزئ في العبادات المالية عند العجز والقدرة، ولم تجر في البدنية بحال، وفي المركب منهما تجزئ عند العجز فقط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأموات والأحياء جاز ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة كذا في البدائع وبهذا علم أنه لا فرق بين أن يكون المجعول له ميتا أو حيا والظاهر أنه لا فرق بين أن ينوي به عند الفعل للغير أو يفعله لنفسه ثم بعد ذلك يجعل ثوابه لغيره لإطلاق كلامه. ولم أر حكم من أخذ شيئا من الدنيا ليجعل شيئا من عبادته للمعطى وينبغي أن لا يصح ذلك وظاهر إطلاقهم يقتضي أنه لا فرق بين الفرض والنفل فإذا صلى فريضة وجعل ثوابها لغيره فإنه يصح لكن لا يعود الفرض في ذمته؛ لأن عدم الثواب لا يستلزم عدم السقوط عن ذمته، ولم أره منقولا.
"قوله: النيابة تجزئ في العبادات المالية عند العجز والقدرة، ولم تجر في البدنية بحال، وفي المركب منهما تجزئ عند العجز فقط "بيان لانقسام العبادة إلى ثلاثة أقسام مالية محضة كالزكاة وصدقة الفطر والإعتاق والإطعام والكسوة في الكفارات والعشر والنفقات سواء كانت عبادة محضة أو عبادة فهي معنى المؤنة أو مؤنة فيها معنى العبادة كما عرف في الأصول.
وبدنية محضة كالصلاة والصوم والاعتكاف، وقراءة القرآن والأذكار والجهاد.
ومركبة من البدن والمال كالحج والأصل فيه أن المقصود من التكاليف الابتلاء والمشقة، وهي في البدنية بإتعاب النفس والجوارح بالأفعال المخصوصة وبفعل نائبه لا تتحقق المشقة على نفسه فلم تجز النيابة مطلقا لا عند العجز، ولا عند القدرة.
وفي المالية بتنقيص المال المحبوب للنفس بإيصاله إلى الفقير، وهو موجود بفعل النائب، وكان مقتضى القياس أن لا تجزئ النيابة في الحج لتضمنه للمشقتين البدنية والمالية. والأولى لا يكتفى فيها بالنائب لكنه تعالى رخص في إسقاطه بتحمل المشقة الأخرى أعني إخراج المال عند العجز المستمر إلى الموت رحمة وفضلا بأن تدفع نفقة الحج إلى من يحج عنه بخلاف حالة القدرة لم يعذر؛ لأن تركه فيها ليس إلا بمجرد إيثار رحمة نفسه على أمر ربه، وهو بهذا يستحق العقاب لا التخفيف في طريق الإسقاط، وإذا جازت النيابة في المالية مطلقا فالعبرة لنية الموكل لا لنية الوكيل وسواء نوى الموكل وقت الدفع إلى الوكيل أو وقت دفع الوكيل إلى الفقراء أو فيما بينهما.
ولهذا قال في الفتاوى الظهيرية من فصل مصارف الزكاة: رجل دفع إلى رجل دراهم ليتصدق بها على الفقراء تطوعا فلم يتصدق المأمور حتى نوى الآمر عن الزكاة من غير أن يتلفظ به ثم تصدق المأمور جاز عن الزكاة. وكذا لو أمره أن يعتق عبدا تطوعا ثم نوى الآمر عن الكفارة قبل إعتاق المأمور عن التطوع. ا هـ. ولهذا لا تعتبر أهلية النائب حتى لو وكل المسلم ذميا

 

ج / 3 ص -86-         والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في دفع الزكاة جاز كما في كشف الأسرار شرح أصول فخر الإسلام
"قوله: والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت "أي الشرط في جواز النيابة في المركب عجز المستنيب عجزا مستمرا إلى موته؛ لأن الحج فرض العمر فحيث تعلق به خطابه لقيام مشروط وجب عليه أن يقوم بنفسه في أول سني الإمكان فإذا أخر أثم وتقرر القيام بنفسه في ذمته في مدة عمره، وإن كان غير متصف بالشروط فإذا عجز عن ذلك في مدة عمره رخص له الاستنابة رحمة وفضلا فحيث قدر عليه وقتا من عمره بعدما استنابه فيه لعجز لحقه ظهر انتفاء شرط الرخصة ثم ظاهر ما في المختصر أنه لا فرق بين أن يكون المرض يرجى زواله أو لا يرجى زواله كالزمانة والعمى فلو أحج الزمن أو الأعمى ثم صح، وأبصر لزمه أن يحج بنفسه وبسبب هذا صرح المحقق في فتح القدير به، وليس بصحيح بل الحق التفصيل فإن كان مرضا يرجى زواله فأحج فالأمر مراعى فإن استمر العجز إلى الموت سقط الفرض عنه، وإلا فلا، وإن كان مرضا لا يرجى زواله كالعمى فأحج غيره سقط الفرض عنه سواء استمر ذلك العذر أو زال صرح به في المحيط، وفتاوى قاضي خان و المبسوط وصرح به في معراج الدراية بأنه إذا أحج الأعمى غيره ثم زال العمى لا يبطل الإحجاج. ا هـ.
وقيد بالعجز الدائم؛ لأنه لو أحج، وهو صحيح ثم عجز واستمر لا يجزئه لفقد الشرط ويشكل عليه ما في التجنيس، وفتاوى قاضي خان وغيرهما أنه لو قال: لله علي ثلاثون حجة فأحج ثلاثين نفسا في سنة واحدة إن مات قبل أن يجيء وقت الحج جاز عن الكل؛ لأنه لم تعرف قدرته بنفسه عند مجيء وقت الحج، وإن جاء وقت الحج، وهو يقدر بطلت حجته؛ لأنه يقدر بنفسه عليها فانعدم الشرط فيها، وعلى هذا كل سنة تجيء. ا هـ. وينبغي أن يراد بوقت الحج وقت الوقوف بعرفة يعني إن جاء يوم عرفة، وهو ميت أجزأه الكل، وإن كان حيا بطلت واحدة وتوقف الأمر في الباقي، وليس المراد بوقت الحج أشهر الحج؛ لأن الإحجاج يكون في أشهر الحج فلا يتأتى التفصيل، وإن كان المكان بعيدا فأحج قبل الأشهر فهو قاصر الإفادة عما إذا كان قريبا فأحج في الأشهر الحرم فالأولى ما قلناه ووجه إشكاله على ما سبق إن وقت الإحجاج كان صحيحا فإذا مات قبل وقته أجزأه. وقد تقدم أنه إذا أحج، وهو صحيح ثم عجز لا يجزئه ودفعه بأن المراد بعجزه بعد الإحجاج العجز بعد فراغ النائب عن الحج بأن كان وقت الوقوف صحيحا فلا مخالفة كما لا يخفى، وعلى هذا المرأة إذا لم تجد محرما لا تخرج إلى الحج إلى أن تبلغ الوقت الذي تعجز عن الحج فحينئذ تبعث من يحج عنها أما قبل ذلك فلا يجوز لتوهم وجود المحرم فإن بعثت رجلا إن دام عدم المحرم إلى أن ماتت فذلك جائز كالمريض إذا أحج عنه رجلا ودام المرض إلى أن مات.

 

ج / 3 ص -87-         وإنما شرط عجز المنوب للحج الفرض لا النفل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأطلق في العجز فشمل ما إذا كان سماويا أو بصنع العباد فلو أحج، وهو في السجن فإذا مات فيه أجزأه، وإن خلص منه لا، وإن أحج لعدو بينه وبين مكة إن أقام العدو على الطريق حتى مات أجزأه، وإن لم يقم لا يجزئه كذا في التجنيس.
وذكر في البدائع: وأما شرائط جواز النيابة فمنها أن يكون المحجوج عنه عاجزا عن الأداء بنفسه، وله مال فلا يجوز إحجاج الصحيح غنيا كان أو فقيرا؛ لأن المال من شرائط الوجوب، ومنها العجز المستدام إلى الموت، ومنها الأمر بالحج فلا يجوز حج الغير عنه بغير أمره إلا الوارث يحج عن مورثه فإنه يجزئه إن شاء الله تعالى لوجود الأمر دلالة، ومنها نية المحجوج عنه عند الإحرام، ومنها أن يكون حج المأمور بمال المحجوج عنه فإن تطوع الحاج عنه بمال نفسه لم يجز عنه حتى يحج بماله، وكذا إذا أوصى أن يحج بماله فمات فتطوع عنه وارثه بمال نفسه؛ لأن الفرض تعلق بماله فإذا لم يحج بماله لم يسقط عنه الفرض، ومنها الحج راكبا حتى لو أمره بالحج فحج ماشيا يضمن النفقة ويحج عنه راكبا؛ لأن المفروض عليه هو الحج راكبا فينصرف مطلق الأمر بالحج إليه فإذا حج ماشيا فقد خالف فيضمن. ا هـ.
وفي فتح القدير واعلم أن شرط الإجزاء كون أكثر النفقة من مال الآمر فإن أنفق الأكثر أو الكل من مال نفسه، وفي المال المدفوع إليه وفاء بحجه رجع به فيه إذ قد يبتلى بالإنفاق من مال نفسه لبعث الحاجة، ولا يكون المال حاضرا فيجوز ذلك كالوصي والوكيل يشتري لليتيم ويعطي الثمن من مال نفسه فإنه يرجع به في مال اليتيم. ا هـ. وبهذا علم أن اشتراطهم أن تكون النفقة من مال الآمر للاحتراز عن التبرع لا مطلقا.
"قوله: وإنما شرط عجز المنوب للحج الفرض لا النفل": لجواز الإنابة مع القدرة في حج النفل؛ لأن المقصود منه الثواب فإذا كان له تركه أصلا فله تحمل مشقة المال بالأولى أطلقه فشمل حجة الإسلام والحجة المنذورة، وأشار به إلى أنه لو أحج عنه، وهو صحيح حجة الإسلام أو كان مريضا ثم صح بطل وصف الفرضية لفقد شرطه، وهو العجز وبقي أصل الحج تطوعا للآمر لا أنه فاسد أصلا صرح به الإسبيجابي والسرخسي وعلاء الدين النجاري في الكشف، ولم يحكوا فيه خلافا فعلى هذا بين الصلاة والحج فرق على قول محمد فإنه يقول فيها إذا بطل وصفها بطل أصلها، ولم ينقل عنه في الحج ذلك لما أن باب الحج أوسع فلهذا يمضى في فاسده كما يمضى في صحيحه. وأشار المصنف بجريان النيابة في الحج عند العجز في الفرض، ومطلقا في النفل أن أصل الحج يقع للآمر لحديث الخثعمية، وهي أسماء بنت عميس من المهاجرات، وهو أنها قالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على

