البناية شرح الهداية

باب الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز به الطهارة من الأحداث جائزة بماء السماء والأودية والعيون والآبار والبحار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب في الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز]
م: (باب في الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الماء الذي يجوز به الوضوء وفي بيان الماء الذي لا يجوز به الوضوء أيضا، غير أن المطلوب الأهم بيان ما يجوز به اقتصر عليه، ومعنى الباب في اللغة النوع، وفي الاصطلاح هو طائفة من مسائل العلم الفقهية يشتمل عليه الكتاب. والكتاب يجمع الأبواب والأبواب تجمع الفصول.
ولما فرغ من بيان الوضوء والغسل وما يوجبهما شرع في بيان الآلة التي تحصل بها الطهارة في النوعين وهي الماء المطلق، والألف واللام في الماء للجنس، والماء جوهر سيال سببه خوف العطش وأصله موه قلبت الواو ألفا لتحريكها وانفتاح ما قبلها، والدليل عليه أن جمعه في القلة أمواه وفي الكثرة مياه، والهمزة فيه بدل من الهاء كما في شاء. وذكر صاحب " المحكم " ماه في لغته تدل على أن الإبدال غير لازم، ولفظة يجوز تارة تطلق على معنى يحل وتارة تستعمل بمعنى يصح وتارة بمعنى تصلح لهما.
م: (الطهارة من الأحداث) ش: هو جمع حدث والحدث ينقسم إلى الأصغر والأكبر، ويقال: الأخف والأغلظ، وفي " الزيادات ": وإذا اجتمع حدثان فالأغلظ أهم، فلو قال: من الحدثين كان أولى، ولعله جمعه باعتبار كثرة محاله أو لاختلاف أنواعه.
وقوله: "من الأحداث" ليس للاختصار لأن الأخباث تشاركهما، واللام فيه للعهد أي الطهارة من الأحداث التي سبق ذكرها، ويجوز أن تكون للجنس، والحدث اسم يطلق على الحكمي والخبث يطلق على الحسي والنجس مشترك يقع عليهما بدلا، ثم قيد الأحداث اتفاقي لأنه يجوز بالمياه التي ذكرها الطهارة من الحدث والخبث جميعا، ويجوز أن يكون قيده بها لكونه قد ذكرها فيما سبق في الطهارتين فاحتاج إلى بيان الآلة التي يحصلان بها.
وقوله الطهارة: مبتدأ وخبره قوله: م: (جائزة بماء السماء) ش: وهو المطر والثلج والبرد إذا ذابا، وقوله: م: (والأودية) ش: عطف عليه وهو جمع وادي أي وماء الأودية وهو الماء الذي يجتمع فيها من الأمطار والسيول التي تتحصل بها م: (والعيون) ش: جمع عين وهي التي تنبع من الأرض وتخرج إلى ظاهرها م: (والآبار والبحار) ش: جمع بئر أصله بهمزة ساكنة في وسطها، وجمعها في القلة أبئر وآبار بهمز بعد الباء، ومن العرب من يقلب الهمزة فيكون أبار، فإذا كثرت فهي أبيار.
وأما البحار جمع بحر قال الجوهري: البحر خلاف البر، يقال: سمي به لعمقه واتساعه

(1/352)


لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] (الفرقان: الآية 48) وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجمع أبحر وبحار وبحور، وكل نهر عظيم بحر.
قلت: فلذلك قيل لنهر مصر بحر النيل ولكن إذا أطلق البحر يراد به البحر المالح م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] (الفرقان: الآية 48)) ش: وجه التمسك بالآية في حق ماء السماء والأودية الحاصلة بماء السماء ظاهر وأما في حق العيون والآبار فإما لأن أصل المياه جميعا من السماء لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21] (الزمر: الآية 21) . وإما لأن التمسك بالآية يرجع إلى ماء السماء، والتمسك بطهورية باقي المياه بالحديثين اللذين ذكرهما.
فإن قلت: ليس في الآية أن جميع المياه نزلت من السماء، لأن قوله: ماء نكرة في سياق الإثبات فلا تعم.
قلت: تعم بقرينة الامتنان به فإن الله ذكره في تعريف الامتنان به، فلو لم يدل على العموم لفات المطلوب، والنكرة في الإثبات تفيد العموم بقرينة تدل عليه كما في قَوْله تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] (التكوير: الآية 14) . وقَوْله تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] (الانفطار: الآية 5) .
فإن قلت: لا يتم الاستدلال بالآية ولا بالحديث، لأن الطهور من طهر الشيء وهو لازم، فلا يستفاد منه التعدي فيكون بمعنى الطاهر كما في قَوْله تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] (الإنسان: الآية 21) أي طاهرا فلا يتم الاستدلال في التطهير.
قلت: كون الماء مطهرا لغيره لا من حيث إن الطهور بمعنى الطهر بل من حيث إنه معدول عن صيغة الطاهر إلى صيغة الطهور التي هي المبالغة في ذلك الفعل كالغفور والشكور فيهما مبالغة ما ليس في الغافر والشاكر، فلا بد في الطهور من معنى زائد ليس في الطاهر وليس ذلك إلا بالتطهير.
م: (وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه» ش: لم يثبت هذا الحديث بهذا اللفظ إلا أن ابن ماجه رواه من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الماء طهور لا ينجسه إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» .

(1/353)


وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في البحر «هو الطهور ماؤه والحل ميتته»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي إسناده راشد بن سعد أخرجه النسائي وابن معين وابن حبان وأبو حاتم ومعاوية بن أبي صالح، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال الدارقطني: لم يروه غير راشد بن سعد وليس بالقوي.
وقال الشيخ تقي الدين: قد رفع من وجهين غير طريق راشد بن سعد أخرجهما البيهقي أحدهما عن عطية بن بقية بن الوليد عن أبيه عن ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن أبي أمامة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الماء طهور إلا أن يتغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه» .
الثاني: عن حفص بن عمر حدثنا ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن أبي أمامة مرفوعا: «الماء لا ينجس إلا ما غير طمعه أو ريحه» . وقال البيهقي: والحديث غير قوي، رواه عبد الرزاق في "مصنفه " والدارقطني في "مسنده " عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا والأحوص فيه مقال.
وأخرج الدارقطني في "سننه " عن معاوية بن أبي صالح عن راشد بن سعد عن ثوبان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الماء طهور إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه» . وسنده ضعيف.
وأخرجه الأربعة والشافعي وأحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري من حديث بئر بضاعة، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» . وهو لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن، وقد جوده أبو أسامة وصححه أحمد ويحيى بن معين.
وقد علمت بهذا أن الحديث الذي احتج به المصنف نصفه الأول صحيح وهو قول: «الماء طهور لا ينجسه شيء» والنصف الثاني روي من وجوه كثيرة وهو ضعيف، وروى الدارقطني والطحاوي من طريق راشد بن سعد مرسلا: «الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه» .
وزاد الطحاوي «أو لونه» وصحح أبو حاتم إرساله قاله في المذهب والروياني في "البحر " نص الشارع على الطعم والريح، وقاس الشافعي اللون عليهما وليس كذلك، فإن اللون أيضا مذكور في الحديث، وكأنهما لم يقفا عليه حتى قالا ذلك.

[ماء البحر]
م: (وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في البحر: «هو الطهور ماؤه والحل ميتته» ش: وقوله بالجر عطف على قوله الذي قبله، هذا الحديث روي عن ثمانية أنفس من الصحابة وهم: أبو هريرة، وجابر، وعلي بن

(1/354)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي طالب، وأنس، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وابن الفراسي، وأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فحديث أبي هريرة عند الأربعة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا فنتوضأ من البحر فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو الطهور ماؤه والحل ميتته» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه مالك والشافعي، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي وصححه البخاري فيما حكاه عنه الترمذي، وتعقبه ابن عبد البر بأنه لو كان صحيحا لأخرجه في "صحيحه"، وهذا مردود لأنه لم يلتزم الاستيعاب، ثم حكم ابن عبد البر بعد ذلك بصحته فتلقاه العلماء بالقبول ورجح ابن منده صحته، وصححه أيضا ابن المنذر وأبو محمد البغوي. وحديث جابر عن ابن ماجه في "سننه " من طريق أحمد بن حنبل عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ماء البحر، فقال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " والدارقطني كذلك وابن حبان في "صحيحه ".
وحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الحاكم في "المستدرك " والدارقطني في "سننه " من حديث الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه مرفوعا سواء وسكت الحاكم عنه.
وحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند عبد الرزاق في "مصنفه " والدارقطني في "سننه " عن أنس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مثله، وفي إسناده أبان وهو متروك قاله الدارقطني.
وحديث ابن عباس عند الدارقطني من حديث موسى بن سلمة عن ابن عباس مرفوعا نحوه، ثم قال: والصواب موقوف ورواه الحاكم في "المستدرك " وسكت [عنه] .

(1/355)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث عبد الله بن عمرو عند الدارقطني أيضا من جهة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه، ورواه الحاكم في "المستدرك " وسكت عنه.
وحديث ابن الفراسي عند ابن عبد البر المعتد بإسناده عن مسلم بن يحيى أنه حدث أن «الفراسي قال كنت أصيد في البحر الأخضر على أرماث وكنت أحمل قربة لي فيها ماء فإذا لم أتوضأ من القربة أمس وقف ذلك لي ونصب لي ذلك بي وبقيت لي فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقصصت ذلك» .
وقال عبد الحق في "أحكامه ": حديث الفراسي هذا لم يروه فيما أعلم إلا بكر بن سوادة، وقال ابن القطان في كتابه: وقد خفي على عبد الحق ما فيه من الانقطاع فإن ابن يحيى لم يسمع من الفراسي، وإنما يرويه عن ابن الفراسي عن أبيه.
ويوضح ذلك ما حكاه الترمذي في "علله " قال: سألت محمد بن إسماعيل عن حديث ابن الفراسي في ماء البحر، فقال: حديث مرسل لم يدرك ابن الفراسي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وابن الفراسي له صحبة فمسلم بن يحيى إنما يرويه عن ابن الفراسي وروايته عن الأب مرسلة، وحديث ابن الفراسي رواه ابن ماجه في "سننه " عن مسلم بن يحيى «عن ابن الفراسي قال: كنت أصيد وكانت لي قربة أجعل فيها ماء، وإني توضأت بماء البحر فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقال البخاري إن مسلم بن يحيى لم يدرك الفراسي نفسه وإنما يروي عن ابنه وإن الابن ليست له صحبة.
وحديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الدارقطني من حديث عبد العزيز عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ماء البحر الحديث» عبد العزيز بن عمران وهو ابن أبي ثابت، قال الذهبي: مجمع على ضعفه.
ثم أخرجه عن عبيد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوفا، قال الذهبي: هذا سند صحيح واسم الرجل الذي سأل قيل

(1/356)


ومطلق الاسم يطلق على هذه المياه. قال: ولا يجوز بما اعتصر من الشجر والثمر؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عبيد وقيل عبد العزيز، وفي الحديث دليل على جواز ركوبه إلا في حال ارتجاجه، وتوقفهم على الوضوء به إما لكونه لا يشرب أو لكونه طبق جهنم على ما ورد.
فإن قلت: ما الحكمة في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل: نعم عند سؤال الرجل، قلت: لو قال: نعم لم يجز الوضوء به إلا للضرورة، لأنه سأله بصفة الضرورة، وكان يرتبط نعم بسؤاله فاستأنف بيان الحكم لجواز الوضوء به مطلقا.
فإن قلت: لم يسأله عن السمك فكيف زاد بيان حكمه، قلت: لأن حاجة الناس إلى ذلك ولا يركبون البحر في بعض الأوقات إلا للصيد ولا سيما ركوب السائل كان لأجل الصيد وهو زيادة من الشارع حملا له على الجواب.
ومن الناس من كره الوضوء بماء البحر المالح لحديث ابن عمرو أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله فإن تحت البحر نارا أو تحت النار بحرا» أخرجه أبو داود متفردا به، وكان ابن عمر لا يرى جواز الوضوء ولا الغسل به عن جنابة، وكذا عن أبي هريرة وعن أبي العالية أنه كان يتوضأ فيه ويكره الوضوء بماء البحر لأنه طبق جهنم، وما كان طبق جهنم لا يكون طريق طهارة ورحمة على قوله: على أرماث بفتح الهمزة وسكون الراء وبعد الألف ثاء مثلثة جمع رمث بفتحتين، وهو خشب ضم بعضه إلى بعض ويركب في البحر.

[الوضوء بما اعتصر من الشجر والثمر]
م: (ومطلق الاسم يطلق على هذه المياه) ش: أي يطلق اسم الماء في الآية والحديثين المذكورين، ويطلق الاسم المتعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات والمراد بالمطلق هنا ما سبق إلى الأفهام عند استعمال لفظ الماء. وقال الأترازي: وجه التمسك بالآية والحديث أن الماء لما ذكر فيهما مطلقا من غير قيد بواحد من هذه المياه، والمطلق ينصرف إلى تقدير البلد.
م: (ولا يجوز) ش: أي الطهارة م: (بما اعتصر من الشجر والثمر) ش: ما اعتصر بالقصد على أن ما موصولة. قال الأكمل: هكذا المسموع. وقال تاج الشريعة: ما اعتصر غير ممدود وكذا قال في " المستصفى ". وقال السغناقي: بالقصر لأنها موصولة وإن كان يصح معنى الممدود، ولكن المنقول هو الموصولة، ولأن في الممدود وهم جواز التوضؤ بماء العصر هو بنفسه وليس الأمر كذلك وقال الأترازي لا نسلم، ولئن سلمنا الوهم، لكن لا يجوز التوضؤ بالعصر بنفسه من غير إعصار، لأنه خارج بلا علاج كما ذكره في المتن حيث قال:

(1/357)


لأنه ليس بماء مطلق، والحكم عند فقده منقول إلى التيمم،
والوظيفة في هذه الأعضاء تعبدية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الذي يقطر من الكرم، على ما يجيء، يعني الماء الذي يخرج منه بالتقاطر يجوز التوضؤ به ذكره في جامع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ماء خرج من غير علاج.
وفي " المحيط " لا يتوضأ بماء خرج من الكرم لكمال الامتزاج. وقال بعضهم: إذا قيل بالمد لوقع في الوهم أن المراد الماء المطلق. قال الأترازي: لا نسلم لأنه قيده بصفة الاعتصار فكيف يقع وهم الإطلاق لأنه عند إطلاق الماء لا يطلق عليه، مثلا: إذا كان في بيت شخص ماء بئر أو بحر أو عين وماء اعتصر من الشجر أو الثمر فقال لأحد هات لي ماء لا يسبق إلى ذهن المخاطب إلا الأول، ولا يعني بالمطلق أو المقيد إلا هو والإضافة نوعان: إضافة تعريف كغلام زيد، وأنه لا يغير المسمى، وإضافة تقييد كماء العنب، وأنه بغيره لأنه لا يفهم من مطلق اسم الماء، ولهذا يصح أن يقال: فلان لم يشرب الماء. وإن كان يشرب ماء العنب وماء الباقلاء والحقيقة لا تنفي عن المسمى بالإضافة إلى الماء وأخواته من القسم الأول وإضافته إلى المعتصر من الثاني.
م: (لأنه ليس بماء مطلق) ش: إذ لا يفهم بمطلق قولنا الماء م: (والحكم عند فقده) ش: أي عند فقد الماء المطلق، وأراد بالحكم الطهارة م: (منقول إلى التيمم) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) ومن ضرورة النقل عدم جواز استعمال هذه المائعات، والأصل في هذا أن التوضؤ به جائز ما دامت صفة الإطلاق باقية ولم يخالطه نجاسة، وإن زالت صفة الإطلاق لا يجوز التوضؤ به أو زوالها بغلبة الممتزج وبكمال الامتزاج، وغلبة الممتزج بكثرة الأجزاء، وكمال الامتزاج بطبخ الماء بالمخلوط الطاهر أو يشرب الشارب الماء حتى يبلغ الامتزاج مبلغا يمنع خروج الماء منه إلا بعلاج، والامتزاج بالطبخ إنما يمنع التوضؤ به إذا لم يكن ذلك الامتزاج المقصود للغرض المطلوب وهو التنظيف، وأما إذا كان كالأشنان إذا خلط بالماء فإنه يجوز التوضؤ به، والامتزاج: الاختلاط بين الشيئين بحيث يسع أحدهما في الآخر حتى يمنع التمييز، فإذا عرف هذا فلا يجوز التوضؤ بما اعتصر.

م: (والوظيفة في هذه الأعضاء تعبدية) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال إن الماء المعتصر من الشجر أو الثمر وإن لم يكن ماء مطلقا لكنه في معناه في الإزالة، فيلحق بالمطلق كما ألحقه أبو حنيفة وأبو وسف - رحمهما الله - بالمطلق في إزالة النجاسة الحقيقية فيجب أن يكون في الحكمية كذلك.
وتقدير الجواب أن يقال: إن الوظيفة في هذه الأعضاء الأربعة في الوضوء تعبدية يعني غير معقولة لأن الله تعالى أمرنا بذلك وعبدنا به، فيجب علينا الامتثال من غير أن يدرك معناه، لأن أعضاء الحدث غير نجسة حقيقة لعدم إصابتها، وحكما لجواز صلاة حامل الجنب أو المحدث

(1/358)


فلا تتعدى إلى غير المنصوص عليه.
وأما الماء الذي يقطر من الكرم فيجوز التوضؤ به، لأنه ماء خرج من غير علاج، ذكره في جوامع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتطهير الطاهر محال ولكنه أمر تعبدي كما ذكرنا م: (فلا تتعدى إلى غير المنصوص عليه) ش: لأن شرط القياس أن لا يكون حكم الأصل معدولا به عن القياس، وليس فيما نحن فيه كذلك فلا يصح القياس بخلاف إزالة النجاسة الحقيقية، فإنها معقولة المعنى لوجوبها حسا فجاز فيها الإلحاق.
فإن قلت: إن لم تمكن التعدية بطريق القياس يلتحق بالدلالة فإنه كونه معقولا ليس بشرط فيه، قلت: سائر المائعات ليس في معنى الماء من كل وجه لأن الماء مبذول عادة لا يبالي نجسه، وسائر المائعات ليس كذلك.
فإن قلت: كيف ألحقته به في النجاسة الحقيقية، قلت: قياسا لا دلالة لأنه معقول المعنى.
فإن قلت: من شرط الدلالة أن يكون الملحق به في معنى الوصف الذي هو مناطق الحكم في كل وجه لا غير، والوصف فيما نحن فيه هو إزالة النجاسة والماء والمائع في ذلك سيان، وكون الماء مبذولا لا دخل له في ذلك، قلت: إنهما سيان في إزالة النجاسة الحقيقية أو مطلقا فالأول مسلم وليس الكلام فيه، والثاني ممنوع.
فإن قلت: إذا كان الغسل في هذه الأعضاء تعبديا يلزم أن تكون النية فيه شرطا، وقد قلتم: إن الماء مزيل للحدث بالطبع فيلزم أن يكون مائعا كذلك لأنه مزيل بالطبع.
قلت: إنما يكون مزيلا بالطبع إذا كان المزال نجاسة حقيقية، وأما لو كانت نجاسة حكمية فلا يكون كذلك ولكن يلزم عليه الوضوء، فإن المزال فيه حكمي فينبغي أن يشترط فيه النية.
فإن قلت: غسل النجاسة بالماء المطلق على خلاف القياس لأنه يقتضي تنجيسه بأول الملاقاة وقد عديتم إلى المائعات الطاهرة.
قلت: المزال من النجاسة مشاهد فلما ترك القياس في حق الماء للضرورة يترك في حق غيره مما يعمل عمل الماء، وكذا عند ورود النجاسة على الماء في غسل الثوب النجس في الإجابات الثلاث حتى خرج من الثالثة طاهرا.

[الوضوء بالماء الذي يقطر من الكرم]
م: (أما الماء الذي يقطر من الكرم فيجوز التوضؤ به لأنه ماء خرج من غير علاج) ش: هذا كأنه جواب عما يرد على قوله ولا يجوز بماء اعتصر من الشجر والثمر، فلذلك قال: وأما الماء الذي يقطر بكلمة أما، وقد ذكر في " المحيط " لا يتوضأ بما يسيل من الكرم لكمال الامتزاج وهذا المنقول عن شمس الأئمة م: (ذكره في جوامع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ذكر فيه ضميرا مرفوعا

(1/359)


وفي الكتاب إشارة إليه حيث شرط الاعتصار،
ولا يجوز بماء غلب عليه غيره فأخرجه عن طبع الماء كالأشربة والخل وماء الورد وماء الباقلا والمرق وماء الزردج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنصوبا، أي ذكر أبو يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في "جوامعه " جواز الوضوء بالماء الذي يقطر من الكرم أياما، وهو أيام تنظيف فروعه من أطرافه ليقوي الأصول، وتطرح العنب كثيرا.
فإن قلت: فيه إضمار قبل الذكر. قلت: جاز ذلك للقرينة كما في قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] (ص: الآية 32) أي الشمس ويجوز أن يكون الضمير المرفوع فيه راجعا إلى جمع الجوامع آخذا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وفي الكتاب) ش: أي القدوري م: (إشارة إليه) ش: أي إلى جواز التوضؤ بالماء الذي يقطر من الكرم م: (حيث شرط الاعتصار) ش: لأن الذي يقطر من الكرم منعصر بنفسه لا معتصر، ويجوز أن يقرأ شرط على صيغة المعلوم وعلى صيغة المجهول، ففي المعلوم يعود الضمير الذي فيه إلى القدوري بقرينة قوله في الكتاب لأن الألف واللام فيه بدل من المضاف إليه، أي وفي كتاب القدوري، ويكون الاعتصار منصوبا على أنه مفعول شرط وفي المجهول يكون الاعتصار على أنه نائب عن الفاعل وذكر المفعول مطوي.

[الطهارة بماء غلب عليه غيره]
م: (ولا يجوز) ش: أي الطهارة م: (بماء غلب عليه غيره) ش: أي غير الماء من المائعات الطاهرة م: (فأخرجه عن طبع الماء) ش: هذا كالتفسير لكونه غلب على غيره، فلذلك ذكره بالفاء التفسيرية وطبع الماء كونه مرويا، لأنه يقطع العطش، وقيل قوة نفوذه، وقيل: كونه غير متلون، وقيل: ما يبقى له أثر الغليان والإخراج عن طبعه أن لا يبقى له أثر بالغليان م: (كالأشربة والخل وماء الورد وما الباقلاء) ش: بالمد وتخفيف اللام وإذا شدد اللام قصر الحاصل أن فيه لغتين ونظيره المزغر أو المزغري بكسر الميم وفتحها ذكره في الفصيح.
م: (والمرق وماء الزردج) ش: بفتح الزاي وسكون الراء وفتح الدال المهملة وفي آخره جيم وهو ما يخرج من العصفر المنقوع يطرح ولا يصبغ به ذكره المطرزي. وقيل: ماء عروقه الزعفران. قال الأترازي: كأنه معرب. قلت: هو معرب زرده.
واعلم أن قوله: كالأشربة اه. إن أراد به الأشربة المتخذة من الشجر كشراب الرمان والحماض وبالخل الخالص، كان من نظير المعتصر من الشجر والثمر، وكان ماء الباقلا والمرق نظير الماء الذي غلب عليه غيره، وكان فيه صفة اللف والنشر وهو أن يلف شيئين ثم ينشرهما، نظيره من التنزيل {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73] (القصص: الآية 73) وإن أراد بالأشربة الحلو المخلوط به والخل المخلوط بالماء كانت الأربعة كلها نظير الماء الذي غلب عليه غيره.

(1/360)


لأنه لا يسمى ماء مطلقا. والمراد بماء الباقلا وغيره ما تغير بالطبخ. وإن تغير بدون الطبخ يجوز التوضؤ به.
قال: ويجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه) ش: أي لأن الماء الذي غلب عليه غيره، أو لأن كل واحد من هذه الأشياء المذكورة م: (لا يسمى ماء مطلقا) ش: لأن مطلق الشيء ما يتبادر إليه الفهم عند ذكره، والفهم لا يتبادر إلى هذه المياه عند ذكر الماء م: (والمراد بماء الباقلاء ما تغير بالطبخ) ش: بأن صار ثخينا حتى صار كالمرق حتى إذا طبخ ولم يثخن ورقة الماء فيه باقية يجوز الوضوء به م: (وإن تغير) ش: أي ماء الباقلاء م: (بدون الطبخ يجوز التوضؤ به) ش: لإطلاق اسم الماء عليه لغلبة الماء.

[الطهارة بالماء الذي خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه]
م: (ويجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه) ش: وهي اللون والطعم والريح، وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز التوضؤ به إذا غير وصفين، ولكن الرواية الصحيحة بخلافها، ألا ترى إلى ما قال في " شرح الطحاوي "، وأما الحوض والبئر إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه إما بمرور الزمان أو بوقوع الأوراق كان حكمه حكم الماء المطلق، ولا شك أن الماء إذا تغير لونه تغير طعمه أيضا، ولكن يشترط أن يكون باقيا على رقته، أما إذا غلب عليه غيره وصار به ثخينا فلا يجوز.
وفي الرواية في قوله: فغير أحد أوصافه إشارة إلى أنه إذا تغير اثنان أو ثلاثة لا يجوز التوضؤ به، وإن كان المغير طاهرا لكن صحة الرواية بخلافه، وكذا عن الكرخي وفي " المجتبى " لا يقبل التغير به حتى لو غير الأوصاف الثلاثة بالأشنان أو الصابون أو الزعفران أو الأوراق أو اللبن ولم يسلب اسم الماء عنه ولا معناه فإنه يجوز التوضؤ به.
وفي " زاد الفقهاء ": الماء المغلوب من الخلط الطاهر يلحق بالماء المقيد غير أنه يعتبر الغلبة أولا من حيث اللون ثم من حيث الطعم ثم من حيث الإجزاء. فإن كان لونه مخالف للون الماء كاللبن والعصير والخل وماء الزعفران فالعبرة باللون، فإن غلب لون الماء يجوز وإلا فلا، فإن توافقا لونا لكن تفاوتا طعما كماء البطيخ والمشمش والأنبذة فالعبرة للطعم، إن غلب طعم الماء يجوز وإلا فلا، وإن توافقا لونا وطعما كماء الكرم فالعبرة للإجزاء.
وسئل المداني عن الماء الذي يتغير لونه بكثرة الأوراق في الكف إذا رفع منه هل يجوز التوضؤ به قال: لا، ولكنه يجوز شربه وغسل الأشياء. وفي " فتاوي قاضيخان " إذا طبخ بما يقصد به المبالغة في التنظيف كالسدر والحرض، فإن تغير لونه ولكن لم تذهب رقته يجوز التوضؤ به، ولو صار ثخينا مثل السويق لا يجوز.
فإن قلت: قد ذكر من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» وذلك يقتضي عدم التوضؤ به عند تغير أحد الأوصاف.

