البناية
شرح الهداية باب صلاة الخوف إذا اشتد الخوف جعل الإمام
الناس طائفتين: طائفة إلى وجه العدو، وطائفة خلفه، فيصلي بهذه الطائفة ركعة
وسجدتين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة الخوف]
[مشروعية صلاة الخوف وكيفيتها]
م: (باب صلاة الخوف) ش: أي هذا باب في بيان صلاة الخوف، والمناسبة بين
البابين من حيث إنهما شرعا بالعارض لكن قدم الاستسقاء لأن العارض فيه سماوي
وهو انقطاع المياه، وهاهنا اختياري وهو الجهاد الذي بسبب كفر الكافر.
م: (إذا اشتد الخوف جعل الإمام الناس طائفتين) ، ش: هذه العبارة للقدوري،
والمصنف تبعه واشتداد الخوف ليس بشرط عند عامة العلماء من أصحابنا، فإنه
جعل في " التحفة " و " المبسوط " و " المحيط " سبب جوازها نفس قرب العدو من
غير ذكر الاشتداد، وفي " مبسوط شيخ الإسلام " المراد بالخوف حضرة العدو لا
حقيقة الخوف، لأن حضرة العدو أقيم مقام الخوف، كما في تعلق الرخص بنفس
السفر، فعلى هذا إذا رأوا سوادا فظنوا أنه العدو وصلوا صلاة الخوف، فإن بين
أنه العدو فصلاتهم جائزة، وإن بين أنه سواد إبل أو بقر أو غنم فصلاتهم غير
جائزة.
قوله - جعل الإمام الناس طائفتين - هذا إنما يحتاج إليه إذا تنازع القوم في
الصلاة خلف إمام واحد، أما إذا لم يتنازعوا فالأفضل للإمام أن يجعل القوم
طائفتين، فيصلي كل طائفة بإمام، فطائفة يقومون بإزاء العدو، وطائفة يصلي
بهم إمامهم تمام صلاتهم ثم يقومون بإزاء العدو، ويصلي رجل من الطائفة التي
كانوا بإزاء العدو صلاتهم تمامها.
م: (طائفة إلى وجه العدو) ، ش: ويجوز في طائفة النصب والرفع، أما النصب
فعلى تقدير جعل طائفة، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير
أحدهما طائفة إلى وجه العدو، م: (وطائفة خلفه) ، ش: بالوجهين أيضا نحوه.
م: (فيصلي) ، ش: أي الإمام، م: (بهذه الطائفة) ، ش: وهم الذين جعلهم خلفه،
م: (ركعة وسجدتين) ، ش: قيد بهذا احترازا عن قول بعض العلماء أنه إذا سجد
سجدة واحدة سجد معه الصف الأول، ويحرسهم الصف الثاني من العدو، ثم يتأخر
هذا الصف، ويتقدم الصف الثاني فيسجد بهم السجدة الثانية، ويحرسهم الصف
الأول من العدو، ثم يصلي الركعة الثانية على هذا الوجه ويتشهد ويسلم بهم
وتمسكوا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] قلنا: السجدة المطلقة تنصرف إلى
الكامل المعهود وهو السجدتان.
فإن قلت: قوله - ركعة - كان يكفي، لأن الركعة يتم سجدة، ولم يحتج إلى ذكر
السجدتين.
(3/160)
فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية مضت هذه
الطائفة إلى وجه العدو وجاءت تلك الطائفة فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين
وتشهد وسلم، ولم يسلموا وذهبوا إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة الأولى فصلوا
ركعة وسجدتين وحدانا بغير قراءة؛ لأنهم لاحقون وتشهدوا وسلموا ومضوا إلى
وجه العدو وجاءت الطائفة الأخرى وصلوا ركعة وسجدتين بقراءة لأنهم مسبوقون
وتشهدوا وسلموا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ذكر سجدتين تأكيدا لرفع هذا الاحتمال.
م: (فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية مضت هذه الطائفة) ، ش: وهم الذين صلى
بهم ركعة وسجدتين، م: (إلى وجه العدو) ، ش: بحيث لا يلحقهم سهام العدو، م:
(وجاءت تلك الطائفة) ، ش: وهم الذين كانوا واقفين تجاه العدو، م: (فيصلي
بهم الإمام ركعة وسجدتين وتشهد وسلم ولم يسلموا) ، ش: لأنه بقيت عليهم ركعة
وسجدتان، م: (وذهبوا إلى وجه العدو) ، ش: ويقفون تجاههم.
م: (وجاءت الطائفة الأولى) ، ش: وهم الذين صلى بهم أولا ركعة وسجدتين، م:
(وصلوا ركعة وسجدتين وحدانا) ، ش: يعني منفردين، وانتصابه على الحال، م:
(بغير قراءة) ، ش: يعني لا يقرءون، م: (لأنهم لاحقون) ، ش: واللاحق ليس
عليه قراءة، م: (وتشهدوا وسلموا ومضوا إلى وجه العدو) ، ش: ويقفون تجاههم،
م: (وجاءت الطائفة الأخرى وصلوا ركعة وسجدتين بقراءة؛ لأنهم مسبوقون) ، ش:
وللمسبوق عليه القراءة، لأنه في حكم المنفرد فيما عليه من الصلاة.
م: (وتشهدوا وسلموا) ، ش: فتمت صلاة الطائفتين بهذا الوجه.