 

ج / 3 ص -88-         ومن حج عن آمريه ضمن النفقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراحلة أفأحج عنه قال: "نعم" متفق عليه فقد أطلق كونه عنه، وقولهما أفأحج عنه فيه روايتان فتح الهمزة وضم الحاء أي أنا أحرم عنه بنفسي وأؤدي الأفعال، وهذا هو المشهور من الرواية وروي بضم الهمزة، وكسر الحاء أي آمر أحدا أن يحج عنه ذكره الهندي في شرح المغني، وهو ظاهر الرواية عن أصحابنا كما في الهداية وظاهر المذهب كما في المبسوط، وهو الصحيح كما في كثير من الكتب، وذهب عامة المتأخرين كما في الكشف إلى أن الحج يقع عن المأمور وللآمر ثواب النفقة قالوا: وهو رواية عن محمد، وهو اختلاف لا ثمرة له؛ لأنهم اتفقوا أن الفرض يسقط عن الآمر، ولا يسقط عن المأمور، وأنه لا بد من أن ينويه عن الآمر، وهو دليل المذهب، وأنه يشترط أهلية النائب لصحة الأفعال حتى لو أمر ذميا لا يجوز، وهو دليل الضعيف، ولم أر من صرح بالثمرة، وقد يقال إنها تظهر فيمن حلف أن لا يحج فعلى المذهب إذا حج عن غيره لا يحنث، وعلى الضعيف يحنث إلا أن يقال: إن العرف أنه قد حج، وإن وقع عن غيره فيحنث اتفاقا.
"قوله: ومن حج عن آمريه ضمن النفقة "; لأن كل واحد منهما أمره بأن يخلص النفقة له من غير اشتراك، ولا يمكنه إيقاعه عن أحدهما لعدم الأولوية فيقع عن المأمور نفلا، ولا يجزئه عن حجة الإسلام ويضمن النفقة إن أنفق من مالهما؛ لأنه صرف نفقة الآمر إلى حج نفسه أطلق في الآمرين فشمل الأبوين وسيأتي إخراجهما، وقيد بالأمر بهما؛ لأنه لو أحرم عنهما بغير أمرهما فله أن يجعله عن أحدهما؛ لأنه متبرع بجعل ثواب عمله لأحدهما أو لهما فبقي على خياره بعد وقوعه سببا لثوابه.
وأشار بالضمان إلى أنه لا يمكنه بأن يجعله عن أحدهما بعد ذلك، وقيد بكونه أحرم عنهما معا؛ لأنه لو أحرم عن أحدهما غير معين فالأمر موقوف فإن عين أحدهما قبل الطواف والوقوف انصرف إليه، وإلا انصرف إلى نفسه، ولا يكون مخالفا بمجرد الإحرام المذكور؛ لأن كلا أمره بحجة، وأحدهما صالح لكل منهما صادق عليه، ولا منافاة بين العام والخاص، ولا يمكن أن يصير للمأمور؛ لأنه نص على إخراجها عن نفسه بجعلها لأحد الآمرين فلا ينصرف إليه إلا إذا وجد

 

ج / 3 ص -89-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحد الأمرين اللذين ذكرناهما، ولم يتحقق بعد فإذا شرع في الأعمال قبل التعيين تعينت له؛ لأن الأعمال لا تقع لغير معين ثم ليس في وسعه أن يحولها إلى غيره، وإنما جعل له الشرع ذلك إلى الثواب، ولولا الشرع لم يحكم به في الثواب أيضا، ولو أحرم بحجة من غير تعيين فإنه يصح التعيين بعده لأحدهما بالأولى وذكر في الكافي أنه ينبغي أن يكون مجمعا عليه لعدم المخالفة، ولو أحرم مبهما من غير تعيين ما أحرم به لآمر معين فإنه يجوز بلا خلاف، وهو أظهر من الكل فصور الإبهام أربعة في واحدة يكون مخالفا، وهي مسألة الكتاب منطوقا، وفي الثلاثة لا يكون مخالفا، وهي أن يكون الإبهام إما في الآمر أو في النسك أو فيهما، ولو أهل المأمور بالحج بحجتين إحداهما عن نفسه والأخرى عن الآمر ثم رفض التي أهل بها عن نفسه تكون الباقية عن الآمر كأنه أهل بها وحدها.
وأشار المصنف إلى أن المأمور في كل موضع يصير مخالفا فإنه يضمن النفقة فمنها ما إذا أمره بالإفراد بحجة أو عمرة فقرن، فهو ضامن للنفقة عنده خلافا لهما. ومنها ما إذا أمره بالحج فاعتمر ثم حج من مكة؛ لأنه مأمور بحج ميقاتي، وما أتى به مكي بخلاف ما إذا أمره بالعمرة فاعتمر ثم حج عن نفسه لم يكن مخالفا، والنفقة في مدة إقامته للحج في ماله؛ لأنه أقام في منفعة نفسه بخلاف ما إذا حج أولا ثم اعتمر للآمر فإنه يكون مخالفا؛ لأنه جعل المسافة للحج، وأنه لم يؤمر به، وإن كانت الحجة أفضل من العمرة؛ لأنه خلاف من حيث الجنس كالوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار كذا في المحيط.
وفي فتح القدير والحاج عن غيره إن شاء قال لبيك عن فلان، وإن شاء اكتفى بالنية عنه، وليس للمأمور أن يأمر غيره بما أمر به عن الآمر، وإن مرض في الطريق إلا أن يكون وقت الدفع قيل له اصنع ما شئت فحينئذ له أن يأمر غيره به، وإن كان صحيحا فلو أحج رجلا فحج ثم أقام بمكة جاز؛ لأن الفرض صار مؤدى والأفضل أن يحج ثم يعود إلى أهله. ا هـ.
ثم اعلم أن النفقة ما يكفيه لذهابه، وإيابه وأنه لا يخلو إما أن يكون المحجوج عنه حيا أو ميتا فإن كان حيا فإنه يعطيه بقدر ما يكفيه كما ذكرنا فإن أعطاه زائدا على كفايته فلا يحل للمأمور ما زاد بل يجب عليه رده إلى صاحبه إلا إذا قال: وكلتك أن تهب الفضل من نفسك وتقبضه لنفسك فإن كان على موت قال:والباقي مني لك وصية، وإن كان قد أوصى بأن يحج عنه ثم مات فإما أن يعين قدرا أو لا فإن عين قدرا اتبع ما عينه حتى لا يجوز النقص عنه إذا كان يخرج من الثلث كما سيأتي تفصيله قريبا في مسألة الوصية ولهذا قال في المحيط: رجل مات وترك ابنين،

 