(1/361)


كماء المد والماء الذي اختلط به الزعفران أو الصابون أو الأشنان قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجري في المختصر ماء الزردج مجرى المرق. والمروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه بمنزلة ماء الزعفران هو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير.» الحديث، أي لا ينجسه شيء نجس وكلامنا في المختلط الطاهر هكذا أجاب الأكمل، وتبع في ذلك تاج الشريعة فإنه أيضا قال المعنى إلا ما غيره شيء نجس فيكون معناه حينئذ لا ينجسه شيء إلا بالمتغير النجس وهذا لأنه ورد في الماء الجاري ولا يجوز استعماله حيث ترى فيه النجاسة أو يوجد طعمها أو ريحها لأنه يدل على قيام النجاسة، وأجاب الأترازي بجوابين أحدهما مما ذكرنا والآخر إن الشرط لم يصح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: في الجميع نظر، أما في كلام الأكمل فلأن الحديث عام والتخصيص بلا مخصص لا يجوز، وأما في كلام تاج الشريعة: فلأن دعواه بأنه ورد في الماء الجاري لم يثبت، ومن ذكر هذا من شراح الحديث، وأما كلام الأترازي فلأن الشرط أراد به إلا ماء غير طعمه أو لونه أو ريحه لم يصح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن لم يصح مسندا فقد صح مرسلا كما ذكره والمرسل حجة عندنا.
م: (كماء المد) ش: أي السيل لأنه يجيء بتغير طين هذا إذا كان رقة الماء غالبة وإن كان الطين غالبا لا يجوز الوضوء به كذا في " الذخيرة " م: (والماء الذي اختلط به الزعفران أو الصابون أو الأشنان) ش: بضم الهمزة وكسرها حكاهما الجوالقي وأبو عبيدة، وهو معرب وهو الحرض بضم الحاء وسكون الراء المهملتين وفي آخره ضاد معجمة. وعن أبي يوسف ماء الصابون إذا كان ثخينا قد غلب على الماء لا يتوضأ به وإن كان رقيقا يجوز وكذا ماء الأشنان.
وعن أبي يوسف إذا طبخ الآس أو البابونج في الماء وغلب عليه حتى يقال ماء الآس والبابونج لا يجوز الوضوء بهما. وفي " الفتاوى الظهيرية " إذا طرح الزاج في الماء حتى اسود جاز الوضوء به، وكذا العفص إذا كان الماء غالبا.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المصنف م: (أجري في المختصر) ش: أي أجري أبو الحسن القدوري في كتابه المختصر المسمى بالقدوري م: (ماء الزردج مجرى المرق) ش: أي جعل حكمها واحدا، حيث لا يجوز التوضؤ بها م: (والمروي عن أبي يوسف بمنزلة ماء الزعفران) ش: حيث يجوز التوضؤ بها م: (هو الصحيح) ش: أي المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الصحيح. وقال السغناقي في قوله هو الصحيح احتراز عن قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه يعتبر العلة بتغير اللون والطعم والريح كذا في " فتاوى قاضيخان ". وقال الأترازي أنا أقول لا خلاف في هذه المسألة في الحقيقة اه. حاصله يقتضي إلى أنه إن كان المراد به ما إذا كان الماء مغلوبا بماء الزردج فلا خلاف بينهما ثم قال في آخر كلامه فافهم، فإنه غفل عنه الشارحون.

(1/362)


كذا اختاره الناطفي والإمام السرخسي، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز التوضؤ بماء الزعفران وأشباهه مما ليس من جنس الأرض؛ لأنه ماء مقيد، ألا ترى أنه يقال ماء الزعفران.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا الموضع ليس من المواضع التي فيها غموض حتى ينسب الغفلة إلى الشراح م: (كذا اختاره الناطفي) ش: أي كذا اختار المروي عن أبي يوسف الإمام الناطفي، وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن عمرو الناطفي أحد الأئمة الأعلام، وصاحب " الواقعات " و " النوازل " ومن تصانيفه " الأجناس " و " الفروق " والواقعات "، مات بالري سنة ست وأربعين وأربعمائة، ونسبه إلى عمل الناطف وبيعه، وهو تلميذ الشيخ أبي عبد الله الجرجاني، وهو تلميذ أبي بكر الجصاص الرازي، وهو تلميذ الشيخ أبي الحسن الكرخي، وهو تلميذ أبي حازم القاضي، وهو تلميذ عيسى بن أبان، وهو تلميذ محمد بن الحسن. م: (والإمام السرخسي) ش: هو شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي، وهو تلميذ الإمام محمد بن الفضل البخاري، وهو تلميذ الشيخ عبد الله بن يعقوب السيد مولى، وهو تلميذ عبد الله بن أبي حفص الكبير وهو تلميذ أبيه وشيخه أبي حفص الكبير وهو تلميذ محمد بن الحسن - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، والإمام السرخسي هو صاحب " المبسوط " أملاه وهو في السجن باذر جند، وهو من كبار علماء ما وراء النهر صاحب الأصول والفروع كان إماما حجة من فحول الأئمة ذا فنون.
مات في حدود الأربعمائة وعشرين، ونسبته إلى سرخس بفتح السين والراء المهملتين ثم خاء معجمة ساكنة وفي آخره سين مهملة مدينة من مدن خراسان بين نيسابور ومرو في أرض سهلة.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز التوضؤ بماء الزعفران وأشباهه مما ليس من جنس الأرض) ش: كماء الصابون والأشنان ونحوهما م: (لأنه) ش: أي لأن ماء الزعفران ونحوه م: (ماء مقيد) ش: لأنه قيد بشيء آخر فخرج عن الإطلاق، ثم أوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنه يقال ماء الزعفران) ش: بالإضافة فصار مقيدا فلا يجوز التوضؤ به. ومذهب الشافعي على التحرير أن الماء إذا تغير أحد أوصافه مما لا يمكن حفظ الماء عنه كالطحلب وما يرى على الماء من الملح والنورة وغيرهما جاز الوضوء به لعدم إمكان صون الماء عنه، وإن كان مما يمكن حفظه منه فإن كان ترابا طرح فيه فكذلك لأنه يوافق الماء في كونه مطهرا فهو كما لو طرح فيه ماء آخر فتغير به، وإن كان شيئا سوى ذلك كالزعفران والطحلب إذا رق وطرح فيه وغير ذلك مما يتغير الماء منه لم يجز الوضوء به، لأنه زال إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بطاهر والماء مستغن عنه فصار كاللحم والمائع المخالط بالماء إن قل جازت الطهارة به وإلا فلا. وبماذا تعرف القلة والكثرة ينظر فإن خالفه في بعض الصفات فالعبرة بالتغير، فإن غيره فكثير وإلا فقليل، وإن وافقه في صفاته كماء الورد وانقطعت رائحته، وفيما يعتبر به القلة والكثرة فيه وجهان:

(1/363)


بخلاف أجزاء الأرض لأن الماء لا يخلو عنها عادة. ولنا أن اسم الماء باق على الإطلاق، ألا ترى أنه لم يتجدد له اسم على حدة وإضافته إلى الزعفران كإضافته إلى البئر والعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما إن كانت الغلبة للماء جازت الطهارة به، وإن كانت المخالطة لم تجز. ومنهم من قال إذا كان ذلك قدرا لو كان مخالفا للماء في صفاته ولم يغيره لم يمنع، ولو خالط الماء المطلق ماء مستعمل فطريقان أصحهما كالمائع وفيه وجهان وبهذا قطع جمهورهم وصححه الرافعي.
والثاني وفي " شرح الوجيز " ما تفاحش بغيره مما يستغني الماء عنه حتى زايله اسم الماء المطلق وإن لم يتجدد اسما آخر كالمتغير بالصابون والزعفران الكثير وأجناسهما سلب اسم الماء عنه لم تجز الطهارة به.
وفي " الحلية " وبه قال مالك وأحمد وعند الشافعي لو طرح فيه التراب فتغير الوضوء جائز به على الأظهر، وحكي فيه قولان، ولو طرح فيه الملح فتغير به جاز وعند بعض أصحابه لا يجوز، ولو تغير بعود أو دهن طيب فقال المزني يجوز الوضوء به، وقال البويطي لا يجوز. ولو وقع فيه الكافور فتغير به ريحه فيه وجهان. ولو وقع فيه قطران فغيره قال الشافعي في " الإمام ": لا يجوز الوضوء به، وقال بعده بأسطر لا يجوز، ولو تغير بطول المكث يجوز الوضوء به. وعن ابن سيرين لا يجوز. وشذ الحسن بن صالح بن حسن وجوز الوضوء بالخل وما جرى مجراه.
م: (بخلاف أجزاء الأرض) ش: كالطين والجص والنورة والكحل م: (لأن الماء لا يخلو عنها عادة) ش: أي لا يخلو عن أجزاء الأرض، وفي بعض النسخ عند ذكره باعتبار اللفظ.
م: (ولنا أن اسم الماء باق على الإطلاق) ش: بعد زوال صفته بمخالطة طاهر م: (ألا ترى أنه لم يتجدد له اسم على حدة) ش: كما تجدد لماء الورد ونحوه قوله على حدة أي منفردا، وأصله وحده حذفت منه الواو تبعا لفعله كما في عدة ثم عوض عنها الهاء ولكن بعد نقل حركة فاء الفعل إلى عين الفعل.
م: (وإضافته) ش: أي إضافة الماء م: (إلى الزعفران كإضافته إلى البئر والعين) ش: هذا جواب عما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تعليله بقوله - لأنه ماء مقيد ألا ترى أنه يقال له ماء الزعفران - تقديره أن يقال إن الألفاظ لا تغير عن المسميات وحيث لم يتجدد له اسم آخر دل على عدم اختلاف المسمى فتكون إضافته إلى الزعفران كإضافته إلى البئر.
والحاصل أن الإضافة هنا للتعريف لا للتقييد والفرق بينهما أن المضاف إذا لم يكن خارجا من المضاف إليه بالعلاج فالإضافة للتعريف، وماء الزعفران وماء البئر وماء العين من هذا القبيل وإن كان خارجا منه فهي للتقييد كماء الورد ونحوه والتغير في اللون موجود في بعض المياه المطلقة نحو ماء المد والواقعة فيها الأوراق، وكذا ماء بعض البيار يضرب في السواد فلا يخرج عن

(1/364)


ولأن الخلط القليل لا يعتبر به لعدم إمكان الاحتراز عنه كما في أجزاء الأرض فيعتبر الغالب، والغلبة بالأجزاء لا بتغير اللون هو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كونه مطلقا.
فإن قلت: لم يتجدد لماء البقلاء اسم على حدة ومع هذا لا يجوز التوضؤ به، قلت المضاف هنا خارج من المضاف إليه بالعلاج كما ذكرنا فلا يجوز وإن لم يتجدد له اسم وقال تاج الشريعة: الدليل يقتضي الجواز ولكن الطبخ والخلط يبينان نقصانا في كونه مائعا.
م: (ولأن الخلط القليل) ش: هذا دليل ثان وهو أن الاعتبار للخلط ينظر إن كان قليلا م: (لا يعتبر به لعدم إمكان الاحتراز عنه كما في أجزاء الأرض) ش: نحو الطين والجص والنورة، فإن التوضؤ بالماء الذي اختلط به هذه الأشياء يجوز بالاتفاق إذا كان الخلط به قليلا لأن الصفرة قليل، وإن كان كثيرا لا يجوز كماء الزعفران أيضا إذا غلب عليه الزعفران كماء الأترج. ثم تعرف القلة أو الكثرة بالغلبة أشار بقوله م: (فيعتبر الغالب) ش: لقوله ثم الغلبة لما كانت على قسمين أحدهما الغلبة بالأجزاء والآخر الغلبة باللون، ولما كان الاعتبار للقسم الأول أشار بقوله م: (والغلبة بالأجزاء) ش: أي بأجزاء المخالط والمخلوط فإن كانت أجزاء الماء غالبة جاز الوضوء به وإن كانت أجزاء الذي اختلط به غالبة فلا يجوز.
فإن قلت: بما تعلم ذلك، قلت ببقائه على رقته أو تجربته، فإن كانت رقته باقية جاز الوضوء به، وإن صار ثخينا بحيث زالت عنه رقته الأصلية لم يجز.
م: (لا بتغير اللون) ش: يعني لا تعتبر الغلبة بتغير اللون كما ذهب إليه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثم أشار إلى الغلبة بالأجزاء أن الغلبة للأجزاء وهي المعتبرة بقوله م: (هو الصحيح) ش: لأنه حينئذ ينتفي عنه اسم الماء، وأشار به أيضا إلى نفي قول محمد، واعلم أن الماء إذا اختلط بشيء طاهر لا يخلو إما أن يكون لونه الماء أو مخالفا له، فإن كان مخالفا كاللبن والخل والعصير وماء الزعفران والمعصفر وما أشبههما فالعبرة للون، فإن غلب لون الماء يجوز الوضوء به وإن كان مغلوبا فلا يجوز وإن كان موافقا كماء البطيخ والأشجار فالعبرة بالطعم إن كان طعم الماء غالبا يجوز وإلا فلا، وإن لم يكن له طعم فالعبرة لكثرة الأجزاء فإن كان أجزاء الماء أكثر يجوز التوضؤ به وإلا فلا والماء الكثير المنتن إن كان نتنه من نجاسة لا يتوضأ به وإن لم يعلم يجوز. ولا يلزمه السؤال عنه لأن الطهارة أصل ولعل نتنه بمكثه كما قيل الماء إذا سكن سنة تحرك نتنه، وإن طال مكثه ظهر خبثه وفي " شرح مختصر الطحاوي " الماء الطاهر اختلط به نجس حتى صار طينا أو كان الماء نجسا والتراب طاهرا قال أبو بكر الإسكاف العبرة بالماء إن كان طاهرا فالماء طاهر، وإن كان نجسا فالطين نجس ولا ينظر إلى طهارة التراب ونجاسته وقال أبو نصر محمد بن محمد بن سلام: العبرة بالطهارة منهما أيهما كان طاهرا فالكل طاهر، وقال أبو القاسم الصفار: العبرة للنجس منهما

(1/365)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيهما كان نجسا فالطين نجس، وبه أخذ أبو الليث وقال في " المحيط " هذا هو الصحيح. وقيل عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطين نجس وعند محمد طاهر، وفي " الملتقطات " إذا جعل السرقين في الطين فالطين لا ينجس للضرورة.
فروع: خمر وقعت في ماء، وجعلت في وعاء، ثم تخللت طهرت، حوض ينزل إليه الماء من الأنبوب ويغترف الناس منه متداركا لا ينجس كالجاري ولا يجوز الوضوء بماء الملح وهو يجمد في الصيف ويذوب في الشتاء عكس الماء، ولا بأس بالوضوء من جب كورة في نواحي الدار ما لم ينجسه بالحرج والطهارة أصل. وإن أدخل جنب يده في كوز ماء ولم يعلم على يده نجاسة فالمستحب ترك الوضوء به لأنه لا يبقى النجاسة عادة، وإن توضأ أجزأه للأصل. وذكر الحاكم الشهيد عن أبي يوسف فيمن أخذ بفمه ماء من إناء فغسل يده وجسده أو توضأ به لم تجز، ولو غسل به نجاسة في يده أجزأة البزاق والنخامة والمخاط يقع في إناء الوضوء يجوز التوضؤ به محدث معه ماء قليل وعلى يده نجاسة يأخذ الماء بفمه من غير أن ينوي غسل فمه ثم يغسل يده.
قال أبو جعفر على قول محمد: لا تطهر يده لأن الماء خالط البزاق فخرج من أن يكون مطلقا فالتحق بسائر المائعات غير الماء كالخل وماء الورد، وغسل اليدين بسائر المائعات غير الماء المطلق فيه روايتان عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية يطهر كالثوب، وفي رواية لا يطهر بخلاف الثوب وعن محمد رواية واحدة أن البدن لا يطهر بخلاف الثوب فإنه يطهر بالاتفاق.
التوضؤ بالثلج يجوز إن كان ذائبا يتقاطر، وإلا فلا وعلى هذا التيمم حال وجود الثلج إن كان ذائبا لا يجوز التيمم.
إذا أصاب بعض بدنه بول فبل يده ومسحها على ذلك الموضع إن كانت البلة من يده متقاطرة جاز وإلا فلا، والسيل شرط في ظاهر الرواية فلا يجوز الوضوء ما لم يتقاطر الماء. وعن أبي يوسف أنه ليس بشرط وفي مسألة الثلج إذا قطر قطرتان فصاعدا جاز اتفاقا وإلا فعلى قولهما لا يجوز وعلى قول أبي يوسف يجوز. فروع أخر: لا يكره الوضوء والاغتسال بماء زمزم. وعن أحمد يكره وفي " القنية " يكره الطهارة بالماء المشمس «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين سخنت الماء بالشمس "لا تفعلي يا حميراء لا تفعلي فإنه يورث البرص» .

(1/366)


فإن تغير بالطبخ بعدما خلط به غيره لا يجوز التوضؤ به؛ لأنه لم يبق في معنى المنزل من السماء إذ النار غيرته إلا إذا طبخ فيه ما يقصد به المبالغة في النظافة كالأشنان ونحوه، لأن الميت يغسل بالماء الذي أغلي [ب] السدر بذلك وردت السنة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: رواه البيهقي في "سننه " من حديث خالد بن إسماعيل عن هشام عن أبيه «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سخنت ماء في الشمس "فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا حميراء لا تفعلي فإنه يورث البرص» . قال ابن عدي: خالد يضع الحديث على الثقات قال الذهبي: تابع خالد أبو المجيري وهب بن وهب وهو مؤتمن وروى أيضا بإسناد منكر عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن هشام، قال الذهبي هكذا مكذوب على مالك وروى البيهقي أيضا من حديث الشافعي أخبرنا إبراهيم بن محمد أخبرني أبي صدقة بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يكره الاغتسال بالماء المشمس. قال الذهبي: إبراهيم واه: م: (فإن تغير) ش: أي الماء م: (بعدما خلط به غيره) ش: قيد به، لأنه إذا طبخ به وحده وتغير يجوز الوضوء به م: (بالطبخ) ش: مع غيره م: (لا يجوز الوضوء به لأنه لم يبق في معنى المنزل من السماء) ش: أي في الماء لزوال صفة الماء لأن الناظر لو نظر إليه لا يسميه مطلقا.
م: (إلا إذا طبخ فيه) ش: أي في الماء والاستثناء من قوله لا يجوز التوضؤ به وطبخ على صيغة المجهول مسند إلى قوله م: (ما يقصد به المبالغة في النظافة كالأشنان ونحوه) ش: مثل السدر والخطمي ونحوهما فإنهم كانوا يغلون الماء بشيء من هذه الأشياء لأن الماء المغلي بذلك يستقضي إخراج الدرن والوسخ عن المغسول، ولكن يشترط أن لا يكون غليظا لما يأتي الآن، ثم أقام الدليل على ذلك بقوله م: (لأن الميت يغسل بالماء الذي أغلي بالسدر بذلك وردت السنة) ش: لم ترد السنة بذلك على الوجه المذكور، ولم أر أحدا من الشراح حققوا نظرة في هذا المكان.
أما السروجي قال بذلك: وردت السنة عن «أم عطية الأنصارية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفيت ابنته زينب زوجة أبي العاص بن الربيع قال " اغسليها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك بماء السدر» الحديث رواه البخاري، ومسلم، وهذا الحديث لا يدل على ما ذكره المصنف أو هل فيه أن الماء أغلي بالسدر، وأي دليل دل على هذا.
وأما الأكمل فإنه قال لأن السنة وردت به في غسل الموتى بالماء الذي أغلي بالسدر وهذا أعجب من ذلك وأبعد وأما تاج الشريعة فإنه قال وردت لأن السنة في غسل الموتى أن يغلى الماء بالسدر (والحرض) فهو أيضا مثله.

(1/367)


إلا أن يغلب ذلك على الماء فيصير كالسويق المخلوط لزوال اسم الماء عنه
وكل ماء وقعت النجاسة فيه لم يجز الوضوء به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما السغناقي والأترازي فبالكلية لم يحوما حوله وكذلك " صاحب الدراية ". وقال السروجي وحديث المحرم الذي وقصته راحلته قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «اغسلوه بماء وسدر» ش: الحديث رواه البخاري ومسلم، فلو سلب السدر الطهورية لما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل ويغسل رأسه بالخطمي وهو جنب ويجزئ بذلك ويصب عليه الماء» رواه أبو داود وقد «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتعفير بالتراب في ولوغ الكلب» فدل على أن المخالطة لا يسلب طهورية الماء.
قلت: حديث المحرم كيف دل على أنهم غسلوه بالماء المغلي بالسدر، وإنما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اغسلوه بماء وسدر» غاية ما دل أنه يجمع وقت الغسل بين الماء والسدر كما هو عادتهم أنهم يرشون عليه سدر أو يمعكونه ثم يسكبون عليه ماء.
وقوله: - لو سلب السدر الطهورية - إلخ. غير مستقيم على ما لا يخفى. وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أيضا لا يدل على ذلك لأنها ما قالت إنه كان يغلى الماء بالسدر. وحديث التعفير أيضا لا يدل على ذلك لأن معنى التعفير التمريغ بالتراب، وشيء معفر أو معفور أي مترب. وقال صاحب " المطالع ": يعني وعفروا الثامنة بالتراب اغسلوه بالتراب وليس فيه ما يدل على الإغلاء.
م: (إلا أن يغلب ذلك) ش: استثناء من الاستثناء وذلك إشارة إلى الذي يطبخ فيه ما يقصد المبالغة في التنظيف فإن ذلك إذا غلب م: (على الماء فيصير كالسويق المخلوط) ش: السويق قمح أو شعير يغلى ثم يطحن فتزود ويسق تارة بما يترى به أو بسمن أو بعسل وبسمن، وبنو المعسر يقولونه بالصادق قاله ابن دريد، وإذا خلط السويق بالماء لا يجوز التوضؤ به م: (لزوال اسم الماء عنه) ش: بغلبة ما اختلط به عليه.

[الوضوء بالماء الذي وقعت فيه نجاسة]
م: (وكل ماء وقعت النجاسة فيه لم يجز الوضوء به) ش: أراد بالماء ما لم يكن جاريا ولا ما في حكمه وهو الغدير العظيم لأنه يذكر الجاري فيما يأتي غير قريب. وقال السغناقي: أراد بالماء نحو الحوض الكبير الذي هو عشر في عشر. وقال الأترازي أراد بالماء الراكد الذي لا يبلغ قدر الغدير العظيم. وقال تاج الشريعة أراد من الماء الدائم الذي لم يبلغ عشرا في عشر سواء كان بئرا أو آنية أو غيرهما. وقال السروجي قوله وكل ماء. اه.
له وجهان أحدهما معناه لاقته النجاسة وحكمه أن لا يجوز به الوضوء قليلا كان أو كثيرا جاريا كان أو راكدا فعلى هذا لا مناقضة بين هذا، وبين قوله جاز الوضوء من الجانب الآخر لأنه

(1/368)


قليلا كانت النجاسة أو كثيرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يلاق النجاسة.
والوجه الثاني في دفع المناقضة أن يقال المراد بالكثير ما لا يغيره وقوع النجاسة، وهو الذي جعله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - كثيرا، أو القلتان وهو الذي جعله الشافعي كثيرا فيكون هذا لإثبات الكثير المختلف فيه فلا يتناول الذي لا تصل النجاسة فيه إلى الطرف الآخر فلا يمنع الوضوء منه.
قلت: المناقضة التي هي تقع ظاهرا بين قوله وكل ما وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به وبين قوله الغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الآخر وإذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر، بيان ذلك أن قوله أولا وكل ماء يتناول الكلامين جميعا لأن لفظ كل إذا أضيف إلى النكرة يراد به عموم الأفراد، ففي كلامه الأول نفي الجواز، وفي الثاني أثبته وبينهما منافاة وبين الشارح دفع ذلك بالوجهين المذكورين.
م: (قليلا كانت النجاسة أو كثيرا) ش: هذه عبارة القدوري وفي بعض نسخ " الهداية " قليلا كانت النجاسة أو كثيرا، وتوجيه عبارة القدوري أن يكون الضمير في كان راجعا إلى الماء في قوله وكل ماء الذي أريد به الماء الراكد، والضمير اسم كان وخبره قوله قليلا مقدما عليه، وتوجيه النسخة الثانية أنه شبه فعيلا الذي هو بمعنى فاعل بفعيل الذي هو بمعنى مفعول كما في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] (الأعراف: الآية 56) قال بعض شراح القدوري قليلا كان أو كثيرا إن كان وصفا للماء فالكثير من الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه كالقاذورات في الحياض الكبار والبحار، وإن كان وصفا للنجاسة فلا بد من تاء التأنيث في القليل والكثير لأنه فعيل بمعنى فاعل، ثم قال هو وصف للماء لكن نفى جواز الوضوء بالمحل والجانب الذي وقعت فيه النجاسة.
ولمشايخنا في هذه المسألة قولان أن الغدير العظيم إذا وقعت فيه نجاسة هل يجوز التوضؤ من جانب الوقوع، ففي أكثر روايات الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروايات بشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز، وفي ظاهر الأصول لا يجوز، وهو اختيار المصنف على ما أشار إليه في مسألة الغدير، ولم يذكر وجه كون القليل والكثير صفة للنجاسة. وقال صاحب " الدراية ": إن كان لفظ القليل صفة للماء كان الخلاف مع الشافعي، وإن كان صفة للنجاسة كان الخلاف مع مالك، فإن عنده لا ينجس الماء القليل بوقوع النجاسة إذا لم ير لها أثر.
وفي بعض أصحاب مالك القليل ينجس بالنجاسة القليلة وإن لم يتغير به، والقليل كاف للوضوء والغسل وإن كان لفظ القليل والكثير صفة للنجاسة فذكر فيما مر. وقال الأترازي بعد أن وجه كون القليل والكثير عند كونهما صفة للنجاسة بأن ذكر بالتذكير كما ذكره، وقال بعضهم:

(1/369)


وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز ما لم يتغير أحد أوصافه لما روينا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز إن كان الماء قلتين؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إن قليلا لا يحتمل أن يكون صفة للماء وذلك سهو منه لأن كان تقتضي اسما وخبرا فالاسم هو النجاسة والخبر هو القليل والكثير، وإذا كان كذلك بأي توجيه يكون القليل والكثير صفة للماء.
قلت: كأنه أراد بقول بعضهم صاحب " الدراية " ونسبه إلى السهو وليس كذلك لأن مراده من قوله يحتمل أن يكون صفة للماء باعتبار اختلاف الجنسين.

م: (وقال مالك يجوز ما لم يتغير أحد أوصافه) ش: أي يجوز الوضوء بالقليل وإن وقعت فيه النجاسة ما لم يتغير أحد أوصافه وهو اللون والطعم والرائحة.
م: (لما روينا) ش: أراد به قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الماء طهور لا ينجسه شيء» الحديث، وقد مر توجيهه م: (وقال الشافعي يجوز إذا كان الماء قلتين لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» ش: رواه الأربعة من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ورواه ابن ماجه في صحيحه ولفظه «لم ينجسه شيء» وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأظنه لاختلاف فيه على أبي أسامة عن الوليد بن كثير، ورواه الشافعي في "مسنده "، وأحمد في "مسنده " وابن خزيمة والدارقطني والبيهقي، ولفظ أبي داود: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» وفي رواية له ولابن ماجه «فإنه لا ينجس» . وقال ابن المنذر: إسناده على شرط مسلم صحيح وأخرجه الطحاوي أيضا بسند صحيح ولكنه اعتل في تركه العمل به بجهالة مقدار القلتين.
واختلفوا في تفسير القلة فقيل خمس قرب كل قربة خمسون منا وقيل جرة تسعمائة وخمسة وعشرين منا، وقيل القلتان خمسمائة رطل بالبغدادي، وقيل ستمائة، وقيل ألف وهما بالمساحة ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا هكذا قالوا، وليس محررا فإن الماء تختلف أوزانه، وفي " المغني " لابن قدامة القلة هي الجرة ويقع هذا الاسم على الصغيرة والكبيرة، والمراد من القلتين هاهنا من قلال هجر وهما خمس قرب كل قربة مائة رطل بالعراقي فتكون القلتان خمسمائة رطل، هذا هو المشهور في المذهب وعليه أكثر الأصحاب وهو مذهب الشافعي.
ووري الأثرم عن الأكمل أنهما أربع قرب وحكاه ابن المنذر أيضا عن أسامة. قلت: وهجر التي تنسب إليها القلال قرية كانت ببلاد المدينة، ويقال: الهجر التي باليمن والأول أصح.

