البناية شرح الهداية

باب صلاة الكسوف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة الكسوف] [عدد ركعات صلاة الكسوف وكيفيتها]
م: (باب صلاة الكسوف) ش: أي هذا باب في بيان صلاة الكسوف، وجه المناسبة بين البابين من حيث إنهما يؤديان بالجماعة في النهار بغير أذان ولا إقامة، وآخرها من العيد، لأن صلاة العيد واجبة على الأصح كما ذكرناه فيما مضى، والتناسب بين هذه الأبواب الثلاثة أعني باب صلاة العيد والكسوف والاستسقاء ظاهر وأوردها حسب رتبها، وقدم العيد لكثرة وقوعها، وكذلك قدم الكسوف على الاستسقاء لهذا، ولأن للإنسان حالتين حالة السرور والفرح، وحالة الحزن والفزع، فقدم حالة السرور على حالة الفزع.
يقال: كسفت الشمس والقمر، بفتح السين فيهما، وكسفا على ما لم يسم فاعله، وانكسفا الكسوف اللازم، والكسف المتعدي، وأخسفا وانخسفا فهي ست لغات في الشمس والقمر وقيل الكسوف أوله والخسوف آخره فيهما، لأنه يقال انخسفت الأرض إذا ساحت ما عليها، وهو أقوى من الكسف.
قال النووي: وقد جاءت اللغات الست في " الصحيحين " والأشهر في سنة الفقهاء تخصيص الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر وهو الأفصح، وقيل: لا يقال في الشمس إلا خسف، وفي القمر إلا كسف، والقرآن يرده، وقيل الخسوف في الكل، والكسوف في القمر فقط، وقال الليث: الخسوف فيهما والكسوف في الشمس فقط، وقال ابن دريد: خسف القمر وانكسفت الشمس، وقال الفراء في " الأجود ": كسفت الشمس وخسف القمر، وقيل العكس، وقيل: هما سواء، وقيل: الكسوف تغير لونها والخسوف تغيبها في السواد.
وأصل الكسوف التغير، ومنه كسف البال أي تغير الحال، والخسوف الذهاب بالكلية، ومنه قَوْله تَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] ، ولما كان القمر يذهب ضوؤه كان أولى بالخسف.
قال شمس الأئمة السرخسي في " المبسوط ": عاب أهل الأدب على محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في لفظه كسوف على القمر، وقالوا: إنما يقال خسوف القمر، كقوله وخسف القمر، قال: قلنا الكسوف ذهاب دائرته، والخسوف ذهاب دون دائرته، وقيل: الكسوف والخسوف تغيره والخسوف ذهاب لونه.
قلت: قد مر أن الكسوف والخسوف فيهما لا يعاب عليه، وقال السغناقي: كسفت الشمس كسوفا ويكسفها الله كسفا يتعدى ولا يتعدى، قال الشاعر:
الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمر

(3/135)


قال: وإذا انكسفت الشمس صلى الإمام بالناس ركعتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي ليست تكسف ضوء النجوم مع طلوعها، ولكن لقلة ضوئها وبكائها عليك لم يظهر لها نور، وكذلك كسف القمر، إلا أن الأجود فيه أن يقال خسف القمر، وذكر الإمام جمال الدين الأديب في شرح الأبيات يرثي جريرة هذا عمر بن عبد العزيز، ومعنى قوله " تبكي ": أي تغلبت النجوم في البكاء، يقال بكيته فبكيته، أي غلبته في البكاء، وروي " النجوم " بالرفع والنصب، فعلى تقدير الرفع كان الواو في والقمر بمعنى مع والألف للإشباع.

م: (قال: وإذا انكسفت الشمس صلى الإمام بالناس ركعتين) ، ش: أصل مشروعية صلاة الكسوف بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] (الإسراء: الآية 59) ، والكسوف آية من الآيات المخوفة، والله تعالى يخوف عباده ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى الطاعة التي فيها فوزهم.
وأما السنة فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأيتم شيئا من هذا الإفزاع فافزعوا إلى الصلاة» .
وأما الإجماع فإن الأمة قد اجتمعت عليها من غير إنكار أحد ثم يحتاج بعد هذا إلى معرفة ستة أشياء، سبب شرعيتها وهو الكسوف، لأنها تضاف إليه ويتكرر بتكرره وشرط جوازها ما اشترط لسائر الصلاة. وصفتها وهي سنة وليست بواجبة على الأصح، وقال بعض مشايخنا إنها واجبة للأمر بها، ونص في " الأسرار " على وجوبها وكيفية أدائها بالجماعة، ولكن اختلفوا فيها كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
وموضع صلاته أنه يصلي في المسجد الجامع أو في مصلى العيد ووقتها هو الوقت الذي يستحب فيه سائر الصلاة دون الأوقات المكروهة، وبه قال مالك. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكره في الأوقات المكروهة، فقوله ركعتين. وفي " المحيط " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن شاءوا صلوا ركعتين، وإن شاءوا صلوا أربعا.
وفي " البدائع " و " المفيد " و " التحفة " و " العتيبة ": إن شاءوا صلوها ركعتين وإن شاءوا أربعا، وإن شاءوا أكثر من ذلك، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والجماعة فيها أفضل، فلذلك قال: يصلي الإمام بالناس، ويجوز فرادى، ذكره في " المحيط "، وفي " الذخيرة " الجماعة فيها سنة ويصلي بهم الإمام الذي يصلي الجمعة والعيدين. وفي المرغيناني: يؤمهم فيها إمام حيهم بإذن السلطان، لأن اجتماع الناس ربما أوجب فتنة وضلالا ولا يصلون في مساجدهم بل يصلون جماعة واحدة.