وقال مالك: إذا صلى بالطائفة الأولى ركعة وسجدتين وقف حتى تتم هذه الطائفة
صلاتها ويسلموا قبل إمامهم ويذهبون إلى وجه العدو، وتأتي تلك الطائفة التي
لم تصل فيصلي بهم الإمام الثانية وتسلم وتذهب إلى وجه العدو. وقول الشافعي
وأحمد مثله، إلا أنه لا يسلم الإمام عندهما، بل يقف منتظرا حتى تتم الطائفة
الثانية صلاتها فيسلم بهم.
وقال النووي: ثم إذا قام الإمام إلى الثانية يقرأ ويطيل القراءة حتى تأتي
الطائفة الثانية ولا يعتد بهذه القراءة الطويلة، حتى إذا جاءت الطائفة
الثانية يقرأ معها الفاتحة وسورة قصيرة في أحد القولين، وهو في " الإملاء
"، وقال في إمام لا يقرأ بل يسبح ويذكر الله حتى تأتي الطائفة الثانية،
والطائفة الثانية إذا صلى بهم الركعة الثانية فارقوه ليتموا الركعة الباقية
عليهم ولا ينوون مفارقته.
واتفقوا على أن الطائفة الأولى إذا صلت الركعة الأولى مع الإمام تنوي
مفارقة الإمام وتمت صلاتها وتذهب إلى وجه العدو، وفي " المستصفى " للشافعية
ثلاثة أقوال في قول مثل قولنا، وفي قول يصلي بالطائفة التي معه تمام الصلاة
ثم تجيء الطائفة الأخرى فصلى بهم مرة أخرى، فإن عنده اقتداء المفترض
بالمتنفل جائز، وفي قول وهو المشهور منه يصلي بالطائفة الأولى ركعة
(3/161)
والأصل فيه رواية ابن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة
الخوف على الصفة التي قلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيقوم ويقف ولا يقرأ، ويمد القيام في انتظار الطائفة الأخرى كذا ذكره
المزني، ويصلي بهذه الطائفة تمام صلاتهم، لكن ينبغي أن ينووا مفارقته
ويسلمون حتى تجيء الطائفة الأخرى، فيصلي بهم ركعة ولا يسلم، بل يمكث جالسا
حتى تصلي هذه الطائفة تمام صلاتهم من غير نية المفارقة، ثم يسلم الإمام
ويسلمون معه، كذا في خلاصتهم والوجيز.
وقال أبو بكر بن العربي في " العارضة ": قد رويت عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - في صلاة الخوف روايات كثيرة، أصحها ست عشرة رواية مختلفة، وفي
" القبس شرح الموطأ "، صلاها رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربعا
وعشرين مرة، وذكر بعضهم أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -[صلاها] في عشرة مواضع.
والذي استقر عند أهل السير والمغازي أربعة مواضع؛ ذات الرقاع عند البخاري
ومسلم، عن سهل بن حثمة، وبطن نخلة عند النسائي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - وعسفان عن أبي داود والنسائي عن جابر أيضا. وذي قرد عن النسائي عن
ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وروى الواقدي في " المغازي " حديث سعيد بن عثمان عن وهب بن كيسان عن جابر
بن عبد الله قال: أول ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلاة الخوف [في] غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان بينهما
أربع سنين، قال الواقدي: وهذا عندنا أثبت من غيره، قيل وأغربها ما رواه
مسلم عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى
بكل طائفة ركعتين، فكانت للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربعا ولهم ركعتان
ركعتان.
ومن أغربها ما رواه أبو داود عن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
«أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بكل طائفة ركعة ثم يسلم ولم يقضوا» .
وروي عن ابن عباس والحسن وإسحاق بن راهويه أن صلاة الخوف ركعة، ونقل عن
جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وطاوس والضحاك مثله، لكن نقل أبو حامد عن
هؤلاء أن الفرض على الإمام ركعتان، وعلى المأمومين ركعة والذي نقله الجمهور
عنهم أن الواجب على الكل ركعة.
قال النووي: مذهب العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الخوف لا
يوجب القصر، وقال الأسبيجابي: الخوف لا يوجب قصر الصلاة، ويجوز المشي
والانتقال، وقال الحسن البصري: يصلي الإمام المغرب ستا والقوم ثلاثا.
م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الباب م: (رواية ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى صلاة الخوف» على الصفة
التي قلنا) ش: يعني أنه جعل الناس طائفتين، طائفة خلفه وطائفة في وجه العدو
إلى آخر ما ذكرناه، وحديث ابن مسعود رواه أبو داود، وحدثنا عمران
(3/162)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن مسيرة، ثنا ابن فضيل، ثنا خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود،
قال: «صلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاة الخوف فقاموا صفا خلف
رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وصفا يستقبل العدو، فيصلي بهم النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثم جاء الآخرون فقاموا مقامهم واستقبل هؤلاء العدو
فصلى بهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ركعة، ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا
لأنفسهم ركعة، ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبل العدو، ورجع
أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا» .
وروى البيهقي أيضا، وقال أبو عبيدة: لم يسمع من أبيه، وخصيف ليس بالقوي.
قلت: أبو عبيدة اسمه عامر بن عبد الله ثقة، أخرج له البخاري محتجا به في
غير موضع. وروى له مسلم وغيره، وخصيف بضم الخاء المعجمة ابن عبد الرحمن
وثقه أبو زرعة، وابن مغيرة وابن سعد. وقال النسائي: صالح.