(1/370)


ولنا حديث المستيقظ من منامه وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا حديث المستيقظ من نومه) ش: قد مر في أوائل الكتاب وجه التمسك به أنه لما ورد النهي عن الغمس لأجل احتمال النجاسة فحقيقة النجاسة أولى أن يكون نجسا م: (وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة» ش: رواه بهذا اللفظ أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحديث، وهو في " الصحيحين " من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه» ، وفي لفظ: «ثم يغتسل منه» ، وفي لفظ الترمذي: «ثم يتوضأ منه» . وروى مسلم من حديث أبي السائب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري وهو جنب" فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ فقال: "يتناوله تناولا» . قوله: فقال: كيف يفعل؟ القائل هو أبو السائب مولى هشام بن زهرة. وأخرجه الدارقطني وابن حبان نحوه.
وروي أيضا من حديث أبي الزبير عن جابر مرفوعا: «لا يبولن أحدكم في الماء الراكد» ، وروى البيهقي من حديث ابن عجلان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنه نهى أن يبال في الماء الراكد وأن يغتسل فيه من الجنابة» .
ووهم الشيخ علاء الدين التركماني في عزوه هذا الحديث لمسلم عن طلحة وإنما رواه مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وروي بعضه عن جابر ولم يخرج مسلم لطلحة في كتابه إلا في خمسة أحاديث ليس هذا منها.
الأول: «جاء رجل من أهل نجد ثائر الرأس.» أخرجه في كتاب الإيمان وشاركه البخاري فيه.
الثاني: حديث «الصلاة إلى مؤخرة الرحل» أخرجه في الصلاة.
الثالث: «أهدي لنا طير ونحن حرم» أخرجه في الحج.
الرابع: حديث «لم يبق مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا طلحة» .
الخامس: «مررت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوم على رؤوس النخل» أخرجهما في الفضائل، فالمقلد ذهل والمقلد جهل وآفة كل شيء من التقليد، وأخرجه الطحاوي أيضا من حديث عطاء بن يسار عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ

(1/371)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منه أو يغتسل فيه» وأخرجه الطبراني بهذا الطريق، وأخرجه الطحاوي أيضا من حديث عطاء بن سعيد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب» . وأخرجه البيهقي أيضا نحوه.
قوله: «أو يشرب» أي منه، وجه التمسك بهذا الحديث أن الغسل من الجنابة لا يغير لون الماء ولا طعمه ولا ريحه وقد نهي عنه فإذا لا ينجسه بوقوع النجاسة بكل حال لم يكن للنهي فائدة ولا فصل في الحديث بين الدائم ودائم فهو على العموم إلا أن يصير في حكم الجاري كالحوض الكبير، ولأن الماء الذي يغتسل فيه أكثر من قلتين طاهر.
فإن قلت: الحوض الكبير دائم والحديث مطلق فيدخل تحت إطلاقه فيكون حجة عليه.
قلت: إنه في حكم الجاري في عدم اختلاط بعضه ببعض فإن قلت: يجوز أن يكون النهي فيه للتنزيه، قلت: لا يجوز لأن تأكيده وتقييده بالدائم ينافيه فإن الماء الجاري يشاركه في ذلك المعنى فإن البول كما أنه ليس باد في الماء الدائم فكذلك في الجاري فلا يكون للتقييد فائدة. وكلام الشارح مصون عن ذلك.
وزعم النووي أن النهي فيه للتحريم في بعض المياه والكراهة في بعضها، فإن كان الماء كثيرا جاريا لم يحرم البول فيه لمفهوم الحديث، ولكن الأولى اجتنابه. وإن كان قليلا جاريا فقال جماعة من أصحابنا يكره، والمختار أنه لا يحرم لأنه يقدره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي، وإن كان كثيرا دائما فقال أصحابنا: يكره ولا يحرم ولو قيل: يحرم لم يكن بعيدا. فقيل: إذا بال في الماء الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه والصواب المختار أنه حرام، والتغوط فيه كالبول فيه وأقبح. وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء، قلت: زعم أنه من باب استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وفيه من الخلاف ما هو معروف عند أهل الأصول. ثم نتكلم في ألفاظ الحديث فقوله: الدائم، أي الثابت الواقف. وقوله: الذي لا يجري تفسير للدائم وإيضاح لمعناه. قوله: أو الراكد - شك من الراوي من ركد إذا ثبت، قال الجوهري: ركد الماء ركودا ثبت وكل ثابت في مكان راكد. قوله: نهى حكاية النهي كما أن قوله: أمر حكاية الأمر، واختلفوا فيما إذا قال الصحابي أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو السنة كذا، فالمذهب عندنا أنه لا يفهم من هذا المطلق الإخبار بأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أنه سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: ينصرف إلى ذلك عند الإطلاق، وفي الجديد قال: لا ينصرف إلى ذلك بدون البيان، لاحتمال أن يكون المراد سنة البلدان أو الرؤساء، حتى لو قال في

(1/372)


من غير فصل.
والذي رواه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كل موضع: السنة في بلدنا كذا فإنما أراد سليمان بن بلال وكان عريفا بالمدينة. قوله: "ثم يغتسل فيه" برفع اللام لأنه خبر لمبتدأ أي: وهو يغتسل فيه، ويجوز الجزم عطفا على محل لا يبولن لأنه مجزوم، وعدم ظهور الجزم لأجل النون، وقد قيل: يجوز النصب بإضمار أن ويعطى له حكم الواو، قلت: هذا فاسد لأنه يقتضي أن يكون المنهي عنه هو الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، ولهذا لم يقل به أحد بل البول فيه منهي سواء أراد الاغتسال فيه أو منه أو لا. وقال القرطبي: الصحيح يغتسل برفع اللام ولا يجوز نصبها إذ لا ينصب بإضمار أن بعد ثم وخالفه في ذلك ابن مالك وأجازه الذي ذكرناه، ويستنبط منه أحكام:
الأول: أن أصحابنا احتجوا به أن الماء الذي لا يبلغ الغدير العظيم إذا وقعت فيه نجاسة لم يجز الوضوء به قليلا كان أو كثيرا.
الثاني: استدل به أبو يوسف على نجاسة الماء المستعمل فإنه قرن فيه بين الغسل وبين البول فيه، وفي دلالة القران بين الشيئين على استوائهما في الحكم خلاف بين العلماء، فالمذكور عن أبي يوسف والمزني ذلك، وخالفهما غيرهما.
الثالث: أن هذا الحديث عام فلا بد من تخصيصه اتفاقا بالماء المستبحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، وبحديث القلتين كما ذهب إليه الشافعي، أو بالعمومات الدالة على طهارة الماء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة كما ذهب إليه مالك.
الرابع: أن المذكور فيه البول فيلحق به اغتسال الحائض والنفساء قياسا، وكذلك يلحق به اغتسال الجمعة، والاغتسال عند غسل الميت عند من يوجبها.
فإن قلت: يلحق به الغسل المسنون أم لا، قلت: من اقتصر على اللفظ فلا إلحاق عنده كأهل الظاهر، وأما من يعمل بالقياس فمن زعم أن العلة الاستعمال فالإلحاق صحيح، ومن زعم أن العلة رفع الحدث فلا إلحاق عنده، فاعتبر بالخلاف الذي بين أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - في كون الماء مستعملا كما علم في موضعه. م: (من غير فصل) ش: أي حجتنا حديث: «لا يبولن أحدكم» إلخ. فإنه على العموم من غير فصل بين دائم ودائم، وبين ما يتغير لونه وبين ما لا يتغير.
فإن قلت: ما محل هذا من الإعراب.
قلت: النصب على الحال من قوله: لا يبولن، أي حجتنا عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حال كونه من غير فصل كما ذكرنا.

م: (والذي رواه مالك) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء» وهذا جواب عن احتجاج مالك بهذا الحديث فيما ذهب إليه من جواز الطهارة من الماء القليل الذي وقعت ما لم

(1/373)


ورد في بئر بضاعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتغير أحد أوصافه م: (ورد في بئر بضاعة) ش: أي الذي رواه مالك في بئر بضاعة وهو ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري قال: «قيل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتوضأ من بئر بضاعة وهي تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والمنتن، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء» قال الترمذي: حسن، وضعفه ابن القطان للاختلاف في إسناده، فقوم يقولون: عبد الله بن عبيد الله بن رافع بن خديج، وقوم يقولون عبيد الله بن عبد الله بن رافع، وقوم يقولون: عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، ومنهم من يقول عبد الرحمن بن رافع، قال: فتحصل فيه خمسة أقوال، وكيف ما كان فهو لا يعرف له حال ولا عين.
وله إسناد صحيح من رواية سهل بن سعد أخرجه قاسم بن أصبغ في "مصنفه. «قال سهل: قالوا: يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة. وفيها ما ينجي الناس والحائض والجنب فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الماء لا ينجسه شيء» . قال قاسم: هذا أحسن شيء في بئر بضاعة.
وحديث أبي سعيد أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أيضا وجوده أبو أسامة وصححه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، ورواه الطحاوي من حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عبيد الرحمن عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يتوضأ من بئر بضاعة فقيل: يا رسول الله إنه يلقى فيها الجيف والمحائض، فقال: "إن الماء لا ينجسه شيء» .
وروي من طريق آخر عنه قال: «قيل يا رسول الله إنما نستقي لك من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها عذرة النساء ومحائض النساء ولحوم الكلاب، فقال: " إن الماء طهور لا ينجسه شيء» .
وروي من طريق آخر عنه قال: «أتيت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتوضأ من بئر بضاعة فقلت: يا رسول الله أتتوضأ منها وهي يلقى فيها ما يلقى من النتن، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الماء لا ينجسه شيء» .
قوله - أتتوضأ - بتاءين مثناتين من فوق خطاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وبضاعة بضم الباء هو المشهور، وذكر الجوهري الضم والكسر وهو بالضاد المعجمة وحكي أيضا بالمهملة، وقال المنذري: بئر بضاعة دار لبني ساعدة بالمدينة وبئرها معلوم، وبها مال من أموال أهل المدينة. قيل: بضاعة اسم لصاحب البئر وقيل لموضعها، والحيض بكسر الحاء وفتح الياء جمع الحيضة بكسر الحاء وهي الخرق التي تحشو بها المرأة وتمسح بها دم الحيض. والمحائض

(1/374)


وكان ماؤها جاريا في البساتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جمع محيضة وهي مثل الحيض. والنتن الرائحة الكريهة ويقع أيضا على كل مستقبح.
قوله: - «ما ينجي الناس» - بضم الياء بعدها نون ساكنة ثم جيم من أنجى الرجل إذا أحدث.
قوله: - «لا ينجسه شيء» - نجس ينجس من باب علم يعلم نجسا ونجاسة وجاء فيه بضم الجيم في الماضي والمضارع أيضا. م: (وكان ماؤها) ش: أي ماء بئر بضاعة م: (جاريا في البساتين) ش: يسقى منه خمس بساتين، والماء الجاري لا ينجس بوقوع النجاسة فيه عندنا.
فإن قلت: العبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب فكيف اختص بئر بضاعة مع وجود دليل العموم وهو الألف واللام، أجيب بأنه ليس من باب الخصوص في شيء، وإنما هو من باب الحمل للتوفيق فإن الحديثين إذا تعارضا وجهل تاريخهما يعد كأنهما وردا معا ثم بعد ذلك إن أمكن التوفيق بالعمل بينهما يحمل كل منهما على محمل حسن، وإن لم يمكن يطلب الترجيح، وإن لم يمكن يتهاتران، وهاهنا أمكن العمل بأن يحمل هذا الحديث على بئر بضاعة، وحديث المستيقظ وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم» الحديث على غيرها، فعملنا كذلك دفعا للتناقض.
قلت: تحقيق الكلام أن النظر إلى عموم اللفظ دون خصوص السبب إنما يكون إذا لم يرد ما يخصصه من القوة، وقد ورد هنا وهو حديث المستيقظ والأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، والنهي عن البول في الماء الدائم، وما ورد من الأحاديث في تنجيس الماء بوقوع الحيوان فيها، فيكون خصوصه بها لدفع انتقاض فكان هذا من باب الحمل.
وقال تاج الشريعة: سمعت من الشيخ الأستاذ الإمام أن هذا النص خص بالحديثين فجاز أن يخص بالسبب، أو أن العبرة إنما تكون بعموم اللفظ، إذا كانت الألف واللام للجنس، أما إذا كانت للعهد فلا.
وقال الطحاوي: والمستحيل أن يكون سؤالهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بئر بضاعة وجوابه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياهم في ذلك بقوله: «إن الماء لا ينجس» وكانت النجاسة في البئر، ولكنه والله أعلم كان بعد أن أخرجت النجاسة من البئر فسألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك والبئر تطهر بإخراج النجاسة منها فلا ينجس ماؤها الذي يطرأ عليها بعد ذلك، وذلك موضع مشكل لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يستخرج، فقال لهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الماء لا ينجس» يريد بذلك الماء الذي يطرأ بعد إخراج النجاسة منها، لأن الماء لا ينجس إذا خالطته النجاسة، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المؤمن لا ينجس» في حديث «أبي هريرة، قال: لقيت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأنا جنب، فمد يده إلي فقبضت يدي عنه، وقلت: إني جنب، فقال: "سبحان الله إن المؤمن لا ينجس» وهذا الحديث أخرجه الجماعة، وفي رواية الشيخين «إن المؤمن لا ينجس» وليس معناه أن بدنه لا ينجس وإن

(1/375)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أصابته النجاسة وإنما أراد به لا ينجس بمعنى غير ذلك.
وكذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الأرض لا تنجس» في حديث «وفد ثقيف لما قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب لهم قبة في المسجد فقالوا يا رسول الله نحن قوم أنجاس فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء إنما» رواه الحسن البصري مرسلا.
وروي عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن يونس عن الحسن قال: «جاء رهط من ثقيف فأقيمت الصلاة، فقيل: يا رسول الله إن هؤلاء مشركون، قال: "إن الأرض لا ينجسها شيء» وليس معناه أن الأرض لا تنجس وإن أصابتها النجاسة، وكيف يكون ذلك وقد «أمر بالمكان الذي بال فيه الأعرابي من المسجد أن يصب عليه ذنوب من ماء» والحديث صحيح.
وروى طاوس أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر بمكان أن يحض فكان معنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن «الأرض لا تنجس» أنها لا تبقى نجسة في حال عدم كونها النجاسة فيها، فكذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في بئر بضاعة «إن الماء لا ينجس» ليس هو على حال كون النجاسة فيها إنما هو على حال عدم النجاسة فيها، فهذا وجه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في بئر بضاعة «الماء لا ينجسه شيء» .
وقال أبو نصر المعروف بالأقطع: لا يظن بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه كان يتوضأ من بئر هذه صفاته مع نزاهته وإيثار الرائحة الطيبة ونهيه عن الامتخاط في الماء، فدل أن ذلك كان في الجاهلية فشك المسلمون في أمرها فبين أنه لا أثر لذلك مع كثرة النزح، وقال الخطابي: قد توهم بعضهم أن هذا كان لهم عادة وتعمدا وهذا لا يظن بذمي ولا وثني فضلا عن مسلم، فلم تزل عادة الناس قديما وحديثا مسلمهم وكافرهم من تنزيه الماء وصونه عن النجاسة فكيف يظن بأهل ذلك الزمان وهو أعلى طبقات أهل الدين، وأفضل جماعة المسلمين والماء ببلادهم أعز، والحاجة إليه أمس أن يكون هذا صنيعهم بالماء وامتهانهم له.
وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التغوط في موارد الماء ومشارعه» فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه رصدا للأنجاس ومطرحا للأقذار، وإنما كان ذلك من أجل أن هذا البئر موضعها في حدود من الأرض، وكانت السيول تلم هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها فتلقيها فيها، وكان الماء لكثرته، وغزارته لا يتغير من ذلك، فكان من جوابه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الماء الكثير الذي صفته هذه في الكثرة والمقدار لا تؤثر فيها النجاسة، لأن السؤال إنما وقع عن ذلك والجواب إنما يقع عنه.

(1/376)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ما الدليل على كون ماء بئر بضاعة جاريا في البساتين.
قلت: روى الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران عن أبي عبد الله محمد بن شجاع البلخي عن الواقدي أن بئر بضاعة كانت طريقا للماء إلى البساتين.
فإن قلت: كان أهل الحديث يشنعون على الواقدي تشنيعا عظيما، ونقل ابن الجوزي عن ابن عدي أنه كان يضع الحديث في السنة ينسبها إلى أهل الحديث متهما بها.
قلت: من جملة تصانيفه كتاب الرد على المشبهة، فكيف يصح هذا عنه وكان دينا صالحا عابدا.
وفي " التهذيب ": كان فقيه أهل الرأي في وقته، وصاحب التصانيف، فإن كان الواقدي مجروحا لما رواه عنه، وقال البخاري فيه: متروك الحديث، ثم عن الشافعي أنه قال: كتب الواقدي كذب، نقله البيهقي، وقال: الواقدي لا يحتج بروايته فيما يسنده فكيف فيما يرسله. وقد ضعفه يحيى وكذبه أحمد.
قلت: هذا تحامل من البيهقي على الطحاوي في هذا الموضع، والعجب منه أن يشنع هذا التشنيع والحال أنه يخبر عن مشاهدة لأنه من أهل المدينة وهو أدرى بحالها وحال آبارها من غيره، وفيه إسناد وإرسال فيقول ما يقول، وقد طبق الأرض شرقها وغربها ذكره وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم كما ذكره الخطيب في ترجمته، وقال إبراهيم بن جابر الفقيه: سمعت الصاغاني وذكر الواقدي فقال: والله لولا أنه عندي ثقة ما حدثت عنه، وحدث عنه الأربعة أئمة الكبار أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو حثمة ورجل آخر، ويمكن أن يكون هو الشافعي لأنه روى عنه.
وقال مصعب بن الزبير: الواقدي ثقة مأمون، ولولا هو والبلخي ثقتان عند الطحاوي لما روى عنهما في معرض الاستدلال، وتعريض غيره وتضعيفه إياهما لا يلزمه على ما عرف. واسم الواقدي: محمد بن عمرو الأسلمي أبو عبد الله المدني قاضي بغداد وأحد مشايخ الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قلت: قد قيل إن المدينة لم يكن لها ماء جار على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما عين الزرقاء وعيون حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فحدثت بعد ذلك، وبئر بضاعة كان ماؤها نبع غير جار وهي باقية إلى اليوم شرقي المدينة بدار بني ساعدة.

(1/377)


وما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضعفه أبو داود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا يرد بما رواه الطحاوي، على أنه يحتمل أن يكون مراد هذا القائل أن المدينة لم يكن بها ماء جار على وجه الأرض مثل النهر، وبئر بضاعة كان ماؤها جاريا تحت الأرض كالقنوات التي تجري تحت الأرض.
وقال الأكمل: فإن قيل استدل المصنف في أول الباب إلخ. نقله عن صاحب " الدراية " فإنه قال ذلك ثم قال في آخره كذا قول شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو الإمام علاء الدين بن عبد العزيز.
تقرير السؤال أنه قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن الماء لا ينجس» لما بين أنه ورد في بئر بضاعة لا يستقيم العمل بعمومه في أول الباب حيث أثبت صاحب " الهداية " طهارة المياه الكائنة من السماء والأودية والعيون والآبار وماء البحار بهذا الحديث، فإن كانت اللام في قوله الماء للجنس صح الاستدلال وبطل الحمل وإن كان للعهد صح الحمل ويبطل الاستدلال وتقرير الجواب أن اللام للجنس فالاستدلال صحيح والحمل ليس بباطل، لأن الحديث يشتمل على قضيتين إحداهما الماء طهور والثانية لا ينجسه شيء، والاستدلال بالأول صحيح لأنها تفيد المقصود من غير اقتضاء إلى الثانية والحمل بالثانية.
فإن قيل: الضمير في قوله لا ينجسه يرجع إلى ما دخل عليه اللام فكان المراد به الجنس فكيف يصح حمله على المعنيين.
أجيب بأن اللفظ إذا احتمل معنيين وأريد به أحدهما ثم أريد بضميره الآخر جاز ويسمى ذلك استخداما كما في قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
أريد بالسماء المطر وبضميره النبات. ونظيره قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة» . فإن القضية الأولى على العموم حتى حرم البول في الماء القليل والكثير جميعا واختصت الثانية بالقليل فوجب تخصيصه حتى لا يحرم الاغتسال في الماء الدائم الكثير مثل الغدير العظيم ونحوه، فيثبت أن حمل الحديث هنا على الماء الجاري لا يمنع التمسك به في أول الباب لعمومه. م: (وما رواه الشافعي ضعفه أبو داود) ش: أراد به حديث القلتين.
قال الأترازي: أبو داود هذا هو أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب كتاب " معالم السنن " إمام ثقة من أئمة الحديث مقبول الرواية عند كل المذاهب، وتبعه الأكمل في ذلك، قلت هذا كلام غير صحيح لأن أبا داود السجستاني الذي ذكره روى حديث القلتين في "سننه". وسكت عنه فهو صحيح عنده على عادته في ذلك قال صاحب " الهداية " لم يعين اسم أبي داود فيحتمل أن يكون أبا داود الطيالسي أو غيره ممكن يكنى بأبي داود من أئمة الحديث.

(1/378)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ويحتمل أن يكون أبو داود وهو الذي قاله الأترازي ويحتمل أنه ضعف هذا الحديث في غير سننه في موضع آخر فإنه نقل بعضهم أن أبا داود قال لا يكاد يصح لأحد من الفريقين حديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تقدير الماء، ويلزم من هذا تضعيف حديث القلتين ضرورة أنه حديث في الماء، قلت: الاحتمال إذا كان ناشئا عن دليل يفيد وإلا لأدى إلى أن أبا داود قال لا يصح اه.
هو أبو داود السجستاني صاحب السنن ويحتمل أن يكون غيره، وما ذكرنا من الرد على حاله.
وأما تضعيف حديث القلتين فوجهه وإن كان رواه الأربعة والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وصححه الحاكم وابن المنذر، أنه دائر على معطوف عليه في الرواية ومضطرب فيها أو موقوف. قال أبو بكر بن العربي في " شرح الترمذي ": وحسبك أن الشافعي رواه عن الوليد بن كثير وهو أباضي منسوب إلى عبد الله بن أباض من غلاة الروافض.
واختلف في روايته قيل " قلتين أو ثلاثا " رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة أخرجه الدارقطني، وروي: "أربعين قلة" عن القاسم بن عبيد الله عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا بلغ الماء أربعين قلة لم يحمل الخبث» أخرجه الحافظ أبو أحمد بن عبيد الله بن عدي الجرجاني وأبو حفص محمد بن عمرو العقيلي وأبو الحسن علي بن عمرو الدارقطني، وروي " أربعين غربا ". رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ذكر الخلاف ووقفه على أبي هريرة وعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال أبو بكر بن العربي أيضا والمقداد والدارقطني أن يخلص من رواية هذا الحديث بخبر سفه الذقن ما مضى لها وعلى كثرة طرقه لم يخرجه على شرط الصحة، وأكثر طرقه عن محمد بن إسحاق بن يسار، قال أبو زرعة: ليس يمكن أن يقضى له وكذبه مالك وغيره.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخبرني مسلم بن خالد بن الزنجي عن ابن جريج بالإسناد ولا يحضر في ذكره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا» وقال في الأحاديث بقلال هجر، قال أصحاب الحديث ما حضره ولا يحضره أبدا. قال الشيخ تقي الدين في " الإمام ": هذا فيه أمران أحدهما أن الإسناد الذي لم يحضره مجهول الرجال فهو كالمنقطع فلا

(1/379)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تقوم به الحجة.
والثاني قوله: قال في الحديث بقلال هجر يتوهم له أنه من لفظ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والذي وجد في رواية ابن جريج إنما هو من قول غير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت: وفيه علة ثالثة وهو أن شيخه مسلم بن خالد ضعيف ضعفه جماعة منهم البيهقي الذي تنازع فيه مع أئمة الحنفية ولا سيما في هذا الباب، فإن في باب من زعم أن التراويح بالجماعة أفضل، والذي وجد في رواية ابن جريج أنه قول يحيى بن عقيل وبينه البيهقي ويحيى هذا ليس بصاحبي فلا تقوم بقوله حجة.
فإن قلت: أسند البيهقي عن محمد عن يحيى بن عقيل قال قلال فأظن أن كل قلة تأخذ فرقتين، زاد أحمد بن علي في رواية والفرق ستة عشر رطلا، قلت في هذا أربعة أشياء أحدها: أنه مرسل.
والثاني: أن أحد المذكور فيه هذا يحيى على ما قاله أبو أحمد الحافظ يحتاج إلى الكشف عن حاله.
الثالث: أنه ظن من غير جزم.
الرابع: أنه إذا كان الفرق ستة عشر رطلا يكون مجموع القلتين أربعة وستين رطلا، وهذا لا يقول به البيهقي ولا إمامه وقد أكثر العلماء في هذا الباب جدا.
وحاصله أن حديث القلتين مضطرب لفظا ومعنى، أما اللفظ فمن جهة الإسناد والمتن، أما الإسناد فلأنه روي بروايات مختلفة، وأما المتن فما تقدم وضعفه الحافظ أبو عمر بن عبد البر وابن العربي، وأما من جهة المعنى فقيل إن القلة اسم مشترك يطلق على الجرة والقلة، والقلة على رأس الجبل، وعلى قامة الرجل، والاسم المشترك لا يراد به إلا أحد المعاني الذي دل عليه المرجح، فأي دليل ترجح دل على أن المراد من القلة ما أرادوه لا غير من التقدير.
فإن قالوا: الدليل ما روي في الحديث بقلال هجر، فقد أجبنا عنه من قريب.
وقال أبو عمر في " التمهيد " في القلتين: مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت في الأثر، لأن حديث القلتين قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل ولأنه لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع ولو كان حتما لازما لما منعوه ثم إنهم يقولون إذا تغير لونه أو طمعه أو ريحه بالنجاسة تنجس القلتان وليس في حديثهم ذلك، وإنما جاء في مطلق الماء، وقد ترك جماعة من أصحاب الشافعي مذهبه فيه لضعفه كالغزالي والديواني وغيرهما. وقال أبو عمر في " الاستذكار " حديث معلول رواه إسماعيل القاضي وتكلم فيه. وقال الطحاوي إنما لم يقل به لأن مقدار القلتين لم يثبت.