(3/136)


كهيئة النافلة في كل ركعة ركوع واحد. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ركوعان، له رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كهيئة النافلة) ش: بغير أذان ولا إقامة، م: (في كل ركعة ركوع واحد) ، ش: مثل صلاة الفجر والجمعة، وبه قال النخعي والثوري وابن أبي ليلى، وهو مذهب عبد الله بن الزبير، رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس.
م: (وقال الشافعي: ركوعان) ، ش: أي في كل ركعة ركوعان، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وعن أحمد وإسحاق يركع في كل ركعة ثلاث ركوعات، وحكى ابن المنذر عن حذيفة وابن عباس في كل ركعة ثلاث ركوعات.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خمس ركوعات، وعن إسحاق يجوز في كل ركعة ركوعات ثلاثة وأربعة، لأنه ثبت ذلك كله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال العلاء بن زياد: لا يزال يركع ويقوم ويراقب الشمس حتى تنجلي. وفي " البدائع " قال أبو منصور: اختلاف الروايات محمول على النسخ دون التخيير لاختلاف الأئمة، ولو كان على التخيير لما اختلفوا.
م: (له) ، ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) ، ش: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المسجد فقام فكبر فصف الناس وراءه فقرأ قراءة طويلة ثم ركع فركع ركوعا طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك فاستكمل أربع ركعات وأربع تحيات فانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» .
وأخرج البخاري ومسلم أيضا عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - فذكر نحو حديث عائشة، وأخرجا أيضا نحوه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وحديث الثلاث ركعات في كل ركعة أخرجه مسلم عن عطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى ست ركعات بأربع سجدات» وأخرجه أيضا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وعن ابن عباس بنحوه.
وحديث الأربع ركعات في كل ركعة، أخرجه مسلم عن طاووس «عن ابن عباس أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى في الكسوف فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع ثم سجد» . وعن علي مثل

(3/137)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك.
وحديث الخمس ركعات في كل ركعة، أخرجه أبو داود في " سننه " من حديث أبي بن كعب أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم في كسوف الشمس، فقرأ سورة من الطوال وركع خمس ركعات وسد سجدتين وفعل في الثانية مثل ذلك، ثم جلس يدعو حتى ينجلي كسوفها» وفي إسناده أبو جعفر الرازي، واسمه عيسى بن عبد الله بن هامان فيه مقال، وذكر أبو عمر وابن حزم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في كسوف عشر ركعات في أربع سجدات، وروى أبو داود «عشر ركعات في كل ركعة» .
ثم صورة هذه الصلاة عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما ذكره في " شرح الوجيز " أقل هذه الصلاة أن يحرم بنية صلاة الكسوف ويقرأ الفاتحة ويركع ثم يرفع رأسه ويقرأ الفاتحة ثم يركع ثم يسجد ثم يفعل كذلك في الركعة الثانية، وكلاهما أن يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة سورة البقرة أو بقدرها ثم يركع ويسبح بقدر مائة آية ثم يرفع رأسه ويقرأ في القيام الثاني مقدار مائتي آية من سورة البقرة، ثم يركع ويسبح بقدر ثمانين آية، ثم يرفع رأسه ويقرأ ويسجد كما يسجدها في غيرها.
وقال ابن شريح: يطيل السجود على حسب ما قبله من الركوع، وقال غيره: لا يطيل بل هو كالسجود في سائر الصلاة والأول أصح ثم يقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة مائة وخمسين آية، ثم يركع ويسبح بقدر سبعين آية ثم يرفع رأسه ويقرأ بعد الفاتحة بقدر مائة آية ثم يركع ويسبح بقدر خمسين آية، ثم يركع ويسجد، وهذا اختيار المزني وقول صاحب " الحلية ".
وقال السغناقي: في صورة صلاة الكسوف عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقوم في الركعة الأولى ويقرأ فيها بفاتحة الكتاب وسورة البقرة إن كان يحفظها، وإن كان لا يحفظها يقرأ غير ذلك مما بعدها، ثم يركع ويمكث في ركوعه مثلما يمكث في قيامه، ثم يرفع رأسه ويقوم ويقرأ سورة آل عمران إن كان يحفظها، وإن كان لا يحفظها يقرأ غير ذلك مما بعدها ثم يركع ثانيا ويمكث في ركوعه مثلما يمكث في قيامه هذا، ثم يرفع رأسه ثم يسجد سجدتين ثم يقوم فيمكث في قيامه ويقرأ فيه ما يقرأ في القيام الثاني في الركعة الأولى فيمكث في ركوعه مثلما يمكث في هذا القيام ثم يقوم ويمكث في مقامه مثلما يمكث في الركوع ثم يرفع رأسه ويقوم مثل ثلثي قيامه في القيام الأول من هذه الركعة الثانية، ثم يسجد سجدتين وتتم الصلاة، كذا في " المحيط ".

