البناية شرح الهداية

باب الجنائز إذا احتضر الرجل وجه إلى القبلة على شقه الأيمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الجنائز] [ما يفعل بالمحتضر]
م: (باب الجنائز) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الجنازة. وجه المناسبة بين البابين من حيث إن السابق في بيان حالة الخوف، وهذا الباب في أمور الموت والخوف قد يفضي إلى الموت أو الباب السابق في بيان حالة صلاة الحياة، وهذا في صلاة حالة الموت.
وأما تأخير هذا الباب عن الأبواب السابقة في بيان الصلوات المطلقة أي الكاملة، وهذا الباب في الصلاة المعدة والأبواب السابقة في الصلوات التي هي حسن بمعنى في نفسها وهذا الباب في صلاة حسن بمعنى في غيرها، فالأول مقدم على الثاني. والجنائز جمع جنازة، وهي بفتح الجيم، اسم للميت المحمول، وبكسرها اسم للنعش الذي يحمل عليه الميت، ويقال عكس ذلك، حكاه صاحب المطالع. ويقال الجنازة بكسر الجيم وفتحها، والكسر أفصح، واشتقاقها من جنزه، إذا ستره، ذكره ابن فارس وغيره، ومضارعه يجنز بكسر النون.
م: (إذا احتضر الرجل) ش: بضم التاء وكسر الضاد المعجمة. قال في " المغرب ": احتضر الرجل: مات لأن الوفاة حضرته أو ملائكة الموت. ويقال فلان يحتضر، أي قريب من الموت. قال: ومنه إذا احتضر الرجل. وفي " النهاية " حضر الرجل واحتضر على ما لم يسم فاعله إذا دنا موته، وروي بالخاء المعجمة، وقيل تصحيف. وفي " المحيط " احتضر الرجل، أي دنا موته، وعلاماته أن يسترخي قدماء فلا ينتصبان، ويتعوج أنفه ويتخسف صدغاه، وتمتد جلدة الخصية؛ لأن الخصبة تنشمر بالموت وتدلى جلدتها.
م: (وجه إلى القبلة على شقه الأيمن) ش: وعليه نص الشافعي وأكثر أصحابه، وبه قال مالك وأحمد، وكرهه مالك وفي رواية ابن القاسم، لأن سعيد بن المسيب أنكر على من فعل ذلك.
وللجمهور ما رواه البيهقي «عن أبي قتادة أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا: توفي وأوصى بثلثه لك يا رسول الله وأوصي أن يوجه إلى القبلة لما احتضر، فقال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " أصاب الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده " ثم ذهب فصلى عليه، وقال: " اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك وقد فعلت» . وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح، ولا أعلم في توجيه المحتضر إلى القبلة غيره.
قلت: هذا ليس بمساعد له على الصفة المذكورة، وإنما فيه مجرد الإيصاء بالتوجيه إلى القبلة، وأما مجرد التوجيه ففيه حديث عمر بن قتادة، وكانت له صحبة «أن رجلا سأل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما الكبائر، قال هي تسع، الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وعقوق

(3/174)


اعتبارا بحال الوضع في القبر لأنه أشرف عليه، والمختار في بلادنا الاستلقاء، لأنه أيسر لخروج الروح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» .
أخرجه أبو داود في الوصايا، والنسائي في المحاربة وذكر أبوحفص بن شاهين في كتاب الجنائز له بابا في توجيه المحتضر، ولم يذكر فيه غير أثر عن إبراهيم النخعي قال: يستقبل بالميت القبلة. وعن عطاء بن أبي رباح نحوه بزيادة على شقه الأيمن، ما علمت أحدا تركه في سنته م: (اعتبارا بحال الوضع في القبر) ش: يعني يعتبر توجيه من أشرف على الموت إلى القبلة على شقه الأيمن اعتبارا بحال وضع الميت في قبره فإنه في قبره يوجه إلى القبلة على شقه الأيمن.
وقال الأترازي لأنه السنة، ولم يبين السنة كيف هي! وقال السغناقي الاضطجاع على ستة أنواع: اضطجاع في حالة المرض، فإنه يضطجع على شقه الأيمن عرضا للقبلة. واضطجاع في حالة صلاة المريض، وقد ذكر اضطجاعه في حالة النزع، فإنه يوضع كما يوضع في حالة المرض. واضطجاع في حالة الغسل بعدما قضى نحبه فلا رواية فيه عن أصحابنا كيف يوضع على التخت، إلا أن العرف فيه يضطجع مستلقيا على قفاه طولا نحو القبلة كما في حالة الصلاة. واضطجاع في حالة الصلاة عليه، فإنه يضطجع معترضا للقبلة على قفاه. واضطجاع في حالة الوضع في اللحد، فإنه يوضع على شقه الأيمن، كما في حالة المرض.
قلت: هذا كله بالعرف والقياس، ولم يذكر فيه أثرا، ولا حديثا، مع أن المصنف قاس اضطجاع من أشرف على الموت على اضطجاع الميت في قبره، وهذا الشارح ذكر عكس هذا. وذكر صاحب الدراية هنا حديث البراء بن معرور المذكور آنفا، وقد استوفى الكلام فيه.
م: (لأنه أشرف عليه) ش: هذا تعليل قوله: اعتبارا بحال الوضع في القبر؛ أي لأن المحتر أشرف على القبر، والإشراف على الشيء الدنو منه وما قرب من الشيء يأخذ حكمه م: (والمختار في بلادنا) ش: أراد بها ما وراء النهر م: (الاستلقاء) ش: أي استلقاء المحتضر على قفاه م: (لأنه الأيسر لخروج الروح) ش: أي لأن الاستلقاء أيسر لخروج الروح، وبه قال الشافعي في قول، وفي " شرح الوجيز ": ويلقى على قفاه.
وفي " المحيط " و " الأسبيجابي " وغيرهما أن العرف أنه يوضع مستلقيا على قفاه وقدماه إلى القبلة، قالوا هو أيسر لخروج الروح، ولم يذكروا وجه ذلك، ولا يمكن معرفته بالتجربة، وهو أسهل لتغميضه وشد لحييه عقيب الموت، وأمنع لتقوس أعضائه ويرفع رأيه قليلا ليصير وجهه إلى القبلة دون السماء، وبه قطع الجوسي والغزالي من الشافعية، قال إمام الحرمين: وعليه عمل