ج / 3 ص -90-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأوصى بأن يحج عنه بثلاثمائة وترك تسعمائة، وأنكر أحدهما، وأقر الآخر، وأخذ كل واحد منهما نصف المال ثم إن المقر دفع مائة وخمسين يحج بها عن الميت ثم أقر الآخر إن أحج بأمر القاضي يأخذ المقر من الجاحد خمسة وسبعين درهما؛ لأنه جاز الحج عن الميت بمائة وخمسين وبقي مائة وخمسون ميراثا لهما فيكون لكل واحد نصفه، وإن أحج لغير أمر القاضي فإنه يحج مرة أخرى بثلاثمائة؛ لأنه لم يجز الحج عن الميت؛ لأنه أمره بثلاثمائة. ا هـ. ومع التعيين المذكور لا يحل للمأمور المذكور ما فضل بل يرده على ورثته؛ ولهذا قالوا لو أوصى بأن يعطى بعيره هذا رجلا ليحج عنه فدفع إلى رجل فأكراه الرجل فأنفق الكراء على نفسه في الطريق وحج ماشيا جاز عن الميت استحسانا، وإن خالف أمره وصححه في المحيط، وقال أصحاب الفتاوى: هو المختار؛ لأنه لما ملك أن يملك رقبتها بالبيع ويحج بالثمن استحسانا هو المختار فلأن يملك أن يملك منفعتها بالإجارة ويحج ببدل المنفعة كان أولى؛ لأنه لو لم يظهر في الآخرة أنه يملك ذلك يكون الكراء له؛ لأنه غاصب، والحج له فيتضرر الميت ثم يرد البعير إلى ورثة الميت؛ لأنه ملك المورث. ا هـ. وهذه المسألة خرجت عن الأصل للضرورة فإن الأصل أن المأمور بالحج راكبا إذا حج ماشيا فإنه يكون مخالفا، وإن لم يعين الموصي قدرا فإن الورثة يحجون عنه من الثلث بقدر الكفاية.
ولهذا قال: الولوالجي في فتاويه رجل مات، وأوصى أن يحج عنه، ولم يقدر فيه مالا فالوصي إن أعطى إلى رجل ليحج عنه في محمل احتاج إلى ألف، ومائتين، وإن حج راكبا لا في محمل يكفيه الألف وكل ذلك يخرج من الثلث يجب أقلهما؛ لأنه هو المتيقن. ا هـ.
فالحاصل أن المأمور لا يكون مالكا لما أخذه من النفقة بل يتصرف فيه على ملك المحجوج عنه حيا كان أو ميتا معينا كان القدر أو غير معين، ولا يحل له الفضل إلا بالشرط المتقدم سواء كان الفضل كثيرا أو يسيرا كيسير من الزاد كما صرح به في الفتاوى الظهيرية وينبغي أن تكون كذلك الحجة المشروطة من جهة الواقف كما شرط
سليمان باشا بوقفه بمصر قدرا معينا لمن يحج عنه كل سنة فإنه يتبع شرطه، ولا يحل للمأمور ما فضل منه بل يجب رده إلى الوقف، وهذا كله إذا أوصى بأن يحج عنه أما إذا قال: أحجوا فلانا حجة، ولم يقل عني، ولم يسم كم يعطى فإنه يعطى قدر ما يحج به ويكون ملكا له، وإن شاء حج به، وإن شاء لم يحج، وهو وصية كما في المبسوط وغيره. فإذا عرف ذلك فللمأمور بالحج أن ينفق على نفسه بالمعروف ذاهبا وآيبا، ومقيما من غير تبذير، ولا تقتير في طعامه وشرابه وثيابه وركوبه، وما لا بد له منه من محمل، وقربة، وأدوات السفر فلو توطن بمكة بعد الفراغ فإن كان لانتظار القافلة فنفقته في مال الميت، وإلا فمن مال نفسه، وما ذكره أكثر المشايخ من أنه إذا توطن خمسة عشر يوما فنفقته عليه فمحمول

 

ج / 3 ص -91-         ودم الإحصار على الآمر ودم القران ودم الجناية على المأمور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على ما إذا كان لغير عذر، وهو عدم خروج القافلة، وكذا ما ذكره بعضهم من اعتبار الثلاث، وإذا صارت النفقة عليه بعد خروجها ثم بدا له أن يرجع رجعت نفقته في مال الميت؛ لأنه كان استحق نفقة الرجوع في مال الميت، وهو كالناشزة إذا عادت إلى المنزل والمضارب إذا أقام في بلد أو بلدة أخرى خمسة عشر يوما لحاجة نفسه، وفي البدائع هذا إذا لم يتخذ مكة دارا فأما إذا اتخذها دارا ثم عاد لا تعود النفقة بلا خلاف، وإن أقام بها من غير نية الإقامة قالوا إن كانت الإقامة معتادة لم تسقط، وإن زاد على المعتاد سقطت، ولو تعجل إلى مكة فهي في مال نفسه إلى أن يدخل عشر ذي الحجة فتصير في مال الآمر، ولو سلك طريقا أبعد من المعتاد إن كان مما سلكه الناس ففي مال الآمر، وإلا ففي ماله، وله أن ينفق على نفسه نفقة مثله من طعام، ومنه اللحم والكسوة، ومنه ثوبا إحرامه وأجرة من يخدمه إن كان ممن يخدم، وليس له أن ينفق ما فيه ترفيه كدهن السراج والأدهان والتداوي والاحتجام وأجرة الحمام والحلاق إلا أن يوسع عليه واختار في المحيط والخانية أن يعطى أجرة الحمام والحارس، وصرح الولوالجي بأنه المختار، وقالوا: له أن يشتري حمارا يركبه وذكر الولوالجي بأنه مكروه والجمل أفضل؛ لأن النفقة فيه أكثر، وليس له أن يدعو أحدا إلى طعامه، ولا يتصدق به، ولا يقرض أحدا، ولا يصرف الدراهم بالدنانير، ولا يشتري بها ماء لوضوئه، ولو اتجر في المال ثم حج بمثله فالأصح أنها عن الميت ويتصدق بالربح كما لو خلطها بدراهمه حتى صار ضامنا ثم حج بمثلها، وله أن يخلط الدراهم للنفقة مع الرفقة للعرف كذا في المحيط.
"قوله: ودم الإحصار على الآمر ودم القران ودم الجناية على المأمور "; لأن الآمر هو الذي أدخله في هذه العهدة فعليه خلاصه، وأراد من الآمر المحجوج عنه فشمل الميت فإن دم الإحصار من ماله ثم قيل هو من ثلث ماله؛ لأنه صلة كالزكاة وغيرها، وقيل من جميع المال؛ لأنه وجب حقا للمأمور فصار دينا كذا في الهداية، وإذا تحلل المأمور المحصر بذبح الهدي فعليه الحج من قابل بمال نفسه، ولا يكون ضامنا للنفقة كفائت الحج لعدم المخالفة، وعليه الحج من قابل بمال نفسه كذا قالوا، ولم يصرحوا بأنه في الإحصار والفوات إذا قضى الحج هل يكون عن الآمر أو يقع للمأمور، وإذا كان للآمر فهل يجبر على الحج من قابل بمال نفسه، وإنما وجب دم القران على المأمور باعتبار أنه وجب شكرا لما وفقه الله تعالى من الجمع بين النسكين والمأمور هو المختص بهذه النعمة؛ لأن حقيقة الفعل منه، وإن كان الحج يقع عن الآمر؛ لأنه وقوع شرعي ووجوب دم الشكر مسبب عن الفعل الحقيقي الصادر من المأمور.

 

ج / 3 ص -92-         ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأطلق في القران فشمل ما إذا أمره واحد بالقران فقرن أو أمره واحد بالحج وآخر بالعمرة، وأذنا له في القران وبقي صورتان يكون بالقران فيهما مخالفا إحداهما ما إذا لم يأذنا له بالقران فقرن عنهما ضمن نفقتهما الثانية ما إذا أمره بالحج مفردا فقرن فإنه يكون ضامنا للنفقة لا؛ لأن الإفراد أفضل من القران بل؛ لأنه أمره بإفراد سفر له، وقد خالف، وفي الثانية خلافهما هما يقولان هو خلاف إلى خير، وهو يقول إنه لم يأمره بالعمرة، ولا ولاية لأحد في إيقاع نسك عن غيره بغير أمره فصار كما لو أمره بالإفراد فتمتع فإنه يكون مخالفا اتفاقا، وأراد بالقران دم الجمع بين النسكين قرانا كان أو تمتعا كما صرح به في غاية البيان لكن بالإذن المتقدم.
وأطلق في دم الجناية فشمل دم الجماع ودم جزاء الصيد ودم الحلق ودم لبس المخيط والطيب ودم المجاوزة بغير إحرام، وإنما وجب على المأمور وحده باعتبار أنه تعلق بجنايته لكن في الجناية بالجماع تفصيل إن كان قبل الوقوف ضمن جميع النفقة؛ لأنه صار مخالفا بالإفساد، وإن بعده فلا ضمان والدم على المأمور على كل حال، وإذا فسد حجه لزمه الحج من قابل بمال نفسه، وفيه ما تقدم من التردد في وقوعه عن الآمر، ولو أتم الحج إلا طواف الزيارة فرجع، ولم يطفه فهو حرام على النساء ويعود بنفقة نفسه ويقضي ما بقي عليه؛ لأنه جان في هذه الصورة أما لو مات بعد الوقوف قبل الطواف جاز عن الآمر؛ لأنه أدى الركن الأعظم كذا قالوا، وقد قدمنا في أول كتاب الحج فيه بحثا، وأعظمية أمرها إنما هو للأمن من الإفساد بعده لا؛ لأنه يكفي فيجب على الآمر الإحجاج، وفي فتح القدير، وأما دم رفض النسك، ولا يتحقق ذلك إذا تحقق إلا في مال الحاج، ولا يبعد لو فرض أنه أمره بحجتين معا ففعل حتى ارتفضت إحداهما كونه على الآمر، ولم أره والله سبحانه أعلم. ا هـ.
ولو اختلف المأمور والورثة أو الوصي فقال: وقد أنفق من مال الميت منعت من الحج، وكذبه الآخر لا يصدق ويضمن إلا أن يكون أمرا ظاهرا يشهد على صدقه؛ لأن سبب الضمان قد ظهر فلا يصدق في دفعه إلا بظاهر يدل على صدقه، ولو اختلفا فقال: حججت، وكذبه الآمر كان القول للمأمور مع يمينه؛ لأنه يدعي الخروج عن عهدة ما هو أمانة في يده، ولا تقبل بينة الوارث أو الوصي أنه كان يوم النحر بالبلد؛ لأنها شهادة على النفي إلا أن يقيما على إقراره أنه لم يحج أما لو كان الحاج مديونا للميت أمره أن يحج بما له عليه وباقي المسألة بحالها فإنه لا يصدق إلا ببينة؛ لأنه يدعي قضاء الدين هكذا في كثير من الكتب، وفي خزانة الأكمل القول له مع يمينه إلا أن يكون للورثة مطالب بدين الميت فإنه لا يصدق في حق غريم الميت إلا بالحجة، والقواعد تشهد للأول فكان عليه المعول.

