البناية شرح الهداية

باب صلاة الجمعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة الجمعة]
م: (باب صلاة الجمعة) ش: أي هذا باب في بيان أحكام صلاة الجمعة، ووجه المناسبة بين البابين من حيث إن في كل منهما سقوط شطر الصلاة، فالأول: بواسطة السفر، والثاني: بواسطة الخطبة. إلا أن الأول شامل من كل ذوات الأربع، والثاني: خاص في الظهر والخاص بعد العام وجود الآن، التخصيص لا يكون إلا بعد التعميم، واشتقاقها من الاجتماع كالفرقة من الافتراق.
وهي بضم الجيم والميم وبفتح الميم مع ضم الجيم، قال الزمخشري: قرئ بينهما بهن جميعا، فالسكون كالصحلة للمصحول منه، ويفتح للوقت الجامع كالصحلة من اللقبة، والضم ثقيل، كالعسر ويسر، وحكاهن الواحدي عن الفراء، والأكثرون أن الإسكان تخفيف كالعتيق، والفتح لغة بني عقيل، وجمعها جمعات، وجمع، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها، وقيل: لكثرة ما جمع الله فيها من خصائل الخير وهي اسم شرعي، وقيل: سميت بذلك لأن آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع فيه خلقه، ويروى ذلك عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل: لأن المخلوقات تمت فيها واجتمعت، وعن ابن سيرين أن أهل المدينة سموها الجمعة، وجمعوا قبل أن يقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونزلت سورة الجمعة، ولم تكن بعد فرضت.
وقيل: أول من سمى الجمعة كعب بن لؤي، وكان اسمه في الجاهلية عروبة من الإعراب الذي هو التحسين لمكان تزين الناس فيه. وفضيلتها عظيمة عن أبي هريرة، قال الله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] (البروج: الآية3) ، الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، رواه البيهقي في "سننه الكبرى ". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" رواه مسلم في "صحيحه"، وزاد مالك، وأبو داود: "وفيه تيب عليه، وفيه مات، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حين تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس"، وزاد الترمذي: "وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه إياه".»
وفي ساعة الإجابة ثلاثة عشر قولا: عن أبي هريرة: هي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، الترمذي: بعد صلاة عصر الجمعة إلى غروب الشمس، الحسن وأبو العالية: عند زوال الشمس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: عند أذان الجمعة. مسلم في "صحيحه ": إذ قعد الإمام على المنبر حتى يفرغ، أبو بردة: الساعة التي اختار الله فيها الصلاة، أبو داود عن أبي ذر: هي ما بين الساتر ارتفع شبرا إلى ذراع، طاووس وعبد الله بن سلام: بين العصر إلى غروب الشمس.

(3/39)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كعب: لو قسم جمعة في جمع إلا على تلك الساعة. أبو داود: من حين تقام الصلاة إلى حين الانصراف، أبو هريرة: التمسوها في ثلاثة مواطن: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وما بين نزول الإمام إلى أن يكبر، وما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن طلب ساعة يوم سير قرأها أنها أخفيت في اليوم.
وحكى ابن المنذر إجماع المسلمين على وجوبها. وقال الخطابي، وأكثر الفقهاء على أنها من فروض الكافية، قالوا: هذا غلط، وقال النووي: هي فرض على كل مكلف غير أصحاب الأعذار، وحكى أبو الطيب عن بعض أصحاب الشافعي غلط من قال إنها فرض كفاية، وقال ابن العربي: لا نطلب على فرضية الجمعة دليلا؛ لأن الإجماع من أعظم الأدلة، وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: سموها سنة، وتكلموا فيه، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود، والدارقطني، وعن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رواح الجمعة يجب على كل محتلم» رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم، قاله النووي.
وفي " الدراية ": صلاة الجمعة فريضة، حكم جاحدها كافر بالإجماع، وهي فرض عين إلا عند ابن كج من أصحاب الشافعية، فإنه يقول: فرض كفاية وهو غلط، ذكره في " الحلية "، و" شرح الوجيز ".
وفرضيتها بالكتاب، والسنة، والإجماع، ونوع من المعنى.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية 9) ، والمراد من الذكر في الآية الخطبة باتفاق المفسرين، والأمر للوجوب، فإذا فرض السعي إلى الخطبة التي هي شرط جواز الصلاة فإلى أصل الصلاة كان أوجب، ثم أكد الوجوب بقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] يحرم البيع بعد النداء، وتحريم المباح لا يكون من

(3/40)


لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجل واجب.
وأما السنة: فحديث جابر، وأبي سعيد، قالا: «خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -....
. الحديث، وفيه: اعلموا أن الله تعالى فرض عليكم صلاة الجمعة» .....الحديث، رواه البيهقي، وقال: وفيه عبد الله بن محمد العدوي وهو منكر الحديث لا يتابع في حديثه، وقال: قاله محمد بن إسماعيل البخاري، وذكر في " المبسوط " أكثر هذا الحديث بمعناه، وبعضه ذكر " صاحب المهذب ".
وأما الإجماع، فأجمعت الأمة على ذلك من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا على فرضيتها من غير إنكار أحد، لكن اختلفوا في أصل الفرض في هذا الوقت، فقال الشافعي في الجديد، وزفر، ومالك، وأحمد، ومحمد في رواية: فرض الوقت الجمعة، والظهر بدل عنها. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعي في القديم: الفرض هو الظهر، وإنما أمر غير المعذور بإسقاط أداء الجمعة، وقال محمد في رواية: فرض إحداهما غير عين، والتعيين إليه، ولكن رخص في أداء الظهر. وفائدة الخلاف تظهر في حر مقيم، إذ الظهر في أول الوقت يجوز مطلقا، حتى لو خرج بعد أداء الظهر إليها أو لم يخرج إليها لم يبطل فرضه، وعندهم لا يجوز الظهر سواء أدرك الجمعة أو لا، خرج إليها أو لا.
وأما المعنى فلأنا أمرنا بترك الظهر لإقامة الجمعة، والظهر فريضة، ولا يجوز ترك الفرض إلا لفرض هو آكد منه وأولى، فدل أن الجمعة آكد من الظهر في الفريضة.

[شروط صحة الجمعة]
[المكان الذي تصح فيه الجمعة]
م: (لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع) ش: شرائط لزوم الجمعة اثنا عشر، ستة في نفس المصلي، وهي: الحرية، والذكورة، والإقامة، والصحة، وسلامة الرجلين، والبصر، وقال: يجب على الأعمى إذا وجد قائدا، وستة في غير نفس المصلي وهي: المصر الجامع، والسلطان، والجماعة، والخطبة، والوقت، والإظهار، حتى إن الوالي لو أتى على باب المصر، وجمع فيه بحشمه، ولم يأذن للناس فيه بالدخول لم يجز.
كذا ذكره التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر محمد في " نوادر الصلاة ": أن أميرا لو جمع جنوده في الحصن، وأغلق الأبواب، وصلى بهم الجمعة، فإنه لا يجزئهم، وأشار المصنف إلى

(3/41)


أو في مصلى المصر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشرط الأول بقوله: لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع، وسيأتي حد المصر الجامع.
م: (أو في مصلى المصر) ش: نحو مصلى العيد، وفي " الأسبيجابي " و" المفيد ": لا تجب الجمعة عندنا إلا في مصر أو مما هو في حكمه كمصلى العيد، وفي " جوامع الفقه " وأرباض المصر كالمصر، وفي " الينابيع ": لو كان منزله خارج المصر لا يجب عليه، قال: وهذا أصح ما قيل فيه.
وفي قاضي خان عن أبي يوسف هو رواية عنه، وعنه من ثلاثة فراسخ، وعنه إذا شهد الجمعة، فإن أمكنه المبيت بأهله يجب الجمعة، واختاره كثير من مشايخنا، قال ابن المنذر: روي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأبي هريرة ونافع مولى ابن عمر والحسن، وبه قال عكرمة والحكم وعطاء والأوزاعي وأبو ثور لحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من آواه الليل إلى أهله» وضعفه الترمذي والبيهقي.
وعن أبي حنيفة: تجب إذا كن يجيء خراجها مع المصر، وفي " الذخيرة ": في ظاهر رواية أصحابنا لا يجب شهود الجمعة إلا على من سكن المصر والأرباض دون السفر، وسواء كان قريبا من المصر أو بعيدا عنها.
وعن محمد: إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة أميال فعليه الجمعة، وهو قول مالك والليث. وفي " منية المفتي ": على أهل السواد الجمعة إذا كانوا على قدر فرسخ، هو المختار، وعنه إذا كان أقل من فرسخين تجب، وفي الأكثر لا، وفي رواية: كل موضع لو خرج الإمام إليه صلى الجمعة تجب، وعن معاذ بن جبل: يجب الحضور في خمسة عشر فرسخا.
وفي " المرغيناني ": يجوز في فناء المصر، وهو الذي أعد لمصالح المصر متصلا به، وقدره بعض المشايخ بالغلوة، وبعضهم بفرسخين، واختاره السرخسي وخواهر زاده، وروي ذلك عن الزهري، وعن أبي يوسف: لو خرج الإمام مع أهل المصر ميلا أو ميلين جاز له أن يصلي بهم الجمعة، لأن فناء المصر كهي. قال أبو الليث: وبه نأخذ.
وفي " الذخيرة": قيل: الجواز بفناء المصر قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: لا يجوز بناء على اختلافهم في مقداره، وقيل: إنما يجوز في فناء المصر إذا لم يكن بين المصر وبينه مزارع ومراع، وهكذا في " المرغيناني " من غير خلاف، فعلى هذا القول لا تجوز إقامة الجمعة في مصلى

(3/42)


ولا تجوز الجمعة في القرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العيد، لأن بينهما مزارع.
قال في " الذخيرة ": وقد وقعت مرة فأفتى بعض مشايخ زماننا بعدم الجواز، ولكن هذا ليس بصواب، فإن أحدا لم ينكر جواز صلاة العيد فيه لا من المتقدمين ولا من المتأخرين والمصر وفناؤها شرط جواز صلاة العيد والجمعة، وفي المرغيناني: وإن كان بين المصر وبينه مزارع وفرجة فلا جمعة عليهم، وإن كان النداء يبلغهم قال: والغلوة والميل والميلان ليس بشيء، وهو اختيار الحلواني.
وفي " جوامع الفقه " وعن إبراهيم: يجب على كل من كان دون المكان الذي يقصر المسافر إذا وصل إليه. وقال ابن العربي: الوجوب على من سمع النداء عند الشافعي، قال: وعلقه النسفي على سماع النداء، ويسقط عمن كان في المصر الكبير إذا لم يسمعه.
قال ابن المنذر: الوجوب على من سمع النداء، يروى ذلك عن ابن عمر وابن المسيب وعمرو بن شعيب، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال ابن المنذر: يجب عند محمد بن المنكدر والزهري وربيعة من أربعة أميال، وقول "المصنف" لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى العيد قول علي بن أبي طالب وحذيفة وعطاء والحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد وابن سيرين والثوري وعبيد الله بن الحسن وسحنون المالكي.

[صلاة الجمعة في القرى]
م: (ولا تجوز الجمعة في القرى) ش: إنما قال: لا يجوز في القرى مع أنه مستعار من قوله: لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع نفيا لمذهب الشافعي، فإنه لا يشترط المصر بل يجوزها في كل موضع إقامة سكنه أربعون رجلا أحرارا لا يظعنون منه شتاء ولا صيفا، وبه قال أحمد.
وقال مالك: تقام بأقل من أربعين، واحتجوا بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد عبد القيس، بجواثا من البحرين، رواه البخاري، وفي لفظ أبي داود: بجواثا قرية من قرى البحرين، وبقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الجمعة على من سمع النداء» .
روى أبو داود وابن ماجه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة يترحم على أسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت على أسعد بن زرارة قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يعرف بنقيع الخضمان.
وفي " سنن البيهقي ": فإن أسعد أول من جمع بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت له: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا، وكتب أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى عمر - رضي الله

(3/43)


لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه- يسأله عن الجمعة [....
... ] فكتب إليه: أن جمع بها حيثما كنت.
ولنا ما ذكره "المصنف" من الحديث على ما نبينه إن شاء الله تعالى، ولا حجة لهم في قصة أسعد بن زرارة، لأنه كان قبل مقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواه البيهقي في "سننه الكبرى" وأيضا نحن نقول بجوازها بالأربعين، ولا يدل ذلك على عدم الجواز بدون الأربعين، وقال المزني: لا ينسخ ما احتج به الشافعي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بالأربعين حين قدم المدينة، لأن المسلمين كانوا قد تكاثروا وقالوا أيضا إنه كان أكثر عددا.
فإن قلت: روي عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: «مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطر» قال ابن قدامة: إذا قال الصحابي مضت تنصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: قال في " شرح المهذب ": حديث جابر هذا ضعيف، رواه البيهقي ثم قال: هو حديث لا يحتج به. وأما جواثا فقد قال الجوهري وابن الأثير: هي اسم لحصن في البحرين.
وفي " المبسوط " هي مدينة، والمدينة تسمى قرية كما قال الله تعالى: {أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] (النساء: الآية 75) وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حيثما كنتم. أي من مثل جواثا من الأمصار، وهي بضم الجيم وبالثاء المثلثة.
قوله - في هزم النبيت - بضم الهاء وفتح الزاي المعجمة وهو موضع بالمدينة، وقال ابن الأثير: هزم، بني بياضة موضع بالمدينة وضبطها بفتح الهاء وسكون الزاي ونقيع الخضمات قرية لبني بياضة، والنقيع بالنون، والخضمات بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، وهي أودية يدفع سلبها إلى المدينة، والحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء من بين جبلين ذوات حجارة سود.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع") » ش: قال الزيلعي: هذا مرفوع غريب، وإنما وجدناه موقوفا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه عبد الرزاق في "مصنفه"، أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة» ، وأخرجه عبد الرزاق أيضا، والبيهقي في "المعرفة" عن شعبة عن زبيد الأيامي به، ثم قال: وكذلك رواه الثوري عن زبيد به، وهذا إنما يروى عن علي موقوفا، فأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه لا يروى عنه في ذلك شيء.

(3/44)


والمصر الجامع: كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن حزم في " المحلى ": وذلك عن علي.
وعن حذيفة: ليس على أهل القرى جمعة، إنما الجمع على أهل الأمصار مثل المدائن.
قلت: قول الزيلعي: وجدناه موقوفا، وقول البيهقي لم يرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يستلزم عدم وقوف غيره على كونه مرفوعا، والإثبات مقدم على النفي، وقد ذكر الإمام خواهر زاده في "مبسوطه" أن أبا يوسف ذكره في " الإملاء " مسندا مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبو يوسف إمام في الحديث حجة، ولم يثبت عنده كونه مرفوعا لما قال: إنه مسند مرفوع، ولئن سلمنا أنه موقوف فهو موقوف صحيح، وهو محمول على السماع، لأنه لا يدرك بالعقل وهو مقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حجة.

م: (والمصر الجامع كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود) ش: هذا تفسير المصر الجامع، وقد اختلفوا فيه، فعن أبي حنيفة: هو ما يجتمع فيه مرافق أهله دنيا ودينا.
وعن أبي يوسف: كل موضع فيه أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود فهو مصر تجب على أهله الجمعة، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة في كتاب صلاته وفيه أيضا، قال سفيان الثوري: المصر الجامع: ما يعده الناس مصرا عند ذكر الأمصار المطلقة كبخارى وسمرقند.
وقال الكرخي: المصر الجامع ما أقيمت فيه الحدود، ونفذت فيه الأحكام، وهو اختيار الزمخشري، وعن أبي عبد الله البلخي أنه قال: أحسن ما سمعت إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم فلم يسعهم فهو مصر جامع، وعن أبي حنيفة: هو بلدة كبيرة فيها سكك وأسواق ولها رساتيق، ويرجع الناس إليه فيما وقعت لهم من الحوادث، وهو اختيار صاحب " التحفة ".
وقال أبو يوسف في " نوادر ابن شجاع ": إذا كان في القرية عشرة آلاف فهو مصر، وعن بعض أصحابنا: المصر ما يعيش فيه كل صانع بصناعته ولا يحتاج إلى التحول إلى صنعة أخرى.
وفي " المستصفى ": أحسن ما قيل فيه إذا وجدت فيه حوائج الدين وهو القاضي والمفتي والسلطان فهو مصر جامع، وعن أبي حنيفة: المصر كل بلدة فيها سكك وأسواق ووال ينصف المظلوم من ظالمه وعالم يرجع إليه في الحوادث وهو الأصح.
ذكره في " المفيد " و" التحفة "، وعن محمد: كل موضع مصره الإمام فهو مصر حتى إنه لو بعث إلى قرية نائبا إلى إقامة الحدود والقصاص يصير مصرا، فإذا عزله ودعاه تلحق بالقرى، ويؤيد قول محمد هذا ما صح أنه كان لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسود أنزله على الربذة يصلي خلفه أبو ذر وغيره من الصحابة الجمعة وغيرها، ذكره ابن حزم في " المحلى "، وقال قاضي خان: والاعتماد على ما روي عن أبي حنيفة في " المحلى ": كل موضع بلغت أبنيته أبنية منى،

(3/45)


وهذا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه أنهم إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم،
والأول اختيار الكرخي وهو الظاهر، والثاني اختيار الثلجي، والحكم غير مقصور على المصلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفيها مفت وقاض يقيم الحدود وينفذ الأحكام فهو مصر جامع، وقيل: الجامع أن يوجد فيه عشرة آلاف مقاتل، وقيل: أن يكون بحال لو قصدهم عدو غلبهم دفعه، ذكرهما في " الينابيع ".
وفي " الدراية ": ظاهر المذهب ما حده "المصنف" بقوله له أمير، المراد من الأمير الوالي الذي يقدر على إنصاف المظلوم من الظالم، وإنما قال: ويقيم الحدود بعد قوله وينفذ الأحكام، لأن تنفيذ الأحكام لا يستلزم إقامة الحدود، فإن المرأة إذا كانت قاضية تنفذ الأحكام وليس لها إقامة الحدود، وكذلك حكم نفي ذكر الحدود عن القصاص، لأنهما يقترنان في عامة الأحكام، فذكر أحدهما كان مغنيا عن ذكر الآخر.
م: (وهذا عند أبي يوسف) ش: إشارة إلى قوله - والمصر الجامع كل موضع..... إلخ. م: (وعنه) وعن أبي يوسف. م: (أنهم) ش: أي أن من تجب عليهم الجمعة من الرجال البالغين الأحرار، لا من يكون هناك من الصبيان والنساء والعبيد. م: (إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم) ش: فإذا كان كذلك يكون مصرا جامعا.

