البناية شرح الهداية

فصل في الغسل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في غسل الميت] [كيفية غسل الميت]
م: (فصل في الغسل) ش: أي هذا فصل في بيان غسل الميت، وهو بفتح الغين، وفي بعض النسخ فصل في غسل الميت، ولما بين ما يفعل بالمحتضر وقت احتضاره، شرع يبين ما يفعل به بعد موته، فبدأ بالغسل، لأنه أول ما يفعل بالميت، ثم ذكر فصل التلقين ثم فصل الصلاة، ثم فصل حمله، ثم فصل الدفن على الترتيب الخارجي، ليوافق الترتيب الوضعي.
وقال الشيخ أبو نصر البغدادي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الأصل في وجوب غسل الميت أن الملائكة - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - غسلوا آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقالوا لولده: هذه سنة موتاكم، وغسل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين مات، وفعل ذلك المسلمون بعده، وقال صاحب الدراية: هو واجب على الأحياء بالسنة وإجماع الأمة، وتفرغ من المعنى.
أما السنة: فما روي عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال «إن آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما حضرته الوفاة نزلت الملائكة بحنوطه وكفنه من الجنة، فلما مات غسلوه بالماء والسدر ثلاثا، وكفنوه في وتر من الثياب، وصلوا عليه عند البيت، وأمهم جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال هذه سنة ولد آدم من بعده» .
وما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «قال لأم عطية حين توفيت ابنته رقية اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر إن رأيتن ذلك، وقال بماء وسدر» وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «للمسلم على المسلم ستة حقوق، وذكر منها إذا مات أن يغسله» وأجمعت الأمة على هذا.
وأما المعنى أن الميت في الصلاة بمنزلة الإمام، حتى لا تجوز الصلاة بدونه، وهذا شرط تقديمه على القوم، وطهارة الإمام شرط لصلاة القوم، ولأن ما بعد الموت حال العرض على الرب والرجوع عليه، فوجب تطهيره بالغسل تعظيما للرب، وفي " شرح الوجيز " الغسل والتلقين والصلاة فرض الكفاية بالإجماع. انتهى.
قلت: حديث أبي بن كعب رواه عبد الله بن أحمد في " المسند " ولفظه «أن آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غسلته الملائكة ولقنوه وحنطوه وحفروا له وألحدوا وصلوا عليه، ثم دخلوا قبره فوضعوه فيه ووضعوا عيه اللبن، ثم خرجوا من قبره، ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا: يا بني آدم هذه سنتكم» رواه البيهقي بمعناه.
وحديث أم عطية أخرجه البخاري ومسلم، واختلف المشايخ في سبب وجوب غسل الميت، قال بعضهم هو الحدث، فإن الموت سبب لاسترخاء مفاصله، والنهي عن غسل الأعضاء الأربعة في الحياة لتكرر سببه، والموت لا يتكرر، وقال الشيخ أبو عبد الله الجرجاني وغيره من

(3/180)


وإذا أرادوا غسله وضعوه على سرير لينصب الماء عنه، وجعلوا على عورته خرقة إقامة لواجب الستر ويكتفى بستر العورة الغليظة هو الصحيح تيسيرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مشايخ العراق: يقولون إنما وجب لنجاسة الموت، إذ الآدمي له دم مسفوح كسائر الحيوانات، ولهذا تنجس البئر بموته فيها.
وفي " المحيط " و " البدائع ": لو دفع فيها بعد غسله لا يتنجس، ولو حمل ميتا وصلى به قبل غسله لا تصح صلاته، بخلاف المحدث، وفي " البدائع " عن محمد بن شجاع البلخي، أن الآدمي لا ينجس بالموت كرامة له، لأنه لو نجس لما حكم بطهارته بالغسل كسائر الحيوانات التي حكم بنجاستها بالموت، وقول أبي عبيد الله هو قول العامة وهو الأظهر، وعند كل واحد من مالك والشافعي وأحمد، خلاف في تنجس المؤمن بالموت، وقال بعض الحنابلة: يتنجس بالموت ولا يظهر بالغسل، ويتنجس الثوب الذي ينشف به كسائر الميتات، وهذا باطل بلا شك.

