البناية
شرح الهداية باب صلاة المسافر
السفر الذي يتغير به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيام ولياليها
سير الإبل ومشي الأقدام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة المسافر]
م: (باب صلاة المسافر) ش: أي: هذا باب في بيان أحكام صلاة المسافر،
والإضافة فيه إضافة المفعول إلى فاعله، والمسافر في باب المفاعلة في السفر،
وهو الكشف، إذ الطريق تكشف للمسافر، والأصل في المفاعلة أن يكون الفعل بين
اثنين، وقد يستعمل في حق الواحد أيضا، وهو من هذا القبيل، كما في قَوْله
تَعَالَى: {وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133] بمعنى أسرعوا، وجه المناسبة بين
البابين من حيث وجود النقص فيهما، وهو ظاهر، والذي ذكره الشراح هاهنا بمعزل
من الوجه على ما لا يخفى.
[السفر الذي يتغير به الأحكام]
م: (السفر الذي يتغير به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيام،
ولياليها) ش: السفر في اللغة: قطع المسافة، وليس بمراد هاهنا، بل المراد
قطع خاص، وهو الذي قاله بقوله - الذي يتغير به الأحكام- أراد بتغير الأحكام
قصر الصلاة، والإفطار، والمسح ثلاثة أيام ولياليها، وسقوط الجمعة،
والعيدين، وسقوط الأضحية، وحرمة الخروج على الحرة بغير محرم.
وكلمة - أن- في أن يقصد مصدرية في محل الرفع؛ لأنه خبر المبتدأ، أعني
السفر، والقصد هو الإرادة الحادثة المقارنة لما عزم، وقيد به لأنه لو طاف
جميع العالم بلا قصد سيرا بالأقدام لا يكون مسافرا، ولو قصد ولم يظهر ذلك
بالنية فكذلك، فكان المعتبر في حق تغير الأحكام اجتماعهما.
فإن قلت: الإقامة تثبت بمجرد النية، فما بال السفر، وهو لم يجعل بمجردها،
وقال الأترازي: إذا جاوز بيوت المصر غير قاصد لمدة السفر لا يكون مسافرا،
كذا إذا جاوزها وهو يقصد ما دون مدة السفر، وكذا إذا قصد مدة السفر ولم
يجاوز بيوت المصر لا يكون مسافرا، لأن مجرد العزم لا يعتبر ما لم يتصل
الفعل به، فمن هذا عرفت أن صاحب " الهداية ": تسامح حيث لم يذكر فيه مجاوزة
بيوت المصر.
قلت: المصنف في صدد تعريف السفر، والذي ذكر شرط لغيره، وسيجيء إن شاء الله
تعالى.
م: (سير الإبل) ش: بالنصب على أنه بدل من قوله على أنه مسيرة، أو على عطف
البيان، وقد عظم السغناقي في إعراب هذا الموضع، حيث قال بالنصب في سير
الإبل، هكذا سمعت من الشيخ، ووجدته مقيدا بخطه.
قلت: يجوز أن يكون منصوبا بتقدير أعني سير الإبل، ويجوز أن يكون مرفوعا على
أنه خبر المبتدأ المحذوف، تقديره هي سير الإبل. م: (ومشي الأقدام) ش:
بالنصب أيضا عطفا على ما قبله.
(3/3)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويجوز الوجهان المذكوران أيضا، ولا يراد بالسير السير ليلا ونهارا، وإنما
المراد السير نهارا؛ لأن الليل للاستراحة، وليس الشرط ذهابه من الفجر إلى
الفجر. لأن الآدمي لا يطيق ذلك، وكذا الدابة لا تطيق المشي في بعض النهار،
ونزوله للاستراحة ملحق بالسير في حق تكميل مدة السفر.
وفي هذا الموضع اختلاف كثير، فقال أصحابنا والكوفيون: أقل مسافة يقصر فيها
الصلاة مسيرة ثلاثة أيام، ولياليهن بسير الإبل، ومشي الأقدام في أقصر أيام
الشتاء أو على سير البريد، وإبطاؤه العجل، والوسط هو المذكور، وهو سير
القافلة.
وفي " التحفة ": هذا جواب ظاهر الرواية. وفي " المفيد ": لو سلك طريق هي
ميسرة ثلاثة أيام، وأمكنه أن يصل في يوم من طريق آخر قصر، وقدر أبو يوسف
بيومين وأكثر الثلاث، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، ورواية ابن سماعة عن
محمد، وفي " المحيط " و" التحفة ": وهو رواية عن أبي يوسف، ومحمد، وأكثر
اليوم الثالث أن يبلغ مقصده بعد الزوال في اليوم الثالث، وذكره الأسبيجابي.
وقال المرغيناني: وعامة المشايخ قدروها بالفراسخ، فقيل: أحد وعشرون فرسخا،
وقيل: ثمانية عشر فرسخا، قال المرغيناني: وعليه الفتوى، وفي " جوامع الفقه
": وهو المختار، وقيل: خمسة عشر فرسخا، وما ذكره المصنف هو مذهب عثمان،
وابن مسعود، وسويد بن غفلة، وفي " التمهيد ": وحذيفة اليماني، وأبي قلابة،
شريك بن عبد الله، وابن جبير، وابن سيرين، والشعبي، والنخعي، والثوري،
والحسن بن حي، وحكى صاحب " المبسوط " عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - مثل مذهبنا، والصحيح عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - غير ذلك، وروى البخاري أن ابن عباس، وابن عمر كانا
يقصران في أربعة من وجوه:
الأول: أن ذلك ليس حديثا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وإنما هو فعلهما، والشافعي لا يرى فعل أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة، فكيف يعمل به؟
الثاني: أن غيرهما من الصحابة.
الثالث: أنه قد اختلف عنهما في ذلك أشد اختلاف، روى أيوب، وحميد بن جريج،
عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه لا يقصر في أقل من ستة وتسعين
ميلا.
الرابع: أنه لم يذكر أنه منع في أقل من أربعة برد، وروي عن حفص بن عاصم وهو
أولى من نافع أنه قصر في ثمانية عشر ميلا، ذكر ذلك الحافظ أبو جعفر،
والجواب عن الحديث أنه يروونه عن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف عن عبد الوهاب
بن مجاهد، وعبد الوهاب أشد
(3/4)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» عمت الرخصة
الجنس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضعفا منه، قال يحيى، وأحمد: ليس بشيء، وقال الثوري: كذاب، وقال النسائي:
متروك الحديث.
وقال النووي: قال أبو حامد، وصاحبا المسائل، والبيان وغيرهم: للشافعي سبعة
نصوص في مسافة القصر، قال في موضع: ثمانية وأربعون ميلا، وقال في موضع: ستة
وأربعون ميلا، وفي موضع: أكثر من أربعين ميلا، وفي موضع: أربعون ميلا، وفي
موضع: يومان، وفي موضع: ليلتان، وفي موضع: يوم وليلة، وأصحابه ركبوا الشطط
في التوفيق بين الأقوال، واستحب الشافعي أن لا يقصر في أقل من ثلاثة أيام
ولياليهن لأجل مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى يخرج من
الخلاف.
ولفظ " المحلى " في " مختصر المزني ": فأما أنا فأحب أن لا أقصر في أقل من
ثلاثة أيام احتياطا على نفسي. قال أبو الطيب: وهذا كقوله في الصلاة خلف
المريض قائما، والأفضل أن يستخلف صحيحا يصلي بهم حتى يخرج من الخلاف،
وكقوله إذا حلف الأفضل أن لا يكفر بالمال لا بعد الحنث لتخرج من الخلاف،
وقال الأوزاعي: يقصر في يوم تام، قال ابن المنذر في " الأشراف ": وبه أقول.
وحكى ابن حزم في " المحلى ": عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه سئل عن القصر من
الكوفة إلى واسط، فقال: لا يقصر الصلاة في ذلك، وبينهما مائة وخمسون ميلا،
وعن الحسن بن حي في رواية: لا قصر في أقل من اثنين وثمانين ميلا، كما من
الكوفة وبغداد.
وذكر في " التمهيد ": عن داود الظاهري أنه يقصر في طول السفر وقصره، وقال
أبو حامد: حتى لو خرج إلى بستان له خارج البلد قصر. وفي "المبسوط "، قال:
فمناط القياس لا تقدير فيه، بل العمل بإطلاق القرآن. وفي " المحلى ": أنه
لا يقصر في أقل من ميل عند الظاهرية وهو منهم، فإطلاق أبي عمر في " التمهيد
"، وإطلاق أبي حامد، وشمس الأئمة غير صحيح، فإن ابن حزم أخبر بمذهبه من غير
أهل مذهبه.
م: «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يمسح المقيم كمال يوم
وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها) » ش: الحديث صحيح وقد مر الكلام عليه
مستوفى في باب المسح على الخفين، وأما وجه الاستدلال به فهو قوله. م: (عمت
الرخصة الجنس) ش: عمت رخصة المسح ثلاثة أيام ولياليها الجنس، وهو جميع
المسافرين، وقوله الرخصة مرفوع بإسناده إلى "عم"، والجنس منصوب لأنه مفعول،
بيان ذلك أن الألف واللام في قوله - والمسافر- لا يخلو إما أن يكون المراد
المعهود أو الجنس والمعهود منتف، فتعين الجنس، وهو أن يكون المسافر شاملا
لجميع المسافرين فلا يكون القاصد لما دون ثلاثة أيام ولياليها
(3/5)
ومن ضرورته عموم التقدير، وقدره أبو يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ - بيومين وأكثر اليوم الثالث،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسافرا، ولو كان مسافرا يلزم أن لا تكون اللام للجنس وهو فاسد، فإذا كان
للجنس لعدم المعهود تكون الرخصة عمت بالنسبة إلى من هو من هذا الجنس، وذلك
يستلزم أن يكون التقدير بثلاثة أيام أيضا عمت بالنسبة إلى ذلك، وإلا لكان
نقيضه صادقا وهو بعض من هو مسافر لا يمسح ثلاثة أيام ويلزم الكذب المحال
على الشارع إن كانت الجملة خبرية أو عدم الامتثال لأمره إن كانت طلبية،
وذلك لا يجوز لما ثبت أن اللام للجنس ثبت من ضرورته.
وهو معنى قوله م: (ومن ضرورته عموم التقدير) ش: أي: ومن ضرورة الجنس
التقدير بثلاثة أيام في حق كل مسافر لما ذكرنا، ويقال: إن النص يقتضي أن كل
من صدق عليه أنه مسافر يشرع له مسح ثلاثة أيام، كما أن كل من صدق عليه أنه
مقيم يشرع مسح يوم وليلة بمقتضى اللام، ويقال: إن قوله: المسافر يقتضي، أن
السفر هو العلة للقصر، فكلما تحقق السفر تحقق المسح ثلاثة أيام، ولياليهن،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] (النور: الآية 2) .
فإن قلت: عموم التقدير في المدة إنما يلزم من عموم الرخصة الجنس إذا كان
قوله: ثلاثة أيام ظرفا بقوله: يمسح لا للمسافر.
قلت: لو جاز في قوله يوما، وليلة أن يقع ظرفا لقوله للمقيم لا لقوله يمسح،
لأنه إلى نسق واحد، فحينئذ يفسد المعنى لأنه يكون معناه المقيم يوما، وليلة
يمسح وغيره لا كما إذا قال ما قام شهرا، أو سنة، أو سنتين مثلا، فإذا كان
كذلك، قلنا: الحرف للفعل لا للفاعل في الوجهين.
فإن قلت: هب أن الظرفية للفاعل، ولا يلزم ما ذكرتم؛ لأنا نجد دليلا، يجوز
مسح المسافر يوما، وليلة، أو أقل، وهو ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا أهل
مكة: لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى غطفان» .
قلت: قد ذكرنا هذا الحديث، وفيه ما يرده.
فإن قلت: هذا متروك الظاهر؛ لأن ظاهره يقتضي استيفاء مدة ثلاثة أيام
ولياليها، وذلك ليس بشرط بالاتفاق.
قلت: المتروك للاستراحة ملحق بالسير في حق تكميل مدة السفر تيسيرا على ما
ذكرناه.
م: (وقدره أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قدر أبو يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ - الحد في مدة السفر، وفي أكثر النسخ، وقدر بلا ضمير منصوب،
والتقدير: وقدر أبو يوسف مدة السفر. م: (بيومين، وأكثر اليوم الثالث) ش:
وهو رواية المعلى، عن أبي يوسف، ووجهه: أن الإنسان قد يسافر مسيرة ثلاثة
أيام، فيعجل السير فيبلغ قبل الوقت بساعة، لا بعد بذلك.
(3/6)
والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيوم وليلة
في قول، وكفى بالسنة حجة عليهما، والسير المذكور هو الوسط،
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - التقدير بالمراحل وهو قريب من الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيوم وليلة في قول) ش: أي وقدر الشافعي
مدة السفر بيوم وليلة في أحد أقواله، وقد ذكرنا أن له أقوالا سبعة. وقال
الأكمل: وربما يستدل على ذلك بحديث عبد الوهاب.
قلت: نسبة هذا الاستدلال إلى الشافعي لا وجه له؛ لأن في حديث عبد الوهاب بن
مجاهد أربعة برد، وهو يومان.
م: (وكفى بالسنة حجة عليهما) ش: الباء زائدة، أي: كفى بالسنة حجة على أبي
يوسف، والشافعي، وأراد بالسنة الحديث المذكور، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمسح المقيم يوما وليلة» ... " الحديث، وكون هذا
الحديث حجة عليهما غير ظاهر.