(1/380)


وهو يضعف عن احتمال النجاسة والماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة جاز الوضوء منه إذا لم ير لها أثر؛ لأنها لا تستقر مع جريان الماء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو يضعف عن احتمال النجاسة) ش: هذا تأويل معنى حديث القلتين، فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول معنى قوله لا يحمل الخبث لا يقبل النجاسة ويدفعها، ونحن نقول معناه يضعف عن احتمال النجاسة، فإذا كان كذلك لم يكن التمسك به صحيحا. قلت: معناه يضعف عن مقاومة النجاسة كما يقال فلان لا يحتمل أذى الناس، وفلان لا تحتمل الضرب، وهذه الدلالة لا تحتمل هذا المقدار من الحمل، وهذه الأسطوانة لا تحتمل ثقل السقف، وهذا استعمال عربي فلا يتعين ما ذهب إليه فصار مجملا.
وقال النووي: هذا خطأ فاحش من أوجه أحدها أن الرواية الأخرى مصرحة بغلطه وهو قوله فإنه لا ينجس، الثاني أن الضعف عن الحمل إنما يكون في الأجسام كقولنا فلان لا يحمل الخشبة أي يعجز عن حملها لثقلها، وأما في المعاني فمعناه لا يقبله. الثالث أن سياق الكلام يفسره لأنه لو كان المراد أنه يضعف عن حمله لم يكن للتقييد بالقلتين معنى فإن ما دونها أولى بذلك، وأجيب بأن التأويل المذكور في الرواية التي ذكرها المصنف صحيح على ما مر وتأويلهم في هذه الرواية.
وأما الرواية الأخرى فالجواب عنها أن العمل متعذر للاختلاف الشديد في تفسير القلتين. وقال ابن حزم لا حجة لهم في حديث القلتين لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحدد مقدار القلتين، ولاشك أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لو أراد أن يجعلهما حدا بين ما يقبل النجاسة وبين ما لا يقبلها، لما أجمل أن يحدها لنا بحد ظاهر. وأما الشافعي فليس حده في القلتين أولى من حد غيره فسرهما بغير تفسيره وكل قول لا برهان عليه فهو باطل. والقلتان ما وقع عليه في اللغة اسم قلتين صغرتا أم كبرتا، ولا خلاف أن القلة التي تسع عشرة أرطال ماء تسمى عند العرب قلة وليس هذا الخبر دال على قلال هجر، ولا شك أن لهجر قلالا صغارا [لا] كبارا فإنه قيل أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد ذكر قلال هجر في حديث الإسراء.
قلت: نعم وليس ذلك بموجب أن يكون - عَلَيْهِ السَّلَامُ - متى ذكر قلة فإنما أراد بها من قلال هجر، وليس تفسير ابن جريج القلتين بأولى من تفسير مجاهد الذي قال هما جرتان ويفسر كذلك.
م: (والماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة جاز الوضوء منه إذا لم ير لها أثر) ش: أي لم يعلم لها أثر، وفيه إشارة إلى أنها لو كانت مرئية لا يتوضأ من جانب الوقوع، وإذا لم تكن مرئية جاز له الوضوء من أي موضع شاء من موضع وقوع النجاسة فيه أو من غيره م: (لأنها) ش: أي لأن النجاسة م: (لا تستقر مع جريان الماء) ش: أي لا تستقر في موضع وقوعها مع جريان الماء بل تتحول

(1/381)


والأثر هو الطعم أو الرائحة أو اللون، والجاري: ما لا يتكرر استعماله وقيل: ما يذهب بتبنة.
قال: والغدير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه م: (والأثر) ش: أي أثر النجاسة م: (هو الطعم أو الرائحة أو اللون) ش: ذكره بكلمة أو التي للتنوع على أن واحدا منها يكفي عند وجودها م: (والجاري) ش: أي حد الماء الجاري م: (ما لا يتكرر استعماله) ش: وذلك أن الرجل إذا غسل يده وسال الماء منها إلى النهر فإذا أخذه ثانيا لا يكون فيه شيء من الماء الأول. م: (وقيل ما يذهب بتبنة) ش: أو ورق، وقيل إن يضع إنسان يده في الماء عرضا لم تقطع جريانه.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان لا ينحسر وجه الأرض بالاغتراف بكفيه. وقيل ما يعده الناس جاريا وهو الأصح، ذكره في " البدائع " و " التحفة " وغيرهما.
وفي " الذخيرة " و " البدائع " و " المرغيناني " لو بال إنسان في الماء الجاري فتوضأ به إنسان من أسفل منه جاز.
وفي " البدائع " و " شرح الطحاوي " جيفة فأرة في الفرات وتوضأ إنسان أسفل منه إن وجد طعمها أو لونها أو ريحها ينجس الماء وإلا فلا. وفي المرئية كالجيفة إن كان الماء يجري على كلها أو نصفها لا يجوز الوضوء به أسفل منها، والقياس في النصف الجواز وعلى هذا التفصيل الميزاب، وإن لم تكن النجاسة على الميزاب يعتبر تغير لونه أو ريحه أو طعمه، ولو كان الماء يجري في جوف الجيفة وأكثرها لا يلاقيها فهو طهور.
وقال أبو نصر: هذا أشبه بقول أصحابنا كلب ميتة سد عرض الساقية والماء يجري من تحته وفوقه فلا بأس بالوضوء به إن لم يتغير عند أبي يوسف خلافا لهما، وعن أبي حنيفة إن كان الماء فوق الكلب مقدار ذراع جاز، وفي " الذخيرة " إذا تغير لا يحكم بطهارته ما لم يزل تغيره بورود ماء طاهر عليه حتى يزيل تغيره.
فرع: مسافر معه ميزاب واسع وأرواه ما يحتاج إليه ما يصنع فعند أبي الحسن السندي يأمر رفيقه بصب الماء من طرف الميزاب ويتوضأ من الميزاب، وعند الطرف الآخر منه إناء يجتمع فيه الماء فإن الماء المجتمع منه يكون طهورا والجاري لا يكون مستعملا عند جريانه، ومنهم من أنكر هذا لعدم المادة له، والصحيح الأول، وفي " الكبرى " ماء الثلج جرى على طريق فيه نجاسة إن لم ير أثرها فيه يتوضأ منه لأنه جار.

م: (والغدير) ش: على وزن فعيل بمعنى مفعول من غادره إذا تركه، وهو الذي تركه ماء السيل، وقيل بمعنى فاعل لأنه يغدر بأهله لانقطاعه عند شدة الحاجة إليه. وقال الأترازي الغدير القطعة من الماء يغادرها السيل، وهو فعيل بمعنى فاعل من غادره أو بمعنى مفعل من أغدره.

(1/382)


العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر، لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إليه، إذ أثر التحريك في السراية فوق أثر النجاسة. ثم عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر التحريك بالاغتسال، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه: التحريك باليد، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالتوضؤ. ووجه الأول: أن الحاجة إلى الاغتسال في الحياض أشد منها إلى التوضؤ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: فيه نظر، لأن غديرا فعيلا من غدر لا من غادر حتى يقول بمعنى مفاعل، ولا هو من أغدر حتى يقول بمعنى مفعل مع أن الثاني منه متعد.
م: (العظيم) ش: صفة الغدير وكذا قوله م: (الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر) ش: لا بالموج م: (إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر) ش: إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه فحينئذ لا يجوز كذا في " فتاوى الولوالجي ".
فإن قلت: كيف إعراب هذا؟
قلت: الغدير مبتدأ وخبره الجملة وهو قوله إذا وقعت فيه نجاسة اه.
وفيها الضمير أعني في جانبه يرجع إلى المبتدأ، وقد علم أن الجملة تقع خبرا سواء كانت اسمية أو فعلية أو شرطية أو ظرفية م: (لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إليه) ش: أي إلى الجانب الآخر م: (إذ أثر التحريك) ش: كلمة إذ للتعليل معناه لأن أثر تحريك الطرف من الغدير م: (بالسراية) ش: إلى الطرف الآخر م: (فوق أثر النجاسة) ش: لأن ذلك أسرع والنجاسة الواقعة في أحد الطرفين لا تصل إلى الآخر.
م: (ثم عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر التحريك بالاغتسال) ش: يعني إذا اغتسل في طرف منه لا يتحرك الطرف الآخر فإن تحرك لا يجوز الوضوء منه ولا الاغتسال عند وقوع النجاسة. واعلم أنهم اختلفوا في هذا على اثني عشر قولا الأول: هو ما ذكره عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإليه أشار بقوله:
م: (وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: صورة هذا أن يغتسل إنسان في جانب منه اغتسالا وسطا فلم يتحرك الجانب الآخر والثاني هو قوله م: (وعنه) ش: أي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر م: (التحريك باليد) ش: لا غير وهو أيضا نقله أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والثالث: هو قوله م: (وعن محمد بالتوضؤ) ش: أي روي عن محمد أنه يعتبر التحريك بالتوضؤ منه م: (ووجه الأول) ش: أي القول الأول وهو التحريك بالاغتسال م: (أن الحاجة إلى الاغتسال في الحياض أشد منها إلى التوضؤ) ش: لأن الوضوء يكون في البيوت عادة ولأن هذا

(1/383)


وبعضهم قدروه بالمساحة عشرا في عشر بذراع الكرباس توسعة للأمر على الناس وعليه الفتوى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحوط ووجه الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو التحريك باليد لأنه أخف فكان الاعتبار به أولى توسعة على الناس.
والرابع: هو قوله م: (وبعضهم قدروه بالمساحة) ش: أي بعض العلماء وهو أبو سليمان الجرجاني وبه أخذ مشايخ بلخ، وإليه ذهب عبد الله بن المبارك، وبه قال أبو الليث وهو قول أكثر أصحابنا م: (عشرا في عشر) ش: عشرا حال من قوله - بالمساحة - وقوله - في عشر - محلها النصب على الحال أيضا والتقدير بعض العلماء قدروا الماء الذي تقع فيه النجاسة حتى يجوز الوضوء منه بالذراع حال كونه عشرا كائنا في عشر، فيكون مائة والمائة منتهى العشرات والعشر منتهى الآحاد، والألف منتهى المئين، والمائة وسط، وخير الأمور أوسطها فلذلك اختاره أكثر العلماء.
ولو كان الحوض مدورا قال في " الفتاوى الظهيرية " أنه يعتبر فيه ثمانية وأربعون ذراعا ودونها ينجس، وقيل ستة وثلاثون وهو الصحيح، وهو مبرهن عند الحساب وفي حيز مطلوب قدره بعضهم ثمانية وأربعين ذراعا. وقيل يعتبر أربعة وأربعون. وقيل أربعة وثلاثون لأن العمود عشرة أذرع فإذا ضربتها في ثلاثة وثلث فالخارج ثلاث وثلاثون وثلث فكملوا الثلث تسهيلا واحتياطا واحترازا عن الكسر، وكأن من قدره بأكثر من ذلك اعتبر الزوايا.
م: (بذراع الكرباس) ش: الباء تتعلق بقوله قدروا، ثم اختلفت ألفاظ الكتب في تعيين الذراع فجعل الصحيح في " فتاوى قاضيخان " ذراع المساحة وهو سبع مشتان فوق كل مشتية إصبع قائمة وهو ذراع الملك، واختارها في حيز مطلوب والمصنف اختار للفتوى ذراع الكرباس وهي سبع مشتيات ليس فوق كل مشتية إصبع قائمة. وقيل أربع وعشرون إصبعا بعدد حروف لا إله إلا الله محمد رسول الله م: (توسعة للأمر) ش: نصب على التعليل أي لأجل التوسعة م: (على الناس وعليه الفتوى) ش: أي على هذا القول. وفي " المحيط " أنه يعتبر في كل مكان وزمان ذراعاتهم من غير تعرض للمساحة والكرباس.
والخامس: من الأقوال الاثني عشر يعتبر فيه أكثر الرأي والتحري، فإن غلب على الظن وصول النجاسة إلى الجانب الآخر فهو نجس، وإن غلب عدم وصولها فهو طاهر، فهذا هو الأصح، وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وقال السروجي: والمذهب الظاهر التحري والتفويض إلى رأي المبتلى به من غير تحقيق بالتقدير أصلا عند الإمام وبه أخذ الكرخي.
السادس: يلقي فيه قدر النجاسة صبغ فإن لم يظهر أثره في الجانب الآخر لا ينجس، حكي عن أبي حفص الكبير في " المبسوط " و" البدائع ".
السابع: يعتبر بالتكدر روي عن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام ذكره في " البدائع "

(1/384)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
و" المفيد ".
الثامن: إذا كانت ثمانيا في ثمان قاله محمد بن سلمة.
التاسع: قدر بعضهم اثني عشر في اثني عشر أخذ من مسجد محمد بن الحسن من خارجه؛ لأنه لما سئل عن ذلك قال: مثل مسجدي هذا، فمسحوه من داخله فكان ثمانيا في ثمان ومن خارجه كان اثني عشر في اثني عشر.
العاشر: خمسة عشر في خمسة عشر قاله عبد الله بن المبارك ثانيا وبه أخذ أبو المطيع البلخي، وقال: أرجو أن يجوز.
الحادي عشر: عشرين في عشر، قال أبو مطيع حينئذ لا أجد في قلبي شيئا.
والثاني عشر: عن محمد بن الحسن لو انغمس رجل في جانب لا يتحرك الجانب من ساعته، وهذا قريب من معنى ما تقدم.
فإن قلت: نصب المقدرات بالرأي لا يجوز وكيف اخترتم في حد الماء الكثير بالعشر في العشر وما استنادكم وهذا كل أحد من الأئمة الثلاثة استند في هذا الباب على الأثر.
أما مالك فإنه اعتمد على حديث أبي سعيد الخدري وقال: إن الماء لا ينجس بشيء إلا إذا تغير أحد أوصافه وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد وعبد الله بن وهب وإسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير والحسن بن صالح وبه قال أحمد في رواية.
وأما الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه اعتبر القلتين بالحديث الوارد فيهما وبه قال أحمد في المشهور عنه.
وقالت الظاهرية: الماء لا ينجس أصلا سواء كان جاريا أو راكدا وسواء كان قليلا أو كثيرا تغير طعمه أو لونه أو ريحه أو لم يتغير لظاهر حديث أبي سعيد الخدري. وقال ابن حزم في " المحلى ": وممن روي عنه القول مثل قولنا: إن الماء لا ينجسه شيء: عائشة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس والحسن بن علي بن أبي طالب وميمونة أم المؤمنين وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والأسود بن يزيد وعبد الرحمن أخوه وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومجاهد وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق والحسن البصري وعكرمة وجابر بن زيد وعثمان البتي وغيرهم.
قلت: حديث بئر بضاعة يصلح أن يكون استنادا في التقدير بالعشر بيان ذلك أن محمدا لما سئل عن ذلك قال: إن كان قدر مسجدي فهو كثير فلما قاسوه وجدوه ثمانيا في ثمان من داخله

(1/385)


والمعتبر في العمق أن يكون بحال لا ينحسر بالاغتراف هو الصحيح، وقوله في الكتاب: جاز الوضوء من الجانب الآخر، إشارة إلى أنه ينجس موضع الوقوع، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا ينجس إلا بظهور النجاسة فيه كالماء الجاري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعشرا في عشر من خارجه وقيل: اثني عشر في اثني عشر، وكان وسع بئر بضاعة ثمانيا في ثمان، والدليل عليه ما قله أبو داود: وقدرت بئر بضاعة بردائي مددتها عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي الباب وأدخلني إليه هل غيرتموها عما كانت عليه؟ فقال: لا، ورأيت الماء فيها متغير اللون، انتهى.
فإذا كان عرضها ستة أذرع يكون طولها أكثر منها؛ لأن الغالب أن يكون الطول أمد من العرض، ولو كانت البئر مدورة يقال: فإذا دورها ستة أذرع فإن أضيف ما في الطول من الزيادة إلى العرض يكون مقداره الثمانية أو أكثر؛ لأن منشأ ذلك على التقدير لا على التحرير، فأخذ محمد من هذا ولكن ما اعتبر إلا خارج مسجده الأصلي للاحتياط في باب العبادات.

م: (والمعتبر في العمق) ش: بفتح العين المهملة وضمها وسكون الميم م: (أن يكون الماء بحال لا ينحسر) ش: أي لا ينكشف.
م: (بالاغتراف) ش: باليد؛ لأنه إذا انحسر ينقطع الماء بعضه عن بعض ويصير الماء في مكانين فتخلص إليه النجاسة، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر الهندواني م: (هو الصحيح) ش: أي الذي ذكره بقوله: والمعتبر في العمق اهـ.
واحترز به عن أقوال أخرى قال الكاساني: الصحيح أنه إذا أخذ الماء وجه الأرض يكفي، وقيل: مقدار ذراع بذراع الكرباس أو أكثر، وقيل: مقدار شبر، وقيل: زيادة على عرض الدرهم الكبير المثقال، ولا تقدير فيه في ظاهر الرواية.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري م: (في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري " م: (جاز الوضوء من الجانب الآخر إشارة إلى أنه ينجس موضع الوقوع) ش: أي موضع وقوع النجاسة ولم يفرق بين كونها مرئية وغير مرئية، وهو المحكي عن مشايخ العراق. ومشايخ بخارى وبلخ فرقوا بينهما وقالوا في غير المرئية: يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة بخلاف المرئية.
م: (وعن أبي يوسف أنه) ش: أي موضع الوقوع م: (لا ينجس إلا بظهور النجاسة فيه) ش: أي في موضع الوقوع م: (كالماء الجاري) ش: يعني حكمه حكم الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة يجوز الوضوء منه ما لم يظهر أثرها فيه؛ لأنها لا تستقر مع جريان الماء، وقيل: على هذا إذا غسل وجهه من حوض كبير فسقط غسالة وجهه في الماء فرفع الماء من موضع الوقوع قبل التحريك لا يجوز عند العراقيين، وجوزه مشايخ بخارى وبلخ توسعة على الناس لعموم البلوى به.

(1/386)


قال: وموت ما ليس له نفس سائلة في الماء لا ينجسه كالبق والذباب والزنابير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: ماء الحمام كالماء الجاري لا ينجس بإدخال اليد النجسة للضرورة، ولو انصب ماء الحوض النجس وجفت أرضه حتى طهرت ثم دخله الماء ففي كونه نجسا روايتان عن الإمام والأصح تنجيسه. وكذا المني لو أصابه ماء بعد فركه، وجلد الميتة بعد تتريبه وتشميسه، والبئر إذا عاد ماؤها بعد ما تنجسه ثم عاد الماء. قال نصر بن يحيى: يحكم بطهارتها وهذا أرفق بالناس. وقال محمد بن سلمة: ينجس وهو أوثق. وروى هشام عن محمد كقول محمد بن سلمة.
وفي " الفتاوى الظهيرية " الماء إذا كان له طول ولا عرض له إن كان بحال لو جمع يصير عشرا في عشر وصار عمقه بقدر شبر جاز الوضوء فيه عند الميداني، وبه أخذ الزندروسي، وقال بكر ابن طرجاز: لا يجوز، وفي التجنيس ما له طول وعمق ولا عرض له ولو قدر يصير عشرا في عشر فلا بأس بالوضوء منه تيسيرا على المسلمين.
خندق طوله أربعون ذراعا وعرضه ذراع قال أبو سليمان: يجوز الوضوء منه، قيل: لو وقعت فيه نجاسة؟ قال: ينجس من كل جانب عشرة أذرع، وفي " المجتبى " حوض كبير تنجس فدخل فيه ماء طاهر حتى كثر فهو نجس، وقيل: يطهر إذا خرج مثله وإن قل، وفي " المحيط " وهو الأصح، وقيل: إذا خرج مثله، وقيل: ثلاثة أمثاله، وقيل: يطهر. وقال الوصاني: وبه يفتى. ولو تنجس حوض الماء فدخل فيه ماء حتى خرج مثله يطهر، وقيل: ثلاثة أمثاله، ولو خاض في ماء الحمام يجب غسل قدميه، وقيل: لا يجب، والأصح أنه إن علم أن في الحمام خبثا يجب، وإلا فلا والأول أحوط كذا في " المجتبى ".

[حكم موت ما ليس له نفس سائلة في الماء]
م: (قال: وموت ما ليس له نفس سائلة في الماء لا ينجسه) ش: المراد من النفس الدم وفي " المستصفى " النفس بسكون الفاء الدم وتأنيثه باعتبار لفظ النفس، قال الله تعالى {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] (النساء: الآية 1) والمراد به آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ويقال: النفس إما دم أو الدم محل النفس على حسب اختلاف الحكماء، فكان إطلاقا لاسم الحال على المحل. م: (كالبق) ش: جمع بقية وهي البعوضة. قال الجوهري: وأهل المصر يقولونه لدويبة تنشأ في الحصر والأخشاب وغير ذلك له ريحة كريهة م: (والذباب) ش: جمع ذبابة ولا يقال ذبانة، وجمع القلة أذببة، والكثير ذباب مثل غراب وأغربة وغربان، م: (والزنابير) ش: جمع زنبور بضم الزاي، قالت الشراح: إنما جمع الزنابير دون غيرها؛ لأنها أنواع شتى، قلت: الكل مذكور بلفظ الجمع كما ذكرنا ولا معنى لتخصيص الزنابير بذلك.
فإن كانت القلة في ذكر المصنف الزنابير بذكر الجمع هي كونها على أنواع شتى فكذلك البواقي هي البعوض على أنواع شتى وهي التي يقول لها أهل المصر الناموس، وكذلك الذباب

(1/387)


والعقارب ونحوها، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفسده؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على أنواع شتى.
م: (والعقارب) ش: جمع عقرب والأنثى عقربة وعقرب مصروف وغير مصروف، والذكر عقربان بالضم وهو دابة له أرجل طوال وليس ذنبه كذنب العقارب، وهذا كما رأيت جمع عقرب ذكره المصنف بلفظ الجمع، فكيف قالت الشراح: إنما جمع الزنابير دون غيرها؟
فإن قلت: البق والبقة والذباب والذبابة مثل التمر والتمرة بخلاف الزنابير فلذلك قالت الشراح: إنما جمع الزنابير دون غيرها.
قلت: يرد عليك ذكره العقارب فافهم فإنه لا يخفى.
م: (ونحوها) ش: مثل القراد والجراد والخنفساء والنحل والنمل والصراصير والجعلان وبنات وردان وحمار قبان والبرغوث والقمل، والخنفساء بضم الفاء وفتحها، والجعلان بضم الجيم جمع جعيل، وهي دويبة تكون في الزبل، وحمال قبان علم على فعلان لدويبة يمنع ويصرف بتقدير زيادة الألف والنون، وأحمالها من قب أو قب في الأرض، وهذه الأشياء طاهرة عندنا فلا تنجس بالموت.
وقال ابن المنذر في كتاب " الإجماع ": قال في " الأشراف ": ولا أعلم فيه خلافا إلا أحد قولي الشافعي، قال النووي وجماعة بعد الشافعي: أتى خرق الإجماع في قوله بالتنجيس، قال: ونقل عن محمد بن المنكدر ينجسه بموت العقرب فيه.
م: (وقال الشافعي: يفسده) ش: أي موت هذه الأشياء المذكورة ينجس الماء إذا ماتت فيه، وهذا أحد قوليه، والقول الآخر كمذهبنا وهو الذي صححه جمهور أصحابه. وشذ المحاملي في " المقنع " والروياني في " البحر " فرجح النجاسة، وقال النووي: وهذا ليس بشيء والصواب الطهارة، وهو قول جمهور العلماء، ونقل الخطابي وغيره عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: ينجس الماء بموت العقرب فيه، ونقل ذلك عن محمد بن المنكدر وهما إمامان من التابعين فلا يخرق الشافعي الإجماع.
قلت: سلمنا في العقرب وما يقال في غيره، وقال النووي: القولان عن الشافعي إنما هو في نجاسة الماء بموت هذا الحيوان، أما الحيوان نفسه ففيه طريقان:
أحدهما: أن في نجاسته القولين إن قلنا: نجس نجس الماء وإلا فلا وهذا القول اختاره البقالي.
والثاني: القطع بنجاسة الحيوان، وبهذا قطع العراقيون وغيرهم، وهو الصحيح لأنه من جملة الميتات. قال: وذكر صاحب " التقريب " قولا ثالثا في المسألة الأولى وهو أن ما يعم لا ينجسه كالذباب والبعوض ونحوهما، وما لا يعم كالخنافس والعقارب ينجسه لتعذر الاحتراز

(1/388)


لأن التحريم لا بطريق الكرامة آية النجاسة، بخلاف دود الخل، وسوس الثمار؛ لأن فيه ضرورة. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه: «هذا هو الحلال أكله وشربه والوضوء منه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعدمه، قال: وهذا القول غريب.
م: (لأن التحريم لا بطريق الكرامة آية النجاسة) ش: أي علامة النجاسة، واحترز بقوله: لا بطريق الكرامة عن الآدمي فإنه حرام لكرامته، وقال أبو زيد: حرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء دليل نجاسته كالكلب والخنزير م: (بخلاف دود الخل وسوس الثمار) ش: هذا من كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهذا كأنه جواب لمن يقول ما تقول في دود الخل وسوس الثمار، فقال: كلامنا في موت حيوان أجنبي عنه، أما الدود المتولد في الخل ونحوه والتين والتفاح ونحوهما لا ينجس ما مات فيه م: (لأن فيه ضرورة) ش: لأنه تولد منه، والضرورة تمنع الحكم بتنجيسه وحكاية الدارمي عن بعض أصحاب الشافعي أن ما مات فيه ينجس غلط ولا خلاف عندهم في ذلك، ولكن هذا الحيوان ينجس بالموت على المذهب عندهم ولا ينجس على قولهم.
وقال إمام الحرمين: وإن جمع منه شيئا وتعمد أكله فوجهان؛ لأنه كجزء منه طبعا وطعما ومع الطعام لا يحرمه أكله على الصحيح. م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه) ش: أي في الماء الذي مات فيه ما ليس له نفس سائلة، وهو الذي فسر به أوجه وأحسن من قول الأكمل أي في مثل هذه الحادثة، ونقل الأكمل ذلك عن شيخه صاحب " الدراية " وعن الأترازي في " النهاية ".
م: (هذا هو الحلال أكله وشربه والوضوء منه) ش: هذا الحديث رواه سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضوءه» رواه الدارقطني في "سننه " حدثني سعيد بن أبي سعيد الزبيدي عن بشر بن منصور عن علي بن زيد بن أحمد عن سعيد بن المسيب عن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال الدارقطني: لم يروه غير سعيد بن أبي سعيد الزبيدي وهو ضعيف، ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بسعيد هذا، وقال: هو شيخ مجهول، وحديثه غير محفوظ، والعجب من شراح " الهداية " يذكرون هذا الحديث ولا يبينون حاله غير أن الأترازي قال: وقد روى أبو بكر الجصاص الرازي في شرحه لمختصر الطحاوي بإسناده إلى سعيد بن المسيب عن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الحديث، ولم يذكر رجال الإسناد حتى ينظر فيه هل هم المذكورون في إسناد الدارقطني وابن عدي أم غيرهم، وذكر الأكمل نحوه. وأما صاحب "الدراية " والسغناقي فاكتفيا بمجرد الذكر، وأما السروجي فإنه نسبه إلى الدارقطني ومضى.

(1/389)


ولأن المنجس هو اختلاط الدم المسفوح بأجزائه عند الموت حتى حل المذكي لانعدام الدم فيه ولا دم فيها، والحرمة ليست من ضرورتها النجاسة كالطين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الحديث المذكور وإن ضعفوه فإن حديث ميمونة زوجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنها كانت تمر بالغدير وفيه الجعلان فتسقي لها وتشرب منه وتتوضأ» . رواه أبو عبيد في كتاب الطهور. م: (ولأن المنجس هو اختلاط الدم المسفوح بأجزائه عند الموت) ش: قيد به لأنه قيدهم المذكورون في إسناد الدارقطني، وإن كان حيا لا ينجس، ولهذا قلنا: إن المصلي إذا استصحب فأرة أو عصفورة حية لم تفسد صلاته ولو كانت نجسة لفسدت، ولو ماتت حتف أنفها واستصحبها ما فسدت، وهذا لأن الدم الذي في الحي في معدته وبالموت ينصب عن مجاريها فيتنجس اللحم بتشربه إياه ولهذا لو قطعت العروق بعده لم يسل منه الدم.
م: (حتى حل المذكي) ش: أي المذبوح من ذكى يذكي تذكية، م: (لانعدام الدم فيه) ش: أي في المذكي بعد التذكية وإلا فقبلها الدم فيه، ولو قال لزوال الدم منه لكان أولى، واستعمال ما انعدم بالتذكية خطأ، م: (ولا دم فيها) ش: أي للحيوانات المذكورة إذ البعوض كذلك فلا ينجس، فإنا قد نعلم أن النجس هو اختلاط الدم المسفوح فإن ذبيحة المجوسي ليس فيها دم مسفوح وهي نجسة، وذبيحة المسلم إذا لم يسل منها الدم بعارض بأن أكلت ورق الغاب حلال مع أن الدم لم يسل.
فالجواب أن القياس في ذبيحة المجوسي الطهارة كذبيحة المسلم، إلا أن صاحب الشرع أخرجه عن أهلية الذبح لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» غير إنكاح نسائهم وأكل ذبائحهم جعل ذبحه كلا ذبح، وكما جعل لذلك جعلوا ذبيحة المسلم إذا لم يسل منها الدم كذبيحته إذا سال إقامة لأهلية الذابح، واستعمال آلة الذبح مقام الإسالة لإتيانه ما هو المأمور به الداخل تحت قدرته ولا معتبر بالعوارض؛ لأنها لا تدخل تحت القواعد الأصلية.
م: (والحرمة ليست من ضرورتها النجاسة) ش: هذا جواب عن قول الشافعي: لأن التحريم لا بطريق الكرامة آية النجاسة أراد أن الحرام لا يستلزم النجاسة م: (كالطين) ش: فإنه أكله حرام لا لكرامته مع أنه ليس بنجس، وفي " جامع الكردري " وخص من الآية السمك والجراد باعتبار عدم الدم، والمتنازع فيه بمعناهما فلحق بهما، وكل لحوم السباع إذا ذبحت طاهرة ولا تؤكل. وفي " الحاوي " جازت الصلاة مع لحم البازي المذبوح، وكذا كل شيء لم يؤمر بإعادة الصلاة من سؤره مثل الحية والعقرب والفأرة وجميع الطيور وتجوز الصلاة من لحمها إن كانت مذبوحة، وقال نصر: إذا ذبح شيء من السباع فجلده طاهر ولحمه نجس بخلاف الطيور والحية والفأرة. وفي " الذخيرة " والحية طاهرة في حال الحياة ولحمه طاهر في الأصح، وكذا لو صلى معه سنور وفأرة تجوز الصلاة معه، ولو كان معه ثعلب أو جرو لم يجز.

