البحر الرائق شرح كنز الدقائق ط احياء التراث

 ج / 8 ص -422-      كتاب إحياء الموات
وهي أرض تعذر زراعتها لانقطاع الماء عنها أو لغلبته عليها غير مملوكة بعيدة من العامر
______
 كتاب إحياء الموات
مناسبة هذا الكتاب بكتاب الكراهية يجوز أن يكون من حيث إن هذا الكتاب مشتمل على ما يكره وما لا يكره ويكفي فيها أدنى المناسبة والكلام هنا في وجوه: الأول في معناه لغة, والثاني في معناه شرعا, والثالث في شرطه, والرابع في سببه, والخامس في دليله, والسادس في حكمه أما دليله فقوله عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضا ميتة فهي له"1, وأما معناه لغة قال في الصحاح والموات بالفتح ما لا روح فيه والموات أيضا الأرض التي لا مالك لها من الآدميين وفي القاموس الموات كغراب وسحاب ما لا روح فيه والأرض لا مالك لها من الآدميين. ا هـ. وشرعا ما سيأتي في عبارة المؤلف. وسبب المشروعية تعلق البناء المقرر على الوجه الأكمل, وشرطه سيأتي في حكم تملك المحيي ما أحياه
قال: رحمه الله "وهي أرض تعذر زراعتها لانقطاع الماء عنها أو لغلبته عليها غير مملوكة بعيدة من العامر" فقوله "هي أرض" بمنزلة الجنس يشمل ما تعذر وغيره, وقوله "تعذر" أخرج غيره فلا يكون مواتا وقوله "لانقطاع الماء عنها أو لغلبته عليها" بيان لسبب التعذر وقوله "غير مملوكة" أخرج ما كان كذلك وهو مملوك فلا يكون مواتا وقوله "بعيدة عن العامر" أخرج القريبة فلا تكون مواتا قال الشارح وهذا تفسير لموات الأرض وإنما سميت مواتا إذا كانت بهذه الصفة لبطلان الانتفاع بها تشبيها بالميت قال الشارح: وأما تفسير الحياة فظاهر قال في العناية والإحياء شرعا أن يكرب الأرض ويسقيها فإن كربها ولم يسقها أو سقاها ولم يكربها فليس بإحياء وفي الكافي لو فعل أحدهما يكون إحياء وعن أبي يوسف الإحياء البناء والغراس أو الكرب أو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث: أخرجه أبو داود في الخراج والإمارى والفيء، باب في إحياء الموات "3073"، وأحمد في "مسنده" "13859".

 

 ج / 8 ص -423-     ومن أحياها بإذن الإمام ملكها
______
السقي وعن محمد الكرب الإحياء وفي الغياثية عن محمد الكرب ليس بإحياء إلا أن يبذرها وعن شمس الأئمة الإحياء أن يجعلها صالحة للزراعة وفي الخانية لو بنى في بعض أرض الموات أو زرع فيها كان ذلك إحياء لذلك البعض دون غيره إلا أن يكون ما عمر أكثر من النصف في قول أبي يوسف وقال محمد إذا كان الموات في وسط الإحياء يكون إحياء للكل ا هـ. والإحياء لغة الإنبات سواء كان بفعل فاعل من شراء وغير ذلك لا يقال لماذا عرف المؤلف الموات دون الإحياء, والمناسب أن يعرفهما معا ; لأنا نقول: أراد بيان الأكمل وإنما ترك تعريف الإحياء قال الشارح: لأنه ظاهر وقوله "غير مملوكة" يعني في دار الإسلام ; لأن الميت على الإطلاق ينصرف إلى الكامل وكماله بأن لا يكون مملوكا لأحد لأنها إذا كانت مملوكة لمسلم أو ذمي كان ملكه باقيا لعدم ما يزيله فلا يكون مواتا فإذا عرف المالك فهي له وإن لم يعرف كانت لقطة يتصرف فيها الإمام كما يتصرف في اللقطة ولو ظهر لها مالك بعد ذلك أخذها وضمن من زرعها إن نقصت بالزراعة وإلا فلا شيء عليه وقول القدوري فما كان منها عاديا مراده بالعادي ما قدم خرابه كأنه منسوب إلى عاد لخراب عهدهم وجعل المملوك في دار الإسلام إذا لم يعرف له مالك من الموات ; لأن حكمه كالموات ; لأنه لا يعرف له مالك بعينه وليس هو مواتا حقيقة على ما بينا وقوله "بعيدة عن العامر" هو قول أبي يوسف. والبعيدة أن تكون بحيث لو وقف إنسان في أقصى العامر وصاح بأعلى صوته لم يسمع منه فهو موات وإن كان يسمع فليس بموات ; لأن أهل العامر يحتاجون إليه لرعي مواشيهم وطرح حصائدهم فلم يكن انتفاعهم به منقطعا وعند محمد يعتبر حقيقة الانتفاع حتى لا يجوز إحياء ما ينتفع به أهل القرية وإن كان بعيدا ويجوز إحياء ما لا ينتفعون به وإن كان قريبا وشمس الأئمة اعتمد قول أبي يوسف وفي التتارخانية إذا عرف أنها كانت مملوكة في الأول ولم يعرف مالكها الآن قال القاضي أبو علي السغدي عن أستاذه الحكم: إنه يجوز للإمام أن يدفعها إلى رجل ويأذن له في الإحياء فتصير لمن أحياها وفي نوادر هشام إذا كان بها آثار عمارة من بناء وبئر ولا يعرف مالكها الآن لا يسع لأحد أن يحييها أو يتملكها أو يأخذ منها ترابا وفي رسالة أبي يوسف لهارون الرشيد هي لمن أحياها وليس للإمام أن يخرجها من يده وعليه فيها الخراج, وروى هشام عن محمد في الكفور الخربة والأماكن الخربة إذا رفع الرجل منها التراب, وألقاه في أرضه قال إذا كان القصور والخراب تعرف أنه من بناء قبل الإسلام فهي بمنزلة الموات لا بأس بذلك وإن خربت بعد الإسلام وكان لها أرباب لكن لا يعرفون لا يسع لأحد أن يأخذ منها شيئا ; لأنها بمنزلة دورهم ا هـ.
قال: رحمه الله "ومن أحياها بإذن الإمام ملكها" وهذا قول الإمام وقالا: يملك من أحيا ولا

 