(3/138)


ولنا رواية سمرة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر في " الخلاصة الغزالية ": فإذا كسفت الشمس في وقت مكروه أو غير مكروه يؤدي الصلاة جماعة وصلى الإمام بالناس في المسجد ركعتين وركع في كل ركعة ركوعين أوائلها أطول من أواخرها، ثم ذكر قراءة الطوال الأربع، ثم قال: وسبح في الركوع الأول قدر مائة آية، وفي الثانية قدر ثمانين، وفي الثالثة قدر سبعين، وفي الرابع قدر خمسين آية.

م: (ولنا رواية سمرة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ، ش: في أكثر النسخ، ولنا رواية ابن عمر ولم يذكر سمرة - أما حديث سمرة بن جندب، فما أخرجه أبو داود حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الأسود بن قيس حدثني ثعلبة بن عباد العبدي ثم من أهل البصرة أنه شهد خطبة يوما لسمرة بن جندب قال: «قال سمرة بن جندب: بينما أنا وغلام من الأنصار نرمي غرضين لنا حتى إذا كانت الشمس قيد رمح أو رمحين أو ثلاثة في عين الناظر من الأفق اسودت حتى آضت كأنها تَنُّومَة، فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد، فوالله ليحدثن شأن هذه الشمس لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمته حدثا قال: فدفعنا فإذا هو بارز فاستقدم فصلى فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا. قال: ثم ركع بنا كأطول ما ركع بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا، ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، قال: فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية، قال: ثم سلم ثم قام فحمد الله وأثنى عليه وشهد أن لا إله إلا الله وشهد أنه عبده ورسوله» ثم ساق أحمد بن يونس خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخرجه النسائي أيضا مطولا ومختصرا.
وأخرجه ابن ماجه والترمذي مختصرا. وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا والطحاوي، وفي لفظهما نرمي غرضا لنا. قوله: غرضين مثنى غرض بفتح الغين والراء وهو الهدف. قوله " قيد رمحين " بكسر القاف أي قدر رمحين. آضت: أي رجعت، من آض يئيض أيضا، قوله " تنومة " بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد النون وضمها بعدها واو ساكنة ثم ميم مفتوحة وفي آخره هاء، وهو نوع من نبات الأرض، فيه وفي ثمره سواد قليل، ويقال هو شجر له ثمر كمد اللون، قوله " فإذا هو بارز " من البروز وهو الظهور، وقال الخطابي: هذا تصحيف من الراوي [....
.....] بهم لكثرتهم.
وأما حديث ابن عمر بدون الواو في عمر لم نجده، وإنما المروي حديث ابن عمرو، هو: عبد الله بن عمرو بن العاص، ولعل الخطأ من الناسخ، وحديث ابن عمرو أخرجه أبو داود

(3/139)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والنسائي والترمذي في " الشمائل " عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم نفخ في آخر سجوده، فقال أف أف، ثم قال رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم، ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون، ففرغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته وقد أمحصت الشمس» . وأخرجه الحاكم أيضا وقال: صحيح ولم يخرجاه من أجل عطاء بن السائب.
قلت: قد أخرج البخاري عن عطاء حديثا مقرونا لأبي بشر، وقال أيوب ثقة، ولنا حديث أخرجه النسائي، عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خسفت الشمس والقمر فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة» ورواه أحمد في " مسنده " والحاكم في " مستدركه "، وقال على شرطهما، ورواه أبو داود ولفظه «كسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت» .
وأخرجه ابن ماجه أيضا، وقال البيهقي: هذا مرسل، أبو قلابة لم يسمع من النعمان.
قلت: صرح في الكمال بسماعه من النعمان، وقال ابن حزم: وأبو قلابة أدرك النعمان وروى هذا الخبر عنه، وصرح ابن عبد البر بصحة هذا الحديث، وقال من أحسن حديث ذهب إليه الكوفيون حديث أبي قلابة عن النعمان يظهر من البيهقي دعوى بلا دليل، والعجب من النووي حكمه بصحة هذا الحديث، ثم قال إلا أنه روي بزيادة رجل بين أبي قلابة والنعمان، ثم اختلف في ذلك الرجل، واسم أبي قلابة عبد الله بن زيد الحربي.
ومنها حديث أخرجه أبو داود عن قبيصة الهلالي قال: «كسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت فقال: إنما هذه الآيات يخوف الله بها، فإذا رأيتموها فصلوا، كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة» .