م: (والأول) ش: وهو قوله: والجامع كل موضع له أمير إلى آخره. م: (اختيار الكرخي) ش: كرخ سامرى وكرخ بغداد وكرخ حدان وكرخ البصرة. انتهت إليه رياسة الأصحاب بعد أبي حازم وأبي سعيد البردعي، وعنه أخذ أبو بكر الرازي وأبو عبد الله الدامغاني وأبو علي الشامي وأبو حفص بن شاهين وآخرون.
وتوفي ليلة النصف من شعبان سنة أربعين وثلاثمائة. م: (وهو الظاهر) ش: أي الذي اختاره الكرخي، وهو ظاهر المذهب.
م: (والثاني) ش: وهو الذي روي عن أبي يوسف أنهم إذا اجتمعوا إلى آخره. م: (اختيار الثلجي) ش: وهو الإمام محمد بن شجاع أحد أصحاب أبي حنيفة، ونسبته إلى ثلج بالثاء المثلثة ابن عمر بن مالك بن عبد مناف، وليس هو منسوبا إلى بيع الثلج، وذكر في كتاب " الطبقات "، ويقال له ابن الثلجي، وهو من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلئي حدث عن وكيع وأبي أسامة والواقدي وغيرهم، وله تصانيف كثيرة، قال السغناقي: مات فجأة في صلاة العصر، وهو ساجد في سنة ست وستين ومائتين.
م: (والحكم غير مقصور على المصلى) ش: يعني جواز إقامة الجمعة ليس بمنحصر في المصلى - بفتح اللام- وهو الموضع الذي فيه يصلى العيد لا الموضع الذي يصلى فيه الجمعة، وفي الجوامع

(3/46)


بل يجوز في جميع أفنية المصر؛ لأنها بمنزلته في حوائج أهله ويجوز بمنى إن كان الأمير أمير الحجاز أو كان الخليفة مسافرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التي في المصر. م: (بل يجوز في جميع أفنية المصر) ش: الأفنية جمع فناء بكسر الفاء، وفناء الدار سعة أمامها.
وكذلك فناء البيت، وفي " الفتاوى الصغرى ": يجوز صلاة الجمعة والعيدين في فناء المصر، وهو أن يكون على قدر غلوة متصلا بربض المصر كما هو المعتاد في صلاة العيد، لكن إذا خرج رجل من المصر بنية السفر يصلي في هذا الموضع صلاة المسافرين، وكذا لو انتهى المسافر في هذا الموضع نقله في آخر باب الجمعة من " نوادر شمس الأئمة الحلواني ".
م: (لأنها) ش: أي لأن الأفنية م: (بمنزلته) ش: أي بمنزلة المصر م: (في حوائج أهله) ش: أي أهل المصر، لأنه أعد لحوائجهم، وقال شمس الأئمة الحلواني في "نوادره": اختلفوا في فناء المصر وتقدير الحد فيه، فقدره محمد هاهنا بغلوة، وبعضهم بفرسخ، وبعضهم بفرسخين، وبعضهم بمنتهى حد صوت مؤذنهم إذا أذن، كذا في " تتمة الفتاوى ".
وفي "شرح الطحاوي " عن أبي يوسف أن الإمام إذا خرج يوم الجمعة مقدار ميل أو ميلين وحضرته الصلاة فصلى جاز. وقال بعضهم: لا يجوز الجمعة خارج المصر منقطعا عن العمران. وقال بعضهم: يجوز على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز، كما اختلفوا في منى، وقد مر الكلام في هذا الفصل مستقصى عن قريب.
م: (ويجوز بمنى) ش: أي يجوز إقامة الجمعة في منى وهي قرية بين مكة وعرفات، يذبح بها الهدايا والضحايا، سمي ذلك الموضع بمنى لوقوع الأقذار فيه على الهدايا، من منى كمني منيا، أي قذر، ومنه المنية، لأنها مقدرة على [.....] وهي منصرفة إذا جعلت علما لموضع، وتمنع من الصرف إذا جعلت علما للبقعة، فتوجد علتان العلمية والتأنيث.
م: (إن كان الأمير أمير الحجاز) ش: الحجاز بين تهامة ونجد، سمي حجازا، لأنه يحجز بينهما، والتهامة الناحية الجنوبية من الحجاز، وما وراء ذلك إلى مكة، وحده تهامة، وفي " شرح الطحاوي ": إن كان الأمير أمير الحجاز أو أمير العراق أو أميرا لمكة أو الخليفة معهم مقيمين كانوا أو مسافرين جاز إقامة الجمعة عندهما، وإن كان أمير الموسم إن كان مقيما جاز وإن كان مسافرا لم يجز.
وذكر فخر الإسلام أن أمير الموسم ليس له حق إقامة الجمعة إنما له نيابة الحجاج. وقال في " المختلف ": أمير الحجاج ليس له ولاية إقامة الجمعة إلا إذا ولاه الخليفة أو من له ذلك وهو مقيم.
م: (أو كان الخليفة مسافرا) ش: قيد به، إما للتنبيه على أنه لو كان مقيما كان الجواز بالطريق

(3/47)


عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله-.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا جمعة بمنى لأنها من القرى حتى لا يعيد بها، ولهما لأنها تتمصر في أيام الموسم وعدم التعييد للتخفف،
ولا جمعة بعرفات في قولهم جميعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأولى، وإنما تبقى شبهة وهي أن الخليفة إذا كان مسافرا لا يقيم الجمعة، كما إذا كان أمير الموسم مسافرا، فذكره ليعلم أن حكم الخليفة على خلاف حكم أمير الموسم، وفي هذا دليل على أن الخليفة أو السلطان إذا كان يطوف في ولايته كان عليه الجمعة في كل مصر يكون فيه يوم الجمعة، لأن إقامة غيره بأمره يجوز، فإقامته أولى، وإن كان مسافرا، كذا في " الفوائد الظهيرية " و" الجامع الصغير " لقاضي خان. م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-) ش: متعلق بقوله ويجوز بمنى.

[الجمعة بمنى وعرفات]
م: (وقال محمد: لا جمعة بمنى) ش: وبه قال الشافعي وأحمد، وهو قول عطاء ومجاهد. م: (لأنها) ش: أي لأن منى، والتأنيث على تأويل القرية أو البقعة. م: (من القرى) ش: ولا جمعة في القرية، وهو منزل من منازل الحاج كعرفات م: (حتى لا يعيد بها) ش: نتيجة قوله: لا جمعة بمنى، لأنها من القرى، حتى لا يصلي فيها صلاة العيد فلا يصلي فيها الجمعة.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف. م: (لأنها) ش: أي لأن منى. م: (تتمصر) ش: أي تصير مصرا. م: (في أيام الموسم) ش: لما يكون فيها أسواق وفيها سلطان أو نائبه وقاض في أيام الموسم، فتصير كسائر الأمصار. م: (وعدم التعييد للتخفيف) ش: هذا جواب عن قول محمد لا يعيد بها.
وتقرير الجواب: إنما لا يعيد فيها يعني لا يصلي صلاة العيد لأجل التخفيف على الناس، لأنهم مشتغلون بأمور المناسك، ولأن منى من أفنية مكة وتوابعها، لأنها في الحرم وتوابع الشيء يقوم مقام ذلك الشيء. وأما عرفات فإنها من الحل وليست من فناء مكة، وبينها وبين مكة أربعة فراسخ.

م: (ولا جمعة بعرفات في قولهم جميعا) ش: أي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قول الزهري، وزعم ابن حزم أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى الجمعة بعرفات، قال: ولا خلاف أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خطب وصلى ركعتين، وهذه صفة صلاة الجمعة، قال: وما روى أحد أنه ما جهر فيها، والقاطع بذلك كاذب على الله، وعلى رسوله، ولو صح أنه ما جهر لم يكن لهم به تعلق، لأنه ليس بفرض، قال: ولجاء بعضهم إلى دعوى الإجماع على ذلك، وهذا مكان تبين فيه الكذب على مدعيه.
قلت: هذا رجل قد سل لسانه على الأئمة الثلاثة الأجلاء أبي حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم وكلامه متناقض لا يلتفت إليه، حتى يوجب الجمعة على العبد والمسافر ويجيز

(3/48)


لأنها فضاء وبمنى أبنية، والتقييد بالخليفة وأمير الحجاز؛ لأن الولاية لهما، أما أمير الموسم فيلي أمور الحج لا غير، ولا يجوز إقامتها إلا للسلطان أو لمن أمره السلطان، لأنها تقام بجمع عظيم، وقد تقع المنازعة في التقدم والتقديم، وقد تقع في غيره فلا بد منه تتميما لأمره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إقامتهما في البراري والقفار باستدلالات باطلة.
م: (لأنها) ش: أي لأن عرفات. م: (فضاء) ش: لا أبنية فيها. م: (وبمنى أبنية) ش: تقام فيها الأسواق خصوصا في أيام الموسم، يكون فيها نائب السلطان والقاضي كما ذكرنا. م: (والتقييد بالخليفة وأمير الحجاز، لأن الولاية لهما) ش: أراد بالتقييد تقييد جواز الجمعة بمنى عند أبي حنيفة وأبي يوسف بالخليفة وأمير الحجاز، لأن الولاية لهما في إقامة الجمعة.
م: (أما أمير الموسم) ش: أي أمير الحاج. م: (فيلي أمور الحاج لا غير) ش: يعني ليس له ولاية غير الحاج، وليس له إقامة الجمعة إلا إذا كان الخليفة كما ذكرنا. م: (ولا يجوز إقامتها) ش: أي إقامة الجمعة. م: (إلا للسلطان) ش: أراد بالسلطان الخليفة، لأنه أراد به الوالي الذي ليس فوقه وال وهو الخليفة. م: (أو لمن أمره السلطان) ش: يعني إن لم يكن السلطان يكون إقامتها لمن أمره السلطان وهو الأمير أو القاضي أو الخطباء.
م: (لأنها) ش: أي لأن الجمعة. م: (تقام بجمع عظيم) ش: من الناس. م: (وقد تقع المنازعة في التقدم) ش: تشديد الدال المضمومة من باب التفعل بأن يقول واحد: أنا أصلي بالناس، ويقول آخر: أنا أصلي بهم. م: (والتقديم) ش: بأن تقول طائفة: يصلي بالناس فلان، ويقول الآخرون: ويصلي بهم فلان الآخر فتقع الخصومة بينهم. م: (وقد تقع) ش: أي المنازعة. م: (في غيره) ش: أي في غير ما ذكر من التقدم والتقديم، بأن تقول طائفة: يصلي في مسجدنا، ويقول الآخرون: يصلي في مسجدنا فتكثر الخصومة والنزاع. م: (فلا بد منه) ش: أي إذا كان الأمر كذلك، فلا بد من السلطان أو من أمره السلطان. م: (تتميما لأمره) ش: أي لأمر الجمعة، وتذكير الضمير باعتبار المذكور، وانتصاب تتميما على التعليل، وكذلك اللام في لأمره.
ومن التتميم أمر السلطان لقطع المنازعة وحسم مادة الخلاف، وعند الشافعي: السلطان يؤم ليس بشرط لصحة الجمعة، ولكن السنة أن لا تقام إلا بإذن السلطان، وبه قال مالك وأحمد في رواية.
وعن أحمد أنه شرط كمذهبنا، واحتجوا في ذلك بما روي أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين كان محصرا بالمدينة صلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجمعة بالناس، ولم يرو أنه صلى بأمر عثمان وكان الأمر بيده، فلا يشترط لإقامتها السلطان كسائر الصلوات.
قال الأترازي: ولنا ما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "واعلموا أن الله

(3/49)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كتب عليكم الجمعة في يومي هذا في مقامي هذا في شهري هذا، فريضة واجبة إلى يوم القيامة، فمن تركها جحودا لها واستخفافا بحقها في حياتي أو بعد موتي وله إمام عادل أو جائر، فلا جمع الله شمله ولا أتم له أمره، ألا لا صلاة له، ألا لا زكاة له، ألا لا صوم له، إلا أن يتوب، ومن تاب تاب الله عليه» .
قلت: لم يبين ما حال هذا الحديث، ومن رواه عن جابر، وذكر في " شرح الأقطع " عن سعيد بن المسيب عن جابر، ورواه ابن ماجه في "سننه"، وقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا الوليد بن بكير، حدثني عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب «عن جابر بن عبد الله، قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا، واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب. فمن تاب تاب الله عليه، ألا لا تؤم امرأة رجلا، ولا يؤم أعرابي مهاجرا، ألا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره السلطان يخاف سيفه وسوطه» .
وأخرجه البزار من وجه آخر، وروى الطبراني في " الأوسط " من حديث ابن عمر نحوه.
فإن قلت: في سند ابن ماجه عن عبد الله بن محمد قالوا: إنه واهي الحديث، و [في] سند البزار علي بن زيد بن جدعان، قال الدارقطني: كلاهما غير ثابت، وقال ابن عبد البر: هذا الحديث واهي الإسناد.
قلت: هذا الحديث روي من طرق ووجوه مختلفة، فحصل له بذلك قوة فلا تمنع من الاحتجاج به، واحتجاجهم بما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ساقط، لأنه يحتمل أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك بأمره أو لم يتوصل إلى عثمان، وعندنا إذا لم يتوصل إلى إذن الإمام، فللناس أن يجتمعوا ويقدموا من يصلي بهم، كذا ذكره الشيخ أبو نصر البغدادي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فمن أين يعلم أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك بلا إذن عثمان وهو حيث يتوصل إلى إذنه؟ وفي " الأجناس " عن " نوادر ابن سماعة " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو غلب على مصر متغلب فصلى بهم الجمعة جاز، فكذلك إذا أجمع جميع الناس على رجل يصلي بهم الجمعة جازت.

(3/50)


ومن شرائطها الوقت، فتصح في وقت الظهر ولا تصح بعده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: فبالنظر إلى ذلك كانت صلاة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أولى وأحق بالجواز، ونقل ذلك عن الحسن البصري، لأن الصحابة صلوا وراء علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ورضوا به، سواء كان معه إذن أو لم يكن.
وفي " فتاوى الكردي ": صلاة الجمعة خلف المتغلب الذي لا منشور له من الخليفة يجوز إن كانت سيرته سيرة الأمراء. وفي " فتاوى العتابي ": لكن الأنكحة لا تجوز بتزويجه، وفيه اجتماع الناس على رجل يجمع لهم بغير أمر القاضي وصاحب الشرط لا يجوز. وفي " المجتبى " قال أبو بكر: لا يعرف جواز الجمعة خلف المتغلب عن أصحابنا، وإنما هو شيء ذكره الطحاوي، لكن السلطان إذا كان فاسقا جاز أن يجتمعوا على رجل واحد يجمع لهم بعد موته.
وقال أصحابنا: لو مات سلطان بلدة فولَّى أهلها أميرا ينفذ الأحكام والحدود جاز، أو كان قاضيا حكم وصار سلطانا وقاضيا في جماعتهم، ولو غلب عليه الخوارج فولوا رجلا من أهل العدل للقضاء جازت أحكامه.
وفي " الفتاوى الظهيرية ": الإمام إذا منع أهل المصر أن يجمعوا لم يجمعوا، قال الهندواني: هذا إذا منع لسبب من الأسباب، أما إذا منعهم تعنتا أو إضرارا بهم يجوز أن يجتمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة، وقياسهم على سائر الصلوات فاسد، لأن الجمعة يشترط لها ما لم يشترط لغيرها من الصلوات مثل الخطبة والجماعة.
فإن قلت: هذا عبادة على البدن فلا يكون السلطان شرطا فيها كما في الحج والصوم.
قلت: هذا مبطل بإقامة الحد وانفراد الواحد بالحج لا يفوت على غيره، وانفراد طائفة بإقامة الجمعة يفوت [على] الباقين فافهم.

[دخول الوقت من شرائط الجمعة]
م: (ومن شرائطها) ش: أي ومن شرائط الجمعة. م: (الوقت، فتصح في وقت الظهر ولا تصح بعده) ش: أي بعد وقت الظهر، وكان مالك يقول: يجوز إقامتها في وقت العصر، بناء على تداخل الوقتين على مذهبه. وعند أحمد: يجوز إقامتها قبل الزوال. وقال بعض أصحابه: أول وقتها وقت صلاة العيد. وقال بعضهم: يجوز في الساعة السادسة لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقام الجمعة ضحى.
وقال أبو بكر بن العربي: اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن الجمعة لا تجب حتى تزول الشمس، ولا يجزئه قبل الزوال إلا ما روي عن ابن حنبل أنه يجوز قبل الزوال ونقله ابن المنذر عن عطاء وإسحاق والماوردي عن ابن عباس في السادسة، احتج ابن حنبل بحديث جابر، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حتى تزول الشمس» رواه

(3/51)


لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسلم. قال البيهقي: يعني النواضح.
«وعن سلمة بن الأكوع قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به» رواه البخاري ومسلم. «وعن سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة على عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.»
وقال أبو سهل: إنا كنا نرجع فنقيل قائلة الضحى، ولأنها عيد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان» ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين» فصار كالفطر والأضحى. واتفق أصحابنا أن وقتها وقت الظهر، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة» ش: واحتجوا في ذلك بحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» رواه البخاري، «وعن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء» متفق عليه.
فإن قلت: روي عن عبد الله بن سيدان أنه قال: شهدت الخطبة مع أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد انتصف النهار، ومثله عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فما رأيت أحدا عاب ذلك.
قلت: قال ابن بطال: لا يثبت هذا، وعبد الله بن سيدان لا يعرف.
قلت: روى هذا الحديث الدارقطني وغيره وهو حديث ضعيف. وقال النووي في " الخلاصة ": اتفقوا على ضعف ابن سيدان، وقد قال الشافعي: وقد صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعثمان والأئمة بعدهم كل جمعة بعد الزوال، فدل على أنه لا اعتبار بهذا. قلت: والجواب عن حديث جابر: أنه إخبار عن أن الصلاة والرواح إلى جمالهم كانا حين الزوال وبدايته، وحديث سلمة حجة عليهم، لأن معناه ليس للحيطان فيء كثير بحيث يستظل به المار، وأصح منه الرواية الأخرى نتتبع الفيء، وهو تصريح بوجوده، لكنه قليل، ومعلوم أن حيطان المدينة كانت قصيرة والشمس فوقها فلا يظهر الفيء الذي يستظل به هنالك عند الزوال إلا بعد زمان طويل.
ومعنى حديث سهل: أنهم كانوا يؤخرون القيلولة والغداء في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة، لأنهم ندبوا في هذا اليوم إلى التبكير إليها، والاشتغال بغيره كان يفوته، لقوله -عليه

(3/52)


ولو خرج الوقت وهو فيها استقبل الظهر ولا يبنيه عليها لاختلافهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام-: «إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة» . قال السروجي: لم أجد هذا في كتب الحديث، وقال الزيلعي: غريب، وقال السغناقي: لما روي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما بعث مصعب بن عمير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى المدينة قبل هجرته، قال له: "إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة» وتبعه الأكمل ونقله من شرحه، وكذا نقله صاحب " الدراية ". ثم قال: قيل: هذا الحديث ما وجد في كتب الحديث، ثم قال: وأجيب عن وجدانه في كتب الحديث ليس بشرط، ويجوز النقل بالمعنى.
قلت: سبحان الله، هذا كلام عجيب يصدر من هؤلاء، فأي حديث أصله حتى نقل عنه بالمعنى، وأصل الحديث ما رواه الدارقطني عن ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة» وفي إسناده غرابة، وقد روى البيهقي عن ابن إسحاق أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما بعث مصعبا حين كتب الأنصار إليه أن يبعث إليهم، قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤم بعضا، وكان قدوم وفود الأنصار في السنة الثانية عشرة من النبوة، ولما قدموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه السنة رجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام وأرسلوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذ بن عفراء ورافع بن مالك أن ابعث إلينا رجلا يفقهنا، فبعث إليهم مصعب بن عمير، فنزل على أسعد بن زرارة وكان الذين قدموا في هذه السنة ثمانية، وفيهم معاذ بن عفراء، ورافع بن مالك وأسعد بن زرارة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال أهل السير والتواريخ: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل بقباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى، فأقام - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقباء يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا، وكانت هذه الجمعة أول جمعة جمعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسلام فخطب في هذه الجمعة وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فما قبلها وبعدها أول جمعة جمعت في الإسلام بقرية يقال لها جواثا من قرى البحرين.