 ج / 8 ص -424-     وإن حجر لا
______
يشترط فيه, إذن الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم
"من أحيا أرضا ليست لأحد فهو أحق بها"1 رواه البخاري ومسلم ولأنه مباح سبقت إليه يده كالاحتطاب والاصطياد وللإمام قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه"2 فإن قلت إن اعتبر عموم هذا الحديث يلزم أن لا يملك أحد شيئا من الأملاك بغير إذن الإمام مع أن الظاهر خلافه كالبيع وغيره قلت عمومه غير معتبر بل هو مختص بما يحتاج فيه إلى رأي الإمام وما نحن فيه من ذلك فإن قلت كون ما نحن فيه يحتاج إلى إذن الإمام هو أول المسألة فيلزم المصادرة ولأن هذه الأراضي كانت في أيدي الكفار فصارت في أيدي المسلمين فكانت فيئا ولا يختص أحد بالفيء بدون إذن الإمام كالغنائم بخلاف المستشهد به فلم يكن فيئا وإذا أحياها فهي له خراجية أو عشرية فهي على ما بينا في السير وبينا الخلاف فيه قال في الهداية ملكها خراجية أو عشرية قال والواجب فيها العشر لأن ابتداء وظيفة المسلم بالخراج إلا إذا استقاها بماء الخراجي لأنه حينئذ يكون فيها الخراج على اختلاف الماء ولو تركها بعد الإحياء وزرعها غيره قيل الثاني أحق بها ; لأن الأول ملك استغلالها دون رقبتها والأصح أن الأول أحق بها ; لأنه ملك رقبتها بالإحياء فلا تخرج عن ملكه بالترك ولو أحيا أرضا مواتا ثم أحاط الإحياء بجوانبها الأربعة أربعة نفذ على التعاقب تعين طريق الأول في الأرض الرابعة في المروي عن محمد ; لأنه لما أحيا الجوانب الثلاثة تعين الجانب الرابع للاستطراق وفي الظهيرية فإن جاء أربعة معا ولم يتقدم أحدهم, وأحيا كل واحد منهم جانبا منها, وأحاطوا بالأربعة جوانب معا فله أن يستطرق من أي أرض شاء إذا كانوا أحيوا جوانبها الأربعة معا هكذا قال والدي. ا هـ.. ويملك الذمي بالإحياء كالمسلم ; لأنهما لا يختلفان في سبب الملك قال تاج الشريعة فإن قلت ما رواه عام خص منه الحطب والحشيش وما روياه لم يخص فيكون العمل به أولى قلت ما ذكر لبيان أنه لا يجوز الافتيات على رأي الإمام والحشيش والحطب لا يحتاج فيهما إلى رأي الإمام فلم يتناولهما عموم الحديث فلم يصر مخصوصا والأرض مما يحتاج فيها إلى رأي الإمام ; لأنها صارت من الغنائم بإيجاف الخيل وإرضاع الكلاب كسائر الأموال فكان ما قلنا أولى وفي الخانية في كتاب الزكاة ذكر الناطفي: القاضي في ولايته بمنزلة الإمام في ذلك ا هـ.
قال: رحمه الله "وإن حجر لا" يعني وإن حجر الأرض لا يملكها به واختلف في كون التحجير يفيد التمليك فمنهم من قال يفيد ملكا مؤقتا إلى ثلاث سنين ومنهم من قال لا يفيد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في المزارعة باب من أحيا أرضا مواتا "2335"، وأحمد في "مسنده" "24362".
2 أخرجه الطبراني في الكبير "4/20".

 

 ج / 8 ص -425-     ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر
______
ملكا وهو مختار المصنف وهو الصحيح وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا جاء إنسان آخر قبل مضي ثلاث سنين وأحياها فإنه يملكها على الثاني ولا يملكه على الأول وجه الأول قول عمر رضي الله تعالى عنه: "ليس للمحتجر حق بعد ثلاث سنين"1 نفى الحق بعد ثلاث سنين فيكون له الحق في ثلاث سنين وجه الثاني أن الإحياء جعلها صالحة للزراعة, والتحجر للإعلام, مشتق من الحجر وهو المنع بوضع حجر أو بحصاد ما فيها من الحشيش والشوك أو بإحراق ما فيها من الشوك وكل ذلك لا يفيد الملك فبقيت مباحة على حالها لكنه هو أولى بها ولا تؤخذ إلا بعد مضي ثلاث سنين فإذا لم يعمرها أخذها منه ودفعها إلى غيره لأنه إنما كان دفعها إليه ليعمرها فتحصل المنفعة للمسلمين بالعشر أو الخراج فإذا لم يحصل المقصود فلا فائدة في تركها في يده نظير الاستباحة وهو بناء السبيل وحفر المعدن في هذا الحكم فإن قلت إذا كان الدفع لأجل العشر أو الخراج فيقتضي هذا الدليل أن للإمام أن يأخذها ويدفعها إلى غيره بعد الإحياء أيضا إذا كان لم يزرعها تحصيلا لمنفعة المسلمين بالعشر أو الخراج قلنا قد ملكها بالإحياء دون التحجر والإمام لا يملك أن يدفع مملوك أحد إلى غيره لانتفاع المسلمين, ويقدر أن يدفع غير المملوك إليه لذلك فافترقا وفي المحيط إذا حفر فيها بئرا أو ساق إليها ماء فقد أحياها زرع أو لم يزرع ولو حفر فيها أنهارا لم يكن إحياء إلا أن يجري فيها ولو حفر فيها ولم يبلغ الماء لم يكن إحياء ويكون تحجيرا. ا هـ.. قناة بين رجلين أحيا أحدهما أرضا ميتة ليس له أن يسقيها من القناة أو يجعل شربه منها لأن هذه الأرض ليس فيها حق في هذا الشرب فليس له ذلك بغير إذن شريكه فإذا حفر رجلان بنفقتهما بئرا في أرض موات على أن يكون البئر لأحدهما والحريم للآخر لم يجز للاصطلاح على غير موجب الشرع فإن الشرع جعل الحريم تبعا للبئر ليتمكن صاحب البئر من الانتفاع وكان الحريم لمالك البئر فإن كان البئر لواحد فالحريم له وإن كان البئر بينهما فالحريم بينهما ولو شرطا على أن يكون البئر لواحد والحريم له وإن كان البئر بينهما على أن ينفق أحدهما أكثر ولا يرجع به فالشرط باطل ويرجع بالزائد ; لأن الشركة تقتضي المساواة في الأصل والنفقة وفي الغياثية لو أقطع الإمام رجلا أرضا فتركها ثلاث سنين لا يعمر فيها بطل الانتفاع ا هـ.
قال: رحمه الله "ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر" لتحقق حاجتهم إليه تحقيقا عند محمد أو تقديرا عند أبي يوسف على ما تقدم فصار كالنهر والطريق ولهذا قالوا لا يملك الإمام أن يقطع ما لا غنى للمسلمين عنه كالملح والآبار يستسقي منها الناس ا هـ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن حجر في الدراية عن عمر "2/244".