(3/140)


والحال أكشف على الرجال لقربهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه النسائي أيضا والحاكم في " المستدرك " وقال: حديث صحيح على شرائط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه البيهقي أيضا، ثم قال: يسقط بين أبي قلابة وقبيصة رجل وهو هلال بن عامر. وقال النووي في " الخلاصة ": وهذا لايقدح في صحة الحديث.
ومنها حديث أخرجه البخاري في " صحيحه " عن الحسن عن أبي بكر قال «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج يجر رداءه حتى انتهى إلى المسجد وبادر الناس فصلى بهم ركعتين مثل صلاتكم» ووهم النووي في " الخلاصة " فعزا هذا الحديث للصحيحين، وإنما انفرد به البخاري.
ومنها حديث أخرجه مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة وفيه فصلى ركعتين، فظاهر هذا الحديث والحديث الذي قبله: أن الركعتين بركوع واحد، وقد اختلفوا في الجواب عنهما لأجل أنهما عليهم، فقال النووي: قوله: " صلى ركعتين " يعني في كل ركعة قيامان وركوعان.
وقال القرطبي: يحتمل أنه إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة وسكت عن الأخرى.
قلت: في هذين الجوابين إخراج اللفظ عن ظاهره، فلا يجوز إلا بدليل. وأيضا فلفظ النسائي كما تصلون، وابن حبان مثل صلاتكم يرد ذلك، وفي " العارضة " روى الكسوف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبعة عشرة رجلا.

م: (والحال أكشف على الرجال لقربهم) ، ش: هذا جواب عن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الذي احتج به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ذهب إليه أن حال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي الهيئة التي كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليها في صلاة الكسوف أكشف على الرجال من النساء بقرب الرجال منه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لأنهم يقومون قبل صف النساء.
ومن هذا أخذ محمد بن الحسن في " الآثار " فقال: يحتمل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطال الركوع زيادة على قدر ركوع سائر الصلوات فرفع أهل الصف الأول رؤوسهم ظنا منهم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع رأسه من الركوع من خلفهم ورفعوا رؤوسهم، فلما رأى أهل الصف الأول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكعا ركعوا ثمة خلفهم ركعة، فلما رفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأسه من الركوع رفع القوم رؤوسهم ومن خلف الصف الأول ظنوا أنه ركع ركوعين، فرووه على حسب ما رفع عندهم.
ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان آخر الصفوف وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت واقعة في صف النساء، وابن عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت، فنقلا كما وقع عندهم فيحمل

(3/141)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على هذا توفيقا بين الروايتين.
قلت: هذا الاحتمال لا يجدي شيئا، لأنا وإن سلمنا هذا في ركوعين، فماذا يقال في ثلاث ركوعات في رواية وأربع ركوعات في أخرى كما ذكرنا.
وقال الأترازي في قوله: " والحال أكشف على الرجال ": فيه نظر، لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يتمسك بما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وحدها حتى يلزم ترجيح رواية الرجال على رواية النساء، بل يتمسك بروايتها ورواية ابن عباس فلا يتأتى الترجيح إلا بما قلنا من القياس.
قلت: ابن عباس في ذلك الوقت كان في صف الصبيان، فتكون روايته ورواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على السواء على هذا.
قال الأكمل: فإن قيل روى حديثها من الرجل ابن عباس، وقد كان في صفهم.
أجيب: بأنه كان في صف الصبيان في ذلك الوقت.
قلت: هذا أيضا لا يجوز، وكل منهما حام حول الحمى فلم ينجيا، لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعلق بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وحده، في الاحتجاج لمذهبه، بل يتعلق به وبحديث جابر وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما، بل الصواب ها هنا أن يقال اختلفوا في صلاة الكسوف، بل يقال تحروا الكل، وكل واحد منهم تعلق بحديث، ورآه أولى من غيره بحسب ما أدى اجتهاده إليه في صحته وموافقته للأصل المعهود في أبواب الصلاة.
وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعلق بأحاديث موافقة للقياس في أبواب الصلاة، لأن في سائر الصلوات من المكتوبات والتطوع مع كل ركعة سجدتان، فكذلك ينبغي أن تكون صلاة الكسوف كذلك.
وقال أبو إسحاق المروزي وأبو الطيب وغيرهما: تحمل أحاديثنا على الاستحباب وأحاديثهم على الجواز، وقال السروجي: فلم ينقل ذلك بالمدينة إلا مرة واحدة، فإذا حصل هذا الاضطراب الكثير من الركوع واحد إلى عشرة ركوعات يعمل بما له أصل في الشرع، انتهى.
قلت: فيه نظر، لأن بعضهم قالوا: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الكسوف غير مرة، وفي غير سنة فروى كل واحد ما شاء هذه من صلاته وضبطه من فعله.
وذكر النووي في " شرح المهذب " أن عند الشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا تجوز الزيادة على ركوعين، وبه قطع جمهورهم، قال: وهو ظاهر نصوصه.
قلت: الزيادة من العدل مقبولة عندهم، وقد صحت الزيادة على الركوعين ولم يعلموا بها،