(1/390)


قال: وموت ما يعيش في الماء فيه لا يفسده كالسمك والضفدع والسرطان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: والأصل في حق هذه المسائل أن كل ما يجوز الوضوء بسؤره تجوز الصلاة معه، وما لا فلا.
وأما حرمة أكل ما ليس له دم غير مسفوح غير السمك والجراد وإن كان طاهرا على ما مر فلأن ذلك من الحشرات والخبائث، فإن البقة والزنبور، والخنفساء وأضرابها تستخبثها النفس وتعافيها [والحية] وأضرابها يستخفها الشرع ويتاقها قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] (الأعراف: الآية 157) ولا يلزم من ذلك النجاسة، فإن الكافر عندهم لا ينجس بالموت على الصحيح، ولا يؤكل قولا واحدا. وموت الحية البرية في الماء وغيره ينجس ما مات فيه قاله في " الحاوي "، وكذا موت الوزغة والسحلية ودمهما نجس ذكره في " المفيد " ولهذا ينجس بالموت.
وفي " الذخيرة " وغيرها خرء الحية وبولها نجس نجاسة غليظة وجلدها إذا كان أكبر من قدر الدرهم يمنع جواز الصلاة معه؛ لأنه نجس ولو كانت مذبوحة ولا تقبل الدباغ، وللشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وجهان في الحية والأصح ينجس ما مات فيه، والوزغة على العكس عندهم، ولو حمل حية فصلى معها جازت صلاته، قال في " الذخيرة ": وهي طاهر في حالة الحياة وقميصه طاهر في الأصح وقد ذكرناه الآن.

[حكم موت ما يعيش في الماء فيه]
م: (وموت ما يعيش في الماء) ش: يعني ما يكون مولده وفي بعض النسخ ومثواه م: (فيه) ش: أي في الماء، والجار والمجرور متعلق بقوله: وموت والجار في قوله في الماء يتعلق بقوله: يعيش، وفي بعض النسخ لم يذكر كلمة فيه وأثبتها شمس الأئمة الكردري لتكون المسألة مجمعا عليها؛ لأنه إذا مات في غير الماء قيل: يفسده، وقيل: لا يفسده، قوله: وموت ما يعيش مبتدأ وخبره هو قوله: م: (لا يفسده) ش: أي لا يفسد الماء.
فإن قلت: قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المسألة الأولى في غير معدنه فيتوهم التنجيس فتناسب نفيه، وفي الثانية: في معدنه فلا يتوهم تنجيسه بواسطة الضرورة، لكن احتمل تغير صفة الماء فنفاه بقوله: لا يفسده م: (كالسمك والضفدع) ش: بكسر الضاد والدال مثل الخنصر واحد الضفادع، والأنثى ضفدعة، ومنهم من يقول: بفتح الدال. وقال الخليل: ليس في الكلام فعلل إلا أربعة درهم وهجرع وهيلع وقلعم. وقال أبو الحسن: الهاء زائدة منهما، قلت: الهجرع الطويل والهيلع الألوك. والهاء زائدة في قلعم م: (والسرطان) ش: ونحو ذلك كالعلق وحية الماء.
فإن قلت: هل في تقديم السمك على أخواته فائدة؟
قلت: نعم لأنه مجمع عليه، وهذا إذا مات حتف أنفه فأما إذا قتل جرحا فعند أبي يوسف -

(1/391)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسده إلا السمك لما مر، ولنا أنه مات في معدنه فلا يعطى له حكم النجاسة كبيضة حال محها دما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسده الماء على ما روى المعلى عنه، وفي " المجتبى " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن ماتت حية عظيمة مائية في الماء تفسد، وفي " الحاوي " مات الضفدع في العصير، قال نصر: لا يفسد.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسده) ش: أي يفسد الماء م: (إلا السمك) ش: قال الأترازي: كان ينبغي أن يقول: إلا السمك والجراد لأن حكمهما واحد عندنا، كذا في " وجيزهم "، قلت: مراد المصنف نصب الخلاف ولا يلزم استيفاء الخلاف كله.
وقال النووي: ما يعيش في الماء إن كان مأكولا فميتته طاهر لا شك أنه لا ينجس الماء، وما لا يؤكل كالضفدع وغيره: إذا قلنا: لا يؤكل، فإذا مات في الماء القليل أو مائع قليل أو كثير نجسه، صرح به أصحابنا في طرقهم، وقالوا: لا خلاف فيه إلا لصاحب " الحاوي " فإنه قال في نجاسته قولان، وذكر الروياني في الضفدع وجهان أحدهما: لا نفس له سائلة، فيكون في نجاسة الماء منه قولان، والثاني: لها نفس سائلة فتنجسه قطعا، وهذا الثاني هو المشهور في كتب الأصحاب م: (لما مر) ش: يعني من قوله: لأن التحريم لا بطريق الكرامة آية النجاسة. وقال الأكمل: قيل في التعليل إشكال وهو أن الضفدع والسرطان يجوز أكلهما عند الشافعي على ما روي عنه في كتاب الذبائح على ما سيأتي.
والجواب: أن المذكور في كتاب الذبائح عن الشافعي أنه أطلق ذلك كله، فيجوز أن تكون هذه رواية أخرى فيكون الإلزام عليها، قلت: الإشكال للأترازي والجواب للأكمل فلا يرد الإشكال، ولا يحتاج إلى الجواب؛ لأن نسبة جواز أكل السرطان إلى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما ذكر في كتاب الذبائح هكذا لا يسلمها أصحابه، فإنهم ذكروا أن هذين مما لا يؤكل كما بينهما عن بعضه عن قريب فلا يرد الإشكال أصلا، ولا يحسن الجواب عنه بقوله: فيجوز أن تكون هذه رواية أخرى وهذا من باب التخمين.
م: (ولنا أنه) ش: أي ما يعيش في الماء، م: (مات في معدنه) ش: يعني في مثواه ومقره م: (فلا يعطى له حكم النجاسة) ش: لأنه لو أعطي حكم النجاسة لما في موضعها ومعدنها لما طهر إنسان أبدا لأن في بطنه وعروقه نجاسة، ثم مثل لذلك لقوله: م: (كبيضة حال) ش: أي انقلب م: (محها) شك بضم الميم وتشديد الحاء المهملة أي صفرتها م: (دما) ش: حتى لو صلى وفي كمه تلك البيضة يجوز الصلاة معها؛ لأن النجاسة في معدنها، بخلاف ما لو صلى وفي كمه قارورة فيها دم لا تجوز صلاته، لأن النجاسة ليست في معدنها.

(1/392)


ولأنه لا دم فيها، إذ الدموي لا يسكن الماء، والدم هو المنجس، وفي غير الماء قيل: غير السمك يفسده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الجامع الأصغر " لا يجوز الصلاة مع البيضة المذرة عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -، وعلى قياس قول أبي حنيفة والحسن - رحمهما الله - يجوز، واختاره أبو عبيد الله البلخي. ولا يجوز مع البيضة التي فيها فرخ ميت قد علم بموته أو بضعفه. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان رأس القارورة قدر الدرهم فما دونه يجوز.
وعند الشافعية: البيضة إذا استحالت دما فهي نجسة في أصح الوجهين، ولو صارت مذرة التي اختلط بياضها بصفرتها فظاهرة بلا خلاف. وقال الأكمل: قيل هذا التعليل يقتضي أن لا يعطى للطيور والوحوش حكم النجاسة إذا ماتت في البئر، لأنه معدنها، قلت: قال بهذا صاحب " الدراية ".
وقوله: والذي يظهر إلخ من كلام الأكمل كأنه جواب عما قيل وهو أن المعدن عبارة عما يكون محيطا، يفهم هذا من تمثيلهم بالدم في العروق والمح في البيضة وليس الأمر كذلك.
م: (ولأنه) ش: دليل ثان أي ولأن ما يعيش في الماء من كل واحد من السمك والضفدع م: (لا دم فيها) ش: أعني في هذه الثلاثة أعني السمك والضفدع والسرطان م: (إذ الدموي لا يسكن الماء) ش: لمنافاة بين طبع الدم والماء بالحرارة والبرودة، والدم إذا شمس يسود، وما يسيل من هذه الحيوانات إذا شمس ابيض. واعلم أن كلمة إذ للتعليل، والدموي بتشديد الياء نسبة إلى الدم؛ لأن أصل دم دمويا بالتحريك، والأصل فيه أن يقال: دمي ولكن جاء دموي أيضا.
م: (والدم هو المنجس) ش: أي الدم المسفوح وليس في هذه الحيوانات دم مسفوح، وهذا التعليل هو الأصح نص عليه السرخسي، كما أنه لا يفسد الماء بموت هذه الحيوانات فيه، لا يفسد غير الماء أيضا كالخل والعصير وسواء انقطع أو لم ينقطع إلا على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول: إذا انقطع في الماء أفسده بناء على قوله: إن دمه نجس وهو ضعيف؛ لأنه لا دم في السمك إنما هو آخر، ولو كان فيه دم فهو مأكول فلا يكون نجسا كالكبد والطحال.
وأشار الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن الطافي من السمك في الماء يفسده قال السغناقي: هو غلط منه فليس في الطافي أكثر فسادا من أنه غير مأكول كالضفدع والسرطان، وعن محمد: إن الضفدع إذا انغمس في الماء كرهت شربه لا لنجاسته؛ ولكن لأن أجزاء الضفدع وهو غير مأكول كذا في " المبسوط ".
م: (وفي غير الماء) ش: أي إذا مات ما يعيش في غير الماء كالعصير والدهن والخل ونحوها م: (قيل) ش: قائله نصر بن يحيى م: (غير السمك يفسده) ش: أي يفسد غير الماء، وبه قال محمد بن

(1/393)


لانعدام المعدن، وقيل: لا يفسده لعدم الدم وهو الأصح، والضفدع البحري، والبري فيه سواء، وقيل: البري يفسد لوجود الدم وعدم المعدن، وما يعيش في الماء ما يكون توالده ومثواه في الماء، ومائي المعاش دون مائي المولد مفسد،
قال: والماء المستعمل لا يجوز استعماله في طهارة الأحداث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سلمة وأبو معاذ البلخي وأبو مطيع، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: لانعدام المعدن) ش: قال الأترازي: فيه نظر لأنه لا يجوز التعليل على وجود الشيء بالعدم، وأجاب عنه الأكمل بأنه ليس بتعليل بل هو البيان انتفاء المانع، فإنا قد ذكرنا أن النجاسة لا تعطى حكمها في معدنها، فكان المعدن مانعا عن ثبوت الحكم عليها، قلت: ويمكن أن يجاب عنه بأن الموجب للتنجيس هو لدم وهو مجود إذ اللون ما دون الدم والرائحة رائحته والمانع هو المعدن وهو مفقود فعمل المقتضى عمله.
م: (وقيل) ش: قائله أبو عبد الله البلخي ومحمد بن مقاتل م: (لا يفسده لعدم الدم) ش: قال الأترازي: فيه نظر؛ لأن عدم العلة لا يوجب عدم الحكم لجواز أن يكون الحكم معلولا بعلل شتى إلا أن العلة إذا كانت متعينة يلزم من عدمها عدم المعلول لتوقفه على وجودها، وهذا النظر والذي قبله للشيخ حافظ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - والأترازي أخذ مما بينه، وأجاب الأكمل عنه بأن العلة الشخصية يستلزم انتفاؤها انتفاء الحكم، وهاهنا كذلك لأن كونه دما ممتزجا هو المنجس لا غير.
قلت: ويجاب أيضا بأن العلة متحدة وهي الدم فإذا عدم لا يثبت الحكم في مثله، وفي مثله يجوز التعليل بالعدم كقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن المغصوب لم يضمن؛ لأنه لم يغصب م: (وهو الأصح) ش: أي القول الثاني هو الأصح وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو اختيار المصنف أيضا؛ لأنه لا دم فيها.
م: (والضفدع البحري والبري فيه سواء) ش: أي في الحكم المذكور ويعرف البحري من البري، فإن البحري ما يكون بين أصابعه سترة دون البري م: (وقيل: البري يفسد لوجود الدم وعدم المعدن) ش: وجود الدم هو العلة، وعدم المعدن هو انتفاء المانع.
م: (وما يعيش في الماء) ش: كلمة ما موصولة بمعنى الذي، ويعيش في الماء صلته، وارتفاعه على الابتداء محلا وخبره هو قوله: (ما يكون توالده ومثواه) ش: أي منزله ومقره م: (في الماء) ش: أراد بهذا بيان ما يعيش في الماء؛ لأنه ذكره ولم يبينه م: (ومائي المعاش دون مائي المولد مفسد) ش: كالبط والأوز والجاموس.

[حكم استعمال الماء المستعمل في طهارة الأحداث]
[المقصود بالماء المستعمل وأقسامه]
م: (والماء المستعمل لا يجوز استعماله في طهارة الأحداث) ش: هذا حكم الماء المستعمل قدمه

(1/394)


خلافا لمالك والشافعي - رحمهما الله - هما يقولان: إن الطهور ما يطهر غيره مرة بعد أخرى كالقطوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه هو المقصود وقيد بطاهرة الأحداث إشارة إلى أنه يطهر الأخباث فيما روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الموافق لمذهبه، فإن إزالة النجاسة المعينة بالمائعات يجوز عنده على ما يأتي. وفي " جامع الإسبيجابي " الماء المستعمل ثلاثة أنواع: نوع طاهر بالإجماع كالمستعمل في غسل الأعيان الطاهرة، ونوع نجس بالاتفاق كالمستعمل في الأعيان النجسة، وفي " الإسبيجابي " قبل أن يحكم بطهارة ذلك الموضع، ونوع مختلف فيه وهو الذي توضأ به محدث أو اغتسل به جنب إن لم تكن على أعضائه نجاسة حقيقية.
م: (خلافا لمالك والشافعي - رحمهما الله -) ش: فإن عندهما يطهر الأحداث، ونصب خلافا على الإطلاق غير موجه على ما نذكره، أما عند مالك فإن المذكور في كتبهم منها " الجواهر " أن الماء المستعمل في طهارة الحدث طاهر ومطهر إذا كان الاستعمال لم يغيره لكنه مكروه مع وجود غيره مراعاة للخلاف وهو قول الزهري والأوزاعي في أشهر الروايتين عنهما، وأبي ثور وداود، قال المنذري عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأبي أمامة والحسن وعطاء ومكحول والنخعي أنهم قالوا: فمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا يكفيه مسحه بذلك البلل، وهذا يدل على أنهم يرون المستعمل مطهرا وبه أقول. وقيل: طاهر ومشكوك في تطهيره، يتوضأ وبه ويتيمم ويصلي صلاة واحدة. وقال النووي: إن في المسألة قولين وهو الصواب.
واتفقوا على أن المذهب الصحيح أنه ليس بطهور وعليه التفريع. وحكى عيسى ابن أبان أنه طهور، قال في " المهذب ": الصحيح أنه ليس بطهور، ومن أصحابنا من لم يثبت هذه الرواية. وقال المحاملي: قوله: من يدر رواية عيسى بن أبان ليس بشيء؛ لأنه ثقة وإن كان مخالفا، وقال بعضهم: عيسى ثقة لا يتهم فيما يحكيه، ففي المسألة قولان. وقال صاحب " الحاوي ": نصه في الكتب القديمة والجديدة وما نقله جميع أصحابه سماعا، ورواية أنه غير طهور. وحكى عيسى بن أبان في الخلاف عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه طهور.
وقال أبو ثور: سألت الشافعي عنه فتوقف. وقال أبو إسحاق وأبو حامد المروزي فيه قولان. وقال ابن شريح وأبو علي بن أبي هريرة: ليس بطهور قطعا وهذا أصح لأن عيسى بن أبان وإن كان ثقة فيحكي ما يحكيه أهل الخلاف ولم يلقه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليحكيه سماعا، ولا وجده منصوصا فيأخذ من كتبه، ولعله تأول كلامه بصيرورة طهارته ردا على أبي يوسف فحمله على جواز الطهارة به.
م: (هما) ش: أي مالك والشافعي (يقولان: إن الطهور ما يطهر غيره مرة بعد أخرى كالقطوع) ش: ولا يكون كذلك إلا إذا لم ينجس بالاستعمال، وتكلمت الشراح هاهنا بكلام كثير، فقال

(1/395)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صاحب " الدراية " وفي " الكافي " هذا أنسب في القوانين ثم أطال الكلام، ولخصه الأكمل، فقال: والجواب أنه يحكى عن ثعلب أراد الطهور ما يطهر غيره إلى آخره. قال: ورد عليه بأن هذا إن كان لزيادة بيان نهايته في الطهارة كان سديدا، ويعضده قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] (الأنفال: الآية 11) وإلا فليس نقول من التعليل في شيء، وإن كانت بيانا لنهاية فيها لا يستدل على تطهير الغير فضلا عن التكرار فيه.
وقال صاحب " الدراية " في آخر كلامه: ولم يتضح لي سر هذا الكلام. وقال الأترازي: قوله كالمقطوع فيه تسامح؛ لأن المشبه يقال من الفعل اللازم والمشبه به من الفعل المتعدي، إلا أن المبالغة في الطهارة بأن يظهر أثرها في العين فصار بمعنى المطهر.
وقال السغناقي: قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الماء مطهر لغيره؛ لأن الطهور بمعنى المطهر، بل علم ذلك بسبب العدول من صيغة الطاهر إلى صيغة الطهور التي هي للمبالغة في ذلك الفعل كالمغفور والشكور فيهما مبالغة ليس في الغافر والشاكر، وليس تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلا باعتبار أنه يطهر غيره؛ لأن في نفس الطهارة كلتا الصيغتين سيان، فلا بد من معنى زائدة في الطهور وليس في الطهارة، ولا ذلك إلا بالتطهير لا أن الطهور جاء بمعنى المطهر لأنه من طهر الشيء وهذا لا يستفاد منه التعدي.
قلت: تقدير هذا الكلام أن مالكا والشافعي - رحمهما الله - احتجا بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] (الفرقان: الآية 47) ووجه ذلك أن الطهور مصدر، ومنه «مفتاح الصلاة الطهور» «وطهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب» «ولا صلاة إلا بطهور» نص عليه سيبويه والخليل والمبرد في " الكامل " والأصمعي وابن السكيت.
ثم قولهما: إن الطهور ما يطهر غير مرة بعد أخرى غير مثبت في القولين، واحتج لهما من ينصرهما بما روي عن ثعلب: الطهور ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره كالقطوع فإن فيه معنى التكرار والصيغتان أوردا عليه بما ذكر الآن، وتحقيق الردين قياسه الطهور الذي هو من طهر اللازم على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية كتطوع وتنوع غير صحيح، والصيغة إذا أخذت من الفعل اللازم كانت للمبالغة والتكثير في الفاعل نحو مات زيد وموت ونام ونوم، ولا يتعلق به الفعول البتة، وإن كان الفعل متعديا كان الثلاثي في مفعوله نحو قطعت الثوب.
والطهور مأخوذ من فعل ثلاثي لازم فكيف يتصور أن يؤخذ منه معنى الرباعي المتعدي فيكون المراد به التكرار وتكثير المفعول، ألا ترى أنك إذا قلت: فلان صبور من صبر فمعناه كثير

(1/396)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصبر لا أنه يصبر مرة بعد أخرى، ومثال ذلك كثير، ويدل على تحقيق هذا قَوْله تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] (الإنسان: الآية 21) ومعلوم أن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير إلى التطهير من حدث أو خبث بل هو عبارة عن الطاهر الشديد الطهارة. وقال جرير:
عذاب الثنايا ... ريقهن طهور
والريق لا يطهر به عندهم، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التيمم طهور المسلم» والتيمم لا يرفع الحدث عندهم.
قلت: يمكن المناقشة بأن يقال: لا نسلم قولكم بأن المبالغة والتكرير تكون في الفاعل إذا كانت الصيغة من الفعل اللازم على الإطلاق، بل قد يكون التكثير في الفعل دون الفاعل نحو حولت وطرقت، وقد يكون في الفاعل نحو سومت الإبل، وقولكم: إن الطهور من طهر وهم لازم لا يشابه المشتق من الفعل المتعدي كتطوع وتنوع فلا يقاس عليه غير مانع قطعا؛ لأنه قد يستعمل على سبيل المجاز، أهل الصرف جوزوا ذلك فقال بعضهم: إن المراد بالتكثير في الفعول لا يستعمل بالتضعيف إلا إذا كان الفعل جمعا نحو قولهم: غلقت بالتضعيف فإنه لا يستعمل إلا إذا قال: غلقت الأبواب حتى إذا كان واحدا لا يقال: إلا غلقت بالتخفيف إلا على سبيل المجاز، فحينئذ قياسهم الفعول من اللازم على الفعول من المتعدي صحيح بهذه الطريقة.
ويؤيد ذلك ما قاله تاج الشريعة في هذا الموضع في شرحه أن الطهور وإن كان اشتقاقه من فعل وهو لازم لكنه جعل متعديا شرعا بواسطة ظهور أثره في الغير فصح الإلحاق، ويمكن أن يمنع استدلالهم بلفظ الطهور فيما احتجوا به بأن يقال: الطهور اسم لما يتطهر به كالسجود والوقود فليس فيه ما يدل على أنه مطهر غيره مرة بعد أخرى ولا فيه مبالغة.
فإن قالوا: نحن نحتج بأشياء غير ذلك الأول «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ فمسح رأسه ببل لحيته» . وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه اغتسل فنظر لمعة من بدنه لم يصبها الماء فأمر يده بما عليه ذلك» .
الموضع الثاني: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء» . وهو حديث صحيح.

(1/397)


وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان المستعمل متوضئا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: أن ما لاقى طاهرا يبقى مطهرا كما لو غسل به ثوبه.
والرابع: أن ما أدي به الفرض مرة لا يمنع أن يؤدى به ثانيا، كما يجوز للجماعة أن يتيمموا في موضع واحد.
والخامس: «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه» . رواه البخاري.
والسادس: أنهم كانوا يتوضؤون والماء يتقاطر على ثيابهم ولا يغسلونها.
الجواب عن الأول: أنه حديث ضعيف، فإن فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، فلا يحتج بروايته إذا لم يخالفه غيره، فكيف وقد عارضته الروايات الصحيحة منها ما رواه مسلم أبو داود وغيرهما «عن عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ فذكر صفة الوضوء إلى أن قال: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه وغسل رجليه» وهذا هو الموافق لروايات الأحاديث الصحيحة في أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ لرأسه ماء جديدا.
والذي روي عن ابن عباس ضعيف ضعفه البيهقي والدارقطني، وقال البيهقي: إنما هو كلام النخعي وعلى تقدير صحته فبدن الجنب كعضو واحد، ويجوز نقل البلة من موضع إلى آخر.
والجواب عن الثاني: أنه استعمل في الذي تغيرت صفته من الطهورية إلى الطهارة كما في الصدقة لما أقيم به القربة تغيرت صفته وزال عنه صفة كونه حلالا للجميع، حتى لا تحل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقرابته على ما يجيء عن قريب.
وعن الثالث: فقياسهم غير صحيح؛ لأن في غسل الثوب لم يرد فرض ولا أقيم به عن قريب.
وعن الرابع: فقياس على تيمم الجماعة غير صحيح؛ لأن المستعمل ما تعلق بالعضو والأرض ليست كالماء فلا تقبل صفة الاستعمال.
وعن الخامس: أنه يجوز أن يكون اقتتالهم على ما فضل من وضوئه، قال في بعض الروايات الصحيحة: «فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به» وفي لفظ النسائي في هذا الحديث: وأخرج عن بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فضل وضوئه فابتدره الناس، وليس المراد الساقط من وضوئه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وعن السادس: بأن حكم الاستعمال لا يثبت إلا بالاستقرار على الأرض أو في إناء على قوله، وإن ثبت بالمزايلة على قوله لكنه في الثياب ضروري فعفي عن ذلك.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أحد قولي الشافعي) ش: الضمير يرجع إلى القول الذي دل

(1/398)


فهو طهور، وإن كان محدثا فهو طاهر غير طهور؛ لأن العضو طاهر حقيقة، وباعتباره يكون الماء طاهرا لكنه نجس حكما، وباعتباره يكون الماء نجسا، فقلنا بانتفاء الطهورية وبقاء الطهارة عملا بالشبهين. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو طاهر غير طهور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إن كان المستعمل متوضئا) ش: أراد أنه إن كان على وضوء م: (فهو) ش: أي الماء الذي استعمله، م: (طهور) ش: يعني طاهر في نفسه على حاله ولم يتغير منه شيء فهو طهور لغيره، م: (وإن كان) ش: أي المستعمل، م: (محدثا فهو طاهر) ش: في نفسه م: (غير مطهر) ش: لغيره م: (لأن الأعضاء) ش: أي الأعضاء المستعملة م: (طاهرة حقيقة) ش: لا [......] التنجيس كما لو غسل به ثوب طاهر م: (وباعتباره) ش: أي وباعتبار أمر الحقيقة م: (يكون الماء طاهرا) ش: وطهورا؛ لأنه لم يتغير منه شيء، والأعضاء طاهرة، ولهذا كان عرق المحدث والجنب طاهرا، وكذلك سؤرهما، وتجوز صلاة حاملهما.
م: (لكنه) ش: أي لكن الماء م: (نجس حكما) ش: أي من حيث الحكم أراد به النجاسة الحكمية بسبب إزالة الحدث أو التقرب على الاختلاف م: (وباعتباره) ش: أي وباعتبار النجس الحكمي م: (يكون الماء نجسا) ش: فإذا كان كذلك صار هنا اعتباران م: (فقلنا بانتفاء الطهورية) ش: لغيره م: (وبقاء الطهارة) ش: في نفسه م: (عملا بالشبهين) ش: شبه الطهارة، وشبه النجاسة، فباعتبار الشبه الأول يكون طاهرا مطهرا، وباعتبار الشبه الثاني لا يكون طاهرا أصلا. والحكم عليه بأوجه منها إبطال للآخر. وإعمالهما ولو بوجه أولى من إهمال أحدهما فعمل بهما بإسقاط الطهورية وبقاء الطهارة.
فإن قلت: عملا منصوب بماذا؟ قلت: يجوز أن يكون تمييزا أي من حيث العمل، ويجوز أن يكون حالا بمعنى فعلت كذا، فكذا حال كوننا عملنا بالشبهين، ويجوز أن يكون نصبه على المصدرية التقدير فعلت كذا وكذا وعملنا بالشبهين.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو) ش: أي قول محمد دل عليه قال م: (رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو) ش: أي الماء المستعمل م: (طاهر) ش: في نفسه م: (غير طهور) ش: لغيره وبه أخذ مشايخ العراق، ورواه زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعافية القاضي قال: أو هو طاهر غير طهور عند أصحابنا، حتى كان قاضي القضاة أبو حازم عبد الحميد العراقي يقول: أرجو أن لا يثبت رواية النجاسة فيه عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر. قال في " المحيط: وهو الأشهر الأقيس. قال في " المفيد ": هو الصحيح. وقال الأسبيجابي: وعليه الفتوى، وبه قال أحمد، وهو الصحيح من مذهب الشافعي وهو رواية عن مالك، ولم يذكر ابن المنذر عنه غير ذلك. قال النووي: وهو قول جمهور

(1/399)