 

 ج / 8 ص -426-     ومن حفر بئرا في موات فله حريمها أربعون ذراعا من كل جانب وحريم العين خمسمائة ذراع
______
قال رحمه الله "ومن حفر بئرا في موات فله حريمها أربعون ذراعا من كل جانب" لقوله صلى الله عليه وسلم
"من حفر بئرا فله ما حولها أربعون ذراعا عطنا لماشيته1" ولأن حافر البئر لا يتمكن من الانتفاع بالبئر إلا بما حولها ولو غرس شجرا في أرض الموات هل يستحق لها حريم لم يذكره محمد في الأصل وقال مشايخنا لها حريم بقدر خمسة أذرع حتى لم يكن لغيره أن يغرس فيها شجرة وللأول منعه وقدر الشارع حريم البئر بأربعين ذراعا ثم قيل الأربعون من الجوانب الأربعة من كل جانب عشرة أذرع ; لأن ظاهر اللفظ بجميع الجوانب الأربعة والصحيح أن المراد أربعون ذراعا من كل جانب لأن المقصود دفع الضرر عنه كي لا يحفر آخر بئرا بجنبها فيتحول ماء الأولى إلى الثانية ولا يندفع هذا الضرر بعشرة أذرع من كل جانب فيتقدر بأربعين كي لا يتعطل عليه المصالح ولا فرق في ذلك بين أن تكون البئر للعطن أو للناضح عند أبي حنيفة وعندهما إن كان للعطن فأربعون ذراعا وإن كان للناضح فحريمها ستون ذراعا لقوله صلى الله عليه وسلم "حريم العين خمسمائة ذراع وحريم بئر العطن أربعون ذراعا وحريم بئر الناضح ستون ذراعا"2 ولأن استحقاق الحريم باعتبار الحاجة, وحاجة بئر الناضح أكثر ; لأنه يحتاج إلى موضع يسير فيه الناضح وهو البعير وقد يطول الرشا وفي بئر العطن يستقي بيده ولا بد من التفاوت بينهما وله ما روينا من غير فصل ومن أصله العام المتفق على قبوله والعمل به يرجح على الخالص المختلف في قبوله والعمل به وبهذا رجح قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أخرجته الأرض ففيه العشر"3 على قوله: "وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"4 لا يقال المراد بذكر العطن ساقية عطنا للمناسبة لأنا نقول: ذكر العطن فيه للتغليب لا للتقييد ولأنه يستسقي من بئر العطن بالناضح باليد فاستوت الحاجة فيهما ولأنه يمكن أن يدير البعير حول البعير فلا يحتاج إلى الزيادة والتقدير بالأربعين قول الإمام وعندهما بقدر ستين ذراعا وبه يفتى وفي الينابيع ومن احتاج إلى أكثر من ذلك يزاد عليه ا هـ.
قال رحمه الله "وحريم العين خمسمائة ذراع" لما روينا ولأن العين تستخرج للزراعة فلا بد من وطن يستقر فيه الماء ومن موضع يجري فيه إلى الزراعة وقدر الشارع بخمسمائة ولا مدخل للرأي في المقادير ثم قيل الخمسمائة من الجوانب الأربعة من كل جانب مائة وخمسون ذراعا والأصح أن الخمسمائة ذراع من كل جانب والذراع هو المكسر وهو ست قبضات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في الأحكام، باب حريم البئر "2486".
2 ذكره الزيلعي في نصب الراية "4/292".
3 ذكره ابن حجر في الدراية "1/263".
4 أخرجه البخاري في صحيحه "1413" ومسلم في صحيحه "979".

 

 ج / 8 ص -427-     ومن حفر في حريمها يمنع منه وللقناة حريم بقدر ما يصلحه وما عدل عنه الفرات ولم يحتمل عوده إليه فهو موات وإن احتمل عوده إليه لا
______
وكان ذراع الملك سبع قبضات فكسر منه قبضة وفي الكافي قيل إن التقدير في البئر والعين بما ذكرنا لصلابتهما وفي أراضينا يزاد على ذلك لرخاوة الأرض كي لا يتحول الماء إلى الثانية فتعطل الأولى
قال رحمه الله "ومن حفر في حريمها يمنع منه" لأنه صار ملكا لصاحب البئر ضرورة لتمكنه من الانتفاع فكان الحافر متعديا بالحفر في ملك غيره فإذا حفر كان للأول أن يمنعه لما ذكرنا والحفر ليس بقيد قال في الخانية ولو بنى الثاني في حريم الأول كان له أن يمنعه ولو أراد الأول أن يأخذ الثاني بحفره كان له ذلك ; لأنه أتلف ملكه بالحفر ثم اختلفوا فيما يؤاخذ به قيل بكسبه ; لأنه إزالة بتعديه كما لو وضع شيئا في ملك غيره وقيل يضمنه النقصان ويكنس الأول ما حفره بنفسه كما إذا هدم جدار غيره كان لصاحبه أن يؤاخذه بقيمته لا ببناء الجدار وهو الصحيح وفي العناية طريق معرفة النقصان أن يقوم الأول قبل حفر الثاني وبعده فيضمن نقصان ما بينهما وما عطب في البئر الأول فلا ضمان عليه لأنه غير متعد في حفره أما إذا كان بإذن الإمام فظاهر وكذا إذا كان بغير إذنه عندهما, وأما عنده فيجعل الحفر تحجيرا وله ذلك بغير إذن الإمام وإن لم يثبت له الملك إلا بإذنه وما عطب في الثانية فهو مضمون على الثاني ; لأنه متعد في حفره في ملك غيره ولو حفر الثاني بئرا في منتهى حريم الأول بإذن الإمام فذهب ماء البئر الأولى وتحول إلى الثانية فلا شيء عليه لأنه غير متعد في ذلك والماء الذي تحت الأرض غير مملوك لأحد فلا يكون له المحاصة بسببه كمن بنى حانوتا في جنب حانوت غيره فكسد الأول بسببه وللثاني في الحريم من الجوانب الثلاثة دون الأول بسبق ملك الأول فيه.
قال رحمه الله "وللقناة حريم بقدر ما يصلحه" والقناة مجرى الماء تحت الأرض ولم يقدر حريمه بشيء يمكن ضبطه وعن محمد هو بمنزلة البئر في استحقاق الحريم وقيل هذا قولهما وعند الإمام لا حريم له ما لم يظهر على وجه الأرض ; لأنه نهر في الحقيقة فتعتبر بالنهر قالوا عند ظهور الماء بمنزلة عين فوارة فيقدر حريمها بخمسمائة ذراع ا هـ.
قال: رحمه الله "وما عدل عنه الفرات ولم يحتمل عوده إليه فهو موات" ; لأنه ليس في ملك أحد وجاز إحياؤه إذا لم يكن حريما لعامر
قال رحمه الله "وإن احتمل عوده إليه لا" يعني لا يكون مواتا لتعلق حق العامة فيه على تقدير رجوع الماء إليه ; لأن الماء حقهم لحاجتهم إليه ا هـ.