م: (ولو خرج الوقت) ش: أي وقت الظهر. م: (وهو فيها) ش: أي والحال أنها، أي أن الإمام في صلاة الجمعة. م: (استقبل الظهر) ش: أي صلاة الظهر. م: (ولا يبني عليها) ش: أي على الجمعة. م: (لاختلافهما) ش: أي لاختلاف الظهر والجمعة من حيث الكمية والشرائط، وهذا لأن الظهر أربعة، والجمعة ركعتان، ويخص الجمعة بشروط لا تشترط للظهر، والظهر يخفى فيه، والجمعة يجهر فيها، واسم أحدهما الظهر واسم الآخر جمعة فيثبت اختلافهما قدرا وحالا واسما.

(3/53)


ومنها الخطبة: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما صلاها بدون الخطبة في عمره وهي قبل الصلاة بعد الزوال، به وردت السنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال السغناقي: لأنهما يختلفان بدليل تخير العبد إذا أذن له مولاه بأن يصلي الجمعة بين أن يصلي الظهر والجمعة مع تعين الوقت في الجمعة بالعلة، ولو لم يكونا مختلفين لما خير العبد كما في جناية المدبر حيث يجب الأقل على مولاه من الأرش، والقيمة من غير خيار لاتحادهما في المالية، ثم إنه لو دخل وقت العصر وهو في الجمعة وقد تشهد يجزئه الجمعة عند أبي يوسف وأحمد ومحمد، وتبطل جمعته عند أبي حنيفة، ويستقبل قضاء الظهر، وعند الشافعي يصليها ظهرا.
وقال ابن القاسم: يصليها جمعة ما لم تغب الشمس بناء على أن وقت الظهر والعصر واحد، وفي " الواقعات ": لو قام المؤتم ولم ينتبه حتى خرج وقت الظهر فسدت الجمعة، لأنه لو أتمها صار قاضيا في غير وقتها، وإن انتبه قبل خروج الوقت جازت صلاته، وعند الشافعية لو سلم الإمام والقوم في الوقت ثم خرج الوقت وعلى المسبوق ركعة ففي أحد الوجهين لا تصح جمعته لوقوع بعض صلاته خارج الوقت، والثاني تصح تبعا للإمام.

[الخطبة من شرائط الجمعة]
[شروط الخطبة وسننها]
م: (ومنها الخطبة) ش: أي من شرائط الجمعة الخطبة، وهو مذهب عطاء والنخعي وقتادة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قصرت الصلاة لأجل الخطبة، وعن عائشة مثله، وعن سعيد بن جبير قال: كانت الجمعة أربعا فجعلت الخطبة، فكان ركعتين، وقال ابن قدامة: لا نعلم في هذا مخالفا إلا الحسن البصري، فإنه قال: يجزئهم جمعتهم خطب الإمام أو لم يخطب. وذكر النووي معه داود وعبد الملك المالكي. وقال القاضي عياض: وروي ذلك عن مالك، وقال ابن حزم في " المحلى ": الخطبة ليست بفرض، تجوز الجمعة بدونها.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما صلاها بدون الخطبة في عمره) ش: ذكره البيهقي، وذكر أيضا عن الزهري أنه قال: بلغنا أنه قال: "لا جمعة إلا بخطبة "، واستدل أيضا بحديث ابن عمر: «كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يخطب يوم الجمعة خطبتين بينهما جلسة» .
قلت: هذا استدل بمجرد الفعل فلا يتم إلا إذا ضم إليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، رواه البخاري، فلو لم تكن واجبة لتركها مرة تعليما للجواز.
م: (وهي) ش: أي الخطبة. م: (قبل الصلاة بعد الزوال) ش: لأنها شرط فتقدم كسائر الشروط، بخلاف العيد فإنه لو لم يخطب فيه أصلا يجوز، ولو خطب فيه يجوز. م: (وبه وردت السنة) ش:

(3/54)


ويخطب خطبتين يفصل بينهما بقعدة وبه جرى التوارث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي بكون الخطبة قبل الصلاة وردت السنة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يمكن أخذ هذا في حديثين، أحدهما حديث السائب بن زيد، رواه البخاري عنه قال: «كان الأذان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يوم الجمعة حين يجلس الإمام، فلما كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكثر الناس أمر بالأذان الثاني على الزوراء،» ووجهه أن الأذان لا يكون إلا قبل الصلاة، فإذا كان حين يجلس الإمام على المنبر للخطبة دل على أن الصلاة بعد الخطبة.
والآخر «حديث أبي موسى الأشعري أخرجه مسلم عنه قال لي ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأن ساعة الجمعة، قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الصلاة» ، قال أبو بردة: يعني على المنبر.

م: (ويخطب خطبتين يفصل بينهما بقعدة) ش: مقدار ثلاث في ظاهر الرواية، وقال الطحاوي مقدار ما سمي موضع جلوسه على المنبر. م: (وبه جرى التوارث) ش: أي بالفصل بين الخطبتين بقعدة جرى التوارث، يعني هكذا فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأئمة من بعده إلى يومنا هذا، ولفظ التوارث إنما يستعمل في أمر له خطر وشرف، يقال توارث المجد كابرا عن كابر، أي كبيرا عن كبير في القدر والشرف، وقيل: هي حكاية العدل عن العدل، فإن القيام فيها، والفصل بين الخطبتين بقعدة متوارث.
وقال ابن المنذر: اختلفوا فيه، «وكان عطاء بن أبي رباح يقول: ما جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر حتى مات، وما كان يخطب إلا قائما» وأول من جلس عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في آخر عمر زمانه حين كبر، فكان يجلس هنيهة ثم يقوم، وكان المغيرة بن شعبة إذا فرغ المؤذن قام فخطب ولا يجلس حتى ينزل.
قال: والذي عليه عمل الناس ما تفعله الأئمة اليوم، ثم هذه القعدة عندنا للاستراحة وليست بشرط، وقال الشافعي: إنها شرط. وقال شمس الأئمة السرخسي: الدليل على أنها للاستراحة لا للشرط حديث جابر بن سمرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائما خطبة واحدة، فلما أسن جعلها خطبتين بينهما جلسة» ففي هذا دليل على أنها للاستراحة لا للشرط.
قلت: هذا الحديث غريب، وهو عن ابن عباس برواية الحسن بن عمارة، وقال ابن العربي: وهو ضعيف.
ثم الخطبة الواحدة تجوز عندنا وهو مذهب عطاء ومالك والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور. وقال ابن المنذر: أرجو أن تجزئه خطبة واحدة، وقال أحمد: لا تكون الخطبة إلا كما خطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(3/55)


ويخطب قائما على طهارة؛ لأن القيام فيهما متوارث
ثم هي شرط الصلاة فيستحب فيها الطهارة كالأذان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي: يجب أن يخطب خطبتين قائما يجلس بينهما مع القدرة عليها، وحكى الرافعي وجها آخر أنه لو خطب قائما كفاه الفصل بسكتة من غير جلوس. قال النووي: وهذا شاذ مردود، وقال النووي: القيام والجلوس بينهما سنة عند جمهور العلماء، حتى إن الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لم يقل أحد باشتراط الجلوس بينهما غير الشافعي.

م: (ويخطب قائما على طهارة) ش: أي ويخطب الإمام حال كونه قائما وحال كونه على الطهارة، أما القيام فإنه سنة عندنا، وعند الشافعي لا تصح الخطبة قاعدا، وبه قال مالك في رواية، وعنه كقولهما، وبه قال أحمد، وأما الطهارة سنة عندنا لا شرط، خلافا لأبي يوسف والشافعي، حتى إذا خطب على غير طهارة يجوز عندنا ويكره، وعندهما لا يجوز، وقال الشافعي في القديم كقولهما، وبه قال مالك وأحمد.
م: (لأن القيام فيها) ش: أي الخطبة. م: (متوارث) ش: أي من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن الأئمة بعده إلى يومنا هذا، والجواب عما يقال إنه إذا كان كذلك ينبغي أن يكون فرضا، كما قال الشافعي: وهو قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

م: (ثم هي) ش: أي الخطبة. م: (شرط الصلاة فيستحب فيها) ش: أي في الخطبة. م: (الطهارة) ش: أي عن الجنابة والحدث. م: (كالأذان) ش: وجه التشبيه بالأذان أن الخطبة ذكرها شبه بالصلاة من حيث إنها أقيمت مقام شطرها. وتقام بعد دخول الوقت والأذان أيضا مقام بعد دخول الوقت، لا يقال ليس بينهما مشابهة، بل بينهما مخالفة، فإذا أذن الجنب تستحب فيها الإعادة طاهرا ولم يذكر خطبة الجمعة هاهنا، لأنا نقول لا فرق بينهما في الحقيقة، غير أن الأذان لا يتعلق به حكم الجواز، فذكر استحباب الإعادة، والخطبة يتعلق بها حكم الجواز فذكر الجواز هاهنا، واستحباب الإعادة هاهنا كهو في الأذان.
ولم يذكر المصنف أنه هل يعيد الخطبة أو لا، فذكر في "نوادر أبي يوسف " أنه يعيدها وإن لم يعدها جاز، لأنه ليس من شرط استقبال القبلة بخلاف الأذان، فإنه يعيد، لأن الأذان أشبه بالصلاة من الخطبة، ألا ترى أنه شرع استقبال القبلة بخلاف الخطبة، ولكن يكون مسيئا إذا تعمد ذلك، لأنها الصلاة حتى أقيمت مقام الشفع في الظهر، ولأن فيه دخول المسجد جنبا، وهو مكروه.
وقال الأترازي: قوله "كالأذان" فيه نظر، لأنه يفهم من هذا التركيب أن الأذان شرط الصلاة وليس كذلك، لأنه سنة.

(3/56)


ولو خطب قاعدا أو على غير طهارة جاز، لحصول المقصود، إلا أنه يكره لمخالفته التوارث، وللفصل بينهما وبين الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا نسلم بذلك، لأن قوله: "كالأذان" يتعلق بقوله تستحب فيها الطهارة ولا بقوله هي شرط الصلاة.

م: (ولو خطب قاعدا أو على غير طهارة جاز لحصول المقصود) ش: وهو الذكر والوعظ، وفي " المحيط " و" المبسوطين " الخطبة ذكر والمحدث والجنب يمنعان ما خلا قراءة القرآن في حق الجنب، وليست الخطبة كالصلاة ولا كشطرها، بدليل أنها تؤدى غير مستقبل القبلة ولا يفسدها الكلام. م: (إلا أنه يكره) ش: استثناء من قوله "جاز" والضمير في أنه يرجع إلى كل واحد من الخطبة قاعدا ومن الخطبة على غير الطهارة، ويذكر الضمير باعتبار المذكور. م: (لمخالفته التوارث) ش: يتعلق بقوله: "ولو خطب قاعدا" أو أراد بالتوارث ما نقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن الأئمة بعده من القيام في الخطبة.
م: (وللفصل بينهما وبين الصلاة) ش: متعلق بقوله: " أو على غير طهارة" وأراد أن الطهارة في الخطبة على غير طهارة لأجل وقوع الفصل بين الخطبة وبين الصلاة، فإنه إذا خطب على غير طهارة يحتاج إلى وضوء لأجل الصلاة، فوضوءه يكون فصلا بينهما.
فروع: لو خطب نفر الناس وجاء آخرون أجزأهم، لأنه خطب والقوم حضور، وصلى والقوم حضور، وكبر للجمعة والناس لم يكبروا حتى ركع، ثم كبر والقوم معه، يجزئهم، ولو رفع رأسه قبل أن يركعوا لا يجزئهم، ولو كبروا معه ثم خرجوا من المسجد ثم جاءوا وكبروا قبل رفع الإمام رأسه من الركوع أجزأهم، كذا في " المحيط ".
وفي المرغيناني: كبر الإمام والقوم حضور لم يشرعوا إن كان شروعهم قبل رفع الإمام من الركوع صحت الجمعة وإلا استقبلها، قيل: هذا قول محمد، وعن أبي حنيفة: إن شرعوا قبل أن يقرأ آية قصيرة جازت، وإلا استقبلها، وقال أبو يوسف: إن كبروا قبل أن يقرأ ثلاث آيات أو آية طويلة صحت وإلا استقبلها.
وفي " الواقعات ": أحدث الإمام وقال لواحد: اخطب ولا يصلي بهم أجزأه أن يخطب ويصلي بهم، وفي الأصل قدم وإن بعد ما خطب الأول وصلى بهم القادم لا يجوز إلا أن يعيد الخطبة، وكذا إذا أمر الثاني الأول أن يصلي بهم، فإن الأول مستأنف ثم أمر من يصلي بهم جاز، ولو خطب وحده لا يجوز، وإن كان بحضرة النساء، وعن أبي حنيفة يجوز، والصحيح الأول عن أبي يوسف لو خطب ولم يسمع الرجال جاز ولا يضر تباعدهم، ولو خطب والقوم نيام أو صم جازت. ذكره في " الذخيرة ".
ولو خطب بحضرة الإمام بغير إذنه لم يجز والإذن بالخطبة إذن بالصلاة، وكذا الإذن

(3/57)


فإن اقتصر على ذكر الله جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالصلاة إذن بالخطبة أو شهدها جاز، وإن تقدم من غير أن يقدمه الإمام إن كان بعد الشروع يجوز.
وقيل: لا يجوز إلا إذا كان قاضيا أو صاحب شرط أو ذا سلطان، ولو خطب ثم ذهب فتوضأ في منزله ثم جاء فصلى جاز، ولو تغدى فيه أو جامع فاغتسل فاستقبل الخطبة، ذكره في " الواقعات " و" منية المفتي ".
وفي المرغيناني: لو رجع إلى منزله فتغدى أجزأه، ولو خطب وهو جنب فاغتسل استقبل.
وفي " قنية المنية ": خطب وفي يده منشور الوالي وصلى بالناس بالغ جاز. وقال القاضي عبد الجبار ومجد الأئمة الترجماني: لا يجوز ولا تصح صلاتهم بالبالغ، وفي صلاة الجلاتي: ويشترط في الخطبة أهلية الإمام في الجمعة، وعند الشافعي في المحدث والجنب قولان، الجديد اشتراط الطهارة، وكذا طهارة البدن والثوب والمكان وستر العورة، ولم يشترط الطهارة، وأحمد وداود في " الواقعات " لو أحدث الإمام وأمر من لم يحضر الخطبة أن يجمع بهم لم تصح جمعتهم، وإن أمر من حضر الخطبة أو بعضها فجمع بهم جاز.
وفي الأصل: لا يجوز، بخلاف ما لو شرع في الصلاة ثم استخلف من لم يشهدها جاز، ولو أحدث الإمام بعدما خطب قبل الشروع في الجمعة وأمر رجلا لم يشهد الخطبة أن يصلي بهم فأمر المأمور من شهد الخطبة من أهل الصلاة أن يصلي بهم جاز، وذكر الحاكم في "مختصره" أنه لا يجوز، ولو كان المأمور الأول ذميا ولم يعلم به الآمر فأمر الذمي مسلما لم يجز، لأنه ليس من أهل الصلاة.
وكذا لو كان مريضا يصلي بالإيماء أو أخرس أو أميا أو صبيا فأمروا غيرهم لم يجز، ولو أسلم الذمي وبرئ المريض وتكلم الأخرس وتعلم الأمي فصلى بهم أو أمر غيرهم جاز، ولو أمر نصرانيا أو صبيا فأسلم النصراني وبلغ الصبي لا يصليان حتى يؤمران بعد ذلك إذا استقضاه، ولو قال للنصراني: إذا أسلمت فصل بالناس أو اقض جاز، وكذا الصبي.

م: (فإن اقتصر على ذكر الله جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إطلاق كلامه يقتضي أن يجوز بمجرد قول الله من غير أن يقرن به شيئا كالحمد وسبحان الله، لأنه ذكر الله، ولكن الرواية في " المبسوط " وغيره أنه إذا خطب بتسبيحة واحدة أو بتهليل أو بتحميد أجزأه في قوله.
وفي " المحيط ": ويجزئ في الخطبة قليل الذكر نحو قوله - الحمد لله- ونحو قوله "سبحان الله" وقال ابن المنذر: روينا عن الشعبي أنه قال: يخطب بما قل أو كثر، وفي "قاضي خان " التسبيحة الواحدة تجزئ في قول أبي حنيفة. وهو قول أبي يوسف الأول، وكان القول أولا لا يجزئ، وهو قول محمد وقول أبي يوسف الآخر إلا أنه يكون مسيئا بغير عذر كترك

(3/58)


وقالا لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة
لأن الخطبة هي الواجبة والتسبيحة أو التحميدة لا تسمى خطبة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجوز حتى يخطب خطبتين اعتبارا للمتعارف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السنة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يخطب خطبة خفيفة يحمد الله ويثني عليه ويتشهد ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعظ الناس ويذكرهم، ويقرأ سورة، ذكره المرغيناني، وقال مالك: الخطبة كل كلام ذي بال، وروى مطرف عنه في " مختصر ابن عبد الحكم ": أو سبح أو هلل أو صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا إعادة عليه، ثم اشترط عند أبي حنيفة أن يكون قوله الحمد لله على قصد الخطبة، حتى لو قال يريد الحمد لله على إعطائه لا ينوب عن الخطبة. وقيل: ينوب، والأول أصح، ونظيره التسمية على الذبيحة إنما تحل إذا كان قاصدا للذبح. وفي " الكافي": التكرار شرط في الحمد لله لتسمى خطبة.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد. م: (لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة) ش: وبه قال عامة العلماء. وقال الإمام أبو بكر: أقل ما سمي خطبة عندنا مقدار التشهد من قوله التحيات لله إلى قوله عبده ورسوله.
وفي "التجنيس " مقدار الجلوس بين الخطبتين، وعند الطحاوي مقدار ما يمس موضع جلوسه المنبر، وفي ظاهر الرواية مقدار ثلاث آيات، وعند الشافعي تجب، وبه قال أحمد ومالك في رواية.
وفي " الخلاصة الغزالية ": في الخطبة الأولى أربع فرائض: التحميد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والوصية بتقوى الله تعالى، وقراءة الآية، وكذا في الخطبة الثانية، إلا أن الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الثانية يدل على أن قراءة الآية في الأولى. وفي " الحلية " قيل: تجب القراءة في الخطبتين، قيل: ولا تجب فيهما، وقيل: تجب في إحداهما في أيتهما قرأ جاز، والقراءة في الثانية مستحبة، وقيل: واجبة وبقول أحمد أخذ.