لأن ملاقاة الطاهر لا توجب التنجيس، إلا أنه أقيمت به قربة فتغيرت به صفته كمال الصدقة. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف - رحمهما الله -: هو نجس لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلن فيه من الجنابة» ولأنه ماء أزيلت به النجاسة الحكمية فيعتبر بماء أزيلت به النجاسة الحقيقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلف والخلف.
م: (لأن ملاقاة الطهارة الطاهر لا يوجب التنجيس) ش: الطاهر الأول الماء، والطاهر الثاني: العضو المغسول، والملاقاة مصدر لاقى مضاف إلى فاعله، والطاهر الثاني منصوب به، فإذا لاقى الطاهر لا يتغير الملاقي كما لو غسل به ثوب طاهر م: (إلا أنه) ش: أي أن الماء والاستثناء من قوله لا يوجب التنجيس م: (أقيمت به قربة) ش: أي تقرب إلى الله تعالى، والتقرب إلى الله تعالى يكون بما فيه الخير والعمل الصالح، وليس المراد منه قرب الذات والمكان على ما عرف في موضعه م: (فتغيرت بصفته) ش: فلم يكن طيبا م: (كمال الصدقة) ش: الذي أقيم به القربة، وقد تغيرت صفته حتى لم تحل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى أهل بيته، ولكنه في نفسه طاهر حلال في نفسه حتى يحل لغيره، ومع هذا سمى الزكاة أوساخ أموال الناس فإذا أعطى هاشمي بنية الزكاة لا يجوز وبنية الهبة يجوز، وإن كان المال واحدا وفي صدقة التطوع عليه روايتان.
م: (وقال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله -: هو) ش: أي الماء المستعمل م: (نجس) ش: إما حقيقة وأما حكما على الخلاف كما يأتي إن شاء الله تعالى م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» ش: الحديث في هذا الباب ورواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجه الاستدلال به أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كما نهى عن النجاسة الحقيقية وهي البول، فكذلك نهى عن الحكمية وهو الاغتسال، فدل على أن الاغتسال فيه كالبول فيه. الحديث يجوز فيه الرفع والنصب أما الرفع فعلى الابتداء، وخبره محذوف تقديره الحديث بتمامه، وأما النصب فعلى تقدير أمر الحديث أو أتمه وتمامه ولا يغتسل فيه من الجنابة.
م: (ولأنه) ش: دليل عقلي أي ولأن الماء المستعمل م: (ماء أزيلت به النجاسة الحكمية) ش: لأن عضو المحدث والجنب له حكم النجاسة شرعا، وقد أزيلت تلك النجاسة بالماء فينجس كما في الحقيقة، والدليل على ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 16) والتطهير عبارة عن إزالة النجاسة، وقد أزيلت تلك النجاسة بالماء فاستعمل حكم النجاسة إليه كما في الحقيقة م: (فيعتبر بماء أزيلت به النجاسة الحقيقية) ش: أي فإذا كان كذلك يعتبر الماء الذي أزيلت به النجاسة الحكمية بالماء الذي أزيلت به النجاسة الحقيقية.
فإن قلت: كيف يتصور هذا الانتقال والأعراض لا تقبل الانتقال من محل إلى محل باتفاق

(1/400)


ثم في رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه نجس نجاسة غليظة اعتبارا بالماء المستعمل في النجاسة الحقيقية، وفي رواية أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه وهو قوله: نجاسة خفيفة لمكان الاختلاف،
والماء المستعمل هو ماء أزيل به حدث، أو استعمل في البدن على وجه القربة، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا يعني بصيرورة الماء نجسا إلا اتصافه بالخبث شرعا كمال الصدقة سلمنا عدم قبول الأعراض الانتقال من محل إلى محل آخر، ولكن الأمور الاعتبارية الحكمية يجوز أن تعتبر قائمة بعد قطع الاعتبار عن قيامها بمحل آخر، ألا ترى أن الملك للبائع أمر اعتيادي حكمي، وبعد أن قال: بعت وقبل المشتري انتقل من البائع إليه.
فإن قلت: سلمنا هذا في المحدث والجنب، فأما المتوضئ إذا توضأ ثانية بنية القربة فلا نسلم أنه يكون مستعملا؛ لأنه لم يكن بأعضائه من النجاسة الحكمية شيء حتى يزول عن أعضائه وينقل إلى الماء.
قلت: نوى القربة فقد أراد به طهارة على طهارة، ونور على ما جاء في الخبر، ولا يكون طهارة جديدة حكما إلا بإزالته حكما فصارت الطهارة على الطهارة وعلى الحدث سواء.
م: (ثم في رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه) ش: أي أن الماء المستعمل م: (نجس نجاسة غليظة) ش: أشار بهذا إلى أنه لما بين نجاسة الماء المستعمل احتيج إلى بيان صفة هذه النجاسة هل هي غليظة أم خفيفة، فاختلفت الروايات فيه، فروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نجس مغلظ م: (اعتبارا بالماء المستعمل في النجاسة الحقيقية) ش: أي نجاسة خفيفة وارتفاعها على أنه مبتدأ وخبره قوله في رواية مقدما م: (لمكان الاختلاف) ش: أي لأجل اختلاف العلماء في الماء المستعمل، فإن عند مالك طاهر وطهور كما ذكرنا، واختلاف العلماء يورث الإخفاف.

م: (والماء المستعمل هو ماء أزيل به حدث) ش: هذا شروع في بيان حقيقة الماء المستعمل وكان حقه التقديم كل قدم الحكم؛ لأنه هو المقصود، وقوله: الماء مبتدأ والمستعمل صفته وهو قوله: مبتدأ ثان، وقوله: ما أزيل به حدث خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، م: (أو) ش: كلمة أو للتنويع يعني يكون الماء مستعملا بأحد الأمرين إزالة الحدث م: (استعمل) ش: أي الماء م: (في البدن على وجه القربة) ش: أي التقرب إلى الله تعالى بأن يتوضأ وهو على الوضوء، أو اغتسل وهو طاهر.
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا) ش: أي هذا الذي

(1/401)


عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقيل: هو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكرنا أن كون الماء مستعملا بأحد الأمرين م: (قول أبي يوسف) ش: فإن عنده بأحد الأمرين م: (وقيل هو) ش: أي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا) ش: يعني استعمال الماء عنده أيضا بأحد الأمرين المذكورين.
م: (قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصير) ش: أي الماء م: (مستعملا إلا بإقامة القربة) ش: فقط وعند زفر والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإزالة الحدث لا غير، ولو توضأ محدث بنية القربة صار مستعملا بالإجماع، ولو توضأ متوضئ للتبرد لا يصير الماء مستعملا بالإجماع، ولو توضأ المحدث للتبرد صار مستعملا عندهما وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم قصد القربة، وكذا عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم إزالة الحدث عنده بلا نية. ولو توضأ المتوضئ بقصد القربة صار مستعملا عند الثلاثة خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله -. ولو توضأ بماء الورد لا يصير مستعملا إجماعا.
وفي " المبسوط ": المحدث أو الجنب إذا أدخل يده في الماء أو الجب لأجل الاغتراف لا يصير الماء مستعملا بلا خلاف، إلا إذا نوى إيصال اليد للاغتسال، ولو أدخل رجله في البئر ولم ينو به الاغتسال ذكر الشيخ الإمام أنه يصير مستعملا لعدم الضرورة، وعلى هذا إذا وقع الكوز في الجب وأدخل يده في الجب لإخراج الكوز لا يصير الماء مستعملا في الرواية المعروفة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " الفتاوى " إذا أدخل في الإناء إصبعا أو أكثر منه دون الكف يريد غسله لم يتنجس الماء، ولو أدخل الكف يريد غسله يتنجس. وفي " المضمرات " هذا قول أبي يوسف، وعند محمد: طاهر وعليه الفتوى، وفي " الظهيرية " حيث رفع الماء بقية من أرى الحمام وغسل به يديه لا رواية لهذا في الأصل، وقال محمد بن الفضل فيه: نجس ويداه نجستان والماء الذي خرج من فيه نجس مستعمل، وقال بعضهم: الماء مستعمل ويداه نجستان وفمه طاهر والأول أصح.
وإذا غسل فخذه لا لنجاسة هل يأخذ حكم الاستعمال لا نص فيه عن أصحابنا، وفي " الخلاصة " الأصح أنه لا يصير مستعملا، وفي " الذخيرة " ابن سماعة عن محمد رجل على جراحته جبائر فغمسها في الإناء يريد به المسح عليها أجزأه، ولا يفسد الماء في " المبسوط " إذا غسل يده للطعام قبل الأكل، وبعده يصير الماء مستعملا، بخلاف ما لو غسل يده من الوسخ والعجين فإنه لا يصير مستعملا؛ لأنه لا قربة ولا إزالة حدث.
وفي " الطحاوي ": قال بعضهم قبل الطعام وبعده يصير مستعملا وفي الطعام لا، وإذا

(1/402)


لأن الاستعمال بانتقال نجاسة الآثام إليه وأنها تزال بالقرب، وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إسقاط الفرض مؤثر أيضا، فيثبت الفساد بالأمرين، ومتى يصير الماء مستعملا؟ الصحيح أنه كما زال عن العضو صار مستعملا؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أدخل الصبي يده في الإناء على قصد القربة فالأشبه أن يكون الماء مستعملا إذا كان الصبي عاقلا؛ لأنه من أهل القربة، وامرأة أوصلت الماء إلى ذوائبها فغسلت ذلك الشعر بالماء لا يصير مستعملا، بخلاف ما لو غسلت شعرها النابت من رأسها، ولو غسل رأس مفتول قد بان منه صار مستعملا.
م: (لأن الاستعمال بانتقال نجاسة الآثام إليه) ش: أي إلى الماء المستعمل، فإن قلت: كيف يصف الإثم بالنجاسة، وبعد الاتصاف بها كيف تقبل الأعراض لانتقالها، قلت: أما اتصافه فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب من هذه القاذورات فليستتر بستر الله» ، وهذا الشارع أطلق على الاسم قذرا، والقذر نجس فلقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من غسل وجهه تساقطت خطاياه مع آخر قطر الماء» ، وأما فلها حكم الجواهر في الشرع م: (وأنها) ش: أي وأن نجاسة الآثام م: (تزال بالقربة) ش: أي بإرادة القربة، قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] (هود: الآية 114) وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» .
م: (وأبو يوسف يقول: إسقاط الفرض) ش: وهو إزالة الحدث م: (مؤثر أيضا) ش: في كون الماء مستعملا؛ لأن الحدث الحكمي أغلظ من النجاسة العينية بالماء تنجسه، فإزالة النجاسة الحكمية أولى، ولهذا قال أبو حنيفة في رواية الحسن عنه م: (فيثبت الفساد) ش: أي فساد الماء م: (بالأمرين) ش: أي بإسقاط الفرض وهو إزالة الحدث وإقامة القربة.
م: (ومتى يصير الماء مستعملا؟) ش: كلمة متى للاستفهام نحو: متى نصر الله، وهو أحد معانيه الخمسة، وهذا بيان لوقت أخذه حكم الاستعمال م: (الصحيح أنه) ش: أي أن الماء م: (كما زال عن العضو صار مستعملا) ش: قال السغناقي: الكاف هنا للمفاجآت لا للتشبيه كما تقول: كما خرجت من البيت رأيت زيدا، أي فاجأت ساعة خروجي ساعة رؤية زيد أي يصير الماء مستعملا مفاجأة وقت زواله عن العضو وقت الاستعمال من غير توقف إلى وقت الاستقرار في موضع، كما زعم بعضهم وتبعه صاحب " الدراية " و" الأكمل " في كون الكاف هنا للمفاجأة.

(1/403)


لأن سقوط حكم الاستعمال قبل الانفصال للضرورة ولا ضرورة بعده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ذكر النحاة أن الكاف إذا كانت بعدها ما الكافة يكون لها ثلاثة معان: أحدها: تشبيه مضمون جملة لمضمون الأخرى، كما كانت قبل الكف كتشبيه المفرد، قال الله تعالى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] (الأعراف: الآية 138) والثاني أن تكون بمعنى لعل، حكى سيبويه عن العرب: انتظرني كما آتيك أي لعل ما آتيك، قال رومة: لا تشتم الناس كما لا تشتم، والثالث: أن تكون بمعنى قران الفعلين في الوجود نحو أدخل كما يسلم الإمام، وكما قام زيد قعد عمرو، الكاف في قوله: كما زائل عن العضو من هذا القبيل فالمعنى أن الماء يصير مستعملا مقارنا زواله عن العضو من غير توقف إلى استقراره في مكان.
وبعضهم قالوا: إن الكاف التي بعدها ما الكافة تكون بمعنى المبادرة أيضا نحو سلم كما تدخل وصل كما تدخل الوقت ذكره ابن الخيار والسيرافي، ومع هذا قالوا: هو غريب وهذا في المعنى مثل قران الفعلين الذي ذكرناه، ولم أر أن أحدا منهم قال: إن الكاف للمفاجأة بهذه العبارة وإن كان معناها قريبا بما ذكرنا.
م: (لأن سقوط حكم الاستعمال) ش: أي سقوط حكم كون الماء مستعملا م: (قبل الانفصال) ش: أي قبل انفصال الماء عن عضو المتوضئ م: (للضرورة) ش: أي لأجل ضرورة تعذر الاحتراز عنه م: (ولا ضرورة بعده) ش: أي عبد الانفصال وفي " المحيط " أن الماء إنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن، والاجتماع في المكان ليس بشرط هذا هو مذهب أصحابنا.
قلت: بل نص عليه المصنف بقوله: الصحيح أنه كما زايل عن العضو صار مستعملا. وذكر في الأصل إذا مسح رأسه بما أخذه من لحيته لم يجز عندنا، وكذا لو مسح على خفيه وبقي على كفه بلل فمسح به رأسه، وكذا لو توضأ إنسان بالماء المتقاطر عن المتوضئ بأن يكون في موضع عال وهو يأخذ الماء من الهواء قبل وصوله إلى الأرض لا يجوز.
وفي " شرح الطحاوي " الماء وإنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن واستقر في مكان، وبه قال سفيان الثوري وإبراهيم النخعي وبضع مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وهو اختيار الطحاوي وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني. وفي " خلاصة الفتاوى " المختار أنه لا يعتبر مستعملا ما لم يستقر في مكان، وسكن عن التحرك.
فإن قلت: فعلى ما ذكر المصنف ينبغي أن ينجس ثوب المتوضئ الذي ينشف به إذا أصاب الماء. قلت: أجابوا بأن ذلك سقط للحرج.
فإن قلت: إذا أصاب ثوب غير المتوضئ، قلت: قيل: هذا لا ضرورة فيه فينجس، وقيل الضرورة في حق المتوضئ لا في حق المغتسل؛ لأنه قليل الوقوع.

(1/404)


والجنب إذا انغمس في البئر لطلب الدلو، فعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرجل بحاله لعدم الصب وهو شرط عنده لإسقاط الفرض.
والماء بحاله لعدم الأمرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: من شرط الاستقرار في مكان شرط أن يكون في أرض، قلت: لا، سواء كان أرضا أو إناء أو كف المتوضئ أو كف غيره ونحو ذلك.
فإن قلت: استدل سفيان الثوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - علينا بمسائل زعم أنها تدل على صحة مذهبه، منها: إذا توضأ أو اغتسل وبقي في يده لمعة فأخذ البلة منها في الوضوء أو من أي عضو كما في الغسل وغسل اللمعة يجوز، ومنها: لو بقي في كفه بلة فمسح بها رأسه يجوز، ومنها: لو مسح أعضاءه بالمنديل فابتل جازت الصلاة معه، ومنها: لو تقاطر الماء من أعضائه على ثيابه وفحش لا يمنع جواز الصلاة.
قلت: أجاب من لم يشترط الاستقرار في المكان عن الأول أن مع النقل في العضو الواحد يفضي إلى الحرج، وعن الثانية: بأن الفرض تأوى بما جرى على العضو لا بالبلة الباقية في الكف، وعن الثالثة والرابعة بالحرج والضرورة وقد ذكرناه.

[الجنب إذا انغمس في البئر]
م: (والجنب إذا انغمس في البئر) ش: أراد به الجنب الذي ليس على بدنه نجاسة فإنه إذا كان على بدنه نجاسة وانغمس في البئر نجس الماء وهو على حاله جنب سواء كان انغماسه لطلب الدلو أو لغيره، وإنما قيد بقوله م: (لطلب الدلو) ش: لأنه لو انغمس لطلب الاغتسال للصلاة فسد الماء بالاتفاق م: (فعند أبي يوسف الرجل بحاله) ش: وهو كونه جنبا م: (لعدم الصب) ش: صب الماء؛ لأنه عند الصب يكون كالجاري وعند عدمه يكون راكدا وهو أضعف من الجاري، والله تعالى كلفنا بالتطهير، والقياس يأبى التطهير بالغسل؛ لأن الماء ينجس بأول الملاقاة فلا يحصل به التطهير، وإنما حكمنا بالتطهير ضرورة، وهي تندفع بالصب فلا ضرورة إلى طريق آخر، ولهذا لا يشترط الصب عند الكل في الماء الجاري والحياض الكبيرة. وروي أن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: إن الثوب أيضا لا يطهر إلا بالصب وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا م: (وهو شرط عنده) ش: أي والصب شرط عند أبي يوسف والواو فيه للحال م: (لإسقاط الفرض) ش: الكلام فيه بالصب م: (والماء بحاله) ش: وهو كونه طاهرا م: (لعدم الأمرين) ش: وهما إسقاط الفرض، ونية القربة فإن الماء إنما يتغير عنده بأحدهما ولم يوجد.
فإن قلت: كان الحق تقديم أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الذكر وبعده ذكر أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبعده ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قلت: إنما قدم أبا يوسف لزيادة احتياجه إلى البيان بسبب تركه أصله، فإن كان يجب أن ينجس الماء عنده كما قاله أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الماء تغير عنده مستعملا لسقوط الفرض، وإن لم ينو فكأنه إنما ترك أصله في هذه المسألة لضرورة الحاجة إلى طلب الدلو فلم يسقط الغرض كيلا يصير الماء نجسا فيفسد البئر. ونظيره ما روي عنه أنه قال:

(1/405)


وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلاهما طاهران: الرجل لعدم اشتراط الصب، والماء لعدم نية القربة. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلاهما نجسان: الماء لإسقاط الفرض عند البعض بأول الملاقاة، والرجل: لبقاء الحدث في بقية الأعضاء، وقيل: عنده نجاسة الرجل بنجاسة الماء المستعمل، وعنه: أن الرجل طاهر؛ لأن الماء لا يعطى له حكم الاستعمال قبل الانفصال، وهو أوفق الروايات عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا أدخل الجنب أو المحدث يده في الإناء ليغترف الماء لا يزول الحدث عن يده، كيلا يفسد الماء للحاجة إلى الاغتراف، فكذا هذا. م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلاهما) ش: أي الرجل والماء م: (طاهران: الرجل لعدم اشتراط الصب عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والماء لعدم نية القربة) ش: لأن عنده إنما يتغير الماء بنية التقرب ولم توجد فإن قلت: علمت بالعدم فلا يجوز. قلت: قد تقدم هذا مع جوابه م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلاهما) ش: أي الرجل والماء م: (نجسان: الماء لإسقاط الفرض عند البعض بأول الملاقاة) ش: أي النية عنده ليست بشرط لإسقاط الفرض، فإذا أسقطت الفرض صار الماء مستعملا عنده فينجس م: (والرجل: لبقاء الحديث في بقية الأعضاء) ش: أي ونجاسة الرجل لأجل بقاء الحدث في بقية الأعضاء م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقيل: عنده نجاسة الرجل بنجاسة الماء المستعمل) ش: لأن النية لما لم يشترط لسقوط الفرض عنده سقط الفرض بالانغماس وصار الماء مستعملا، الرجل متصل به فينجس بنجاسته م: (وعنه) ش: أي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الرجل طاهر؛ لأن الماء لا يعطى له حكم الاستعمال قبل الانفصال) ش: أي قبل انفصال الماء عن العضوم: (وهو) ش: أي هذا القول الثالث م: (أوفق الروايات عنه) ش: أي عن أبي حنيفة لكونه أكثر مناسبة لأصله ولكونه أسهل للمسلمين، فعلى الأول من أقواله لا تجوز له الصلاة ولا قراءة القرآن، وعلى الثاني: تجوز له قراءة القرآن دون الصلاة، وعلى الثالث: يجوز كلاهما وتسمى هذه المسألة مسألة - جحط - فالجيم عبارة عن نجاسة كل واحد من الرجل والماء؛ لأنهما نجسان، والحاء عن إبقاء حال كل واحد على ما كان، والطاء عن طهارة كل منهما، وترتيب الأحكام على ترتيب العلماء الثلاثة. وقد يقال: - نحط - بالنون موضع الجيم فالنون عبارة عن نجاسة كل منهما.
وقال شمس الأئمة: التعليل لمحمد لعدم إقامة القربة ليس بقوي فإن هذا المذهب غير مروي عنه أيضا. والصحيح أن إزالة الحدث بالماء مفسد له إلا عند الضرورة كالجنب يدخل يده في الإناء، وفي البئر ضرورة لطلب الدلو يسقط استعماله للحاجة. وقال القدوري: كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول: الصحيح عندي من مذهب أصحابنا أن إزالة الحدث استعمال للماء فلا معنى لهذا الخلاف، وإنما لم يصر الماء مستعملا في البئر ضرورة، وقال في " قاضيخان ": ومنهم من قال: يصير الماء مستعملا عند محمد برفع الحدث أيضا إلا في البئر للضرورة، ولو غسل الطاهر شيئا من بدنه غير أعضاء الوضوء كالفخذ والجنب بنية القرب قيل: يصير الماء مستعملا

(1/406)


قال: وكل إهاب دبغ فقد طهر وجازت الصلاة فيه والوضوء منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كأعضاء الوضوء، وقيل: لا يصير مستعملا ذكره في " قاضيخان " وإذا وقع الماء المستعمل في البئر لا يفسده عند محمد، ويجوز التوضؤ به ما لم يغلب على الماء، وهذا هو الصحيح، وفي التجنيس على المذهب المختار.
وإذا وقع الماء المستعمل في المطلق القليل قال بعضهم: لا يجوز الوضوء به، وإن قيل: وقيل يجوز وهو الصحيح، ومنهم من قال: الماء المستعمل إذا وقع في البئر عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز الوضوء به بخلاف بول الشاة مع أن كل واحد منها طاهر عنده، والفرق له أن الماء المستعمل من جنس ماء البئر فلا يستهلك فيه، وبول الشاة ليس من جنسه فيعتبر الغالب، وفي " قاضيخان ": لو صب الماء الذي توضأ به في بئر عند محمد ينزح منها عشرون دلوا؛ لأنه طاهر عنده فكان دون الفأرة.
قلت: وعلى القول الثاني لا يجوز استعمال ماء البئر وعندهما ينزح أربعين دلوا وقيل: تنزح جميع الماء هذا على القول بنجاسة الماء المستعمل.

[طهارة الجلود بالدباغ]
[طهارة جلد الكلب والخنزير]
م: (قال: وكل إهاب دبغ فقد طهر) ش: كلمة: كل إذا أضيفت إلى نكره توجب عموم الأفراد، وإذا أضيفت إلى معرفة توجب عموم الأجزاء والإهاب نكرة، فالمعنى كل واحدة من أفراد الإهاب إذا دبغ فقد طهر إلا ما استثني منه. والإهاب اسم لجلد لم يدبغ فكأنه تهيأ للدباغ، يقال: فلان تأهب للحرب إذا تهيأ واستعد، ويقال: تأهب للشتاء أي استعد.
وفي " الفائق ": سمي إهابا لأنه أهبته للحي وبنا للحماية له كما يقال: مسك لإمساكه ما وراؤه، والإهاب أعم من الجلد يتناول جلد المذكى، وغير المذكى، وجلد ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، والمدبوغ لا يسمى إهابا بل يسمى أديما أو حورا أو أدما أو جرابا. ونحو ذلك, وإنما دخلت الفاء في فقد طهر؛ لأن في صدر الكلام معنى الشرط، إذ التقدير وكل إهاب إذا دبغ فقد طهر وإن لم يدبغ فلا يطهر.
وقوله: - طهر -: بضم الهاء وفتحها من باب كرم يكرم ونصر ينصر، والمصدر فيها طهارة، والطهر أيضا نقيض الحيض، والطهور ما يثبت الطهر به كالفطور والسحور، وقوله - طهر - أعم من طهارة الظاهر والباطن.
م: (وجازت الصلاة فيه) ش: أي في إهاب المدبوغ، بأن جعل ثوبا يصلي فيه؛ لأنه طاهر م: (والوضوء منه) ش: أي من الإهاب المدبوغ، أي جاز الوضوء منه بأن جعل قربة أو دلوا أو نحو ذلك، فإذا جازت الصلاة فيه جازت عليه أيضا بأن جعل مصلى؛ لأن البيان في الثوب بيان في المكان لزيادة الاستعمال، ولأن الثوب منصوص عليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر:

(1/407)


إلا جلد الخنزير والآدمي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الآية 4) وطهارة المكان تلحقه بالدلالة.
فإن قلت: قوله طهر أفاد حصول الطهارة فيشمل ذلك الصلاة فيه والوضوء منه، فما الفائدة في ذكرهما بعد ذلك.
قلت: أجيب بجوابين:
أحدهما: الاحتراز بذلك عن قول مالك: فإنه يقول: يطهر ظاهره دون باطنه فيصلى عليه لا فيه، ويستعمل في اليابس دون الرطب.
والثاني: أن ذلك توكيد لطهارته، ورد لقول من لا يقول بطهارة الجلد المدبوغ.
م: (إلا جلد الخنزير والآدمي) ش: الخنزير وزنه فعليل مثل قنديل رباعي والياء فيه زائدة، والنون أصلية مثلها خندريس؛ لأنها لا تزاد ثانية مطردة بخلاف الثالثة شريت وجحيل فقد نقل بأنها زائدة مطردة. وحكى ابن سيده: أنه مشتق من خزر العين أي ضيعها فهو على هذا ثلاثي مزيد فيه الياء والنون.
قلت: الشريت الغليظ الكفين والرجلين وصف به الأسيد. والجحيل بتقديم الجيم على الحاء الغليظ الشفة. الآدمي منسوب إلى آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فإن قلت: في المسألتين منه ما هو.
قلت: معرفة هذا مبنية على معرفة شيء وهو أن جلد الخنزير يقيل الدباغ أو لا، وكذلك جلد الآدمي، فاختلف فيه، فقال بعضهم: جلد الخنزير لا يقبل الدباغ؛ لأن فيه جلودا مترادفة بعضها فوق بعض ذكره في " المحيط " و" البدائع ". وقيل: يقبل الدباغ ولكن لا يجوز استعماله؛ لأنه نجس العين لأنه رجس، والهاء في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] (الأنعام: الآية 145) ينصرف إليه دون لحمة لقربه، فلذلك لا يجوز الانتفاع به ولا بيعه ولا جميع أنواع التملكات، ولا يضمن مثله للمسلم، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " المحيط "، وهو مذهب الليث بن سعد وداود.
وأما جلد الآدمي فقد ذكر في " المحيط " " والبدائع ": أن جلد الإنسان يطهر بالدباغ ولكن يحرم سلخه ودبغة والانتفاع به احتراما له كشعره. وفي أحد قولي الشافعي: الآدمي ينجس بالموت ويطهر جلده بالدباغ في أحد الوجهين إلا أن المقصود منه لما لم يحصل استثني مع المستثنى. وقيل: جلد الآدمي أيضا لا يقبل الدباغ كجلد الخنزير.
فإذا عرفت هذا فقد توجه في الاستثناء وجهان:

(1/408)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أن يكون الاستثناء من الدبغ ويكون المعنى: وكل إهاب يقبل الدباغ إذا دبغ فقد طهر إلا جلد الآدمي والخنزير لا يطهر؛ لأنه لا يقبل الدباغ.
والوجه الثاني: أن يكون الاستثناء من قوله طهو، والمعنى: كل إهاب يقبل الدباغ إذا دبغ طهر إلا جلد الخنزير فإنه لا يطهر وإن كان يقبل الدباغ.
فإن قلت: هذا الوجه يقتضي أن يطهر جلد الآدمي؛ لأن تعليله بكرامته لا ينفي طهارته.
قلت: فعلى قول من يقول: لا يقبل الدباغ لا يطهر، وعلى قول من يقول: إنه يقبل يطهر، ولكن يحرم استعماله كما قلنا، فبالنظر إلى القول الأول قال: إلا جلد الخنزير ولم يقل إلا إهاب الخنزير؛ لأن الإهاب له تهيؤ واستعداد للدباغ، وجلد الخنزير ليس كذلك، فلذلك قال: إلا جلد الخنزير، وكذا الكلام في جلد الآدمي.
فإن قلت: إن كان عدم القابلية للدباغ يستلزم عدم الطهارة كان ينبغي أن يستثنى أيضا جلد الحية لأن في شرح الطحاوي قال: جلد الحية نجس لا يحتمل الدباغ، ويمنع جواز الصلاة أكثر من قدر الدرهم، وكذلك كان ينبغي أن يستثنى جلد الفيل عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه كالخنزير عنده.
قلت: اكتفى بذكر المتفق عليه، ولم يتعرض لما فيه الخلاف.
فإن قلت: ما تقول في مصارين الشاة والمثانة.
قلت: روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المصارين إذا أصلحت والمثانة إذا دبغت فقد طهرت؛ ولهذا يتخذ من المصارين الأوتار.
فإن قلت: الأكراس: قلت: كالمصارين والمثانة. وقال أبو يوسف: كاللحم فلا يطهر.
فإن قلت: فلم فرع الخنزير على الآدمي. قلت: الموضع موضع الإهانة لكونه في باب النجاسة وتأخير الآدمي في ذلك أولى كما في قَوْله تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج: 40] (الحج: الآية 40) .
فإن قلت: لم أخرج جلد الخنزير والآدمي عن العموم، وكان ينبغي أن يجوز تخصيص الميتة منه قياسا عليه أو بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب» .