 

 ج / 8 ص -428-     ولا حريم للنهر
______
قال رحمه الله "ولا حريم للنهر" وهذا قول الإمام وقالا له حريم من الجانبين ; لأن استحقاق الحريم للحاجة وصاحب النهر يحتاج إليه كصاحب البئر والعين ; لأنه يحتاج إلى الشيء على حافتي النهر ليجري الماء إذا حبس بشيء وقع فيه, إذ لا يمكنه المشي في وسط الماء وكذا يحتاج إلى موضع يلقي عليه الطين عند الكرب وفي الكبرى والفتوى على قول أبي يوسف وهذا إذا حفر النهر في أرض الموات وفي الكافي ومن كان له نهر في أرض غيره فليس له حريم عند الإمام إلا أن يقيم البينة على ذلك وقالا له ممشاة النهر ويمشي عليها ويلقي عليها طينه وفي السراجية قال حسام الدين والصحيح أنه يستحق الحريم وفي الفتاوى نهران بين قريتين وقع الاختلاف في حريمهما فما كان مشغولا بتراب أحد النهرين فهو في أيدي أهل ذلك النهر والقول في ذلك القدر لهم فلا يصدق الآخرون إلا ببينة وما كان بين النهرين ولم يكن مشغولا بتراب أحدهما فهو بين أهل القريتين إلا أن يقيم أحدهما البينة أنه له خاصة قال الشارح دليل الإمام أن استحقاق الحريم في البئر والعين ثبت نصا بخلاف القياس فلا يلحق بهما ما ليس في معناهما ألا ترى أن من بنى قصرا في الصحراء لا يستحق حريما وإن كان يحتاج إليه لإلقاء الكناسة ; لأنه يمكن الانتفاع بالقصر دون الحريم وفي الجامع الصغير نهر لرجل إلى جنبه مسناة, وأرض لآخر والمسناة في يد أحدهما فإن لم يكن لأحدهما غرس ولا طين ملقى فادعى صاحب الأرض المسناة وادعاه صاحب النهر أيضا فهي لصاحب الأرض عند الإمام وقالا هي لصاحب النهر جرى الملقى عليه طينه وغير ذلك فينكشف بهذا اللفظ موضع الخلاف وهو أن يكون الحريم موازيا للأرض لا فصل بينهما, وأن لا يكون الحريم مشغولا بحق أحدهما معينا معلوما وإن كان فيه أشجار ولا يدري من غرسها فهو على الخلاف أيضا وكذا قبل إلقاء الطين على الخلاف. والصحيح أنه لصاحب النهر ما لم يفحش ثم إذا كان الحريم لأحدهما أيهما كان لا يمنع الآخر من الانتفاع على وجه لا يبطل حق مالكه كالمرور فيه وإلقاء الطين ونحو ذلك مما جرت به العادة ولا يغرس فيه إلا المالك ; لأنه لا يبطل حقه قال الفقيه أبو جعفر أخذ بقوله في الغرس وبقولهما في إلقاء الطين ثم عند أبي يوسف حريمه قدر نصف بطن النهر من كل جانب وهو اختيار الحاوي وعند محمد مقدار بطن النهر من كل جانب وهو اختيار الكرخي وذكر في كشف الغوامض أن الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه في نهر كبير لا يحتاج فيه إلى الكري في كل حين أما الأنهار الصغار يحتاج فيه إلى كريها في كل وقت فلها حريم بالاتفاق ا هـ.

 

 ج / 8 ص -429-     مسائل الشرب
هو نصيب الماء الأنهار العظام كدجلة و الفرات غير مملوكة ولكل أن يستقي أرضه ويتوضأ به ويشرب وينصب الرحا عليه ويكري نهرا منها إلى أرضه إن لم يضر بالعامة.

______
مسائل الشرب
لما فرغ من ذكر إحياء الموات ذكر ما يتعلق به من مسائل الشرب ; لأن إحياء الموات يحتاج إليه وقدم فصل المياه على غيره ; لأن المقصود هو الماء لا يقال إذا كان الشرب مما يحتاج إليه إحياء الموات كان اللائق تقديم مسائل الشرب على مسائل إحياء الموات قلنا لأصالته وكثرة فروعه يستحق التقديم على الشرب قال في المحيط: يحتاج إلى معرفة مشروعية حق الشرب وتفسيره لغة وشرعا وركنه وشرطه وحكمه أما مشروعيته فلقوله صلى الله عليه وسلم "إذا بلغ الوادي الكعبين لم يكن لأهل الأعلى أن يحبسوه عن أهل الأسفل"1, وأما تفسيره لغة فهو عبارة عن النصيب من الماء لقوله تعالى
{كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: من الآية28] أراد بالشرب النصيب من الماء ولقوله تعالى {لَهَا شِرْبٌ} [الشعراء: من الآية155] أي نصيب وفي الشرع النصيب من الماء للأراضي لا لغيرها. وأما ركنه فهو الماء ; لأن الشرب يقوم به. وأما شرط حله أن يكون ذا حظ من الشرب وأما حكمه فالإرواء ; لأن حكم الشيء ما يفعل لأجله وإنما شرب الأرض لتروى ا هـ.
قال رحمه الله: "هو نصيب الماء" قال الشارح: أي الشرب بالكسر هو النصيب والماء والصواب هو النصيب من الماء ولك أن تقول ما ذكره المؤلف المعنى اللغوي وهو لا يليق ذكره في المتون
قال رحمه الله: "الأنهار العظام كدجلة و الفرات غير مملوكة ولكل أن يستقي أرضه ويتوضأ به ويشرب وينصب الرحا عليه ويكري نهرا منها إلى أرضه إن لم يضر بالعامة" لقوله عليه الصلاة والسلام
"الناس شركاء في ثلاث في الماء والنار والكلأ"2 ولأن هذه الأنهار ليس لأحد فيها يد على الخصوص ; لأن قهر الماء يمنع قهر غيره فلا يكون محرزا في الملك بالإحراز فإذا لم يكن مملوكا كان مشتركا والمراد بالماء في الحديث ما ليس بمحرز فإن المحرز قد ملكه فخرج عن كونه مباحا كالصيد إذا أحرزه لا يجوز لأحد أن ينتفع به إلا بإذنه وشرط لجواز الانتفاع أن لا يضر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أجده.
2 أخرجه أبو داود في البيوت، باب في منع الماء "3477"، وابن ماجة في الأحكام، باب المسلمون شركاء في ثلاث "2472".

