البناية شرح الهداية

باب صلاة الوتر الوتر واجب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة الوتر] [حكم صلاة الوتر]
م: (باب صلاة الوتر) ش: أي هذا باب في بيان أحكام صلاة الوتر، قال السراج: لما فرغ من بيان الفرائض ومتعلقاتها وكيفية أداءها، شرع في بيان صلاة هي دون الفرض وفوق النفل، وهي صلاة الوتر، وقدمه على النوافل؛ لأن الواجب فوقها، وهو دون الفرض، فذكره بينهما؛ لأن حقه أن يكون بين الفرض والنفل، ولم يتعرض أحد لبيان وجه المناسبة بينه وبين جميع ما تقدم من الأبواب والفصول.
قلت: لما كان المذكور في الباب الذي قبله بيان الفساد الواقع في الصلاة ذكر هذا الباب عقيبه؛ لما فيه من نوع من ذلك صريحا وغير صريح، أما صريحا: ففي المسألة التي فيها اقتداء الحنفي بالشافعي، وأما في غير الصريح: ففي صلاة الرجل الفجر مع تذكره أنه لم يصل الوتر، وهذا المقدار كاف لوجه المناسبة.
م: (الوتر) ش: الفرد واحدا كان أو أكثر، وهو بفتح الواو، وعند أهل الحجاز وبكسرها الذحل والحقد، ولغة أهل العالية على العكس، وتميم بكسر الواو فيها، وقال النووي: الفتح والكسر لغتان فيه، والوتر م: (واجب عند أبي حنيفة) ش: وفي " المحيط " عن أبي حنيفة فيه ثلاث روايات:
أحدها: أنه واجب وهو آخر أقواله، [قلت] : هو الصحيح، وقال قاضي خان: هو الأصح.
والثاني: أنه فرض، وهو قول زفر، وأبو بكر بن العربي في " العارضة "، مال سحنون والأصبغ من المالكية إلى وجوبه يريده به الفرض.
وفي " المغني ": عن أحمد من ترك الوتر عمدا فهو رجل سوء، ولا ينبغي أن تقبل شهادته، وقد حكى عن أبي بكر أن الوتر واجب أي فرض.
وحكى ابن بطال في " شرح البخاري " عن ابن مسعود وحذيفة والنخعي أنه واجب على أهل القرآن دون غيرهم، والمراد بالوجوب الفرض.
واختار الشيخ علم الدين السخاوي المقرئ النحوي أنه فرض وصف فيه جزاء، وساق فيه الأحاديث التي دلت على فرضيتها، ثم قال: فلا يرتاب ذوقهم بعد هذا أنها ألحقت بالصلوات الخمس في المحافظة عليها.

(2/473)


وقالا: سنة لظهور آثار السنن فيه حيث لا يكفر جاحده ولا يؤذن له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال صاحب " المنظومة ": والوتر فرض ونوى بذكره في فجره فساد فرض فجره، وقال شراحها: يعني فرض عملا، واجب اعتقادا، سنة سببا.
وفي " شرح المجمع ": الوتر فرض في حق العمل عند أبي حنيفة، وواجب في حق الاعتقاد، وسنة باعتبار السبب؛ لظهور آثار السنن فيه، وبين عدم إكفار جاحده وعدم الأذان فيه.
فإن قلت: هذه الآثار موجودة في صلاة العيد مع أنها واجبة.
قلت: مجرد عدم الإكفار لا يدل على عدم الوجوب بل يدل المجموع وهو أن لا يكفر ولا يؤذن، ولا نسلم كون صلاة العيد واجبة، وقول البخاري لا نسلم أنه لا إذن لها، فإن قولهم في صلاة العيد: يرحمك الله الصلاة أذان وإعلام غير سديد ولا موجه؛ لأن المراد من الأذان المصطلح وليس فيها كذلك.
والرواية الثالثة: عن أبي حنيفة أنه سنة مؤكدة وهي قول الأكثر من العلماء، وقال صاحب " الدراية ": ثم فيه ليس في الظاهر رواية منصوصة عنده، لكن روى حماد بن يزيد عن أبي حنيفة أنه فرض، وبه أخذ زفر.
وروى يوسف بن خالد التميمي أنه عن أبي حنيفة واجب وهو الظاهر من مذهبه، وروى نوح بن مريم وقيل أسد بن عمر أنه سنة وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي ومالك وأحمد، وفي " الحقائق " فيها ثلاث روايات ولا اختلاف في الحقيقة بين الروايات، والصحيح أنه واجب.
وقال أبو بكر الأعمش: اتفقوا مع اختلافهم فيه: أنه أدون درجة من الفرض، ولا يكفر جاحده، وتجب القراءة في الركعة الثالثة، ويجب قضاؤها بالترك عامدا أو ناسيا، ولا يجوز بدون نية الوتر، ولو كان سنة لكفته نيته في الصلاة، فإن كانوا مصرين قاتلهم بالسلاح.

م: (وقالا: سنة) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: الوتر سنة م: (لظهور آثار السنن فيه) ش: أي في الوتر وبين ذلك بقوله م: (حيث لا يكفر جاحده) ش: بسكون الكاف من الإكفار أي لا ينسب إلى الكفر إذا قال الوتر ليس بفرض.
م: (ولا يؤذن له) ش: أي للوتر، يعني لا أذان فيه وقد مر الكلام فيه آنفا، ولم يذكر المصنف لها دليلا من الآثار، ودليلها ما رواه أبو داود والنسائي من «حديث عبد الله بن محيريز " عن رجل من بني كنانة يقال له المخدجي قال: كان رجل بالشام يقال له أبو محمد قال: الوتر واجب، قال: فرجعت إلى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلت: إن أبا محمد يزعم أن الوتر واجب، قال: كذب أبو محمد

(2/474)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول خمس صلوات كتبهن الله على عباده ... » الحديث. والمخدجي بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وكسر الدال، وقيل بفتحها وبعدها جيم، قيل إن هذا لقب، وقيل نسبة إلى بطن من كنانة، واسمه رفيع الفلسطيني، وأبو محمد: أنصاري، اسمه مسعود بن زيد بن سبيع البخاري، وقيل: اسمه أوس وكان بدريا.
واحتجا أيضا بحديث الأعرابي «هل علي غيرهن؟ فقال: لا، إلا أن تتطوع» وهذا ينفي الفرض والوجوب، وبقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ثلاث هن علي فرائض وهن لكم تطوع، الوتر والفجر وصلاة الضحى» ، رواه أحمد في " مسنده " والحاكم في " مستدركه " من حديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: " ثلاث.. " الحديث، والذي وقع في كتب أصحابنا: «ثلاث كتب علي ولم تكتب عليكم وهي لكم سنة، الوتر، والضحى، والأضحى» .
واحتجا أيضا بفعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياه على الراحلة، والفرض لا يؤدى على الراحلة من غير عذر.
والجواب عن حديث عبادة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخبر عن فرضية خمس صلوات، وأبو حنيفة لا يقول بفرضية الوتر مثل فرضية الظهر مثلا، وإنما يقول بوجوبه، والفرق بين الواجب [والفرض ظاهر قطعا فلا يكون حينئذ حجة عليه، وقوله كذب أبو محمد أي أخطأ، وسماه كذبا؛ لأنه شبهة في كونه ضدا، وإنما قاله باجتهاده رآه إلى أن الوتر واجب] والاجتهاد لا يدخله الكذب وإنما يدخله الخطأ، وقد جاء كذب بمعنى أخطأ في غير موضع.
وعن حديث الأعرابي بأنه كان قبل وجوب الوتر، وفي قوله إن الله زادكم صلاة على ما يجيء، إشارة على أنه متأخر عن وجوب الصلوات الخمس، وهو نظير قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] (الأنعام: الآية 145) ، وقد حرم الله تعالى بعد ذلك أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
وحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه مسلم وغيره، ويدل على تأخره أنه سأله عن الصلاة

(2/475)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والزكاة والصيام وقال في آخره: «والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " أفلح إن صدق» ، ولم يذكر الحج، فدل على أنه كان قبل وجوب الحج، فكذا يجوز أن يكون سؤاله قبل أن يزاد على الخمس فلا يكون حجة.
وعن حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بأنه ضعيف، قال الذهبي: هو غريب منكر، وفي سنده الذي أخرجه الحاكم وأحمد وابن حبان والكلبي ضعفه النسائي والدارقطني، وفي سند آخر فيه جابر الجعفي وهو مختلف فيه، وكذا أخرجه البيهقي بسند فيه أبو حيان، وقال: هو ضعيف مدلس واسمه يحيى بن حية، وقال الثوري: إنما ذكرت هذا الحديث لما بين ضعفه والحذر من الاغترار به، وله طريق آخر عند ابن الجوزي في " العلل المتناهية " فيه وضاح بن يحيى ومندل وهما ضعيفان. وأخرج ابن الجوزي أيضا نحوه من حديث أنس وفيه عبد الله بن محيريز وهو ساقط.
وقال ابن حبان: كان يكذب، وأجاب أصحابنا عنه بأن الحسن يقول: بموجبه لأن الوتر ليس من المكتوبات بل من الواجبات، والواجب مختلف في ذاته وليس كل واجب مكتوب، ألا ترى أن صلاة العيدين واجبة وليست بمكتوبة وليس وجوبها كوجوب صلاة [......] والجمعة، وغسل الميت واجب وليس كغسل الجنابة، وصدقة الفطر واجبة وليست كالزكاة، وسجدتا السهو واجبتان وليستا كسجود الصلاة؛ لأن طريق الواجبات مختلفة بنص القرآن وبالمتواتر والمشهور وبالآحاد، والوتر ليس وجوبه بطريق الآحاد. وأجيب عن قوله: وهي لكم سنة بأن تحقيق الثلاث سنة لكم؛ لأن كلا منها سنة بانفرادها.

وأما احتجاجهما بفعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياه على الراحلة، والفرائض لا تؤدى عليها، فغير مستقيم على أصلهما؛ لأنهما يريان الوتر فرضا على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، [ثم] الدعوى بجواز هذا الفرض دون سائر الفروض تحكم لا دليل عليه، فإن كانت شبهتهما حديث ابن عباس المذكور فقد بينا حاله، وقال القرافي في " الذخيرة " أن الوتر في السفر ليس بواجب عليه وفعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على الراحلة كان في السفر.
قلت: هذا الأصل له، وروى الطحاوي بإسناده «عن نافع ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض، ويزعم أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يفعل ذلك» وكذا عن مجاهد أن ابن عمر كان يصلي في السفر على بعيره أينما توجه، وإذا كان السحر نزل فأوتر، ولعل ما روي عن ابن عمر ما يخالف ذلك كان قبل تأكده ووجوبه.
وقال ابن العربي: قال أبو حنيفة الوتر واجب ولا يلحق بالواجب بالقران فكذلك يفعل على الراحلة.