وأما أبو يوسف، فإن حكم ما قاله أبو يوسف ثلاثة أيام، على أن هذه رواية
عنده، وأما الشافعي فإن له أقوالا في هذا كما ذكرنا، وقوله: المضمر عليه
يومان.
م: (والسير المذكور هو الوسط) ش: لأن أعجل السير سير بريد، وأبطأه سير
العجلة، وخير الأمور أوسطها، وفسره في " الجامع الصغير ": بمشي الأقدام،
وسير الإبل، لأنه الأوسط.
وفي " المبسوط ": مسيرة ثلاثة أيام مع الاستراحات التي يتخللها من أقصر
أيام السنة، وهذا مذهب ابن عباس، وأحد الروايتين عن ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، وذلك لأنهم لم يريدوا من مسيرة ثلاثة أيام ولياليها
أن يكون ليلا ونهارا على ما ذكرناه عن قريب.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - التقدير بالمراحل) ش: يعني روي عن
أبي حنيفة أن مدة السفر تعتبر بثلاث مراحل، وهو جمع مرحلة. م: (وهو قريب من
الأول) ش: أي التقدير بالمراحل قريب من التقدير بثلاثة أيام ولياليها، لأن
المعتاد في كل يوم من السير مرحلة واحدة، خصوصا في أقصر أيام السنة.
فإن قلت: يشكل مسألة ذكرها في " المحيط " على اشتراط مسيرة ثلاثة أيام،
وثلاث مراحل تمسكا بالحديث المذكور، وهو أن المسافر إذا بكر في اليوم
الأول، ومشى إلى وقت الزوال حتى بلغ المرحلة، فنزل فيها للاستراحة، وبات
فيها، ثم بكر في اليوم الثاني، ومشى إلى ما بعد الزوال، ونزل فيها
للاستراحة، وبات فيها، ثم بكر في اليوم الثالث، ومشى إلى وقت الزوال، فبلغ
إلى المقصود. وقال شمس الأئمة: الصحيح أنه يصير مسافرا عند النية، ومعلوم
أنه لا يتمكن من استيفاء مسح ثلاثة أيام في هذه المسألة؛ لأنها ليست بثلاثة
أيام كاملة، ومع ذلك إنه مسافر.
(3/7)
ولا معتبر بالفراسخ هو الصحيح، ولا يعتبر
السير في الماء، معناه لا يعتبر به السير في البر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: إنه لم يتمكن حقيقة فقد تمكن منه تقديرا؛ لأن النزول للاستراحة محلق
بالسير في حق تكميل مدة السفر.
م: (ولا معتبر بالفراسخ) ش: أراد أنه لا عبرة في تقدير المدة بالفراسخ،
واحترز بقوله: م: (هو الصحيح) ش: عن قول بعض المشايخ، فإنهم قدروها
بالفراسخ، ثم اختلفوا فيما بينهم، فقيل: أحد وعشرون فرسخا، وقيل: ثمانية
عشر، وقيل: خمسة عشر، وفي " الدراية ": والفتوى على ثمانية عشر، لأنها أوسع
الأعداد.
وفي " جوامع الفقه ": هو المختار. وفي " المجتبى ": وفتوى أكثر أئمة خوارزم
على خمسة عشر، وفي " الأربعين " للبقالي: السفر اثنا عشر فرسخا. وفي "
جوامع التاجري ": قريب من هذا.
وقال المرغيناني: وعامة المشايخ قدروها بالفراسخ، وهو جمع فرسخ، وهو فارسي
معرب، وهو اثنا عشر ألف خطوة، وستة وثلاثون ألف قدم، والخطوة ذراع ونصف
بذراع العامة، وذلك أربعة وعشرون أصبعا بعدد حروف "لا إله إلا الله، محمد
رسول الله"، والميل ثلاث فراسخ، وفي " الذخيرة " للقرافي: الميل في الأرض
منتهى مد البصر، لأن البصر يميل فيه على وجه الأرض حتى يقع إدراكه، وفيه
سبعة مذاهب.
وقال صاحب " التنبيهات ": هو عشر غلاء، والغلوة طلق الفرس، وهو مائتا ذراع،
فيكون الميل ألف ذراع، وفي " المغرب ": الغلوة ثلاثمائة ذراع.
الثالث: ثلاثة آلاف ذراع، نقله صاحب " البيان ".
الرابع: أربعة آلاف ذراع.
الخامس: مد البصر ذكره الجوهري.
السادس: ألف خطوة بخطوة الجمل.
السابع: أن ينظر إلى الشخص، فلا يعلم، أهو آت أم ذاهب، أرجل هو أم امرأة.
م: (ولا يعتبر السير في الماء) ش: هذا كلام القدوري، وفسره المصنف بقوله:
م: (معناه لا يعتبر به السير في البر) ش: الضمير في "به" يرجع إلى السير في
الماء، يعني: لا يعتبر سير البر بسير الماء، بيانه فيما إذا قصد إلى موضع
له طريقان، أحدهما من البر، والآخر من البحر، ومن طريق البر، مسيرة ثلاثة
أيام، ومن طريق البحر، أقل من ذلك، فلو سلك من طريق البر، يترخص ترخص
المسافرين، ولو سلك طريق البحر، لا يترخص ولا يعتبر أحدهما بالآخر،
والمعتبر في
(3/8)
فأما المعتبر في البحر فما يليق بحاله كما
في الجبل.
قال: وفرض المسافر في الرباعية ركعتان لا يزيد عليهما. وقال الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - فرضه الأربع والقصر رخصة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البحر ما يليق بحاله، وهو معنى قوله: م: (فأما المعتبر في البحر فما يليق
بحاله) ش: يعني يعتبر السير فيه ثلاثة أيام ولياليها، بعد أن كانت الريح
مستوية لا ساكنة ولا عالية. م: (كما في الجبل) ش: فإنه يعتبر فيه ثلاثة
أيام.
[فرض المسافر في الرباعية]
م: (قال) . ش: أي القدوري. م: (وفرض المسافر في الرباعية ركعتان) ش: قيد
الفرض احترازا عن السنن؛ إذ لا يتصف فيها، وقيد الرباعية احترازا عن الفجر،
والمغرب، والوتر، فإنها لا تصف. م: لا يزيد عليهما) ش: أي على الركعتين،
وقال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الصلاة في السفر ركعتان
لا يصح غيرهما.
وقال الأوزاعي: إن قام إلى الثالثة فإنه يكفيها، ويسجد سجدتي السهو، وقال
الحسن بن حي: إذا صلى أربعا متعمدا أعادها، إذا كان ذلك منه الشيء اليسير،
فإن طال ذلك منه، وكثر سفره لم يعد، وقال ابن أبي سليمان: إن صلى أربعا
متعمدا يعيد، وإن كان ساهيا لا يعيد.
ومذهبنا القصر وهو فرض المسافر المتعين، وبه قال عمر، وعلي، وابن مسعود،
وجابر، وابن عباس، وابن عمر، والثوري، وحماد بن أبي سليمان - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال الأثرم: قلت: لأحمد للرجل أن يصلي أربعا في السفر. قال: لا، ما
يعجبني.
وحكى ابن المنذر في " الأشراف ": أن أحمد قال: أنا أحب العافية عن هذه
المسألة، وقال البغوي: هذا قول أكثر العلماء. وقال الخطابي: الأولى القصر
ليخرج من الخلاف.
وقال الترمذي: العمل على ما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأبو بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو القصر، وهو
قول محمد بن سحنون، وقد اختاره القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي، وهو رواية
عن مالك وأحمد، حكاهما ابن المنذر.
م: (وقال الشافعي: فرضه الأربع) ش: أي فرض المسافر أربع ركعات، وبه قال
مالك، وأحمد في رواية. م: (والقصر رخصة) ش: أي قصر المسافر صلاته رخصة، وهي
في اللغة عبارة عن الإطلاق، والسهولة، وفي الشريعة: ما يكون ثابتا ابتداء
على أعذار العباد تيسيرا، وعنه: القصر عزيمة، وهي في اللغة عبارة عن
الإرادة المدركة، دل على ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ
عَزْمًا} [طه: 115] [طه: الآية: 115] ، أي قصدا بليغا، وفي الشريعة: ما
يكون ثابتا غير متصل بعارض، فسمي عزيمة.
وقال صاحب "المجمع ": ونرى القصر عزيمة لا رخصة.
وفي " المبسوط ": القصر عزيمة في حق المسافر عندنا. وقال الأترازي: فيه
اختلاف
(3/9)
اعتبارا بالصوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشايخ، رفعا منهم على أنه رخصة. وقال صاحب " التحفة ": هو عزيمة. والأكمل
مكروه، وقال الشافعي: إنه مخير بين القصر، والإتمام، لكن الإتمام أفضل،
وفائدة الخلاف تظهر في افتراض القعدة على رأس الركعتين من الرباعية حتى لو
قام إلى الثالثة من غير قصده فسدت صلاته عندنا، ولو أتم صلاته فقد أساء
لتأخير السلام.
احتج الشافعي، ومن قال بمذهبه بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] (النساء: الآية 101) ،
وأنه شرع القصر بلفظ: فليس عليكم جناح، وهو يذكر للإباحة لا للوجوب، كما
قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:
236] (البقرة: الآية 236) ، فدل أن القصر مباح، ولما كان مباحا كان المسافر
فيه بالخيار، وبما روه مسلم والأربعة «عن يعلى بن أمية.
قال: قلت لعمر بن الخطاب: قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] (النساء: الآية 101) ، فإن
خفتم فقد أمن الناس، قال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا
صدقته» فقد علق القصر بالقبول، وسماه صدقة، والمتصدق عليه مخير في قبول
الصدقة، فلا يلزمه القبول حتما، وبما «روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - قالت: سافرت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فلما رجعت قال: يا عائشة ما صنعت في سفرك، ما أتممت الذي قصرت، وصمت الذي
أفطرت، فقال: "أحسنت» ولأن هذا رخصة شرعت للمسافر فيتخير فيه.
م: (اعتبارا بالصوم) ش: فإن الصيام يتخير فيه في السفر، ولأنه لو اقتدى
بالمقيم يصير فرضه أربعا، ولو كان فرضه ركعتين لا يتغير بالاقتداء بالمقيم
كما في الفجر، ولنا أحاديث، منها حديث عائشة، قالت: «فرضت الصلاة ركعتين
ركعتين، فأقصرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» رواه البخاري ومسلم.
ومنها حديث «ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: فرض الله الصلاة
على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» .
ورواه الطبراني في "معجمه " بلفظ: «افترض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين في السفر، كما افترض في الحضر أربعا» .
ومنها حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة
الضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على
لسان محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» ،
(3/10)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه ".
ومنها «حديث ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أتانا ونحن ضلال، فعلمنا، فكان فيما علمنا أن الله - عز وجل- أمرنا أن نصلي
ركعتين في السفر» رواه النسائي.
ومنها: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «المتمم الصلاة في السفر كالمقصر في الحضر» رواه الدارقطني في
"سننه".
والجواب عن تعلقه بالآية أن المراد من القصر المذكور فيها هو القصر في
الأوصاف من ترك القيام إلى القعود أو ترك الركوع أو السجود إلى الإيماء
لخوف العدو، بدليل أنه علق ذلك بالخوف، إذ قصر الصلاة غير متعلق بالخوف
بالإجماع، بل متعلق بالسفر، وعندنا قصر الأوصاف عند الخوف مباح، لا واجب،
مع أن رفع الجناح في النص لدفع توهم النقصان، فرفع ذلك عنهم في صلاتهم بسبب
روايتهم على الإتمام في الحضر، وذلك مظنة توهم النقصان، فرفع ذلك عنهم.
والجواب عن حديث يعلى بن أمية أنه دليلنا لأنه أمرنا بالقبول، والأمر
للوجوب، ولأن هذه صدقة واجبة في الذمة، فليس له حكم المالي، فيكون إسقاطا
محضا ولا يرتد بالرد كالصدقة بالقصاص، والطلاق، والعتاق، يكون إسقاطا لا
ترتد بالرد.
فإن قلت: خياره في قبول الصدقة بمنزلة رجل له قبل آخر أربعة دراهم فتصدق
عليه بدرهمين، فإن المتصدق عليه إن شاء قبل الصدقة، فيبقى عليه درهمان، وإن
شاء رد الصدقة، فيكون عليه الأربع، فكذا هذا.
قلت: هذا يكون نصب شريعة مفروضا إلى رأي العبد، كأن الله تعالى قال: اقصروا
إن شئتم، وهذا لا نظير له، وأوامر الله من ندب وإباحة ووجوب نافذة بنفسها
غير متعلقة برأي العبد.
والجواب عن حديث عائشة: أن الروايات متعارضة عنها، فالتعلق بها غير مستقيم،
وقيل: هو محمول على إتمام الأركان، وكذا كل ما جاء في الأخبار من الإتمام،
بدليل ما روي في
(3/11)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث مشهور «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بأهل مكة
عام حجة الوداع ركعتين، ثم أمر مناديا ينادي بأهل مكة: أتموا صلاتكم فإنا
قوم سفر» .
ولو كن فرض المسافر أربعا لم يخير منهم فضيلة الجماعة معه. وأما اعتبارنا
بالصوم فسيأتي جوابه عن قريب إن شاء الله تعالى.
وأما قوله: ولأنه لو اقتدى بالمقيم.... إلخ، فينقض بظهر المقيم، فإن فرضه
بدون المقيم أربع، وسبب القوم وهو الجماعة يصير ركعتين وهو الجمعة، كذا
ذكره شيخ الإسلام.
فإن قلت: في " صحيح البخاري ": صلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- بمنى أربع ركعات.