 

 ج / 8 ص -430-     وفي الأنهار المملوكة والآبار والحياض لكل شربه وسقي دوابه لا أرضه, وإن خيف تخريب النهر لكثرة البقور يمنع والمحرز في الكوز والجب لا ينتفع فيه إلا بإذن صاحبه

______
بالعامة فإن كان يضر بالعامة ليس له الكري ونصب الرحا ; لأن الانتفاع بالمباح لا يجوز إلا إذا كان لا يضر بالعامة كالشمس والقمر والهواء, والمراد بالكلأ الحشيش الذي ينبت بنفسه من غير أن ينبته أحد ومن غير أن يزرعه ويسقيه فيملكه من قطعه, وأحرزه وإن كان في أرض غيره والمراد بالنار الاستضاءة بنورها والاصطلاء بها وإلا يقاد من لهبها فليس لأحد أن يمنع من ذلك إذا كان في الصحراء بخلاف ما لو أراد أن يأخذ جمرة ; لأنه ملكه ويتضرر بذلك فكان له منعه كسائر أملاكه ا هـ.
قال رحمه الله "وفي الأنهار المملوكة والآبار والحياض لكل شربه وسقي دوابه لا أرضه, وإن خيف تخريب النهر لكثرة البقور يمنع" وإنما كان له حق الشرب وسقي الدواب لما روينا ولأن الأنهار والآبار والحياض لم توضع للإحراز والمباح لا يملك إلا بالإحراز ولكن المسافر لا يمكنه أن يأخذ ما يوصله إلى مقصده فيحتاج أن يأخذ مما يمر عليه مما ذكر ما يحتاج إليه لنفسه ودوابه وصاحبه فلو منع من ذلك لحقه ضرر عظيم وهو مدفوع شرعا بخلاف سقي الأراضي حيث يمنع وإن لم يكن فيه ضرر لأن في إباحة ذلك إبطال حق صاحب الأنهار إذ لا نهاية لذلك فتذهب منفعة صاحب الأنهار فيلحقه بذلك ضرر بخلاف سقي الدواب ; لأن مثله لا يلحقه به ضرر حتى لو تحقق فيه الضرر يمنع وهو المراد بقوله, وإن خيف تخريب النهر لكثرة البقور ; لأن الحق لصاحبه على الخصوص وإنما أثبتنا ما ذكرنا لغيره للضرورة فلا معنى لإبقائه على وجه يضر بصاحبه قال في الهداية ولهم الشرب وإن شربوا الماء كله. ا هـ. وفي المحيط ولو أراد صاحب الأرض أن يغرف بالجرة فلصاحب الملك أن يمنعه من الدخول وإن لم يجد يقال لصاحب الملك: إما أن تعطيه الماء وإما أن تمكنه من الدخول بشرط أن لا يكسرها في النهر قالوا هذا إذا كان في أرض مملوكة فأما إذا حفر في أرض موات لم يكن لصاحب النهر منعه من الدخول إذا كان لا يكسر مسناة النهر ; لأن الأرض كانت مشتركة بين الناس كافة فأما إذا أحياها إنسان لم تنقطع الشركة في الدخول لأهل الشفعة ويجوز أن تكون رقبة الشيء لإنسان وللآخر فيه حق الدخول ا هـ. وفيه أيضا رجل له ماء يجري إلى مزرعته فيجيء رجل ويسقي دوابه حتى ينفذ الماء كله هل لصاحب النهر أن يمنعه قال ليس له ذلك ا هـ.
قال رحمه الله "والمحرز في الكوز والجب لا ينتفع فيه إلا بإذن صاحبه" ; لأنه ملكه بالإحراز فكان أحق به كالصيد إذا أخذه لكنه فيه شبهة الشركة لظاهر ما روينا فيعمل فيما يسقط بالشبهة ولو سرق الماء في موضع يعز فيه الماء وهو يساوي نصابا لا يقطع واعترض عليه بأنه

 

 ج / 8 ص -431-     وكري نهر غير مملوك من بيت المال
______
على هذا ينبغي أن لا يقطع في شيء من الأشياء كلها ; لأن قوله تعالى قوله
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: من الآية29] يورث الشبهة بهذا الطريق وأجيب بأن العمل بالحديث يوافق قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: من الآية29] ولا يلزم من العمل به إبطال الكتاب بخلاف قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: من الآية29] فإن العمل به على الإطلاق يبطل العمل بقوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: من الآية2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: من الآية38] وغير ذلك فدل على أن المراد به غير ما دل عليه الخصوصيات كذا في العناية واعترض بأنه وإن لم يلزم من العمل بالحديث إبطال الكتاب لكن يلزم به إبطال دليل شرعي آخر فإنكم حكمتم بأن الماء المحرز في الأواني يصير مملوكا بالإحراز وينقطع حق الغير عنه وهو حكم شرعي لا بد له من دليل شرعي لا محالة. فلو عملنا بالحديث المذكور على الإطلاق لزم إبطال ذلك الدليل الشرعي فدل على أن المراد بالحديث المذكور غير ما دل عليه بخصوص الدليل الشرعي الدال على أن الماء المحرز في الأواني ملك مخصوص لمحرزه ولو كانت البئر أو الحوض أو النهر في ملك رجل فله أن يمنع من يريد الشفعة من الدخول وقد قدمنا عن المحيط بتفاصيله: وحكم الكلأ حكم الماء على التفاصيل المتقدمة ولو منع رب النهر من يريد الماء وهو يخاف على نفسه أو على دابته العطش فإن له أن يقاتله بالسلاح لأثر عمر ولأنه قصد إتلافه وإن كان الماء محرزا في الأواني فليس للذي يخاف العطش أن يقاتل بالسلاح وله أن يقاتله بغير السلاح إذا كان فيه فضل عن صاحبه فصار نظير الطعام حالة المخمصة وفي الكافي قيل في البئر ونحوه: والأولى أن يقاتله بغير السلاح ; لأنه ارتكب معصية فصار بمنزلة التعزير هذا يشير إلى أن له أن يقاتله بالسلاح حيث جعل الأولى أن لا يقاتله به, وأهل الشفعة بأن كانوا يشربون الماء كله بأن كان نهرا صغيرا وفيما يرد عليه من المواشي كثرة ينقطع الماء اختلفوا فيه قال بعضهم: ليس لربه أن يمنع, وأكثرهم على أن له أن يمنع ; لأنه يلحقه الضرر بذلك فصار كسقي الأرض وله أن يأخذ منه الماء للوضوء وغسل الثياب في الأصح وقيل ينقلهما في النهر ولو أراد أن يسقي شجرا أو خضرا في داره فحمل الماء إليه بالجرة كان له ذلك وقال بعض أئمة بخارى: ليس له ذلك إلا بإذن صاحب النهر والأول أصح لأن الناس يتوسعون في ذلك وليس له أن يسقي نخله وشجره, وأرضه من نهر غيره إلا بإذن صاحبه وله أن يمنع من ذلك. فالحاصل: المياه ثلاثة ; الأنهار العظام التي لا تدخل في ملك أحد والأنهار التي هي مملوكة وما صار في الأواني وقد ذكرنا حكم كل واحد بتوفيق الله تعالى.
قال رحمه الله "وكري نهر غير مملوك من بيت المال" لأن ذلك لمصلحة العامة وبيت المال