(2/476)


ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: نقله هذا عن أبي حنيفة غلط وليس مذهبه كذلك، وفي " المحيط " لا يجوز أن يوتر قاعدا مع القدرة على القيام ولا على راحلته من غير عذر، أما عندهما وإن كان سنة فلأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان ينزل فيوتر على الأرض هذا الذي صح عندهما.
م: (ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» ش: وروى هذا الحديث عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن خارجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجه عنه قال: «خرج علينا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال " إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر» . وقال الترمذي: غريب، وأخرجه الحاكم في " المستدرك " وقال: حديث صحيح الإسناد، ورواه أحمد في " مسنده " والدارقطني في " سننه " والطبراني في " معجمه ".
فإن قلت: رواه ابن عدي في " الكامل " ونقل عن البخاري أنه قال: لا نعرف سماع بعض هؤلاء من بعض يعني رواية، وأعله ابن الجوزي في " التحقيق " بابن إسحاق وبعبد الله بن راشد، ونقل عن الدارقطني أنه ضعفه.
قلت: قال صاحب " التنقيح " أما تضعيفه بابن إسحاق فليس بشيء فقد تابعه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب به، وأما نقله عن الدارقطني أنه ضعف عبد الله بن راشد فغلط؛ لأن الدارقطني إنما ضعف عبد الله بن راشد البصري مولى عثمان بن عفان الراوي عن أبي سعيد الخدري، وأما عبد الله بن راشد هذا فهو مصري راوي عن خارجة، عده ابن حبان في الثقات، وخارجة هو ابن حذافة العدوي [والقريشي] الصحابي، سكن مصر له هذا الحديث.
قوله: حمر النعم بفتح النون والعين واحد الأنعام وهي الجمال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، والحمر بضم الحاء وسكون الميم جمع أحمر، ولما كانت الإبل الحمراء أعز الأموال عند العرب ذكر ذلك - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وعن عمرو بن العاص وعقبة أخرج حديثهما إسحاق بن راهويه في " مسنده " عنهما عن

(2/477)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن الله عز وجل زادكم صلاة وهي خير لكم من حمر النعم الوتر وهي لكم فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر» ومن طريقه رواه الطبراني في " معجمه ".
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديث الدارقطني في " سننه "، والطبراني في " معجمه " عنه قال: «خرج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مستبشرا فقال: إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر» وفيه النضر أبو عمر الخزاز قال الدارقطني: ضعيف.
وعن أبي بصرة بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة الغفاري واسمه جميل أو (حميل) أخرج حديثه الحاكم في المستدرك من طريق ابن لهيعة حدثني عبد الله بن هبيرة أن أبا تميم الجيشاني وعبد الله بن مالك أخبره، أنه سمع عمرو بن العاص يقول: سمعت أبا نصر الغفاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «إن الله تعالى زادكم صلاة وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح» . وسكت عنه الحاكم، وأعله الذهبي في " مختصره " بابن لهيعة، وله طريق آخر عند الطبراني في " معجمه " وأحمد في " مسنده " عن ابن المبارك.
أما سعيد بن يزيد عن أبي هبيرة عن أبي تميم الجيشاني به وبطريق آخر عند الطبراني عن الليث بن سعد عن جبير بن نعيم عن ابن هبيرة به. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديثه الدارقطني في " غرائب مالك " عنه قال: «خرج رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - محمرا وجهه يجر رداءه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال يا أيها الناس إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم وهي الوتر» . وفيه حميد بن أبي الجون الإسكندراني، قال الدارقطني: ضعيف.
وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في كتابه " مسند الشاميين "، وعنه قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله تعالى زادكم صلاة، وهي الوتر» . وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: «أمرنا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " فاجتمعنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " إن الله قد زادكم صلاة فأمرنا بالوتر» .
وجه الاستدلال بهذه الأحاديث أن في بعضها الأمر، والأمر للوجوب وهو معنى قول المصنف.

(2/478)


أمر وهو للوجوب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أمر) ش: أي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (وهو للوجوب) ش: أي أمر الشارع فيه يدل على وجوب الوتر، والذي فيه التصريح بالأمر حديث أبي بصرة وهو قوله فصلوها، وفي حديث عمرو ابن شعيب المذكور آنفا، ونظيره ما روي عن جابر أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أيكم خاف أن لا يقوم في آخر الليل فليوتر ثم ليرقد، ومن وثق بالقيام من آخر الليل فليوتر في آخر الليل، فإن قراءة آخر الليل محضورة وذلك أفضل» ، رواه مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجه.
وما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «اجعلوا آخر صلاتكم وترا» ، أخرجه البخاري ومسلم. وما روي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق» ، [رواه أبو داود والحاكم في " المستدرك " وصححه] .
وقوله: حق أي واجب ثابت، والدليل عليه بقية الحديث؛ لأنها وعيد شديد، ولا يقال مثل هذا إلا في حق تارك فرض أو واجب ولاسيما وقد تأكد بالتكرار الكلام ثلاث مرات، ومثل هذا الكلام بهذه التأكيدات لم يأت في حق السنن، وبهذا [أسقط] ما قاله الخطابي من قوله، وقد دلت الأخبار الصحيحة على أنه لم يرد بإلحاق الوجوب الذي لا يسعه غيره، منها: خبر عبادة ابن الصامت، لما بلغه أن أبا محمد رجلا من الأنصار يقول: الوتر حق، فقال: كذب أبو محمد، لقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في عدد الصلوات الخمس.
ومنها: خبر طلحة بن عبد الله في سؤال الأعرابي، ومنها: خبر أنس بن مالك في فرض الصلوات ليلة الإسراء.
أما خبر عبادة فقد تكلمنا فيه بما فيه الكفاية عن قريب، وأيضا فإنما كذبه في قوله كوجوب الصلاة، ولم يقل أحد أن الوتر واجب كوجوب الصلاة.
وأما خبر طلحة فكان قبل وجوب الوتر بدليل أنه لم يذكر فيه الحج، وقد قررناه أيضا.
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلا نزاع فيه أنه كان قبل الوجوب، وما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر» . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن.

(2/479)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قال الخطابي: تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه، يدل على أن الوتر غير واجب، ولو كان واجبا لكان عاما، وأهل القرآن في عرف الناس هم القراء والحفاظ دون العوام.
قلت: أهل القرآن بحسب اللغة يتناول كل من معه شيء من القرآن ولو كان آية فيدخل فيه الحفاظ وغيرهم، على أن القرآن كان في زمنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مفرقا بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولهذا التأويل الفاسد لا يبطل مقتضى الأمر الدال على الوجوب، ولا سيما تأكيد الأمر بالتقرير لمحبة الله إياه بقوله فإن الله وتر يحب الوتر. وما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أوتروا قبل أن تصبحوا» ، رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، وما روي عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره» ، رواه أبو داود والترمذي، ووجوب القضاء فرع وجوب الأداء.
فإن قلت: قال الخطابي: قوله: أمدكم بصلاة يدل على أنها غير لازمة لهم، ولو كانت واجبة يخرج الكلام فيه على صيغة لفظ الإلزام، فيقول ألزمكم أو فرض عليكم أو نحو ذلك من الكلام، قال: وقد روي أيضا: «إن الله قد زادكم صلاة» ومعناه الزيادة من النوافل، وذلك أن نوافل الصلاة شفع لا وتر فيها، فقد أمدكم بصلاة وزادكم صلاة لم تكونوا تصلونها قبل على تلك الصورة والهيئة وهي الوتر. قلت: لا نسلم أن قوله أمدكم بصلاة يدل على أنها غير لازمة، فلئن سلمنا فلا ينافي ذلك [دلالة] دليل آخر على الوجوب، وقد جاء فيما ذكرناه من الأحاديث ما يدل على الوجوب. وأما وجه الاستدلال بقوله إن الله زادكم من وجوه: الأول: أنه أضاف الزيادة إلى الله تعالى، والسنن إنما تضاف إلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
والثاني: أنه قال زادكم والزيادة إنما تتحقق في الواجبات لأنها محصورة بعدد لا [كما] في النوافل؛ لأنه لا نهاية لها.
والثالث: أن الزيادة في الشيء إنما تتحقق إذا كان من جنس المزيد عليه لا يقال زاد في ثمنه إذا وهب هبة مبتدأة، ولا يقال زاد على الهبة إذا باع، والمزيد عليه فرض فكذا الزائد، إلا أن الدليل غير قطعي فصار واجبا.
فإن قلت: السنن مقدرة أيضا فهذه كانت زائدة على السنن.
قلت: إضافته إلى الواجبات أولى للأخذ بالاحتياط، وأيضا لو اعتبرت زيادة على الفرائض يكون الأمر معمولا لا بحقيقته، ولأنه لا يمكن جعل الزيادة على السنن؛ لأنه لا نظير له في الشرع، إذ السنن توابع الفرائض، ولا جائز أن يكون تبعا للسنن؛ لأنه يؤدى في آخر الوتر وهو آخر الليل، والسنن ليست كذلك، وقيل أفضل وقت الوتر هو السحر، ويكره أداء العشاء فيه أشد الكراهة، ولو كان الوتر تبعا للعشاء من حيث السنية لكان وقته المستحب وقت العشاء، ومما

(2/480)


ولهذا وجب القضاء بالإجماع، وإنما لا يكفر جاحده؛ لأن وجوبه ثبت بالسنة وهو المعني بما روي عنه أنه سنة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يدل على وجوب الوتر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إلا وهي الوتر» على سبيل التعريف، فهذا دليل على أنه كان معلوما عندهم، وزيادة تعريف وزيادة وصف وهو الوجوب لا أصله.
فإن قلت: جاء حديث عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا يدل على أنه لا يلزم أن يكون المزاد من جنس المزاد عليه وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله تعالى زادكم صلاة إلى صلاتكم هي خير من حمر النعم ألا وهي الركعتان قبل صلاة الفجر» ، أخرجه الحاكم وقال: حديث صحيح.
قلت: لا يمنع هذا ما ذكرنا؛ لأنه يجوز أن يكون المراد منه ركعتا الصبح ولهذا [جاء] التأكيد فيهما، وروى أبو هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل» ، رواه أبو داود ولهذا رأى محمد قضاءها بعد طلوع الشمس إلى وقت الظهر.

م: (ولهذا وجب القضاء بالإجماع) ش: أي ولأجل كون الوتر واجبا وجب القضاء بالإجماع، قال الأترازي: أي بإجماع أصحابنا، وقال الأكمل: قيل المراد بالإجماع إجماع أصحابنا على ظاهر الرواية، فإنه نقل عن أبي يوسف أنه لا يقضي خارج الوقت، وعن محمد أنه قال: أحب إلي أن يقضي، قيل: المراد بالإجماع إجماع السلف، لكنه لم يثبت إلا بطريق الآحاد.
قلت: هذا من كلام (الخبازي) وعلى غير ظاهر الرواية لا يصح الاستدلال على وجوبه بوجوب قضائه بالإجماع، وذكر الحافظ أبو جعفر الطحاوي أن وجوب الوتر إجماع من الصحابة، فعلى هذا لا يحتاج إلى تفسير قوله بالإجماع أي بإجماع أصحابنا، وعلى ظاهر الرواية، ولهذا سقط زعم الأكمل أيضا. وقوله وفي الجملة وكلامه في هذا الموضع لا يخلو عن تسامح ولكل جواد كبوة.
م: (وإنما لا يكفر جاحده لأن وجوبه ثبت بالسنة) ش: هذا جواب عن قولهما حيث لا يكفر جاحده أي لا كفر؛ لأن الجاحد إنما يكفر إذا كان الدليل قطعيا، وهاهنا ليس كذلك؛ لأن وجوبه ثبت بالسنة يعني بخبر الواحد، ولم يثبت بخبر التواتر ولا بالمشهور فصار دون من الذي ثبت بالمتواتر أو المشهور، فإن منكر الثابت بأحدهما يكفر م: (وهو المعني) ش: بكسر النون وتشديد الياء، أي كون وجوبه ثبت بالسنة م: (بما روي عنه أنه سنة) ش: وهو الحديث الذي رواه ابن عباس: «ثلاث كتب علي ولم تكتب عليكم وهي لكم سنة» .