وفي " المبسوط " روى سالم عن ابن عمر «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى
بالطائفتين» كما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: حديث ابن عمر أخرجه الأئمة الستة في كتبهم، واللفظ للبخاري - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -، قال: «غزوت مع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل
نجد فوازينا العدو فصاففنا لهم فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يصلي بنا فقامت طائفة معه، فصلى وأقبلت طائفة على العدو وركع
رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بمن معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان
الطائفة التي لم تصل، فجاءوا فركع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بهم
ركعتين وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه وسجد سجدتين»
وقال القرطبي في شرح مسلم: والفرق بين حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود أن في
حديث ابن عمر كان قضاؤهم، في حالة واحدة، ويبقى الإمام كالحارس وحده. وفي
حديث ابن مسعود كان قضاؤهم متفرقا عل صيغة صلاتهم.
واستدل السروجي لأصحابنا بحديث ابن عمر هذا، وفي حديث ابن عمر لم يذكر
كيفية قضائهم، فحمل على تفسير ابن مسعود، فإنه نص في الكيفية، وهكذا نص
أشهب من المالكية على تفسيره، واختاره موافقا لمذهبهم، وقال ابن حبيب: قضوا
معا، وهو باطل.
واحتج الشافعي وأحمد بحديث صالح بن خوات بن جبير عن سهل بن أبي حثمة «أنه -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاهما» كمذهبهما، في غزوة ذات الرقاع في صحيحي
البخاري ومسلم، ورواه مالك مرفوعا، ورجح موقوفه على سهل بن أبي حثمة على
مرفوعه، [....
..] ،
(3/163)
وأبو يوسف وإن أنكر شرعيتها في زماننا فهو
محجوج عليه بما روينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال النووي: صالح تابعي، وخوات صحابي، وذات الرقاع بكسر الراء موضع قبل
نجد من أرض غطفان، وقيل سميت باسم شجر هناك، وقيل اسم جبل فيه بياض وحمرة
وسواد، وقيل: الرقاع كانت في ألويتهم. وقال النووي: ولو فعل [....
..] رواية ابن عمر، ففي صحته قولان، والصحيح المشهور صحته، وقال الغزالي:
قال بعض أصحابنا بعيد. وقال النووي أيضا: وغلط في شيئين، أحدهما نسبته إلى
بعض الأصحاب، بل نص عليه الشافعي في الجديد وفي الرسالة، والثاني تضعيفه.
قلت: هم يقولون قال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأي شيء يكون أصح من
حديث ابن عمر، وقد خرجته الجماعة. وقال الغزالي في " الوسيط ": له رواية
خوات بن جبير وهو غلط، وإنما الراوي ابنه صالح عن سهل حيثما خرجه الشيخان.
وجعل المازري حديث ابن عمر قول الشافعي وأشهب، وحديث جابر قول أبي حنيفة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا في العلم وهو سهو فيهما، ثم قال: ولا معنى
للأخذ به إلا إذا كان العدو بينهم وبين القبلة.
قلت: بل أخذ أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه وأشهب برواية ابن
عمر والشافعي برواية سهل بن أبي حثمة. وقال القدوري في " شرح مختصر الكرخي
" وأبو نصر البغدادي في " شرح مختصر القدوري " الكل جائز، وإنما الخلاف في
الأولى، ثم الركوب في حالة الذهاب والمجيء، إذا كانوا نزولا، ولا يجوز بأن
كان قريبا من العدو.
وفي " التحفة " فإن انصرفوا ركبانا لا تصح صلاتهم سواء كانوا من القبلة إلى
العدو أو من العدو إلى القبلة، وهو جواب ظاهر الرواية عن أصحابنا. وفي "
المرغيناني " إن ركب واحد منهم عند انصرافه إلى العدو فسدت صلاته، وفي "
المبسوط " من ركب منهم عند انصرافه إلى وجه العدو فسدت صلاته، لأن الركوب
عمل كثير، بخلاف المشي إلى العدو للضرورة.
م: (وأبو يوسف وإن أنكر شرعيتها في زماننا فهو محجوج عليه بما روينا) ش:
الكلام هنا في موضعين. الأول: في معنى التركيب، وهو أن قوله وأبو يوسف..إلخ
جملة معطوفة على ما قبلها، لأن قوله أبو يوسف مبتدأ وخبره الجملة، أعني
قوله فهو محجوج عليه بما روينا ودخول الفاء فيها لتعلق الجملة الشرطية
بالمتبدأ، والواو في قوله وإن أنكر عطف على مقدر تقدير الكلام: وأبو يوسف
لم ينكر شرعية صلاة الخوف وإن أنكر فهو محجوج عليه بما روينا، ولكن كلامه
لا يخلو عن نظر، لأن أبا يوسف لم ينكر مشروعية صلاة الخوف في زمان الرسول
حتى يكون حديث ابن مسعود حجة عليه، لأن مراده بما روينا هو حديث ابن مسعود
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي قال والأصل فيه رواية ابن مسعود بل يمكن أن
يقال هو محجوج عليه بأحاديث مذكورة في غير هذا الموضع:
(3/164)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منها: حديث سعيد بن العاص، رواه أبو يعلى وأبو داود [....