 

ج / 3 ص -93-         فإن مات في طريقه يحج عنه من منزله بثلث ما بقي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: فإن مات في طريقه يحج عنه من منزله بثلث ما بقي "هذه العبارة تحتمل شيئين: الأول أن يكون فاعل مات المأمور بالحج فمعنى المسألة أن الوصي إذا أحج رجلا عن الميت فمات الرجل في الطريق فإنه يحج عن الميت الموصي من منزله بثلث ما بقي من المال كله، وعلى هذا الوجه اقتصر الشارحون مع ما فيه من التعقيد في الضمائر فإن ضمير مات يرجع إلى المأمور وضمير عنه، ومنزله يرجع إلى الموصي. الثاني أن يكون فاعل مات هو الموصي، فيتحد مرجع الضمائر، وهو صحيح فإنه إذا مات بعدما خرج حاجا، وأوصى بالحج فإنه يحج عنه من منزله بثلث تركته، ويصدق عليه أنه بثلث ما بقي أي بعد الإنفاق في الطريق.
فالحاصل أن الآمر إما أن يكون حيا وقت الإحجاج أو ميتا فإن كان حيا، ومات المأمور في الطريق فإنه يحج إنسانا آخر من منزله على كل حال؛ لأنه حي يرجع إليه ولهذا لو أمر إنسانا بأن يحج عنه ودفع له مالا فلم تبلغ النفقة من بلده لم يحج عنه من حيث تبلغ كالميت؛ لأنه يمكن الرجوع إليه فيحصل الاستدراك بخلاف الميت كذا في الولوالجية، وإن كان ميتا، وأوصى بأن يحج عنه فلا يخلو إما أن يكون قد خرج حاجا بنفسه، ومات في الطريق أو لا، وفي كل منهما لا يخلو إما إن أطلق الوصية أو عين المال والمكان فإن أوصى بأن يحج عنه، وأطلق يحج عنه من ثلث ماله؛ لأنه بمنزلة التبرعات فإن بلغ ثلثه أن يحج عنه من بلده وجب الإحجاج من بلده؛ لأن الواجب عليه الحج من بلده الذي يسكنه، وكذا إن خرج لغير الحج، ومات في الطريق، وأوصى. وأما إذا خرج للحج، ومات في الطريق، وأوصى فإنه يحج عنه من بلده عند أبي حنيفة، وقالا يحج من حيث مات، وعلى هذا الخلاف المأمور في الحج إذا مات في الطريق فإنه يحج عن الموصي من منزله بثلث ما بقي من التركة، وكذا لو مات الثاني أو الثالث إلى أن لا يبقى شيء يمكن أن يحج بثلثه عند أبي حنيفة.
وإن كان للموصي أوطان حج عنه من أقرب أوطانه إلى مكة؛ لأنه متيقن به، وإن لم يكن له وطن فمن حيث مات فلو مات مكي بالكوفة، وأوصى بحجة حج عنه من مكة. وإن أوصى بالقران قرن من الكوفة؛ لأنه لا يصح من مكة فإن أحج عنه الوصي من غير وطنه مع ما يمكن الإحجاج من وطنه من ثلث ماله فإن الوصي يكون ضامنا ويكون الحج له ويحج عن الميت ثانيا إلا إذا كان المكان الذي أحج منه قريبا إلى وطنه من حيث يبلغ إليه ويرجع إلى الوطن قبل الليل فحينئذ لا يكون ضامنا مخالفا هذا كله إن بلغ ثلث ماله فإن لم يبلغ الإحجاج من بلده حج عنه من حيث يبلغ استحسانا، وإن بلغ الثلث أن يحج عنه راكبا فأحج عنه ماشيا لم يجز، وإن لم يبلغ إلا ماشيا من بلده قال محمد: يحج عنه من حيث بلغ راكبا، وعن أبي حنيفة أنه مخير بين أن يحج عنه من بلده

 

ج / 3 ص -94-         ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماشيا أو راكبا من حيث تبلغ هذا إذا أطلق، وأما إذا عين مكانا اتبع؛ لأن الإحجاج لا يجب بدون الوصية فيجب بمقدارها، وهذا كله إذا كان الثلث يكفي لحجة واحدة فإن كان يكفي لحجج فهو على ثلاثة أقسام إما أن يعين حجة واحدة أو يطلق أو يعين في كل سنة حجة ففي الأول يحج عنه واحدة، وما فضل فهو لورثته، وفي الثاني خير الوصي إن شاء أحج عنه في كل سنة حجة، وإن شاء أحج عنه في سنة واحدة حججا، وهو الأفضل؛ لأنه تعجيل تنفيذ الوصية؛ لأنه ربما هلك المال، وفي الثالث كالثاني، ولم يذكر في الأصل؛ لأن شرط التفريق لا يفيد فصار كالإطلاق كما لو أمر الموصي رجلا بالحج في هذه السنة فأخره المأمور إلى القابل فإنه يجوز عن الميت، ولا يضمن النفقة؛ لأن ذكر السنة للاستعجال لا للتقييد، ولو أوصى بأن يحج عنه بثلث ماله أو أطلق فهلكت النفقة في يد المأمور قال أبو حنيفة: يحج عنه بثلث ماله، وقال أبو يوسف بما بقي من ثلث ماله، وأبطله محمد. وهذا كله إذا لم يعين الموصي قدرا فإن عين قدرا من المال فإن بلغ ذلك أن يحج عنه من بلده وجب، وإلا فمن حيث يبلغ، ولو عين أكثر من الثلث يحج عنه بالثلث من حيث يبلغ بخلاف الوصية بشراء عبد بأكثر من الثلث، وإعتاقه عنه فإنها باطلة؛ لأن في العتق لا يجوز النقصان عن المسمى كذا في المحيط وغيره وذكر الولوالجي في فتاواه لو أوصى بأن يحج عنه من ثلث ماله، ولم يقل حجة حج عنه من جميع الثلث؛ لأنه أوصى بصرف جميع الثلث إلى الحج؛ لأن كلمة من للتمييز عن أصل المال، ولو دفع الوصي الدراهم إلى رجل ليحج عن الميت فأراد أن يسترد كان له ذلك ما لم يحرم؛ لأن المال أمانة في يده فإن استرده فنفقته إلى بلده على من تكون إن استرد بجناية ظهرت منه فالنفقة في ماله خاصة، وإن استرد لا بجناية، ولا تهمة فالنفقة على الوصي في ماله خاصة، وإن استرد لضعف رأي فيه أو لجهله بأمور المناسك فأراد الدفع إلى أصلح منه فنفقته في مال الميت؛ لأنه استرد لمنفعة الميت. ا هـ. وفي فتح القدير لو أوصى أن يحج عنه، ولم يزد على ذلك كان للوصي أن يحج بنفسه إلا أن يكون وارثا، وإن دفعه إلى وارث ليحج فإنه لا يجوز إلا أن تجيز الورثة، وهم كبار؛ لأن هذا كالتبرع بالمال فلا يصح للوارث إلا بإجازة الباقين، ولو قال الميت للوصي: ادفع المال لمن يحج عنه لم يجز له أن يحج بنفسه مطلقا، وفي الظهيرية، ولو كان ثلث ماله قدر ما لا يمكن الإحجاج عنه بطلت الوصية، وفي التجنيس رجل أوصى بأن يحج عنه فحج عنه ابنه ليرجع في التركة فإنه يجوز كالدين إذا قضاه من مال نفسه، ولو حج على أن لا يرجع فإنه لا يجوز عن الميت؛ لأنه لم يحصل مقصود الميت، وهو ثواب الإنفاق، وعلى هذا الزكاة والكفارة، ومثله لو قضى عنه دينه متطوعا جاز؛ لأن الحج عن الكبير العاجز بغير أمره لا يجوز، وقضاء الدين بغير أمره في حالة الحياة يجوز فكذا بعد الموت. رجل مات، وعليه حجة الإسلام فحج عنه رجل بإذنه، ولم ينو لا فرضا ولا نفلا فإنه يجوز عن حجة الإسلام، ولو نوى تطوعا لا يجوز عن حجة الإسلام. ا هـ.

 