(2/481)


وهو يؤدى في وقت العشاء فاكتفي بأذانه وإقامته ولا يؤذن له. قال: الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام؛ لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كان يوتر بثلاث» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[عدد ركعات الوتر]
م: (وهو يؤدى في وقت العشاء فاكتفي بأذان العشاء وإقامته) ش: هذا جواب عن قولهما م: (ولا يؤذن له) ش: أي الوتر يؤدى في وقت العشاء فاكتفي بأذان العشاء وإقامته.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام) ش: بل يتشهد عند الثانية ولا يسلم، ويتشهد عند الثالثة ويسلم، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي وأنس وابن عباس وأبي أمامة وعمر بن عبد العزيز واختاره الأكثرون وابن المبارك، وهو قول مالك في كتاب الصيام ذكره في " العارضة ". وقال ابن بطال: الوتر ثلاث، قول حذيفة وأبي والفقهاء السبعة بالمدينة وسعيد بن المسيب. وقال الترمذي: وقد ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إلى هذا. وقال الزهري: يوتر بثلاث في رمضان وفي غيره بواحدة. وقال مالك: لا يوتر بواحدة ليس قبلها شيء لا في سفر ولا حضر. وقال النووي: الوتر أقله ركعة لا خلاف فيه، وأدنى كماله ثلاث، وأكثره إحدى عشرة، وفي وجه: ثلاث عشرة ركعة ولو زاد عليها لم يصح وتره عند جمهورهم. وقال ابن حنبل: الذي أختاره أن يفصل ركعة الوتر مما قبلها، وقال: إن أوتر بثلاث ولم يسلم لم يضيق عليه عندي، ويعجبني أن يسلم في الركعتين، وقال الأوزاعي: إن فعل فحسن، وإن لم يفعله فحسن.
م: (لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يوتر بثلاث» ش: أي بثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام، لما روى النسائي في " سننه " عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يسلم في ركعتي الوتر» . ورواه الحاكم في " المستدرك "، وقال: إنه صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه، ولفظه قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن» .
فإن قلت: الحديث الذي ذكره المصنف يحتمل أنه كان يوتر بتسليمتين.
قلت: دفع هذا الاحتمال ما ذكرناه عن النسائي والحاكم.
فإن قلت: كيف حملتم المطلق على المقيد؟
قلت: يحمل إذا ورد النصان في الحكم، ولنا أحاديث أخر تدل على أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة.

(2/482)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منها ما رواه الأربعة من حديث عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بفاتحة الكتاب و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية ب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، والمعوذتين» ورواه الحاكم في " مستدركه "، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه ابن حبان في " صحيحه "، وظاهر الحديث أن الثالثة متصلة غير منفصلة، والاتصال في ركعة الوتر المنفردة أو نحو ذلك.
فإن قلت: يعكر عليه في ما لفظ الدارقطني عن عائشة «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، ويقرأ في الوتر ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] » .
قلت: لا يدل، وقوله أوتر بعدها على أنه يوتر بعد التسليمة، ولا شك أن الثالثة وتر.
ومنها: ما رواه الطحاوي أيضا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نحو حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وما رواه الطحاوي أيضا من حديث سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه «أنه صلى مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الوتر يقرأ في الركعة الأولى بسبح» .. إلخ نحوه.
ومنها: ما أخرجه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه وأخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه.
ومنها: ما رواه الدارقطني ثم البيهقي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وتر الليل ثلاث كوتر النهار، صلاة المغرب» .
فإن قلت: قال الدارقطني: لم يروه عن الأعمش مرفوعا غير يحيى بن زكريا وهو ضعيف، وقال البيهقي: الصحيح وقفه على ابن مسعود.
قلت: لا يضرنا كونه موقوفا على ما عرف، مع أن الدارقطني أخرجه عن عائشة أيضا نحوه مرفوعا، ومما يدل على ما ذهبنا إليه حديث النهي عن البتيراء، أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " عن أبي سعيد أن رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نهى عن البتيراء» أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها، وسيأتي في باب سجود السهو إن شاء الله تعالى.

(2/483)


وحكى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - إجماع المسلمين على الثلاث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما ما روي أيضا من الآثار فروى محمد بن الحسن في " موطأه " عن يعقوب بن إبراهيم أنا حصين عن إبراهيم عن ابن مسعود قال: ما أجزأت ركعة قط، وروى الطحاوي من حديث عقبة بن مسلم قال: سألت عبد الله بن عمر عن الوتر، فقال: أتعرف وتر النهار؟، فقلت: نعم صلاة المغرب، فقال: صدقت وأحسنت، وقال الطحاوي: وعليه يحمل حديث ابن عمر «أن رجلا سأل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن صلاة الليل فقال: مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فصل ركعة توتر لك ما صليت، قال: معناه صلي ركعة في ثنتين قبلها» واتفقت بذلك الأخبار، حديثا أبو بكر حدثنا أبو داود ثنا أبو خالد سألت أبا العالية عن الوتر فقال: علمنا أصحاب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الوتر مثل صلاة المغرب، هذا وتر الليل وهذا وتر النهار.
وروى الطحاوي أيضا عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الوتر ثلاث ركعات، وقال: حدثنا ابن مرزوق ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة ثنا ثابت قال: صلى بنا أنس الوتر أنا عن يمينه وأم ولده خلفنا ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن، [وروى أيضا عن المسور بن مخرمة قال: دفنا أبا بكر ليلا فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إني لم أوتر، فقام وصفنا وراءه فصلى بنا ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن] . قال: ومذهبنا أيضا قوي من جهة النظر لأن الوقت لا يخلو إما أن يكون فرضا أو سنة، فإن كان فرضا فالفرض ليس إلا ركعتين أو ثلاثا أو أربعا، وكلهم أجمعوا أن الوتر لا يكون اثنتين ولا أربعا، فثبت أنه ثلاث. وإن كان سنة فإنا لم نجد سنة إلا ولها مثل في الفرض منه [.....] الفرض لم نجد منه إلا المغرب، وهو ثلاث فثبت أن الوتر ثلاث وهذا حسن جيد، وقد ذكر الحازمي في كتابه " الناسخ والمنسوخ " من جملة الترجيحات أن يكون الحديث موافقا للقياس دون الآخر فيكون المعدول عن الثاني إلى الأول متعينا.

م: (وحكى الحسن) ش: أي البصري م: (إجماع المسلمين على الثلاث) ش: يعني لا يفصل بينهن بسلام، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " ثنا حفص ثنا عمرو عن الحسن قال: أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن، وأوتر سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بركعة فأنكر عليه ابن مسعود، وقال: ما هذه البتيراء التي لا نعرفها على عهد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وفي " المبسوط " عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما رأى سعدا يوتر بركعة فقال: ما هذه البتيراء لتشفعنها أو [لأدبنك] .
«وعن عبد الله بن قيس قال: قلت لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: بكم كان رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر، قالت: بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأقل من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة» رواه أبو داود، فقد نصت على الوتر بثلاث ولم يذكر الوتر

(2/484)


وهذا أحد أقوال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي قول: يوتر بتسليمتين وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بواحدة، فدل على أنه لا اعتبار للركعة البتيراء.
وقال النووي: وقال أصحابنا لم يقل أحد من العلماء أن الركعة الواحدة لا تصح الإتيان بها إلا أبو حنيفة والثوري ومن تابعهما.
قلت: عجبا للنووي كيف نقل هذا النقل الخطأ ولا يرده مع علمه بخطئه، وقد ذكرنا عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنه يوتر بثلاث ولا يجزيه الركعة الواحدة، وروى الطحاوي عن عمر بن عبد العزيز أنه أثبت الوتر بالمدينة بقول الفقهاء ثلاثا لا يسلم إلا في آخرهن، واتفق الفقهاء بالمدينة على اشتراط الثلاث بتسلمية واحدة، تبين لك خطأ نقل الناقل اختصاص ذلك بأبي حنيفة والثوري وأصحابهما.
فإن قلت: ما تقول في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة.
قلت: معناه مفصلة بما قبلها، ولهذا قال في قوله توتر لك ما قبلها، ومن يقتصر على ركعة واحدة كيف يوتر له ما قبلها وليس قبلها شيء.
فإن قلت: روي أنه قال: «من شاء أوتر بركعة ومن شاء أوتر بثلاث أو بخمس» .
قلت: هو محمول على أنه كان قبل استقرارها؛ لأن الصلوات [الغير] المستقرة لا عبرة في أعداد ركعاتها، وكذا قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كان يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، يعارضه» وما روى ابن ماجه عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه «كان يوتر بسبع أو بخمس لا يفصل بينهن بتسليم ولا كلام» فيحمل على أنه كان قبل استقرار الوتر.

م: (وهذا) ش: أي الإيتار بثلاث ركعات بتسليمة واحدة م: (أحد أقوال الشافعي) ش: المنقول عنه ثلاثة أقوال: الأول: كقولنا أشار إليه بقوله: وهذا أحد أقوال الشافعي.
والثاني: يوتر بتسليمتين أشار إليه بقوله م: (وفي قول يوتر بتسليمتين) ش: يعني يصلي ثلاث ركعات ولكنه يسلم بتسليمتين.
والقول الثالث: هو بالخيار إن شاء أوتر بركعة أو ثلاث بتسلمية واحدة وقعدة واحدة. وذكر القدوري في " شرحه لمختصر الكرخي " وعند الشافعي إن شاء أوتر بركعة أو بثلاث وهو أفضل أو بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة.
م: (وهو قول مالك) ش: أي الإيتار بتسليمتين قول مالك. قلت: تحقيق مذهب الشافعي ما ذكره في " الروضة " الوتر سنة ويحصل بركعة وبثلاث وبخمس وبسبع وبتسع وبإحدى عشرة فهذا أكثر على الأصح. وعلى الثاني: أكثره بثلاث عشرة ولا تجوز الزيادة على أكثره على

(2/485)


والحجة عليهما ما رويناه، ويقنت في الثالثة قبل الركوع. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعده لما «روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في آخر الوتر» وهو ما بعد الركوع. ولنا ما «روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت قبل الركوع»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصح فإن زاد لم يصح وتره، فإن زاد على ركعة فأوتر بثلاث موصولة، والصحيح أن له أن يتشهد واحدة في " الذخيرة " وله تشهد آخر في الذي قبلها، وإذا أراد أن يوتر بثلاث فهذا الأفضل فصلها بسلامين أو وصلها بسلامين أو وصلها بسلام فيه أوجه أصحها الفصل أفضل، والثاني الوصل، والثالث إن كن منفردا بالفصل وإن كان صلاها جماعة فالوصل، ومذهب مالك ما ذكره في " الجواهر " ثم الوتر ركعة واحدة وهي سنة، ومذهب أحمد ما ذكره في " حاويهم " الوتر سنة، وقال أبو بكر: يجب وأقله ركعة وأكثره إحدى عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، وأدنى الكمال ثلاث بتسليمتين أو سردا بسلام كالمغرب.