..] ثنا يحيى عن سفيان حدثني الأشعث بن سليم عن الأسود بن هلال «عن ثعلبة
بن زهدم، قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال: أيكم صلى مع رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا،
فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا وأخرجه أيضا النسائي،» وسعيد بن
العاص كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - استعمله على الكوفة
وغزا بالناس بطبرستان ففتحها، وهي بلاد كثيرة المياه والأشجار شرقي كيلان.
ومنها: ما رواه أبو داود وغيره عن عبد الرحمن بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا عبد الصمد بن حبيب قال: أخبرني
أبي أنهم غزوا مع عبد الرحمن بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
كابل، فصلى بنا صلاة الخوف، وكابل بضم الباء الموحدة ناحية من ثغور
طخارستان متاخم للهند.
ومنها: ما رواه البيهقي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه
صلاها بصفين وغيرها، وقال: ويذكر جعفر بن محمد بن أبيه أن عليا - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير.
ومنها: ما رواه أيضا من طريق قتادة عن أبي العالية عن أبي يوسف أنه صلى
صلاة الخوف، فهؤلاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أقاموها بعد النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - من غير إنكار أحد، فحل محل الإجماع.
1 -
الموضع الثاني: أن العلماء اختلفوا في مشروعية صلاة الخوف بعد رسول الله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - فالجمهور على مشروعيتها، وذهب الحسن بن زياد اللؤلؤي
والمزني وأبو يوسف في رواية أنها غير مشروعة الآن، أما الحسن فالحجة عليه
ما ذكرنا من حديث حذيفة مع سعيد بن العاص، وأما المزني فعلل بالنسخ في زمان
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حيث أخرها يوم الخندق، وهو مردود بما روي عن
هؤلاء الصحابة ويوم الخندق متقدم على المشهور، فكيف ينسخ المتأخر، ذكره
النووي وغيره.
وأما أبو يوسف فإنه علل بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] [النساء: 102] ، فقد شرط كونه - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - فيهم لإقامتها، ولأن الناس كانوا يرغبون في الصلاة خلفه ما لا
يرغبون خلف غيره، فشرعت بصفة الذهاب والمجيء على خلاف القياس، لينال كل
فريق فضيلة الصلاة خلفه، وقد ارتفع هذا المعنى بعده، فلا يجوز أداؤها بصفة
الذهاب والمجيء.
(3/165)
فإن كان الإمام مقيما صلى بالطائفة الأولى
ركعتين وبالطائفة الثانية ركعتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجاب الجمهور في الرد عليه بما فعله الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمْ - بعده - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأن سببها الخوف، وهو يتحقق بعده
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كما في حياته، ولم يكن ذلك دليلا لنيله فضيلة
الصلاة خلفهن لأن ترك المشي وترك الاستدبار فريضة، والصلاة خلفه فضيلة فلا
يجوز ترك الفريضة لإحراز الفضيلة، ثم الآن يحتاجون إلى فضيلة تكثير
الجماعة، فإنها كلما كانت أكثر كانت أفضل.
ومعنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] ... إلخ،
أنت أو من يقوم مقامك في الإقامة، كما في قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] [التوبة: 103] ، وقد يكون الخطاب
للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يختص به كما هو في قَوْله
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}
[الطلاق: 1] (الطلاق: الآية1) كذا في " المحيط "، و " المبسوط " مع أن
الأصل عندنا أن تعليق الحكم بالشرط لا يوجب عدمه عند عدم الشرط، بل هو
موقوف على قيام الدليل، وقد قام الدليل، وهو فعل الصحابة بعد وفاته -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - على وجود الحكم، أو نقول لما جاز للنبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بعذر فجاز لغيره بذلك العذر، كصلاة المريض.
ثم اختلف الأصحاب في نقل هذا القول عن أبي يوسف فقال في " المبسوط "، و "
ملتقى البحار " إنه قوله الثاني وقد رجع إليه، وفي " المحيط " و " زيادات
الشهيد "، وفي " المرغيناني " أطلقت الرواية عنه من غير تعرض إلى كونه قوله
الأول والثاني، وفي " المفيد " و " المزيد " و " شرح مختصر الكرخي " و "
شرح مختصر القدوري " لأبي نصر البغدادي أن هذا قوله الأول وقد رجع عنه، ثم
اعلم أن الخوف لا يؤثر في نقصان عدد الركعات إلا عند ابن عباس والحسن
البصري وطاوس، حيث قالوا: إنها ركعة، وقد ذكرناه.
م: (فإن كان الإمام مقيما صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية
ركعتين) ش: وإنما اختص الإمام لأنه لو كان مقيما تصير صلاة من اقتدى به
أربعا، ولأن الإمام هو الخليفة أو السلطان، وفي الأداء يعبتر نيته لا نية
الجند، وبقولنا قال الشافعي وأحمد ومالك في المشهور، وعن مالك لا تجوز صلاة
الخوف في الحضر، وقال أصحابه يجوز، خلافا لابن الماجشون، فإنه قال: لا
يجوز. ونقل النووي عن مالك عدم جوازها في الحضر على الإطلاق غير صحيح، فإن
المشهور عنده الجواز كما ذكرنا، وقال ابن حزم: يصلي في الحضر بكل طائفة
أربع ركعات، وفي المغرب يصلي بكل طائفة ثلاثا.