م: (لأن الخطبة هي الواجبة) ش: يعني بالإجماع. م: (والتسبيحة) ش: الواحدة. م: (أو التحميدة) ش: الوحدة. م: (لا تسمى خطبة) ش: فوجب ما يسمى خطبة.
م: (وقال الشافعي: لا تجوز حتى يخطب خطبتين؛ اعتبارا للمتعارف) ش: أي للعادة، لأن الذي يخطب بأقل من ذلك لا يسمى خطبة في عادة الناس، ولا يخطب بها خطيبا، وصورة الخطبتين عنده: ما قد ذكرناه الآن، وعلل الأترازي للشافعي بقوله: "إن ذكر الله مجمل" لا يدري أي ذكر هو، وقد فسره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخطبتين، بفعله صار بيانا للكتاب.
ثم أجاب عن ذلك بقوله: لا نسلم أن ذكر الله مجمل، لأن المجمل ما لا يمكن العمل به إلا ببيان من المجمل، والعمل بالآية قبل البيان، لأن ما سمي ذكر الله معلوم عند الناس وفعل

(3/59)


وله قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية 9) ، من غير فصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لبيان السنة، ولا نسلم أن الجواز معلق بالخطبة، بل الجواز معلق بذكر الله، وقد حصل، ولئن سلمنا لكن لا نسلم أن القدر القليل لا يسمى خطبة، وكيف لا يسمى خطبة والخطبة موجودة في ذلك القدر؟
قلت: قوله: "لا نسلم أن الجواز معلق بالخطبة" فيه نظر، وكيف لا يعلق بالخطبة؟ والمراد من ذكر الله في قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية9) ، هو الخطبة، فإذا كان المراد بالذكر الخطبة ما هو مضاد الخطأ، ولم يجز لهم عادوا بالقدر القليل، وقوله وحقيقة الخطبة موجودة في ذلك القدر غير مسلم، لأن المراد هو الخطبة الشرعية التي جرى عليها التوارث، وليس المراد الحقيقة اللغوية.
ثم سأل الأترازي بقوله:
فإن قلت: ذكر رأيت يقدم على الصلاة فوجب أن لا يقصر على الكلمة الواحدة كالأذان؟
قلت: لا نسلم أن القياس صحيح، لأن المقصود من الأذان الإعلام وهو لا يحصل بكلمة واحدة، بخلاف الخطبة، فإن المقصود منها ذكر الله وهو يحصل بكل ما يسمى ذكر الله.
قلت: وفيها أيضا إعلام بأن هذا يوم فيه قامت الخطبة مقام الركعتين، على ما روي عن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة، ومعلوم أن قصر الصلاة لا يكون بما يسمى ذكر الله.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية 9)) .
م: (من غير فصل) ش: يعني بين قليل الذكر وكثيره، والمراد بذكر الله الخطبة باتفاق المفسرين وقد أمر الله تعالى بالسعي إلى ذكره مطلقا، من غير قيد بذكر طويل ولا بخطبتين، فاشتراطه زيادة على النص بالفعل المنقول بخبر الواحد، فيحمل ذلك على السنة وكمال الذكر، وأصل الذكر حاصل بقولنا الحمد لله وسبحان الله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ونحو ذلك، فما زاد على ذلك فهو شرط الكمال.
ثم قوله: "الحمد لله أو سبحان الله" كلام وخبر وتحته معان جليلة جمة، فالمتكلم بهذا اللفظ الوجيز كالذاكر لتلك المعاني الكثيرة بلفظ وجيز، فتكون خطبة وجيزة قصيرة، وقصر الخطبة مندوب إليه، وروي «طول الصلاة وقصر الخطبة مئنة من فقه الرجل» .
فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟

(3/60)


وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال الحمد لله فارتج عيه فنزل وصلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال ابن العربي: خرج في الصحيح، ولكن المشهور أنه من قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعنى مئنة أي علامة على تفهمه، وجعل الجوهري الميم أصلية، وقيل هي فعلية، ونقل الأزهري عن أبي عبيد أن وزنها مفعلة فتكون الميم زائدة.
وقال ابن الأثير: وحقيقتها أنها مفعلة، من معنى أن التي للتخفيف والتأكيد غير مشتقة من لفظها، لأن الحروف لا تشتق منها، وإنما ضمت حروفها؛ دلالة على أن معناها فيها، ولو قيل: إنها اشتقت من لفظها بعدما جعلت اسما، لكان قولا، ومن أغرب ما قيل فيها: إن الهمزة بدل من الطاء في الخطبة، والميم في ذلك كلمة زائدة.
م: (وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الحمد لله فأرتج عليه فنزل وصلى) ش: هذا غريب ولكن اشتهر في كتب الفقه أن عثمان قال على المنبر الحمد لله فأرتج عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يعدان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قوال، وسيأتي في الخطبة بعد هذا والسلام.
وذكره الإمام القاسم بن ثابت السرقسطي في كتاب " غريب الحديث " من غير سند، فقال: روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صعد المنبر فأرتج المنبر عليه، فقال: الحمد لله إن أول كل مركب صعب وإن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، ويعلم الله إن شاء الله، انتهى.
قال السراج: فنزل وصلى الجمعة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدل أنه يكتفي بهذا القدر، ومراده من قوله وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قوال، أن الخطباء الذين يأتون بعد الخلفاء الراشدين يكونون على كثرة المقال مع قبح الفعال، وإن لم أكن مثلهم فأنا على الخير دون الشر، فأما أن يريد بهذه المقالة تفضيل نفسه على الشيخين فلا، كذا في " المحيط ".
وروي أن الحجاج لما أتى العراق وصعد المنبر أرتج عليه، فقال: "يا أيها الناس قد هالني كبر رءوسكم وإحداقكم إلي بأعينكم، وإني لا أجمع عليكم بين الشيخ والصبي في نعماء بني فلان، فإذا قضيتم الصلاة فانتهبوها فنزل، وصلى معه أنس بن مالك وغيره من الصحابة، كذا في " المبسوط ".
وقال تاج الشريعة: وصلى معه ابن عمر وأنس والحسن وغيرهم من علماء التابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقال السروجي: وروي عنه أنه كتب إلى الوليد بن عبد الملك يشكو إليه الحصر في الخطبة وقلة شهوة الأكل وضعف شهوة الجماع، فكتب إليه الوليد أنك إذا خطبت انظر إلى أخريات الناس ولا تنظر إلى من يكون تقرب منك، وأكثر ألوان الأطعمة، فإنك لو أكلت من

(3/61)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كل لون شيئا يسيرا كفيت، وأكثر السراري فإن لكل جديد لذة.
قوله " فأرتج عليه": بضم الهمزة وسكون الراء وكسر التاء المثناة من فوق وتخفيف الجيم. وقال الجوهري: أرتج على القارئ على ما لم يسم فاعله إذا لم يقدر على القراء وأرتج الرجل في منطقة إذا استغلق عليه الكلام، وأرتجت الباب أي أغلقته.
وفي " النهاية" لابن الأثير: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإرتاج الباب أي بإغلاقه.
وفي " مجمع الغرائب ": يقال للرجل الذي لم يحضره منطق قد أرتج عليه كأنه قد أغلق عليه باب النطق. وقال المريد: قول العامة أرتج إليه بالتشديد ليس بشيء.
وفي " المغرب ": الكلام العربي بالتخفيف.
فإن قلت: روي عن أبي عبيدة أنه قال: يقال أرتج يعني بالتشديد، ومعناه وقع في وجه أي اختلاط.
قلت: هذا المعنى بعيد جدا.
فروع: الخطبة تشتمل على فروض وسنن، أما الفرض فشيئان الوقت وهو ما بعد الزوال وقبل الصلاة، حتى لو خطب قبل الزوال أو بعد الصلاة لا يجوز.
وأما السنن فخمسة عشر: الطهارة حتى كره من الجنب والمحدث. وقال أبو يوسف والشافعي: لا يجوز منهما. والقيام واستقبال القوم بوجهه، والقعود قبل الخطبتين، قال أبو يوسف: والبداية بالحمد لله والثناء عليه بما هو أهله، وكلمتا الشهادة والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والموعظة والتذكرة وقراءة القرآن، وتاركها مسيء، وقال الشافعي: لا يجوز، وقدرها ثلاث آيات والجلوس بين الخطبتين، وإعادة التحميد والثناء على الله تعالى في الخطبة الثانية؛ وزيادة الدعاء للمسلمين والمسلمات في الثانية وتخفيف الخطبتين بقدر سورة من طوال المفصل.
وأما الخطيب فمن السنة فيه طهارته واستقباله بوجهه إلى القوم وترك السلام من وقت خروجه إلى دخوله في الصلاة وترك الكلام، وبه قال مالك. وقال الشافعي وأحمد: السنة إذا صعد المنبر أن يسلم على القوم إذا استقبلهم بوجهه، وكذا روى ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: هذا الحديث أورده ابن عدي من حديث ابن عمر في ترجمة عيسى بن عبد الله الأنصاري وضعفه، وكذا ضعفه ابن حبان.
وقال الأثرم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن الشعبي قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال: "السلام عليكم" ... » الحديث،

(3/62)


ومن شرائطها الجماعة لأن الجمعة مشتقة منها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو مرسل فلا يحتج به عنده. وقال عبد الحق في " الأحكام الكبرى ": هو مرسل.
وإن أسنده أحمد من حديث عبد الله بن لهيعة فهو معروف بالضعف فلا يحتج به. وقال البيهقي: ليس بقوي، يعني الحديث.
وفي " الدراية ": والحجة عليه أي على الشافعي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام» .
وما رواه يحتمل أن يكون قبل هذا القول. وفي "المبسوط ": يستحب للقوم أن يستقبلوا الإمام عند الخطبة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وقال ابن المنذر: وهذا كالإجماع. وقال النووي: يكره في الخطبة أن يفعل الخطيب ما يفعله الجهال من الخطباء من الدق بسيف على درج المنبر، وكذا المجازفة في أوصاف السلاطين في الدعاء لهم، انتهى.
ويستحب أن يتوكأ الخطيب في خطبته على نحو قوس وغيره، «وروى أبو داود عن رجل له صحبة في حديث طويل أنه قال: شهدنا الخطبة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام يتوكأ على عصا أو قوس.» وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن ابن حبان عن يزيد بن عبد البر عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبهم يوم عيد وفي يده قوس أو عصا» .
وعن طلحة بن يحيى قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يخطب وبيده قضيب، وذكر البقالي: يخطب بالسيف في بلدة فتحت بالسيف.

[الجماعة من شرائط الجمعة]
[العدد الذي تصح به صلاة الجمعة]
م: (ومن شرائطها) ش: أي ومن شرائط الجمعة. م: (الجماعة، لأن الجمعة مشتقة منها) ش: فلا يتحقق بدونها، كالضارب لما كان مشتقا من الضرب لم يتحقق بدونه، وكذا في سائر المشتقات، واجتمعت الأمة على أنها لا تصح من المنفرد إلا ما ذكره ابن حزم في " المحلى " عن بعض الناس أن الفذ يصلي الجمعة كالظهر.

(3/63)


وأقلهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاثة سوى الإمام، وقالا اثنان سواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأقلهم) ش: أي أقل الجماعة في انعقاد الجمعة. م: (عند أبي حنيفة ثلاثة) ش: أي ثلاثة رجال. م: (سوى الإمام) ش: وبه قال زفر والليث بن سعد، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور والثوري في قول واختاره المزني.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد. م: (اثنان سواه) ش: أي سوى الإمام، وبه قال أبو ثور وأحمد في رواية والثوري في رواية، وهو قول الحسن البصري، واعلم أن في العدد الذي تصح به الجمعة أربعة عشر قولا، الأول والثاني ذكرناهما الآن.
والثالث: إنما تنعقد بواحد سوى الإمام، وهو قول النخعي والحسن بن حي وأبي سليمان وجميع الظاهرية.
والرابع: بسبعة رجال، وهو مروي عن عكرمة.
والخامس: بتسعة.
والسادس: باثني عشر رجلا. وهو قول ربيعة.
والسابع: بثلاثة عشر رجلا، ذكره في " المحلى ".
والثامن: بعشرين.
والتاسع: بثلاثين، رواه ابن حبيب، ذكره في " المحلى ".
والعاشر: بأربعين سواك، ذكره ابن شداد عن عمر بن عبد العزيز.
والحادي عشر: بأربعين رجلا أحرارا بالغين عقلاء مقيمين لا يظعنون صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة. وهو قول الشافعي، وظاهر قول أحمد ولم يوافقه على جميع شروطه.
والثاني عشر: بخمسين رجلا، حكاه في " المحلى " عن عمر بن عبد العزيز، ورواه عن أحمد.
والثالث عشر: ثمانين، ذكره المازري.
والرابع عشر: بغير تحديد.
واحتج الشافعي بقصة أسعد بن زرارة، رواها أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة: قلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت في حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون، رواه ابن ماجه والبيهقي أيضا. وقد ذكرناه في أول الكتاب مشروحا، ولا حجة له فيه بوجهين: أحدهما: أنه

(3/64)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان قبل أن يقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواه البيهقي في "سننه الكبرى". والثاني: أنه يجوز مع الأربعين ولا يدل على عدم الجواز بدون الأربعين، ونحن نجوزه بدون الأربعين وبأقل من الأربعين وبأكثر منها.
واحتج الشافعي أيضا بما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة» .
وبما روي عن أبي هريرة أنه أقام الجمعة بجواثا بإذن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفيها أربعون رجلا، وبما روي عن أبي أمامة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا جمعة إلا بأربعين» .
وبما روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إذا اجتمع أربعون فعليهم الجمعة» وأيضا لم ينقل على عهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والخلفاء بعده الجمعة بأقل من أربعين رجلا.
والجواب عما روى جابر:
إن قلت: إنه لا يدل على نفي الجواز بما دون الأربعين.
قلت: في قول الصحابة: مضت السنة، خلافا بين العلماء، وقال النووي: حديث جابر هذا ضعيف، رواه البيهقي وغيره بإسناد ضعيف، وقال: هو حديث لا يحتج بمثله.
والجواب عن حديث أبي هريرة: كالجواب عن حديث جابر.
والجواب عن حديث أبي أمامة: أنه لا أصل له، والجواب عما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتمع أربعون فعليهم الجمعة» أن صاحب الوجه ذكره ولم يثبت عند أهل النقل.
والجواب عن قولهم ينقل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.... إلخ: أنه يرده ما رواه البخاري ومسلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من حديث جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائما يوم الجمعة فقدم عير من الشام فنفر الناس وبقي معه اثنا عشر رجلا فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] (الجمعة: الآية 11) » ، قال أبو بكر الرازي: ومعلوم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يترك الجمعة منذ قام بالمدينة، ولم يذكر رجوع القوم، فوجب أن يكون قد صلى باثني عشر رجلا، فبطل اشتراط الأربعين كما قال الشافعي وابن حنبل رحمهما الله، ولأن أول جمعة كانت بالمدينة صلاها مصعب بن عمير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باثني عشر رجلا قبل الهجرة، فبطل بذلك اشتراط الأربعين.

(3/65)


قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والأصح أن هذا قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحده له أن في المثنى معنى الاجتماع، وهي منبئة عنه، ولهما أن الجمع الصحيح إنما هو الثلاث؛ لأنه جمع تسمية ومعنى، والجماعة شرط على حدة، وكذا الإمام فلا يعتبر منهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى البيهقي والدارقطني أنهم انفضوا فلم يبق إلا الأربعون.
قلت: هذا ليس بصحيح، والصحيح ما رواه الشيخان.
فإن قلت: انفضوا في الخطبة أم في الصلاة؟
قلت: في روايات مسلم أنهم انفضوا في الخطبة، وفي رواية البخاري في الصلاة.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (والأصح أن هذا قول أبي يوسف وحده - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي الأصح أن كون الاثنين سوى الإمام شرطا لانعقاد الجمعة، هو قول أبي يوسف وحده - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد مع أبي حنيفة - رحمهما الله-، والمذكور في عامة نسخ " المختصر " أن محمدا مع أبي يوسف، واحترز المصنف بقوله والأصح أن هذا. م: (له) ش: لأبي يوسف. م: (أن في المثنى معنى الاجتماع) ش: لأن فيه اجتماع واحد مع آخر. م: (وهي) ش: أي الجمعة. م: (منبئة) ش: أي مخبرة. م: (عنه) ش: أي عن الاجتماع لما ذكر أن الجمعة مشتقة من الجماعة وفي الجماعة اجتماع لا محالة.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله-. م: (أن الجمع الصحيح) ش: يعني لغة ومعنى. م: (إنما هو الثلاث) ش: ولهذا يقال رجال ثلاثة، ولا يقال رجال اثنان. م: (لأنه) ش: أي لأن الثلاث. م: (جمعة تسمية) ش: أي من حيث التسمية في اللغة. م: (ومعنى) ش: أي ومن حيث المعنى أيضا، ولهذا صح تقسيم أهل الصنعة بين المفرد والمثنى والمجموع ونفي الجمع عن التثنية في قول القائل، هذا مثنى وليس بمجموع.
وهذا تثنية وليس بجمع، فإذا صح أن الجماعة مشروطة في الجمع وجب حملها على الجمع المطلق وهو الثلاث فما فوقها، حتى يقوم الدليل على إرادة الاثنين، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بشهود» ولما قال القائل فيما قاله أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذلك لأنه يقبل مع الإمام ثلاثة، أجاب المصنف بقوله. م: (والجماعة شرط على حده) ش: أي وحدها دون الإمام.
م: (وكذا الإمام) ش: شرط على حدة. م: (فلا يعتبر منهم) ش: أي من الجماعة، لأن الله تعالى قال: {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] وهو يقتضي ثلاثة، لأنها أقل الجمع وقوله: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] يقتضي ذاكرا، فذلك أربعة، ومن وجه خمسة، لأن قوله: {إِذَا نُودِيَ} [الجمعة: 9] يقتضي المنادي، وهو المؤذن، وقوله: {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] يقتضي ثلاثة، لأنها أقل الجمع، وقوله: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] يقتضي الذاكر، وهو الإمام، وعلى كل حال يجب أن يكون لهم من يصلح إماما، حتى إذا كان صبيا أو مجنونا لا

(3/66)


وإن نفر الناس قبل أن يركع الإمام ويسجد، ولم يبق إلا النساء والصبيان استقبل الظهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا إذا نفروا عنه بعدما افتتح الصلاة صلى الجمعة، فإن نفروا عنه بعدما ركع وسجد سجدة بنى على الجمعة في قولهم جميعا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجوز.