م: (والحجة عليهما ما رويناه) ش: أي الحجة على الشافعي ومالك فيما ذهبا إليه ما رويناه من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - م: (ويقنت في الثالثة) ش: أي في الركعة الثالثة م: (قبل الركوع) ش: وهو محكي عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى والبراء بن عازب وابن عمر وابن عباس وأنس وعمر بن عبد العزيز وعبيدة السلماني وحميد الطويل وابن أبي ليلى ومالك وإسحاق وابن المبارك، وحكاه ابن المنذر عن الصديق وابن جبير، وقال أيوب السختياني وابن حنبل: هما جائزان، وعن طاوس أنه قال: القنوت في الوتر بدعة، وهو مردود، وبقولنا قال ابن شريح من الشافعية.
م: (وقال الشافعي: بعده) ش: أي يقنت بعد الركوع، وهو الصحيح من مذهبه وبه قال أحمد، وفي " شرح الإرشاد " لا نص عن الشافعي فيه، ولكن قال أصحابه ينبغي أن يكون بعد الركوع، وقال بعض أصحاب الشافعي: يخير بين التقديم والتأخير م: (لما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في آخر الوتر» ش: هذا رواه الدارقطني في " سننه " من حديث سويد بن غفلة قال: «سمعت أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يقولون: قنت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في آخر الوتر، وكانوا يفعلون ذلك» ولم أر أحدا من الشرح بين هذا الحديث ولا نسبه إلى أحد من الصحابة م: (وهو ما بعد الركوع) ش: هذا من كلام المصنف وليس في الحديث.
م: (ولنا ما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت قبل الركوع» ش: روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأخرج حديثه النسائي وابن ماجه عنه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر فيقنت قبل الركوع» هذا لفظ ابن ماجه، ولفظ النسائي «كان

(2/486)


وما زاد على نصف الشيء فهو آخره،
ويقنت في جميع السنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوتر بثلاث يقرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، ويقنت قبل الركوع» .
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأخرج حديثه ابن أبي شيبة في " مصنفه " والدارقطني في " سننه " عنه «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في الوتر قبل الركوع» وفي سنده أبان ابن أبي عياش متروك، وأخرج الخطيب نحوه وسكت عنه.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وخرجه الحافظ أبو نعيم في كتاب " الحلية " عنه قال: «أوتر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بثلاث قنت فيها قبل الركوع» وقال: غريب.
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأخرجه الطبراني في " معجمه الأوسط " عنه «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " كان يوتر بثلاث ركعات ويجعل القنوت قبل الركوع» ، وروى الطبراني أيضا في " معجمه الأوسط " عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يوتر بثلاث» وعن الأسود قال: كان عبد الله بن مسعود لا يقنت في صلاة الغداة وإذا قنت في الوتر قنت قبل الركوع، وفي لفظ: كان لا يقنت في شيء من الصلوات إلا في الوتر قبل الركوع. وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع.
م: (وما زاد على نصف الشيء فهو آخره) ش: هذا جواب عما رواه الشافعي إن قنت في آخر الوتر، وتقريره أن ما زاد على نصف الشيء فهو آخره. قال الأكمل: وسكت عن بيانه. قلت المراد هو الآخر حكما؛ لأن الآخر الحقيقي هو ما بعد التشهد، وليس هذا بمراد بالإجماع. وقال تاج الشريعة: إن آخره قد يكون قبل الركوع، وما رواه يكون محتملا لما قبل الركوع وبعده، وما رويناه محكم، فيحمل المحتمل على المحكم.

[أحكام القنوت في الصلاة]
م: (ويقنت في جميع السنة) ش: وهو قول عبد الله بن مسعود والحسن والنخعي وابن المبارك وإسحاق وأبي ثور، ورواية منصور عن ابن حنبل. وقال الثوري وهو قول جماهير أصحاب الشافعي، وقال قتادة: يقنت في السنة كلها إلا في النصف الأخير من رمضان، وعن ابن عمر: ولا يقنت في وتر ولا صبح بحال.

(2/487)


خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير النصف الأخير من رمضان «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحسن بن علي حين علمه دعاء القنوت: " اجعل هذا في وترك من غير فصل» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (خلافا للشافعي في غير النصف الأخير من رمضان) ش: مذهب الشافعي القنوت فيه في النصف الأخير من رمضان، وقيل: في جميع السنة لقول الجماعة، والصحيح من مذهبه اختصاص الاستحباب بالنصف الثاني من رمضان، وفي " الروضة ": لنا وجه آخر يقنت في جميع شهر رمضان، ووجه أنه يقنت في جميع السنة ونص الشافعي النصف الأخير سنة، وفي النهار، واختلف أصحاب الشافعي فقيل: يجوز أن يقنت بلا كراهة، وقيل يستحب، وقال جمهور أصحابه: الاستحباب يختص بالنصف الأخير من رمضان، وقال قوم: لا قنوت إلا في رمضان، وقال قوم: في النصف الأول من رمضان، وعند مالك القنوت مستحب ومحله صلاة الصبح. وقال قوم: يقنت في كل صلاة، وقال الطحاوي: لم يقل بالقنوت في النصف الأخير من رمضان إلا الشافعي والليث.
قلت: ذكر ابن قدامة في " المغني " روي عن علي وأبي وابن سيرين وأحمد ومالك في رواية مثل قول الشافعي.
م: «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين علمه دعاء القنوت: اجعل هذا في وترك من غير فصل» ش: دعاء قنوت الوتر أخرجه الأربعة عن أبي الحوراء «عن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: " علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر، وفي لفظ في قنوت الوتر: " اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل ربنا من واليت، تباركت ربنا وتعاليت» .
قال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي واسمه ربيعة بن شيبان، ولا نعرف عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في القنوت شيئا أحسن من هذا.
ورواه أحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه " وسكت عنه، ورواه البيهقي في " سننه " وزاد في روايته بعد واليت ولا يعز من عاديت وزاد النسائي في روايته تباركت [ربنا] وتعاليت، وصلى الله على النبي عليه وسلم.
وفي رواية بعد قوله: " تعاليت عما يقول الظالمون علوا كبيرا ": " لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا

(2/488)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إنك رؤوف رحيم، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين، أعوذ بعفوك من عقابك، وبرضاك من سخطك، ولا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ".
واستدل أصحابنا بهذا الحديث أن المستحب للقانت في الوتر أن يقنت بهذا الدعاء، وأما استدلال المصنف بقوله اجعل هذا في وترك من غير فصل فليس له وجود في هذا الحديث، فعجبي كل العجب أن أحدا من الشراح لم يتعرض لهذا، بل كلهم سكتوا خصوصا الأترازي حيث يقول: لنا «قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحسن حين علمه دعاء القنوت: " اجعل هذا في وترك» فدل على القنوت من جميع السنة؛ لأنه لم يقيد بوقت دون وقت، وكذلك الأكمل قال نحوه.
1 -
وقال صاحب " الدراية ": ولنا حديث تعليم الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور في المتن وليس كل منهما شفى العليل ولا روى الغليل؛ لأن الحديث غاية ما في الباب يدل على أن مما يدعى به في الوتر ما علمه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا يدل ذلك على استحباب قراءته في جميع السنة ولا يرضى به الخصم أن يكون هو حجة لنا عليه، واستدل لنا ابن الجوزي في " التحقيق " بحديث أخرجه الأربعة عن علي ابن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقول في آخر وتره: " اللهم أني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.» قال الترمذي: حديث حسن.
قلت: وجه الاستدلال به إن كان يقتضي الدوام فيدل على أنه كان يقنت به في جميع السنة، ومن ادعى غير ذلك فعليه البيان، وروي عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا يقنتان في جميع السنة، ولأن القنوت من سنن الوتر فلا يختص ببعض الأزمان كسائر السنن.
فإن قلت: أخرج أبو داود عن الحسن أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بهم عشرين ليلة من الشهر يعني رمضان ولا يقنت بهم إلا في النصف الثاني، فإذا كان العشر الأواخر تخلف وصلى في بيته، وأخرجه أيضا عن هشام عن محمد بن سيرين عن بعض أصحابه أن أبي بن كعب أمهم يعني في رمضان فكان يقنت في النصف الأخير من رمضان. وأخرج ابن عدي في " الكامل " عن أبي عاتكة طريف بن سليمان عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقنت في النصف من رمضان» .

(2/489)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في الطريق الأول لأبي داود انقطاع؛ لأن الحسن لم يدرك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفي الثاني مجهول. وقال النووي: الطريقان ضعيفان، وفي حديث ابن عدي أبو عاتكة وهو ضعيف. وقال البيهقي: هذا حديث لا يصح إسناده.
وقال الأترازي: فإن قلت: أبي بن كعب كان يؤمهم في رمضان وكان لا يقنت إلا في النصف الأخير، قلت: تقليد الصحابي عند الشافعي لا يجوز فكيف تجعل فعل أبي حجة علينا. قلت: الشافعي يورد هذا علينا؛ لأنا نقلد الصحابي. والجواب المخلص ما ذكرناه.
ثم قال أيضا فإن قلت: لا نقلد أيضا بل نستدل بالإجماع؛ لأن أبيا كان يؤم بحضرة الصحابة من غير نكير فحل محل الإجماع، قلت: لا نسلم الإجماع ألا ترى إلى ما ذكره الطحاوي من أن هذا القول لم يقل به أحد إلا الشافعي والليث بن سعد.. إلخ.
قلت: هذا يدل على عدم إطلاعه في هذا الفن كما ينبغي؛ لأنا قد ذكرنا عن قريب أنه روي عن علي وأبي وابن سيرين وأحمد ومالك كما روي عن الشافعي، وقد جاء في دعاء القنوت وجوه كثير منها ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقول بعد الركوع: " اللهم اغفر لنا وللمؤمنين وللمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن الكفرة من أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسولك، ويقاتلون أوليائك، اللهم خالف بين كلمتهم، وأزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ".
وفي رواية: " ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله "، وفي رواية: " ونتوب إليك ثم نتوكل عليك، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق "، وفي رواية بعد قوله: " ولا نكفرك ": " نخنع لك» ونخلع، ومعنى نخنع بالنون في غير الفعل نتواضع.
1 -
أما التسمية في القنوت فعلى قول ابن مسعود أنهما سورتان من القرآن عنده، وأما على قول أبي بن كعب فإنهما ليستا من القرآن وهو الصحيح فلا حاجة إلى التسمية، وبه أخذ عامة العلماء، ولكن الاحتياط أن يجتنب الحائض والنفساء والجنب عن قراءته.
ثم لنتكلم ما في هذه الأحاديث من الألفاظ المحتاجة إلى البيان. فقوله عن الحوراء بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وبعدها راء مهملة [وألف] ممدودة، وقد ذكرنا اسمه. قوله فيمن هديت أي فيمن هديتهم، وحذف المفعول كثير في الكلام لأنه فضلة، وكذلك حذف في بقية

(2/490)


ويقرأ في كل ركعة من الوتر فاتحة الكتاب وسورة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الألفاظ الدالة على الخطاب، وروي اللهم اهدنا بنون الجمع وكذلك في سائر الألفاظ الدالة على الإفراد. قوله وقني أي احفظني، وأصله من وقى يقي والأمر ق، وعلى الأصل أوق.
قوله: أنه أي أن الشأن، قوله لا يذل بفتح الياء ومن واليت فاعله، أي ومن واليته، والمعنى لا يذل من كنت له وليا حافظا ناصرا. قوله تباركت أي تعاظمت، قوله ربنا أي ربنا، قوله ونحفد بالدال المهملة من باب ضرب يضرب، أي شرع في العمل والخدمة، وأصل الحفد الخدمة والعمل، والحفدة الخدم جمع حافد، وفي " الصحاح " ولد الولد، ورجل محفود أي مخدوم. وقال الأصمعي: أصل الحفد مقاربة الخطو، وعن ابن مسعود الحفدة الأنصار، وفي " الكافي " ولو قال ونحفذ بالذال المعجمة تفسد صلاته. قوله ملحق بفتح الحاء وكسرها والكسر أفصح.