والثانية للإمام تطوع، ولو جعلهم في العصر أربع طوائف يصلي بكل طائفة ركعة
فسدت صلاة الطائفة الأولى والثانية، لأنها انصرفت في غير أوان الانصراف،
فلا مرخص لها فيه، وصحت صلاة الثالثة، والرابعة.
(3/166)
لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى الظهر بالطائفتين ركعتين ركعتين»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما الثالثة: فلأنها من الطائفة الأولى لإدراكها الشفع الأول، فقد انصرفت
في أوانه.
وأما الرابعة: فلأنها من الطائفة الثانية لأنها أدركت الشفع الثاني فقد
انصرفت أيضا في أوانه.
[ما يفعل المسبوق في صلاة الخوف] 1
ومن صلى صلاته ثم قام يقضي ما فاته خلف الإمام يقرأ فيما سبق، لأنه منفرد
فلا يقرأ فيما لحق، لأنه خلف الإمام حكما، وتقدم ما لحق على ما سبق، وإذا
لم يقرأ اللاحق يقف بقدر قراءة الإمام، وإن وقف أقل أو أكثر فلا بأس به،
وفي " المنافع " يقوم بقدر ما يطلق عليه اسم القيام. وقال النووي في " شرح
المهذب ": إذا صلى بكل فرقة ركعة وانتظر فراغها، ويجيء التي بعدها، ففي
جوازها قولان، ويبنى عليها صحة صلاة الإمام، ووجه البطلان زيادة الانتظار.
وفي " المغني " لابن قدامة: لا تصح صلاة الأولى والثانية، لأنهما فارقتاه
بعذر، وبطلت صلاة الثالثة والرابعة إذا علمنا ببطلان صلاتهما، وفي "
المرغيناني ": لو كان الإمام مسافرا والقوم مقيمين، صلى بالطائفة الأولى
التي معه ركعة، فانصرفوا إلى جهة العدو، وصلى بالطائفة الثانية ركعة وسلم،
ثم جاءت الطائفة الأولى، فصلى ثلاث ركعات بغير قراءة، أما الركعة الثانية
فلا شك في أنهم لا يقرءون فيهما لأنهم خلف الإمام حكما، وفي الآخرتين
منفردين فيهما، وذكر الحسن في " المجرد " أنهم يقرءون فيهما.
وذكر السرخسي بأن المقيم خلف المسافر لا تلزمه القراءة فيما يقضي رواية
واحدة، وإن كان القوم فيهم مسافرا أيضا يصلي بالأولى ركعة، فمن كان مسافرا
بقي له ركعة، ومن كان مقيما بقي له ثلاث ركعات، ثم ينصرفون إلى جهة العدو
وترجع الطائفة الأولى إلى مكان الإمام، فمن كان منهم مسافرا يصلي ركعة بغير
قراءة، ومن كان مقيما يصلي ثلاثا بغير قراءة في ظاهر الراوية وفي رواية
الحسن يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب، ولا يقرأ في الأولى، فإذا أتمت
الطائفة الأولى صلاتها ذهبت إلى وجه العدو، وتجيء الثانية إلى مكان صلاتها،
فمن كان منهم مسافرا يصلي ركعة بقراءة، ومن كان مقيما يصلي ثلاث ركعات،
الأولى بفاتحة الكتاب وسورة والأخريين بفاتحة الكتاب على الروايات كلها. م:
(لما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى الظهر بالطائفتين ركعتين
ركعتين» ش: هذا الحديث رواه مسلم «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال:
أقبلنا على رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى إذا كنا بذات الرقاع..
الحديث وفيه: ثم نودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة
الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أربع ركعات، وللقوم ركعتان، وليس فيه ذكر الظهر» وهو عند أبي داود وأخرجه
بسند صحيح عن الحسن عن أبي بكر. قال: «صلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
في خوف الظهر، فصلى بعضهم خلفه، وبعضهم
(3/167)
ويصلي بالطائفة الأولى من المغرب ركعتين
وبالثانية ركعة واحدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بإزاء العدو، فصلى ركعتين، ثم سلم فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف
أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكانت لرسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعا، ولأصحابه ركعتين
ركعتين» .
واعلم أن هذا الحديث صريح في أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سلم في ركعتين،
وحديث جابر ليس صريحا فلذلك حمله بعضهم على حديث أبي بكرة، ومنهم النووي،
ومنهم من لم يحمله عليه، ومنهم القرطبي، وقال المنذري في " مختصره ": قال
بعضهم: كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في بعض سفر غير حكم سفر وهم
مسافرون. وقال بعضهم: هذا خاص بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لفضيلة
الصلاة خلفه، وقيل: فيه دليل على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل واعترض بأنه
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم يسلم في الفرض كما في حديث جابر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقيل: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
كان مخيرا بين القصر والإتمام في السفر، فاختار الإتمام واختار لمن خلفه
القصر. وقال بعضهم: كان في حضر ببطن نخلة على باب المدينة، وكان خائفا فخرج
منه محترسا. وقيل قد يتقوى هذا بحديث أخرجه البيهقي في " المعرفة " من طريق
الشافعي: أخبرنا الفقيه ابن علية أو غيره عن يونس عن الحسن عن جابر «أن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن
نخلة فصلى بطائفة ركعتين، ثم سلم. ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم
سلم» . وأخرج الدارقطني عن عتيبة عن الحسن عن جابر «أن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - كان محاصرا يحارب فنودي بالصلاة، فذكره نحوه» والأول أصح إلا
أن فيه شائبة الانقطاع، قال: شيخ الشافعي مجهول.