قلت: لما «قيل ذلك لعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فاسترجع
ثم قال صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى
ركعتين وصليت مع أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ركعتين وصليت مع
عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» قال أبو بكر الرازي: اعتمد عثمان
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إتمامه بأنه من أهل مكة، وعن أبي هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أنه إنما أتم؛ لأنه نوى الإقامة بمكة بعد الحج.
وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلا يظنوا أن فرض الصلاة
ركعتين ابتداء حضرا وسفرا، وقيل: لأنه كان إمام المؤمنين فكأنه في منزله.
قلت: في كل ذلك نظر.
أما الأول: فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر بأزواجه
وقصروا.
وأما الثاني: فلأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث.
وأما الثالث: فإن هذا المعنى كان موجودا في زمان النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بل انتهى أمر الصلاة في زمان عثمان أكثر مما كان.
وأما الرابع: فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أولى
بذلك من عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكذلك أبو بكر وعمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأحسن ما يقال في ذلك أنه رأى القصر جائزا والإتمام
جائزا، فأخذ بأحد الجائزين، وكذلك يقال فيما فعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - من الإتمام.
(3/12)
ولنا أن الشفع الثاني لا يقضى ولا يؤثم على
تركه، وهذا آية النافلة بخلاف الصوم لأنه يقضى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن الشفع الثاني لا يقضى) ش: أراد أن المسافر إذا لم يصل الشفع
الثاني لا يَقْضي، قد يدل على أن الفرض ركعتان، إذ لو كان أربعا كان يجب
عليه أن يقضي ركعتين. م: (ولا يؤثم على تركه) ش: أي ولا ينسب إلى الإثم على
ترك الشفع كالنفل، ولا يؤثم على صيغة المجهول بالتشديد. م: (وهذا) ش: إشارة
إلى كل واحد من عدم القضاء، وعدم التأثيم. م: (آية النافلة) ش: أي علامة
النافلة.
فإن قلت: يشكل هذا بالزائد على قرابة آية، أو ثلاث، فإنه لو أتى به يثاب
ويقع فرضا، وكذا من لا استطاعة له على الحج لو تركه لا يعاقب، ولا أتى به
يثاب ويقع فرضا.
قلت: وقوع الفرض في الصورتين بعد الإتيان به بدليل آخر وهو تناول الأمر
لمطلق الزيارة، وأما في الحج فلأنه أتى مكة صار مستطيعا فيفرض عيه، حتى لو
تركه يأثم.
م: (بخلاف الصوم) ش: هذا جواب عن قياس الشافعي بالصوم حيث قال: اعتبارا
بالصوم. وتقدير الجواب أن رخصة الصوم معناها سقوط وجوب الأداء في الحال على
وجه يترتب عليه القضاء؛ ولهذا إذا لم يصم في السفر فإنه يقضي في الحضر، وهو
معنى قوله: م: (لأنه يقضي) ش: أي لأن الصوم يُقضى إذا تركه. بخلاف الشفع
فإنه لا يُقضى، فالقياس حينئذ باطل. وقد قال الأكمل: وفيه بحث من وجهين:
الأول: أن هذا تعليل في مقابلة النص؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]
(النساء: الآية 101) ، ولفظ: لا جناح، يذكر للإباحة دون الواجب، ولأن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه صدقة، والمتصدق عليه بالخيار
في القبول، وعدمه.
الثاني: أن الفقير لو لم يحج ليس عليه قضاء، ولا إثم، وإذا حج كان فرضا فلم
يكن ما ذكرتم آية للنافلة.
قلت: الجواب عنهما، ما قصر عبادة وأحسنها، أما عن الأول: فإن القصر المذكور
في الآية معقود بشرط الخوف بالاتفاق، إذ الخائف وغيره سواء في قصر السفر،
أو نقول: ليس المراد منه قصر أعداد الركعات، بل المراد هو القصر في أوصاف
الصلاة كما في الإيماء، أو لإباحة الاختلاف أو المشي في صلاة الخوف.
لأن مثله في غيرها يفسد الصلاة، فسماه قصرا، وأباح الصلاة معه، والتصدق
بماله يحتمل التمليك من غير معترض الطاعة، والطاعة إسقاط لا يرتد بالرد،
فلأن يكون من معترض الطاعة أولى.
وأما الجواب عن الثاني: ما ذكرناه عن قريب.
(3/13)
وإن صلى أربعا وقعد في الثانية قدر التشهد
أجزأته الأوليان عن الفرض، والأخريان له نافلة اعتبارا بالفجر، ويصير مسيئا
لتأخير السلام، وإن لم يقعد في الثانية قدرها بطلت لاختلاط النافلة بها قبل
إكمال أركانها، وإذا فارق المسافر بيوت المصر صلى ركعتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن صلى) أي المسافر م: (أربعا) ش: أي أربع ركعات في الرباعية م: (وقعد
في الثانية) ش: أي في الركعة الثانية م: (قدر التشهد أجزأته الأوليان عن
الفرض) ش: يعني تجوز صلاته م: (والأخريان) ش: أي الركعتان الأخريان اللتان
زادهما م: (له نافلة) ش: لأن فرضه ركعتان، وقد تم فرضه بالقعود، عقيب الشفع
الأول، وبناء النفل على تحريمه الفرض يجوز، فصح، إلا أنه كره لترك التسليم
م: (اعتبارا بالفجر) ش: يعني إذا صلى الفجر أربعا بعد القعدة الأولى تجزئه
صلاته، وإلا فلا م: (ويصير مسيئا لتأخير السلام) ش: لأن إصابة السلام في
آخر الصلاة واجب، فإذا تركها يأثم.
م: (وإن لم يقعد في الثانية قدرها) ش: أي قدر قعدة التشهد م: (بطلت) ش: أي
صلاته، وعند الشافعي، ومالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا تبطل لما
تقدم أن عندهم رخصة ترقيته م: (لاختلاط النافلة بها) ش: أي بصلاته التي شرع
فيها م: (قبل إكمال أركانها) ش: لأن القعدة الأخيرة ركن وقد تركها.
فإن قلت: المسافر كما يحتاج إلى القعدة يحتاج إلى القراءة، فإذا لم يقرأ في
الركعتين، وقام إلى الثالثة، ونوى الإقامة وقرأ في الأخريين جازت صلاته
عندهما خلافا لمحمد فكيف يبطل بترك القعدة.
قلت: الكلام فيما إذا لم يقعد في الأولى، وأتم أربعا من غير نية الإقامة
بخلاف ما إذا نوى الإقامة فإنه يصير فرضه أربعا، وتغني قراءته في الأخريين
عن القراءة في الأوليين ولم تبق القعدة الأولى فرضا، وفي " المفيد" و"
التحفة ": لو صلى أربعا وترك القراءة في الأوليين أو في أحدهما تفسد صلاته
عندنا، وعند الشافعي لا تفسد، قلت: هذا لا يستقيم عند الشافعي؛ لأن القراءة
ركن عنده في جميع الركعات.
م: (وإذا فارق المسافر بيوت المصر صلى ركعتين) ش: أي بيوت مصر صلى ركعتين
من الرباعية. وفي " المبسوط ": يقصر حتى يخلف عمران المصر. وفي " الذخيرة "
والمرغيناني: إن كانت له محلة مبتدأة من المصر، وكانت قبل ذلك متصلة بها،
فإنه لا يقصر ما لم يجاوزها ويخلف دونها، بخلاف القرية التي تكون بعد
المصر، فإنه يقصر، وإن لم يجاوزها.
وقال محمد في الأصل: ولا يصل المسافر ركعتين حتى يخلف المصر. وعن الحسن عن
أبي حنيفة: من خرج من الكوفة يريد سفرا، فإذا جاوز الفرات وهو يريد بغداد
قصر، وإن كان يريد مكة فحين يجاوز الأبيات، وإن كان في سفينة فحين يركبها
إلا أن يكون في وسط المصر فيعتبر أن
(3/14)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجاوز البيوت.
وفي " جوامع الفقه ": إذا جاوز حيطان المصر قصر على ظاهر المذهب. وعن
الحسن: فمن خرج مسافرا، وبقرب المصر قرية، فإن كان بينهما طول سكة لا يقصر
ما لم يجاوز القرية، وإن كان أكثر قصر حين يخرج من العمران، وعلى هذا إذا
كانت قرى متصلة ربض المصر لا يقصر ما لم يجاوزها، وإن كانت فراسخ، وعن
بعضهم إذا جاوز الربض قصر.
وفي " المفيد "، و" التحفة ": المقيم إذا نوى السفر ومشى أو ركب لا يصير
مسافرا ما لم يخرج عن عمران المصر؛ لأن بنية العمل لا يصير عاملا ما لم
يعمل، كالصائم إذا نوى الفطر لا يصير مفطرا. وفي " المحيط ": والصحيح أنه
يصير مفطرا، ويعتبر مجاوزة عمران المصر، إلا إذا كان ثم قرية أو قرى متصلة
بأرض المصر، فإنه حينئذ يعتبر مجاوزة القرى، وذكر الإمام التمرتاشي،
والأشبه أن يكون الانفصال عن المصر قدر غلوة فحينئذ يقصر.
فإن قلت: يشكل بصلاة الجمعة، والعيدين، فإنه يجوز إقامتهما في هذا المقدار،
والجمعة لا تقام إلا في المصر.
قلت: فناء المصر إنما ألحق به فيما كان من حوائج أهله، والجمعة، وصلاة
العيدين من حوائج أهله وقصر الصلاة ليس منها، واختلفوا في تقدير الفناء،
فقدرها بعضهم بفرسخين، وبعضهم بثلاثة فراسخ، ذكره في " المحيط "، وقال شمس
الأئمة السرخسي، والإمام خواهر زاده: والصحيح أن الفناء مقدر بالغلوة.
وقال الشافعي: في البلد يشترط مجاوزة السور لا مجاوزة الأبنية بالسور
خارجه، وحكى الرافعي وجهين: المعتبر مجاوزة الدور، ورجح الرافعي هذا الوجه
في " المجرد "، والأول في " الشرح "، وإن لم يكن في جهة خروجه سور، وكان في
قرية يشترط مفارقة العمران. وفي " المغني " لابن قدامة: ليس لمن نوى السفر
القصر، حتى يخرج من بيوت مصره أو قريته، ويخلفها وراء ظهره، قال: وبه قال
مالك والأوزاعي وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور، - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على هذا، وعن عطاء،
وسليمان بن موسى، أنهما كانا يبيحان القصر في البلد لمن نوى السفر، وعن
الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بالجماعة في منزله ركعتين، وفيهم
الأسود بين يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
-. وفي " الدراية ": والشرط عند الشافعي، ومالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ
اللَّهُ - أن لا يحاذيه عن يمينه، أو يساره شيء من البنيان، وفي رواية: أن
يكون في المصر ثلاثة
(3/15)
لأن الإقامة تتعلق بدخولها فيتعلق السفر
بالخروج عنها، وفيه الأثر عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لو جاوزنا هذا
الخص لقصرنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أميال، وحكي عن عطاء أنه قال: إذا دخل عليه وقت صلاة بعد خروجه من منزله
قبل أن يفارق بيوت المصر يباح له القصر. وقال مجاهد: إذا ابتدأ السفر
بالنهار لا يقصر حتى يدخل الليل، وإن ابتدأ بالليل لا يقصر حتى يدخل
النهار.
وفي " المجتبى ": الدستاني: إذا سافر يقصر إذا جاوز بيوت القرية وحيطانها،
وإن لم يكن قرية فالبيوت، وعند الشافعي: القروي إذا جاوز البابين والمزارع
المحوطة يقصر، والبدوي إذا انفصل عن المحلة إذ المحلة كالحي، ويعتبر مع ذلك
مجاوزة مواضعها كالمطرح المزاد، وملعب الصبيان ومعاطن الإبل.
م: (لأن الإقامة تتعلق بدخولها) ش: أي الإقامة من السفر تتعلق بدخول بيوت
المصر م: (فيتعلق السفر بالخروج عنها) ش: أي عن بيوت المصر، لأن الشيء إذا
تعلق بالشيء تعلق ضده بضده، وحكم الإقامة وهو الإتمام، لما تعلق هذا الموضع
تعلق حكم السفر بالمجاوزة عنه، والمعتبر بالجانب الذي يخرج منه لا الجانب
الذي بحذائه حتى لو خلف الأبنية التي في طريقه قصر، وإن كان بحذائه أبنية
أخرى من جانب آخر من المصر. وقيل: يعتبر مجاوزته بفناء المصر، فإذا كان
بينها وبين فنائها أقل من غلوة، ولو يكن بينهما مزرعة يعتبر مجاوزة الفناء
وإلا لا يعتبر الفناء، بل يعتبر مجاوزة عمران المصر، وإن كانت قرية متصلة
بربض المصر يعتبر مجاوزتها هو الصحيح، وإن كانت متصلة بفنائها لا بربضها
يعتبر الفناء دون القرية. م: (وفيه الأثر) ش: أي فيما ذكرنا من أن حكم
السفر بمفارقة بيوت المصر، الأثر عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،
قال السغناقي: وهو المأثور عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتبعه الأكمل
وغيره في هذا.
قلت: رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" حدثنا عباد بن العوام عن داود بن أبي
هند عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
خرج من السفر فصلى الظهر أربعا، ثم قال: إنا لو جاوزنا هذا الخص لصلينا
ركعتين، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا سفيان الثوري عن داود بن أبي
هند عن أبي حرب بن أبي الأسود أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما خرج
من البصرة، فأتى خصا، فقال: لو جاوزنا هذا الخص لصلينا ركعتين، فقلت: وما
الخص؟ قال: بيت من قصب. قلت: هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الصاد المهملة.