 

 ج / 8 ص -432-     فإن لم يكن فيه شيء يجبر الناس على كريه وكري ما هو مملوك على أهله ويجبر الآبي على كريه

______
معد لها قال في الهداية: ويصرف ذلك من الجزية والخراج دون العشر والصدقات لأن الثاني للفقراء والأول للنوائب
قال رحمه الله: "فإن لم يكن فيه شيء يجبر الناس على كريه" يعني إذا لم يكن في بيت المال شيء أجبر الإمام الناس على كريه ; لأن الإمام نصب ناظرا وفي تركه ضرر عظيم على الناس وقلما يتفق العوام على المصالح باختيارهم فيجبرهم عليه لما روي أن عمر أجبر في مثل هذا فكلموه فقال: لو تركتم لبعتم أولادكم إلا أنه يخرج للكري من كان يطيق الكري منهم ويجعل مؤنته على الأغنياء الذين لا يطيقون الكري بأنفسهم قال في الهداية: فإن أراد أن يحصص النهر خوف الانتشاف وفيه ضرر عظيم يجبرهم على ذلك ا هـ.
قال رحمه الله "وكري ما هو مملوك على أهله ويجبر الآبي على كريه" لأنه منفعة لهم على الخصوص فتكون مؤنته عليهم ولأن الغرم بالغنم ومن أبى منهم يجبر وقيل إن كان خاصا لا يجبر والفاصل بين الخاص والعام أن ما يستحق به الشفعة خاص وما لا يستحق به الشفعة عام وبيان الفرق أنه إذا كان عاما فيه دفع ضرر عام فيجبر الآبي بخلاف الخاص وفي الضرر الخاص يمكن الدفع بأن يرفع الأمر إلى القاضي فينفق ويرجع على الممتنع بحصته وبه أخذ الفقيه أبو جعفر وصار كزرع بين شريكين امتنع أحدهما من الإنفاق فلصاحبه أن ينفق عليه بأمر القاضي ويرجع عليه بما أنفق فكذا هذا كذا في المحيط بخلاف ما إذا كان عاما لا يمكن الرجوع لكبرهم فيجبر الممتنع ولا يقال: في كراء النهر الخاص إحياء له حقوق أهل الشفعة فيكون في تركه ضرر عام ; لأنا نقول لا جبر لأجل أهل الشفعة ألا ترى أن أهل النهر لو امتنعوا عن كريه لا يجبرهم في ظاهر الرواية ; لأنهم امتنعوا عن عمارة أراضيهم ولو كان حق أهل الشفعة معتبرا لأجبر وفي التتارخانية: معناه أن ينقلوا نصيب الآبي من الشرب مقدار ما يبلغ قيمة ما أنفق.
قال: رحمه الله "ومؤنة كري النهر المشترك عليهم من أعلاه فإذا جاوز أرض رجل برئ" وهذا عند الإمام وقالا: المؤنة عليهم جميعا من أول النهر إلى آخره بالحصص ; لأن كل واحد منهم ينتفع بالأسفل كما ينتفع بالأعلى ; لأنه يحتاج إلى مسيل الفاضل من الماء فإنه إذا سد عليه فاض الماء إلى أرضه فيفسد زرعه ولأن كل واحد منهم ينتفع بالنهر من أوله إلى أسفله وفي الخانية الفتوى على قول الإمام واختلف أئمتنا في الطريق الخاص إذا احتاج الإصلاح قيل: هو على هذا الاختلاف عند الإمام عليه المؤنة إلى أن يجاوز أرضه وعندهما من أوله إلى آخره قال الهندواني: ورأيت في بعض الكتب إذا انتهى إلى دار رجل يدفع عنه مؤنة الإصلاح بالإجماع فيحتاج إلى الفرق بين

 

 ج / 8 ص -433-     ومؤنة كري النهر المشترك عليهم من أعلاه فإذا جاوز أرض رجل برئ ولا كراء على أهل الشفعة وتصح دعوى الشرب بغير أرض نهر بين قوم اختصموا في الشرب فهو بينهم على قدر أراضيهم