وأما الثانية ففيه عيينة بن سعيد القطان الواسطي ضعفه غير واحد وقيل لم
يحفظ عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه صلى صلاة الخوف قط في حضر، ولم
يكن له حرب قط في حضر إلا يوم الخندق، ولم تكن آية الخوف نزلت بعد، ولما
ذكر الطحاوي حديث أبي بكرة المذكور، قال محمد: إن يكن ذلك كان وقت كانت
الفريضة تصلى مرتين، فإن ذلك كان يفعل أول الإسلام، حتى نهي عنه، ثم ذكر
حديث ابن عمر «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى أن يصلى فريضة في يوم
مرتين» قال: والنهي لا يكون إلا بعد الإباحة.
م: (ويصلي بالطائفة الأولى، ركعتين من المغرب، وبالثانية ركعة واحدة) ش:
وهذا قول عامة أهل العلم. وقال الثوري: يصلي بالطائفة الأولى ركعة،
وبالثانية ركعتين، وهو أحد قولي الشافعي، وأصحهما الأول، وصلاها هكذا علي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة الهرير، بفتح الهاء وكسر الراء من ليالي
صفين، سميت بذلك لأنهم كانت لهم هرير عند حمل بعضهم على بعض،
(3/168)
لأن تنصيف الركعة الواحدة غير ممكن فجعلها
في الأولى أولى بحكم السبق، ولا يقاتلون في حال الصلاة، فإن فعلوا بطلت
صلاتهم؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر شيخ الإسلام، وقال الشافعي: الإمام في المغرب بالخيار إن شاء صلى مثل
مذهبنا، وإن شاء صلى مثل مذهب الثوري، فلو أخطأ الإمام فصلى الأولى ركعة،
وبالثانية ركعتين جازت صلاة الإمام، لأنه لم يبرح مكانه.
وقال سحنون: فسدت صلاته، لأنه ترك سنتها، وهو قول الشافعي، وفسدت صلاة
الطائفتين، أما الطائفة الأولى فلأنهم انصرفوا في غير أوان انصرافهم وهو
مفسد لوجود المشي من غير حاجة، وأما الطائفة الثانية فلأنهم في الأولى
لإدراكهم الشطر الأول وقد انصرفوا بعد الثالثة وهو أوان عودهم إليها،
فانصرافهم مفسد للإعراض عن العبادة من غير حاجة وعودهم إليها لا يفسد
للإقبال على الطاعة، ولو جعلهم ثلاث طوائف، فصلى بالأولى ركعة فانصرفوا،
وبالثانية الثانية فانصرفوا، وبالثالثة الثالثة فصلاة الطائفة الأولى فاسدة
وصلاة الثانية جائزة ويقضون ركعتين بقراءة والثالثة بغير قراءة لأنه لا حق
فيها، والأولى بقراءة لأنه مسبوق فيها، ولو أنه صلى بثلاث طوائف بكل طائفة
ركعة، فصلاة الإمام تامة، وصلاة الطائفة الأولى فاسدة، وصلاة الطائفة
الثانية والثالثة صحيحة.
م: (لأن تنصيف الركعة الواحدة غير ممكن) ش: تعليل لما قبله، وتقرير هذا أن
الأصل إن صلى الإمام بكل طائفة شطر الصلاة وشطر المغرب ركعة ونصف، فيثبت حق
الطائفة الأولى في نصف ركعة وتنصيفها غير ممكن، لأنها لا تتجزأ، فيثبت حقهم
في كلها م: (فجعلها في الأولى أولى بحكم السبق) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال
مقدر، تقديره أن يقال إذا كان الأمر كذلك فما وجه تخصيص الطائفة الأولى
بركعتين، فأجاب بقوله فجعلها، أي جعل الركعة الواحدة التي هي الركعة
الثانية في الأولى، أي في الطائفة الأولى أحق بحكم السبق، وفيه مدرك آخر
وهو أن الركعة الثانية أعطيت حكم الركعة الأولى في وجوب القراءةوضم السورة
والجهر بالقراءة دون الركعة الثالثة، والطائفة الأولى هي المختصة بالركعة
الأولى دون الطائفة الثانية.
م: (ولا يقاتلون في حال الصلاة) ش: وبه قال ابن أبي ليلى، وقال الشافعي:
يقاتلون وعليهم الإعادة. وقال ابن سريج: لا إعادة عليهم، وفي " الغاية "
وللشافعية ثلاثة أوجه: الأول: تبطل، رجحه صاحب المهذب والبندنيجي، ووافقهما
في الترجيح كثير من العراقيين.
الثاني: لا تبطل، الثالث: إن كرر في شخص تبطل. وقراءة الحاضر في " اشتراط
الجواهر " للمالكية في صلاة المسابقة خوف فوات الوقت وجوازها مع القتال
والمطاردة، واختاره ابن المنذر.
م: (فإن فعلوا) ش: أي فإن فعلوا القتال في الصلاة م: (بطلت صلاتهم) ش: وقال
الشافعي
(3/169)
لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- شغل عن أربع صلوات يوم الخندق، ولو جاز الأداء مع القتال لما تركها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومالك: ولا تبطل لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}
[النساء: 102] [102 النساء] ، والأمر بأخذ السلاح لا يكون إلا للقتال،
ولهذا يجب أخذ السلاح في صلاة الخوف عند الشافعي في قول إن كان في وضعه
خطر، وإن كان الظاهر السلامة يستحب، وبه قال أحمد وداود.