م: (وإن نفر الناس) ش: يعني إذا اقتدى الناس بالإمام في صلاة الجمعة، ثم عرض للناس عارض إذا هم إلى النفور فنفروا وبقي الإمام وحده إن كان ذلك. م: (قبل أن يركع الإمام ويسجد) ش: يعني بعد الشروع، لأنهم إن نفروا قبل شروعهم مع الإمام لا يصلي الجمعة بلا خلاف، والخلاف في النفور بعد الشروع قبل الركوع والسجود لما نذكره، وقوله. م: (ولم يبق إلا النساء والصبيان) ش: يعني لم ينفروا فلا يعتبر لبقائهم، لما يجيء عن قريب. م: (استقبل الظهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ولو بقي معه رجلان أو صبيان أو نساء. وقال الثوري: إن بقي معه رجلان صلى الجمعة، وبه قال أبو ثور، وإن بقي معه واحد يصلي الجمعة.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله-. م: (إذا نفروا عنه) ش: أي عن الإمام. م: (بعدما افتتح الصلاة صلى الجمعة) ش: وإن بقي وحده. وبه قال المزني في قول. م: (فإن نفروا عنه) ش: أي عن الإمام. م: (بعدما ركع وسجد سجدة بنى على الجمعة في قولهم جميعا) ش: أي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (خلافا لزفر) ش: فعنده يصلي الظهر، وعند مالك إن انفضوا بعد الإحرام ويسر رجوعهم بنى على إحرامه أربعا وإلا جعلها نافلة وانتظرهم، وإن انفضوا بعد ركعة، قال أشهب وعبد الوهاب - رحمهما الله: يتمها جمعة، وهو اختيار المزني، وقال سحنون: هو كما بعد الإحرام فيشترط إلى الانتهاء.
وقال إسحاق: إن بقي معه اثنا عشر صلى الجمعة. وظاهر كلام أحمد استدامة الأربعين. وقال النووي: لو أحرم بالأربعين المشروطة ثم انفضوا فعنه خمسة أقوال، أصحها يتمها ظهرا كالابتداء، وللمزني تخريجان: أحدهما: يتمها جمعة واحدة كقولهما.
والثاني: إن صلى ركعة سجد فيها أتمها جمعة، وقيل: إن بقي معه واحدة أتمها جمعة، ونص عليه في القديم، وذكر ابن المنذر إن بقي معه اثنان لا يتمها جمعة وهو رواية البويطي.
وقال صاحب " التقريب ": يحتمل أن يكتفي بالعبد والمسافر، وأقام الماوردي الصبي والمرأة مقامهما، فالحاصل بقاء الأربعين في كل الصلاة، هل هو شرط أم لا؟ قولان. فإن قلنا: لا، فهل شرط بقاء عدد أم لا؟ قولان، فإن قلنا، فهل يفصل بين الركعة الأولى والثانية أم لا؟ قولان. فإن قلنا: نعم. فلم يشترط؟ قولان: أحدهما ثلاثة والآخر اثنان، فإذا أردت اختصار ذلك

(3/67)


وهو يقول إنها شرط فلا بد من دوامها كالوقت، ولهما أن الجماعة شرط الانعقاد فلا يشترط دوامها كالخطبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في المسألة خمسة أقوال: أحدها: يتمها ظهرا كيفما كان وهو الصحيح. والثاني: جمعة كيفما كان. والثالث: إن بقي معه اثنان أتمها جمعة وهو الأظهر. والرابع: إن بقي معه واحد أتمها جمعة. والخامس: إن انفضوا أو بعضهم بعد تمام الركعة يسجد فيها أتم جمعة، وإلا أتمها ظهرا.
م: (وهو يقول) ش: أي يقول زفر فيما ذهب إليه. م: (إنها) ش: أي إن الجمعة عنه. م: (شرط فلا بد من دوامها) ش: كما في سائر الشروط. م: (كالوقت) ش: فإن دوامه شرط لصحة الجمعة، فكذلك دوام الجماعة.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله-. م: (أن الجماعة شرط الانعقاد) ش: أي انعقاد الجمعة لا شرط الأداء. م: (فلا يشترط دوامها) ش: والدليل على ذلك أن المقتدي إذا أدرك ركعة من الجمعة يقضي الجمعة بالاتفاق، وكذا إذا أدرك التشهد عندهما، خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم حاجة المقتدي إلى الإمام فوق حاجة الإمام إلى المقتدي، لأن الإمام أصل، والمقتدي تبع، ودوام الإمام لم يحصل شرطا لصحة صلاة المقتدي حتى صح صلاة المسبوق في الجمعة، مع أن حاجة المقتدي أكبر، فلأن لا يجعل دوام المقتدي شرطا لصحة الإمام أولى.
م: (كالخطبة) ش: وجه التشبيه هو كون كل واحد من الجماعة والخطبة شرطا لانعقاد الجمعة، ولكن دوام الخطبة ليس بشرط. فكذلك دوام الجماعة، ألا ترى أن الإمام بعدما كبر وسبقه الحدث فاستخلف من لم يشهد الخطبة أتم الجمعة، فكان استخلافه إياه بعد التكبير كاستخلافه بعد أداء ركعة، فهذا مثله، وفي " التجنيس ": خطب وفرغ منها فذهب القوم كلهم وجاء آخرون وصلى بهم أجزأه، لأنه خطب والقوم حضور، وصلى والقوم حضور فتحقق شرط جواز الخطبة.
وعند الشافعي: يجب استئناف الخطبة ولو عاد بعد ذلك القوم ولم يطل الفصل لم يجب استئنافها، ولو طال الفصل ففيه خلاف بين أصحابه، قيل: يجب، وقيل: لا يجب، كذا في " شرح الوجيز " وفي " الأجناس ": لو خطب وحده أو بحضرة النساء لم يجز، وبه قال الشافعي، وعن أبي حنيفة - رحمهما الله: يجوز، والصحيح الأول، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو خطب ولم يسمع الرجال جاز، ولا يضر تباعدهم، ولو خطب والقوم نيام أو صم جازت، ذكره في " الذخيرة "، ولو خطب بحضرة الإمام بغير إذنه لم يجز، والإذن بالخطبة إذن بالصلاة، وكذا الإذن بالصلاة إذن بالخطبة وقد سبق هذا ونظائره فيما سبق.

(3/68)


ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الانعقاد بالشروع في الصلاة، ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة، لأن ما دونها ليس بصلاة، فلا بد من دوامها إليها بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها، ولا معتبر في بقاء النسوان وكذا الصبيان لأنه لا تنعقد بهم الجمعة فلا تتم بهم الجماعة،
ولا تجب الجمعة على مسافر ولا امرأة ولا مريض ولا عبد ولا أعمى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الانعقاد بالشروع في الصلاة) ش: تقديره: أن أبا حنيفة يقول: المقدمة الأولى صحيحة، وهي كون الجماعة شرط الانعقاد، والانعقاد إنما هو بالشروع في الصلاة. م: (ولا يتم ذلك) ش: أي الشروع في الصلاة. م: (إلا بتمام الركعة، لأن ما دونها ليس بصلاة) ش: لكونه في محل الرفض، لأن ما دون الركعة معتبر من وجه دون وجه، فالأول فيما إذا يحرم ثم قطع يلزمه القضاء.
والثاني: فيما إذا أدرك الإمام في السجود لا يصير مدركا للركعة، وصلاة الجمعة تغيرت من الظهر إلى الجمعة، فلا تغير إلا بتعين ولا تعين إلا بوجود الركعة، والذي يأتي بركعة يأتي بأركان الصلاة ولا يبقى عليه إلا الركن المكرر، والمصلي ما لم يقيد بالسجدة مستفتح لكل ركن، مكان ذهاب الجماعة، قيل: قيدها بالسجدة كذهابهم قبل التكبير، بخلاف ما بعد تقييدها بالسجدة، فإنه مقيد للأركان لا يفتتح، فافهم، فإنه موضع دقيق.
م: (فلا بد من دوامها إليها) ش: أي فلا بد من دوام الجماعة إلى الركعة أي إلى تمام الركعة، والفاء فيه نتيجة قوله: لأن ما دونها ليس بصلاة، وفي الحقيقة الفاء جواب شرط محذوف، تقديره: إن لم يكن ما دون الركعة صلاة فلا بد من دوام الجماعة إلى تمام الركعة.
م: (بخلاف الخطبة) ش: جواب عن سؤال مقدر تقديره بأن يقال: سلمنا أن الجماعة شرط دوام الخطبة إلى تلك الغاية، وتقدير الجواب هو قوله. م: (لأنها) ش: أي لأن الخطبة. م: (تنافي الصلاة) ش: لأنه حين توجد الخطبة لا توجد الصلاة، وحين توجد الصلاة لا توجد الخطبة، والمنافاة بين الشيئين عبارة عن عدم الاجتماع بينهما في محل واحد، في زمان واحد. م: (فلا يشترط دوامها) ش: أي دوام الخطبة إلى الركعة، والفاء فيه مثل الفاء فيما قبلها.
م: (ولا معتبر في بقاء النسوان) ش: لأنه لا ينعقد بهن الجماعة، وهو متعلق بقوله إلا النساء والصبيان، بخلاف بقاء المسافرين وأصحاب الأعذار، ومن لم يشهد الخطبة. م: (وكذا الصبيان) ش: وكذا لا يعتبر بقاء الصبيان، وقد علل هذين الصنفين بقوله. م: (لأنه لا تنعقد بهم الجمعة فلا تم بهم الجماعة) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد، بخلاف ما إذا بقي خلفه من العبيد والمسافرين ثلاثة، حيث يصلي بهم الجمعة عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد، فعندهما يصلي الإمام الظهر، لأنهما يشترطان أربعين رجلا أحرارا مقيمين كما ذكرنا.

[من لا تجب عليه الجمعة]
م: (ولا تجب الجمعة على مسافر ولا امرأة ولا مريض ولا عبد ولا أعمى) ش: أما المسافر فلما

(3/69)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
روى البيهقي من حديث جابر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا على امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض» وفي إسناده ضعف، ولكن له شواهد ذكرها البيهقي وغيره.
وروى الحافظ في "سننه " عن تميم الدارمي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الجمعة واجبة إلا على خمسة: امرأة أو صبي أو مسافر أو عبد» . وقال ابن المنذر: وفي صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بعرفة، وكان يوم الجمعة دليل على أن لا جمعة على مسافر.
قلت: هذا وهم منه، فإن عرفات مفازة، ولا تقام الجمعة في المفازة عند الأئمة الأربعة خلافا للظاهرية ولا يعتد بخلافهم، وحكي عن النخعي والزهري الوجوب على المسافر، وهو قول الظاهرية، وأما المرأة فلما روى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "سننه" من حديث طارق بن شهاب - رحمهما الله- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» ، وقال أبو داود: وطارق بن شهاب - رحمهما الله - قد رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يسمع منه شيئا.
قلت: هذا غير قادح في صحة الحديث فإنه يكون مرسل صحابي وهو حجة، وكذا قال النووي في " الخلاصة "، والحديث قال على شرط الشيخين، انتهى.
ورواه الحاكم في "مستدركه " عن هريم بن سفيان به، عن طارق بن شهاب عن أبي موسى مرفوعا، فقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد احتجا بهريم بن سفيان، ورواه ابن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر فلم يذكر فيه أبا موسى، وطارق بن شهاب يعد في الصحابة، وذكر الذهبي في "تجريد الصحابة ": وطارق بن شهاب البجلي الأحمسي له رؤية ورواية، وقد صرح ابن الأثير في "جامع الأصول " بسماعه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي " التهذيب " عن الزهري أنه صحابي أدرك الجاهلية، وصحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعقد له المزني في أطراف "سننه ". وذكر له عدة أحاديث.

(3/70)


لأن المسافر يحرج في الحضور، وكذا المريض والأعمى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما المريض والعبد فللأحاديث المذكورة، وقال ابن المنذر: وجمهور أهل العلم على أنه لا جمعة على مسافر ولا عبد، وهو قول الحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز والشعبي والثوري وأهل المدينة والشافعي وأحمد - رحمهما الله- في إحدى الروايتين في العبد وإسحاق بن راهويه وأبي ثور. وعن الحسن أنها تجب على العبد الذي يؤدي الضريبة، وقال في " الذخيرة ": في رواية ابن سفيان الوجوب على العبد عند مالك، وقال صاحب " الذخيرة ": وهي مردودة بالحديث.
وأما الأعمى فلا تجب عليه الجمعة، سواء وجد قائدا أو لا، وكذا على المقعد والعاجز عن الوضوء والتوجه مع مساعد، وعندهما يجب عليهم مع وجود القائد والمساعد، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وذكر المرغيناني: العبد لو أذن له مولاه في الجمعة مخير، وفي " منية المفتي ": يجب عليه، وفي " المرغيناني ": في العبد الذي حضر باب الجامع مع مولاه يحفظ الدابة خلاف، والأصح أنه يصلي إذا لم يخل بحفظ دابته، والمكاتب يجب عليه، وقيل: لا يجب عليه، ومعتق البعض في حال سعايته، كذلك في " جوامع الفقه " والأجير يوما لا يذهب إلى الجمعة والجماعة إلا بإذن المستأجر، وكذا قاله أبو حفص الكبير. وقال أبو علي الدقاق: ليس له منعه في المصر عن حضور الجماعة، لكن يسقط الأجر بقسطه.
وفي " المجتبى ": ولا تجب الجمعة على الأجير إلا بإذن المستأجر، أما العبد لو أذن له مولاه، فهو مخير بين الجمعة والظهر، والمختفي من السلطان الظالم يباح له أن لا يخرج إلى الجمعة والجماعة، وتسقط بعذر المطر والوحل. وفي " الذخيرة ": للمولى منع عبده من الجمعة والعيدين.
م: (لأن المسافر يحرج في الحضور) ش: هذا إلى قوله: "فإن حضروا" - تعليل عقلي، ولم يذكر المصنف شيئا من الحجج النقلية، قوله: يحرج، من حرج يحرج، من باب علم يعلم، فقال: حرج فلان في أمره إذا استدل عليه، ويقال حرج أيضا إذا ضاق صدره، ويقال: مكان حرج بكسر الراء وفتحها أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، والحرج بفتح الراء أيضا الإثم، وقال ابن الأثير: الحرج في الأصل الضيق، ويقع على الإثم والحرام، وقيل: الحرج أضيق الضيق، والحرج الذي يلحق المسافر، إما عدم وجدان أجير يحفظ رحله إذا ذهب إلى الجمعة أو خوف انقطاعه عن رفقته.
م: (وكذا المريض والأعمى) ش: وكذا يحرج الأعمى والمريض في الحضور إلى الجمعة، والحرج مرفوع شرعا.

(3/71)


والعبد مشغول بخدمة المولى، والمرأة بخدمة الزوج، فعذروا دفعا للحرج والضرر، فإن حضروا وصلوا مع الناس أجزأهم عن فرض الوقت؛ لأنهم تحملوه فصاروا كالمسافر إذا صام،
ويجوز للمسافر والعبد والمريض أن يؤم في الجمعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " قنية المنية ": إن وجد المريض ما يركبه فهو كالأعمى على الخلاف إذا وجد قائدا، وقيل: لا يجب عليه اتفاقا كالمقعد، وقيل: وهو كالقادر على المشي، فيجب في قولهم، وهو الصحيح.
قلت: ينبغي أن يكون الصحيح عدم الوجوب، لأن في إلزامه الركوب والذهاب إلى الجمعة زيادة المرض فلا يلزم بالحضور، والممرض قيل كالمريض والأصح أنه أن يبقى ضائقا بخروجه فهو عذر.
م: (والعبد مشغول بخدمة المولى) ش: فإذا ألزم الحضور يحصل الضرر لمولاه بترك الخدمة، فصار كالحج والجهاد، بخلاف الصلاة المفروضة لأنه يؤديها بنفسه في زمان يسير فلا يلزم الضرر بالمولى، وكذا الصوم لأنه قادر على الجمع بينه، وبين خدمة المولى. م: (والمرأة بخدمة الزوج) ش: أي والمرأة مشغولة بخدمة الزوج، فإذا ألزمت بالحضور حصل الضرر. م: (فعذروا) ش: أي إذا كان كذلك فهم عذروا وهو على صيغة المجهول المبني للمفعول، والضمير فيه يرجع إلى المسافر والمرأة والمريض والعبد والأعمى. م: (دفعا للحرج والضرر) ش: أي لدفع المشقة، وهو نصب على التعليل. قوله: والضرر، يجوز أن يكون تفسيرا للحرج أو يكون الحرج في بعض هؤلاء، والضرر في بعضهم.
م: (فإن حضروا) ش: أي فإن حضر هؤلاء المذكورين في يوم الجمعة إلى الصلاة. م: (وصلوا مع الناس أجزأهم عن فرض الوقت) ش: أي أجزأتهم الجمعة عن الظهر. وقال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافا. وقال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه من أهل العلم على أن النساء لو صلين الجمعة يجزئهن عن الظهر، مع إجماعهم على أن لا جمعة عليهن، انتهى.
وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان نساء المهاجرين يصلين الجمعة مع رسول الله يحتسبن بها من الظهر، ولأن هؤلاء من أهل الفرض والرخصة لهم في ترك السعي للعذر، فلما حضروا زال العذر وسقط الفرض.
م: (لأنهم) ش: أي لأن هؤلاء المذكورين. م: (تحملوه) ش: أي الحرج. م: (فصاروا كالمسافر إذا صام) ش: في رمضان يسقط عنه الفرض، فكذا هؤلاء يسقط عنهم الفرض بحضورهم وصلاتهم الجمعة.

[إمامة المسافر والعبد والمريض في الجمعة]
م: (ويجوز للمسافر والعبد والمريض أن يؤم في الجمعة) ش: أي لكل واحد أن يؤم، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصح قوليه، وفي قول: إن كان صاحب العذر أحدا من أربعين رجلا

(3/72)


وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه؛ لأنه لا فرض عليه، فأشبه الصبي والمرأة. ولنا أن هذه رخصة، فإذا حضروا يقع فرضا على ما بيناه، أما الصبي فمسلوب الأهلية، والمرأة لا تصلح لإمامة الرجال. وتنعقد بهم الجمعة، لأنهم صلحوا للإمامة فيصلحون للاقتداء بطريق الأولى، ومن صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له كره له ذلك وجازت صلاته.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا يجوز. وقال مالك: لا تصح إمامة العبد. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز خلف العبد والمسافر، وفي الحل منع ذلك من جواز إمامة المسافر في الجمعة، قيل: هو خطأ.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه) ش: أي لا يجزئ كل واحد منهم أن يؤم. م: (لأنه لا فرض عليه) ش: أي فرض صلاة الجمعة. م: (فأشبه الصبي والمرأة) ش: في عدم جواز إمامتهما. وفي " جوامع الفقه " روى عن أبي يوسف مثل قول زفر.
م: (ولنا أن هذه رخصة) ش: أي سقوط الجمعة عن المذكورين رخصة، وتأنيث الإشارة باعتبار الخبر، وإنما كان السقوط رخصة لهم دفعا للحرج. م: (فإن حضروا يقع فرضا) ش: يعني إذا تركوا الرخصة وحضورا وصلوا يقع ما صلوا عن فرض الوقت، لأن الإسقاط عنهم لدفع الحرج، والقول بعدم الجواز يؤدي إلى الحرج، وفيه فساد الوضع. م: (على ما بيناه) ش: أشار به إلى قوله: لأنهم تحملوه.
م: (أما الصبي فمسلوب الأهلية) ش: جواب عن قول زفر: فأشبه الصبي، وتقريره: أن الصبي لا أهلية له لعدم البلوغ، فالقياس عليه لا يجوز. م: (والمرأة لا تصلح لإمامة الرجال) ش: هذا أيضا جواب عن قول زفر: فأشبه المرأة، وهو ظاهر.
م: (وتنعقد بهم الجمعة) ش: هذه مسألة متبرأة، أي تنعقد بالمسافر والعبد والمريض الجمعة. م: (لأنهم صلحوا للإمامة فيصلحون للاقتداء بطريق الأولى) ش: لأن من جازت إمامته في الجمعة يعتد به في العدد، وفيه إشارة إلى رد قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هؤلاء لا تصلح إمامتهم، فلا يعتد بهم في العدد الذي تنعقد بهم الجمعة.
م: (ومن صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام) ش: أي قبل أن يصلي الإمام الجمعة، قيد به لأنه إذا صلى الظهر في منزله بعدما صلى الإمام الجمعة جاز بالاتفاق. م: (ولا عذر له) ش: أي والحال أنه لا عذر له، قيد به لأن المعذور إذا صلى الظهر قبل صلاة إمام الجمعة يجوز بالاتفاق، والمعذور مثل المسافر والعبد والمريض والمرأة. م: (كره له ذلك) ش: أي ما فعله من صلاته في منزله قبل صلاة إمام الجمعة، وجه الكراهة مخالفة إمام الجمعة. م: (وجازت صلاته) ش: عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور وابن نافع والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في القديم.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -

(3/73)