م: (وإذا أرادوا غسله) ش: بفتح الغين، أي غسل الميت م: (وضعوه على سرير لينصب الماء عنه) ش: أي لينزل الماء عنه إلى أسفل، واختلف في كيفية الوضع. قال الأسبيجابي وصاحب شرح الطحاوي: يوضع مستلقيا على قفاه نحو القبلة كالمحتضر، ومثله قال بعض أئمة خراسان، واختاره بعض أصحابنا أنه يوضع مستلقيا عرضا، كما يوضع في القبر، وقال شمس الأئمة: الأصح أنه يوضع كما تيسر، وفي " التحفة " يوضع على شقه الأيسر حتى يبدأ بشقه الأيمن في الغسل، ثم على الأيمن، وقال الأسبيجابي: لا رواية عن أصحابنا في ذلك، والعرف أن يوضع على التخت على قفاه طولا نحو القبلة.
م: (وجعلوا على عورته خرقة) ش: لأن ستر العورة واجب على كل حال، والآدمي محترم حيا وميتا، ألا ترى أنه لا يحل للرجال غسل النساء، ولا للنساء غسل الرجال الأجانب بعد الوفاة، وقد عرف فيما مضى حد العورة أنها من السرة إلى الركبة والركبة عورة عندنا، وهذا هو الأصل.
ولكن ظاهر الرواية خلاف هذا، أشار إليه بقوله: م: (ويكتفى بستر العورة الغليظة) ش: وهي القبل والدبر، وعليه الفتوى أشار إليه بقوله: م: (هو الصحيح) ش: من المذهب، وبه قال مالك أيضا، ذكره أيضا في " المدونة "، واحترز به عن رواية النوادر، فإنه قال فيه ويوضع على عورته خرقة من السرة إلى الركبة.
وفي " المبسوط " وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يؤزر بإزار سابغ، كما يفعله بحياته إذا أراد الاغتسال، وفي ظاهر الراوية قال يشق عليهم غسل ما تحت الإزار فيكتفى ستر العورة الغليظة بخرقة، م: (تيسيرا) ش: أي لأجل التيسير على الغاسل.

(3/181)


ونزعوا ثيابه ليمكنهم التنظيف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " البدائع " يغسل عورته تحت الخرقة بعد أن يلف على يده خرقة وينجى عند أبي حنيفة، كما كان يفعله في حال حياته، وعندهما لا ينجى، وفي " المحيط " و " الروضة " لا ينجى عند أبي يوسف ويغسل سرته بخرقة يلقها على يده، وقيل يجعل الغاسل عل إصبعه خرقة يمسح أسنانه ولهاته ولبته ويدخلها في منخريه أيضا.

م: (ونزعوا ثيابه ليمكنهم التنظيف) ش: أي تنظيف الميت، وعن مالك مثله، وهو ظاهر قول أحمد وقول ابن سيرين.
وقال الشافعي وأحمد في رواية: المستحب أن يغسل في قميص واسع الكمين، وإن كان ضيق الكمين خرقهما، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غسل في قميص فما كان سنة في حقه فهو سنة في حقنا. قلت: نص الشافعي أنه يستحب أن يغسل الميت في قميص يلبس عند إرادة غسله، وصرح به المسعودي والرافعي، ويدخل الغاسل يده في كمه، ويصب الماء من فوق القميص ويغسل من تحته، واستدل على ذلك بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غسلوه وعليه قميصه يصبون الماء عليه ويدلكونه من فوق القميص» رواه أبو داود، وقال النووي: إسناده صحيح.
قلت: قيل إنه ضعيف، ولئن سلمنا صحته فنقول كان ذلك من خصائصه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، يدل على ذلك ما رواه أبو داود «عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: سمعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تقول: لما أرادوا غسل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو، اغسلوا رسول الله وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فغسلوه وعليه قميص، يصبون الماء فوق القميص دون أيديهم» .
وكانت «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه» يعني لو علمنا أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يغسل بعد الوفاة، ما غسله إلا نحن، وهذا يدل على أن عادتهم كانت تجرد موتاهم، كان في زمان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند غسلهم، وخص من ذلك النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأجل احترامه وتعظيمه، ولأنه إذا غسل في قميصه ينجس القميص بما يخرج منه، وقد لا يطهر بصب الماء عليه، فيتنجس الميت به، بخلاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه كان مأمونا في حقه؛ لأنه كان طيبا حيا وميتا، على أن مذهبهم خلاف ما فعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإنه لم يلبس قميصا عند غسله، بل غسل في قميصه الذي مات فيه إن صح الحديث به.