واحتج المصنف لأصحابنا بقوله م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شغل عن أربع
صلوات يوم الأحزاب ولو جاز الأداء مع القتال لما تركها) ش: أي لما ترك أربع
صلوات مع القتال، وفيه نظر، لأن صلاة الخوف ما شرعت بعد يوم الأحزاب.
فإن قلت: روي عن ابن إسحاق والواقدي أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل غزوة
الخندق، وقد صلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاة الخوف في غزوة ذات
الرقاع، وقال الأترازي: فثبت أن صلاة الخوف كانت شرعت قبل الخندق، فلما ترك
رسول الله عليه الصلاة السلام يوم الخندق لأجل القتال، دل أن القتال يمنع
الصلاة.
قلت: قال البيهقي: لا حجة لهم، لأن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق، وقد
جاء التصريح في طريق الحديث، بأن صلاة يوم الأحزاب كانت قبل نزول صلاة
الخوف، رواه النسائي في سننه وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما،
والبيهقي في سننه والشافعي وأبو يعلى والدارمي في مسانيدهم كلهم عن ابن أبي
ذئب عن سعيد المقبري «عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: جئنا
يوم الخندق، فذكره إلى أن قال: وذلك قبل أن ينزل {فَرِجَالًا أَوْ
رُكْبَانًا} [البقرة: 239] [البقرة: 239] » .
1 -
وقال القاضي عياض في " الشفاء ": والصحيح أن حديث الخندق كان قبل نزول
الآية فهي ناسخة، ويمكن أن يعتذر عن المصنف في احتجاجه بالحديث المذكور
بأنه اعتد ما روي عن الواقدي، لأن هذا مختلف فيه، فعن هذا قال النووي: قيل
إنها أي أن صلاة الخوف شرعت في غزوة ذات الرقاع، وهي سنة خمس من الهجرة.
وقيل: إنها شرعت في غزوة بني النضير، والحديث المذكور تقدم في باب قضاء
الفوائت ويوم الأحزاب هو يوم حفر الخندق في المدينة، والأحزاب هم الذين
ذكرهم الله في قوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ} [الأحزاب: 10] [الأحزاب: الآية10] وذلك أن أهل مكة جمعوا الأعراب
وأتوا المدينة من فوق الوادي من قبل المشرق بنو غطفان، ومن أسفل الوادي من
قبل المغرب قريش فتحزبوا وقالوا: سنكون جملة واحدة حتى نناضل محمدا، فأرسل
الله عليهم ريح الصبا في ليلة شاتية فسفت التراب في وجوههم وقلعت الملائكة
الأوتاد وقطعت الأطناب، وأطفئت النيران وأكفئت القدور، وماجت الخيل بعضها
في بعض، وقذف في قلوبهم الرعب، وكبرت الملائكة في جوانب عدتهم فانهزموا من
غير قتال.
(3/170)
فإن اشتد الخوف صلوا ركبانا فرادى يومئون
بالركوع والسجود إلى أي جهة شاؤوا إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}
[البقرة: 239] (البقرة: الآية 239] ، وسقط التوجه للضرورة. وعن محمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أنهم يصلون بجماعة، وليس بصحيح لانعدام الاتحاد في
المكان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحين سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإقبالهم ضرب
الخندق على المدينة - أشار عليه بذلك سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - واشتد الخوف، وظن المؤمنون كل الظن، وقال بعض المنافقين كان محمد
يعدنا كنوز كسرى وقيصر، ولا يقدر أن يذهب إلى الغائط، وكانوا ثم قريبا من
شهر حتى أنزل الله النصر، وذلك قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [الأحزاب: 9] أي ريح الصبا {وَجُنُودًا
لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] أي جنود الملائكة، إلى قَوْله تَعَالَى:
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا
وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] [الأحزاب: 25]
أي بالريح والملائكة، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «نصرت بالصبا وأهلكت
عاد بالدبور» .
م: (فإن اشتد الخوف) ش: يعني إذاكان الخوف أشد من الأول، بحيث لا يتهيأ لهم
النزول عن الدابة لأجل هجوم العدو عليهم م: (صلوا ركبانا) ش: أي حال كونهم
راكبين م: (فرادى) ش: أي منفردين م: (يومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة
شاؤوا) ش: ويجعلون السجود أخفض من الركوع م: (إذا لم يقدروا على التوجه إلى
القبلة) ش: هذا قيد إلى قوله إلى أي جهة شاؤوا.
وفي " الذخيرة ": إذا اشتد الخوف صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا
مستقبلي القبلة وغير مستقبيلها، وقال القاضي عياض في " الإكمال ": لا يجوز
ترك استقبال القبلة فيها عند أبي حنيفة، وهو غلط منه، ولا يجوز في جماعة
عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وبه قال ابن أبي ليلى.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}
[البقرة: 239] (البقرة: 239) ش: أي فإن كان بكم خوف من عدو فصلوا رجالا، أي
راجلين، وهو جمع راجل، وهو الماشي لا جمع رجل، قوله {أَوْ رُكْبَانًا}
[البقرة: 239] يجوز بالإيماء م: (وسقط التوجه) ش: أي إلى القبلة م:
(للضرورة) ش: أي لأجل الضرورة م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
أنهم) ش: أي أن الركبان م: (يصلون بجماعة) ش: يعني عند محمد يجوز، وبه قال
الشافعي م: (وليس بصحيح) ش: أي ما قاله محمد ها هنا، بخلاف ظاهر الراوية
وهو غير صحيح م: (لانعدام الاتحاد في المكان) ش: أي في مكان الصلاة، وهذا
لا يلزم الفصل بين المقتدي وبين الإمام بما ليس بمكان للصلاة، فلا يجوز كما
لو كان بينهما نهر أو طريق أو حائط.