[القراءة في صلاة الوتر]
م: (ويقرأ في كل ركعة من الوتر فاتحة الكتاب) ش: قراءة الفاتحة في كل ركعة من الوتر واجبة بالإجماع، أما عند أبي يوسف ومحمد وعند الشافعي ومن معهم فلأنه نفل، وأما عند أبي حنيفة وإن كان واجبا لثبوته بخبر الواحد وفيه شبهة فيقرأها في كله للاحتياط م: (وسورة) ش: أي ويقرأ سورة مطلقة غير متعينة.
كما قال الشافعي: إنه يقرأ في الأولى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر: 1] ، وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وفي كتب الشافعية أنه يقرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قرأ كذلك، وقد بين المصنف أن السورة لا تتعين بقوله م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ش: (المزمل: الآية 20) ، وهذا التيسر متى عين فيه سورة ينقلب إلى العسر، والآية عامة في الوتر وغيره، ولأن درجة الوتر لا تربو على درجة المكتوبة ولم يتوقت فيها شيء سوى الفاتحة فكذا هذا. ومذهب مالك كمذهبنا كذا ذكره في المجموع، وخصص القاضي في " المعونة " الأولى بسبح، والثانية ب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] والوتر ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال في " الذخيرة ": وهو قول أبي حنيفة.
قلت: نقله عنه غلط، وعن مالك اقرأ في الوتر ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين، وأما الشفع فلم يبلغني فيه شيء، واحتجوا في ذلك بما روى ابن ماجه عن عائشة «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرأ في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين» .
وروى أبو داود عن أبي بن كعب قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوتر ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وقل للذين كفروا، والله الواحد الصمد، قلت: أراد بقل للذين كفروا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] »

(2/491)


وإن أراد أن يقنت كبر؛ لأن الحالة قد اختلفت ورفع يديه وقنت؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن» وذكر منها القنوت:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
، وأراد بقوله والله الواحد الصمد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يدل على ذلك رواية النسائي وابن ماجه، وفي روايتهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] .
وقال ابن قدامة: وحديث عائشة في هذا لا يثبت. قلت لا يفهم منها التعيين ولكن يتبرك بها فقرأها لكان حسنا، وقال الأترازي إذا لم يفعل ذلك بطريق المواظبة.
قلت: إذا كان قصده التبرك يكون حسنا سواء واظب عليها أو لا؛ لأن مواظبته لا تثبت الوجوب، وذكر الأسبيجابي أنه يقرأ في كل ركعة من الوتر بفاتحة الكتاب وسورة معها، ولو قرأ فيه بسبح و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] مع الفاتحة ولم يرها حتما بل خصصهما للتبرك والاقتداء بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يكره. وفي " التحفة " إن فعل ذلك أحيانا كان حسنا.

م: (وإذا أراد أن يقنت كبر) ش: يعني مصلي الوتر إذا فرغ من القراءة في الركعة الثالثة كبر، خلافا لبعض أصحاب الشافعي. وقال أحمد: إذا قنت قبل الركوع كبر ثم أخذ في القنوت. قال في " المغني " لابن قدامة، وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان إذا فرغ من القراءة كبر، ومن يقنت بعد الركوع يكبر حين يركع، ونقل عن المزني أنه قال: زاد أبو حنيفة تكبيرة في القنوات لم تثبت في السنة ولا دل عليها قياسه، وقال أبو نصر الأقطع: هذا خطأ منه، فإن ذلك روي عن علي وابن عمر والبراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والقياس يدل عليه أيضا، وأشار إليه المصنف بقوله م: (لأن الحالة قد اختلفت) ش: أي لأن حالة المصلي قد اختلفت؛ لأنه كان في حالة قراءة القرآن ثم ينتقل إلى حالة قراءة القنوت والحالتان مختلفتان، والتكبير في الصلاة عند اختلاف الحالة مشروع كما في حال الانتقال من القيام إلى الركوع ومن القومة إلى السجود.
فإن قلت: كان ينبغي أن يكبر بين الثناء والقراءة لاختلاف الحالة. قلت: الثناء مكمل للتكبير؛ لأنه يجانسه لكونه ثناء، وأما القنوت فواجب فيفرد بحكم على حدة، ولأن رفع اليد ثبت بالحديث الذي يأتي الآن وأنه غير مشروع بلا تكبير كما في تكبيرة الافتتاح وتكبيرات العيدين.
م: (ورفع يديه وقنت) ش: رفع يده كما في تكبيرة الافتتاح إعلاما للأصم، وللشافعي في رفع اليدين في القنوت وجهان، أحدهما الرفع ذكره في " الوسيط " وأظهرهما ما ذكره في " التهذيب " أنه لا يرفع، وبه قال مالك والليث بن سعد والأوزاعي وهو اختيار القفال وإمام الحرمين ولو قلنا: إنه يرفع هل يمسح بهما وجهه؟ في " التهذيب " أصحهما: أنه لا يمسح م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن» ش: [التعليل لقوله " رفع يديه "] أي رفع يديه بعد فراغه من القراءة ثم قنت، والحديث المذكور يدل على أن الركعة الثالثة من الوتر بعد الفراغ عن

(2/492)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القراءة، رفع اليدين أشار إليه بقوله م: (وذكر منها القنوت) ش: أي ذكر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من السبعة المذكورة التي ترفع فيها الأيدي عند تكبيرة القنوت. وقد تقدم الحديث في باب صفة الصلاة بما فيه من الكلام مستوفى، وقد ذكرنا هناك أنه ليس فيه ذكر القنوت فيما رواه البخاري مطلقا والبزار والطبراني، وإنما ذكر تكبيرة القنوت وقع فيما ذكره [هكذا مطلقا غريب، واستدل به هاهنا بناء على ما ذكره] المصنف هناك ولم ينبه عليه أحد من الشراح غير أن السغناقي أطال الكلام هاهنا من غير تفتيش عن كيفية الحديث المذكور، بني أكثر كلامه على ما ذكره المصنف وغيره، فقال: ولنا أن الآثار لما اختلفت في فعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تحاكما إلى قوله وهو الحديث المشهور أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن، ثلاثة في الصلاة، وأربعة في الحج، أما الثلاثة فتكبيرة الافتتاح، وتكبيرات العيدين، وتكبيرة القنوت، وأما الأربعة فعند استلام الحجر، وعند الصفا والمروة، وفي الموقفين، وعند الجمرتين وعند المقامين» ، والمتنازع فيه خارج عن السبع إلى آخر ما ذكره المصنف.
قلت: أراد بالمتنازع فيه رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، وفي قوله وهو الحديث المشهور نظر، ولئن سلمنا ذلك (فعل) رفع اليدين عند تكبيرة القنوت ليس في الحديث المذكور كما ذكرنا في باب صفة الصلاة، ثم قال هاهنا أعني في باب صفة الصلاة.
فإن قلت: بعد حصر رفع اليدين في الحديث [المذكور] بالمواضع السبعة فما وجه رفع اليدين عند كل دعاء.
قلت: يذكر جواب هذا في باب الوتر، فقال: الوتر.
فإن قلت: هذا الحديث يقتضي انحصار جواز رفع الأيدي في هذه المواضع السبعة؛ لأنه ذكر حرمة الرفع عاما ثم استثنى منه المواضع السبعة، فبقي وراءها تحت عموم الحرمة ضرورة حتى استدل بهذه أصحابنا على حرمة رفع اليدين عند الركوع، وعلى ما ذكر في الكتاب في باب صفة الصلاة لكونها فيما وراء السبعة، ثم عمل الأئمة على خلاف هذا فإنهم يرفعون أيديهم في مواضع الأدعية كلها وإن لم تكن هي من المواضع السبعة، فما وجهه؟ وأجاب عن هذا بما ملخصه أنه وجد رواية عن السيد السمرقندي في كتابه " المستخلص " أنه قال: آداب الدعاء عشرة: أي إن قام يدعو يستقبل القبلة ويرفع يده بحيث يرى بياض إبطيه، قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن ربكم حيي كريم فيستحي من عبده إذا رفع يده أن يردها صفرا» ، وكذا ذكره ركن الإسلام محمد بن أبي بكر في شرعة الإسلام في فضل سنن الدعاء بعد ذكره شرائط كثيرة ويبدأ بالدعاء لنفسه ويرفع يديه إلى المنكبين ويجعل باطن كفيه مما يلي وجهه، ولم يقنع بهذا حتى وجه رواية في " المبسوط "

(2/493)


ولا يقنت في صلاة غيرها، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفجر، لما «روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في صلاة الفجر شهرا ثم تركه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
و " المحيط " عن أبي يوسف أنه قال: إن شاء رفع يديه في الدعاء، وإن شاء أشار بإصبعيه؛ لأن رفع اليد عندنا في الدعاء سنة والاستسقاء ليس من تلك المواضع السبعة، واعلم أن رفع الأيدي في غير تلك المواضع جائز. ثم وجد ما ذكر من الحديث على وجه الانحصار، أي لا ترفع الأيدي على وجه السنن الأصلية التي هي سنة الهدى إلا في هذه المواضع، وأما في سائر المواضع إنما لترفع في الدعاء على أنه من الآداب والاستحباب والاتباع بالآثار لا على سنة الهدى. قلت: هذا الجواب غير مخلص؛ لأن رفع الأيادي في المواضع السبعة إذا كان من سنن الهدى فتركها يكون ضلالا، وتاركها يكون مبتدعا ولم يقل أحد بذلك.
وفي " المبسوط " عن محمد بن الحنفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الدعاء أربعة، دعاء رغبة، ودعاء رهبة، [ودعاء تضرع، ودعاء خفيه، ففي دعاء الرغبة يجعل بطون كفيه نحو السماء، وفي دعاء الرهبة] يجعل ظهر كفيه إلى وجهه كالمستغيث من الشيء، وفي دعاء التضرع يعقد الخنصر والبنصر ويحلق بالإبهام والوسطى، ويشير بالسبابة، ودعاء الخفية ما يفعله المرء في نفسه، وعلى هذا قال أبو يوسف في " الإملاء " يستقبل بباطن كفيه القبلة عند افتتاح الصلاة واستلام الحجر وقنوت الوتر وتكبيرات العيد، ويستقبل بباطن كفيه السماء عند رفع الأيدي على الصفا والمروة وبعرفات وبجمع وعند الجمرتين؛ لأنه يدعو في هذه المواقف بدعاء الرغبة.