(3/182)


ووضؤوه من غير مضمضة واستنشاق، لأن الوضوء سنة الاغتسال، غير أن إخراج الماء منه متعذر فيتركان، ثم يفيضون الماء عليه اعتبارا بحال الحياة، ويجمر سريره وترا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[وضوء الميت من غير مضمضة واستنشاق]
م: (ووضؤوه من غير مضمضة واستنشاق) ش: بتشديد الضاد من وضأ بالتشديد، وفي " المبسوط " ويبدأ بالميامن في وضوئه.
وقال صاحب " المغني ": ولا يدخل الماء فاه ولا منخريه. وفي قول أكثر أهل العلم وهو قول سعيد بن جبير والنخعي والثوري وأحمد، وقال الشافعي: يمضمض ويستنشق كما يفعله الحي.
قلنا: المضمضمة إدارة الماء في داخل الفم، والاستنشاق إدخال الماء في الأنف وجذبه إلى الخياشيم، وهذا كله متعذر، وقال النووي: المضمضة جعل الماء في فيه.
قلت: هذا خلاف ما قاله أهل اللغة. وقال الجوهري: المضمضة تحريك الماء في الفم، وإمام الحرمين لم يصوب [....
.] .
وفي " المحيط " و " الروضة " فرق بين الميت والجنب في الغسل في خمسة أشياء: لا يمضمض بخلاف الجنب، والميت لا يستنشق بخلاف الجنب، والميت يبدأ بغسل وجهه، والجنب يغسل يديه، وفيه خلاف الثلاث، والميت لا يمسح برأسه. هكذا روي عن محمد في " النوادر "، ومثله في " الإيضاح ".
وقال خواهر زاده في " شرح المبسوط ": الصحيح أن الميت كالجنب في مسح الرأس، والميت لا يؤخر غسل رجليه، بخلاف الجنب.
وفي " مبسوط شيخ الإسلام ": الصحيح أن الجواب في غسل الرجلين واحد. وقال الحلواني: هذا الذي ذكر في حق البالغ والصبي العاقل، أما في الصبي الغير عاقل لا يوضأ وضوء الصلاة. لأنه كان في حياته لا يصلي.
م: (لأن الوضوء سنة الاغتسال، غير أن إخراج الماء منه) ش: من الفم والأنف م: (متعذر فيتركان) ش: أي المضمضة والاستنشاق م: (ثم يفيضون الماء عليه اعتبارا بحال الحياة) ش: أي يفيضون الماء على الميت ثلاث مرات كما في حالة الحياة م: (ويجمر سريره وترا) ش: أي ويبخر.
وفي " المغرب ": جمر ثوبه وأجمره إذا بخره وفي طلبه فيطيب بعود إذا، وفي تجميره يفعل هذا عند إرادة غسله، إخفاء للرائحة وإكراما للميت، وقيل: المراد من التجمير إدارة المجمر حول السرير وترا، يعني واحدة أو ثلاثا أو خمسا.
وقال الأسبيجابي: لا يزاد عليها، وتعيين الوتر لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله وتر يحب

(3/183)