(3/142)


فكان الترجيح لروايته،
ويطول القراءة فيهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فكل جواب لهم عن الزيادة على الركوعين، فهو جواب لنا عما زاد على ركوع واحد. وقال السرخسي: وتأويل الركوعين فيما زاد أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طول الركوع فيها، لأنه عرض عليه الجنة والنار فمل بعض القوم وظنوا أنه رفع رأسه فرفعوا رءوسهم إلى آخر ما ذكرنا عن محمد عن قريب فيه ما قيد ما ذكرنا، وقيل رفع رأسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ليتحقق] حال الشمس هل انجلت أم لا؟ وهكذا قيل في كل ركوع وفيه نظر أيضا.
وقد قال مناظر محمد بن الحسن ألم يعلم أن الحديث إذا جاء من وجهين، واختلفا وكانت فيه زيادة كان الأخذ بالزيادة أولى، لأن الآتي بها أثبت من الذي يقص الحديث؟ قال: نعم، قال المناظر: ففي حديث من الزيادة ما ينبغي أن يرجع إليه، قال محمد: فالنعمان بن بشير لا يذكر في كل ركعة ركوعين، قال المناظر: قلت: فالنعمان يزعم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين ثم نظر فلم تنجل الشمس، فقام: فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين أفتأخذ به؟ قال: لا، قلت: فأنت إذا تخالف قول النعمان وحديثه، انتهى.
قلت: لقائل أن يقول له كما قال لمحمد سواء أنت تأخذ بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وجابر وابن عباس، فإن قال: نعم قيل له قد صح عنهم ما ذكر من ثلاث ركعات في كل ركعة ست ركعات، فهذه زيادة أتأخذ بها؟ فإن قال: لا، قيل له: فأنت إذا تخالف ما ذكرت، لأنك اعتمدته وتخالف أيضا ويخالفه أيضا ما ذهبنا إليه بحجتنا [....
... ] . وأما حديث أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حدثنا فيه زيادة، رواه الحاكم من حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: «انكسفت الشمس فصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقرأ سورة من الطوال وركع خمس ركعات وسجد سجدتين» . وهذا الحديث فيه ألفاظ زائدة، ورواته صادقون وصححه أيضا أبو محمد الأصيلي، وأقره الحافظان ابن القطان وابن [
..] فكان ينبغي أن يعمل بها لأن خبر الزيادة من الثقة.
م: (فكان الترجيح لروايته) ، ش: الفاء فيه جواب شرط محذوف، أي إذا كان الحال أكشف للرجال من النساء يؤمهم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان الترجيح لرواية ابن عمرو بن العاص، وقد ذكرنا أنه وقع في الكتاب ابن عمر بدون الواو وليس كذلك كما بينا.

[القراءة في صلاة الكسوف]
م: (ويطول القراءة فيهما) ، ش: أي ويطول الإمام القراءة في ركعتي الكسوف لما مر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام في الأولى مقدار البقرة، وفي الثانية بقدر آل عمران، وفي " المرغيناني " يقرأ فيهما بما أحب كالمكتوبة، ولو طول القراءة خفف الدعاء أو على العكس، وروى الحسن بن زياد عن أبي

(3/143)


ويخفي عند أبي حنيفة، وقالا: يجهر. وعن محمد مثل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما التطويل في القراءة فبيان الأفضل ويخفف إن شاء؛ لأن المسنون استيعاب الوقت بالصلاة والدعاء، فإذا خفف أحدهما طول الآخر، وأما الإخفاء والجهر فلهما رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر فيها، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية ابن عباس وسمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في كسوف الشمس أنهم إن شاؤوا صلوا ركعتين وإن شاؤوا أربعا، وإن شاؤوا أكثر من ذلك، وإن شاؤوا سلموا في كل ركعتين، وإن شاؤوا في كل أربعة؛ لأنها نافلة.