ج / 3 ص -95-         ومن أهل بحج عن أبويه فعين صح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي عمدة الفتاوى للصدر الشهيد لو قال: حجوا من ثلثي حجتين يكتفى بواحدة والباقي للورثة إن فضل. ا هـ. وهو مشكل على ما تقدم من المحيط والولوالجية، وهو مبني على الفرق بين أن يوصي من الثلث وبين أن يوصي بجميع الثلث وذكر في آخر العمدة من الوصايا لو أوصى بأن يحج عنه بالألف من ماله فأحج الوصي من مال نفسه ليرجع ليس له ذلك؛ لأن الوصية باللفظ فيعتبر لفظ الموصي، وهو أضاف المال إلى نفسه فلا يبدل. ا هـ.
وفي العدة امرأة تركت مهرها على الزوج ليحج بها وحج بها فعليه المهر؛ لأنه بمنزلة الرشوة، وهي حرام ا هـ. وذكر الإسبيجابي أنه لا يجوز الاستئجار على الحج، ولا على شيء من الطاعات فلو استؤجر على الحج ودفع إليه الأجر فحج عن الميت فإنه يجوز عن الميت، وله من الأجر مقدار نفقة الطريق في الذهاب والمجيء ويرد الفضل على الورثة؛ لأنه لا يجوز الاستئجار عليه، ولا يحل له أن يأخذ الفضل لنفسه إلا إذا تبرع الورثة به، وهم من أهل التبرع أو أوصى الميت بأن الفضل للحاج. وقال بعض مشايخنا: لا تجوز هذه الوصية؛ لأن الموصى له مجهول إلا أن الأول أصح؛ لأن الموصى له يصير معروفا بالحج كما لو أوصى بشراء عبد بغير عينه ويعتق ويعطى له مائة درهم فإنها جائزة، وقال بعضهم: لا تجوز. ا هـ.
وأراد المصنف بموته في الطريق موته قبل الوقوف بعرفة، ولو كان بمكة، وفي المحيط، ولو دفع إلى رجل مالا ليحج به عنه فأهل بحجة ثم مات الآمر فللورثة أن يأخذوا ما بقي من المال معه ويضمنونه ما أنفق منه بعد موته، ولا يشبه الورثة الآمر في هذا؛ لأن نفقة الحج كنفقة ذوي الأرحام فتبطل بالموت ويرجع المال إلى الورثة ا هـ.
"قوله: ومن أهل بحج عن أبويه فعين صح "; لأنه جعل الثواب للغير، وهو لا يحصل إلا بعد الأداء فالنية قبله لهما لغو فإذا فرغ وجعله لأحدهما أو لهما فإنه يجوز بخلاف ما إذا أهل عن آمريه ثم عين لما تقدم أنه صار مخالفا وبهذا علم أن التعيين بعد الإبهام ليس بشرط، وإنما ذكره ليعلم منه حكم عدم التعيين بالأولى؛ لأنه بعد أن جعله لهما يملك صرفه عن أحدهما فلأن يبقيه لهما أولى وبهذا علم أن الأجنبي كالوارث في هذا فإن من تبرع عن أجنبيين بالحج فهو كالولد عن الأبوين؛ لأن المجعول إنما هو الثواب فله أن يجعله لمن شاء، وعلم أيضا أنه في الوارث المتبرع من غير وصية أما إذا أوصى بحجة الفرض فتبرع الوارث بالحج فقد قدمنا أنه لا يجوز، وإن لم يوص فتبرع الوارث إما بالحج بنفسه أو بالإحجاج عنه رجلا فقد قال أبو حنيفة يجزئه

 

ج / 3 ص -96-        
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن شاء الله تعالى لحديث الخثعمية فإنه شبهه بدين العباد، وفيه لو قضى الوارث من غير وصية يجزئه فكذا هذا، وفي المبسوط فإن قيل فقد أطلق أبو حنيفة الجواب في كثير من الأحكام الثابتة بخبر الواحد، ولم يقيده بالمشيئة قلنا إن خبر الواحد يوجب العمل فيما طريقه العمل فأطلق الجواب فيه فأما سقوط حجة الإسلام عن الميت بأداء الورثة طريقه العلم فإنه أمر بينه وبين ربه تعالى فلهذا قيد الجواب بالاستثناء. ا هـ. وذكر الولوالجي أن قوله إن شاء الله تعالى على القبول لا على الجواز؛ لأنه شبهه بقضاء الدين، ومن تبرع بقضاء دين رجل كان صاحب الدين بالخيار إن شاء قبل، وإن شاء لم يقبل فكذا في باب الحج. ا هـ.
ثم اعلم أن حج الولد عن والده ووالدته مندوب للأحاديث كما في فتح القدير ثم المصنف رحمه الله تعالى لم يقيد الحاج عن الغير بشيء ليفيد أنه يجوز إحجاج الصرورة، وهو الذي لم يحج أولا عن نفسه لكنه مكروه كما صرحوا به واختار في فتح القدير أنها كراهة تحريم للنهي الوارد في ذلك، وفي البدائع يكره إحجاج المرأة والعبد والصرورة والأفضل إحجاج الحر العالم بالمناسك الذي حج عن نفسه، وهو يدل على أنها كراهة تنزيه، وإلا قال: ويجب إحجاج الحر إلى آخره.
والحق أنها تنزيهية على الآمر تحريمية على الصرورة المأمور الذي اجتمعت فيه شروط الحج، ولم يحج عن نفسه؛ لأنه آثم بالتأخير، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

10- باب الهدي
أدناه شاة، وهو إبل وبقر وغنم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
10- "باب الهدي"
هو في اللغة ما يهدى إلى الحرم من شاة أو بقرة أو بعير الواحد هدية كما يقال جدي في جدية السرج ويقال هدي بالتشديد على فعيل الواحدة هدية كمطية، ومطي، ومطايا كذا في "المغرب".
"قوله: أدناه شاة، وهو إبل وبقر وغنم "يفيد أن له أعلى، وهو كذلك فإن الأفضل الإبل

 

ج / 3 ص -97-         وما جاز في الضحايا جاز في الهدايا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأدنى الشاة والبقر وسط، وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما:
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} بالشاة، وأراد بالإبل والبقر والغنم بيان أنواع ما يهدى إلى الحرم فالهدي لغة وشرعا واحد لا أن تلك الأنواع تسمى هديا من غير إهداء إلى الحرم وحينئذ فإطلاق الهدي على غير الأنواع الثلاثة في كلام الفقهاء في باب الأيمان والنذور مجاز ثم الواحد من النعم يكون هديا بجعله صريحا هديا أو دلالة، وهي إما بالنية أو بسوق بدنة إلى مكة، وإن لم ينو استحسانا؛ لأن نية الهدي ثابتة عرفا؛ لأن سوق البدنة إلى مكة في العرف يكون للهدي لا للركوب والتجارة كذا في المحيط، وأراد به السوق بعد التقليد لا مجرد السوق.
وأفاد ببيان الأدنى أنه لو قال: لله علي أن أهدي، ولا نية له فإنه يلزمه شاة؛ لأنها الأقل، وإن عين شيئا لزمه فإن كان مما يراق دمه ففيه ثلاث روايات في رواية أبي سليمان يجوز أن يهدي بقيمته؛ لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وما أوجبه الله تعالى في جزاء الصيد يتأدى بالقيمة فكذا ما أوجبه العبد، وفي رواية أبي حفص أجزأه أن يهدي مثله؛ لأنه في معناه، وفي رواية ابن سماعة لا يجوز أن يهدي قيمته؛ لأنه أوجب شيئين الإراقة والتصدق فلا يجوز الاقتصار على التصدق كما في هدي المتعة والقران بخلاف جزاء الصيد؛ لأنه كما أوجب الهدي أوجب غيره، وهو الإطعام، وهنا الناذر ما أوجب إلا الهدي فتعين، ولو بعث بقيمته فاشترى بمكة مثله وذبحه جاز.
قال الحاكم في المختصر ويحتمل أن يكون هذا تأويل رواية أبي سليمان، ومن نذر شاة فأهدى جزورا فقد أحسن، وليس هذا من القيمة لثبوت الإراقة في البدل الأعلى كالأصل. وقالوا إذا قال: لله علي أن أهدي شاتين فأهدى شاة تساوي شاتين قيمة لم يجزه، وهي مرجحة لرواية ابن سماعة فكان هو المذهب، وإن كان المنذور شيئا لا يراق دمه فإن كان منقولا تصدق بعينه أو بقيمته، وإن كان عقارا تصدق بقيمته، ولا يتعين التصدق به في الحرم، ولا على فقراء مكة؛ لأن الهدي فيه مجاز عن التصدق. ثم اعلم أنه إذا ألحق بلفظ الهدي ما يبطله لا يلزمه شيء كما لو قال: هذه الشاة هدي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام عند أبي حنيفة؛ لأن اسم الهدي إنما يوجب باعتبار إضمار مكة بدلالة العرف فإذا صرح بالحرم أو المسجد تعذر هذا الإضمار إذ قد صرح بمراده.
"قوله: وما جاز في الضحايا جاز في الهدايا "يعني فيجوز الثني من الإبل والبقر والغنم، ولا يجوز الجذع إلا من الضأن؛ لأنه قربة تعلقت بإراقة الدم كالأضحية فيتخصصان بمحل واحد

 

ج / 3 ص -98-         والشاة تجوز في كل شيء إلا في طواف الركن جنبا ووطء بعد الوقوف ويأكل من هدي التطوع والمتعة والقران فقط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثني من الغنم ما تم له سنة، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن الإبل ما تم له خمس.
واختلف في الجذع من الضأن فجزم في المبسوط أنه ابن سبعة أشهر عند الفقهاء وستة في اللغة، وفي غاية البيان أنه ما تم له ثمانية أشهر وشرط أن يكون عظيم الجثة أما إن كان صغيرا فلا بد من تمام السنة، وأفاد أنه يجوز للاشتراك في بدنة كما في الأضحية بشرط إرادة الكل القربة، وإن اختلفت أجناسهم من دم متعة، وإحصار وجزاء صيد وغير ذلك. ولو كان الكل من جنس واحد كان أحب بأن اشترى بدنة لمتعة مثلا ناويا أن يشترك فيها ستة أو يشتريها بغير نية الهدي ثم يشترك فيه ستة وينووا الهدي أو يشتروها معا في الابتداء، وهو الأفضل.
وأما إذا اشتراها للهدي من غير نية الشركة ليس له الاشتراك فيها؛ لأنه يصير بيعا؛ لأنها كلها صارت واجبة بعضها بإيجاب الشرع، وما زاد بإيجابه، وإذا كان أحد الشركاء كافرا أو مريدا اللحم دون الهدي لم يجزهم، وإذا مات أحد الشركاء فرضي وارثه أن ينحرها عن الميت معهم أجزأهم استحسانا؛ لأن المقصود هو التصدق، وأي الشركاء نحرها يوم النحر أجزأ الكل.
وأشار إلى أنه لا بد من السلامة عن العيوب كما في الأضحية فهو مطرد منعكس أي فما لا يجوز في الضحايا لا يجوز في الهدايا فعبارة الهداية أولى، وهي: ولا يجوز في الهدايا إلا ما جاز في الضحايا. فإنه لا يلزم من الإطراد الانعكاس ألا ترى إلى قولهم: وما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون أجرة في الإجارة لم يلزم انعكاسه لفساده لجواز جعل المنافع المختلفة أجرة لا ثمنا.
"قوله: والشاة تجوز في كل شيء إلا في طواف الركن جنبا ووطء بعد الوقوف "يعني أن كل موضع ذكر فيه الدم من كتاب الحج تجزئ فيه الشاة إلا فيما ذكره، وليس مراده التعميم فإن من نذر بدنة أو جزورا لا تجزئه الشاة، وإنما لزمت البدنة فيما إذا طاف جنبا؛ لأن الجنابة أغلظ فيجب جبر نقصانها بالبدنة إظهارا للتفاوت بين الأصغر والأكبر ويلحق به ما إذا طافت حائضا أو نفساء، وليس موضعا ثالثا كما في فتح القدير؛ لأن المعنى الموجب للتغليظ واحد ووجبت في الجماع بعد الوقوف؛ لأنه أعلى أنواع الارتفاقات فيتغلظ موجبه، وأطلق فشمل ما بعد الحلق، وقد أسلفنا فيه اختلافا والراجح وجوب الشاة بعده فالمراد هنا الوطء بعد الوقوف قبل الحلق والطواف.
"قوله: ويأكل من هدي التطوع والمتعة والقران فقط "أي يجوز له الأكل ويستحب للاتباع الفعلي الثابت في حجة الوداع على ما رواه مسلم من أنه عليه السلام نحر ثلاثا وستين بدنة بيده ونحر علي ما بقي من المائة ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من