لما فيه من تعظيم الميت، وإنما يوتر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله وتر يحب الوتر» ، ويغلي الماء بالسدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوتر» رواه البزار في " مسنده " من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعا وسكت عنه وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسو الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدة، من أحصاها دخل الجنة، إنه وتر يحب الوتر» .
وروى الأربعة وأحمد عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر» . قال الترمذي: حديث حسن، ورواه ابن خزيمة في " صحيحه "، وروى البزار عن أبي سعيد الخدري نحو روايته عن ابن عمر.
فإن قلت: ما المراد من السرير.
قلت: ذكر في " المجتبى " أن المراد من السرير الجنازة، فيجمر السرير والكفن، وقد ترك الناس التجمير على الجنازة في ديارنا، وبقي التجمير مقصورا على الكفن. وفي " الكافي " معنى قوله: ويجمر [....
....] وقال صاحب " الدراية ": وسياق كلام المصنف يدل على أن المراد من السرير التخت الذي يغسل عليه الميت، وقد صرح في " المجمع " بقوله: وغسل على سرير مجمر.
م: (لما فيه) ش: أي في التجمير، دل عليه قوله: ويجمر م: (من تعظيم الميت) ش: وإكرامه بالرائحة الطيبة ولدفع الرائحة الكريهة م: (وإنما يوتر) ش: يعني وإنما يجمر وترا م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن الله وتر يحب الوتر» ش: وقد مر الكلام فيه آنفا.

م: (ويغلي الماء بالسدر) ش: يغلي من الإغلاء لا من الغلي والغليان، لأنه لازم، والسدر ورق شجر النبق، وهو عود، وكرهت الشافعية وبعض الحنابلة الماء المسخن وخيره مالك ذكره في " الجواهر " وفي " المحلى " من كتب الشافعية قيل: المسخن أولى بكل حال، وهو قول إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " الدراية " وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - الماء البارد أفضل إلا أن يكون عليه وسخ أو نجاسة لا تزول إلا بالماء الحار، أو يكون البرد شديدا، إلا أن البارد يشد البدن والحار يرخيه، والميت استرخى، فلو غسل بالماء الحار ازداد استرخاؤه فيفضي إلى النجس فتتنجس الأكفان، فكان البارد أولى. قلت: الحار أولى؛ لأن المقصود منه غاية التطهير.

(3/184)


أو بالحرض مبالغة في التنظيف، فإن لم يكن فالماء القراح لحصول أصل المقصود، ويغسل رأسه ولحيته بالخطمي ليكون أنظف له، ثم يضجع على شقه الأيسر فيغسل بالماء والسدر حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو بالحرض) ش: بضم الحاء المهملة وسكون الراء بعدها الضاد المعجمة وهو الأشنان م: (مبالغة في التنظيف) ش: أي لأجل المبالغة في تنظيف الميت م: (فإن لم يكن) ش: أي السدر والأشنان م: (فالماء القراح) ش: بفتح القاف وهو الخالص. وقوله الماء مبتدأ والقراح صفته، والخبر محذوف، أي فالماء القراح متعين م: (لحصول أصل المقصود) ش: وهو التطهير، لأن الماء هو الأصل في باب التطهير، وهذا الترتيب الذي ذكره يوافق مبسوط شمس الأئمة ولا يوافق مبسوط فخر الإسلام و " المحيط " لأنه ذكر فيها أولا بالماء القراح، ثم بالماء الذي يطرح فيه السدر، ثم في الثالثة يجعل الكافور في الماء ويغسل في المرة الأولى، والثانية بالماء القراح، والثالثة بالسدر، وقال الشافعي: يختص السدر بالأولى، وبه قال ابن الخطاب من الحنابلة. وعن أحمد: يستعمل السدر في الثلاث كلها، وهو قول عطاء والنخعي وإسحاق وسليمان بن حرب - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.

