البناية شرح الهداية

فصل ويكره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: نهى عن ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل ويكره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء]
م: (فصل) ش: قد ذكرنا أن قولهم فصل لا يكون معربا؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، ولكن التقدير: هذا فصل في بيان الكراهة خارج الصلاة؛ لأنه لما فرغ من بيانها في الصلاة شرع في بيانها في خارجها.
م: (ويكره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء) ش: قد ذكرنا أن مثل هذه الواو تسمى واو الاستفتاح أو هي للعطف على ما قبله، وقوله فصل معترض بينهما واستقبال القبلة هو التوجه إليها، والخلاء ممدود بيت التغوط والمقصود النبت، ومنه الحديث ألا لا يختلى خلاها أي لا يقطع نبتها وهذه المسألة من خواص مسائل " الجامع الصغير "، وفي استقبالها بالفرج واستدبارها أربعة أقوال لأهل العلم.
الأول: أنه يحرم استقبالها واستدبارها في الصحراء والبنيان، وهو قول أبي أيوب الأنصاري، واسمه خالد بن زيد النجاري شهد بدرا ومات في زمان معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سنة خمسين وقيل: سنة اثنتين وخمسين بأرض قسطنطينية، وقول مجاهد والنخعي والثوري وأبي ثور ورواية عن أحمد.
القول الثاني: أنه حرام في الصحراء جائز في البنيان بشرط أن يكون بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع فما دونها وارتفاعه قدر مؤخرة الرحل، فهو حرام، إلا أن يكون في بيت مبني لذلك فلا حرج فيه، وكذا لو ستر في الصحراء بشيء من ذلك، قال الثوري: وهذا قول العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر والشعبي ومالك والشافعي ورواية عن أحمد.
قلت: هذا الإطلاق عن الثوري خطأ؛ لأنه لا يمكنه بعد الشرطين اللذين شرطهما لمذهبه عنهم مع أنهما لا أصل لهما ولا نص عليهما دليل شرعي.
والقول الثالث: يجوز ذلك فيهما، وبه قال عروة بن الزبير وربيعة وداود.
والقول الرابع: يحرم استقبالها فيه.
وهذا القول ذكره المصنف غير أنه روى عن أبي حنيفة عدم منع الاستدبار، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن ذلك) ش: حديث النهي أخرجه الأئمة الستة في الطهارة عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا

(2/466)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا» وأخرجه الجماعة أيضا غير البخاري «عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قيل له علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة‍! فقال: " أجل لقد نهانا عن أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ... » الحديث، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ لمسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا «إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» .
وفي حديث آخر أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أبي زيد عن معقل بن أبي معقل الأسدي «نهى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن نستقبل القبلة ببول أو بغائط» ، وقال أبو داود: أبو زيد مولى لبني ثعلبة، وقال الذهبي: لا ندري من هو، وروى مالك في " الموطأ " عن نافع «عن رجل من الأنصار عن أبيه أنه سمع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ينهى أن يستقبلوا القبلة ببول أو غائط» فيه رجل مجهول فهو كالمنقطع.
أما حديث أبي أيوب وحديث أبي هريرة فإنهما يدلان على حرمة استقبال القبلة واستدبارها مطلقا سواء كان في الصحراء أو في البنيان فلا معارضة، وإنما المعارضة في الاستدبار في البنيان، ولا اعتبار لها مع دلالة عموم الأحاديث الصحيحة المذكورة.
فإن قلت: يقاس الاستقبال في البنيان على الاستدبار فيها.
قلت: هذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن الاستقبال فوق الاستدبار في القبح؛ لأن ما ينحط منه لا يوجه إلى القبلة بخلاف الاستقبال فلا يجوز القياس عليه.
والثاني: أن العمل باللفظ العام أولى من القياس على ما عرف.
وقوله: شرقوا أو غربوا يريد البلاد التي قبلتها بين المشرق والمغرب كالمدينة والشام ونحوهما، وأما البلاد التي قبلتها المشرق أو المغرب، فلا يتأتى ذلك فيها.
فإن قلت: النهي المذكور لأجل القبلة أو لأجل الملائكة.
قلت: قد اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال لأجل القبلة، واحتجوا في ذلك بحديث أخرجه الطحاوي في " تهذيب الآثار " عن سماك بن الفضل عن رشدين الجندي عن سراقة بن مالك قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا أتى أحدكم الغائط فليكرم قبلة الله عز وجل، فلا تستقبلوا القبلة» .
ومنهم من قال: لأجل الملائكة واحتجوا في ذلك بما رواه البيهقي عن عيسى الخياط قال:

(2/467)


والاستدبار يكره في رواية لما فيه من ترك التعظيم، ولا يكره في رواية لأن المستدبر فرجه غير موازي للقبلة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: للشعبي إني أعجب من اختلاف أبي هريرة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال نافع «عن ابن عمر دخلت بيت حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فجاءت مني التفاتة فرأيت كنيف رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مستقبل القبلة» وقال أبو هريرة: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، قال الشعبي: صدقا جميعا، أما قول أبي هريرة فهو في الصحراء؛ لأن لله عبادا ملائكة، وجنا يصلون، فلا يستقبلهم أحد ببول ولا غائط ولا يستدبرهم، وأما كنفهم هذه فإنما هي بيوت بنيت لا قبلة فيها.
قال البيهقي: وعيسى هذا هو ابن ميسرة وهو ضعيف، ويقال فيه الحناط بالحاء المهملة والنون، ويقال أيضا الخياط بالخاء المعجمة وتشديد الياء [والطاء] آخر الحروف، ويقال الخباط بالباء الموحدة، ومنهم من قال علة النهي حرمة المصلين وهو ضعيف، والصحيح أن ذلك لحرمة القبلة، ويدل عليه حديث سراقة كما ذكرنا، وحديث آخر أخرجه البزار عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من جلس ببول قبالة القبلة فذكر وانحرف عنها إجلالا لها لم يقم من مجلسه حتى يغفر له» ، وقيل: المنع للخارج النجس، وقيل: لكشف العورة نحوها، ويبني عليه جواز الوطئ مستقبل القبلة، فمن علل بالأول أباحه، ومن علل بالثاني منعه.
وفي " الروضة ": لا بأس باستقبال القبلة في حالة الإزالة والنظر، ولو تذكر بعد استقبالها فانحرف عنها فلا إثم عليه، ويكره استقبال الشمس والقمر بالفرج وكذا الريح، وفي " الروضة ": ويكره مد الرجلين إلى القبلة في النوم وغيره، وكذا إلى المصحف وكتب الفقه.

م: (والاستدبار يكره في رواية) : ش: يعني عن أبي هريرة وهو الأصح م: (لما فيه) ش: أي في الاستدبار م: (من ترك التعظيم) ش: للقبلة م: (ولا يكره في رواية) ش: أي عن أبي حنيفة، وفي " جامع الأسبيجابي " عن أبي حنيفة في هذه المسألة ثلاث روايات، في رواية: كره الاستقبال والاستدبار، وفي رواية كره الاستقبال دون الاستدبار، وفي رواية: لم يكرهما وبه قال داود، في كل ذلك جاءت الآثار، وذكر أبو اليسر أما الاستدبار فلا بأس به، وقال بعضهم إن كان ذلك ساقطا على الأرض فلا بأس به ولو كان رافعا [ثوبه] قالوا: ينبغي أن يكون مكروها لأن عورته تكون إلى القبلة، وأما نهيه عن الاستدبار فكأنه قال ذلك في حق أهل المدينة لأنهم إذا استدبروا صاروا متوجهين إلى بيت المقدس، فيكره الاستدبار تعظيما لبيت المقدس.
م: (لأن المستدبر فرجه غير موازي للقبلة) ش: فرجه منصوب؛ لأنه بدل من المستدبر بدل البعض من الكل، وغير موازي كلام إضافي مرفوع؛ لأنه خبر إن، ومعنى غير موازي غير محاز للقبلة، والموازاة المقابلة والمواجهة، وأصله إذا كان مهموز الفاء ومعتل اللام، يقال آزيته إذا حاذيته ولا