م: (لو جاوزنا هذا الخص لقصرنا) ش: هذا بيان قوله وفيه الأثر، قائله هو علي
بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما ذكرنا، وفيه حديث أخرجه البخاري
ومسلم «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صليت الظهر مع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة
ركعتين» . والعجب من السغناقي أنه ذكر هذا الحديث ثم قال: كذا في "
المصابيح "، وهذا يدل على عدم
(3/16)
ولا يزال على حكم السفر حتى ينوي الإقامة
في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما أو أكثر.
وإن نوى أقل من ذلك قصر؛ لأنه لا بد من اعتباره مدة، لأن السفر يجامعه
اللبث فقدرناها بمدة الطهر لأنهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اطلاعه في كتب الأحاديث الأمهات. م: (ولا يزال) ش: أي المسافر، م: (على حكم
السفر) ش: من القصر والإفطار والمسح على الخفين ثلاثة أيام وغير ذلك مما
ذكرنا في أول الباب، م: (حتى ينوي الإقامة) ش: يعني بعد أن سار ثلاثة أيام
إذا نوى الإقامة قبل أن يسير ثلاثة أيام، وعزم الرجوع إلى وطنه فإنه يكون
مقيما وإن كان في المفازة، وبه صرح في شرح " الطحاوي " للأسبيجابي. م: (في
بلدة أو قرية خمسة عشر يوما) ش: فيه ثمانية عشر قولا.
عن أبي حنيفة إذا وضعت رجلك بأرض فأتم، وعن ربيعة إقامة يوم وليلة، وعن ابن
المسيب ثلاثة أيام، وعن الشافعي ومالك وأحمد في رواية أربعة أيام، وعن أحمد
خمسة أيام، وعنه أنه ينوي اثنين وعشرين صلاة ذكره في " المغني " وجعله
مذهبا.
وعن الحسن بن صالح ومحمد بن علي عشرة أيام، وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، وعن ابن عمر اثنا عشر يوما، وعن الأوزاعي ثلاثة عشر يوما، وفي
رواية ستة عشر يوما، وعن الشافعي في قوله سبعة عشر يوما، وعنه ثمانية عشر
يوما وصححوه.
وعن إسحاق تسعة عشر يوما، وعن الحسن البصري يقصر حتى يأتي مصرا من الأمصار،
وعن بعضهم عشرون يوما، وعن أحمد ذكره ابن المنذر، وعنه إحدى وعشرون صلاة.
والقول السابع عشر يقصر أبدا.
والقول الثامن عشر: هو قول أصحابنا، وقول الثوري، والليث في رواية. وهو
المروي، عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو اختيار
المزني.
م: (أو أكثر) ش: أي إذا كثر عن خمسة عشر يوما. وقال الأكمل: هذا زائد.
قلت: أراد أنه لا حاجة إلى ذكر لفظ أكثر، لأن الحكم إذا ثبت في خمسة عشر
يوما ففيما وراءها بطريق الأولى، ولكن المقدرات الشرعية ما يمنع الأقل لا
الأكثر كنصاب الشهادة والسرقة والزكاة، فربما يظن ظان أن نية الإقامة في
محلها بخمسة عشر يوما يمنع من القصر ولا يمنع أكثر من ذلك، فقال: وإذا كثر
دفعا للظن بذلك.
م: (وإن نوى أقل من ذلك) ش: أي من خمسة عشر يوما. م: (قصر) ش: صلاته. م:
(لأنه) ش: أي لأن الشأن. م: (لا بد من اعتبار مدة، لأن السفر يجامعه اللبث)
ش: يعني أن المسافر، ربما يلبث في بعض المواضع لمصلحة له كانتظار الرفقة أو
شراء السلعة فلا يعتبر ذلك، فلا بد من أن يقدر اللبث مدة. م: (فقدرناها) ش:
أي المدة. م: (بمدة الطهر لأنهما) ش: أي لأن مدة الإقامة ومدة
(3/17)
مدتان موجبتان، وهو مأثور عن ابن عباس وابن
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطهر
م: (مدتان موجبتان) ش: فإن مدة الطهر توجب إعادة ما سقط من الصوم والصلاة
بحكم الحيض ومدة الإقامة يوجب ما سقط بحكم السفر حكما متعذرا أدنى مدة
الطهر بخمسة عشر يوما، فكذلك أدنى مدة الإقامة، ولهذا قدرنا أدنى مدة الحيض
والسفر بثلاثة أيام لكونهما يسقطان.
م: (وهو) ش: أي التقدير بمدة الطهر م: (مأثور عن ابن عباس وابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: هذا أخرجه الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقوم خمسة عشر يوما فأكمل
الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فأقصرها.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه"، حدثنا وكيع، ثنا عمر بن ذر، عن مجاهد: أن
ابن عمر كان إذ اجتمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم الصلاة. أخرجه محمد بن
الحسن في كتاب " الآثار". أخبرنا أبو حنيفة، ثنا موسى بن مسلم، عن مجاهد،
عن عبد الله بن عمر، قال: إذا كنت مسافرا فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر
فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فأقصر.
وقال الشافعي: إذا نوى إقامة أربعة أيام صار مقيما لا يباح له القصر، وفي
قول: إذا أقام أكثر من أربعة أيام كان مقيما، وإن لم ينو الإقامة، واحتج
الأول بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]
(النساء الآية 101) .
علق القصر بالضرب في الأرض، ومن نوى الإقامة فقد قول الضرب، والمعلق بالشرط
معدوم عند عدمه، إلا إنما بيناها ما دون ذلك بدليل الإجماع.
والثاني: ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر
للمهاجرين للمقام بمكة بعد قضاء المناسك ثلاثة أيام» فهو دليل على أن
بالزيادة على ذلك يثبت حكم الإقامة، وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- مثل مذهبه، ولما اختلفت الصحابة كان الأخذ بقول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أولى للاحتياط.
وروي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما أجلى اليهود والنصارى من جزيرة
العرب، ثم ضرب لمن يقدم تاجرا أن يقيم ثلاثة أيام مدة السفر، فإذا زاد على
ذلك صار مقيما.
ولنا لما ترك ظاهر الآية بالإجماع كان الأخذ بما قلنا أولى لما روي عن
إبراهيم وإبراهيم أنهما قالا: أقل مدة الإقامة خمسة عشر يوما، وسبيل ذلك
التوقيف فينزل منزلة المنصوص، وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة صبيحة اليوم الرابع من ذي
الحجة، وخرج إلى منى يوم
(3/18)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التروية، وكان يقصر الصلاة، وقد أقام أكثر من ثلاثة أيام» .
فإن قلت: الحديث محمول على ما إذا لم ينو الإقامة، وبدون النية لا يصير
مقيما بأربعة أيام عنده.
قلت: لا يصح هذا لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة للحج،
ولا بد أنه ينوي الإقامة حتى يقضي حجه، وقضى حجه فيما ذكرنا كان أكثر من
أربعة أيام، وقع ذلك كأن يقصر، وأما الحديث فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إنما قدر هذا لأنه علم أن حوائجهم كانت ترفع في هذه المدة لا
لتقدير أدنى مدة الإقامة. وما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
معارض بما روي عنه أنها تقدر بخمسة عشر يوما، فدل على رجوعه. وأما دعوى
الاحتياط فإنه يشكل بما لو نوى الإقامة ثلاثة أيام أو أقل لا يصير مقيما،
وإن كان الاحتياط فيه، وقال الطحاوي: ما قال الشافعي خلاف الإجماع؛ لأنه لم
ينقل عن أحد قبله بأنه يصير مقيما بنية الإقامة أربعة أيام.
فإن قلت: روي عن ابن المسيب أنه قال: من أجمع على أربع وساعة أتم صلاته.
قلت: يعارضه ما روي عن هشيم عن داود بن أبي هند عن ابن المسيب أنه قال: إذا
أقام المسافر خمسة عشر أتم الصلاة، وما كان دون ذلك فليقصر، ومع هذا لا
يجوز أن يعارض قول ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعن
يحيى بن أبي إسحاق الرأي فيه، فالظاهر أن الصحابي رواه عن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخبر موجب فكان الأثر كذلك.
فإن قلت: كيف مع أنه قال فيه معنى معقول أصله بالأثر، لا أن يثبت أصلها
بدليل المعقول، فكان هذا من قبيل ترجيح أحد الأمرين بالقياس، ثم اعلم أنا
قلنا إنما يصير مقيما بنية الإقامة إذا سار ثلاثة أيام، فأما إذا لم يسر
ثلاثة أيام فعزم على الرجوع ونوى الإقامة يصير مقيما، وإن كان في المفازة
كذا ذكر فخر الإسلام، وفي " المجتبى ": لا يبطل السفر إلا بنية الإقامة، أو
دخول الوطن أو الرجوع إليه قبل الثلاثة، وبه قال الشافعي في الظهر، ونية
الإقامة إنما تؤثر بخمس شرائط.
أحدها: ترك الإقامة أو تحريره لم تصح، واتحاد الوضع، والمدة، والاستقلال
بالرأي حتى لو نوى من كان تبعا لغيره لا يعتبر كالحربي، والزوجة، والرقيق،
والأجير، والتلميذ مع أستاذه، والغريم المفلس مع صاحب الدين إلا إذا نوى
متبوعه، ولو نوى المتبوع الإقامة، ولم يعلم بها التابع فهو مسافر حتى يعلم
كالوكيل، إذا عزل وهو الأصح، وعن بعض أصحابنا يصيرون مقيمين، ويعيدون ما
أدوا في مدة عدم العلم.
(3/19)
والأثر في مثله كالخبر، والتقييد بالبلدة
والقرية يشير إلى أنه لا تصح نية الإقامة في المفازة، وهو الظاهر،
ولو دخل مصرا على عزم أن يخرج غدا أو بعد غد ولم ينو مدة الإقامة حتى بقي
على ذلك سنين قصر؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقام بأذربيجان
ستة أشهر وكان يقصر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والتقييد) ش: أي تقييد محمد بن الحسن صحة نية الإقامة. م: (بالبلدة
والقرية يشير إلى أنه لا تصح نية الإقامة في المفازة) ش: لأن شماله يبطل عن
يمينه. م: (وهو الظاهر) ش: من الروايات، واحترز به عما روى عنه أبو يوسف:
أن الرعاة إذا تركوا موضعا كثير الكلأ والماء، ونووا الإقامة خمسة عشر
يوما، والماء والكلأ يكفيهم بتلك المدة يصيرون مقيمين، وكذا التراكمة
والأعراب والأكراد، في ظاهر الرواية لا تصح نية الإقامة إلا في موضعها وهو
العمران، والبيوت المتخذة من الحجر والمدر، لا الخيام، والأخبية من الوبر،
كذا في " فتاوى قاضي خان ".
م: (ولو دخل مصرا على عزم أن يخرج غدا أو بعد غد) ش: أي ولو دخل المسافر
مصرا من الأمصار على نية أن يخرج منه غدا أو يخرج بعد غد. م: (ولم ينو) ش:
أي والحال أنه لم ينو. م: (مدة الإقامة حتى بقي) ش: في ذلك المصر. م: (على
ذلك) ش: العزم. م: (سنين) ش: عديدة. م: (قصر) ش: وعند الشافعي إذا أقام ستة
عشر يوما أتم، وإن لم ينو الإقامة، وعنه إذا أقام أكثر من أربعة أيام أتم،
وعنه: إذا أقام ثمانية عشر يوما أتم، وأخذ الشافعي بما أقامه النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة سبعة عشر يوما، أو ثمانية عشر
يوما. فمن أقام أكثر من ذلك يتم ما زاد على الأصل، إذ القصر عارض فلم يثبت
إلا بقدر ما زاد.
قلت: ما رواه يؤيدنا؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر
عند عدم النية، والإقامة، وأما قوله: بقي ما زاد على الأصل فنقول: ترك ذلك
بإجماع الصحابة.
وقال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع الإقامة،
وإن أتى عليه سنون، وقال ابن المنذر مثله.
م: (لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان
يقصر) ش: هذا الأثر رواه عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا عبد الله بن عمر، عن
نافع، عن ابن عمر: أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، أخرجه البيهقي
في " المعرفة " عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن
(3/20)
وعن جامعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - مثل ذلك
وإذا دخل العسكر أرض الحرب فنووا الإقامة بها قصروا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عمر، أنه قال: أرتج علينا الثلج، ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، فكنا
نصلي ركعتين، قال الترمذي: وهذا سند على شرط الشيخين. قلت: فلذلك خالف
المزني الشافعي في ذلك، ووافق الجماعة.
وأذربيجان بفتح الهمزة مقصورا. وضبطه الأصيلي والمهلب بمدة. قال صاحب "
المشارق الأنوار ": ضبطناه عن الأسدي بكسر الباء، وضبطناه عن أبي عبد الله
بن سليمان وغيره بفتحها، وحكى فيه ابن مكي بفتح الذال وسكون الراء، وقال
ابن الأحداني: كلام العرب به سكون الذال وفتح الراء.
وضبط عن المهلب أذربيجان بكسر الراء، وتقديم الياء آخر الحروف على الباء
الموحدة، وهو اسم لبلاد تبرز، وتبريز من أجمل مدنها، والنسبة إليها أذري
وأذربي.
م: (وعن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مثل ذلك) ش: أي مثل
ما روي عن ابن عمر رواه مسلم في "صحيحه" أقامت الصحابة برامهرمز من تسعة
أشهر يقصرون الصلاة، وروى البيهقي وغيره أن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أقام بالشام مع عبد الملك بن مروان شهرين يصلي صلاة المسافر، وأقام سعد بن
أبي وقاص بالشرع خمسين ليلة ومعه المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود
حتى دخل رمضان فصام المسور وعبد الرحمن وأفطر سعد بن أبي وقاص، فقيل: يا
سعد أنت صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشهدت بدرا
والمسور يصوم وعبد الرحمن وأنت تفطر؟ قال سعد: أنا أفقه منهم، رواه البيهقي
في "سننه الكبرى".