[غسل رأس الميت ولحيته بالخطمي]
م: (يغسل رأسه ولحيته بالخطمي) ش: بكسر الخاء المعجمة، وهو خطمي العراق، لأنه مثل الصابون في التنظيف، وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في استعمال السدر والخطمي في غسل لحيته ورأسه وجهان. وقال أبو إسحاق المروزي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المقصود من الغسل التنظيف، فيجب أن يستعان بما يزيد فيه التطهير، وأظهرهما أنه لا استعمال بهما، لأنهما سالبان للطهورية.
قلت: لا نسلم ذلك بل يزيد في التطهير، وبقولنا قال أحمد، وكره ابن سيرين الخطمي، إلا أن لا يجد سدرا.
م: (ليكون أنظف له) ش: أي ليكون غسل رأسه ولحيته بالخطمي أنظف له، أي للميت م: (لم يضجع على شقه الأيسر) ش: أي على جانبه الأيسر، وذلك ليكون بداية الغسل من الميمنة، لأنها هي السنة م: (فيغسل بالماء والسدر حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه) ش: بالخاء المعجمة، لأن بالمهملة توهم أن غسل ما يلي التخت يجب في الجانب لا الجانب المتصل بالتخت أما بالمعجمة يفهم الجانب المتصل منه، أي من الميت. وقال ابن سيرين: يغسل شق وجهه الأيمن ثم الأيسر ثم منكبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جنبه الأمين ثم الأيسر، ثم فخذه اليمنى، ثم اليسرى، ثم الساقان كذلك، ولو فعل كذلك أجزأه.
ولا يكب الميت على وجهه فيغسل ظهره، وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في غير رواية الأصول أنه يقعده ويمسح بطنه أولا، وهو قول الشافعي ثم يغسله بعد ذلك، وفي " الذخيرة " للمالكية: يغسل جنبه الأيمن، والأيسر غسلة واحدة، فيغسل مثله ثلاثا.

(3/185)


ثم يضجع على شقه الأيمن فيغسل حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه، لأن السنة هو البداية بالميامن ثم يجسله ويسنده إليه ويمسح بطنه مسحا رفيقا تحرزا عن تلويث الكفن، فإن خرج منه شيء غسله ولا يعيد غسله ولا وضوءه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ثم يضطجع على شقه الأيمن فيغسل حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه، لأن السنة هي البداية بالميامن) ش: فيه حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجبه التيمن في كل شيء حتى تنعله وترجله» رواه الجماعة، وحديث أم عطية رواه الجماعة أيضا، واللفظ للبخاري، قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لنا ونحن نغسلها: " ابدأوا بميامنها ومواضع الوضوء منها» " وهذه الأبنة هي زينب زوج ابن أبي العاص، وهي أكبر بناته، وصرح به في رواية مسلم عن أم عطية قالت: «لما ماتت زينب ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " اغسلنها وترا ... » الحديث.
وقد جاء في " سنن أبي داود " و " مسند أحمد " و " تاريخ البخاري الأوسط " أنها أم كلثوم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجوه عن ابن إسحاق وقال المنذري في " مختصره " فيه محمد بن إسحاق وفيه من ليس بمشهور. والصحيح أن هذه القصة في زينب، لأن أم كلثوم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - توفيت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غائب ببدر والله أعلم.
م: (ثم يجلسه) ش: أي ثم يجلس الغاسل الميت م: (ويسنده إليه ويمسح بطنه مسحا رفيقا) ش: بالفاء من رفق به، أي مسحا لينا بغير عنف م: (تحرزا عن تلويث الكفن) ش: أي احترازا عن تلويث الكفن إذا مسح بالعنف. قال أبوبكر الرازي: ويمسح بطنه في الثانية مسحا خفيفا، وفي " البدائع " ويمسح بطنه بعد غسله مرتين، وروي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مسح بطن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فلم يخرج منه شيء، فقال: طبت حيا وميتا. وفي " المبسوط ": عزاه إلى العباس، وروي أنه لما مسح بطنه فاح من رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ريح المسك في البيت. وفي " المبسوط ": لم يذكر في ظاهر الرواية سوى مسحه، وفي " المحيط " ذكر مسحه وغسله.
م: (وإن خرج منه شيء غسله) ش: أي غسل ذلك الخارج م: (ولا يعيد غسله ووضوءه) ش: وبه قال الثوري ومالك والمزني، وللشافعية ثلاثة أوجه، أصحها كقولنا، لأن الميت خرج بالموت من التكليف ينقض الطهارة، وضعف المحاملي وآخرون إعادة غسله، ونقل صاحب " البيان " تضعيفه عن أبي حامد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وصحح المحاملي والرافعي وآخرون عدم وجوب إعادة غسله ووضوئه، وأجمعوا على أنه لو خرج منه شيء بعد إدراجه في الكفن لا يجب غسله ولا وضوؤه بلا خلاف، وصرح به المحاملي في " التجريد "، وأبو الطيب في " المجرد "، والسرخسي في " الأمالي " وصاحب " العدة "، وجزموا بالاكتفاء بغسل النجاسة بعد الإدراج، وذكر في