(3/175)


والأول هو السنة، ولقن الشهادة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا مواتكم شهادة أن لا إله إلا الله»
والمراد الذي قرب من الموت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الناس. وقال أبو بكر الرازي: هذا إذا لم يشق عليه، فإن شق ترك على حاله، والمرجوم لا يوجه.

م: (والأول هو السنة) ش: أي توجيهه إلى القبلة على شقه الأيمن هو السنة، ولم يبين السنة ما هي م: (ولقن الشهادة) ش: كذا بالإفراد، ولفظ القدوري ولقن الشهادتين بالتثنية، وقال السغناقي: لقن الشهادة، ولفظ " المختصر " ولقن الشهادتين، وهوالمراد أيضا هنا. وفي نسخة الأترازي بخطه، ولقن الشهادتين، ثم فسره بقوله لا إله إلا الله، وقوله أشهد أن محمدا رسول الله. وذكر السروجي بلفظ الإفراد، ثم قال: ومثله في " المحيط " و " البدائع "، و " الأسبيجابي "، و " شرح مختصر الكرخي " و " التجريد " و " جوامع الفقه " و " خير مطلوب " و " القنية ".
وفي " المفيد " و " المزيد " و " التحفة " و " الينابيع " و " المنافع " ولقن الشهادتين، وهو الصواب. واكتفي فيما تقدم بشهادة التوحيد، لأن الشهادة بالرسالة تبع لها، ولا يقبل دون الشهادة الثانية، ولهذا لم يذكر الثانية في الحديث الذي يأتي بعده، وكذا اختلفت كتب الشافعية، وفي " الذخيرة " للمالكية و " المغني " للحنابلة: لقن قوله لا إله إلا الله ووجههم أنه موجه، ويلزم من اعترافه بالتوحيد اعترافه بالشهادة الأخرى. قلت: فيه نظر لا يخفى، وعلم من هذا كله أن نسخة المصنف بالإفراد، والأترازي أصلح وأثبته بالتثنية، فافهم.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله» ش: هذا الحديث روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر وواثلة بن الأسقع وابن عباس ومسعود وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وحديث الخدري عند الجماعة ما خلا البخاري. وحديث أبي هريرة عند مسلم نحوه سواء. وحديث جابر عند الطبراني في كتاب الدعاء له مرفوعا نحوه. ورواه العقيلي في الضعفاء، وأعله بعبد الوهاب بن مجاهد. وحديث عبد الله بن جعفر عند البزار في " مسنده "، وحديث عبد الله بن عمر عند ابن شاهين في كتاب الجنائز ل وحديث واثلة بن الأسقع عند أبي نعيم في " الحلية " وحديث ابن مسعود وابن عباس عند الطبراني، وحديث عائشة عند الطبراني أيضا مرفوعا، وعند النسائي أيضا، «لقنوا هلكاكم» بدل موتاكم.

م: (والمراد به الذي قرب من الموت) ش: بطريق المجاز، باعتبار ما يؤول إليه، وذلك لأن