لأن عنده الجمعة هي الفريضة أصالة، والظهر كالبدل عنها، ولا مصير إلى البدل مع القدرة على الأصل. ولنا أن أصل الفرض هو الظهر في حق الكافة، هذا هو الظاهر. إلا أنه مأمور بإسقاطه بأداء الجمعة، وهذا لأنه متمكن من أداء الظهر بنفسه دون الجمعة لتوقفها على شرائط لا تتم به وحده، وعلى التمكن يدور التكليف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الجديد، وقال ابن المنذر: والفرض هو الذي في بيته إذا كان الإمام يؤخر الجمعة، وقال الحكم بن عيينة: يصلي معهم ويصنع الله ما يشاء. م: (لأن عنده) ش: أي لأن عند زفر. م: (الجمعة هي الفريضة أصالة) ش: أي من حيث الأصالة، لأنه مأمور بالسعي إليها منهي عن الاشتغال بالظهر ما لم يتحقق فوت الجمعة، وهذا صورة الأصل. م: (والظهر كالبدل عنها) ش: أي عن الجمعة. م: (ولا مصير إلى البدل مع القدرة على الأصل) ش: كالتيمم مع القدرة على الماء، وإنما قال: والظهر كالبدل عنها، ولم يقل: والظهر بدل عنها؛ لأن الأربع لا تكون بدلا عن الركعتين حقيقة. م: (ولنا أن أصل الفرض هو الظهر، في حق الكافة) ش: أي في حق الناس كافة. م: (هذا هو الظاهر) ش: أي كون أصل الفرض هو الظهر، ظاهر المذهب عند أصحابنا الثلاثة، وأشار به إلى أن في هذا اختلاف الرواية، ففي " الذخيرة ": فرض الوقت الظهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول، وفي قوله الآخر: الفرض أحدهما غير معين، وإنما يتعين بالفعل إلا أن الجمعة آكد من الظهر، وفي " الينابيع ": وقيل: الفرض أحدهما أو فرضها الجمعة، حتى لو صلاهما فالفرض هو الجمعة تقدمت أو تأخرت.
وفي " المرغيناني " و" الولوالجي ": وقيل: الواجب كلاهما، ويسقطان بأداء الجمعة، وفي " المفيد " قال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله-: فرض الوقت الظهر، لكن أمر غير المعذور بإسقاطه بالجمعة حتما والمعذور رخصة. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فرض الوقت الجمعة، لكن رخص له بإسقاطها بالظهر، ومثله في " المحيط "، وفي " الينابيع ": هو أصح أقواله، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا أعلم فرض الوقت ما هو، وإنما الفرض ما استقر عليه فعله.
م: (إلا أنه مأمور بإسقاطه) ش: أي إسقاط الظهر. م: (بأداء الجمعة) ش: عند وجود شرائطها. م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا من كون الظهر هو الأصل وكونه مأمورا بإسقاطه بأداء الجمعة. م: (لأنه) ش: أي لأن المكلف. م: (متمكن من أداء الظهر بنفسه) ش: أي وحده. م: (دون الجمعة) ش: أي غير متمكن من أداء الجمعة. م: (لتوقفها على شرائط) ش: خارجة عن قدرته؛ هي الإمام والخطبة والجماعة والمصر. م: (لا تتم) ش: تلك الشرائط. م: (به) ش: أي بالمكلف.
م: (وحده) ش: من عدم قدرته عليهما. م: (وعلى التمكن يدور التكليف) ش: لأن مدار التكليف على الوسع بالنص، فدل ذلك أن الظهر هو فرض الوقت، لكن عليه إسقاطه بالجمعة عند وجود شرائطها كما ذكرنا، ألا ترى أن الجمعة إذا لم تصل حتى خرج الوقت يُقضى الظهر لا

(3/74)


فإن بدا له أن يحضرها فتوجه إليها والإمام فيها بطل ظهره عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالسعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجمعة، فلو لم يكن فرض الوقت الظهر لم يقض الظهر بل الجمعة.
وثمرة الخلاف بين محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه على غير ظاهر الرواية، فظهر فيمن تذكر أن عليه فجر يومه يخاف فوت الجمعة إن اشتغل بالفجر فعندهما لا تجزئه الجمعة، لأن فرض الوقت هو الظهر، فإذا ترك الجمعة أمكنه فعل الظهر من غير فوات، وعند محمد يصلي الجمعة لأن فرض الوقت هي الجمعة، فصار كالذي يذكر فجر يومه في آخر وقت الظهر، حيث يصلي الظهر لئلا يفوت فرض الوقت.
م: (فإن بدا له أن يحضرها) ش: أي فات ظهر لهذا الذي صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له أن يحضر للجمعة. م: (فتوجه إليها) ش: إلى الجمعة. م: (والإمام فيها) ش: أي والحال أن الإمام في صلاة الجمعة لم يفرغ منها. م: (بطل ظهره) ش: الذي صلاه في منزله. م: (عند أبي حنيفة بالسعي) ش: أي بمجرد سعيه، سواء أدرك الإمام أو لا.
وهاهنا قيدان: الأول: قوله: فإن بدا له أن يحضرها؛ لأنه إذا خرج لا يريد الجمعة لا يرتفض ظهره بالاتفاق.
الثاني: قوله: فتوجه والإمام فيها لأنه إذا توجه بعد فراغ الإمام لا يرتفض ظهره بالاتفاق، وقد اختلفت عبارات كتب أصحابنا في هذا الباب. ففي " المحيط " لو توجه إليها والإمام لم يؤدها إلا أنه لا يُرْجَى إدراكها لبعد المسافة لم يبطل ظهره في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عند العراقيين، ويبطل عند البلخيين، وهو الصحيح.
ولو توجه إليها ولم يصلها الإمام بعذر أو بغير عذر، اختلفوا في بطلان ظهره، والصحيح أنه لا يبطل، وعن الحلواني لو لم يخرج من البيت ولكن أداها قبل الخروج إذا كان البيت واسعا لم يبطل ما لم يجاوز العتبة، وقيل: يبطل إذا خطا خطوتين، وفي " التحفة ": هو على وجهين: الأولى: إن صلى معه أو أدركه في الصلاة بعدما فاته يبطل ظهره بلا خلاف. والثاني: حين سعى كان الإمام في الجمعة، لكن عند حضوره كان قد فرغ منها، فكذلك عنده، وعندهما لم ينقض ما لم يشرع معه.
وفي " الأسبيجابي ": لو صلى الظهر في بيته ثم خرج إلى الجمعة وقد فرغ الإمام لا يرتفض الظهر في قولهم، ولو أنه حين خرج كان الإمام فيها، فلما انتهى إليه فرغ منها يرتفض عنده، خلافا لهما. وفي " المحيط " ذكر الطحاوي أنه إذا كان خروجه وفراغ الإمام معا لم ينقض ظهره، وفي " الينابيع": إذا توجه والإمام فيها أو لم يشرع بعد بطل ظهره. وفي " المبسوط ": يعتبر سعيه بعد انفصاله من داره. وفي " قنية المنية ": يرتفض الظهر عنده بأداء بعض الجمعة، وعندهما لا يرتفض ما لم يؤدها، هكذا روى الحسن، ومثله في " المحيط".

(3/75)


وقالا: لا يبطل حتى يدخل مع الإمام؛ لأن السعي دون الظهر فلا ينقضه بعد تمامه، والجمعة فوقها فينقضها، وصار كما إذا توجه بعد فراغ الإمام، وله أن السعي إلى الجمعة من خصائص الجمعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " التحفة " و "المختلف ": لو صلى المعذور الظهر ثم أدرك الجمعة لا يبطل ظهره عند زفر، لأنه قدر على الأصل بعد حصول المقصود بالبدل، وعندنا ينقض لأنه إذا أدى الجمعة كانت هي الفرض عليه فلا يبقى الظهر ضرورة للتنافي. وفي " خزانة الأكمل " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - صلى بقوم الظهر يوم الجمعة ثم دخل مع الإمام في صلاة الجمعة فصلى بعضها ثم أفسدها أجزأته الظهر في منزله، ولو أتمها مع الإمام انقلبت ظهره تطوعا وبقي للقوم فريضة، وكذا في " المحيط ".
م: (وقالا: لا يبطل حتى يدخل مع الإمام) ش: كذا ذكروا قولهما في شرح " الجامع الصغير " وكذا ذكر أبو بكر الرازي، والأسبيجابي في شرحيهما " لمختصر الطحاوي "، وكذا ذكر القدوري في شرح " مختصر الكرخي " حيث قال: وقالا: يبطل الظهر حتى يكبر للجمعة، وهذا كله يدل على أن الظهر ينقض عندهما بمجرد الشروع مع الإمام، وذكر خواهر زاده في "مبسوطه" أن قولهما لا يرتفض الظهر ما لم يؤد الجمعة كلها، حتى إذا شرع في الجمعة مع الإمام ثم إنه تكلم قبل أن يتم الجمعة، فإنه يرتفض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما لا يرتفض، ثم قال: هكذا ذكر الحسن في كتاب صلاته.
م: (لأن السعي دون الظهر) ش: لأنه ليس مقصود بنفسه والظهر مقصود بنفسه. م: (فلا ينقضه بعد تمامه) ش: أي فلا ينقض السعي الظهر بعد تمام الظهر لأن الأعلى لا ينتقض بالأدنى. م: (والجمعة فوقها) ش: أي فوق الظهر، وإنما أنث الظهر باعتبار الصلاة. م: (فينقضها) ش: أي إذا كانت الجمعة فوق صلاة الظهر فتنقض صلاة الظهر، لأنا أمرنا بإسقاط الظهر بالجمعة فجاز أن ينقضه.
م: (وصار) ش: أي هذا الذي بدا له أي يتوجه والإمام فيها ولم يدخل معه. م: (كما إذا توجه بعد فراغ الإمام) ش: من صلاة الجمعة فإنه لا يبطل ظهره بالاتفاق.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (أن السعي إلى الجمعة من خصائص الجمعة) ش: لأنه من الفروض المختصة بالجمعة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (9: الجمعة) ، وقد نُهِيَ عن السعي في سائر الصلوات، لما روي عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون، عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» ، رواه الأئمة الستة وغيرهم.
وذكر في " الأسرار " أن وجه كون السعي من خصائص الجمعة هو أن صلاة الجمعة صلاة خصت بمكان، لا يمكن الإقامة إلا بالسعي إليها، فصار السعي مخصوصا به دون سائر

(3/76)


فينزل منزلتها في حق ارتفاض الظهر احتياطا، بخلاف ما بعد الفراغ منها لأنه ليس بسعي إليها.
ويكره أن يصلي المعذورون الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلوات، فإنه يصح أداؤها في كل مكان، فإذا صار من خصائص الجمعة شرعا أشبه الاشتغال به الاشتغال بركن منها، والشخص إذا تشاغل بالجمعة بطل الظهر.
فإن قلت: كيف لا يبطل الظهر إذا توضأ يريد الجمعة والطهارة من فروضها.
قلت: سلمنا أنها من فروضها ولكن ليست من الفروض المختصة بها، واعترض على أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بمسألة القارن، فإنه إذا وقف بعرفات قبل أن يطوف بعمرته يصير رافضا لها، ولو سعى إلى عرفات لا يصير به رافضا للعمرة. وأجيب بأن في العمرة روايتان ذكرهما أبو بكر الرازي: أحدهما: رافضا لعمرته بمجرد التوجه كما في السعي إلى الجمعة فلا يرد الاعتراض، والأخرى: أنه لا يكون رافضا لعمرته حتى يقف بها وهي الرواية المشهورة، ووجه الفرق أن الأمر وارد برفض الظهر بخلاف رفض العمرة، فإنه حرام، فلم تجز إقامة التوجه مقام الوقوف.
فإن قلت: الظهر قوي؛ لأنه حسن لمعنى في نفسه، والسعي ضعيف؛ لأنه بمعنى في غيره، فلا ينقض الضعيف القوي.
قلت: لما قام السعي مقام الجمعة اعتبر فيه صفة الجمعة لا صفة نفسه، كالتراب لما قام مقام الماء اعتبر فيه صفة الماء لا صفة نفسه، فلما قام مقام القوي صار هو قويا في نفسه.
فإن قلت: السعي الموصل إلى الجمعة مأمور به، والسعي الذي لا يدرك به الجمعة غير موصل فيجب أن لا تبطل به الظهر. قلت: الحكم به دائر بين الإمكان لكون الإمام في الجمعة، والإدراك ممكن في الجمعة بإنذار أهل إياه بالإدراك.
م: (فينزل منزلتها) ش: أي فإذا كان الأمر كذلك فنزل السعي منزلة الجمعة. م: (في حق ارتفاض الظهر احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط، إذ الأقوى يحتاط في إثباته، ما لا يحتاط في إثبات الأضعف. م: (بخلاف ما بعد الفراغ منها) ش: هذا جواب عن قياسهما، أي بخلاف إدراكه بعد فراغ الإمام من الجمعة. م: (لأنه ليس بسعي إليها) ش: أي إلى الجمعة فلا يبطل الظهر، وما قيل أن السعي المذكور في النص نفس الشيء لا المشي بصفة العدو والإسراع لا يخلو عن نظر، وهو موضع التأمل. وفي " العتبية ": سرعة المشي والعدو غير واجب عندنا وعامة الفقهاء، واختلف في استحبابه، والأصح أن يمشي على السكينة والوقار.

[صلاة المعذورين الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر]
م: (ويكره أن يصلي المعذورون الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكره لهم ذلك، بل هو أفضل كما في سائر الأيام، ولكنهم يخفونها حتى إن من رآهم لا يظنهم راغبين عن الإمام. وفي " الحلية " قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المستحب لأصحاب

(3/77)


وكذا أهل السجن، لما فيه من الإخلال بالجمعة، إذ هي جامعة للجماعات، والمعذور قد يقتدي به غيره بخلاف أهل السواد؛ لأنه لا جمعة عليهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأعذار أن يؤخروا الظهر بجماعة إلى فوات الجمعة ثم يصلونها، ولكن يجب عليهم إخفاؤها لئلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام.
وفي " شرح الوجيز " فيه وجهان: أحدهما: لا يستحب، لأن الجماعة في هذا اليوم الجمعة، وهو قول مالك وأبي حنيفة -رحمهما الله- وأصحهما أنه يستحب، وبه قال أحمد والثوري، ولو صلى المعذور ظهره في بيته ثم حضر وصلى الجمعة فجمعته تطوع في الجديد، وبه قال زفر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: يحتسب الله تعالى بأيتها شاء.
وفي " الغاية ": ولو صلى المعذورون الظهر أجزأهم، وكرهه الحسن وأبو قلابة كقولنا، وقال قوم: يصلون جماعة، روي ذلك عن ابن مسعود. وقال الثوري: وربما فعلته أنا والأعمش، وبه قال إياس بن معاوية وأحمد وإسحاق.
م: (وكذا أهل السجن) ش: أي وكذا يكره لأهل السجن إذا صلوا الظهر يوم الجمعة بجماعة، ورخص مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأهل السجن والمسافرين والمرضى أن يجمعوا، واختلف قوله في القديم: تفوتهم الجمعة، فحكى ابن القاسم عنه أنهم يصلون أفرادا أربعا. وفي " جوامع الفقه ": أصحاب الأعذار، ومن لا تجب عليه الجمعة إذا صلوا الظهر بلا أذان ولا إقامة فرادى من غير جماعة كان أحسن. وفي " خزانة الأكمل ": يصلي المعذور بأذان وإقامة في بيته. وفي " الولوالجي ": لا يؤذن ولا يقيم في السجن وغيره كصلاة الظهر. وفي " المبسوط ": لو صلى الإمام الظهر بأهل المصر جازت صلاتهم وقد أساءوا. وفي " المرغيناني ": إذا منع الإمام أهل المصر أن يجمعوا لا يجمعون، وقال أبو جعفر: هذا إذا منعهم باجتهاد، وأراد أن يخرج تلك البقعة أن تكون مصرا، فأما إذا نهاهم تعنتا أو إضرارا بهم، فلهم أن يجمعوا على من يصلي بهم، وزعم أبو إسحاق المروزي من الشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنها تصح على كلا القولين ولم يوافقوا عليه.
م: (لما فيه) ش: أي لما في الفعل المذكور وهو صلاة المعذورين الظهر بجماعة، وصلاة أهل السجن كذلك. م: (من الإخلال بالجمعة إذ هي جامعة للجماعات) ش: كلمة إذ للتعليل، وهي ترجع إلى الجمعة.
م: (والمعذور قد يقتدي به غيره) ش: أي غير المعذور فلا يذهب إلى الجمعة فيخل بالجمعة. م: (بخلاف أهل السواد) ش: وهم أهل القرى. م: (لأنه لا جمعة عليهم) ش: وكذا أهل المفاوز الذين يسقط عنهم شهود الجمعة، لأن يوم الجمعة في حقهم كسائر الأيام، وَيَعْرَى صُنْعُهُمْ عَنْ شُبَهِ مخالفة الإمام والسواد الأعظم. م: (وإن فعلوا ذلك) ش: أي وإن فعل المعذورون الصلاة بالجماعة.

(3/78)


ولو صلى قوم أجزأهم لاستجماع شرائطه.
ومن أدرك الإمام يوم الجمعة صلى معه ما أدركه وبنى عليها الجمعة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» ، وإن كان أدركه في التشهد أو في سجود السهو بنى عليها الجمعة عندهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو صلى قوم أجزأهم) ش: فعليهم ذلك. م: (لاستجماع شرائطه) ش: الضمير في شرائطه يرجع إلى الفعل الذي دل عليه قوله- فإن فعلوا - المراد بالفعل هو صلاتهم بالجماعة.

[حكم المسبوق في صلاة الجمعة]
م: (ومن أدرك الإمام يوم الجمعة صلى معه ما أدركه) ش: سواء أدركه في الركعة الأولى أو في الثانية.
م: (وبنى عليها الجمعة) ش: أي على ما أدركه كسائر الصلوات. م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا"، ولفظ الجميع فيه "فأتموا» ، ولفظ المصنف أخرجه أحمد في (مسنده) وابن حبان في (صحيحه) عن سفيان بن عيينة عن الزهري وغيره، وقال أبو داود: قال فيه ابن عيينة وحده: فاقضوا، وقال البيهقي: لا أعلم أحدا روى عن الزهري "فاقضوا" إلا ابن عيينة وحده وأخطأ.
قلت: في كل ما قالوا نظر، فقد رواه أحمد في (مسنده) عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به، وقال: فاقضوا، ورواه البخاري في كتابه المفرد في الأدب من حديث الليث عن الزهري به، وقال: فاقضوا، ومن حديث سليمان عن الزهري به نحوه، ومن حديث الليث عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد، وعن أبي هريرة كذلك، ورواه أبو نعيم في " المستخرج " عن أبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب عن الزهري به نحوه، فقد تابع ابن عيينة جماعة.
فإن قلت: هل فرق بين "أتموا" وبين "فاقضوا" في الاستدلال.
قلت: استدل ب "أتموا" من قال: إن الذي يدركه المأموم هو أول صلاته، واستدل ب "فاقضوا" من قال: إن الذي يدركه هو آخر صلاته.
وقال صاحب " التنقيح ": والصواب عدم الفرق، فإن القضاء هو الإتمام في عرف الشارع، قال الله تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] [البقرة الآية: 200] ، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10] .
م: (وإن كان أدركه في التشهد) ش: أي وإن أدرك الإمام حال كونه في التشهد. م: (أو في سجود السهو) ش: أي إذا أدرك الإمام حال كونه في سجود السهو. م: (بنى عليها الجمعة) ش: أي بنى على صلاة الإمام الجمعة، معناه يصلي ركعتين. م: (عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- وقال ابن المنذر: وهو قول النخعي، والحكم بن عتيبة وحماد وداود.