م: (ويخفي) ، ش: أي القراءة. م: (عند أبي حنيفة) ، ش: وبه قال الشافعي ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (وقالا) ، ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يجهر) ، ش: بالقراءة، وبه قال أحمد ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. م: (وعن محمد مثل قول أبي حنيفة) ش: أي روي عن محمد أنه لا يجهر بالقراءة كمثل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي " التحفة " عن محمد روايتان فيه. وفي " البدائع " وفي عامة الرواية مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (أما التطويل في القراءة فبيان الأفضل) ، ش: لا بيان الوجوب، لأن قوله: " ويطول القراءة فيهما " قول القدوري، وروي في " مختصره " وهو يحتمل الوجوب وغيره. فأشار بقوله أما التطويل إلى آخره إلى أن التطويل غير واجب، ولو قال: وأما التطويل في القراءة فبيان السنة لكان أولى على ما لا يخفى. م: (ويخفف) ، ش: القراءة. م: (إن شاء، لأن المسنون استيعاب الوقت) ، ش: أي استغراقه. م: (بالصلاة والدعاء فإذا خفف أحدهما طول الآخر) ، ش: يعني إذا خفف الصلاة طول الدعاء وهو بالخيار في هذا الدعاء إن شاء جلس فدعا ويستقبل القبلة، وإن شاء قام ودعا واستقبل الناس بوجهه.
م: (وأما الإخفاء والجهر فلهما) ، ش: أي فلأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -. م: (رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر فيها) ، ش: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جهر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الخسوف بقراءته» الحديث. والمراد بالخسوف كسوف الشمس والدليل عليه ما رواه البخاري أيضا من حديث أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جهر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الكسوف» ورواه أبو داود، ولفظه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ قراءة طويلة فجهر بها يعني في صلاة الكسوف» ورواه الترمذي، ولفظه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الكسوف فجهر فيها بالقراءة» وحسنه، ورواه ابن حبان أيضا في " صحيحه " قالوا: وفي هذه الألفاظ ما يدفع قول من فسر لفظ " الصحيحين " بخسوف القمر.
م: (ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواية ابن عباس وسمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -)

(3/144)


والترجيح قد مر من قبل، كيف وأنها صلاة النهار، وهي عجماء، ويدعو بعدها حتى تنجلي؛ الشمس لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئا فارغبوا إلى الله بالدعاء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: حديث ابن عباس روه أحمد في " مسنده " عن عكرمة عن ابن عباس قال: «صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكسوف فلم أستمع منه فيها حرفا من القراءة» ورواه أبو يعلى الموصلي أيضا في " مسنده " وأبو نعيم في " الحلية " والطبراني في " معجمه " والبيهقي في " المعرفة ".
وحديث سمرة بن جندب، رواه الأربعة عن ثعلبة بن عباد العبدي قال: «قال سمرة بن جندب: بينما أنا وغلام من الأنصار نرمي غرضين لنا.. الحديث وفيه: " صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكسوف لا نسمع له صوتا» وقد مر هذا الحديث في هذا الباب بتمامه.

م: (والترجيح قد مر من قبل) ، ش: أراد به قوله: " والحال أكشف على الرجال لقربهم "، م: (كيف وأنها صلاة النهار وهي عجماء) ، ش: كيف اسم، وعن سيبويه أنه ظرف، ومعناه كيف يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف والحال أنها صلاة النهار عجماء، أي ليس فيها قراءة مسموعة، أخذ من العجماء التي هي البهيمة، سميت به لأنها لا تتكلم، وكل من لا يقدر على الكلام فهو أعجم. م: (ويدعو بعدها) ، ش: أي ويدعو الإمام بعد صلاة الكسوف. م: (حتى تنجلي الشمس) ، ش: أي حتى تنكشف، لأن الصلاة كانت الدعاء، فإذا فرغوا من الصلاة يجب أن يدعوا.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخطب خطبتين بعد كما في العيدين، وبه قال أحمد، واحتجا بما روى البخاري ومسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا..» الحديث.
ولنا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب خطبتين أمر بالصلاة ولم يأمر بالخطبة ولو كانت مسنونة فيهما لبينهما ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خطب خطبتين، فليس عليهما دليل ولا القياس، وحديث ابن مسعود وابن عمر وعائشة في " الصحيحين " ولم يذكر الخطبة.
والجواب عن الحديث المذكور أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب ليردهم عن قولهم: إن الشمس كسفت لموت إبراهيم بن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إن الشمس والقمر ... » الحديث هو محمول على الدعاء.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئا فارغبوا إلى الله بالدعاء» ، ش: هذا اللفظ غريب وهو في " الصحيحين " من حديث المغيرة بن شعبة: «فإذا رأيتموها فارغبوا إلى ذكر الله» .

(3/145)


والسنة في الأدعية تأخيرها عن الصلاة، ويصلي بهم الإمام الذي يصلي بهم الجمعة، فإن لم يحضر صلى الناس فرادى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه أيضا عن عائشة: «فإذا رأيتموها فكبروا وادعوا» ، وروى أبو سليمان في كتاب الصلاة قريبا من لفظ المصنف عن محمد عن أبي يوسف عن أبان عن ابن أبي عباس عن الحسن البصري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئا فافزعوا إلى الصلاة» .
قلت: هذا مرسل وهو حجة عندنا، قوله: " فافزعوا " بالزاي المعجمة، أي التجئوا إليه، يقال فزع إليه، أي التجأ، والمفزع الملجأ.