وإن صلوا ركبانا والدابة تسير تجوز، والأصل أن كل صلاة تجوز راكبا تجوز مع
السير كالنفل، وفي " المحيط " ولأن السير فعل الدابة حقيقة، وإنما أضيف
إليه بمعنى فإذا جاء العدو
(3/171)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
انقطعت الإضافة إليه، بخلاف ما إذا صلى وهو يمشي حيث تفسد صلاته، لأن المشي
فعل حقيقة، وهو مناف، بخلاف الذاهب إلى وجه العدو، لأنه ليس بمصل في تلك
الحال، بل هو في حرمة الصلاة.
وفي " زيادات الشهيد ": لا تجوز بالإيماء في المصر عند أبي حنيفة، وعن أبي
يوسف تجوز في حالة المشي بالإيماء، وبه قال مالك والشافعي، ويصلون ركبانا
ومشاة في جماعة، والخوف من العدو والسبع سواء، فالخائف من السبع إذا لم
يستطع النزول عن دابته يصلي بالإيماء، كالخائف من العدو، وكذلك السابح في
البحر، لأن فعلهما ينافي الصلاة فصار كالأكل.
والراكب لا يصلي في حال السير إذا كان طالبا، لعدم الضرورة، وإن كان مطلوبا
يصلي للضرورة، وإذا رأوا سوادا ظنوا أنه عدو فصلوا صلاة الخوف فإذا هو إبل
أو بقر أو غنم فعليهم الإعادة، وبه قال الشافعي في قول أحمد. واختاره
المزني، وفي قول لا يجب عليهم الإعادة، وبه قال مالك. ولو كان ماشيا هاربا
من العدو فحضرته الصلاة ولم يمكنه الوقوف لا يصلي ماشيا، وعند الشافعي يصلي
بالإيماء في تلك الحالة ثم يعيد. والفرض على الدابة بعذر المطر واللص، وفي
البادية تجوز إذا لم يقدروا على صلاة الخوف على ما وصفن آخرها، ولا يصلون
صلاة غير مشروعة، وعن مجاهد وطاوس والحكم والحسن وقتادة والضحاك يصلون صلاة
الخوف لركعة واحدة يومئون إيماء.
وروي هذا عن جابر أيضا، وقال الضحاك: فإن لم يقدروا يكبرون تكبيرتين، حيث
كان وجههم، وقال إسحاق: إن لم يقدروا فتكبيرة واحدة.
أخذ الأسلحة ليس بواجب، وأخذها لا يفسد صلاته بالنص، وبه قال مالك وأحمد
وداود، وعند الشافعي في وجوب أخذ السلاح قولان، والأصح استحبابه وعدم
وجوبه، وفي " الوسيط " وكيف ما كان لا تبطل الصلاة بتركه.
ذهب فقهاء الأمصار إلى أن صلاة الخوف تصح بثلاثة أنفس، إمام ومأموم وآخر
تجاه العدو. ونقل أبو بكر بن أبي داود عن الشافعي أن كل طائفة أن كل طائفة
بثلاثة، ونقل عنه القرافي مثله، وفي " المغني " للحنابلة كل طائفة ثلاثة،
وقال ابن حزم: يصليها من خاف من كافر أو مسلم باغ أو سبع أو سيل أو نار أو
مجنون، أو حيوان عاد أو خوف عطش أو فوت رفقة أو متاع أو ضلال طريق. قال
النووي: هي جائزة في كل قتال ليس بحرام واجبا كقتال الكفار، والبغاة وقطاع
الطريق، وكذا الصائل على الإنسان إذا أوجبنا الدفع أو كان مباحا كقتال من
قصد أخذ ماله أو مال غيره.
(3/172)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يجوز في الحرم كقتال أهل العدل، وقتال أهل الأموال لأخذها، وقتال
القبائل عصبية، ويجوز للمنهزمين إذا زاد الكفار على الضعف أو كانوا متحرفين
لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإلا فلا.
ولو كان عليه القصاص يرجو العفو إذا سكن غضبه فهرب يصلي صلاة الخوف،
واستبعده إمام الحرمين، وهذا عند شدة الخوف، وعند مالك وأحمد لا يترخص في
كل قتال هو حرام.
وفي " فتاوي المرغيناني " في صلاة الخوف ليست مشروعة في حق العاصي في
السفر.
وفي " الزيادات ": لا يجوز الانحراف بعد ذهاب العدو، ولزوال سبب الرخصة،
ولو شرعوا فيها ثم حضر العدو جاز الانحراف في أوانه، ولو انحرفوا على ظن
العدو، ثم بان أنه إبل بنوا ما لم يجاوزوا الصفوف استحسانا، وفي " المبسوط
" لو سها الإمام في صلاة الخوف سجد للسهو وتابعه الطائفة الأولى يسجدون في
إتمام صلاتهم.
(3/173)
|