[القنوت في الوتر]
م: (ولا يقنت في صلاة غيرها) ش: أي في غير الوتر، أنث الضمير باعتبار الصلاة م: (خلافا للشافعي في الفجر) ش: فعنده السنة أن يقنت في صلاة الفجر بعد الركوع وبه قال مالك، غير أنه قال يقنت قبل، وعند أحمد أن القنوت للأئمة يدعون للجيوش. وقال أبو نصر البغدادي: قال الشافعي: القنوت في الفجر سنة وفي بقية الصلوات إن حدثت حادثة بالمسلمين، وإن لم يحدث فله قولان. وقال أبو نصر: أيضا كان القنوت بعد الركوع في صلاة الفجر وقد نسخ القنوت فيها. قال: فإن قيل: ما بعد الركوع محل الدعاء بدليل أنه يقول سمع الله لمن حمده، فكان محلا للقنوت لأنه دعاء. قيل له ما قبل الركوع أولى لأنه محل للقراءة والركوع وما بعده ليس محلا للقراءة، ودعاء القنوت يشبه القرآن، وقد ذكر أنه في مصحف ابن مسعود وأبي، فكان ما قبل الركوع أولى به وأشبه، ولأن في تقديمه إحراز الركعة في حق المسبوق فكان أولى.
م: (لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في صلاة الفجر شهرا ثم تركه» ش: هذا الحديث حجة لنا على الشافعي، رواه [البزار] في " مسنده " والطبراني في " معجمه " وابن أبي شيبة في " مصنفه " والطحاوي في " الآثار " كلهم من حديث شريك القاضي

(2/494)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن أبي حمزة ميمون القصاب عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: «لم يقنت رسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الصبح إلا شهرا ثم تركه لم يقنت قبله ولا بعده» .
وجه الاستدلال به أنه يدل على أن قنوت رسول الله في الصبح إنما كان شهرا واحدا، وكان يدعو على أقوام، ثم تركه فدل على أن كان ثم نسخ. وقال الطحاوي: ثنا ابن أبي داود المقدمي ثنا أبو معشر ثنا أبو حمزة [ميمون القصاب] عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: «قنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا يدعو على عصية وذكوان، فلما نهي عنهم ترك القنوت» وكان ابن مسعود لا يقنت في صلاته به، ثم قال: فهذا ابن مسعود يخبر أن قنوت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان إنما كان من أجل من كان يدعو عليه، وأنه قد كان ترك ذلك فصار القنوت منسوخا، فلم يكن هو من بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت، وكان أحد من روى أيضا عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثم أخبرهم أن الله عز وجل نسخ ذلك حتى أنزل على رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] (آل عمران: الآية 128) ، فصار ذلك عند ابن عمر منسوخا أيضا فلم يكن هو يقنت بعد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وكان ينكر على من يقنت، وكان أحد من روى عنه القنوت عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد الرحمن ابن أبي بكر فأخبر في حديثه بأن [ما] كان يقنت به رسول الله دعاء على من كان يدعو عليه، وأن الله عز وجل نسخ ذلك بقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران: 128] الآية، ففي ذلك أيضا وجوب ترك القنوت في الفجر.
1 -
فإن قلت: [قد] ثبت عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقنت في الصبح بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فكيف تكون الآية ناسخة لجملة القنوت، وكذا أنكر البيهقي ذلك فبسط فيه كلاما في كتاب " المعرفة "، فقال: وأبو هريرة أسلم في غزوه خيبر وهي بعد نزول الآية بكثير لأنها نزلت في أحد، وكان أبو هريرة يقنت في حياته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبعد وفاته.
قلت: يحتمل أن يكون أبو هريرة لم يعلم بنزول الآية، فكان يعمل على ما علم من فعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقنوته إلى أن مات؛ لأن الحجة لم تثبت عنده بخلاف ذلك، [ألا ترى] أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما علما بنزول الآية وعلما بكونها ناسخا لما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل ترك ذلك.
فإن قلت: روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن البراء بن عازب أن «النبي عليه

(2/495)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام كان يقنت في صلاة الصبح وصلاة المغرب» وروى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، عن أبي هريرة قال: والله لأقربن صلاة رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الصبح فيدعو للمؤمنين ويلعن الكافرين: قلت: كل ما جاء من القنوت في الصلوات الفرض قد نسخ على ما بينا، وكيف تستدل الشافعية بهذا وهم لا يرون القنوت في المغرب فيعملون ببعض الحديث ويتركون بعضه وهذا تحكم.
فإن قلت: روى عبد الرزاق في " مصنفه "، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك: قال «مازال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا» ومن طريقه رواية الدارقطني في " سننه " وإسحاق بن راهويه في " مسنده " أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: «قال رجل لأنس بن مالك: أقنت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شهرا يدعو على حي من أحياء العرب، قال فزجره أنس بن مالك، وقال: مازال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا» قال إسحاق وقوله ثم تركه يعني تركه تسمية القوم في الدعاء، ورواه الحاكم في " مستدركه " وصححه، ورواه البيهقي عن الحاكم بسنده ومتنه وسكت عنه، قال: وله شواهد عن أنس ذكرها في " سننه ".
قلت: قال صاحب " التنقيح على التحقيق " هذا الحديث أجود أحاديثهم، وأبو جعفر الرازي وثقه جماعة وله طرق في كتاب " القنوت لأبي موسى المديني "، قال: وإن صح فهو محمول على أنه مازال يقنت في النوازل أو على أنه مازال يطول في الصلاة، فإن القنوت لفظ مشترك بين الطاعة والقيام والخشوع والسكوت وغير ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120] (النحل: الآية 120) ، وقال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9] (الزمر: الآية 9) ، وقال: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ} [الأحزاب: 31] (الأحزاب: الآية 31) وقال: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي} [آل عمران: 43] (آل عمران: الآية 43) ، وقال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] (البقرة: الآية 238) ، وقال: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] (البقرة: الآية 116) ، وفي الحديث: " أفضل «الصلاة طول القنوت» ، وابن الجوزي ضعف الحديث المذكور في " التحقيق "، وفي " العلل المتناهية " وقال: هذا حديث لا يصح، قال أبو جعفر الرازي: اسمه عيسى بن ماهان قال ابن المديني كان يخلط، وقال يحيى: كان يخطئ، وقال أحمد: ليس بالقوي في الحديث، وقال أبو زرعة: كان يهم كثيرا وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير، ورواه الطحاوي في " شرح الآثار " وسكت عنه إلا أنه قال: وهو معارض بما روي عن أنس «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما قنت شهرا يدعو على أحياء من العرب ثم تركه» .
1 -

(2/496)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ويعارضه أيضا ما رواه الطبراني في " معجمه "، ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ثنا شيبان بن فروخ ثنا غالب بن فرقد الطحاوي قال: كنت عند أنس بن مالك شهرين فلم يقنت في صلاة الغداة، وروى محمد بن الحسن في كتابه " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: «لم ير النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قانتا في الفجر حتى فارق الدنيا» وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": أحاديث الشافعية على أربعة أقسام:
منها: ما هو مطلق، وأن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت وهذا لا نزاع فيه، لأنه ثبت أنه قنت.
والثاني: مقيد بأنه قنت في صلاة الصبح [فيحمله على فعله شهرا بأدلتنا.
الثالث: ما روي عن البراء بن عازب «أن النبي كان يقنت في صلاة الصبح والمغرب» . رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، وقال أحمد: لا يروى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قنت في المغرب إلا في هذا الحديث.
الرابع: ما هو صريح في حجتهم، نحو ما رواه عبد الرزاق في " مصنفه "، وقد ذكرناه الآن، قال: وقد أورد الخطيب في كتابه الذي صنفه في القنوت أحاديث أظهر فيها تعصبه.
فمنهما: ما أخرجه عن دينار بن عبد الله خادم أنس بن مالك قال: «مازال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقنت في صلاة الصبح حتى مات» قال وسكوته عن القدح في هذا الحديث، واحتجاجه به وقاحة عظيمة وعصبية باردة وقلة دين؛ لأنه يعلم أنه باطل، قال ابن حبان: دينار يروي عن أنس أشياء موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب إلا على سبيل القدح فيها، فواعجبا للخطيب أما سمع في " الصحيحين ": «من حدث علي حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» ، ثم ذكر له أحاديث أخرى كلها عن أنس «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يزل يقنت في الصبح حتى مات» وطعن في أسانيدها. قلت اختلفت الآثار والأحاديث عن أنس واضطربت فلا يقوم مثل هذا حجة.
فإن قلت: حديث المصنف فيه أبو حمزة القصاب، قال ابن حبان: كان فاحش الخطأ كثير الوهم يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، وتركه أحمد ويحيى بن معين.
قلت: رضي به الطحاوي حيث استدل بحديثه وهو إمام جهبذ لا ينازع فيما يقوله، ولئن سلمنا فقد وردت أحاديث أخرى وإن كان بعضها ضعيفا، يقويه ويودعها الله ما شاء، منها ما روى ابن ماجه في " سننه " عن محمد بن يعلى عن عنبسة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن ماتع عن أبيه عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن القنوت في صلاة

(2/497)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصبح» . ومنها: ما روي «عن ابن عمر أنه ذكر القنوت فقال: إنه لبدعة ما قنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير شهر واحد ثم تركه» رواه بشر بن حرب عنه، وقال البيهقي: وهو ضعيف، وقال الذهبي: وبعضهم قواه واحتج به النسائي. ومنها: ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه «عن أبي مالك الأشجعي، قلت: يا أبت أليس قد صليت خلف رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وخلف أبي بكر وعمر؟ قال: بلى، قلت: فكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: يا بني محدث» وأبو مالك الأشجعي. روى عن أبيه طارق بن أشيم، قال البيهقي: طارق الأشجعي ما حفظه من غيره، قلت حفظه فالحكم له، وقال الذهبي: لا منافاة بينهما، بل يدل على أنهم كانوا يقنتون ويتركون إذا كان لا يستدعي دوام العقد، وخبر طارق صححه الترمذي.
ومنها: ما رواه البيهقي عن أبي مجلز قال: صليت مع ابن عمر [صلاة] الصبح، فلم يقنت ثم قلت له: لا تقنت! فقال: ما أحفظ من أحد من أصحابنا، قال الذهبي: هذا صحيح عن ابن عمر، وكونه مع فرط متابعته واعتنائه بالأثر [......] لم يحفظه يدل على ترك مداومة ذلك، وقال البيهقي: نسيان بعض الصحابة أو غفلته عن بعض السنن لا يقدح في رواية من حفظ وأثبت، وقال الذهبي: نسيان ابن عمر لذلك كالمستحيل؛ لأنه يستمر على صلاة الصبح دائما، وكان ملازما للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وصاحبيه، شديد الاتباع.