[الدعاء في صلاة الكسوف]
م: (والسنة في الأدعية تأخيرها عن الصلاة) ، ش: لما روى الترمذي في " جامعه " في كتاب الدعوات والنسائي في كتاب اليوم والليلة عن عبد الرحمن بن سابط «عن أبي أمامة قيل: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الدعاء أسمع؟ قال: " جوف الليل الأخير، ودبر الصلاة المكتوبة» قال الترمذي: حديث حسن، ورواه عبد الرزاق في " مصنفه "، وقال ابن القطان: وعبد الرحمن بن سابط لم يسمع من أبي أمامة.
وروى أبو داود والنسائي «عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: " يا معاذ والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدع عن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» .
واحتج البخاري في " تاريخه الأوسط " عن المغيرة بن شعبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه كان يدعو دبر كل صلاة» .
م: (ويصلي بهم الإمام الذي يصلي بهم الجمعة) ، ش: يعني يصلي صلاة الكسوف بالقوم الإمام الذي يصلي بهم الجمعة والعيدين، وفي " التحفة " أو غيره بإذن الإمام، كما في الجمعة والعيدين، وفي " المرغيناني " ويؤمهم فيها إمام حيهم بإذن السلطان في مساجدهم بل يصلون جماعة واحدة، ولو لم يقمها الإمام صلى الناس فرادى.
وفي " مبسوط بكر " عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول لكل إمام مسجد أن يصلي بجماعته في مسجده. وذكر في " المحيط " وقال الأسبيجابي: يمكن بإذن الإمام الأعظم.
م: (فإن لم يحضر) ، ش: أي الإمام الذي يصلي بهم الجمعة. م: (صلى الناس فرادى) ، ش: أي

(3/146)


تحرزا عن الفتنة،
وليس في كسوف القمر جماعة لتعذر الاجتماع في الليل أو لخوف الفتنة، وإنما يصلي كل واحد بنفسه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا رأيتم شيئا من هذه الأهوال فافزعوا إلى الصلاة» وليس في الكسوف؛ خطبة لأنه لم ينقل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منفردين، وانتصابه على الحال. م: (تحرزا عن الفتنة) ، ش: في التقديم والتقدم.

[الصلاة لكسوف القمر جماعة]
م: (وليس في كسوف القمر جماعة) ، ش: هذا لفظ محمد في " المبسوط "، وقد عيب عليه بأن لفظ الكسوف لا يستعمل إلا في الشمس، ورد بأن كلا من لفظ الكسوف والخسوف مستعمل في كل واحد من الشمس والقمر، وقد حققنا الكلام فيه في أول الباب، ووقع في بعض النسخ وليس في خسوف القمر جماعة، والأول أصح، وقيل الجماعة جائزة لكنها ليست بسنة. م: (لتعذر الاجتماع بالليل) ، ش: أي لتعذر اجتماع الناس بالليل، وكان في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كسوف القمر كما كان كسوف الشمس، فلو كان فيه جماعة كما في كسوف الشمس لنقل، وأما نفس الصلاة فبالأحاديث المذكورة عن قريب. م: (أو لخوف الفتنة) ، ش: لأن اجتماع الناس بالليل من أطراف البلد لا يكاد يسلم عن وقوع فتنة منهم، إما من جهة وقوع الزحام وإما من جهة اختيار الإمام.
م: (وإنما يصلي كل واحد بنفسه) ، ش: يعني منفردين، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصلي صلاة الخسوف بالجماعة كما في الكسوف، وقال مالك: لا صلاة فيه. وفي " المغني " لابن قدامة، وعن مالك: ليس في كسوف القمر سنة ولا صلاة، وانفرد به من بين أهل العلم. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصليها جماعة بركوعين وبالجهر بالقراءة وبخطبتين بينهما جلسة ككسوف الشمس، وهو قول أحمد وإسحاق إلا في الخطبة.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأيتم شيئا من هذه الأهوال فافزعوا إلى الصلاة» ، ش: في هذا الموضع نظر من وجهين: الأول: أن هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وإنما الذي صح ما رواه البخاري ومسلم وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» .
والثاني: أن هذا الحديث لا يطابق مرآه، يظهر ذلك بالتأمل ولا ينكر ذلك إلا المعاند. م: (وليس في الكسوف خطبة) ، ش: وقال الأكمل: أي في كسوف الشمس والقمر خطبة.
قلت: ليس في خسوف القمر جماعة فضلا عن الخطبة فلا يحتاج إلى ذكر القمر، وإنما عرفوا قول السغناقي من قول المصنف، وليس في الكسوف خطبة، هذا راجع إلى كسوف الشمس والقمر وليس كذلك، لأن المعنى كسوف الشمس خاصة كما ذكرنا، لأن الخسوف فيه جماعة، فكيف يكون فيه الخطبة حتى ينفي.
م: (لأنه لم ينقل) ش: أي لأن كون الخطبة في كسوف الشمس لم ينقل، وهذا غير صحيح، لما روى البخاري ومسلم من حديث أسماء: «ثم انصرف بعد أن انجلت الشمس والقمر فقام