وفي " المحلى " لابن حزم عن أبي وائل قال: كنا مع مسروق بمليلة سنتين وهو
عامل عليها فصلى بنا ركعتين ركعتين، حتى انصرف، وعن أبي منهال العنزي قال:
قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولا لا أشد على سير، قال: صلى ركعتين.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا القاسم بن حبان عن الحسن، قال: كنا مع
عبد الرحمن بن سمرة ببعض بلادنا فارس سنين فكان لا يجمع ولا يزيد على
ركعتين. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا وكيع، ثنا المثنى بن سعيد، عن
أبي حمزة نصر بن عمران، قال: قلت لابن عباس: إنا نطيل القيام بخراسان، فكيف
تهدي؟ فقال: صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين.
[دخل العسكر أرض الحرب فنووا الإقامة بها هل
يقصروا]
م: (وإذا دخل العسكر أرض الحرب فنووا الإقامة بها قصروا) ش: الرباعية، وبه
قال مالك وأحمد، وقال زفر: يتمون، وهو رواية عن أبي يوسف، وقال الشافعي في
الجديد: إذا نووا إقامة أربعة أيام، وقال في القديم كقولنا.
(3/21)
وكذا إذا حاصروا فيها مدينة أو حصنًا، لأن
الداخل بين أن يهزم فيفر، وبين أن يهزم فيفر، فلم تكن دار إقامة. وكذا إذا
حاصروا أهل البغي في دار الإسلام في غير مصر أو حاصروهم في البحر؛ لأن
حالهم مبطل عزيمتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال النووي: المحارب إذا نوى إقامة أربعة أيام يصير مقيما في أصح القولين
م: (وكذا) ش: يقصرون م: (إذا حاصروا فيها) ش: أي في أرض الحرب م: (مدينة أو
حصنا؛ لأن الداخل) ش: في أرض الحرب م: (بين أن يهزم فيفر) ش: كلمة أن
مصدرية، ويهزم على صيغة المعلوم، وقوله فيفر أيضا على صيغة المعلوم.
م: (وبين أن يهزم يفر) ش: وكلمة أن مصدرية، ويهزم على صيغة المجهول، وقول
فيفر على صيغة المعلوم بالفاء من الفرار، والحاصل أن أمر هذا الداخل يلي
أمرين متناقضين فلا يعمل فيه نية الإقامة م: (فلم تكن دار إقامة) ش: لأنها
ليست بموضع إقامة المسلمين لمكان الحرب فلم تصح النية كما في المفازة.
م: (وكذا) ش: الحكم م: (إذا حاصروا أهل البغي في دار السلام، في غير مصر)
ش: يعني في مفازة وأهل البغي هم الذين خرجوا على السلطان م: (أو حاصروهم في
البحر) ش: أي أو حاصر أهل العدل البغي حال كونهم في البحر.
فإن قلت: حكم هذه المسألة علم مما قبلها. فما فائدة ذكرها؟
قلت: لدفع شبهة وهو أن يقال إنما لا تجوز نية الإقامة في دار الحرب، لأنها
منقطعة، فصارت كالمفازة، والأرض التي عليها أهل البغي ومدينتهم في يد أهل
الإسلام فيجب أن تصح نية الإقامة.
فأجاب عن ذلك بقوله: م: (لأن حالهم مبطل عزيمتهم) ش: لأنهم إنما أقاموا
لغرض، فإذا حصل ذلك انزعجوا، فلا تكون عزيمتهم مستقرة كنية العسكر في دار
الحرب، وقال الأكمل: وهذا التعليل يعني قوله لأن حالهم مبطل عزيمتهم يدل
على أن قوله: في غير مصر، وقوله: في البحر، ليس بقيد، حتى لو نزلوا مدينة
أهل البغي، وحاصروهم في الحصن لم تصح نيتهم أيضا، لأن مدينتهم كالمفازة عند
حصول المصور المقيمون فيها، فليس الأمر كما ذكره، لأنه ربما كان يتوهم
المتوهم أن حكم المفازة، والبحر ليس بحكم المدينة والحصن، باعتبار أن البحر
والمفازة ليس عليها يدهم وشوكتهم، مثل ما هي على مدينتهم، وحصنهم، وهذا
ظاهر، فكذلك ذكر قوله: في غير مصر، وفي البحر.
وفي " جوامع الفقه ": إن نووا الإقامة في موضع وظن فيه أهل الحرب صاروا
مقيمين، وفي "الإملاء " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن نزلوا
بساتينهم وأكنافهم وللمسلمين منعة صحت إقامتهم، ولا يصح إذا نزلوا عليهم في
جناحهم. وفي " الذخيرة " إن غلبوا على مدينة
(3/22)
وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح في
الوجهين إذا كانت الشوكة لهم للتمكن من القرار ظاهرا. وعند أبي يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح إذا كانوا في بيوت المدر، لأنه موضع إقامة،
ونية الإقامة من أهل الكلأ وهم أهل الأخبية، قيل: لا تصح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واتخذوها دارا صارت دار الإسلام، يتمون فيها الصلاة، وإن لم يتخذوها دارا،
ولكن أرادوا الإقامة فيها شهرا قصروا.
وقال زفر: إن كان الشوكة لهم صاروا مقيمين لتمكنهم من القرار، وظاهرا على
ما يذكره المصنف، والملاح وصاحب السفينة لا يصير مقيما بنية الإقامة في
السفينة لأنها ليست موضع إقامة عادة، إلا أن يكون قريبة من وطنه، ذكره في
"المحيط ".
م: (وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح في الوجهين) ش: أي فيما إذا دخل
العسكر أرض الحرب فنووا الإقامة وفيما إذا حاصروا أهل البغي في دار الإسلام
في غير مصر. م: (إذا كانت الشوكة لهم) ش: أي العسكر المسلمين م: (للتمكن من
القرار ظاهرا) ش: أي لأجل تمكنهم من القرار، وهناك يعتبر ظاهر الحال.
م: (وعند أبي يوسف يصح) ش: أي نية الإقامة م: (إذا كانوا في بيوت المدر
لأنه) ش: أي لأن المذكور هو بيوت المدر م: (موضع إقامة) ش: وقرار، بخلاف
الصبح، فلو حاصروا أهل الأخبية والفساطيط لم يصيروا مقيمين بنية الإقامة،
وسواء نزلوا بساحتهم أو في أخبيتهم بالإجماع، لأن هذا لا يعد للإقامة، ألا
ترى أنهم حملوها على الدواب حيثما قصدوا واستحقوا يوم ظعنهم ويوم إقامتهم،
فإذا هي حمولة ليست بمنازل.
وقال الحلواني: وهكذا إذا قصد العسكر المسلمين موضعا، ومعهم أخبيتهم
وفساطيطهم وعزموا فيها على إقامة خمسة عشر يوما لم يصيروا مقيمين، لأنها
حمولة وليست بمساكن، كذا في " المحيط ".
[حكم نية إقامة المسافر من أهل الكلأ]
م: (ونية الإقامة من أهل الكلأ) ش: بفتح الكاف، واللام، وبالهمزة في آخره
بغير مد هو العشب، وقد كَلِئَت الأرض والجنان فهي أرض مكلئة وكلئة، أي ذات
كلأ ورطبة. م: (وهم) ش: أي أهل الكلأ هم م: (أهل الأخبية) ش: الأخبية جمع
خبايا بالكسر والمد، وهو من وبر، أو صوف، ولا يكون من شعر وهو على عمودين،
أو ثلاثة، وما فوق ذلك.
م: (قيل: لا تصح) ش: هذه جملة خبر المبتدأ، أعني قوله: ونية الإقامة، ولكن
بالتأويل، تقديره: ونية إقامة المسافر من أهل الكلأ يشك فيها لا تصح، وإنما
قدرنا هكذا، لأن الخبر إذا كان جملة لا بد أن يكون فيه ضمير عائد إلى
المبتدأ، وهو الذي سمي رابطة الخبر بالمبتدأ كما عرف في موضعه، ووجه هذا
القول أنهم ليسوا في موضع الإقامة.
(3/23)
والأصح أنهم مقيمون، يروى ذلك عن أبي يوسف
- رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الإقامة أصل فلا تبطل بالانتقال من مرعى إلى
مرعى، وإن اقتدى المسافر بالمقيم في الوقت أتم أربعا لأنه يتغير فرضه إلى
أربع للتبعية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: من أهل الأخبية. قلت: الأعراب والترك والكرد الذين يسكنون في
المفازة.
م: (والأصح أنهم) ش: أي أهل الأخبية م: (مقيمون، يروى ذلك عن أبي يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وفي " المحيط " وعليه الفتوى، وفي " التحفة ":
الأعراب والأكراد والتراكمة والرعاة الذين يسكنون في بيوت شعر والصوف
مقيمون، لأن مقامهم المفازة عادة، وبه قال الشافعي، وأما إذا ارتحلوا عن
موضع إقامتهم في الصيف وقصدوا موضعا آخر للإقامة في الشتاء، وبين الموضعين
مسيرة ثلاثة أيام، فإنهم يصيرون مسافرين في الطريق عند أبي حنيفة، كذا في
"المحيط ".
وفي " المجتبى " ذكر البقال والملاح مسافر، وإن كان أهله وعياله في
السفينة، وبه قال الشافعي: السفينة ليست بوطن له، وعند الحسن وأحمد وفي "
الذخيرة " عن أبي يوسف إذا كانوا يطوفون في المفاوز ينتقلون من مرعى إلى
مرعى ومعهم ثقلهم أنهم مسافرون، إلا إذا نزلوا مرعى كثير الكلأ وأخذوا
المخابز، وكان الكلأ يكفيهم مدة الإقامة صحت نيتهم.
م: (لأن الإقامة أصل فلا تبطل بالانتقال من مرعى إلى مرعى) ش: لأن الانتقال
عارض والأصل لا يبطل بالعارض ولأجل حالهم على الأصل أولى.
م: (وإن اقتدى المسافر بالمقيم في الوقت) ش: قيد بقوله: في الوقت لأنه لا
يقتدي المسافر بالمقيم خارج الوقت للزوم اقتداء المفترض بالمتنفل في حق
القعدة، لأن القعدة الأولى فرض في حقه نفل في حق الإمام كذا في " المبسوط "
م: (أتم أربعا) ش: أي أربع ركعات وسواء في ذلك اقتدى به في جزء من صلاته أو
كلها، وبه قال الشافعي وأحمد وداود، وقال مالك: إن أدرك من صلاة المقيم
ركعة يلزمه الإتمام، وإن كان دون ذلك لا يلزمه قياسا على الجمعة، وقال
إسحاق بن راهويه: يجوز للمسافر القصر خلف المقيم.
وحكى ابن المنذر عن ابن عمر عن ابن عباس والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي
ثور وأحمد مثل مذهبنا، وحكي عن الحسن والزهري مثل مذهب مالك، وقال طاووس
والشعبي: إن أدرك معه ركعتين أجزأتاه، وقول الظاهرية مثل قول إسحاق ثم إنه
إنما يتمها أربعا إذا لم يفسد الإمام صلاته، لأنه إذا أفسدها فعلى المسافر
أن يصلي ركعتين عندنا، وعند الشافعي، وزفر ومالك، وأحمد يقضي أربعا، لأنه
ألزم صلاة الإمام.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (يتغير فرضه إلى أربع للتبعية) ش: أي
لالتزامه المتابعة للإمام، لكنه لو أفسد صلاته بعد الاقتداء صلى ركعتين
لأنه مسافر على حاله، بخلاف ما
(3/24)
كما يتغير بنية الإقامة لاتصال المغير
بالسبب وهو الوقت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اقتدى بنية النفل ثم أفسد، فإنه يلزمه قضاء أربع ركعات، لأنه بشروعه صار
ملزما صلاة الإمام، وصلاة الإمام أربع.
فإن قلت: يشكل على هذا ما إذا اقتدى المقيم بالمسافر ثم أحدث الإمام
فاستخلف المقيم، فإنه لا يتغير فرضه إلى الأربع مع أن الإمام الأول صار
بمنزلة المقتدي للخليفة المقيم.
قلت: لما كان المقيم خليفة عن المسافر صار كأن المسافر هو الإمام فيأخذ
الخليفة صفة الإمام الأول.
م: (كما يتغير) ش: أي فرضه إلى أربع م: (بنية الإقامة لاتصال المغير بالسبب
وهو الوقت) ش: أراد أن سبب وجوب الصلاة هو الجزء القائم من الوقت، فإذا وجد
المغير، وهو الاقتداء بالمقيم في الوقت، عمل عمله في السبب، فإذا عمل في
السبب عمل في الحكم، لكون الحكم تابعا للسبب، فيصير فرضه أربعا، فإن القول
بصحة الاقتداء، فأما بعد خروج الوقت لم يعمل المغير في السبب لتقرر السبب
وتأكده، فلا يعمل بحكم، فيبقى فرضه ركعتين، فلا يمكن القول بصحة الاقتداء،
لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة إن اقتدى به في الشفع
الأول، والقراءة إن اقتدى به في الشفع الثاني، لأن قراءة الإمام نفل،
والقراءة له فرض.
فإن قلت: ما ذكرتم من المعنى يشكل بما لو نسي المقيم القراءة في الشفع
الأول، فاقتدى المسافر به في الشفع الثاني، وكان ذلك خارج الوقت لا يصح
اقتداؤه، وكان ينبغي أن يجوز، لأن القراءة فرض عليهما في هذه الحالة.