(3/186)


لأن الغسل عرفناه بالنص وقد حصل مرة،
ثم ينشفه بثوب كيلا تبتل أكفانه، ويجعله في أكفانه، ويجعل الحنوط على رأسه ولحيته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الروضة " لا يغسل منه شيء بعده عندنا، الوجه الثاني يعاد الوضوء، والثالث يعاد الغسل.
ثم الغسل المسنون ثلاث مرات. هكذا في " المبسوط " و " المحيط "، وفي " البدائع " الواجب فيه مرة واحدة وما زاد سنة، ومثله في " المفيد " وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك مع الدلك. وقال ابن حزم في " المحلى ": وغسله ثلاثا فرض. وقال ابن المسيب والحسن البصري والنخعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: يغسل ثلاثا، وكذا غمسه في الماء يكفي، ولو غرق في الماء أو أصابه المطر بعد موته لا يجزئه، لأن الواجب فعلنا.
وفي " البدائع ": إن كان المخرج حركة في الماء كما يحرك الشيء بقصد تطهيره سقط غسله، وفي " المحيط " عن أبي يوسف: يجزئه مرة في الماء ويغسل مرتين، وإن مات في سفينة غسل وكفن ثم يرمى في البحر. وذكره البيهقي عن الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن غرق وتفيح في الماء صب عليه الماء، وكذا إن احترق، ذكره في " الروضة "، والنية ليست بشرط عندنا، وفي " الينابيع " يحركه في الماء فيكون ذلك غسلا له، ولم يشترط النية.
م: (لأن الغسل) ش: بضم الغين وفتحها، وقال السغناقي: كذا وجدته مقيدا بخط شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: الفرق بينهما ظاهر، وكل واحد منهما يصلح ها هنا، ولا يحتاج إلى الرواية م: (عرفناه بالنص وقد حصل مرة) ش: أي وقد حصل الغسل مرة، فلا يحتاج إلى الإعادة.

[تنشيف الميت بعد الغسل]
م: (ثم ينشفه بثوب) ش: أي يأخذ ما عليه من بلل، وهو من باب علم يعلم، كذا في " الدستور ". وقال السغناقي: أي يأخذ ما عليه من بلل بثوب حتى يجف من الماء، أخذه بخرقة من باب ضرب يضرب، الأصح ما ذكره في " الدستور "، وقال ابن الأثير: يقال نشفت الأرض الماء تنشفه نشفا شربته، ونشف الثوب العرق وتنشف م: (كيلا تبتل أكفانه) ش: لأنها إذا ابتلت تصير كالمثلة.
م: (ويجعله في أكفانه) ش: أي بعد الفراغ من الغسل والتنشف يدرج في أكفانه م: (ويجعل الحنوط على رأسه ولحيته) ش: والحنوط ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى ولأجسامهم خاصة.
ومنه الحديث أن ثمود لما استيقنوا بالعذاب تكفنوا بالأنطاع، وتحنطوا بالصبر لئلا يجيفوا وينتنوا.
وفي " المحيط ": لا بأس بسائر الطيب في الحنوط غير الزعفران والورس في حق الرجال، ولا بأس بهما في حق النساء، فيدخل فيه المسك، وأجازه أكثر العلماء وأمر به علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واستعمله أنس وابن عمر وابن المسيب، وبه قال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -

(3/187)


والكافور على مساجده، لأن التطيب سنة، والمساجد أولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإسحاق، وكرهه عطاء والحسن، ومجاهد، وقالوا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنه سنة، واستعماله في حنوط النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حجة عليهم، وفي " الروضة " ولا بأس بأن يجعل المسك في الحنوط، وفي " الصحاح ": الحنوط ذريرة، وهو طيب الميت.