(3/147)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده، ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار. ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل وقريبا من فتنة الدجال..» الحديث.
وأخرجا أيضا من حديث ابن عباس فقال: «إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط» الحديث.
وأخرجا أيضا «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا أمة محمد؛ ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته..» الحديث. وأخرج مسلم عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ولقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها ... » الحديث.
وأخرج أحمد من حديث سمرة بن جندب «فحمد الله وأثنى عليه وشهد أنه عبد الله ورسوله ثم قال: " يا أيها الناس أنشدكم الله إن كنتم تعلمون أني قصرت في شيء من تبليغ رسالات ربي ... » الحديث بطوله، وأخرجه الحاكم أيضا في " مستدركه "، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث عمرو بن العاص: «فقام فحمد الله وأثنى عليه
.» الحديث.
وقال الأكمل: ولنا أنه لم ينقل، وذلك دليل على أنه يفعل. وقال صاحب " الدراية " ولنا ما روي من الحديث في المتن وعدم النقل. وقال السغناقي: معنى قوله " لأنه لم ينقل " أي بطريق الشهرة.
قلت: أما كلام الأكمل فإنه غير وارد على منهج الصواب؛ لأن قوله " لم ينقل " غير صحيح؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله، وكذلك قوله وذلك دليل على أنه لم يفعله غير صحيح؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله، وأما كلام صاحب " الدراية " ففيه نظر من وجهين:
الأول: أن قوله ولنا ما روي من الحديث في المتن غير سديد، ولا يوجد، لأن الحديث الذي في المتن لا يدل على نفي الخطبة في الكسوف.
الثاني: أن قوله: " وعدم النقل " غير صحيح لما ذكرنا. وأما قول السغناقي: " أي بطريق الشهرة ": فإقرار منه أن النقل موجود، وأما قوله: " أي بطريق الشهرة ": فغير صحيح، وكيف لا يكون مشهورا، وقد رواه غير واحد من الصحابة، وكما ذكرناه الآن؟
ثم أجاب الأكمل بعد اعترافهم بالنقل بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقصد الخطبة، وإنما قال ذلك دفعا لقول من قال: إن الشمس انكسفت لموت إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وإخبارا عما رآه من الجنة والنار.

(3/148)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: سبحان الله. كيف لا يكون خطبة، ومقاصد الخطبة لا تنحصر في شيء معين، ولا سيما ورد أنه صعد المنبر وبدأ بما هو المقصود من الخطبة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر فضل الخطبة وغير ذلك، وصعود المنبر رواه النسائي وأحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه "، ولفظهم «ثم انصرف بعد أن انجلت الشمس، فقام وصعد المنبر فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: " إن الشمس والقمر ... » الحديث.
فروع: لو طلعت مكسوفة لم يصل حتى تحل النافلة، وبه قال مالك وأحمد وآخرون، وقال ابن المنذر وبه أقول، خلافا للشافعي.
ووقتها الوقت المستحب كسائر الصلوات. وفي " المبسوط ": ولا يصلي الكسوف وفي الأوقات الثلاثة، وبه قال الحسن وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وعمرو بن شعيب وقتادة وأيوب وإسماعيل بن علية وأحمد.
وقال إسحاق: يصلون بعد العصر ما لم تصفر الشمس وبعد صلاة الصبح ولو كسفت في الغروب لم يصل إجماعا من جنس الكسوف مثل الريح الشديد والظلمة الهائلة بالنهار والثلج والأمطار الدائمة والصواعق والزلازل وانتشار الكواكب والضوء الهائل بالليل وعموم الأمراض وغير ذلك من النوازل والأهوال والأفزاع، إذا وقعت صلوا وحدانا، واسألوا وتضرعوا، وكذا في الخوف الغالب من العدو، وعند الشافعي كذلك.
ولا يصلي عنده جماعة في غير الكسوفين، وروى الشافعي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى في زلزلة جماعة، قال: إن صح هذا الحديث قلت به.
وقال النووي: هذا الأمر لم يثبت عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وفي " الجواهر " لا يصلى للزلازل وغيرها من الآيات عند مالك، وحكى اللخمي عن أشهب الصلاة، واختاره. وعند أحمد يصلي للزلزلة ولا يصلي للرجفة والريح الشديدة وغيرهما كما ذكرناه الآن، وقال الآمدي: منهم من يصلي لجميع ما ذكرناه حكاه عن ابن أبي موسى.

(3/149)