(3/79)


وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن أدرك معه أكثر الركعة الثانية بنى عليها الجمعة وإن أدرك أقلها بنى عليها الظهر؛ لأنه جمعة من وجه، ظهر من وجه، لفوات بعض الشرائط في حقه، فيصلي أربعا اعتبارا للظهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أدرك معه) ش: أي مع الإمام. م: (أكثر الركعة الثانية) ش: أراد بأكثر الركعة الثانية، أدرك في الركوع. م: (بنى عليها الجمعة) ش: أي على صلاة الإمام الجمعة، يعني يصلي ركعتين. م: (وإن أدرك أقلها) ش: أي أقل الركعة الثانية بأن أدرك بعد ركوع الثانية. م: (بنى عليها الظهر) ش: يعني بنى على الجمعة التي صلاها الإمام صلاة الظهر، يعني يصلي أربع ركعات، وبقول محمد قال الزهري وزفر والشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وجعل النووي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - معهم، وهو غلط.
وقال النووي في "شرح المهذب ": وإن أدركه بعدما رفع الإمام رأسه لم يدرك الجمعة بلا خلاف عندهم، وفي كيفية نيته وجهان، أحدهما ينوي الظهر لأنه الذي يؤديه به وأصحهما، وبه قطع الروياني في " الحلية " ينوي الجمعة موافقة للإمام. قلت: يبعد أن يصلي الظهر بنية الجمعة، وهذا لو نوى الظهر في الابتداء لا يصح، وعند أحمد على ما اختاره الحربي ينوي ظهرا، ولو نوى الجمعة لا يجزئه. وقيل: ينوي جمعة حتى يخالف الإمام.
فإن قلت: ذكر في المنافع والحواشي أنه ينوي الجمعة بالإجماع.
قلت: هو محمول على اتفاق أصحابنا، فكيف يكون إجماعا، وفيه خلاف للشافعية والحنابلة.
فإن قلت: كيف جعل الركوع أكثر الركعة الثانية؟
قلت: لأن الأصل في الصلاة الأفعال وأكثرها هو الركوع والسجود.
فإن قلت: لم يقل المصنف وإن أدرك معه الركعة الثانية.
قلت: لئلا يتوهم أنه إذا أدرك القيام يبني عليه الجمعة، وإلا فلا، فيكون هذا بيانا لثلاث مسائل، وهي إدراكه في القيام قبل القراءة، وفيه بعد القراءة، وفي الركوع وبيان أنه لو أدركه في القومة لا يبني على الجمعة لعدم إدراك الأكثر، والسجود الذي يأتي به مع الإمام لا يعتد به.
م: (لأنه جمعة من وجه، ظهر من وجه) ش: أما كونه جمعة من وجه فباعتبار ما وجد من شرائط الجمعة فيما أدرك التحريمة والجماعة والإمام، وأما كونه ظهرا من وجه فباعتبار ما عدم من الشرائط فيما يقضى كالجماعة والإمام. م: (لفوات بعض الشرائط في حقه) ش: أي في حق هذا الذي أدرك أقل الجمعة وهو الجماعة، والإمام كما ذكرنا. م: (فيصلي أربعا) ش: أي إذا كان كذلك يصلي أربع ركعات. م: (اعتبارا للظهر) ش: أي يعتبر اعتبارا لجانب الظهر.

(3/80)


ويقعد لا محالة على رأس الركعتين اعتبارا للجمعة،
ويقرأ في الأخريين لاحتمال النفلية، ولهما أنه مدرك للجمعة في هذه الحالة، حتى يشترط نية الجمعة وهي ركعتان، ولا وجه لما ذكره؛ لأنهما مختلفان فلا يبنى أحدهما على تحريمة الأخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويقعد لا محالة) ش: بفتح الميم، معناه هنا لا بد، والميم زائدة، فعلى هذا يجوز أن يكون المحيلة وهو الحيلة وأن يكون الحول وهو القوة والحركة، وعلى كل حال وزنها مفعلة. م: (على رأس الركعتين) ش: وهما اللتان الكاملتان للإمام. م: (اعتبارا للجمعة) ش: أي نظرا لجانب الجمعة، والحاصل أنه يعمل بالشبهين ولزوم القعدة الأولى، رواه الطحاوي عن محمد كما هو لازم للإمام، وفي رواية المعلى عنه لا تلزمه القعدة الأولى لأنها ظاهر من وجه فلا تكون القعدة الأولى واجبة. وقيل وجوبها للاحتياط.
قلت: فقال السرخسي: هذا الاحتياط لا معنى له، فإنه إن كان ظهرا فلا يمكنه بناؤها على تحريمة عقدها للجمعة، ولهذا لو دخل وقت العصر وهو في الجمعة يستقبل الظهر، ولا يبنيه على تحريمة الجمعة، وإن كان جمعة فالجمعة لا تكون أربعا، وفي " المرغيناني " روي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير أنه قال لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصير مؤديا للظهر بتحريمة الجمعة وقد جاءت به الآثار. وفي " المنتقى " مسافر أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى أربعا بالتكبير الذي دخل معه ولم يجده خلافا، وقالت طائفة: من لم يدرك الخطبة صلى أربعا، روي هذا القول عن عطاء وطاووس ومكحول ومجاهد، محكي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لفوات الشرط وهو الخطبة في حقه، قيل لابن سيرين: إن من لم يدرك الخطبة صلى أربعا وهو قول أهل مكة، فقال: ليس لهذا معنى.

م: (ويقرأ في الأخريين) ش: أي ويقرأ ما تجوز به الصلاة في الركعتين الأخريين اللتين يصليهما هذا المسبوق للاحتياط. م: (لاحتمال النفلية) ش: أي لاحتمال كون ما بين الركعتين نفلا؛ لأنا ذكرنا أن فيه شبهين، فكان في ذلك إعمال الدليلين، وهو أولى من إهمال أحدهما.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. م: (أنه) ش: أي أن هذا المدرك لأقل الركعة الثانية. م: (مدرك للجمعة في هذه الحالة) ش: وهي الحالة التي أدرك الإمام فيها. م: (حتى يشترط نية الجمعة) ش: حتى لو نوى غيرها لا يصح. م: (وهي ركعتان ولا وجه لما ذكره) ش: أي لا وجه لما ذكره محمد من قوله؛ لأنه جمعة من وجه ظهر من وجه ... إلى آخره. م: (لأنهما) ش: أي لأن الجمعة والظهر. م: (مختلفان) ش: حقيقة وحكما، لأن الجمعة ركعتان، فيشترط فيها ما لا يشترط في الظهر، والظهر أربع ركعات، فالأربع خلاف الاثنين، فإذا كان كذلك. م: (فلا يُبنى أحدهما على تحريمة الأخرى) ش: للاختلاف بينهما.
فإن قلت: فيما ذكراه تحريمة الجمعة مع عدم شرطها، وذلك فاسد. قلت: وجوده في حق

(3/81)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإمام جعل وجودها في حق المسبوق، كما في القراءة.
فإن قلت: ذكر المصنف قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» .
قلت: وهو حديث صحيح في معرض الاستدلال لأبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- فما وجه قوله بعد ذلك، ولهما أنه مدرك للجمعة إلخ.
قلت: لا مانع من ذلك؛ لأنه يجوز الاستدلال على مطلوب واحد بالمنقول والمعقول، بل هو أقوى، أو نقول: كان الأول استدلالا على ما إذا كان الذي أدركه أكثر، وذلك متفق عليه، فحينئذ ليس الاستدلال لهما فقط بل لهم جميعا، وكون الحديث يدل على المطلوب الثاني لهما أيضا لا ينافيه.
وهاهنا بحث ذكره الشراح، فقال السغناقي: واحتج من خالف، أراد من خالف أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبا يوسف في المسألة المذكورة بما روي عن الزهري بإسناده عن أبي هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى، فإن أدركهم جلوسا صلى أربعا» . وقال الأترازي: قال الشيخ أبو نصر البغدادي: ذكر الدارقطني أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك الإمام جلوسا قبل أن يسلم فقد أدرك الصلاة» . وقال صاحب " الدراية ": لهم -أي: لمحمد ومن تبعه- في المسألة المذكورة ما روى الزهري بإسناده عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى، وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا» .
وقال الأكمل أيضا: يعني ما ذكره صاحب " الدراية "، ثم أجاب السغناقي بقوله، قلنا: لا يصح التعليق بهذا الحديث، لأن لفظ الجمعة مع قوله وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا، إنما نقله ضعفاء أصحاب الزهري، هكذا قاله الحاكم الشهيد، وأما الثقات من أصحابه كمعمر والأوزاعي، ومالك روى عن الزهري: من أدرك ركعة من صلاة فقد أدركها، فأما إذا أدرك ما دونها، فما حكمه؟ فهو مسكوت عنه، فكان موقوفا على قيام الدليل، وقد قام، وهو ما روي من قوله- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما أدركتم فصلوا» ... " الحديث.
وأجاب الأترازي بما قاله السغناقي وزاد قوله والحديث مذكور في السير هكذا، وقال معمر عن الزهري: ما أرى الجمعة إلا من الصلاة، إن أدرك منها ركعة فقد أدركها، وإن أدرك ما دونها

(3/82)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صلى أربعا، ولو كان عنده نص في الجمعة لم يحتج إلى الرأي، ولئن صح عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قوله: «وإن أدركهم جلوسا» فمعناه أدركهم جلوسا بعد الصلاة قبل الانصراف، لأنه لم يقل في الصلاة، وأجاب الأكمل وصاحب " الدراية " أيضا بما ذكره السغناقي، وكل منهم لم يحرر الحديث، وقلد بعضهم بعضا، وليس هذا دأب شراح الكتب الموضوعة على الأحاديث النبوية، فنقول وبالله التوفيق: هذا الحديث له طرق:
منها ما رواه الدارقطني من حديث ياسين بن معاذ عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الركوع من الركعة الأخيرة فليصل الظهر أربعا» ، وياسين ضعيف متروك.
ومنها ما رواه الدارقطني أيضا من حديث سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: «إذا أدرك أحدكم الركعتين يوم الجمعة فقد أدرك، فإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى، وإن لم يدرك ركعة فليصل أربع ركعات» ، وهذا أيضا من رواية ياسين.
ومنها ما رواه الدارقطني أيضا من حديث سليمان بن أبي داود الحراني عن الزهري عن سعيد وحده مثل اللفظ الأول، وسليمان متروك.
ومنها ما رواه الدارقطني أيضا من حديث صالح بن أبي الأخضر عن أبي سلمة وحده نحو الأول، وصالح ضعيف.
ومنها ما رواه ابن ماجه: حدثنا محمد بن الصباح، أنبأنا عمر بن حبيب، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى» ، وعمر بن حبيب متروك، ورواه الدارقطني أيضا من رواية الحجاج بن أرطاة، وعبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة كذلك، ولم

(3/83)


وإذا خرج الإمام يوم الجمعة ترك الناس الصلاة والكلام حتى يفرغ من خطبته. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يذكروا كلهم الزيادة التي فيه من قوله «ومن لم يدرك الركعة الأخيرة فليصل الظهر أربعا» إلا لبدئه بإدراك الركوع، وأحسن طرق هذا الحديث رواية الأوزاعي على ما فيها من تدليس الوليد. وقد قال ابن حبان في "صحيحه": إنها كلها معلولة، وقال ابن أبي حاتم في " العلل " عن أبيه: لا أصل لهذا الحديث وله طرق أخرى من غير طريق الزهري، رواه الدارقطني من حديث داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وفيه يحيى بن راشد البراء وهو ضعيف. وقال الدارقطني في " العلل ": حديثه غير محفوظ.
وقد روي عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه عن سعيد بن المسيب، قوله: وهو أشبه بالصواب، وفي هذا الباب عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني من حديث شعبة، حدثني يونس بن الزبير عن الزهري، وأما قوله «من صلاة الجمعة» فوهم، وذكر الأترازي وقال: وروى خواهر زاده في "مبسوطه" عن أبي الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك الإمام في التشهد يوم الجمعة فقد أدرك الجمعة» ، انتهى
قلت: هذا ليس له أصل ولا ذكره أحد من أئمة الحديث، والعجب من الأترازي أن هذا طريق مظلم كيف يمشي عليه.
م: (وإذا خرج الإمام يوم الجمعة) ش: يعني إذا خرج من منزله أو من بيت الخطابة لأجل الخطبة، ويقال: المراد بخروجه صعوده على المنبر. م: (ترك الناس الصلاة والكلام حتى يفرغ من خطبته) ش: وبه قال مالك، وقيد بالكلام لأن الصلاة في هذين الوقتين تكره بالإجماع أي صلاة التطوع.
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال "المصنف": إذا خرج الإمام، إلى هنا من كلام القدوري، وأشار "المصنف" بأن هذا قول أبي حنيفة، وقال. م: (وهذا) ش: القول. م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وهذا الذي ذكره من كراهة الصلاة والكلام وقت خروج الإمام عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختلفوا على قوله، فقال بعضهم: يكره كلام الناس، أما التسبيح وأشباهه فلا يكره.
وقال بعضهم: يكره ذلك، والأول أصح، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصلي تحية المسجد في حال الخطبة، وبه قال أحمد.

(3/84)


وقالا: لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أن يخطب، وإذا نزل قبل أن يكبر؛ لأن الكراهة للإخلال بفرض الاستماع، ولا استماع هنا، بخلاف الصلاة، لأنها قد تمتد. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن المنذر: اختلفوا فيمن دخل المسجد والإمام يخطب، فقال الحسن: يصلي ركعتين، وبه قال مكحول وابن عيينة والمغيرة والشافعي وابن حنبل - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وإسحاق وأبو ثور وطائفة من المحدثين، وعندنا يجلس ولا يصلي.
قال ابن المنذر: وبه قال عطاء وصالح وعروة وقتادة والنخعي، وقال ابن حنبل - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إن شئت ركعت، وإن شئت جلست.
وقال الأوزاعي: إن كان ركعها في بيته ثم دخل المسجد والإمام يخطب قعد ولم يركع، وإن لم يكن، ركعها إذا دخل المسجد.
وقال ابن بطال في " شرح البخاري ": والمنع قول الجمهور من أهل العلم، وذكره ابن أبي شيبة عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

م: (وقالا: لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أن يخطب) ش: وبه قال الشافعي وأحمد -رحمهما الله- وفي "جوامع الفقه " عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يباح الكلام عند جلوسه إذا مكث، وعند محمد لا يباح، وقوله: "قبل أن يخطب" يتعلق بقوله: "لا بأس بالكلام"، لا بقوله: "خرج" لفساد المعنى.
م: (وإذا نزل قبل أن يكبر) ش: أي ولا بأس بالكلام أيضا إذا نزل الخطيب من المنبر قبل أن يكبر للصلاة.
م: (لأن الكراهة للإخلال بفرض الاستماع) ش: أي لأن كراهة الكلام لأجل الإخلال بفرض استماع الخطبة، وعند خروجه قبل الشروع في الخطبة، وعند نزوله قبل شروعه في الصلاة لا يلزم ذلك. م: (ولا استماع هنا) ش: أي ولا استماع للخطبة في الحالتين المذكورتين.
م: (بخلاف الصلاة لأنها قد تمتد) ش: أي قد تطول فيفضي إلى الإخلال ولا يمكن قطعها بخلاف الكلام، لأنه يمكن قطعه متى شاء.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله- عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام» ش: لم يتعرض أحد من الشراح لحال هذا الحديث غير أن الأترازي قال: روى خواهر زاده في "مبسوطه" عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام» . "
قلت: هذا غريب مرفوعا، ولهذا قال البيهقي: رفعه وَهْمٌ فاحش، إنما هو من كلام الزهري، رواه مالك في " الموطأ " عن الزهري، قال: خروجه يقطع الصلاة وكلامه يقطع

(3/85)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكلام، وعن مالك رواه محمد بن الحسن في "موطئه".
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن علي وابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا يكرهون الصلاة والكلام بعد خروج الإمام. وأخرج عن عروة قال: إذا قعد الإمام على المنبر فلا صلاة. وعن الزهري قال في الرجل يجيء يوم الجمعة والإمام يخطب يجلس ولا يصلي.
وقال في " المبسوط ": استدل أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد يكتبون القوم الأول فالأول، إلى أن قال: فإذا خرج الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر، وإنما يطوون الصحف إذا طوى الناس الكلام، فأما إذا كانوا يتكلمون فهم يكتبون، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] [سورة ق، الآية: 18] » انتهى.
وروى الطحاوي من حديث عوف بن قيس «عن أبي الدرداء أنه قال: "جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم الجمعة على المنبر يخطب الناس، فتلا آية وإلى جنبي أبي بن كعب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقلت له: يا أبي متى أنزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني حتى نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المنبر، قال: ما لك من جمعتك إلا ما لغوت، ثم انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجئته فأخبرته، فقلت: يا رسول الله إنك تلوت آية وإلى جنبي أبي بن كعب، فسألته: متى نزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني حتى إذا نزلت زعم أنه ليس لي من جمعتي إلا ما لغوت، فقال: صدق، فإذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى ينصرف» .
وأخرجه أحمد أيضا في "مسنده" نحوه، غير أن في لفظه «فأنصت حتى يفرغ".» وأخرج البيهقي من حديث عطاء بن يسار «عن أبي ذر، قال: "دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فجلست قريبا من أبي بن كعب فقرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سورة براءة، فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة؟ فحصر ولم يكلمني، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته، قلت لأبي: إني سألتك فنجهتني ولم تكلمني، فقال أبي: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فذهبت إلى النبي، فقلت: يا نبي الله كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة، فسألته: متى أنزلت هذه السورة؟ فنجهني ولم يكلمني ثم قال: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق أبي» .

(3/86)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم قال البيهقي: ورواه عبد الله بن جعفر عن شريك عن عطاء عن أبي الدرداء عن أبي بن كعب، وجعل القصة بينهما، ورواه حرب بن قيس عن أبي الدرداء وجعل القصة بينه وبين أبي، ورواه عيسى بن جارية عن جابر بن عبد الله، فذكر معناها بين ابن مسعود وبين أبي بن كعب، ورواه الحكم عن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، فجعل معنى هذه القصة بين رجل غير مسمى وبين ابن مسعود، انتهى.
قلت: هذا مرسل؛ لأن عطاء بن يسار لم يدرك أبا ذر، وأخرجه ابن ماجه بوجه آخر من حديث عطاء بن يسار «عن أبي بن كعب أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم فذكر بأيام الله، وأبو الدرداء وأبو ذر يغمزني، فقال: متى أنزلت هذه السورة، إني لم أسمع بها إلا الآن، فأشار إليه أن اسكت، فلما انصرفوا، قال: سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني، فقال أبي: ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت، فذهب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك وأخبره بالذي قال أبي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق أبي» .
وأخرج الطحاوي من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب يوم الجمعة فقرأ سورة، فقال أبو ذر لأبي بن كعب: متى نزلت هذه السورة؟ فأعرض عنه، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته قال أبي لأبي ذر: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فدخل أبو ذر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدق أبي» .
وأخرجه الطيالسي في "مسنده" والبيهقي في "سننه" من طريقه، وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" من حديث الشعبي «أن أبا ذر والزبير بن العوام سمع أحدهما من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يقرأ وهو على المنبر يوم الجمعة، قال: فقال لصاحبه: متى أنزلت هذه الآية؟ قال: فلما قضى صلاته قال له عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا جمعة لك، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له فقال: "صدق عمر ". - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.»
فإن قلت: يشكل على مسألة الصلاة حديث سليك الغطفاني، أخرجه الأئمة الستة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله «أن رجلا جاء يوم الجمعة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: صل ركعتين وتجوز فيهما، وزاد فيه مسلم وقال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب فليركع ركعتين، ويتجوز فيهما، وزاد فيه ابن حبان في "صحيحه "، وقال له: لا تعذر لمثل ذلك» قال ابن حبان: يريد الإبطاء لا الصلاة، بدليل أنه جاز في الجمعة الثانية نحوه، فأمره بركعتين مثلهما.