[وضع الكافور على مساجد الميت]
م: (والكافور على مساجده) ش: أي ويجعل الكافور على مساجده، وهو جمع مسجد، بفتح الجيم وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان، رواه البيهقي عن ابن مسعود، وهو قول النخعي، والمساجد أولى لهذه الكرامة، وعن زفر: يذره على عينيه وأنفه وفمه إبعادا للدود عنها، وقال إمام الحرمين: وذراعيه على الجملة لطرد الهوام، وبالكافور يجعل طيب الرائحة، ويندفع مكروهها عن المصلين عليه، وفيه تبريك وتخفيف وحفظ للميت من إسراع التغير والفساد وتعويقه ويزيد الإمساك ومنع الهوام، وكرهه أحمد، وقال: يتلف العضو، وما سمعناه إلا في المساجد، وقال النخعي: يوضع الحنوط على الجبهة والراحتين والركبتين والقدمين، وفي " المفيد " وإن لم يفعل لم يضر.
قال ابن الجوزي والقرافي: يستحب في المرة الثالثة شيء من الكافور، قالا: وقال أبو حنيفة: لا يستحب.
قلت: نقلهما ذلك عنه خطأ.
م: (لأن التطيب سنة) ش: أي تطيب الميت أو التطيب مطلقا سنة، والأول هو الأظهر هنا، والسنة هنا حديث أم عطية المخرج في الكتاب والسنة، قال لهن - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اغسلنها ثلاثا أو خمسا، واجعلن في الآخرة كافورا» .
وفي حديث عبد الله بن مغفل: " «إذا أنا مت فاجعلوا في آخر غسلي كافورا وكفنوني في ثوبين وقميص» . أخرجه الحاكم وسكت عنه.
وفيه حديث أبي بن كعب المتقدم في قصة آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان عنده مسك، فأوصى أن يحنط به، وقال: هو فضل حنوط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورواه الحاكم أيضا وسكت عنه.
والمساجد أولى بزيادة الكرامة، هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال لما كان الطيب سنة فما بال تخصيص المساجد دون سائر البدن؟. فأجاب عنه بقوله م: (والمساجد أولى)

(3/188)


بزيادة الكرامة،
ولا يسرح شعر ميت ولا لحيته ولا يقص ظفره ولا شعره لقول عائشة رضي الله عنها علام تنصون ميتكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: يعني من غيرها م: (بزيادة الكرامة) ش: لأنها الأعضاء التي عليها قوام البدن. وفي " الروضة ": ولا بأس بأن يحشى مخارقه كأنفه وفمه ومسامعه بالقطن، وأن يجعل القطن على وجهه، وجوز الشافعي ذلك في دبره واستقبحه مشايخنا. وفي " الأسبيجابي " عن أبي حنيفة: لا بأس بأن يحشى مخارقه كالدبر والقبل والأذنين والفم. وفي " المرغيناني ": قال بعضهم: ولا بأس بأن يجعل القطن في صماخ أذنيه.

[تسريح شعر الميت ولحيته]
م: (ولا يسرح شعر الميت ولا لحيته) ش: التسريح تخليص بعض الشعر عن بعض، وقيل تخليله بالمشط. وقال الشافعي: سرح شعره ولحيته بمشط واسع إذا كان ملبدا م: ولا يقص ظفره ولا شعره) ش: ولا تحلق عانته ولا ينتف إبطه ولا يختن، وبه قال محمد بن سيرين ومالك.
وقال ابن المنذر: هذا أحب إلي. وقال الأوزاعي: يقص الأظفار إذا طالت ولا يمس غير ذلك، وفيها خلاف الشافعي، وذكر في " البيان " في ختانه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يختن، الثاني: يختن، والثالث: يختن الكبير لا الصغير، وله قولان في غير الختان، القديم كقولنا، والجديد يفعل ذلك.
وقال الرافعي: لا خلاف أن هذه الأمور لا تستحب، وإنما القولان في الكراهة ورد عليه، وصححوا الكراهة. قال النووي: وهو المختار نقله البندنيجي عن بعض الشافعية. وفي " مختصر المزني ": قال الشافعي: تركه أعجب إلي.
م: (لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - علام تنصون ميتكم) ش: أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "، أخبرنا سفيان الثوري عن حماد عن إبراهيم عن عائشة " رأيت امرأة تكدون رأسها بمشط. فقالت: علام تنصون ميتكم "، ورواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي به. ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام وإبراهيم الحربي في كتابيهما وفي غريب الحديث. وقال أبو عبيد: هو مأخوذ من نصوت الرجل أنصوه نصوا إذا مددت ناصيته. فأرادت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن الميت لا يحتاج إلى تسريح الرأس، وذلك بمنزلة الأخذ بالناصية.
وفي " المغرب " وجعل اشتقاقه من منصت العروس خطأ، قوله: م: (علام) ش: أم أصله على ما دخل حرف الجر على ما الاستفهامية فأسقط ألفها للتخفيف، كما في قَوْله تَعَالَى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] .
فإن قلت: ذكر الرافعي في كتابه، وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم» وذكره الغزالي في " الوسيط " أيضا، ولفظه: «افعلوا بموتاكم ما تفعلون بأحيائكم» .