 

ج / 3 ص -99-         وخص ذبح هدي المتعة والقران بيوم النحر فقط والكل بالحرم لا بفقيره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لحمها وشربا من مرقها؛ ولأنه دم النسك فيجوز منه الأكل كالأضحية.
وأشار بكلمة من إلى أنه يأكل البعض منه والمستحب أن يفعل كما في الأضحية، وهو أن يتصدق بالثلث ويطعم الأغنياء الثلث ويأكل ويدخر الثلث.
وأفاد بقوله هدي التطوع أنه بلغ الحرم أما إذا ذبحه قبل بلوغه فليس بهدي فلم يدخل تحت عبارته ليحتاج إلى الاستثناء فلهذا لا يأكل منه، والفرق بينهما أنه إذا بلغ الحرم فالقربة فيه بالإراقة، وقد حصلت والأكل بعد حصولها، وإذا لم يبلغ فهي بالتصدق والأكل ينافيه.
وأفاد بقوله فقط أنه لا يجوز الأكل من بقية الهدايا كدماء الكفارات كلها والنذور، وهدي الإحصار، وكذا ما ليس بهدي كالتطوع إذا لم يبلغ الحرم، وكذا لا يجوز للأغنياء؛ لأن دم النذر دم صدقة، وكذا دم الكفارات؛ لأنه وجب تكفيرا للذنب، وكذا دم الإحصار لوجود التحلل والخروج من الإحرام قبل أوانه.
قال في البدائع: وكل دم يجوز له أن يأكل منه لا يجب عليه التصدق بلحمه بعد الذبح؛ لأنه لو وجب عليه التصدق به لما جاز له أكله لما فيه من إبطال حق الفقراء وكل دم لا يجوز له الأكل منه يجب عليه التصدق بعد الذبح؛ لأنه إذا لم يجز أكله، ولم يتصدق به يؤدي إلى إضاعة المال، ولو هلك المذبوح بعد الذبح لا ضمان عليه في النوعين؛ لأنه لا صنع له في الهلاك، وإن استهلكه بعد الذبح فإن كان مما يجب عليه التصدق به يضمن قيمته فيتصدق بها؛ لأنه تعلق به حق الفقراء فبالاستهلاك تعدى على حقهم، وإن كان مما لا يجب التصدق به لا يضمن شيئا، ولو باع اللحم جاز بيعه في النوعين؛ لأن ملكه قائم إلا أن فيما لا يجوز له أكله ويجب عليه التصدق به يتصدق بثمنه؛ لأنه ثمن مبيع واجب التصدق. ا هـ. وهكذا نقله عنه في فتح القدير باختصار مع أنه قدم أنه ليس له بيع شيء من لحوم الهدايا، وإن كان مما يجوز له الأكل منه فإن باع شيئا أو أعطى الجزار أجره منه فعليه أن يتصدق بقيمته ا هـ.
وقد يقال في التوفيق بينهما إنه إن باع مما لا يجوز أكله وجب التصدق بالثمن، ولا ينظر إلى القيمة، وإن باع مما لا يجوز له أكله وجب التصدق بالقيمة، ولا ينظر إلى الثمن، وأن المراد بالجواز في كلام البدائع الصحة لا الحل، وفي فتح القدير، ولو أكل مما لا يحل له الأكل منه ضمن ما أكل وبه قال: الشافعي وأحمد، وقال: مالك لو أكل لقمة ضمن كله.
"قوله: وخص ذبح هدي المتعة والقران بيوم النحر فقط والكل بالحرم لا بفقيره" بيان

 

ج / 3 ص -100-       ولا يجب التعريف بالهدي ويتصدق بجلاله وخطامه، ولا يعطي أجرة الجزار منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكون الهدي موقتا بالمكان سواء كان دم شكر أو جناية لما تقدم أنه اسم لما يهدى من النعم إلى الحرم، وأما توقيته بالزمان فمخصوص بهدي المتعة والقران، وأما بقية الهدايا فلا تتقيد بزمان.
وأفاد أن هدي التطوع إذا بلغ الحرم لا يتقيد بزمان، وهو الصحيح، وإن كان ذبحه يوم النحر أفضل كما ذكره الشارح خلافا للقدوري.
وأراد المصنف بيوم النحر وقته، وهو الأيام الثلاثة، وأراد بالاختصاص الاختصاص من حيث الوجوب على قول أبي حنيفة، وإلا لو ذبح بعد أيام النحر أجزأ إلا أنه تارك للواجب، وقبلها لا يجزئ بالإجماع، وعلى قولهما كذلك في القبلية، وكونه فيها هو السنة عندهما حتى لو ذبح بعد التحلل بالحلق لا شيء عليه، وعنده عليه دم ودخل تحت قوله والكل بالحرم الهدي المنذور بخلاف البدنة المنذورة فإنها لا تتقيد بالحرم عند أبي حنيفة ومحمد، وقال: أبو يوسف لا يجوز ذبحها في غير الحرم قياسا على الهدي المنذور والفرق ظاهر واتفقوا على أنه لو نذر نحر جزور أو بقرة فإنه لا يتقيد بالحرم، ولو نذر بدنة من شعائر الله أو نوى أن تنحر بمكة تقيد بالحرم اتفاقا كذا في المحيط.
وقوله لا بفقيره بيان لجواز التصدق على فقراء غير الحرم بلحم الهدي لإطلاق الدلائل لكن التصدق على فقراء مكة أفضل كما في البدائع معزيا إلى الأصل.
"قوله: ولا يجب التعريف بالهدي "; لأن الهدي ينبئ عن النقل إلى مكان التقرب بإراقة الدم فيه لا عن التعريف فلا يجب، وهو الذهاب به إلى عرفات أو التشهير بالتقليد والإشعار، ولم يذكر استحبابه؛ لأن فيه تفصيلا فما كان دم شكر استحب تعريفه، وما كان دم كفارة استحب إخفاؤه وستره؛ لأن سببها الجناية كقضاء الصلاة يستحب إخفاؤه، ولم يذكر المصنف سنن الذبح والنحر هنا لما سيصرح به في باب الذبائح والأضحية.
"قوله: ويتصدق بجلاله وخطامه، ولا يعطي أجرة الجزار منه "أي الهدي والجلال جمع الجل، وهو ما يلبس على الدابة والخطام هو الزمام، وهو ما يجعل في أنف البعير لحديث البخاري مرفوعا أن عليا رضي الله عنه أمره عليه السلام
"أن يقوم على بدنة، وأن يقسم بدنة كلها لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطي في جزارتها شيئا"، وهي بضم الجيم كراء عمل الجزار.