(3/87)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أجيب عنه بأجوبة: أحدهما: أن حديث سليك هذا محمول على ما قبل النهي عن الكلام في الخطبة، وكان الكلام مباحا في الصلاة والخطبة أيضا. والثاني: أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان إماما وخطيبا، فلا بأس له أن يتكلم، لأنه يخطب والخطبة من أولها إلى آخرها كلام. الثالث: أنه كان قبل الأمر بالاستماع والإنصات المأمورين.
الرابع: يحتمل أنه كان أمره بذلك بعد قطع الخطبة لإرادة تعليمه الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف خطبته بعد ذلك.
فإن قلت: روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه كان إذا نزل عن المنبر يسأل الناس عن حوائجهم وعن أسعار السوق ثم يصلي» وعن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا إذا صعدا المنبر يسألان الناس عن أسعار السوق.
قلت: حديث أنس كان في ابتداء الإسلام حين كان الكلام مباحا في الصلاة، وأما حديث عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فمعارض بحديث ابن عمر وابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا نمير عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما كانا يكرهان الكلام والصلاة يوم الجمعة بعد خروج الإمام، وقال ابن عبد البر: كان ابن عباس وابن عمر يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام، ولا مخالف لهما.
فإن قلت: جاء في الحديث أن الدعاء يستجاب وقت الإقامة في يوم الجمعة، فكيف يسكت عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قلت: يقرأ الدعاء بقلبه لا بلسانه، ثم إذا اشتغل الإمام بالخطبة ينبغي للمستمع أن يجتنب بما يجتنب في الصلاة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] [الأعراف، الآية: 204] وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» وهذا الحديث رواه أبو هريرة وأخرجه عنه الأئمة الستة ما خلا الترمذي، فإذا كان كذلك يكره له رد السلام وتشميت العاطس، إلا في القول الجديد للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يرد ويشمت، قال شيخ الإسلام: والأصح أنه يشمت، والاستماع من أول الخطبة إلى آخرها وإن كان فيها ذكر الولاة والديوان من الإمام.
وفي "المجتبى": قيل: وجوب الاستماع مخصوص بزمان الوحي، وقيل: في الخطبة الأولى دون الثانية لما فيها من مدح الظلمة. وعن أبي حنيفة: إذا سلم عليه يرد بقلبه، وعن أبي يوسف: يرد السلام ويشمت العاطس فيها، وعن محمد: يرد ويشمت بعد الخطبة، وقيل: الإشارة بيده ورأسه عند رؤية المنكر يكره، والأصح أنه لا بأس به، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذكره- عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قلبه.
واختلف المتأخرون فيمن كان بعيدا لا يسمع الخطبة، فقال محمد بن سلمة: المختار السكوت

(3/88)


من غير فصل، ولأن الكلام قد يمتد طبعا فأشبه الصلاة،
وإذا أذن المؤذنون الأذان الأول ترك الناس البيع والشراء وتوجهوا إلى الجمعة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية 9)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو الأفضل، وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال نصر بن يحيى: يسبح ويقرأ القرآن، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأجمعوا على أنه لا يتكلم، وقيل: الاشتغال بالذكر وقراءة القرآن أفضل من السكوت، وأما رواية الفقه والنظر في كتب الفقه وكتابته، فقيل: يكره، وقيل: لا بأس به.
وقال شيخ الإسلام: الاستماع إلى خطبة النكاح والختم وسائر الخطب واجب، وفي " الكامل ": ويقضي الفجر إذا ذكره في الخطبة، ولو تغدى بعد الخطبة أو جامع فاغتسل بعد الخطبة، وفي الوضوء في بيته لا يعيد، ولو صلى ركعتين فالأحسن أن يعيدهما، ويستحب ذكر الخلفاء الراشدين. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يستقبل الإمام فإذا استقبل بالخطبة انحرف إليه واستقبله، ويستحب أن يقعد فيها كما يقعد في الصلاة لقيامها مقام ركعتين، ولا بأس بأن يقعد محتبيا لأنه ينتظر الصلاة، وقيل يقعد كيف شاء، والنوم مكروه فيها إلا إذا غلبت عيناه.
م: (من غير فصل) ش: أي بين أن يكون ترك الصلاة والكلام إذا خرج قبل أن يخطب وبين أن يكون تركهما بعد أن يخطب. م: (ولأن الكلام قد يمتد طبعا) ش: هذا دليل من جهة العقل، وجواب عما قالا إن الصلاة قد تمتد والكلام لا يمتد لأنه يمكن قطعه، وتقريره أن الكلام قد يمتد من حيث طبيعة الإنسان وإن كان في نفس الأمر يقدر على قطعه. م: (فأشبه الصلاة) ش: يعني عند امتداده طبعا يشبه امتداد الصلاة شرعا فصار في المنع سواء.

[البيع والشراء بعد أذان الجمعة الأول]
م: (وإذا أذن المؤذنون الأذان الأول) ش: ذكر المؤذنين بلفظ الجمع، وإن كان لا يحتاج إليه إخراجا للكلام مخرج العادة، فإن المتوارث اجتماع المؤذنين لتبليغ أصواتهم إلى أطراف المصر الجامع، وأراد بالأذان الأول الأذان الذي يؤذن على المئذنة، وهو الأذان الذي أحدث على الزوراء في عهد عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينكره أحد من المسلمين، وفي " المحيط ": الزوراء المئذنة، وفي " البدائع ": اسم المنارة، قال: وقيل: اسم موضع بالمدينة.
وقال ابن بطال: الزوراء حجر كبير عند باب المسجد. وقال البخاري: الزوراء موضع بالسوق في المدينة، وفي " المغرب ": الأزور من الرجال الذي مال أحد شقي صدره وبمؤنثه سميت دار عثمان بالمدينة، ومنه قولهم: حديث الأذان بالزوراء.
م: (ترك الناس البيع والشراء، وتوجهوا إلى الجمعة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] [الجمعة الآية: 9] ) ش: في " تفسير المنتقى ". {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فامضوا إليه واعملوا

(3/89)


وإذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يدي المنبر، بذلك جرى التوارث ولم يكن على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا هذا الأذان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
له وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقرأ: "فامضوا إلى ذكر الله"، وعنه: ما سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قط يقرأها إلا "فامضوا إلى ذكر الله"، وروى الأعمش عن إبراهيم: كان عبد الله يقرأها: "فامضوا إلى ذكر الله"، ويقول: لو قرأتها فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي وهي قرابة أبي العالية، وعن الحسن ليس السعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا المسجد إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع.
وعن قتادة أن تسعى بقلبك وعملك وهي المشي إليها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السعي في هذا الموضع هو العمل، قال الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] [الليل، الآية: 4] وقال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] [النجم، الآية: 39] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة، الآية: 9] ، إلى موعظة الإمام، وقيل: إلى الخطبة والصلاة.
قوله {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] [الجمعة، الآية: 9] ، يعني البيع والشراء، لأن البيع يتناول المعنيين، وإنما خص البيع من بين ما يذهل عن ذكر الله من سوى على الدنيا، لأن يوم الجمعة تهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم وينصبون إلى المصر من كل أوب فيوقت هبوطهم واجتماعهم واعتضاض الأسواق بهم إذا انفتح النهار وتعالى الضحى وفي وقت الظهيرة، وحينئذ تجر التجارة، ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت يبطله الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى مسجد الله، قيل لهم أدوا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله لا شيء أنفع منه وأربح وذروا البيع الذي نفعه يسير وربحه مقارب، قوله "ذروا" من يذر الدعوى من يدع، وأما ثور يذر ويدع إلا ما جاء في قراءة شاذة "وما ودعك ربك" بالتخفيف.
م: (وإذا صعد الإمام المنبر جلس) ش: بكسر الميم من المنبر وهو الارتفاع، والقياس فيه فتح الميم على ما عرف في موضعه. م: (وأذن المؤذنون بين يدي المنبر) ش: هذا هو الأذان الأصلي الذي كان في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من بعده، ثم حدث الأذان الآخر وهو الأذان الأول في عهد عثمان كما ذكرنا. م: (بذلك) ش: أي بالأذان بين يدي المنبر بعد الأذان الأول على المنارة.
م: (جرى التوارث) ش: من زمن عثمان بن عفان إلى يومنا هذا. م: (ولم يكن على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا هذا الأذان) ش: أي الأذان الذي يؤذن بين يدي المنبر حين صعد الإمام المنبر، لما روى البخاري من حديث السائب بن يزيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال «: كان البداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فلما أن كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكثر الناس زاد النداء على الزوراء» كما ذكرناه، وعن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو أذان المنارة؛ لأنه لو اشترطوا الأذان عند المنبر يفوته أداء السنة وسماع الخطبة، وربما يفوته أداء الجمعة إذا كان المصر بعيد الأطراف.

(3/90)


ولهذا قيل هو المعتبر في وجوب السعي وحرمة البيع، والأصح أن المعتبر هو الأول إذا كان ذلك بعد الزوال لحصول الإعلام به، والله أعلم. وإذا فرغوا من خطبته أقاموا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا قيل: هو المعتبر في وجوب السعي وحرمة البيع) ش: أي ولكن الأذان الأصلي الذي كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين يدي المنبر، قال بعضهم - وهو الطحاوي - هو المعتبر في وجوب السعي إلى الجمعة على المكلف، وفي حرمة البيع والشراء، وفي " فتاوى العتابي " هو المختار، وبه قال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأكثر فقهاء الأمصار، ونص في المرغيناني و" جوامع الفقه " أنه هو الصحيح.
وقال ابن عمر: الأذان الأول بدعة، ذكر ابن أبي شيبة في "سننه" عنه، وقال الأترازي: قوله في وجوب السعي وحرمة البيع فيه نظر، لأن البيع وقت الأذان جائز لكنه يكره، وبه صرح في " شرح الطحاوية "، وهذا لأن النهي في معنى لغيره لا يعدم المشروعية.
قلت: فيه اختلاف العلماء، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يجوز البيع مع الكراهة، وهو قول الجمهور، وقال مالك وأحمد والظاهرية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - البيع باطل.
وفي " المحلى " يصح البيع إلا أن.... الصلاة ولا يصح بخروج الوقت، ولو كان بين كافرين ولا يحرم نكاح ولا إجارة ولا سلم، وقال مالك: كذلك في البيع الذي فيه سلم، وكذا في النكاح والإجارة والسلم، وأباح الهبة والقرض والصدقة، وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يصح البيع يوم الجمعة حين ينادى للصلاة، وفي بقية العقود غير البيع وجهان عند الحنابلة.
وذكر أبو بكر الرازي عن مسروق والضحاك ومسلم بن يسار أن البيع يحرم بزوال الشمس، قال مجاهد والزهري بالنداء، واعتبار الوقت أولى إذ يجب عليهم الحضور بدخول الوقت فلا يسقط عنهم تأخير النداء، ولهذا لم يكن للنداء قبل الزوال معنى. وقال السروجي: ينبغي أن يحرم البيع والشراء قبل الزوال أيضا إذا كان منزله بعيدا عن الجامع بحيث تفوت عليه صلاة الجمعة.
م: (والأصح أن المعتبر هو الأول) ش: أي الأذان الأول. م: (إذا كان ذلك بعد الزوال لحصول الإعلام به) ش: أي بالأذان الأول، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي وإسحاق بن زياد، وفي " المبسوط ": الأصح أن كل أذان يكون قبل الزوال فذلك غير معتبر، والمعتبر أول الأذان بعد زوال الشمس، سواء كان على المنبر أو على النور. قلت: هذا الذي ذكره موافق رواية "الهداية "، وهذا أوفق وأحوط.
م: (وإذا فرغ من خطبته أقاموا) ش: أي فإذا فرغ الإمام من خطبته أقاموا الصلاة كسائر الصلوات المفروضة، ولو سمع النداء قبل العشاء إذا خاف فوت الجمعة يتركه بخروج وقت

(3/91)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المكتوبة بخلاف الجماعة في سائر الصلوات.
فروع: لو خطب واحد وصلى غيره جاز عندنا، وهو قول مالك وأحمد -رحمهما الله- وأحد قولي الشافعي وأحمد -رحمهما الله- وصلى غيره جاز عندنا، وعندهما لا يصح، لو استدبروا الإمام في الخطبة صح، وقد أساءوا. لا يصح في أحد الوجهين للحنابلة، وكذا لو كان عكس كلمات الخطبة بأن صلى على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم وعظ ثم حمد وأثنى على الله في أحد الوجهين عندهم.
وفي " المبسوط " يستحب للقوم أن يستقبلوا الإمام عند الخطبة، وعن أبي حنيفة أنه كان إذا فرغ المؤذن من أذانه أدار وجهه إلى الإمام وكان ابن عمر وأنس يستقبلان الإمام إذا خطب وهو قول شريح وعطاء وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وسعيد بن جبير والشافعي وأحمد وإسحاق، قال ابن المنذر: وهذا كالإجماع.
قلت: لكن اليوم يستقبلون القبلة للحرج في تسوية الصفوف لكثرة الزحام، وقال النووي: يكره في الخطبة ما يفعله الخطباء من الدق بالسيف على درج المنبر في صعوده، فإنه بدعة لا أصل له، وكذا الدعاء على المنبر قبل جلوسه، وكذا المجازفة في السلاطين والدعاء لهم، وكذا كذبهم في قولهم السلطان العالم العادل.
وأجمعوا أن القراءة بالحمد في الجمعة، وفي " التحفة " وغيرها: لا يقرأ فيها قدر ما يقرؤه في الظهر؛ لأنها بدل منه، وإن قرأ في الجمعة " {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] " كان حسنا تبركا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمواظبة عليها مكروهة لهجران باقي القرآن وإيهام العامة أن ذلك بطريق الحتم والوجوب. وفي " الواقعات " والمرغيناني: لا بأس بالتخطي والدنو من الإمام إذا لم يضر الناس، وقال الفقيه أبو جعفر: لا بأس به إذا لم يأخذ الإمام في الخطبة، ويكره إذا أخذ فيها وهو قول مالك. وقال قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه، وقال الأوزاعي: يتخطاهم إلى البعيد، وقال الشافعي: الخطى إليها بواحد أو اثنين لا بأس به، وأكره الكثير إلا أن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بالتخطي فيسعه، ومنهم من أباحه بإذنهم.
وقال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك؛ لأن الثقيل من الأذى والكثير مكروه، وكره ذلك أبو

(3/92)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هريرة وابن المسيب وعطاء، واختلفوا في الدنو من الإمام أفضل أو التباعد، قيل: التباعد أفضل لئلا يسمع الظلمة والدعاء لهم، قال الحلواني: الصحيح أن الدنو منه أفضل، اختلفوا في الصف الأول، كان أصحاب ابن مسعود يرون أن الصف الأول ما يلي المقصورة؛ لأنهم كانوا يمنعون العامة من دخول المقصورة، فكان في ذلك احتراز فضيلة الصف الأول في حق العامة، أما في زماننا فلا يمنع، ومن الصف الذي يلي الإمام ذكره في " خزانة الأكمل " وغيره.
اختلفوا فيمن لم يقدر على السجود على الأرض من الزحام، فكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: يسجد على ظهر أخيه، رواه البيهقي بإسناد صحيح، وبه قال أصحابنا والثوري والشافعي، وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال عطاء والزهري: يمسك عن السجود، فإذا رفعوا سجد، وعندنا لو فعله جاز، وعند الشافعية سجوده على ظهر أخيه واجب في الصحيح.
ونقله النووي عن أبي حنيفة وهو وهم، وقال مالك: تفسد الصلاة إن فعل ذلك، وقال نافع: يومئ إيماء، وفي المرغيناني: ينظر حتى يقوم الناس، فإذا وجد فرجة سجد، ولو سجد على ظهر رجل ساجد على ظهر رجل ساجد آخر لم يجز، وكذا لو وجد فرجة، ومع هذا سجد على ظهر رجل لم يجز، ولو ركع ركوعين مع الإمام فيها ولم يسجد بكثرة الزحام حتى فرغ الإمام.
قال أبو حنيفة: يسجد سجدتين للركعة الأولى ويلغي الثانية ويقضيها، وإن نواها عن الثانية بطلت نيته وكانت للركعة الأولى. قال أبو جعفر: على أحد الروايتين عن علمائنا، وعلى الرواية الأخرى تكون السجدتان للثانية.
وقال أبو جعفر: إن ركع مع الإمام في الأولى ولم يسجد وركع معه في الثانية وسجد، فالثانية تامة ويقضي الأولى ركوعا وسجودا.
اختلفوا فيمن زحم في الجمعة عن الركوع والسجود متى فرغ الإمام، فعندنا يصلي ركعتين؛ لأنه أدرك أول الصلاة فهو الأحق، كما لو نام خلفه وهو قول الحسن البصري والأوزاعي والنخعي وأحمد، وقال قتادة وأيوب السجستاني والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأبو ثور: يصلي أربعا. وقال مالك: أحب إلي أن يصلي أربعا.
وفي " المبسوط ": الصحيح عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد جواز الجمعة في مصر واحد في موضعين وأكثر، وفي "جوامع الفقه " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، والأظهر عنه عدم الجواز في الموضعين، فإن فعلوا فالجمعة للأوليين، وإن وقعتا معا أو جهلت فسدتا. وفي " قنية المنية ": لما ابتلي أهل مرو بإقامة الجمعتين بها مع اختلاف العلماء في جوازهما أمر.... بأداء الأربع بعد الجمعة احتياطا.
واختلفوا في نيتها، قيل: ينوي ظهر يومه، وقيل: آخر ظهر عليه، والأحسن وقيل الأحوط

(3/93)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يقول نويت آخر ظهر أدركت وقته ولم أصله بعد، وقال الحسن: اختياري أن يصلي الظهر بهذه النية ثم يصلي أربعا بنية السنة. ثم اختلفوا في القراءة، قيل: يقرأ الفاتحة والسورة في الأربع، وقيل: في الأوليين كالظهر.
اختلفوا في سبق الجمعة بما إذا يعتبر إذا اجتمعتا في مصر واحد، فقيل بالشروع، وقيل بالفراغ، وقيل بهما، والأول أصح، وعند المالكية والحنابلة قيل بالإحرام، وقيل بالسلام، ذكرهما في " الذخيرة " و" شرح الهداية " لأبي البقاء، وقال: فإذا بطلتا يندب إلى أن يجتمعوا في مكان واحد فصلوا الجمعة، قال: وقيل الظهر وهو ضعيف ويكره بعد الزوال يوم الجمعة ولا يكره قبله، وفي " شرح الأقطع ": لا يكره قبله وبعده، وفي " النوادر " أن يسافر يوم الجمعة قبل الصلاة من غير فصل، وفي " المبسوط ": لا يجوز السفر بعد الزوال يوم الجمعة عند الشافعية، وكذا عند المالكية ذكره في " الذخيرة" للقرافي.
قال أبو مطيع: لا يحل للرجل أن يعطي سؤال المسجد، وفي " فتاوى قاضي خان " قال أبو نصر: من أخرجهم من المسجد أرجو أن يغفر له، وقال بعض العلماء: من تصدق بفلس في المسجد ثم تصدق بعد ذلك بأربعين، قلنا لم يكن كفارة لذلك الفلس، وعن خلف بن أيوب أنه قال: لو كنت قاضيا لا أقبل شهادة من تصدق على هؤلاء في المسجد الجامع، وعن أبي بكر بن إسماعيل أنه قال: هذا فلس يحتاج إلى سبعين مثله كفارة له، ولكن تصدقوا قبل أن تدخلوا المسجد أو بعد الخروج منه. وعن ابن المبارك قال: يعجبني أن السائل إذا سأل لوجه الله تعالى لا يعطى له شيئا؛ لأن الدنيا ومتاعها حقير فإذا سأل بوجه الله فقد عظم ما حقره فلا يعطى له زجرا، وقال الصدر الشهيد: إن السائل إذا كان لا يمر بين يدي المصلي ولا يتخطى رقابا ولا يسأل إلحافا ولا يسأل لأمره لا بد له منه فلا بأس بالسؤال والإعطاء خير.
وفي "المجتبى": يستحب لمن حضر الجمعة أن يغتسل ويدهن ويمس طيبا إن وجده، ويلبس أحسن ثيابه إن كان له، ويستحب الثياب البيض، وكره الغزالي وأبو طالب المكي لبس السواد، وخالفهما الماوردي «لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خطب وعليه عمامة سوداء.» «ودخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء» وعلى علي بن أبي طالب وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عمامة سوداء يوم قتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأحدث بنو العباس لبس السواد شعارا لهم لأن الراية التي عقدت للعباس يوم الفتح ويوم خيبر كانت سوداء.

(3/94)