فإن قلت: ذكر الحازمي في كتابه " الناسخ والمنسوخ " اختلف الناس في قنوت الفجر، فذهب إليه أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار إلى يومنا، فروي ذلك عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ثم عمار بن ياسر وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي، ومعاوية بن أبي سفيان، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ومن المخضرمين أبو رجاء العطاردي، وسويد بن غفلة، وأبو عثمان النهدي، وأبو رافع الصائغ. ومن التابعين: سعيد بن المسيب، والحسن، ومحمد بن سيرين، وأبان بن عثمان، وهشام، وقتادة، وطاووس، وعبيد بن عمير، والربيع بن خثيم، وأيوب السختياني، وعبيدة السلماني وعروة بن الزبيرِ، وزياد بن عثمان، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمر بن عبد العزيز، وحميد الطويل، وذكر جماعة من الفقهاء، ثم قال: وخالفهم طائفة من الفقهاء وأهل العلم [فمنعوه] وادعوا أنه منسوخ.
قلت: قد ذكرنا النسخ ووجهه وكل من روى القنوت، وروى تركه ثبت عنده نسخه؛ لأن فعله للمتأخر ينسخ المتقدم، وقد صح أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يقنت في صلاة المغرب» كما في صلاة

(2/498)


..
....
....
....
..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الفجر ثم انتسخ أحدهما بالاتفاق فكذلك الآخر.
فإن قلت: تركه ليس فيه دلالة على نسخه؛ لأنه يجوز أن يكون تركه وعاد إليه، قد يدفع هذا ما روى أبو يعلى الموصلي بسنده عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد الله بن كعب، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده يدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار من قريش، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] (آل عمران: الآية 128) ، فما عاد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يدعو على أحد بعد» . ويؤيده ما أخرجه البخاري ومسلم عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا أراد أن يدعو على أحد قنت بعد الركوع " وربما قال: سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف، يجهر بذلك حتى كان يقول في بعض صلاة الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من العرب، حتى أنزل الله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] الآية» .
فإنه قلت: هذا كله يدل على أن المتروك [فعله] هو الدعاء على الكفار.
قلت: حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[أنه]- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يقنت في الفجر إلا شهرا ولم يقنت قبله ولا بعده يدل على نفيه بالكلية غير شهر واحد فافهم.
ومن الدلائل عليه ما روي عن شيبان ثنا غالب بن فرقد، قال: كنت عند أنس بن مالك شهرين فلم يقنت في صلاة الغداة ولو لم يثبت عنده النسخ لما تركه. وقال أبو زرعة: شيبان صدوق، وعن نافع «عن ابن عمر قال: صليت خلف رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعمر وعثمان فلم يقنتوا» وصلى علقمة ومسروق والأسود وعمرو بن ميمون خلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يقنت.
1 -
فإن قلت: أخرج البيهقي عن طاوس قال: صليت خلف عمر الصبح فقنت. وعن عبيد بن عمير قال: سمعت عمر يقنت هاهنا في الفجر بمكة، ثم قال: هذه روايات صحيحة موصولة.
قلت: كيف تكون صحيحة وفي أسانيدها محمد بن الحسن الروذباوي، قال ابن الجوزي في كتابه: قال البرقاني كان كذابا. قال الدارقطني: خلط الجيد بالرديء فأفسده، بل الروايات الصحيحة عن عمر أنه لم يقنت، فمنها «رواية أبي مالك الأشجعي، وقد ذكرناها. وروى ابن حبان في " صحيحه " والبيهقي أيضا عنه ولفظه: صليت خلف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فلم يقنت وصليت

(2/499)


فإن قنت الإمام في صلاة الفجر يسكت من خلفه عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتابعه لأنه تبع لإمامه، والقنوت في الفجر مجتهد فيه. ولهما أنه منسوخ ولا متابعة فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بني إنها بدعة» . ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا ابن أبي خالد عن أبي الصماء عن سعيد بن جبير أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لا يقنت في الفجر، ورواه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن أبي خالد، وفي " التهذيب " لابن جرير الطبري روى شعبة عن قتادة عن أبي الشعثاء عن ابن عمر مثله، وقال الشعبي: كان عبد الله لا يقنت، ولو قنت عمر لقنت عبد الله، وعبد الله يقول لو سلك الناس واديا وشعبا وسلك عمر واديا وشعبا، لسلكت وادي عمر وشعبه، وقال إبراهيم وقتادة: لم يقنت أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حتى مضيا. وروى شعبة عن قتادة عن أبي مجلز.
قلت: لابن عمر الكبير: ما يمنعك عن القنوت قال: لا أحفظه عن أحد، وقال قتادة: عن علقمة عن أبي الدرداء قال: لا قنوت في الفجر، وأخرج أبو مسعود الرازي في أصول السنة وجعل أول حديث من قال إن القنوت محدث وأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت شهرا ثم تركه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، ورواه الطبري عن ابن كريب، وسئل ابن عمر عن القنوت في صلاة الفجر فقال: لا والله لا نعرف هذا. وعن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: القنوت في صلاة الفجر بدعة، ذكره ابن منده، وقال الليث بن سعد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما قنت منذ أربعين عاما أو خمسة وأربعين عاما إلا وراء إمام يقنت، وقال: أحدث في ذلك بالحديث الذي جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قنت شهرا أو أربعين يوما يدعو لقوم ويدعو على آخرين حتى أنزل الله عز وجل معاتبا {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] الآية، فترك رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - القنوت فما قنت بعدها حتى لقي الله عز وجل قال: فمنذ حملت هذا الحديث لم أقنت.

م: (فإن قنت الإمام في صلاة الفجر يسكت من خلفه عند أبي حنيفة ومحمد) ش: أطلق ذكر الإمام يتناول الشافعي والحنفي وغيرهما، فمن قنت في صلاة الفجر م: (وقال أبو يوسف يتبعه) ش: أي: يتبع الإمام في قراءة القنوت م: (لأنه يتبع الإمام) ش: فلا يخالفه؛ لأن الأصل هو المتابعة م: (والقنوت في الفجر مجتهد فيه) ش: لأن بعض العلماء يرون القنوت في الفجر، لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في الفجر على ما مر، فيه أحاديث كثيرة وبعضهم يقولون إنه منسوخ، وصار مجتهدا فيه فلا يترك بالشك م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي القنوت في الفجر م: (منسوخ) ش: وقد بينا وجهه مستوفى م: (ولا متابعة فيه) ش: أي في المنسوخ؛ لأن الاتباع

(2/500)


ثم قيل: يقف قائما ليتابعه فيما تجب متابعته. وقيل: يقعد تحقيقا للمخالفة؛ لأن الساكت شريك الداعي،
والأول أظهر ودلت المسألة على جواز الاقتداء بالشفعوية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه لا يجوز، ثم إذا لم يتابعه عندهما ماذا يفعل؟ فقد اختلفوا أشار إليه بقوله م: (ثم قيل يقف قائما) ش: أي يقف المقتدي حال كونه قائما ينتظر الإمام م: (ليتابعه بما تجب متابعته فيه) ش: وهو القيام. وقال قاضي خان: هو الصحيح.
م: (وقيل يقعد تحقيقا للمخالفة) ش: أي لأجل التحقيق في مخالفته في المنسوخ م: (لأن الساكت شريك الداعي) ش: ألا ترى أن المقتدي وإن كان لا يأتي بالقراءة فهو شريك الإمام. فإن قلت: تحقيق المخالفة مفسد للصلاة، قلت: إنما يكون مفسدا إذا كان في ركن من أركان الصلاة أو شرائطها، فأما في غير ذلك فلا.
فإن قلت: الساكت إذا كان شريك الداعي ينبغي أن لا يفصل؛ لأن السكوت موجود في القعود أيضا.
قلت: السكوت إنما يكون دليل الشركة إذا لم توجد المخالفة وقد وجدت؛ لأنه قاعد والإمام قائم، وعلى الخلاف المذكور إذا كبر خمسا على الجنازة، فإذا لم يتابعه في الخامسة عندهما، قيل: يسلم ولا ينتظر الإمام؛ لأنه اشتغل بأمر غير مشروع لقبحها وهو الأصح أن يسكت ويتابع الإمام في السلام، ولم يذكر فيها أنه يقعد تحقيقا للمخالفة كما ذكر في القنوت.

م: (والأول أظهر) ش: هو قول من قال يقنت قائما لأن الأصل المتابعة لا المخالفة، ولو قعد لخالفه فيما يجب متابعته م: (ودلت المسألة) ش: أي المسألة المذكورة، وهي اقتداء من لا يرى القنوت في صلاة الفجر بمن يراه فيها م: (على جواز الاقتداء بالشفعوية) ش: لأنه إذا لم يجز الاقتداء بمن يرى القنوت في الفجر وهو الشافعي ومن تابعه لا يصح اختلاف علمائنا بأن المقتدي يسكت خلفة أو يتابعه، وقوله بالشفعوية أي بالطائفة الشفعوية، وهو لمذهب جمع شفعوي في زعم القائل هذا، وفي ذيل المغرب ومن الخطأ الظاهر قولهم اقتداء حنفي المذهب بشفعوي وإنما الصواب شافعي المذهب في النسبة إلى الإمام الشافعي على حذف بالنسبة من المنسوب إليه؛ لأن الشافعي منسوب إلى جده شافع، والقاعدة أنهم إذا أردوا النسبة إلى شيء منسوب إلى آخر يحذفون ياء النسبة منه.
وقال صاحب " المحيط ": وقال قاضي خان وغيرهم: إنما يصح الاقتداء بالشافعية إذا كان الإمام يحتاط في موضع الخلاف بأن كان لا ينحرف عن القبلة ويجدد الوضوء عند الفصد والحجامة ويغسل ثوبه من المني ولا يكون منقصا ولا شاكا في إيمانه، أي لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، بل يقطع بإيمانه من غير استثناء، قلت: هذا يرجع إلى أن يصير حنفيا والتعصب يوجب فسقه، والصلاة خلف الفاسق جائزة، والانحراف عن القبلة ليس من مذهب الشافعي، وإنما

(2/501)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينسب ذلك إلى بعض الأمويين.
وقال في " المحيط ": ولا يقطع وتره. وقال أبو بكر الرازي: يجوز اقتداء الحنفي بمن يسلم على الركعتين في الوتر ويصلي معه بقية الوتر؛ لأن إمامه لا يجزئه سلامه عنده لأنه مجتهد فيه، كما لو اقتدى بإمام قد رعف وهو يعتقد أن طهارته باقية؛ لأنه مجتهد فيه فطهارته باقية في حقه. وقيل لا يصح الاقتداء في الرعاف والحجامة وبه قال الأكثرون، وإن رآه احتجم ثم غاب فالأصح جواز الاقتداء به يجوز أن يتوضأ احتياطا وحسن الظن به أولى، شاهد [بثيابه] منيا ولو رآه ثم صلى، ولم يتوضأ، قيل: يصح الاقتداء به. وقيل: لا يصح كاختلافهما في جهة التحري فإنه يمنع في " الواقعات " الرائي في ثوب إمامه بولا أقل من قدر الدرهم، وهو يرى أنه لا يجوز الصلاة معه، والإمام يرى جوازها معه يعيد صلاته. وفي " المنهاج ": لو اقتدى شافعي بحنفي مس فرجه أو افتصد فالأصح الصحة في الفصد دون المس اعتبارا بنية المقتدي، وفي " الخرقي " المختلفون في الفروع تصح الصلاة خلفهم من غير كراهة.
وقال ابن قدامة: ما لم يعلم أنهم تركوا ركنا أو شرطا، ولو اقتدى الحنفي بمن يرى الوتر سنة يجوز لضعف دليل وجوبه ذكره في " مختصر المحيط "، وفي جواز اقتداء الحنفي بالشافعي ذكر أبو الليث أنه لا يجوز من غير أن يطعن في دينهم. وفي " جامع الكردري " عن أبي حنيفة أن من عمل عملا من رفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه تفسد صلاته، وفي " الفوائد الظهيرية " فيه نظر، ومن شرط جواز اقتداء الحنفي بالشافعي أن لا يتوضأ بماء راكد يبلغ قلتين ووقعت فيه النجاسة وأن يغسل ثوبه من المني الرطب ويفرك يابسه وأن لا يقطع الوتر، وأن لا يراعي الترتيب، وأن لا يمسح ربع ناصيته، فإذا لم يعلم هذه الأشياء (يتعين) يجوز الاقتداء به ويكره، وأن يقف إلى القبلة مستويا ولا ينحرف انحرافا فاحشا. وفي " الخلاصة " والمراد بالانحراف الفاحش أن [لا] يتجاوز [....] وأن لا يكون شاكا في إيمانه، والشك في إيمانه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله، أما لو قال: أنا أموت مؤمنا إن شاء الله يصلي خلفه.
وفي " الحيلة ": صلى خلف حنفي أو مالكي يجوز إذا قرأ الفاتحة مع التسمية واعتدل في الركوع والسجود، وإن كان بخلاف هذا لا يجوز. وقال الأترازي: وقول من قال: أنا مؤمن إن شاء الله باطل؛ لأن التعليق مناف للوقوع كما في قوله لامرأته أنت طالق لا يقع الطلاق، وإنما هذا إذا كان حاصلا قبل التعليق فلا يصح التعليق؛ لأنه يكون في أمر مقدم على خطر الوجود، ألا ترى أن أحدا من العقلاء لا يقول هذه اسطوانة إن شاء الله؛ لأن الله قد شاء قبل ذلك، وإن لم يكن حاصلا يصح تعليقه ولا يصح إيمانه. فإن قال لا أريد التعليق بل أريد التبرك