قلت: لا يصح الأول تعين محلا للقراءة وجوبا، والقراءة في الثاني معا فيلتحق
بمحلها، فصار كأنها وجدت في الشفع الأول فتخلو الركعات من القراءة، فكان
فيه بناء الموجود على المعدوم.
فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن لا يصح اقتداء المتنفل بالمفترض في الشفع
الثاني فإن القراءة فيه نفل عن الإمام فرض على المقتدي، والحال أنه جائز.
قلت: صلاة المتنفل تأخذ حكم الفرض بالاقتداء تبعا لصلاة الإمام، ولهذا لو
قرأ المتنفل صلاته بعد الاقتداء يجب قضاؤها أربعا، كذا في "الجامع الكبير "
للصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأكمل: فإن قيل: علل بغير فرضه بالتبعية بقوله: للتبعية فكيف يستقيم
تعليله بعد ذلك بقوله: لاتصال المغير بالسبب وهو الوقت:
(3/25)
وإن دخل معه في فائتة لم يجزه؛ لأنه لا
يتغير بعد الوقت لانقضاء السبب كما لا يتغير بنية الإقامة
فيكون اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة أو القراءة، وإن صلى المسافر
بالمقيمين ركعتين سلم وأتم المقيمون صلاتهم، لأن المقتدي التزم الموافقة في
الركعتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ذلك تعليل للمقيس عليه، ومعناه أن الجامع موجود وهو اتصال المغير
بالسبب فإن المغير في الأول هو الاقتداء وقد يتصل بالسبب وهو الوقت كما أن
المغير في الثاني هو نية الإقامة، وقد اتصل بالسبب، وإن اقتدى به في غيره
لم يجزه لعدم اتصال المغير، كما إذا نوى الإقامة بعد الوقت، انتهى.
قلت: هذا السؤال غير وارد من الأول فلم تكن الحاجة إلى التطويل، لأنه ذكر
حكمين، وعلل كل واحد منهما بعلة، فقاس الأول على الثاني بعلاقة التشبيه
لوجود وجه الشبه الذي هو جامع بين المقيس والمقيس عليه.
م: (وإن دخل معه في فائتة لم يجزه) ش: أي وإن دخل المسافر مع المقيم في
صلاة فائتة لم يجزه الاقتداء، وإنما قال: وإن دخل معه في فائتة، ولم يقل:
وإن اقتدى به، في غير الوقت لئلا يرد عليه ما إذا دخل المسافر في صلاة
المقيم في الوقت ثم ذهب الوقت، فإنها لا تفسد، وقد وجد الاقتداء بعده، لأن
الإتمام لزم بالشروع مع الإمام في الوقت فالتحق الوقت بغيره من المقيمين م:
(لأنه) ش: أي لأن الفرض م: (لا يتغير) ش: عن قصر إلى الكمال م: (بعد الوقت
لانقضاء السبب) ش: وهو الوقت.
م: (كما لا يتغير) ش: فرضه م: (بنية الإقامة) ش: بعد خروج الوقت، فلما لم
يتغير فرضه لم يجز اقتداؤه، لأنه لو جاز لا يخلو، إما أن يقتدي في الشفع
الأول، أو في الشفع الآخر.
ففي الأول: يلزم اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة، لأن القعدة الأولى
فرض في حق المسافر نفل في حق المقيم.
وفي الثاني: يلزم اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة لأن القراءة فرض
في حق المقتدي دون الإمام، فاقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز عندنا، خلافا
للشافعي، وإلى هذا أشار المصنف بفاء النتيجة بقوله:
م: (فيكون اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة أو القراءة) ش: إذا كان
اقتداؤه في الشفع الثاني، وكلمة - أو- هنا مانعة الخلو لا مانعة الجمع
لجواز اجتماعهما وهو أيضا يفسد.
م: (وإن صلى المسافر بالمقيمين ركعتين سلم) ش: أي المسافر الذي هو الإمام
يسلم آخر الركعتين اللتين هما صلاته م: (وأتم المقيمون) ش: المقتدون م:
(صلاتهم) ش: وهي أربع ركعات م: (لأن المقتدي التزم الموافقة) ش: للإمام م:
(في الركعتين) ش: اللتين للمسافر.
(3/26)
فينفرد في الباقي كالمسبوق، إلا أنه لا
يقرأ في الأصح لأنه مقتد تحريمة لا فعلا، والفرض صار مؤدى فيتركها احتياطا
بخلاف المسبوق؛ لأنه أدرك القراءة نافلة فلم يتأد الفرض، فكأن الإتيان
أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فينفرد بالباقي) ش: من الصلاة وهو ركعتان م: (كالمسبوق) ش: فإنه ينفرد
فيما فاته من صلاته مع الإمام م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله: فينفرد،
أي: إلا أن المقتدي المذكور م: (لا يقرأ) ش: فيما بقي من صلاته لأن فرض
الصلاة صار مؤدى بخلاف المسبوق الذي أدرك في الشفع الثاني، حيث يأتي
بالقراءة لأنه أدرك قراءة نافلة.
م: (في الأصح) ش: احترز به عن قول بعض المشايخ من وجوب القراءة فيما يتمون
لأنهم ينفردون فيه، ولهذا يلزمهم سجود السهو إذا سهوا فيه، فأشبهوا
المسبوقين، وأشار إلى وجه الأصح بقوله م: (لأنه مقتد تحريمة لا فعلا) ش: أي
من حيث التحريمة لا من حيث الفعل، أما أنه مقتد تحريمة، فإنه التزم الأداء
معه في أول التحريمة، وأما أنه ليس مقتديا فعلا، فلأن فعل الإمام فرغ
بالسلام على رأس الركعتين، وكل من كان كذلك فهو لاحق، ولا قراءة على
اللاحق، لأنه بالنظر إلى كونه مقتد بالتحريمة حرم عليه القراءة، وبالنظر
إلى كونه مقتديا فعلا يتسحب القراءة فيتركها احتياطا لأن المحرم والمبيح
إذا اجتمعا فالغلبة للمحرم.
وإلى هذا أشار بقوله: م: (والفرض) ش: أي فرض القراءة م: (صار مؤدى) ش:
لقراءة الإمام وقراءته قراءة المقتدي وهو ممنوع من القراءة، فإذا كان كذلك.
م: (فيتركها) ش: أي فيترك القراءة. م: (احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط لما
ذكرنا. م: (بخلاف المسبوق لأنه أدرك القراءة نافلة) ش: وهي قراءة الإمام في
الشفع الثاني. م: (فلم يتأد الفرض) ش: بتلك القراءة النافلة. م: (فكان
الإتيان) أي إتيان القراءة. م: (أولى) ش: أي من تركها.
فإن قلت: لما أدرك المسبوق قراءة النافلة ولم يتأد به الفرض، فكان الإتيان
به واجبا فكيف قال، فكان الإتيان به أولى.
قلت: الأولوية لا تنافي الوجوب، كما أن الإباحة والندب لا ينافيه، والمراد
بالأولوية ترجيح جانب الوجود على العدم، وهذا موجود في الوجوب وزيادة.
وفي " الجنازية ": أن قوله: فكان به أولى، للمطابقة بينه وبين قوله فيتركها
احتياطا، لكن مراده إن جعله منفردا أولى من جعله مقتديا حتى تلزمه القراءة،
ولو تركها فسدت صلاته.
ونقل هذا صاحب " الدراية" ثم قال: وفيه تعقب، ونقله الأكمل، وقال: وفيه
نظر، وكلاهما لم يبينا وجه ما ذكرنا، والتحقيق فيه أن المعنى: فكان الإتيان
بجهته كون المسبوق مقتديا أولى من الإتيان بجهة كون المقيم مقتديا لا أن
تكون القراءة سنة أولى أو قراءة المسبوق فرض لا تجوز الصلاة بدونها.
(3/27)
قال: ويستحب للإمام المسافر إذا سلم أن
يقول أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال حين صلى بأهل مكة وهو مسافر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ما يستحب للإمام المسافر]
م: (ويستحب للإمام المسافر إذا سلم) ش: على رأس الركعتين م: (أن يقول:
أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر) ش: بفتح السين وسكون الفاء جمع مسافر، هذا يدل
على أن العلم بحال الإمام يكون مقيما أو مسافرا ليس بشرط، لأنهم إن علموا
أنه مسافر، فقوله هذا عبث، وإن علموا أنه مقيم كان كذبا، فدل على أن المراد
به إذا لم يعلموا حاله وهو مخالف لما ذكر في "فتاوى قاضي خان " وغيره أن من
اقتدى بإمام لا يدري أنه مقيم أو مسافر لا يصح اقتداؤه.
فإن قلت: ما وجه التوفيق بين الروايتين.
قلت: تلك الرواية محمولة على ما إذا بنوا أمر الإمام على ظاهر حال الإقامة،
والحال أنه ليس بمقيم وسلم على رأس الركعتين، وانصرفوا على ذلك لاعتقادهم
فساد صلاة الإمام، وأما إذا علموا بعد الصلاة بحال الإمام جازت صلاتهم، وإن
لم يعلموا حاله وقت الاقتداء.
فإن قلت: فعلى هذا التقدير يجب أن يكون هذا القول واجبا على الإمام، لأن
صلاح صلاة القوم يحصل به، وما يحصل به ذلك فهو واجب على الإمام، فكيف قال:
ويستحب؟
قلت: صلاح صلاتهم ليس يتوقف على هذا القول البتة، بل إذا سلم على رأس
الركعتين، وعلم عدم سهوه، فالظاهر من حاله أنه مسافر حملا لأمره على
الصلاح.
فإن قوله: بعد ذلك زيادة إعلام بأنه مسافر، فكان أمرا مستحبا لا واجبا. وفي
" شرح الإرشاد ": وينبغي أن يخبر إمام القوم قبل شروعه أنه مسافر، فإذا لم
يخبر أخبر بعد السلام.
م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حين صلى بأهل مكة وهو
مسافر) ش: هذا أخرجه أبو داود والترمذي عن علي بن زيد عن أبي نضرة «عن
عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: غزوت مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة
لا يصلي إلا ركعتين يقول: "يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر» .
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه الطبراني في "معجمه"، وابن أبي شيبة في
"مصنفه " وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي والبزار في "مسانيدهم".
«ولفظه قال: ما سافرت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
سفرا قط إلا صلى ركعتين، ثم حججت معه واعتمرت فصلى ركعتين، قال: يا أهل مكة
أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم حججت مع أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - واعتمرت فصلى ركعتين، ثم قال: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم حججت
مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واعتمرت فصلى ركعتين ثم قال: أتموا
صلاتكم فإنا
(3/28)
وإذا دخل المسافر في مصره أتم الصلاة وإن
لم ينو المقام فيه لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه -
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كانوا يسافرون ويعودون إلى أوطانهم مقيمين
من غير عزم جديد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوم سفر، ثم حججت مع عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واعتمرت فصلى ركعتين
ثم إن عثمان أتم انتهى.
وزاد فيه ابن أبي شيبة: وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا
يصلي إلا ركعتين، وقال فيه: وحججت مع عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبع
سنين من إمارته فكان لا يصلي إلا ركعتين ثم صلاها يعني أربعا.»
وروى مالك في " الموطأ " عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن عمر بن
الخطاب كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم يقول: يا أهل مكة أتموا صلاتكم،
فإنا قوم سفر، ورواه عبد الرزاق أيضا في "مصنفه" نحوه.
[الحكم إذا دخل المسافر بلده]
م: (وإذا دخل مسافر في مصره أتم الصلاة) ش: سواء دخل مصره مجازا أو لقضاء
حاجة حدث مع نية الخروج أو بدا له أن يترك السفر، وهذا في مسافر استكمل سير
ثلاثة أيام.
وفي " المحيط ": وإن كان خرج من مصره مسافرا ثم بدا له أن يرجع إلى مصره
لحاجة قبل أن يتم ثلاثة أيام صلى صلاة المقيم في انصرافه بخلاف ما إذا
استكمل ثلاثة أيام سيره، ثم قرب من مصره وعزم على الدخول وهو على سفره ما
لم يدخل، وإذا خرج من مصره مسافرا فحضرته الصلاة فافتتحها ثم أخذت فانتقل
ليأتي مصره، ثم علم أن أمامه ما فاته يتوضأ ويصلي صلاة المقيم، فإن تكلم
على صلاة المسافر، وكذلك المسافر إذا كان راكبا سفينة وهو يصلي الظهر فجرت
به السفينة حتى دخل مصره ثم صلاه أربعا، ولو افتتحها في مصره في سفينة فجرت
به حتى خرجت إلى المفازة وهو على عزم السفر لا يصير مسافرا، فإذا تكلم وهو
متوجه أمامه على عزم السفر صار مسافرا.
م: (وإن لم ينو المقام فيه) ش: المقام بالضم بمعنى الإقامة م: (لأنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا يسافرون ويعودون إلى
أوطانهم مقيمين من غير عزم جديد) ش: هذا ليس له شاهد، ولا ندري من أين أخذه
المصنف ولا اشتغل به أكثر الشراح ولا ذكره، وإنما ذكره الأترازي فقال: لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسافر فيقصر، فإذا عاد
إلى المدينة كان يتم بلا عزم جديد، انتهى.