 

 

ج / 3 ص -101-       ولا يركبه بلا ضرورة ولا يحلبه وينضح ضرعها بالنقاخ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأفاد أنه إن أعطاه منها أجرته ضمنه لإتلاف اللحم أو معاوضته، وقيد بالأجر؛ لأنه لو تصدق بشيء من لحمها عليه سوى أجرته جاز؛ لأنه أهل للصدقة عليه.
"قوله: ولا يركبه بلا ضرورة "; لأنه جعله خالصا لوجه الله تعالى فلا ينتفع بشيء منه وصرح في المحيط بأن ركوبه لغير حاجة حرام وينبغي أن يكون مكروها كراهة تحريم؛ لأن الدليل ليس قطعيا، وأشار إلى أنه لا يحمل عليها أيضا، وإلى أن لو ركبها أو حمل عليها فنقصت فعليه ضمان ما نقص ويتصدق به على الفقراء دون الأغنياء؛ لأن جواز الانتفاع بها للأغنياء معلق ببلوغ المحل.
وأطلقه فشمل ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز، وإنما جاز له حالة الضرورة لما رواه صاحب السنن مرفوعا "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا"، وفي الصحيح
"اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة حين رآه مضطرا إلى ركوبها"، وفي جامع الترمذي "ويحك أو ويلك"، وفي البدائع ويحك كلمة ترحم وويلك كلمة تهدد، وعلل الإمام الناصحي في الجمع بين وقفي هلال والخصاف بأن البدنة باقية على ملك صاحبها فيجوز الانتفاع بها عند الضرورة ولهذا لو مات قبل أن تبلغ كانت ميراثا. ا هـ. وظاهر كلامهم أنها إن نقصت بركوبه لضرورة فإنه لا ضمان عليه.
"قوله: ""ولا يحلبه "أي الهدي؛ لأنه جزؤه فلا يجوز له، ولا لغيره من الأغنياء فإن حلبه وانتفع به أو دفع إلى الغني ضمنه لوجود التعدي منه كما لو فعل ذلك بوبره أو صوفه، وفي المحيط ضمن قيمته فجعل اللبن قيميا، وفي غاية البيان ضمن مثله أو قيمته، وإن لم ينتفع به بعد الحلب تصدق به على الفقراء.
وأشار إلى أنها لو ولدت فإنه يتصدق به أو يذبحه معها فإن استهلكه ضمن قيمته، وإن باعه تصدق بثمنه، وإن اشترى بها هديا فحسن.
"قوله: وينضح ضرعها بالنقاخ" أي يرش بالماء البارد حتى يتقلص والنقاخ بالنون

 

ج / 3 ص -102-       وإن عطب واجب أو تعيب أقام غيره مقامه والمعيب له ولو تطوعا نحره وصبغ نعله بدمه وضرب به صفحته، ولم يأكله غني وتقلد بدنة التطوع والمتعة والقران فقط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المضمونة والقاف والخاء المعجمة الماء العذب الذي ينقخ الفؤاد ببرده كذا في الصحاح والمغرب، وفي المصباح المنير ينضح من بابي ضرب ونفع فعلى هذا تكسر ضاده وتفتح قالوا هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح، وإن كان بعيدا يحلبها ويتصدق بلبنها كي لا يضر بها ذلك.
"وإن عطب واجب أو تعيب أقام غيره مقامه والمعيب له"; لأن الواجب في الذمة فلا يسقط عنه حتى يذبح في محله والمراد بالعطب هنا الهلاك، وهو من باب علم فهو كما لو عزل دراهم الزكاة فهلكت قبل الصرف إلى الفقراء فإنه يلزمه إخراجها ثانيا والمراد من العيب هنا ما يكون مانعا من الأضحية فهو كهلاكه، وإنما كان المعيب له؛ لأنه عينه إلى جهة، وقد بطلت فبقي على ملكه، وهل يدخل تحت الواجب هنا ما لو نذر شاة معينة فهلكت فإنه يلزمه غيرها أو لا لكون الواجب في العين لا في الذمة.
"قوله: ولو تطوعا نحره وصبغ نعله بدمه وضرب به صفحته، ولم يأكله غني "أي، ولو كان المعطوب أو المتعيب تطوعا نحره وصبغ قلادته بدمه فالمراد من العطب هنا القرب من الهلاك لا الهلاك، وفائدة هذا الفعل أن يعلم الناس أنه هدي فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء، وهذا؛ لأن الإذن في تناوله معلق بشرط بلوغه محله فينبغي أن لا يحل قبل ذلك أصلا إلا أن التصدق على الفقراء أفضل من أن يتركه لحما للسباع، وفيه نوع تقرب والتقرب هو المقصود.
"قوله: وتقلد بدنة التطوع والمتعة والقران فقط "; لأنه دم نسك، وفي التقليد إظهاره وتشهيره فيليق به، وأفاد بقوله فقط أنه لا يقلد دم الإحصار، ولا دم الجنايات؛ لأن سببها الجناية والستر أليق بها ودم الإحصار جابر فيلحق بجنسها، ولو قلده لا يضره كذا في المبسوط.
وقيد بالبدنة؛ لأنه لا يسن تقليد الشاة، ولا تقلد عادة ودخل تحت التطوع المنذور؛ لأنه لما كان بإيجاب العبد كان تطوعا أي ليس بإيجاب الشارع ابتداء فلذا ذكر في المحيط أنه يقلد دم النذر؛ لأنه دم نسك، وعبادة فإن قلت: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
"قلد هدايا الإحصار" قلت: جوابه أنه كان قلدها للمتعة فلما أحصر بقيت كما كانت فبعثت إلى مكة على حالها كذا في غاية البيان، ولم يذكر وقت التقليد؛ لأن فيه تفصيلا فإن بعثه يقلده من بلده، وإن كان معه فمن حيث يحرم هو السنة. والله سبحانه تعالى أعلم بالصواب.

 

ج / 3 ص -103-       مسائل منثورة
ولو شهدوا بوقوفهم قبل يومه تقبل وبعده لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"مسائل منثورة"
ثابتة في بعض النسخ دون بعض، وقد جرت عادة المصنفين أنهم يذكرون في آخر الكتاب ما شذ وندر من المسائل في الأبواب السالفة في فصل على حدة تكثيرا للفوائد ويقولون في أوله مسائل منثورة أو مسائل متفرقة أو مسائل شتى أو مسائل لم تدخل في الأبواب أو فروع.
"قوله: ولو شهدوا بوقوفهم قبل يومه تقبل وبعده لا "أي لو شهدوا بعدما وقف الناس بعرفة أنهم وقفوا يوم التروية قبلت شهادتهم، ولو شهدوا أنهم، وقفوا يوم النحر لا تقبل والقياس أن لا يجزئهم اعتبارا بما إذا وقفوا يوم التروية، وهذا؛ لأنه عبادة تختص بزمان، ومكان فلا تقع عبادة دونهما، وقد ذكر في الهداية للاستحسان وجهين الأول أنها لا تقبل لكونها على النفي. الثاني أنها تقبل لكن لا يستلزم عدم صحة الوقوف؛ لأن هذا النوع من الاشتباه مما يغلب، ولا يمكن التحرز عنه فلو لم يحكم بالجواز بعد الاجتهاد لزم الحرج الشديد المنفي شرعا، وهو حكمة قوله عليه السلام "وعرفتكم يوم تعرفون" أي وقت الوقوف بعرفة عند الله تعالى اليوم الذي يقف فيه الناس عن اجتهاد ورأي أنه يوم عرفة. وذكر في معراج الدراية أن الوجه الثاني هو الأصح ورجحه في فتح القدير بدفع الأول؛ لأنها قامت على الإثبات حقيقة، وهو رؤية الهلال في ليلة قبل رؤية أهل الموقف فليست شهادة على النفي، وإذا كانت هذه الشهادة لا يثبت بها عدم صحة الوقوف فلا فائدة في سماعها للإمام فلا يسمعها؛ لأن سماعها يشهرها بين عامة الناس من أهل الموقف فيكثر القيل والقال وتثور الفتنة وتتكدر قلوب المسلمين بالشك في صحة حجهم بعد طول عنائهم فإذا جاءوا ليشهدوا يقول لهم انصرفوا فلا تسمع هذه الشهادة قد تم حج الناس، وكذا حج الشهود، ولو وقفوا وحدهم لم يجزهم، وعليهم إعادة الوقوف مع الإمام للحديث السابق، وكذا إذا أخر الإمام الوقوف بمعنى يسوغ فيه الاجتهاد لم يجز وقوف من وقف قبله واستشكل المحقق في فتح القدير تصوير قبول الشهادة في المسألة الأولى؛ لأنه لا شك أن وقوفهم يوم التروية على أنه التاسع لا يعارضه شهادة من شهد أنه الثامن؛ لأن اعتقاد الثامن إنما يكون بناء على أن أول ذي الحجة ثبت بإكمال عدة ذي القعدة واعتقاده التاسع بناء على أنه رئي قبل الثلاثين من ذي القعدة فهذه شهادة على الإثبات والقائلون إنه الثامن حاصل ما عندهم نفي محض، وهو أنهم لم يروه ليلة الثلاثين من ذي القعدة ورآه الذين شهدوا فهي شهادة لا معارض لها. ا هـ.

 