(2/468)


وما ينحط منه ينحط إلى الأرض بخلاف المستقبل؛ لأن فرجه مواز لها وما ينحط منه ينحط إليها،
وتكره المجامعة فوق المسجد والبول والتخلي؛ لأن سطح المسجد له حكم المسجد، حتى يصح الاقتداء منه بمن تحته، ولا يبطل الاعتكاف بالصعود إليه، ولا يحل للجنب الوقوف عليه، ولا بأس بالبول فوق بيت فيه مسجد، والمراد ما أعد للصلاة في البيت؛ لأنه لم يأخذ حكم المسجد، وإن ندبنا إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقل وازيته، قاله الجوهري وغيره حازه على تخفيف الهمزة وقلبها م: (وما ينحط منه ينحط إلى الأرض) ش: أي وما ينزل منه من البول ينحط إلى الأرض غير محاذ للقبلة.
م: (بخلاف المستقبل) ش: بكسر الباء على صيغة الفاعل م: (لأن فرجه مواز لها) ش: أي للقبلة م: (وما ينحط منه ينحط إليها) ش: أي إلى القبلة لأنه متوجه إليها، وقال الشافعي: إنما يكره ذلك كله في الفضاء، فأما في الأكنفة فلا.

[أحكام المساجد]
[المجامعة فوق المسجد والبول والتخلي]
م: (وتكره المجامعة فوق المسجد والبول والتخلي) ش: أي التغوط دون ما يقوله الناس أنه الخلوة بالمرأة، والمراد من الكراهة التحريم م: (لأن سطح المسجد له حكم المسجد) ش: لأنه ثابت في العرصة والهواء جميعا م: (حتى يصح الاقتداء منه) ش: أي من السطح م: (بمن تحته) ش: يعني يصح اقتداء من كان فوق المسجد بالإمام الذي تحته إذا كان يعلم حال الإمام م: (ولا يبطل الاعتكاف بالصعود إليه) ش: أي بالطلوع من المسجد إلى سطحه، م: (ولا يحل للجنب الوقوف عليه) ش: أي على سطح المسجد، فعلم أن حكم المسجد ثابت في الهواء كما في العرصة.
فإن قلت: ما حكم المساجد التي عند السواقي وعند الحياض.
قلت: قال بعضهم حكمها حكم المسجد، والأصح أنها ليس لها حرمة المسجد، فإنه لا بأس بإدخال الميت فيه مع أنا أمرنا بتجنيب المساجد الموتى، وذكر الصدر الشهيد: أن المختار للفتوى في الموضع الذي يتخذ لصلاة الجنازة والعيد أنه مسجد في حق جواز الاقتداء، وأن تفصل الصفوف رفقا بالناس، فما عدا ذلك ليس له حكم المسجد، والمسجد الجامع هو أعظم المساجد حرمة وكذلك المسجد الذي له جماعة وإمام ومؤذن [وقائمون] بأمره، والمساجد المبنية على القوارع فلها حكم المسجد، إلا أن الاعتكاف فيها لا يجوز؛ لأنه ليس لها إمام ومؤذن معلوم.
م: (ولا بأس بالبول فوق بيت فيه مسجد) ش: لأنه لم يخلص لله تعالى م: (والمراد ما أعد للصلاة في البيت) ش: أي المراد من المسجد المذكور في قوله فوق بيت فيه مسجد هو الموضع الذي يعده المصلي في بيته للصلاة م: (لأنه لم يأخذ حكم المسجد) ش: لبقائه في ملكه، حتى له أن يبيعه ويهبه ويورث عنه، فكان حكمه حكم غيره من المنزل المملوك، فلا يكره المجامعة والبول في جوفه فضلا عن سطحه، وتسميته مسجدا لا يفيد حكم المساجد م: (وإن ندبنا إليه) ش: يعني وإن دعينا إلى اتخاذه في البيت؛ لأنه مستحب لكل إنسان أن يعد في بيته مكانا للصلاة يصلي فيه