ولم يبين مخرجه ولا حاله ولا من أي كتاب نقله، وذكره الأكمل برمته ثم قال:
وفيه نظر، لأن العزم فعل القلب، وهو أمر باطن، وليس له سبب ظاهر يقوم
مقامه، بل الظاهر من
(3/29)
ومن كان له وطن فانتقل منه واستوطن غيره ثم
سافر ودخل وطنه الأول قصر؛ لأنه لم يبق وطنا له إيضاح، ألا ترى أنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الهجرة عد نفسه بمكة من
المسافرين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حالة المسافر العائد إلى وطنه أن يكون في عزمه المقام فيه، ولعل المراد عزم
جديد لمدة الإقامة خمسة عشر يوما، فإن الظاهر عدمه.
والاستدلال بالمعقول أظهر، وفيه أن نية الإقامة إنما تعتبر بصيرورة المسافر
مقيما في غير مصره، لكون مثله في حيز التردد بين أن يكون بالمسير وبين أن
يكون بالإقامة فاحتيج إلى النية، فأما في مصره فهو متعين للإقامة كما كان
قبل السير.
قلت: إيضاح النظر بقوله لأن العزم فعل القلب ... إلخ غير محرز، لأن العزم
كما هو فعل القلب، فكذلك النية فعل القلب غير أن العزم نية مع تصميم.
وقوله: فأما في مصره فهو متعين للإقامة كما كان قبل المسير غير سديد، لأنا
نسلم أنه كان قبل المسير غير متردد، أما بعد المسير وعوده فلا نسلم عدم
التردد على ما لا يخفى.
[حكم من كان له وطن فانتقل عنه واستوطن غيره ثم
سافر]
م: (ومن كان له وطن فانتقل عنه) ش: أي بالكلية حتى لو انتقل بنفسه وأخذ
وطنا في بلدة أخرى يصير كل واحد منهما وطنا أصليا م: (واستوطن غيره ثم سافر
ودخل وطنه الأول قصر، لأنه) ش: أي لأن وطنه الأول الذي انتقل منه م: (لم
يبق وطنا له) ش: لأنه انتقل بالكلية فخرج عن كونه وطنا له.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لما ذكره م: (أنه) ش: أي أن النبي م: (- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الهجرة) ش: من مكة إلى المدينة م: (عد
نفسه بمكة من المسافرين) ش: يشهد لهذا ما ذكرناه عن قريب من حديث عمران بن
حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وحديث «أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سافرت مع النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- كلهم صلى حين خرج من المدينة إلى أن رجع إليها ركعتين في المسير والمقام
بمكة،» رواه أبو يعلى في "مسنده".
وحديث «أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى
رجعنا إلى المدينة، قيل: كم أقمتم بمكة؟ قال: أقمنا بها عشرا» رواه البخاري
ومسلم ولو لم يعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نفسه في مكة من المسافرين
لما صلى ركعتين، وكذلك أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
(3/30)
وهذا لأن الأصل أن الوطن الأصلي يبطل بمثله
دون السفر،
ووطن الإقامة يبطل بمثله، وبالسفر، وبالأصلي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي وهذا الذي ذكرنا من بطلان الوطن الأول بالوطن الثاني م:
(لأن الأصل) ش: أي في هذا الباب م: (أن الوطن الأصلي) ش: وهو ما يكون
بالتوطن بالأهل أو بالمولد، وسمي أيضا وطن القرار م: (يبطل بمثله) ش: وهو
الذي انتقل إليه بأهله، وصورته رجل وطنه بالكوفة وخرج إلى مكة فاستوطنها،
ثم بدا له أن ينتقل باستيطانه بمكة واتخاذها دارا، فلو أنه لم يتوطن بمكة
ثم بدا له أن يرجع ويتخذ خراسان دارا فمر بالكوفة يصلي بها أربعا م: (دون
السفر) ش: يعني الوطن الأصلي لا تبطل بالسفر، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
كان يخرج مع أصحابه إلى الغزوات من المدينة ولا ينتقل وطنه من المدينة ولم
يجدد نيته بعد رجوعه.
[وطن الإقامة للمسافر يبطل بمثله]
م: (ووطن الإقامة) ش: هو أن ينوي المسافر الإقامة في بلد خمسة عشر يوما
فصاعدا، ويسمى أيضا الوطن الحادث والوطن المستعار م: (يبطل بمثله) ش: أي
بمثل وطن الإقامة، وصورته خراساني قدم الكوفة فأقام بها وأتم الصلاة، ثم
خرج إلى الحيرة، فوطن نفسه على الإقامة خمسة عشر يوما فأقام بالحيرة أياما
على تلك النية ثم يريد خراسان ومر بالكوفة فإنه يقصر الصلاة؛ لأنه انتقض
وطنه الحادث بالكوفة بوطنه الحادث بالحيرة، فإن لم ينو المقام بالحيرة خمسة
عشر يوما إلا أنه كان بها يتم الصلاة، ثم خرج إلى خراسان فمر بالكوفة، فإنه
يتم الصلاة، لأن وطن الإقامة لا يبطل بوطن السكنى.
م: (وبالسفر) ش: أي يبطل وطن الإقامة بالسفر، يعني بإنشائه، لأن السفر ضده
م: (وبالأصلي) ش: أي يبطل وطن الإقامة بالوطن الأصلي لأنه أقوى منه، ثم
اعلم أن عامة المشايخ قالوا: الأوطان ثلاثة: وطن أصلي، ووطن إقامة، ووطن
السكنى، وهو ما إذا نوى أن يقيم المسافر أقل من خمسة عشر يوما، وسمي وطن
سفر أيضا، واختيار المحققين أن الوطن وطنان: وطن أصلي ووطن مستعار، وهو وطن
الإقامة، ولم يعتبروا وطن السكنى.
لأنه لا يثبت فيه حكم الإقامة، بل حكم السفر فيه باق، ولهذا لم يذكر المصنف
- رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم إن وطن السكنى ينتقض بالكل، صورته رجل خرج من
النيل وهو سواد الكوفة وبينهما أقل من مسيرة ثلاثة أيام ونزل بالكوفة نقلة،
ثم خرج من الكوفة إلى القادسية يطلب غريمه، ثم خرج من القادسية يريد الشام،
ويريد أن يمر بالكوفة، فإنه يصلي بالكوفة ركعتين، لأن وطن سكناه بالقادسية
أبطل وطن سكناه بالكوفة بتركه متاعه فيها، فإن نوى بالقادسية أن يقيم بها
خمسة عشر يوما بطل سكناه بالكوفة، لأن وطن السكنى يبطل بوطن الإقامة، وكذلك
إذا انتقل إلى القادسية بأهله ومتاعه يصلي بالكوفة ركعتين، لأن وطن السكنى
يبطل بالوطن الأصلي.
(3/31)
وإذا نوى المسافر يقيم بمكة وبمنى خمسة عشر
يوما لم يتم الصلاة لأن اعتبار النية في موضعين يقتضي اعتبارها في
مواضع وهو ممتنع لأن السفر لا يعرى عنه إلا إذا نوى المسافر أن يقيم
بالليل في أحدهما فيصير مقيما بدخوله فيه، لأن إقامة المرء مضافة إلى
مبيته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[اعتبار نية السفر في موضعين وحكم من فاتته
صلاة في السفر]
م: (وإذا نوى المسافر أن يقيم بمكة وبمنى خمسة عشر يوما لم يتم الصلاة)
ش: لأنه لم ينو الإقامة في كل واحد منهما خمسة عشر يوما، وإن نوى أقل
من ذلك، وبه لا يصير مقيما.
م: (لأن اعتبار النية في موضعين يقتضي اعتبارها في مواضع وهو ممتنع) ش:
أي اعتبار النية في مواضع ممتنع، والحاصل أنه لا يعتبر نية الإقامة
خمسة عشر في موضعين لا يجمعهما مصر واحد أو قرية واحدة. لأنه حينئذ
يلزم اعتبارها في ثلاثة أمصار أو أربعة أمصار إلى خمسة عشر، فيؤدي إلى
أن يكون الشخص مقيما بنفس النزول وذلك فاسد.
م: (لأن السفر لا يعرى عنه) ش: أي قليل اللبث، قال السغناقي: هذا مدلول
معنى، وليس مذكور لفظا، ووجه هذا ما ذكره في " المبسوط ".
وقال: لأن نية الإقامة ما يكون في موضع واحد، فإن الإقامة ضد السفر،
والانتقال من الأرض إلى الأرض يكون ضربا في الأرض، ولا يكون إقامة، ولو
جوزنا نية الإقامة في موضعين جوزنا فيما زاد على ذلك، فيؤدي إلى القول
بأن السفر لا يتحقق، لأنك إذا جمعت إقامة المسافر في المراحل، ربما
يزيد ذلك على خمسة عشر يوما، لأن إقامة المرء يضاف إلى مبيته، ألا ترى
أنك إذا قلت للسوقي: أين تسكن؟ يقول في محلة كذا وهو بالنهار يكون في
السوق.
م: (إلا إذا نوى المسافر أن يقيم بالليل في أحدهما فيصير مقيما بدخوله
فيه) ش: أي في أحد الموضعين. م: (لأن إقامة المرء مضافة إلى مبيته) ش:
أي موضع بيتوتته كما ذكرنا الآن، وفي " المبسوط ": إلا بينهما تفاوت،
فإنه لو دخل الموضع الذي عزم على المقام فيه بالنهار أولا لا يصير
مقيما، لأن موضع إقامة المرء حيث يبيت فيه.
وفي " المفيد " و" التحفة ": هذا إذا كان كل واحد منهما أصلا كمكة
ومنى، أو كالكوفة والحيرة، فإذا كان أحدهما تبعا للآخر بأن نوى الإقامة
في المصر، وفي موضع آخر تبع لها، وهو ما يلزم سكانيه حضور الجمعة يصير
مقيما؛ لأنهما مكان واحد، إلا أن ينوي أن يقيم في إحداهما ليلا، وفي
الآخر نهارا، فيصير مقيما بدخول الذي نوى أن يقيم فيه ليلا، ولا يصير
مقيما بدخول الذي نوى أن يقيم فيه نهارا.
وفي [....] : فإذا دخل الذي نوى الإقامة فيه ليلا صار مقيما حتى يرحل،
وكذا إذا دخل الآخر بعده فهو مقيم، لأنه ليس بينهما مسيرة سفر، وفي "
جوامع الفقه " بعضهم اعتبر الأكثر.
(3/32)
ومن فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر
ركعتين، ومن فاتته في الحضر قضاها في السفر أربعا،
لأن القضاء بحسب الأداء والمعتبر في ذلك آخر الوقت، لأنه هو المعتبر في
السببية عند عدم الأداء في الوقت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومن فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين، ومن فاتته في
الحضر قضاها في السفر أربعا) ش: أما قضاء الفائتة في السفر فهو ركعتان
في الحضر، وهو أيضا قول مالك والشافعي في القديم.
وقال في الجديد: لا يقصر في الحضر، واختاره المزني، وبه قال أحمد
وداود؛ لأن المرخص هو السفر وقد زال، فيزول القصر، وأما قضاء الفائتة
في الحضر وهو أربع في السفر بالإجماع، وقال: لا أعرف فيه خلافا إلا ما
حكي عن الحسن البصري، وروى الأشعث عنه أن الاعتبار بحال الفعل فتقصر.
وفي " المبسوط ": إن خرج بعد دخول وقت الصلاة يصلي صلاة المسافر. وقال
ابن شجاع: يصلي صلاة المقيم.
وفي " شرح المهذب " للنووي: إن سافر في أثناء الوقت وقد تمكن من أدائها
فله قصرها عند الشافعي، ومالك والجمهور، واختاره ابن المنذر. وقال زفر:
إن كان قد بقي من الوقت مقدار ما يؤدي فيه ركعتين يصلي صلاة المسافر،
وإن كان دون ذلك يصلي أربعا.
م: (لأن القضاء بحسب الأداء) ش: يعني كل من وجب عليه أداء أربع قضى
أربعا، ومن وجب عليه أداء ركعتين قضى ركعتين م: (والمعتبر في ذلك) ش:
أي في وجوب القضاء م: (آخر الوقت لأنه) ش: أي لأن آخر الوقت م: (هو
المعتبر في السببية عند عدم الأداء في الوقت) ش: قد تقرر في الأصول أن
السبب عندنا هو الجزء القائم من الوقت.
ولكن أصحابنا اختلفوا في الوجوب الذي يتعلق بآخر الوقت، فقال أكثرهم:
الوجوب متعلق بمقدار التحريمة من آخر الوقت، وهو مختار الكرخي
والمحققين من أصحابنا والقاضي أبي زيد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال زفر: متعلق بجزء يؤدي الصلاة فيه، وهو اختيار القدوري، وثمرة
الخلاف تظهر في الحائض إذا طهرت في آخر الوقت، والصبي يبلغ، والكافر
يسلم، والمجنون والمغمى عليه يفيقان، والمسافر إذا نوى الإقامة،
والمقيم إذا نوى السفر، فعند أكثر أصحابنا يجب ويتغير الفرض إذا بقي من
الوقت مقدار ما يوجد فيه التحريمة.
وعند زفر ومن تابعه من أصحابنا لا يجب، ولا يتغير الفرض، إلا إذا أدرك
من الوقت ما يمكن الأداء فيه. وقال بعض أصحاب الشافعي: إذا مضى من
الوقت ما يتمكن من أداء الأربع
(3/33)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه يجب عليه الإتمام، وإذا مضى من الوقت ما لم يسع إلا أربع ركعات
فإنه يقصر. وهذا بناء على أن الصلاة تجب في أول الوقت. وهاهنا اعتراضات
ثلاثة:
الأول: أن الأصوليين قالوا: إن الوجوب يضاف إلى كل وقت عند عدم الأداء
فيه لا إلى آخره، فكيف قال المصنف: المعتبر في السببية آخر الوقت عند
عدم الأداء.