______
الطريق والنهر والفرق أن صاحب الدار لا يحتاج إلى النظر فيما جاوز داره بوجه من الوجوه بخلاف صاحب الأرض وللإمام أن مؤنة الكرب على من ينتفع به ويسقي منه أرضه فإذا جاوز أرضه برئ فلا يلزم شيء في مؤنة ما بقي ألا ترى أن من له الحق يسيل الماء على سطح جاره لا يلزمه شيء من عمارته باعتبار مسيل الماء فيه ولأنه يتمكن من دفع الضرر عنه بسد فوهة النهر من أعلاه إذا استغنى عنه وزعم بعضهم أن الكرب إذا انتهى إلى فوهة أرضه من النهر فليس عليه شيء من المؤنة والأصح أنه يمكنه مؤنة الكرب إلى أن يجاوز حد أرضه لأن له أن يأخذ شربه من أي موضع شاء من أرضه من أعلاها أو أسفلها.
قال رحمه الله: "ولا كراء على أهل الشفعة" لأنهم لا يحصون قوله: لا يحصون لأن أهل الدنيا كلهم لهم حق الشفعة ومؤنة الكري لا تجب على قوم لا يحصون ولأن المراد من حفر الأنهار ونحوها سقي الأراضي, وأهل الشفعة أتباع والمؤنة تجب على الأصول دون الأتباع ولهذا لا يستحقون به الشفعة.
قال رحمه الله "وتصح دعوى الشرب بغير أرض" وهذا استحسان والقياس أن لا يصح ; لأن شرط صحة الدعوى إعلام المدعى به في الدعوى والشهادة, والشرب مجهول جهالة لا تقبل الإعلام ولأنه يطلب من القاضي أن يقضي له بالمدعى به إذا ثبت دعواه بالبينة والشرب لا يحتمل التمليك بدون الأرض فلا يستمع القاضي فيه الدعوى والخصومة كالخمر في حق المسلمين وجه الاستحسان أن الشرب مرغوب فيه ويمكن أن يملكه بغير الأرض بالإرث والوصية وقد تباع الأرض ويبقى الشرب وحده فإذا استولى عليه رجل ظلما كان له أن يرفع يده عنه بإثبات حقه بالبينة رجل له أرض وللآخر نهر يجري فيها فأراد رب الأرض أن يمنع النهر أن يجري في أرضه لم يكن له ذلك ويترك على حاله ; لأن موضع النهر في يد رب النهر وعند الاختلاف القول قوله في أنه ملكه فإذا لم يكن في يده ولم يكن جاريا فيها فعليه البينة أن هذا النهر له, وأن مجراه في هذه الأرض يسوقه إلى أرض له ليسقيها فيقضي له لإثباته بالحجة ملك الرقبة إذا كانت الدعوى فيه أو حق الآخر في إثبات المجرى من غير دعوى الملك, وعلى هذا نصيب الماء في كل نهر أو مجرى على سطح أو الميزاب أو المشي في دار غيره فالحكم فيه كالشرب كما قدمنا ا هـ.
قال رحمه الله "نهر بين قوم اختصموا في الشرب فهو بينهم على قدر أراضيهم" لأن المقصود بالشرب سقي الأرض والحاجة إلى ذلك تختلف بقلة الأراضي وكثرتها والظاهر أن

 

 ج / 8 ص -434-     وليس لأحدهم أن يشق نهرا أو ينصب عليه رحى أو دالية أو جسرا أو يوسع فم النهر أو يقسم بالأيام وقد وقعت القسمة بالكوى أو يسوق نصيبه إلى أرض له أخرى ليس لها فيه شرب بلا رضاهم

______
حق كل واحد مقدار أرضه بخلاف الطريق إذا اختلف فيه الشركاء حيث يستوون في ملك رقبة الطريق ولا يعتبر في ذلك سعة الدار وضيقها ; لأن المقصود الاستطراق وذاك لا يختلف باختلاف الدار لا يقال استويا في إثبات اليد على النهر فوجب أن يستويا في الاستحقاق ; لأنا نقول: الماء لا يمكن إثبات اليد عليه حقيقة ولا يمكن إحرازه وإنما ذلك بالانتفاع به والظاهر أن الانتفاع متفاوت بتفاوت الأرض فتتفاوت الأجزاء في ضمن الانتفاع فيكون كل واحد منهما بحسب ذلك وليس لأحدهم أن يسكر النهر على الأسفل ولكن يشرب حصته ; لأن في السكر إحداث شيء لم يكن في وسط النهر ورقبة النهر مشترك بينهم فلا يجوز لأحدهم أن يفعل ذلك بغير إذن الشركاء فإن تراضوا على أن الأعلى يسكر النهر حتى يشرب بحصته واصطلحوا أن يسكر كل واحد في نوبته جاز لأن المانع حقهم وقد زال ذلك بتراضيهم ولكن إن أمكنهم أن يسكر بلوح أو باب فليس له أن يسكر ذلك بالطين والتراب ; لأن به ضررا بالشركاء ولو كان الماء في النهر بحيث لا يجري إلى أرض كل واحد منهم إلا بالسكر فإنه يبدأ بالأعلى حتى يروي ثم بالذي بعده كذلك وليس لأهل الأعلى أن يمنعوه من أهل الأسفل ا هـ.
قال: رحمه الله "وليس لأحدهم أن يشق نهرا أو ينصب عليه رحى أو دالية أو جسرا أو يوسع فم النهر أو يقسم بالأيام وقد وقعت القسمة بالكوى أو يسوق نصيبه إلى أرض له أخرى ليس لها فيه شرب بلا رضاهم" ; لأن في شق النهر ونصب الرحا كسر صفة النهر المشترك, وشغل المشترك بالبناء بغير إذن الشركاء لا يجوز إلا أن يكون الرحا لا تضر بالنهر ولا بالماء ويكون موضعها في أرض صاحبها فيجوز ; لأن ما يحدثه من البناء في خالص ملكه وبسبب الرحا لا ينقص الماء والمانع من فعل ذلك الإضرار بالشركاء ولم يوجد وبالقنطرة والجسر إشغال الموضع المشترك بغير إذن الشركاء فلا يجوز. والدالية جذع طويل يركب تركيب مداق الأرز في رأسه مغرفة كبيرة ليسقي بها وقيل هو الدولاب والسانية للبعير يسقى عليها من البئر والجسر اسم لما يوضع ويرفع مما يكون بين الألواح وغيره والقنطرة ما يتخذ من الآجر والحجر والكوة ثقب البيت والجمع كوى وإذا كان نهر خاص لرجل يأخذ من نهر بين القوم فإذا أراد أن يقنطر عليه أو يسده من جانبيه كان له ذلك لأنه يتصرف في خالص ملكه برفع بنائه وإن كان يزيد في أخذ الماء كان للشركاء منعه وإنما لا يكون له أن يوسع فم النهر ; لأن فيه كسر صفته ويزيد على مقدار حقه في أخذ الماء وهذا ظاهر فيما إذا لم تكن القسمة بالكري وكذا إن كانت بالكري ; لأنه

 