(3/176)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التلقين حقيقة، ما يطاوعه التلقن، وحصول ذلك من الميت محال، فالأمر به حقيقة يكون أمرا للعاجز عنه، والعقل يأباه فوجب حمله على هذا المعنى.
فإن قلت: عند أهل السنة، هذا على حقيقته لأن الله تعالى يحييه على ما جاءت به الآثار فلم يحمله على المجاز.
قلت: لأن المقصود من ذلك أن يكون آخر كلام الميت كلمة الشهادة، فالتلقين في قبره لا يساعده المقصود، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كان آخر كلامه قول لا إله إلا الله دخل الجنة» رواه أبو هريرة وأخرجه ابن حبان، وعزاه ابن الجوزي للبخاري، وليس كذلك، فإنه ليس فيه وجعله المحب الطبري من المتفق عليه، وليس كذلك، ومعنى التلقين أن تذكر بين يديه، وإذا قال مرة لا تعاد عليه إلا أن يتكلم، ولا يقال له قل.
وفي شرح " الوجيز " ولا يلح عليه ولا يواجهه، بل يذكر بين يديه، وهذا التلقين مستحب بالإجماع.
وأما التلقين بعد الموت فلا يلقن عندنا في ظاهر الرواية، وعند الشافعي يستحب أن يلقن بعد الدفن، فيقال يا عبد الله أو يا أمة الله اذكر ما خرجت عليه من الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن الجنة حق، والنار حق والبعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيا ورسولا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا، لظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لقنوا موتاكم» كذا في " شرح الوجيز ".
قلت: روى الطبراني «عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل يا فلان بن فلان، فإنه يسمعه ولا يجيبه، ثم يقول: يا فلان بن فلان، فإنه يستوي قاعدا ثم يقول يا فلان بن فلان فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، فإن منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه، ويقول انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته.
قال: فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف أبيه قال ينسبه إلى أمه حواء - عَلَيْهَا السَّلَامُ - يا فلان بن حواء» إسناده صحيح، وقد قواه الضياء في أحكامه، كذا قيل، ولكن الراوي عن أبي

(3/177)


فإذا مات شد لحياه وغمض عيناه، بذلك جرى التوارث ثم فيه تحسينه فيستحسن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أمامة سعيد الأزدي وقد بيض له ابن أبي حاتم. وفي " خيرة الفقهاء "، و " فتاوى الظهيرية " جوز بعض المشايخ التلقين بعد الدفن، ولا أراه يفعل.
قلت: وكيف لا يفعل! وقد روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنه أمر بالتلقين بعد الدفن، فيقول يا فلان بن فلان، أو يا فلانة بنت فلانة دينك الذي كنت عليه» إلى آخر ما ذكرناه في " شرح الوجيز ".
وقال الحلواني: لا نهي ولا يؤمر به: قال قاضي خان: إن كان التلقين لا ينفع لا يضر أيضا فيجوز، وحكي عن ظهير الدين المرغيناني أنه لقن بعض الأئمة من السلف بعد دفنه، وأوصى أن يلقن هو أيضا بعد دفنه، كذا في " عباب المفتي ".

[ما يفعل بالميت عقب موته]
م: (فإذا مات) ش: أي المحتضر م: (شد لحياه) ش: بفتح اللام تثنية لحي، وهو الحنك م: (وغمض عيناه) ش: يعني أطبق جفناه م: (بذلك) ش: أي شد اللحيين وتغميض العينين م: (جرى التوارث) ش: من الأئمة على ذلك، وفي تغميض البصر أحاديث: منها ما أخرجه مسلم في صحيحه «عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ... » الحديث.
ومنها ما رواه ابن ماجه في " سننه " عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرا، فإن الملائكة تؤمن على ما يقول أهل الميت» ، ورواه أحمد في " مسنده "، وأعله ابن حبان بقزعة بن سويد، أحد رواته، «ويقول مغمضه بسم الله وعلى ملة رسول الله، وروي وعلى وفاة رسول الله، اللهم يسر عليه أمره وسهل عليه ما بعده وأسعده بلقائك، واجعل ما خرج إليه خيرا مما خرج عنه» .
م: (ثم فيه تحسينه فيستحسن) ش: أي فيما ذكر من شد اللحيين وتغميض العينين تحسين صورة الميت، لأنه إذا ترك التغميض يبقى فظيع المنظر في أعين الناس، وفي ترك شد اللحيين كاف من دخول الهوام في جوفه، والماء عند غسله، ويشد بعصابة عريضة من فوق رأسه.
وفي " المنتقى " يصنع بالميت عشرة أشياء: يوجه إلى القبلة على قفاه أو على يمينه، ويمد أعضاءه، ويغمض عيناه، ويقرأ سورة يس عنده، ويوضع عنده من الطيب، ويلقن كلمة الشهادة، ويخرج من عنده الحائض والنفساء والجنب، ويوضع على بطنه سيف أو مرآة لئلا ينتفخ، ويقرأ عنده القرآن إلى أن يرفع، وهكذا في كتب أصحاب الشافعي.
وكره مالك قراءة القرآن عنده، وأصحابنا كرهوا القراءة بعد موته حتى يغسل، ويجعل

(3/178)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على سرير أو لوح، حتى لا تغيره نداوة الأرض. وفي " فتاوى قاضي خان ": ولا بأس بجلوس الحائض والجنب عند موته، ثم المستحب أن يعجل في جهازه ولا يؤخر، ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله به، وأعلمهم بسياسته وأتقاهم، ويذكره بالتوبة من المعاصي والمظالم، وبالوصية، وإذا رآه قد نزل به [....] بل حلقه بأن يقطر في فيه ماء أو شرابا، ويندى بفيه بقطنة ونحوها.

(3/179)