قلت: قال الأكمل: أجيب: بأن بعض المشايخ يقررون السببية على الجزء
الأخير، وإن فات الوقت، فجاز أن يكون المصنف قد اختار ذلك، انتهى.
والأحسن أن يقال: أن الذي قاله المصنف هو الصواب، لأن الوجوب يضاف إلى
الجزء الذي يتصل به الأداء إذا وجد الأداء، فإذا لم يوجد الأداء تنتقل
السببية جزءا فجزءا إلى آخر الأجزاء، فيكون الآخر معتبرا في السببية.
فإن قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن يجوز قضاء العصر إلا بصبي إذا أسلم في
ذلك الجزء، وإذا قضاها في الجزء الآخر من هذا اليوم.
قلت: إنما لم يجز باعتبار أنه إذا لم يؤد فيه وجبت كاملة خالية عن
الفساد، فلم يجز قضاؤها في الوقت الناقص.
الاعتراض الثاني: أن قوله: القضاء يجب الأداء، ينتقض بما إذا دخل
المسافر في صلاة المقيم ثم ذهب الوقت ثم أفسد الإمام والمقتدي صلاته
على نفسه، فإنه يقضي ركعتين صلاة السفر، وقد وجب عليه أداء الصلاة
أربعا.
الجواب: عنه، أن الأربع إنما لزمه متابعة الإمام وقد زال ذلك الإفساد
فعاد إلى أصله، ألا ترى أنه لو أفسد الاقتداء في الوقت كان عليه أن
يصلي صلاة السفر، فكذلك هاهنا.
الاعتراض الثالث: أنكم اعتبرتم حال الأداء دون القضاء فيرد عليكم ما
إذا فاتته صلاة في المرض حيث يقضيها في الصحة قائما بركوع وسجود، وإذا
فاتته في الصحة يقضيها في المرض بالإيماء فاعتبرتم حال القضاء دون
الأداء.
الجواب عنه أن المرض لا تأثير له في أصل الصلاة، بل له أثر في الوصف
حتى يقع الأداء بحسب القدرة، وللسفر تأثير في أصل الصلاة حيث يتغير
الحكم من الإكمال إلى القصر، فلما تحقق القصر في آخر الجزء صار ذلك
دينا لم يتغير بعد ذلك، ولهذا لا يجوز اقتداء المسافر بالمقيم في
القضاء، فافهم.
(3/34)
والمطيع والعاصي في سفره في الرخصة سواء.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سفر المعصية لا يفيد الرخصة، لأنها
تثبت تخفيفا فلا تتعلق بما يوجب التغليظ، ولنا إطلاق النصوص ولأن نفس
السفر ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره فصلح متعلق
الرخصة والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ترخص العاصي]
م: " والمطيع " ش: هو الذي يخرج للحج، أو الجهاد م: (والعاصي) ش: هو
الذي يخرج لقطع الطريق، أو الإباق م: (في سفره في الرخصة سواء) ش: وفي
بعض النسخ في سفرهما.
م: (وقال الشافعي: سفر المعصية لا يفيد الرخصة) ش: وبه قال مالك، وأحمد
م: (لأنها) ش: أي لأن الرخصة م: (تثبت تخفيفا) ش: أي لأجل التخفيف على
المكلف م: (فلا يتعلق بما يوجب التغليظ) ش: أي الذي يوجب التغليظ هو
المعصية، المعنى: أن الحكم تنجيز السبب، والمعصية سبب التغليظ فكيف
يثبت بها التخفيف؟
م: (ولنا إطلاق النصوص) ش: منها قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] (البقرة: آية 184)
.
ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فرض المسافر
ركعتان» ، كل ذلك مطلقة فيقتضي ثبوت الأحكام في كل مسافر م: (ولأن نفس
السفر ليس بمعصية) ش: لأنه عبارة عن خروج بريد، وهو يقوي المعصية
لإمكان المفارقة بينهما م: (وإنما المعصية ما يكون بعده) ش: أي بعدما
صار مسافرا كما في قطع الطريق م: (أو يجاوره) ش: أي ويجاور السفر كما
في الإباق وعقوق الوالدين م: (فصلح) أي السفر م: (متعلق) ش: أي سبب م:
(الرخصة والله أعلم) ش: لأن القبح المجاوز لا يتقدم المشروعية، كالصلاة
في أرض مغصوبة، والبيع وقت النداء.
اعلم: أن السفر خمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام.
فالواجب: سفر الحج. ومندوب: مثل حج النفل، وطلب العلم، وزيارة قبر
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده، والصلاة في
المسجد الأقصى، وزيارة الوالدين.
والمباح: سفر التجارة، والتنزه، والمكروه: السفر من بلد إلى بلد، لا
لغرض صحيح. والحرام: السفر لقطع الطريق، أو الإباق، ونحوهما.
فعندنا يقصر في كل سفر، وفرقت المالكية بين العاصي بسفره، فجوزوا الرخص
للثاني دون الأول، وبقولنا قال الأوزاعي، والثوري، وداود، وأصحابه
والمزني، وبعض المالكية، وعن زياد بن عبد الرحمن إلا أنه نسي أن العاصي
بسفر يقصر ويفطر، لكن المشهور عن مالك المنع بسفر المعصية، وهو قول
الشافعي، وأحمد.
وقال النووي: وما يلحق بسفر المعصية أن يتعب نفسه ويعذب دابته بالركض
بغير
(3/35)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غرض، ولو انتقل من بلد إلى بلد لغير غرض صحيح، لم يترخص، والسفر لمجرد
رؤية البلاد ليس بغرض صحيح فلا يترخص.
وعن مالك: لا يقصر الصائد المتلذذ، وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - لا يقصر إلا في السفر الواجب كالحج والجهاد، وقال عطاء: أرى
أن لا يقصر إلا في سبيل من سبل الخير، ومنهم من قال: لا يقصر إلا في
الخوف، وكان الأدنى من الشافعية يقول: إن العاصي بسفره لا يأكل الميتة،
فإذا قيل له في المنع: قتل نفسه وهو حرام، قال الله تعالى: {وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] (النساء: آية 29) ، يقول: لكن
توبة مظهر الانقطاع.
قال أبو بكر الرازي: لا يجوز له قتل نفسه وإن لم يتب، لأن ترك التوبة
لا يبيح له قتل نفسه إذ فيه جمع بين معصيتين.
وقال أبو بكر الرازي [.....] : إن العاصي في سفره يأكل الأطعمة المباحة
من غير منع، ويتوصل به إلى غرضه المحرم ويتقوى عليه بذلك، وقال ابن
العربي: عجبا ممن يبيح ذلك مع التمادي على المعصية، وما أظن أحدا
يقوله، فإن قاله فهو مخطئ، قال القرطبي: هذا تحامل، والصحيح خلاف هذا،
فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية كما هو فيه، ولعله يتوب
في أثناء الحال فتمحو التوبة عنه ما كان منه، وليس أكل الميتة رخصة في
حال المخمصة، بل هو عزيمة واجبة حتى لو امتنع من أكلها كان عاصيا.
فروع: الخليفة إذا سافر يصلي صلاة المسافرين كغيره، وقيل: إذا طاف في
ولايته لا يصير مسافرا، ذكره في " الذخيرة "، وفي " المنتقى " حمل كل
رجل فذهب به ولا يدري أين يذهب به، قال: يتم حتى يسير ثلاثا فيقصر،
واعلم أن للباقي بعدها شيئا يسيرا، ولو كان صلى ركعتين من جملة أجزأته،
فإن سار به أقل من ثلاث أعاد ما صلى.
وفي " المبسوط ": ولو ترك القراءة فيهما فلا تنقلب صحيحة، ولو ترك
القعدة الأولى ثم نوى الإقامة تجوز صلاته، لأنها سنة في الفرائض، ذكره
الزهري في "شرحه" يصح سفر الكافر، وكذا الصبي عند أبي إبراهيم، وعند
أبي سهيل لا يصح، ولا يصح السفر منهما عند محمد من القصر، ولا يصح من
الحائض في الصحيح.
قال السرخسي في " المبسوط " والمرغيناني: لا يقصر في السنن، وتكلموا في
الأفضل في حالة الزوال والترك في حالة السير. قال هشام: رأيت محمدا
كثيرا لا يتطوع في السفر قبل الظهر، ولا بعدها ولا يدع ركعتي الفجر
والمغرب وما رأيته تطوع قبل العصر ولا قبل العشاء ويصلي العشاء ثم
يوتر. في " قنية المنية ": تزوج المسافر في بلد لا يصير مقيما به وهو
قول الشافعي.
(3/36)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " فتاوى خواهر زاده ": يصير به مقيما، ولو كان له أهل ببلدتين
فأتاها دخلها صار مقيما فيما ذكر في "جوامع الفقه ".
وفي " المحيط ": فإن ماتت زوجته في إحداهما وبقي له فيها دور وعقار
قيل: لا يبقى وطنا له إذ المعتبر الأهل دون الدار كما لو تأهل ببلدة
واستوت سكنا له وليس له فيها دار، وقيل يبقى كما إذا حلف لا يسكن هذه
الدار، وانتقل عنها بأهله وبقي فيها ثقله، والمسافرة تصير مقيمة بنفس
التزوج.
مسافر ومقيم اشتريا عبدا يصلي العبد صلاة المقيم قاله علاء الدين أبو
الحسن الضاري وظهير الدين المرغيناني.
وقال علاء الدين الحمالي: الأصح أنه يصلي المسافر، قيل: إن كانت بينهما
مهاباة في الخدمة يعتبر حالة بهما فيتم عند المقيم ويقصر عند المسافر،
ذكره المرغيناني، المعتبر في الإقامة نية الأصل دون التبع كنية الخليفة
والأمير دون الجند، ونية الزوج مع الزوجة والمولى مع عبده، ورب الدين
مع مديونه إن كان معسرا، ذكره في " التحفة "، وكذا المحمول مع حامله
والأجير مع مستأجره، والتلميذ مع أستاذه، ذكره في " الذخيرة ".
وفي " المحيط ": قيل: إن كانت استوفت مهرها، وفي " قنية المنية ":
السفر والإقامة إلى الزوج إن استوفت مهرها وإلا فإليها، وكذا بعد
الدخول في حق المعجل وكذا الجندي إن كان يرزق من الأمير وإلا فلا.
وفي " المحيط ": جعله قوله - وكذا الغريم مع مديونه إن كان مفلسا -
لأنه يحبسه أو يلازمه، وكذا لو انحصر غيره ظلما لأنه عاد عليه، وكذا
الميتة إلى الأعمى إذا قاده أحد وإلا فلا، وفي "الذخيرة ": المطاوع
بالجهاد لا يكون تبعا للمولى فيكون حقا على حاله.
قلت: الأليق الوالي بخلاف العبد والمرأة.
وفي " المحيط ": مسافر دخل مصر الجند عزيمة، إن كان معسرا يقصر لأنه لم
ينو الإقامة وإن كان موسرا وعزم أن يقضي دينه أو لم يعزم شيئا قصر، وإن
عزم أن لا يقضي دينه أتم، فكأنه نوى الإقامة.
وفي " الذخيرة ": ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف إذا حبس المسافر بالدين
وهو معسر يتم الصلاة، وكذا إن كان موسرا إلا أن يكون وطن نفسه على
أدائه فيقصر.
وفي " المنتقى ": مسلم أسره العدو وإن كان مقصده ثلاثة أيام قصر، وإن
لم يعلم سأله كأن لم يخبره. وكان العدو مقيما أتم، وإن كان مسافرا يقصر
لأنه تحت قهره كالعبد مع سيده فإنه
(3/37)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يسأله، فإن لم يخبره أتم.
وفي " الذخيرة ": إن انفلت الأسير من العدو فوطن نفسه على إقامة شهر
اختيارا أو نحوه قصر، لأنه محارب العدو، وكذا إذا أسلم فهرب منهم
وطلبوه ليقتلوه فخرج هاربا مسيرة السفر، ثم إذا لم يعلم التابع نية
المتبوع للإقامة لا يلزم الإتمام حتى يعلم كما في توجه الخطاب، وهو
الأصح، وقيل: يلزمه الإتمام لأنه ضمني كعزل الوكيل والمكره بالسفر
كالأسير يقصر، وبه قال مالك وأحمد، وقال الشافعي: لا يقصر لعدم النية.
صبي وكافر سافرا، ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي، فإن بقي إلى مقصدهما
مسيرة سفر قصرا وإن لم يبق فالكافر يقصر دون الصبي، لأن نيته صحيحة،
لأنه من أهله، بخلاف الصبي، وقال الفضلي: حكمهما حكم المقيم، وقال بعض
المشايخ: حكمهما حكم المسافر، والمختار الأول.
ولو طهرت الحائض في السفر، وبينهما وبين المقصد أقل من مسيرة سفر تتم،
هو الصحيح، ارتد في السفر ثم أسلم من ساعته، وبينه وبين المقصد أقل من
مسيرة سفر يقصر، وكذا المرأة لو طلقها زوجها بائنا، أو رجعيا، وانقضت
عدتها وبينها وبين المقصد أقل من مدة السفر، فأما قبل انقضاء العدة
فحكمها في الرخصة حكم الزوج. ولا يكره الخروج للسفر يوم الجمعة قبل
الزوال وبعده.
وقال الشافعي: يكره قبل الجمعة. وقبل الزوال له قولان، أصحهما أنه يكره
وهو قول أحمد، وقال في " القديم ": لا يكره وهو قول مالك، ولو سافر في
رمضان لا يكره من دخل دار الحرب مستأمنا ونوى الإقامة في دارهم في موضع
الإقامة صحت نيته.
(3/38)
|