 ج / 8 ص -435-     ويورث الشرب ويوصى بالانتفاع بعينه ولا يباع ولا يوهب

______
إذا وسع فم النهر يخس الماء في ذلك الموضع فيدخل في ملكه أكثر مما كان له أولا وكذا إذا أراد أن يؤخر فم النهر فيجعلها في أربعة أذرع من فم النهر ; لأنه يحبس الماء فيه فيزداد دخول الماء فيه وليس له ذلك إلا بإذن الشركاء بخلاف ما إذا أراد أن يسفل كواه أو يرفعه من حيث العمق في مكانه حيث يكون له ذلك في الصحيح ; لأن قسمة الماء في الأصل وقع باعتبار سعة الكوى وضيقها من غير اعتبار السفل, والرفع في العمق هو العادة فلا يؤدي إلى تغير موضع القسمة فلا يمنع وإنما لم يكن له أن يقسم بالأيام بعدما وقعت القسمة بالكوى ; لأن القديم يترك على حاله لظهور أن الحق فيه ولو كان لكل واحد منهم كوى مسماة في نهر خاص لم يكن لواحد منهم أن يزيد كوة وإن كان لا يضر بأهله ; لأن الشركة خاصة بخلاف ما إذا كان الكوى في النهر الأعظم لأن لكل واحد منهم أن يشق نهرا منه ابتداء فالكوى بطريق الأولى. وإنما لم يكن له أن يسوق شربه إلى أرض أخرى ليس لها فيه شرب ; لأنه إذا فعل ذلك يخشى أن يدعي حق الشرب لها من هذا النهر مع الأولى إذا تقادم العهد ويستدل على ذلك بالحفر وإجراء الماء فيه إليها وكذا لو أراد أن يسوق شربه إلى أرض الأولى حتى ينتهي إلى الأخرى ; لأنه يسوق زيادة على حقه, إذ الأرض الأولى تشرب الماء قبل أن يسقي الأخرى وهو نظير طريق مشترك أراد أحدهم أن يفتح فيه بابا إلى دار أخرى - ساكنها غير ساكن هذه الدار - ففتحها في هذا الطريق بخلاف ما إذا كان ساكن الدارين واحدا حيث لا يمنع ; لأن المارة لا تزداد وله حق المرور ويتصرف في خالص ملكه وهو الجدار بالرفع ولو أراد الأعلى من الشريكين في النهر الخاص وفيه كوة بينهما أن يسد بعضها دفعا لفيض الماء عن أرضه لكي لا ينز ليس له ذلك لما فيه من الإضرار بالأخرى وكذا إذا أراد أن يقسم النهر مناصفة ; لأن القسمة في الكوة تقدمت إلا أن يتراضيا ; لأن الحق لهما وبعد الرضا لصاحب السفل أن ينقض ذلك وكذا لورثته من بعده لأنه إعارة للشرب لا مبادلة ; لأن مبادلة الشرب بالشرب باطلة وكذا إجارة الشرب لا تجوز فتعينت الإعارة فيرجع فيها وكذا ورثته في أي وقت شاءوا ; لأن الإعارة غير لازمة ا هـ.
قال رحمه الله "ويورث الشرب ويوصى بالانتفاع بعينه ولا يباع ولا يوهب" لأن الورثة خلف الميت يقومون مقامه وجاز أن يقوموا مقامه فيما لا يجوز تمليكه كالمعاوضات والتبرعات كالدين والقصاص والخمر وكذا الشرب, والوصية أخت الميراث فكانت مثله بخلاف البيع والهبة والصدقة والوصية بذلك حيث لا تجور للغرور والجهالة ولعدم الملك فيه للحال ; لأنه ليس بمال متقوم حتى لو أتلف شرب إنسان بأن سقى أرضه من شرب غيره لا يضمن على رواية الأصل وكذا لا يصلح مسمى في النكاح ولا في الخلع ولا في الصلح عن دم العمد وهذه العقود صحيحة ولا تبطل بهذا الشرط فيها ويجب على الزوج مهر المثل, وعلى المرأة رد ما أخذت من

 

 ج / 8 ص -436-     ولو ملأ أرضه ماء فنزت أرض جاره أو غرقت لم يضمن

______
المهر وعلى القاتل الدية وكذا لا يصلح بدلا في دعوى حق وللمدعي أن يرجع في دعواه وذكر صاحب الهداية في البيع الفاسد أن الشرب يجوز بيعه تبعا للأرض باتفاق الروايات ومفردا في رواية وهو اختيار مشايخ بلخ ; لأنه حظ في الماء ولهذا يضمن بالإتلاف وله قسط من الثمن قال صاحب الخلاصة رجل له نوبة ماء في يوم معين في الأسبوع فجاء رجل فسقى أرضه في نوبته ذكر الإمام علي البزدوي أن غاصب الماء يكون ضامنا وذكر في الأصل أنه لا يكون ضامنا وفي الفتاوى الصغرى رجل أتلف شرب رجل بأن سقى أرضه بشرب غيره. قال الإمام علي البزدوي: يضمن, وقال الإمام خواهر زاده لا يضمن وعليه الفتوى فتوهم بعضهم أن صاحب الهداية تناقض حيث قال هنا لا يضمن إن سقى من شرب غيره وقال هناك ولهذا يضمن بالإتلاف وليس كذلك بل ما ذكر في كتاب البيوع على رواية مشايخ بلخ وما ذكر ههنا على رواية الأصل قال الشارح ولو مات وعليه ديون لا يباع الشرب بدون الأرض على رواية الأصل فإن لم يكن للشرب أرض قيل يجمع الماء في نوبة في حوض فيباع إلى أن يقضى الدين من ذلك وقيل: ينظر الإمام إلى أرض لا شرب لها فيضم هذا الشرب إليها فيبيعها برضا صاحبها ثم ينظر إلى قيمة الأرض بدون الشرب وإلى قيمتها معه فيصرف تفاوت ما بينهما من الثمن إلى قضاء دين الميت والسبيل في معرفة قيمة الشرب إذا أراد قسمة الثمن على قيمتهما أن يقوم الشرب على تقدير أن لو كان يجوز بيعه وهو نظير ما قال بعضهم في العقر الواجب بشبهة: ينظر إلى هذه المرأة بكم كانت تستأجر للزنا فذلك القدر هو عقدها في الوطء بالشبهة. وإن لم يجد اشترى على تركة الميت أرضا بغير شرب ثم يضم إلى هذا الشرب فيبيعها فيؤدي من الثمن قيمة الأرض المشتراة, والفاضل للغرماء.
قال رحمه الله "ولو ملأ أرضه ماء فنزت أرض جاره أو غرقت لم يضمن" لأنه متسبب وليس بمتعد فلا يضمن ; لأن شرط وجوب الضمان في السبب أن يكون متعديا ألا ترى أن من حفر بئرا في أرض لا يضمن ما عطب فيه وإن حفر في الطريق يضمن وإنما قلنا: إنه ليس بمتعد ; لأن له أن يملأ أرضه ويسقيه قالوا هذا إذا سقى أرضه سقيا معتادا بأن سقاها قدر ما تحتمله عادة أما إذا سقاها سقيا لا تحتمله أرضه فيضمن وهو نظير ما لو أوقد نارا في داره فاحترق دار جاره فإن كان أوقدها مثل العادة لم يضمن وإن كان بخلاف العادة يضمن وكان الشيخ إسماعيل الزاهد يقول: إنما لم يضمن بالسقي المعتاد إذا كان محقا فيه بأن سقى أرضه في نوبته مقدار حقه وأما إذا سقاها في غير نوبته أو في نوبته زيادة على حقه فيضمن لوجود التعدي في السبب ا هـ. والله أعلم