(1/409)


لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيما إهاب دبغ فقد طهر»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا قياس فيه إبطال النص، وهو الحديث الذي يأتي، والنهي عن الانتفاع بالإهاب، وقد مر أنه اسم لجلد غير مدبوغ فليس ذلك داخل في عمومه ليجوز تخصيصه لا تعارض بينهما لاختلاف المحل.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ش: الحديث رواه ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فحديث ابن عباس أخرجه الأربعة، ورواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في " مسنده " والشافعي وإسحاق بن راهويه والبزار في مسانيدهم، وكثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين عزوا هذا الحديث في كتبهم إلى مسلم وهو وهم، وممن فعل ذلك البيهقي في " سننه ".
وإنما رواه مسلم بلفظ: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» . واعتذر الشيخ تقي الدين بأن البيهقي وقع له مثل ذلك في كتبه كثيرا، ويزيد أصل الحديث لا كل لفظ منه ولا يقبل ذلك؛ لأن الفقهاء يختلف نظرهم باختلاف اللفظ، فلا ينبغي ذلك.
ومن أحاديث هذا الباب ما رواه البخاري ومسلم قال: «تصدق على مولاة لميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بشاة فماتت فمر بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال هلا أخذتهم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به فقالوا إنها ميتة فقال إنما حرم أكلها» . ورواه الدارقطني وزاد: «أو ليس في الماء والقرص ما يطهره» وفي لفظ: «إنما حرم عليكم لحمها، ورخص لكم في مسكها» . وفي لفظ: «إن دباغه طهور» ، أخرج هذه الألفاظ في حديث ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثم قال: وهذه الأسانيد كلها صحيحة.
وما رواه البخاري أيضا من حديث سودة زوجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها، ثم ما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا» .
وما رواه ابن خزيمة في " صحيحه " والبيهقي في " سننه " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ من سقاء فقيل له: إنه ميتة، فقال: "ودباغه يزيل خبثه أو نجسه أو رجسه» . وقال البيهقي: إسناده صحيح ورواه الحاكم.

(1/410)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وما رواه ابن حبان في صحيحه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دباغ جلود الميتة طهورها» . وما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" من حديث عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن الرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر أن ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت» . وأعله البزار بأم محمد غير معروفة، ولا يعرف لمحمد غير هذا الحديث، وسئل محمد عن هذا الحديث، فقال: من هي أمه، كأنه أنكره من أجل أمه.
وما رواه أبو داود والنسائي عن جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة، فقالت: ما عندي إلا قربة لي ميتة، قال: "ألست قد دبغتيها؟ " قالت: بلى، قال: " فإن دباغها طهورها» . ورواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في " مسنده "، وأعله الأثرم بجون، ويحكى عن أحمد قال: لا أعرف من هذا الجون بن قتادة.
وما رواه الدارقطني ثم البيهقي من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مرفوعا: «طهور كل أديم دباغه» ، وقالا: إسناده حسن ورجاله ثقات.
وأخرج الدارقطني من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استمتعوا بجلود الميتة إذا هي دبغت ترابا كان أو رمادا أو ملحا بعد أن يزيد صلاحه» وفيه معروف بن حسان، قال أبو حاتم: مجهول، وقال ابن عدي: منكر الحديث.
وأخرج أيضا من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إنما حرم رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الميتة لحمها» فأما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به، وفيه عبد الجبار، قال

(1/411)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدارقطني: ضعيف. قلت: ذكره ابن حبان في " الثقات " في هذا الحديث.
وأخرج أيضا من حديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ، ولا بأس بشعرها وصوفها وقرونها إذا غسل بالماء» وفيه يوسف بن السفر، قال الدارقطني: متروك ولم يأت به غيره.
وأخرج أيضا من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا الأنعام الآية ألا كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها فأما الجلد والقرون والشعر والصوف والسن والعظم فكله» . وفيه أبو بكر الهذلي قال: وهو متروك.
وما رواه البيهقي من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على شاة فقال: "ما هذه؟ فقالوا: ميتة، قال: "ابغوا إهابها فإن دباغها طهور» وفيه القاسم بن عبد الله ضعيف. وأخرج أيضا من حديث زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دباغ جلود الميتة طهورها» .
وما رواه الطبراني في معجمه والبزار في مسنده من حديث ابن عباس قال: «ماتت شاة لميمونة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فهلا استمتعتم بإهابها فإن دباغ الأديم طهوره» . وفيه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح فيه مقال. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات.
وهذه الأحاديث كلها حجة لنا على المخالفين. وفي هذه المسألة للعلماء سبعة مذاهب:
الأول: مذهبنا وقد ذكره المصنف.
الثاني: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير، وما يتولد منهما أو من أحدهما.
الثالث: يطهر الجميع، يروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " المحيط " وهو مذهب الليث وداود.

(1/412)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرابع: كذلك ظاهره دون باطنه، يحكى عن مالك.
الخامس: ينتفع بها من غير دباغ في الرطب واليابس، يحكى عن الزهري.
السادس: يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم دون غيره، قاله الأوزاعي، وابن المبارك، وأبو ثور، وإسحاق.
السابع: لا يطهر شيء منها بالدباغ، يروى عن عمر وابنه وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهو رواية عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وعن أحمد أحاديث التابعين منها غير ما رواه الأربعة من حديث عبد الله بن عكيم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه كتب إلى جهينة قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» . وقال الترمذي: حديث حسن ورواه ابن حبان في " صحيحه ". ومنها ما رواه ابن جرير الطبري في " تهذيب الآثار " من حديث جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» .
ومنها ما رواه ابن جرير أيضا من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينتفع من الميتة بإهاب» .
ومنها: ما رواه أبو داود والترمذي وصححه «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن جلود السباع التي تفترس» .
والجواب عن حديث ابن عكيم أنه معلول بأمور ثلاثة؛ الأول: أنه مضطرب سندا ومتنا. فالأول: عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه حدثنا شيخ لنا أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كتب إليهم أن لا يستمتعوا من الميتة بشيء. رواه ابن حبان، وفي رواية حدثنا أصحابنا «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في أرض جهينة إني كنت رخصت لكم في جلدة الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب» . رواه الطبراني في " معجمه الأوسط ".
الثاني: يعني اضطراب المتن وهو ما روي قبل موته بشهر وروي بشهر أو شهرين، وقال البيهقي: وجاء في لفظ آخر قبل موته بأربعين يوما، وروي قبل موته بثلاثة أيام.
والثاني: من العلة الاختلاف في صحبته، فقال البيهقي وغيره: لا صحبة له فهو مرسل، وعن الخلال أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توقف فيه لما رأى تزلزل الرواة فيه، وقيل: إنه رجع عنه.

(1/413)


وهو بعمومه حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جلد الميتة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثالث: قال في " الإمام " عن الحكم بن عتبة الكندي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه انطلق هو وناس إلى عبد الله بن عكيم قال: فدخلوا وقعدت على الباب فخرجوا إلي وأخبروني أن ابن عكيم أخبرهم «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كتب إلى جهينة قبل موته بشهرين لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» . ففي هذه الرواية أنه سمع من الناس الداخلين عليه وهم مجهولون. وقال الخلال: وطريق الإنصاف أن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ ولكنه كثير الاضطراب، وحديث ابن عباس سماع وحديث ابن عكيم كتاب والكتاب والوجادة والمناولة كلها موقوف لما فيها من شبهة الانقطاع لعدم المشافهة، ولو صح فهو لا يقاوم حديث ابن عباس في الصحة، ومن شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة من جميع الرجحان، وغير خاف على كل جماعة الحديث أن حديث ابن عكيم لا يوازي حديث ابن عباس في جهة من جهات الترجيح فضلا عن جميعها.
والجواب عن حديث جابر أن في رواته زمعة وهو ممكن لا يعتمد على نقله. وعن حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن عامة من في إسناده مجاهيل لا يعرفون.
وأما النهي عن جلود السباع فقد قيل: إنها كانت تستغل قبل الدبغ.

م: (وهو) ش: أي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ، م: (بعمومه حجة على مالك في جلد الميتة) ش:، لأنه يقول: لا يطهر لكنه ينتفع به في الجامد من الأشياء دون المائع فيجعل جرابا للحبوب دون السمن والعسل ونحوهما، وأراد بعموم هذا النص أن الإهاب نكرة والنكرة إذا اتصفت بصفة عامة تعم، كقوله: أي عبيدي ضربك فهو حر، يعتق كلهم إذا ضربوه، تقديره أي إهاب مدبوغ فهو طاهر، وأيضا بعمومه يدل على طهارة ظاهره وباطنه فلا معنى لاستثناء باطنه.
وقال النووي: قال الماوردي يجوز هبة جلد الميتة قبل الدباغ، قال: وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجوز بيعه وهبته كالثوب النجس.
قلت: هذا سهو منه، بل لا يجوز بيع جلود الميتة قبل الدباغ ولا تمليكها، ذكره في " المحيط " و" شرح الطحاوي "، ولا يضمن بالإتلاف، ولو دبغه بالنجس صح في أحد الوجهين، ويغسل بعده عندهم وعندنا يطهر، وجلد الميتة المدبوغ مما يؤكل لحمه يحل أكله في الجديد، وكذا ما لا يؤكل لحمه في وجه ولا يحل بالذكاة.
ثم اعلم أن قوله - حجة على مالك - ليس كما ينبغي؛ لأن مالكا لا يقول بذلك، ففي " الجواهر " للمالكية أن جلد الميتة يطهر بالدباغ فهذا النقل عنه ضعيف، وإنما هذا الحديث حجة على أحمد فإن عنده جلد الميتة لا يطهر بالدباغ.

(1/414)


ولا يعارض بالنهي الوارد عن الانتفاع من الميتة بإهاب، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب» ؛ لأنه اسم لغير المدبوغ وحجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جلد الكلب،
وليس الكلب بنجس العين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يعارض) ش: على صيغة المجهول أي لا يعارض المذكور م: (بالنهي الوارد عن الانتفاع من الميتة بإهاب وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب لأنه") ش: أي لأن الإهاب م: (اسم لغير المدبوغ) ش: فإن دبغ يصير أديما فحينئذ لا معارضة بين الحديثين، لأن المعارض يقتضي اتحاد المحل مع اتحاد حالته واختلاف حالته ينفي التعارض، وإن كان أصلهما واحدا كحرمة الخمر وحل الخل.
م: (وحجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: عطف على قوله حجة على مالك، أي الحديث المذكور حجة أيضا على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول بعدم الطهارة م: (في جلد الكلب) ش: بالدباغ وقاسه الشافعي بجلد الخنزير والآدمي، وتخصيصه بالكلب ليس له زيادة فائدة؛ لأن عنده كل ما لا يؤكل لحمه لا يطهر جلده بالدباغ، والظاهر أنه إنما خص الكلب موافقة لما ذكر في " الأسرار " لأن فيه نص الخلاف بالكلب حيث قال بطهارة جلود السباع بالدباغ سوى الكلب والخنزير عند الشافعي.
وقال الأترازي: والعجب من الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقول: إن الكلب المعلم إذا أكل صيدا يحل أكله، وإن ترك على الكلاب التسمية عمدا وقت الإرسال، ثم يقول: إن جلده لا يطهر بالدباغ؛ لأنه نجس العين، فكيف جاز الانتفاع بنجس العين بلا ضرورة، وكيف جاز صيده، ومثل هذا لا يجوز في الخنزير وهو نجس العين؟
قلت: كيف يتعجب منه، وليس فيه ما يورث التعجب؛ لأن حل صيده لا يستلزم جواز دباغ جلده، وكونه نجس العين لا يستلزم تحريم صيده وكل واحد من ذلك ورد بنص مستقل ومع هذا رواية عندنا أن الكلب نجس العين وما منعنا طهارة جلده إذا دبغ؛ لأن ذلك ليس يمشي على هذا، بل على عموم النص.

[هل الكلب نجس العين]
م: (وليس الكلب بنجس العين) ش: هذا جواب عن قياس الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الكلب على الخنزير، وإن لم يذكر في الكتاب، واختلفت الروايات في كون الكلب نجس العين. ففي " المبسوط " الصحيح من المذهب عندنا عين الكلب نجسة، وقال بعض مشايخنا: ليس بنجس العين. قال في " البدائع " وهو رواية الحسن. وفي " الذخيرة " ذكره القدوري في " تجريده " أنه نجس العين عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - , وفي " العيون " روى ابن سماعة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا خير في جلد الكلب والذئب وإن دبغا ولا تحلهما الذكاة.

(1/415)


ألا ترى أنه ينتفع به حراسة؛ واصطيادا، بخلاف الخنزير؛ لأنه نجس العين إذ الهاء في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] (الأنعام: الآية 145) منصرف إليه لقربه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكاساني: والذي يدل على أنه ليس بنجس العين أنه جوز الانتفاع به حراسة واصطيادا وإجارة، وقال في " عمدة المعين ": لو استأجر الكلب للصيد يجوز، والسنور لا يجوز؛ لأن السنور لا يعلم. وقال في " التجريد ": لو استأجر كلبا معلما أو بايا صيودا ليصيد بهما فلا أجر له. وقال مشايخنا: ومن صلى وفي كمه جرو كلب تجوز صلاته، وقد حكم أبو حصير [ ... ] فدل على أنه ليس بنجس العين.
م: (ألا ترى) ش: كلمة ألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام للتنبيه والتوضيح م: (أنه) ش: أي أن الكلب م: (ينتفع به حراسة) ش: أي من حيث الحراسة سيما أهل البر م: (واصطيادا) ش: أي من حيث الاصطياد، فدل ذلك على أنه ليس نجس العين، ولا يشكل بالسرقين فإنه نجس لا محالة، وينتفع به إيقادا أو غيره؛ لأنه انتفاع بالإهلاك كالدنو من الخمر للإراقة، وهو الذي اختاره المصنف أيضا.
والذين ذهبوا إلى أنه نجس العين استدلوا بما ذكر أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " العيون " أن الكلب لو وقع في الماء فانتفض فأصاب ثوب إنسان منه أكثر من قدر الدرهم منع جواز صلاته، فسئل: إذا وصل الماء إلى جلده، ويقول محمد: ليس الميت بأنجس من الكلب والخنزير، فدل على أنه نجس العين، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي.
وقال الأترازي: لا نسلم أن نجاسته تثبت في الكلب لهذا القدر من الكلام، فمن ادعى ذلك فعليه البيان، ولم يرد نص عن محمد في نجاسة العين.
قلت: قد ذكرنا الآن عن صاحب " الذخيرة " عن القدوري أنه نجس العين عند محمد.
م: (بخلاف الخنزير) ش: متصل بقوله: إلا جلد الخنزير م: (لأنه نجس العين إذا الهاء في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ش: كلمة إذ للتعليل أي لأن الهاء هاء الضمير في قَوْله تَعَالَى: فإنه أي فإن الخنزير {رِجْسٌ} [الأنعام: 145] أي قذر قاله الفراء، وقيل: الرجس والرجز واحد. وقال البغوي: الرجس النجاسة.
م: (منصرف) ش: خبر المبتدأ وهو قوله الهاء م: (إليه) ش: أي إلى الخنزير لا إلى اللحم في قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] (الأنعام: الآية 145) م: (لقربه) ش: أي لقرب الخنزير أراد أن الضمير إلى الخنزير أقرب من اللحم.
فإن قلت: المقصود بالذكر في الكلام هو المضاف فيجب أن يرجع الضمير إليه.

(1/416)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قد يكون المضاف إليه مقصودا، وإن كان يجوز أن يعود إلى المضاف إليه، وما نحن بصدده من هذا القبيل لكونه شاملا للمضاف أشد وأحوط في العمل؛ لأن الضمير إن رجع إلى اللحم لم يحرم غيره، وإن رجع إليه يشمل الجميع.
والعجب من الأترازي أنه أخذ في الجواب عن هذا السؤال محصل كلام المصنف، ثم قال: هذا الجواب مما سنح له خاطري.
وقال: أيضا: وقيل في صرفه إلى الخنزير عمل بهما لاشتماله على اللحم، ولا ينعكس. أقول: فيه نظر؛ لأن لقائل أن يقول: لا نسلم لأن الجلد على تقدير عود الضمير إلى اللحم لا يكون نجسا، وعلى تقدير عوده إلى الخنزير يكون نجسا، وفي كون الجلد نجسا وغير نجس منافاة فيكون العمل بهما أحوط. انتهى كلامه.
أقول: قوله - وقيل: هو صاحب التوشيح -: فإني رأيت بهذه العبارة فلا أدري هل هو من عنده أو نقله عن أحد. وقوله - في كونه نجسا أو غير نجس منافاة - غير مسلم؛ لأن المنافاة إنما تكون إذا كان كونه نجسا وغير بتقدير واحد. والذي قاله القائل المذكور بتقديرين فكيف تكون المنافاة.
ثم قال الأترازي: ومما ظهر لي في فؤادي من الأنوار الربانية والأجوبة الإلهامية أن الهاء لا يجوز أن ترجع إلى اللحم؛ لأن قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] خرج في مقام التعليل، فلو رجع إليه لكن تعليل الشيء بنفسه وهو فاسد لكونه مصادرة، وهذا لأن نجاسة لحمه عرفت من قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] لأن حرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء لا للكرامة آية النجاسة فحينئذ يكون معناه كأنه قال: لحم خنزير نجس فإن لحمه نجس.
أما إذا رجع إلى الخنزير فحينئذ يكون معناه كأنه قال: لحم خنزير نجس لأن الخنزير نجس، يعني إن هذا الجزء من الخنزير نجس، لأن كله نجس. هذا هو التحقيق في الباب لأولي الألباب.
قلت: فيما قاله نظر؛ لأن دعواه بعدم جواز رجوع الضمير إلى اللحم غير صحيحة، لأن الأصل في هذا الباب رجوع الضمير إلى المضاف، وإن كان رجوعه إلى المضاف إليه صحيحا، وذلك لأن المضاف هو المقصود بالذكر كما في قولك: رأيت غلام زيد وكلمته، فإن الأصل أن يكون التكلم للغلام، فإن كان يجوز أن يكون لزيد كما في قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [الرعد: 25] (البقرة: الآية 27) فإن الضمير يجوز أن يرجع إلى كل واحد من المضاف والمضاف إليه.
ثم تعليل الأترازي بقوله: رجس خرج في مقام التعليل اهـ -، وقوله - هذا هو التحقيق في

(1/417)


وحرمة الانتفاع بأجزاء الآدمي لكرامته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا الباب - غير تحقيق لأنه إنما يلزم ما ذكره إذا جزم بعود الضمير إلى المضاف، وقد قلنا: إنه يجوز الأمران، والتحقيق في هذا الباب أن يكون التقدير في الضمير - فإن كل واحد من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجس أي نجس - فيكون هذا تعليلا لقوله: محرما، فبين بذلك أن هذه الأشياء حرام لأنها نجسة، لأنه لو لم يذكر {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] لما كان يلزم من صدر الكلام النجاسة لهذه الأشياء؛ لأن الحرمة لا تستلزم النجاسة.
فإن قلت: فعلى هذا يلزم اقتصار النجاسة في الخنزير على لحمه.
قلت: الأمر كذلك فإنه قال: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] والطعم لا يكون إلا في اللحم دون غيره وهو المطلوب.
فإن قلت: فعلى هذا يجوز استعمال جلده بالدباغ واستعمال شعره.
قلت: أما جلده فقد اختلف فيه، هل قبل الدباغ أم لا، فقد قال بعضهم: إنه يقبل، فعلى هذا يطهر بالدباغ، وهو مذهب الليث وداود ورواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال بعضهم: إنه لا يقبل، فعلى هذا لا يطهر بالدباغ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى عن قريب.
وأما شعره فإنه جزء ما هو نجس بعينه، وللجزء حكم الكل غير أن محمدا أباح الانتفاع به للخرازين والأساكفة للضرورة لأن في تنجيسه حرجا.
وقوله: لأن نجاسة لحمه عرفت بالنص من قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] (الأنعام: الآية 145) ليس كذلك لأن بالنص ما عرف إلا حرمة لحمه، ونجاسته عرفت من الضمير الراجع إلى كل واحد من الأشياء الثلاثة قررناه فافهم، فإنه موضع دقيق.
وقوله - لأن حرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء لا لكرامته آية النجاسة - ينتقض بلحم الفرس لأنه حرام عند أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله - مع صلاحيته للغذاء مع أنه غير نجس.
فإن قلت: حرمته للكرامة. قلت: لا نسلم ذلك، وإنما حرمته لكون أكله سببا لقتله لأنه آلة الجهاد، ولأن الله تعالى امتن علينا بكونه مركوبا ولم يمتن بكونه مأكولا مع أن نعمة الأكل فوق نعمة الركوب.

[الانتفاع بأجزاء الآدمي]
م: (وحرمة الانتفاع بأجزاء الآدمي لكرامته) ش: يتعلق بقوله: أو الآدمي، والمعنى بخلاف جلد الخنزير فإنه لا يطهر بالدباغ لنجاسة عينه، ولجد الآدمي لكرامته؛ لأن الله تعالى كرمه، وفي استعمال جلده ابتذال له، هكذا قرره الشيخ الأكمل. وأنا أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لما خرج جلد الآدمي عن حكم الدباغ بقوله: إلا جلد الآدمي كان ينبغي أن يجوز الانتفاع ببقية أجزائه مثل شعره وعظمه وعصبه وغير ذلك، فأجاب عن ذلك بقوله:

(1/418)


فخرجا عما رويناه،
ثم ما يمنع النتن والفساد فهو دباغ وإن كان تشميسا أو تتريبا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحرمة الانتفاع اه.
م: (فخرجا) ش: أي جلد الآدمي وجلد الخنزير، م: (عما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ، ومراده خرجا عن عموم هذا الحديث، ثم خروجهما عنه بالكتاب، فإن كان متأخرا عن الحديث، فهو ناسخ لا محالة، وإن كان متقدما عليه فخبر الواحد لا يعارضه فضلا عن أن ينجس، وإن كان معارضا كان مخصصها.
والذين ذهبوا إلى طهارة جلد الآدمي والخنزير بالدباغ لم يخرجوهما عن عموم هذا الحديث، غير أنهم منعوا استعمال جلد الآدمي لكرامته. ونقل ابن حزم إجماع المسلمين على تحريم جلد الآدمي واستعماله. وعند الشافعي: الآدمي لا ينجس بالموت، وفي قول: نجس ويطهر جلده بالدباغ في أحد الوجهين، لكن المقصود لما لم يحصل به اشتباه.

م: (ثم ما يمنع النتن) ش: بفتح النون وسكون التاء المثناة من فوق وهو الرائحة الكريهة يقال: نتن الشيء بضم النون وانتن بمعنى فهو منتن بضم الميم، ومنتن بكسرها اتباعا لكسرة التاء؛ لأن مفعلا بالكسر ليس من الأبنية.
م: (والفساد) ش: وهو ضد الصلاح قاله الليث، والمراد هنا ما يمنع ضد صلاحية استعمال الجلد الغير المدبوغ، وهو أعم من النتن وغيره.
فإن قلت: هو مصدر أم اسم؟ قلت: مصدر من فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا وهو فاسد وهو من باب نصر ينصر. وقال ابن دريد: فسد يفسد مثل عقد يعقد لغة ضعيفة وكذلك فسد بضم السين فسادا فهو فاسد.
م: (فهو دباغ) ش: جملة اسمية، وهو خبر المبتدأ وهو قوله: ما يمنع، ولتضمين الابتداء معنى الشرط دخلت الفاء في الخبر م: (وإن كان) ش: أي وإن كان ما يمنع النتن والفساد، وإن واصلة بما قدمنا فلذلك لا يذكر لها الجواب ظاهرا م: (تشميسا) ش: من شمست الشيء بتشديد الميم إذا وضعته في الشمس، يقال: شيء مشمس أي عمل في الشمس، والمراد هنا أن يبسط الجلد في الشمس لتشمس منه الرطوبة التي فيه وتزول عنه الرائحة الكريهة بذلك؛ لأنه دباغ حكمي، والدباغ على نوعين: حقيقي وحكمي على ما نذكره عن قريب.
م: (أو تتريبا) ش: من تربت الإهاب تتريبا إذا ترب عليها التراب أزالت ما عليه من الرطوبة والرائحة الكريهة، وكذلك يقال: تربته متربا بالتخفيف، ويقال أيضا: أتربت الشيء إذا جعلت عليه التراب، ومنه الحديث: أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة. وقال الصاغاني: قال ابن روح: كل ما يصلح فهو متروب وكل ما يفسد فهو متروب مشددا.