(2/469)


ويكره أن يغلق باب المسجد؛ لأنه يشبه المنع من الصلاة، وقيل: لا بأس به إذا خيف على متاع المسجد في غير أوان الصلاة، ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النوافل والسنن، قال الله تعالى في قصة موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] (يونس: الآية 87) ، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب» ، رواه أبو داود [في " سننه "] ، وابن ماجه.
وروى الترمذي مرسلا فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتخذوا بيوتكم قبورا» وهو عبارة عن ترك الصلاة في البيت.

[إغلاق باب المسجد]
م: (ويكره أن يغلق باب المسجد؛ لأنه يشبه المنع من الصلاة) ش: أي لأن الإغلاق شبه المنع فيكره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] (البقرة: الآية 114) ، وقوله أن يغلق من الإغلاق، ولا يقال: غلق فهو مغلوق إلا في لغة رديئة متروكة، وفي " الجامع الصغير " ويكره غلق باب المسجد وهو على اللغة المتروكة، وصوابه إغلاق باب المسجد.
م: (وقيل: لا بأس به) ش: أي بإغلاق باب المسجد م: (إذا خيف على متاع المسجد) ش: من السرقة م: (في غير أوان الصلاة) ش: أي في غير وقتها للاحتياط وهو حسن، وقيل: إذا تقارب الوقتان كالعصر والمغرب والعشاء لا يغلق، وبعد العشاء يغلق إلى طلوع الفجر، ومن طلوع الشمس إلى وقت الزوال، ذكره شمس الأئمة وقاضي خان، والتدبير في الإغلاق وتركه إلى أهل المحلة، فإنهم إذا اجتمعوا على رجل جعلوه متوليا بغير أمر القاضي يكون متوليا.
م: (ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب) ش: الجص بفتح الجيم وتشديد الصاد المهملة، قال الجوهري: الجص والجص ما يبنى به وهو معرب.
قلت: هو معرب - كج - بالكاف والجيم وهو الكلس، وهو النورى، يقال له في لغة المصريين الجير، والساج بالجيم شجر يغلظ جدا، ينبت بالهند وله قيمة، وهذه المسألة في خواص مسائل " الجامع الصغير "، وقال فخر الإسلام البزدوي، ولفظ لا بأس دليل على أن المستحب غيره وهو الصرف إلى آخره. وقال شمس الأئمة في قوله: لا بأس إشارة إلى أنه لا يؤجر ويكفيه أن يجوز لسائر الناس.
قلت: البأس: الشدة، فقوله - لا بأس - وفي الشدة روايتان والإنسان إنما يفتقر إلى نفسه حيث يتصور الشدة، وجاء في الآثار أن «من أشراط الساعة تزيين المساجد» وعلي رضي الله

(2/470)