(2/502)


وعلى المتابعة في قراءة القنوت في الوتر. وإذا علم المقتدي منه ما يزعم به فساد صلاته كالفصد وغيره لا يجوز الاقتداء به، والمختار في القنوت الإخفاء؛ لأنه دعاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما في قَوْله تَعَالَى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] (الفتح: الآية 27) ؛ لأن الله قد شاء قبل ذلك، فيرد عليه بأن التعليق ليس بمراد في الآية، بل التعليق مراد بعينه؛ لأنه عبارة عن توقيف أمر على أمر سيكون وكان دخولهم المسجد الحرام بصفة الأمن موقوفا على مشيئة الله تعالى، كما أن الطلاق موقوف على مشيئة الله في قوله أنت طالق إن شاء الله؛ لا أن الطلاق لا يقع لعدم العلم بمشيئة الله بخلاف دخول المسجد الحرام فإنه لما حصل حسب علمنا أن مشيئة الله قد وجدت أيضا قطعا ويقينا؛ لأن وجود المشروط يدل على وجود الشرط لأنه لا وجود له بدون الشرط.

م: (وعلى المتابعة في قراءة القنوت في الوتر) ش: أي ودلت المسألة أيضا على جواز متابعة المقتدي الإمام في قراءة القنوت في الوتر يعني يقنت فيه كالإمام. قال قاضي خان: ومنهم من قال: يقنت الإمام جهرا ولا يقنت المقتدي، قال: والصحيح أنه يقنت لأن الاختلاف في الدعاء المنسوخ يدل على الاتفاق في القنوت المشروع بالطريق الأولى.
م: (وإذا علم المقتدي منه) ش: أي من الإمام م: (ما يزعم به فساد صلاته كالفصد وغيره) ش: نحو ترك الوضوء في الخارج النجس من غير السبيلين م: (لا يجوز الاقتداء به) ش: لأنه رأى إمامه على خطأ يمنع اقتداءه به في زعمه، وقد بسطنا الكلام فيه عن قريب.
م: (والمختار في القنوت الإخفاء لأنه دعاء) ش: والمسنون في الدعاء الإخفاء، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] (الأعراف: الآية 55) ، ولم يذكر هذه في ظاهر الرواية، فعند أبي يوسف يجهر الإمام بالقنوت والمقتدي يخير إن شاء أمن، وإن شاء قرأ جهرا أو مخافتة.
وعن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخفي الإمام والمقتدي بالقنوت؛ لأنه ذكر كسائر أذكار الافتتاح وتسبيحات الركوع والسجود. وقال بعضهم يحمله الإمام عن المقتدي كالقراءة، وفي " الحاوي " يجهر الإمام بالقنوت، وقيل يخافت، وقيل يتوسط بين الجهر والمخافتة. وعن محمد: أن الإمام والمأموم يجهران بالقنوت، وفي " نوادر ابن رستم " رفع الإمام والمأموم صوتهما في قنوت الوتر أحب إلي.
وفي " المفيد ": قال مشايخنا: المؤتم يخفي القنوت حتما، والإمام لا يخفي حتى يسمع الناس، وقيل: إن كان القوم لا يعلمون القنوت يجهر الإمام به ليتعلموا منه وإلا يخفي. قال بعض الأصحاب: يجب أن يجهر به لشبهه بالقراءة. وفي " الحاوي ": ولم ير بعض أصحابنا التأمين ولا الإرسال، بل يرون وضع اليمين على الشمال، وفي " المبسوط " وهو الأصح، وعند المالكية لو ترك الجهر به سهوا سجد للسهو، وإن تعمد ففي بطلان وتره قولان، ذكره في

(2/503)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الذخيرة " للقرافي، وفي " القدوري ": يرسل يديه، وفي " الذخيرة " يرسل عندهما، ورواية عن أبي حنيفة وفي رواية عنه يضعهما، ومعنى الإرسال: أن لا يبسطها كما يفعله الداعي في حالة الدعاء، وعن أبي حنيفة أنه يشير بالسبابة من يده اليمنى فيه. وعن أبي يوسف: أنه يبسط في حال القنوت.
1 -
فروع: إن نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام في صلاة الجهر، وبه قال الأكثرون وأحمد.
وقال الطحاوي: إنما لا يقنت عندنا في صلاة الفجر من غير بلية، فإن وقعت فتنة أو بلية فلا بأس به، فعله رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذكره عنه السيد الشريف صاحب " النافع " في مجموعه، وفي السابع إذا قنت الإمام في شهر رمضان تابعه القوم إلى قوله: ملحق، فإذا شرع في الدعاء قال أبو يوسف: يتابعونه؛ وقال محمد: يؤمنون على دعائه، وقيل: إن شاءوا سكتوا، ومن لا يحسن دعاء القنوت قال المرغيناني: يقول على وجه الاستحباب اللهم اغفر لي ثلاثا.
وفي " الواقعات " و " الذخيرة ": اللهم اغفر لنا ثلاثا أو أكثر، وقيل: يقول يا رب ثلاثا ذكره في " الذخيرة "، وقيل: يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وهو اختيار بعض المشايخ.
وفي " المرغيناني ": ولا يصلي على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وفي " المحيط " هذا عند بعضهم؛ لأنه ليس موضع الصلاة عليه، واختيار أبي الليث أن يصلي عليه ثم لا يصلي في القعدة الأخيرة. وقال محمد: ليس في القنوت دعاء مؤقت؛ لأنه إذا لم يؤقت في القرآن ففي الدعاء أولى، وفي " المحيط " و " الذخيرة ": يعني قول محمد ليس في القنوت دعاء مؤقت يعني غير قوله اللهم إنا نستعينك.. الخ، واللهم اهدنا.. الخ، وفي " جوامع الفقه ": قيل: المراد به خارج الصلاة، وفي " المبسوط ": ذلك في المناسك ولا في الصلوات، وأهل العراق يسمونها السورتين. وقال عبد الله بن داود: من لم يقنت بسورتين لا يصلى خلفه، وعند مالك يقنت بهما. وقال إسحاق والشافعي: يقنت بقوله: اللهم اهدني فيمن هديت.. إلخ، ولو بسط يديه بعد الفراغ منه ومسح بهما وجهه قيل: تفسد صلاته، ذكره في " جوامع الفقه "، وورد به حديث، رواه أبو داود وفي إسناده رجل مجهول، وكان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا دعا يرفع يديه مسح بهما وجهه، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة ذكر الحديثين في " المغني ".

[حكم من أوتر ثم قام يصلي يجعل آخر صلاته وترا أم لا] 1
اختلف العلماء فيمن أوتر، ثم قام يصلي، هل يجعل آخر صلاته وترا أم لا؟ فكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا عرض له ذلك صلى ركعة واحدة في ابتداء قيامه وأضافها إلى وتره ينقضه بها، ثم يصلي مثنى مثنى ثم يوتر، والجمهور لا يرون نقض الوتر. وفي " جوامع الفقه ": لو ترك القعدة الأولى في الوتر جاز ولم يحك خلاف محمد. الوتر في رمضان بالجماعة أحب

(2/504)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في اختيار أبي على النسفي، واختيار غيره أن يكون في منزله، وفي " المبسوط " و " المرغيناني ": ولا يصلي بالجماعة إلا في شهر رمضان. وفي " الذخيرة " الاقتداء في الوتر خارج رمضان جائز، قال: ذكره في النوازل وفي القدوري لا يجوز أي يكره.
شك في القيام أنه في الثانية أو الثالثة يقنت في تلك الركعة بجواز أن تكون الثالثة ثم يقعد ويصلي أخرى ويقنت فيها أيضا احتياطا بجواز أنها الثالثة، المسبوق في الوتر في رمضان إن قنت مع الإمام لا يقنت ثانيا فيما يقضي. وفي الجامع الصغير أدرك الإمام في الثالثة من الوتر في شهر رمضان وقنت مع الإمام، روى الحسن أنه يقنت في الثالثة، وهو خلاف ما ذكر في كتاب الصلاة. وفي " أجناس الناطفي " لو شك أنه في الأولى أو الثانية والثالثة قال: يقنت في الركعة التي هو فيها احتياطا، وفي قول لا يقنت في الكل. وفي " الذخيرة " لو قنت في الأولى ساهيا أو الثانية لم يقنت في الثالثة؛ لأنه لا يتكرر، [ولو شك في الثالثة أنه قنت أو لا يجزئ فإن لم يحضره رأي قنت. وفي مختصر البحر] ولو شك أنها الأولى أو الثانية أو الثالثة يصلي ثلاث ركعات بثلاث قعدات ويقنت في الأولى لا غير في قول أئمة بلخ. وعن أبي حفص الكبير أنه يقنت في الثانية وبه قال النسفي، ولو شك أنها الثانية أو الثالثة يقنت في الركعتين عند أبي حفص والنسفي، بخلاف المسبوق حيث لا يقنت في الآخرة في القضاء.
وفي " المبسوط " إن نسي القنوت فتذكر بعد الركوع لم يقنت لفوات محله، وإن تذكر في الركوع يعود إلى القيام ويأتي به، وفي رواية ثم يعيد الركوع؛ لفرضيته كتكبيرات العيدين ويأتي به في رواية، ثم يعيد الركوع؛ لفرضيته كتكبيرات العيدين والقراءة، كذا ذكر في " الذخيرة "، وفي رواية لا يعود إلى القيام، ويسقط القنوت ولا يجمع بين وترين في ليلة واحدة؛ لحديث طلق بن عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «لا وتران في ليلة» ، رواه الترمذي قال: حديث حسن غريب، ومعناه أن من صلى الوتر ثم صلى بعد ذلك لا يعيد الوتر، مقدار القيام في القنوت قدر سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] .

(2/505)