(1/419)


لأن المقصود يحصل به فلا معنى لاشتراط غيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: فعلى قوله ينبغي أن يقال: أو متربا ولا يقال أو تتريبا، ولكن المشهور ما ذكرناه أولا.
م: (لأن المقصود يحصل به) ش: أي ما يمنع النتن والفساد م: (فلا معنى لاشتراط غيره) ش: نحو القرظ بالظاء المعجمة، والعفص والشث بفتح الشين المعجمة والثاء المثلثة وهو نبت طيب الرائحة كذا ذكره الجوهري وغيره.
وقال الأزهري: هو بالباء الموحدة هو ما يدفع به بعد الزاج وهو السماع، وقد صحفه بعضهم بالمثلثة وهو شجر لا أدري أيدبغه أم لا، وتابعه صاحب " الشامل " أو [ ... ] وفي تعليق الشيخ أبي حامد، قال أصحابنا: بمثلثة، وقال الشافعي: بالموحدة، وقد قيل الأمران وبأيهما كان فالدباغ به حاصل، وصرح القاضي خان أبو الطيب في تعليقه ما يجوز بهما، ولا ذكر له في حديث الدباغ، وإنما هو من كلام الشافعي.
وقال الصاغاني: الشب بالباء الموحدة منه الزاج والشث بالمثلثة نبت طيب الريح مر الطعم يدبغ به، قال الدينوري: أخبرني أعرابي من أزد السراة قال: الشث شجر مثل شجر التفاح في القدر، ورقه يشبه ورق الخلاف، ولا شوك له، وله تومة موردة، ويستقر به ذرة صغيرة فيها ثلاث حبان، وربع سود مثل الربعة يرعاه الجمال إذا يبس.
قالوا: والإبل تأكل الشث فتحصب عليه ويدبغ بورقه، ويساق بأغصانه وتعالج بفروعه الرطبة من الريح يأخذ في الجسد ويضمد به للكسير يجبر وهو مر ينبت في السهل والجبل وأكثره ينبت بجبال الفراهيد. وقال أبو عيسى البكري: الشث كأنه شجر المدبان.
ثم اعلم الدباغ على نوعين: حقيقي كالقرظ ونحوه، وحكمي كالمترب والمشثت والمشمس والإبقاء في الريح، ولو جف ولم يستحل لم يطهر، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان يمنع من الفساد فهو دباغ ذكره في " المحيط " وهما سواء؛ لأنه يعود نجسا إذا أصابه ماء فإن في الحكمي روايتين.
وقال في " الدراية " قول صاحب " الهداية ": فلا معنى لاشتراط غيره نفى قول الشافعي، فإن عنده لا يكون الدباغ إلا بما تزول به الرسوبات عنه، وذلك باستعمال القرظ والعفص ونحوهما؛ لأنه طهارة شرعية فيقتصر على مورد الشرع، والشرع ورد بالدباغ بالمتقوم كالقرظ والعفص دون غيرهما من التراب والشمس. انتهى.
وقال أبو العباس الجرجاني من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " التحرير ": يجوز الدباغ بالتراب، ورجحه إمام الحرمين بحصوله بالملح. وقال القاضي أبو الطيب: ولا يكفي فيه الشمس، نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي وجه يجوز، حكاه الرافعي، وبه قطع الجمهور،

(1/420)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفيه وجه شاذ تحصل به. وقال القاضي خان: ولم أر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا نصا، والمرجع في ذلك إلى أهل الصنعة، فإن كان للتراب والرماد هذا الفعل جعل الدباغ منهما.
وأما الملح فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يحصل الدباغ به، وبه قطع صاحب " الشامل "، وقطع إمام الحرمين بالحصول، وفي " الحلية " قال أبو نصر: سمعت بعض أصحابنا أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إنما يطهر الإهاب بالشمس إذا علمت به عمل الدباغ، وهذا يرفع الخلاف.
وفي جواز بيع الجلد بعده له قولان أصحهما وهو الجديد أنه يجوز وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قوله القديم: لا يجوز وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ثم إن الشافعي احتج فيما ذهب إليه بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «مر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاة ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقال: "هلا استنفعتم بإهابها" فقالوا: إنها ميتة، قال: "إنما حرم أكلها إذ ليس في الماء والقرظ ما يطهره» . رواه الدارقطني والبيهقي. وقال النووي: هذا حديث حسن، ورواه أبو داود والنسائي في " سننيهما " بمعناه عن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «مر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجال يجرون شاة لهم مثل الحمار فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يطهره الماء والقرظ» .
ولنا ما أخرجه الدارقطني عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استمتعوا بجلود الميتة إذا هي دبغت ترابا كان أو رمادا أو ملحا أو ما كان بعد أن يزيد صلاحه» ". وقال محمد في كتاب " الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد عن إبراهيم قال: كل شيء يمنع الجلد من الفساد فهو دباغ، وهذا يتناول المشمس والمترب.
وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي احتج به الشافعي لا يقتضي الاختصاص بل المراد به ما في معناه بالإجماع، والمرجع في ذلك إلى أهل الصنعة، نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما ذكرنا.
فإن قيل: في رواية حديث عائشة الذي احتج به معروف بن حسان، قال أبو حاتم: هو مجهول، وقال ابن عدي: منكر الحديث، قلت: الذي ورد في الصحيح من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" قالوا: إنها ميتة قال: "إنما حرم أكلها» . وقوله: فدبغتموه أعلم من أن يكون الدباغ حقيقيا أو حكميا فبعموم هذا يخص حديث عائشة المذكور، ثم عندنا يجوز بيع الجلد المدبوغ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «هلا أخذتم جلدها فدبغتموه وانتفعتم به» ، البيع من وجوه الانتفاع فجاز بيعه كالذكاة وهو قول جمهور العلماء.

(1/421)


ثم ما يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة؛ لأنها تعمل عمل الدباغ في إزالة الرطوبات النجسة، وكذلك يطهر لحمه وهو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الماوردي والروياني: إذا جوزنا بيعه جاز رهنه وإجارته، وإن لم يجز بيعه ففي جواز إجارته وجهان كالكلب المعلم. وقيل: تجوز إجارته قطعا، وإنما القولان في بيعه ورهنه.
وأما بيعه قبل الدباغ فباطل عندنا وعند جماعة من العلماء، وحكى النووي عن أبي حنيفة جوازه كالثوب النجس، وهذا سهو منه فإن مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عدم جواز بيع جلود الميتة قبل الدباغ، ذكره في " المحيط " وفي " شرح الطحاوي ".
وفي جواز أكل الجلد المدبوغ من حيوان لا يؤكل لحمه قولان للشافعي في القديم، وطائفة منهم صححوا قول الجديد.

[ما يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة]
م: (ثم ما يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة) ش: الحاصلة من الأهل بالتسمية، فإن ذكاة المجوسي ليست بمطهرة. وقال في " البدائع ": إلا الدم وهو الصحيح من المذهب. وروى الدارقطني عن ابن عباس «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مر بشاة ميمونة فقال: "هلا استمتعتم بجلدها" قالوا: يا رسول الله إنها ميتة قال: "إن دباغها ذكاتها في حق الجلد» فعلمنا أن الذكاة هي الأصل في الطهارة، وأن الدباغ قائم مقامها عند عدمها، ولأن الذكاة أبلغ من الدباغ؛ لأنها أسرع للدماء والرطوبات قبل التشوب والفساد بالموت، والعادة الفاشية بين المسلمين لبس جلد الثعلب والفهد والنمور والسنجاب ونحوها في الصلاة وغيرها من غير نكير، فدل على طهارته.
وفي " النهاية " وعند بعضهم: إنما يطهر جلد الحيوان بالذكاة إذا لم يكن سؤره نجسا. وذكر في " فتاوى قاضي خان " قيل: يشترط أن يكون الذكاة من أهلها في محلها وهو ما بين اللبة واللحيين، وقد سمي بحيث لو كان مأكولا ليحل أكله بتلك الذكاة. م (لأنها) ش: أي لأن الذكاة، وإنما ذكر الضمير لأن الذكاة بمعنى الذبح، وفي بعض النسخ فإنها ولا يحتاج إلى التأويل م: (تعمل عمل الدباغ في إزالة الرطوبات النجسة) ش: لأنه يمنع من اتصالها به والدباغ يزيل بعد الاتصال، ولما كان الدباغ بعد الاتصال مزيلا ومطهرا كانت الذكاة المانعة من الاتصال أولى أن يكون مطهرا م: (وكذلك يطهر لحمه) ش: أي لحم ما ذكي حتى إذا صلى ومعه من لحم الثعلب المذبوح أو نحوه أكثر من قدر الدرهم جازت صلاته م: (وهو الصحيح) ش: أي الحكم بطهارة لحمه هو الصحيح، واحترز به عما قال في " الأسرار " وغيره أنه نجس.
قلت: قد اختلف أصحابنا في طهارة لحمه وشحمه، فقال الكرخي: كل حيوان يطهر جلده

(1/422)


وإن لم يكن مأكولا وهو الصحيح. وشعر الميتة وعظمها طاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالدباغ يطهر بالذكاة، فهذا يدل على أنه يطهر شحمه ولحمه وسائر أجزائه. وقال بعض المشايخ: يطهر جلده لا غير. منهم نصر بن يحيى والفقيه أبو جعفر، والأول أقرب للصواب.
وقال في " المفيد ": هو الصحيح، وتظهر فائدة ذلك لو وقع في الماء هل يفسده أم لا؟ وهل يجوز له حمله إلى طيوره وكلابه ليطعمها أم لا؟ ولو صلى معه هل تجوز صلاته أم لا؟ وذكاة الآدمي كموته حتف أنفه، وذكر الناطفي إذا صلى ومعه من لحم السباع أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته، وإن كان مذبوحا، وفي " فتاوى قاضي خان ": ولو وقع في الماء أفسده.
م: (وإن لم يكن مأكولا) ش: واصل بما قبله أي: وإن لم يكن الحيوان المذبوح غير مأكول، وفي " البدائع ": الذكاة تطهر المذكى بجميع أجزائه إلا الدم المسفوح م: (وهو الصحيح) ش: وفي " الكافي ": اللحم نجس في الصحيح وكلامه هنا مخالف لما ذكر في الدباغ. قال صاحب " النهاية ": قوله - وكذلك يطهر لحمه - في هذه الرواية نوع ضعف لما أن حرمة أكل اللحم فيما سوى الآدمي ولم يتعلق به حق العباد دليل النجاسة، ولزمهم طهارة الجلد لاتصال اللحم به.
وأجابوا بأن بين الجلد واللحم جلدة تمنع مماسة اللحم الجلد الغليظ فلا ينجس، وبه أخذ المحققون من أصحابنا منهم الناطفي وشيخ الإسلام خواهر زاده وقاضي خان. وفي " الخلاصة ": هو المختار وفيه نظر؛ لأنها متوهمة وعلى تقدير تحقيقها فإما أن تكون طاهرة أو تكون نجسة، فإن كانت متصلة باللحم فليس يتصور أن تكون طاهرة واللحم نجس فيكون نجسا، والجلد الغليظ متصل به أيضا؛ لأنه لا يجيء عند السلخ بين الجلد واللحم أمر ثالث فلا تكون طاهرا، لكن الفرض أنه طاهر، وإن كانت متصلة بالجلد فليس يتصور أن تكون نجسة والجلد طاهر فتكون طاهرة واللحم متصل به اتصالا فكيف يكون نجسا، وهذا هو الذي حمل المصنف على تصحيح رواية تطهير اللحم وبه قال مالك. وفي " القنية ": قال الكرابيسي والقاضي عبد الجبار: مجوسي ذبح حمارا قيل: لا يطهر والصحيح أنه يطهر ولو ذبحه مسلم ولم يسم قال أبو حاتم الشهيد: لا يطهر.

[الأعيان الطاهرة]
[شعر الميتة وعظمها طاهر]
م: (وشعر الميتة وعظمها طاهر) ش: وكذا جميع أجزاء الميتة التي لا دم فيها إن كانت صلبة كالقرن والسن والظلف والحافر والخف والوبر والصوف والعصب في رواية، وفي رواية: نجس، والريش والأنفخة الصلبية والأجنحة الصلبية، وأما المائعة واللبن فكذلك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما نجس.
وذهب عبد العزيز والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق، والمزني، وابن المنذر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلى أن الشعر والصوف والوبر والريش طاهرة لا تتنجس بالموت كمذهبنا،

(1/423)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والعظم والقرن والظلف والسن نجسة.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الكل نجس إلا الشعر فإنه فيه خلافا ضعيفا، وفي العظم أضعف منه، قال القاضي أبو الطيب وآخرون: الشعر والصوف والوبر والعظم والقرن والظلف تحلها الحياة وتنجس بالموت هذا هو المذهب وهو الذي رواه البويطي والربيع المرادي وحرملة، وروى المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي.
قال النووي: أما شعر الآدمي فقيه قولان: أشهرهما عنه أنه نجس، والثاني: وهو المنصوص في "الجديد" أنه طاهر، واتفق الأصحاب أن المذهب أن شعر الآدمي وصوفه ووبره وريشه نجس بالموت.
واختلفوا في الراجح في شعر الآدمي فالذي صححه الجمهور من العراقيين نجاسته، والذي صححه جميع الخراسانيين أو جماهيرهم طهارته، فهذا هو الصحيح، فقد صح عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجوعه عن نجس شعر الآدمي، وأما شعر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -[......] إساءة الأدب والجرأة في الإقدام بهذا الذكر الشنيع في حق هذا الجناب الرفيع، وفي اعتقادي أن مثل هذا كاد يكون كفرا، وأنا كنت أنزه نفسي عن إيراد هذه القضية السخيفة في هذه المواضع، ولكني ذكرته ليقف عليه من لم يخطر علمه به، ويعلم أن المذهب الحق منه هو الدين الحنفي، والذي رسخت في قلوبهم قواعد الدين إجلال قدر هذا النبي الكريم حكموا بطهارة فضلات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكيف بشعره الطاهر المطهر، فنسأل الله البعد عن الزيغ والضلال.
واحتج الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ذهب إليه بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] (الأنعام: الآية 145) وهو عام للشعر وغيره، فإن الميتة اسم لما فارقه الروح بجميع أجزائه. ولهذا لو حلف لا يمس ميتة فمس شعرها حنث، وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من الحي فهو ميت» .
والجواب عن الآية أن الميتة عبارة عما فارقه الحياة بلا ذكاة، والشعر ونحوه لا حياة لها بدليل عدم الألم بالقطع، فكيف يتصور أن يكون ميتة. ويقال أيضا: لم لا يجوز أن يكون المراد في الآية حرمة الأكل، فلا نسلم حرمة الانتفاع؟
والجواب عن الحديث أنه ليس على عمومه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] (النحل: الآية 80) ، وهذا امتنان عام، وذلك لا يكون بالنجس، ولما

(1/424)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
روي عن ابن عباس أنه قال: إنما حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الميتة لحمها، فأما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به، رواه الدارقطني.
ولما روي عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوجة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء» رواه الدارقطني أيضا.
فإن قلت: في إسناد الحديث الأول عبد الجبار بن مسلم قال الدارقطني: ضعيف، وفي الحديث الثاني يوسف بن أبي لهيعة، قال الدارقطني: هو متروك.
قلت: ابن حبان ذكر عبد الجبار المذكور في " الثقات "، وأما يوسف فإنه لا يؤثر فيه بالضعف إلا بعد بيان جهته والجرح المبهم غير مقبول عند الحذاق من الأصوليين وهو كان كاتب الأوزاعي، ومما يؤكد ما قلنا أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس وهو حديث متفق عليه، وهذا يدل على طهارة الشعر المبان.
قالوا: على القول بالنجاسة إنما قسم الشعر للتبرك وقد يكون بالنجس، وهذه التكلفات البعيدة مما يؤدي إلى ارتكاب الإثم الكبير والخطأ العظيم الذي ليس وراءه إلا الباطل المحض، وقالوا أيضا: إن الذي أخذه كل واحد كان يسيرا معفوا عنه.
قلنا: هذا أفحش من الأول؛ لأن فيه إشارة إلى الحكم بالتنجيس على ما لا يخفى، ونحن أيضا نحتج في طهارة عظم الميتة بحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امتشط بمشط من عاج» . أخرجه البيهقي في " سننه " ثم قال: رواية بقية عن شيوخه المجهولين ضعيفة.
قلت: لا نسلم أن بقية رواه عن مجهولين، فإن رواه عن عمرو بن خالد عن قتادة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونحتج أيضا بما رواه أبو داود في " سننه " بإسناده عن حميد الشيباني عن سليمان بن المنبهي عن ثوبان مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال له: «اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج» . وأخرجه أيضا الطبراني في "مسنده " وابن عدي في " كامله " ومحمد بن هارون في " مسنده ".

(1/425)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قال ابن الجوزي: حميد سليمان مجهولان، وقال في " التنقيح " وحميد الشامي ذكره ابن عدي، وقال: إنما عليه هذا الحديث ولا أعلم له غيره.
قلت: روي عن حميد سالم المرادي وصالح بن صالح بن حميد وغيلان بن جامع ومحمد بن جحادة فانتفت جهالته، وأما سليمان فإن ابن حبان ذكره في " الثقات ".
ونحتج أيضا بما رواه أبو بكر الهذلي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها» ، فأما الجلد والشعر والوبر والصوف والعظم والسن فكل هذا حلال؛ لأنه لا يذكى أخرجه الدارقطني ثم قال: الهذلي ضعيف.
قلت: ذكر في " الإمام " أن غير الهذلي أيضا رواه، فإن قلت: روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ادفنوا الأظلاف والدم والشعر فإنه ميتة» . قلت: هذا رواه البيهقي من جهة ابن أبي رواد وقال: هذا إسناد ضعيف.
ثم اعلم أن العاج جمع عاجة. قال الجوهري: العاج عظم الفيل، وكذا قال في " العباب "، ثم قال: والعاج أيضا الذبل وهو ظهر السلحفاة البحرية. قال الأزهري: لم يرو في حديث ثوبان العاج ما يخرط من أنياب الفيلة ولأن أنيابها ميتة، وإنما العاج الذبل.
وقال في " العباب ": الذبل ظهر السلحفاة البحرية يتخذ منه السوار والخاتم وغيرهما، قال جرير بن قيس الحوالي:
حوتا بكسرها لها مسكا ... من غير عاج ولا ذبل,
فهذا يدل على أن العاج غير الذبل، وكذا قال الجوهري: المسك؛ السوار من عاج أو ذبل والواحدة مسكة فدل على أن العاج غير الذبل.
وكذا قال الجوهري المسك: السوار من عاج أو ذبل والواحدة مسكة فدل على أن العاج غير الذبل.
وقال الخطابي: العاج الذبل وهو خطأ. وفي " المحكم ": والعاج أنياب الفيلة، ولا يسمى غير الناب عاجا. وحكى الأزهري عن النضر بن شميل: المسك من الذبل ومن العاج كهيئة السوار تجعله المرأة في يديها، وقال: والذبل القرون فإذا كان من عاج فهو مسك لا غير.
قلت: الذبل بفتح الذال المعجمة وسكون الباء الموحدة، والمسك بفتح الميم والسين المهملة.
م: (وقال الشافعي: نجس لأنه من أجزاء الميتة) ش: أي لأن كل واحد من الشعر والعظم من أجزاء الميتة، والميتة نجسة بجميع أجزائها ولو جز شعر أو صوف أو وبر من مأكول اللحم في حال حياته.

(1/426)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نجس لأنه من أجزاء الميتة، ولنا أنه لا حياة فيهما، ولهذا لا يتألم بقطعهما فلا يحلهما الموت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال إمام الحرمين: القياس نجاسته، لكن الإجماع على طهارته، وإن كان نحر مجوسي وإن الفضل ذلك ينتف بنفسه فهو نجس على وجه، ولا يطهر إلا المجزور وفي وجه: إن سقط بنفسه فطاهر وإن نتف فنجس. م: (ولنا أنه لا حياة فيهما) ش: الضمير في أنه ضمير الشأن، وفي فيهما يرجع إلى أجزاء الميتة م: (ولهذا لا يتألم بقطعهما) ش: أي ولأجل عدم الحياة في أجزاء الميتة لا يتألم الحيوان بقطع هذه الأجزاء، ألا ترى أنه إذا قص ظلفه أو حافره أو نشر قرنه لا يؤثر لا يؤثر فيه م: (فلا يحلهما الموت) ش: هذا حجة المدعي وأصل القضية يرجع إلى قولنا: هذا الشيء لا حياة فيه؛ لأنه لا يتألم بقطعه، وكل ما لا يتألم بقطعه لا حياة فيه، فهذا الشيء لا حياة فيه، وأما كونه طاهرا أو غير طاهر على الاختلاف، فهو حكم يترتب عليه. وفي " المبسوط ": هذا الاختلاف بناء على أن لا حياة للشعر والعظم عندنا.
وقال الشافعي: فيهما حياة، وقال مالك: في العظم حياة دون الشعر، وعن مالك: إذا ذكي الفيل فعظمه طاهر، وأورد بأن الحيوان يتألم بكسر العظم فيكون فيه الحياة، وأجيب بأن تألمه بذلك للاتصال باللحم.
فإن قيل: قال الله تعالى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] (يس: الآية 78) يدل على حصول الحياة فيها. وأجيب بأن هذا مثل قَوْله تَعَالَى: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] فلا يدل على سبق الحياة فيها، والمراد به أصحاب العظام بإنبات اللحم عليها وفطرتها وإعادة الأرواح إلى الأجساد، فلا يدل على حقيقة حياة العظم.
وقال صاحب " الكشاف ": يردها غضة رطبة في بدن حساس أو يكون إحياؤها في الآخرة، فعليه يجعل الحياة في نفس العظم وأحوال الآخرة لا تضاهي أحوال الدنيا.
فإن قلت: نفس هذه الأجزاء ميتة فتكون نجسة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] (المائدة: الآية 3) ، قلت: الميتة عبارة عما فارقته الحياة بلا ذكاة، وهذا الأشياء لا حياة فيها لما بينا، والمراد من الآية حرمة الأكل، فلا يلزم من ذلك حرمة الانتفاع، والدليل عليه حديث ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المذكور فيما مضى.
فإن قلت: في هذه الأشياء رطوبة، قلت: نحن نقول بنجاستها، فإذا غسلت وأزيل عنها الدم المتصل والرطوبة النجسة طهرت.
فإن قلت: الشعرة تنمو بنماء الأصل.

(1/427)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا النماء لا يدل على الحياة الحقيقية كما في النبات والشجر، قولك: ينمو بنماء الأصل غير مسلم؛ لأنه قد ينمو مع نقصان الأصل، كما إذا ذهل الحيوان بسبب مرض وطال شعره، وفي " النهاية " وبين الناس كلام في السن أنه عظم أو طرف عصب يابس، فإن العظم لا يحدث في البدن بعد الولادة، وتأويل قَوْله تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ} [يس: 78] (يس: الآية 78) النفوس. وفي العصب روايتان في إحداهما فيه حياة لما فيه من الحركة، وينجس بالموت، ألا ترى أنه يتألم الحي بقطعه بخلاف العظم. انتهي.
فإن قلت: إذا طحن سن الآدمي مع الحنطة لا يؤكل.
قلت: ذلك لحرمة الآدمي لا لنجاسته. وفي " فتاوى قاضي خان ": إذا صلى وفي عنقه قلادة فيها سن كلب أو ذئب تجوز صلاته. ولو صلى ومعه جلد حية أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته وإن كانت مذبوحة لأن جلدها لا يحتمل الدباغ، فلا تقوم الذكاة مقام الدباغ.
وأما قميص الحية ففيه اختلاف المشايخ، قيل: إنه نجس، وقيل: إنه طاهر، ذكره الحلوائي، وأشار إلى أن الصحيح أنه طاهر، فإن عين الحية طاهر حتى لو صلى ومعه حية غير ميتة يجوز، فإذا كان عينها طاهرا كان قميصها طاهرا.
ولو صلى ومعه لحم آدمي مذبوح أكثر من قدر الدرهم جازت صلاته بخلاف الثعلب؛ لأن ما كان سؤرها نجسا لا يطهر لحمه بالذكاة، وما كان طاهرا يطهر، ولو خرجت البيضة من الدجاجة الحية فوقعت في الماء، قيل: إن كانت يابسة لا يفسد الماء مطلقا ما لم يعلم أن عليها قذرا؛ لأن رطوبة المخرج ليست بنجسة. فلهذا قالوا بأن مجرى البول طاهر حتى يطهر موضع المني بالفرك. وفي " الذخيرة ": أسنان الكلب طاهرة إذا كانت يابسة، ولو صلى معها جازت صلاته، وأسنان الإنسان نجسة إذا سقطت ولو صلى معها لا تجوز.
وحكى الفقيه أبو جعفر عن بعض المتقدمين من أصحابنا أن من أثبت مكان أسنانه أسنان كلب تجوز صلاته، وأسنان الآدمي لا تجوز صلاته، وهذا غريب، والفرق أن الكلب تقع عليه الذكاة فعظمه طاهر، بخلاف الآدمي والخنزير، عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - سن الإنسان طاهر في حق نفسه نجس في حق غيره حتى لو أثبتها في مكانها جازت صلاته، ولو أثبت سن غيره لا يجوز، ولو جر السن تنجس لم يجز كمن أثبته ونزعه؛ لأنه صار باطنا خلفة وسقط حكم نجاسته.
ودم الشهيد ما دام عليه فهو طاهر تجوز الصلاة عليه معه، فإذا زال صار نجسا. وماء فم الميت قيل: نجس، وماء فم النائم: طاهر عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وعليه الفتوى.

(1/428)


إذ الموت زوال الحياة،
وشعر الإنسان وعظمه طاهر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نحبس لأنه لا ينتفع به، ولا يجوز بيعه، ولنا أن عدم الانتفاع به والبيع لكرامته، فلا يدل على نجاسته، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ونافجة المسلك إن كانت بحال لو أصابها الماء لم يفسد فهي طاهرة، والأصح أنها طاهرة بكل حال ذكرها في " الذخيرة "، هذا إذا كانت من الميتة ومن المذكاة طاهرة. ومرارة كل شيء كبوله، ولحم السباع لا يطهر بالذكاة؛ لأن سؤرها نجس هو الصحيح، بخلاف البازي ونحوه لطهارة سؤره، ذكر هذه كلها ظهير الدين المرغيناني.
م: (إذ الموت زوال الحياة) ش: كلمة "إذ" للتعليل، وهذه إشارة إلى أن بين الحياة والموت تقابل العدم والملكة. وقال السغناقي: قال شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا تعريف بلازم المسمى لا بنفس المسمى، بل الموت أمر وجودي يلزم منه زوال الحياة، قل تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] (الملك: الآية 2) وما يدخل تحت الخلق فهو أمر وجودي، وقيل: الموت معنى تزول به الحياة، وقيل: فساد بنية الحيوان.
وقيل: عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة. قال تاج الشريعة: قوله: إذ الموت زوال الحياة - هذا طريق مجازاة الموت حقيقة حاله يلزم منها زوال الحياة؛ لأنه أمر وجودي قال الله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] (الملك: الآية 2) .
فإن قلت: الموت صفة وجودية بما ذكرنا والمخلوق لا يكون عدما. قلت: المراد بالخلق التقدير والعدم مقدر.

[شعر الإنسان وعظمه]
م: (وشعر الإنسان وعظمه طاهر) ش: كان يقتضي التركيب أن يقال: طاهران، ولكن التقدير وشعر الإنسان طاهر وعظمه طاهر. وعن محمد في نجاسة شعر الآدمي روايتان بنجاسته أخذ إمام الهدى أبو منصور الماتريدي وبطهارته أخذ الفقيه أبو جعفر والصفار واعتمدها الكرخي في كتابه وهو الصحيح، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد مضى الكلام فيه مفصلا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نجس لأنه لا ينتفع به ولا يجوز بيعه) ش: وروى المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي. وفي " الحلية " شعر الإنسان طاهر إذا قلنا: إنه لا ينجس بالموت في أصح القولين، وإن قلنا: إنه ينجس به لا.
م: (ولنا أن عدم الانتفاع به والبيع لكرامته) ش: أي لأجل كرامته؛ لأن الآدمي مكرم بالنص والضمير في به يرجع إلى الشعر، وفي كرامته يجوز أن يرجع إلى الشعر أيضا، ولكونه مكرما بكرامة صاحبه، ويجوز أن يرجع إلى الإنسان وهو الظاهر.
م: (فلا يدل على نجاسته) ش: أي الفاء للنتيجة أي حرمة الانتفاع به إذا كانت لأجل كونه

(1/429)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مكرما فلا تدل على نجاسته، وكذا البيع، ولأن فيه ضرورة وبلوى، فإنه متى حلق الرأس أو مشط اللحية لا بد من أن يتناثر على بعض شعوره فيلتصق به، فلو منع ذلك جواز الصلاة لضاق الأمر على الناس.
والدليل على أن فيه ضرورة وبلوى ما حكي أن ضيفا نزل على الشافعي فدفع له [......] يشتري له الباقلاء الرطبة، فاشترى ثم حلق رأسه، ثم قام يصلي، فقال له الضيف: أليس هذا على مذهبك لا يجوز؟ فقال: نعم، لكن إذا اضطررنا في شيء انحططنا إلى قول العراقيين فثبت أن فيه ضرورة.

(1/430)