وقوله: لا بأس يشير إلى أنه لا يؤجر عليه، لكنه لا يأثم به، وقيل: هو قربة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه بمسجد مزوق بالكوفة فقال: لمن هذه البيعة، فقيل: هذا مصلى للمسلمين، فقال: ما هكذا يكون مصلى المسلمين. وبعث الوليد بن عبد الملك بمال يزين به مسجد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فمر به على عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: المساكين أحوج من الأساطين، إلا أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - نفى البأس بقوله لا بأس بدلائل لاحت عنده منها قَوْله تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] (النور: الآية 36) ، ورفعها تعظيمها والتعظيم [رفع شأنها وتطهيرها من الأنجاس والأقذار لا زخرفتها] .
وروي عن داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنى مسجد بيت المقدس، وأتم بناه سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وزينه حتى نصب على أعلى قبته الكبريت الأحمر، وكان يضيء من سبعة أميال، وقيل من اثني عشر ميلا، وكانت الغزالات يغزلن في ضوئها.
وقال تاج الشريعة: الكبريت الأحمر مثل لكل ما يعز وجوده أو يتناقص، قلت: المراد هنا الياقوت الأحمر، وكذا الكعبة باطنها من خزف بماء الذهب وظاهرها مستور بالديباج، وكساها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا، وفي تزيين المسجد ترغيب الناس في الجماعة، وتعظيم بيت الله، والدخول في أمارة من مدحه الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] (التوبة: الآية 18) .
ثم إن تزيين المسجد لما دار مرة بين الاستحباب وبين الكراهة، قال أصحابنا بالجواز، ولم يقولوا بالاستحباب كما قال به بعضهم، [ولا بلفظ الكراهة، لما ذكرنا، كما قال به بعضهم، ثم اختلفوا في كيفية التزيين، فقيل:] ولا ينبغي التكلف لدقائق النقش، وقيل: إن كان بحيث يشتغل به المصلي يكره، وإلا فلا، وقيل: إن كثر يكره، وإن قل لا، وقيل: يكره في المحراب دون السقف.

م: (وقوله) ش: أي وقول محمد في " الجامع الصغير " م: (لا بأس يشير إلى أنه لا يؤجر عليه) ش: أي لا يثاب عليه م: (لكنه لا يأثم به) ش: أي تزيين المسجد لما ذكرنا م: (وقيل هو قربة) ش: أي التزيين تقرب إلى الله تعالى لما ذكرنا من الدلائل الدالة على أنه قربة.
وأجاب هؤلاء عن الأثر المذكور بأن كونه من أشراط الساعة لا يدل على البطلان، وعن قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من ألزم محمول على أنه كانت فيه تماثيل أو أعاجيب نقش يشغل المصلين عن الخشوع والخضوع، وعن قول عمر بن عبد العزيز أنه عرف أنه كان من مال الصدقة، والمسجد لا يصلح مصرفا لذلك، ومنع أبو إسحاق المروزي تحلية الكعبة والمساجد والمشاهد بقناديل الذهب والفضة.
وقال الغزالي: لا يبعد مخالفته حملا على الإكرام كما في تحلية المصحف ذكره في

(2/471)


وهذا إذا فعل من مال نفسه، أما المتولي، فيفعل من مال الوقف ما يرجع إلى أحكام البناء دون ما يرجع إلى النقش حتى لو فعل يضمن، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوسيط، وذكر صاحب " الطراز " عن المالكية كراهة ذلك كله، وذكر في " الرعاية " عن أحمد أن المسجد يصان عن الزخرفة وهم محجوجون بما ذكرناه من إجماع المسلمين في الكعبة.
م: (وهذا) ش: أشار به إلى قوله لا بأس يعني لا يكره النقش م: (إذا فعل من مال نفسه) ش: لأنه يقصد به القربة م: (أما المتولي) ش: وهو الذي ينظر في أمر المسجد وأمر أوقافه م: (فيفعل من مال الوقف ما يرجع إلى أحكام البناء) ش: مثل التجصيص م: (دون ما يرجع إلى النقش) ش: يعني ليس له أن يفعل ذلك م: (حتى لو فعل يضمن) ش: لأنه تعدى، وقيل يضمن في التجصيص أيضا، وعن الشيخ بكر الزرنجري أنه يقول: هذا في زمانهم، أما في زماننا لو صرف ما يفضل من العمارة إلى النقش يجوز قطعا؛ للأطماع الفاسدة من الظلمة.

(2/472)