ج / 3 ص -104-       ولو ترك الجمرة الأولى في اليوم الثاني رمى الثلاث أو الأولى فقط ومن أوجب حجا ماشيا لا يركب حتى يطوف للركن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فحاصله أن الشهادة على خلاف ما وقف الناس لا يثبت بها شيء مطلقا سواء كان قبله أو بعده، وهو إنما يتم أن لو انحصر التصوير فيما ذكره بل صورته لو وقف الإمام بالناس ظنا منه أنه يوم التاسع من غير أن يثبت عنده رؤية الهلال فشهد قوم أنه اليوم الثامن فقد تبين خطأ ظنه والتدارك ممكن فهي شهادة لا معارض لها ولهذا قال: في المحيط لو وقفوا يوم التروية على ظن أنه يوم عرفة لم يجزهم وبهذا التقرير علم أن المسألة تحتاج إلى تفصيل، ولا بدع فيه بل هو متعين. وقد بقي هنا مسألة ثالثة، وهي ما إذا شهدوا يوم التروية والناس بمنى أن هذا اليوم يوم عرفة ينظر فإن أمكن الإمام أن يقف مع الناس أو أكثرهم نهارا قبلت شهادتهم قياسا واستحسانا للتمكن من الوقوف فإن لم يقفوا عشية فاتهم الحج، وإن أمكنه أن يقف معهم ليلا لا نهارا فكذلك استحسانا، وإن لم يمكنه أن يقف ليلا مع أكثرهم لا تقبل شهادتهم ويأمرهم أن يقفوا من الغد استحسانا والشهود في هذا كغيرهم كما قدمناه، وفي الفتاوى الظهيرية، ولا ينبغي للإمام أن يقبل في هذا شهادة الواحد والاثنين ونحو ذلك.
"قوله: ولو ترك الجمرة الأولى في اليوم الثاني رمى الثلاث أو الأولى فقط "بيان لكون الترتيب في الجمار الثلاث في اليوم الثاني ليس بشرط، ولا واجب، وإنما هو سنة ولهذا قدم قوله رمى الثلاث لمراعاة الترتيب المسنون؛ لأن كل جمرة قربة قائمة بنفسها لا تعلق لها بغيرها، وليس بعضها تابعا لبعض بخلاف السعي قبل الطواف أو الطواف قبل الوقوف فإنه شرع مرتبا على وجه اللزوم فلم يدخل وقته، ولولا ورود النص في قضاء الفوائت بالترتيب قلنا لا يلزم فيها أيضا؛ لأن كل صلاة عبادة مستقلة وبخلاف البداءة بالمروة؛ لأن البداءة من الصفا ثبت بالنص، وهو قوله: عليه السلام
"ابدءوا بما بدأ الله به" بصيغة الأمر بخلاف الترتيب في الجمار الثلاث فإنه ثبت بالفعل، وهو لا يفيد أكثر من السنة.
"قوله: ومن أوجب حجا ماشيا لا يركب حتى يطوف للركن "أي بأن نذر الحج ماشيا، وفيه إشارة إلى وجوب المشي؛ لأن عبارة المختصر عبارة الجامع الصغير، وهي كلام المجتهد أعني أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه على ما نقله محمد عنه فيه، وهو إخبار المجتهد، وإخباره معتبر بإخبار الشرع؛ لأنه نائبه في بيان الأحكام كما في المعراج، وفي الأصل أي المبسوط لمحمد أيضا خيره بين الركوب والمشي، وعن أبي حنيفة أنه كره المشي فيكون الركوب أفضل،

 

ج / 3 ص -105-       ....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصحح ما في الجامع الصغير قاضي خان في شرحه واختاره فخر الإسلام معللا بأنه التزم القربة بصفة الكمال، وإنما قلنا إن المشي أكمل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من حج ماشيا كتبت له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم"؟ قيل، وما حسنات الحرم؟ قال: "واحدة بسبعمائة"، وإنما رخص الشرع في الركوب دفعا للحرج.
قال في غاية البيان: ولا يرد عليه ما أورد في النوازل عن أبي حنيفة أن الحج راكبا أفضل؛ لأن ذلك لمعنى آخر، وهو أن المشي يسيء خلقه وربما يقع في المنازعة والجدال المنهي عنه، وإلا فالأجر على قدر التعب والتعب في المشي أكثر. ا هـ. لا يقال لا نظير للمشي في الواجبات، ومن شرط صحة النذر أن يكون من جنس المنذور واجبا؛ لأنا نقول بل له نظير، وهو مشي المكي الذي لا يجد الراحلة، وهو قادر على المشي فإنه يجب عليه أن يحج ماشيا ونفس الطواف أيضا، ولم يذكر المصنف محل وجوب ابتداء المشي؛ لأن محمدا رحمه الله. لم يذكره فلذا اختلف المشايخ فيه على ثلاثة أقوال قيل من بيته، وهو الأصح كذا في فتح القدير وغيره؛ لأنه المراد عرفا، وقيل من الميقات، وقيل من أي موضع يحرم منه واختاره فخر الإسلام والإمام العتابي وصححه في غاية البيان؛ لأنه نذر بالحج، والحج ابتداؤه الإحرام وانتهاؤه طواف الزيارة فيلزمه بقدر ما التزم، ولا عبرة بالعرف مع وجود اللفظ بخلاف الوصية بالحج فإنه يحج عنه من بيته؛ لأن الوصية تنصرف إلى الفرض في الأصل ولهذا يحج عنه راكبا لا ماشيا والمعول عليه هو التصحيح الأول.
ويدل عليه من الرواية ما عن أبي حنيفة لو أن بغداديا قال: إن كلمت فلانا فعلي أن أحج ماشيا فلقيه بالكوفة فكلمه فعليه أن يمشي من بغداد، وقوله لا عبرة بالعرف مع وجود اللفظ ممنوع بل المعتبر في النذور والأيمان العرف لا اللفظ كما عرف في محله، وفي فتح القدير، ولو أحرم من بيته فالاتفاق على أن يمشي من بيته، وإنما ينتهي وجوب المشي بطواف الزيارة؛ لأن به ينتهي الإحرام، وأما طواف الصدر فللتوديع، وليس بأصل في الحج حتى لا يجب على من لا يودع. وأفاد بقوله لا يركب أنه لو ركب لزمه الجزاء لترك الواجب فإذا ترك في الكل أو في الأكثر يلزمه الدم، وفي الأقل يلزمه التصدق بقدره من قيمة الشاة الوسط، ومقتضى الأصل أن لا يخرج عن عهدة النذر إذا ركب كما لو نذر الصوم متتابعا فقطع التتابع، ولكن ثبت ذلك نصا في الحج

 

ج / 3 ص -106-       ولو اشترى محرمة حللها وجامعها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فوجب العمل به، وهو ما عن ابن عباس أن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي دما رواه أبو داود، وهو محمول على عجزها عن المشي بدليل الرواية الأخرى، وأنها لا تطيق.
وأطلق في الإيجاب فشمل ما إذا كان منجزا أو معلقا، وما إذا قال: لله علي أو علي حجة ماشيا، ولو قال: علي المشي إلى بيت الله الحرام، ولم يذكر حجا، ولا عمرة لزمه أحد النسكين استحسانا فإن جعله عمرة مشى حتى يحلق إلا إذا نوى به المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو مسجد من المساجد فإنه لا يلزمه شيء.
وقوله علي المشي إلى مكة أو الكعبة كقوله إلى بيت الله، ولو قال: علي المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام فإنه لا شيء عليه عند أبي حنيفة لعدم العرف بالتزام النسك به، وقالا يلزمه النسك احتياطا واتفقوا على أنه لا لزوم لو قال إلى الصفا أو المروة أو مقام إبراهيم أو إلى ستار الكعبة أو بابها أو ميزابها أو عرفات أو المزدلفة أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر مكان المشي غيره كقوله علي الذهاب إلى بيت الله أو الخروج.
ثم الحج المنذور يسقط بحجة الإسلام عند أبي حنيفة خلافا لمحمد فإذا نذر الحج، ولم يكن حج ثم حج، وأطلق كان عن حجة الإسلام وسقط عنه ما التزمه بالنذر؛ لأن نذره منصرف إليه، وإن كان قد حج ثم نذر ثم حج فلا بد من تعيين الحج عن النذر, وإلا وقع تطوعا كما حرره في فتح القدير، ومن نذر أن يحج في سنة كذا فحج قبلها جاز عن أبي يوسف خلافا لمحمد وقول أبي يوسف أقيس بما قدمناه في نذر الصوم.
"قوله: ولو اشترى محرمة حللها وجامعها": لأن منافعها مستحقة للمولى فيجوز له تحليلها بغير هدي غير أن البائع يكره تحليله لإخلاف الوعد حيث وجد منه الإذن والمشتري لم يوجد منه الإذن فلا يكره تحليله.
قيد بكونها محرمة؛ لأنها لو كانت منكوحة فليس للمشتري فسخ النكاح؛ لأنه قائم مقام البائع، وهو ليس له الفسخ بعد الإذن، وأطلق في إحرامها فشمل ما إذا كان بإذن البائع أو لا.
وأشار بعطف الجماع على التحليل إلى أنه يحللها بغير الجماع كقص ظفر وشعر، وهو أولى

 

ج / 3 ص -107-       من التحليل بالجماع؛ لأنه أعظم محظورات الإحرام حتى تعلق به الفساد فلا يفعله تعظيما لأمر الحج، ولا يقع التحليل بقوله حللتك بل بفعله أو بفعلها بأمره كالامتشاط بأمره، وأشار إلى أن للمشتري أن يحلل العبد المحرم لما قدمناه، وإذا كان له منعهما وتحليلهما ليس له الرد بالعيب، وإلى أن الحرة لو أحرمت بحج نفل ثم تزوجت فللزوج أن يحللها عندنا بخلاف ما إذا أحرمت بالفرض فليس له أن يحللها إن كان لها محرم فإن لم يكن لها فله منعها فإن أحرمت فهي محصرة لحق الشرع فلذا إذا أراد الزوج تحليلها لا تتحلل إلا بالهدي بخلاف ما إذا أحرمت بنفل بلا إذن له أن يحللها، ولا يتأخر تحليله إياها إلى ذبح الهدي كما قدمناه في باب الإحصار.
 ولو أذن لامرأته في حج النفل فليس له أن يرجع فيه لملكها منافعها، وكذا المكاتبة بخلاف الأمة، وفي فتح القدير، ولو جامع زوجته أو أمته المحرمة، ولا يعلم بإحرامها لم يكن تحليلا، وفسد حجها، وإن علمه كان تحليلا، ولو حللها ثم بدا له أن يأذن لها فأذن لها فأحرمت بالحج، ولو بعدما جامعها من عامها ذلك لم يكن عليها عمرة، ولا نية القضاء، ولو أذن لها بعد مضي السنة كان عليها عمرة مع الحج، ولو حللها فأحرمت فحللها فأحرمت هكذا مرارا ثم حجت من عامها أجزأها عن كل التحللات بتلك الحجة الواحدة، ولو لم تحج إلا من قابل كان عليها لكل تحليل عمرة والله سبحانه وتعالى أعلم.