(3/189)


ولأن هذه الأشياء للزينة، وقد استغنى الميت عنها.
وفي الحي كان تنظيفا لاجتماع الوسخ تحته، وصار كالختان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال ابن الصلاح: بحثت عنه فلم أجده ثابتا. وقال أبو حامد في كتاب السواك: هذا الحديث غير معروف.
م: (ولأن هذه الأشياء للزينة، وقد استغنى الميت عنها) ش: لأنه فارقها وفارق أهلها، ولأن من حكم الميت أن يدفن بجميع أجزائه، فلا معنى لفصل بعض أجزائه ثم دفنه معه
م: (وفي الحي كان تنظيفا لاجتماع الوسخ تحته) ش: قال صاحب " الدراية ". هذا جواب قول الشافعي أنه تنظيف له كالحي.
وقال السغناقي: هذا جواب إشكال، أي لا يشكل علينا الحي، حيث يسرح شعره ويقص ظفره، لأنه يخرج إلى الزينة، ولا يعتبر في حقه زوال الجزء، بخلاف الميت فإنه لا يسن فيه إزالة الجزء.
قلت: الذي ذكره السغناقي هو الصواب، لأن خلاف الشافعي لم يذكر في الكتاب حتى يجاب عنه، والضمير في كان يرجع إلى كل واحد من قص الظفر والشعر، وكذلك الضمير في قوله تحته، أي تحت كل واحد من قص الظفر والشعر.
قلت: هذا ليس معنى هذا التركيب، وهو ظاهر، فإذا علم مرجع الضمير في صار يحل التركيب كما ينبغي، والضمير يرجع إلى مقدر تقديره وصار الفرق أو الحكم بين الميت والحي في إزالة الجزء من حيث إنه لا يعتبر في حق الحي، لأنه يحتاج إلى الزينة، كما في الختان، ويعتبر في حق الميت فلا يسن في حقه إزالة الجزء، كما في الختان فإنه لا يختن بالاتفاق.
فروع: يغسل الرجال الرجال، والنساء النساء، إلا أن يكون الميت صغيرا لا يشتهى، أو صغيرة لا تشتهى فلا بأس أن يغسلها الرجال والنساء.
وقال ابن المنذر حكاية عنه تغتسل المرأة الصغير ما لم يتكلم، والرجل الصغيرة ما لم تتكلم.
قلت: ذكره في " المبسوط " والصحيح الأول. وقال الحسن: يغسله النساء إذا كان فطيما أو فوقه بشيء يسير. وقال الأوزاعي وإسحاق: إذا كان ابن أربع أو خمس.
وقال مالك وأحمد: ابن سبع، وهو قريب من قول أصحابنا، وكذا الجارية في حق الرجل وفيمن قال تغسل المراة الصغيرة، ويغسل الرجل الصغيرة الحسن وابن سيرين والأوزاعي وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، ونقل ابن المنذر في كتاب " الإجماع " [....
....] الإجماع

(3/190)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على جواز غسل المرأة زوجها. وعن أحمد منفردا في رواية ذكرها عنه النووي، وأما غسله زوجته فغير جائز عندنا، وهو قوله، وهو قول الثوري والأوزاعي وكرهه الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد وآخرون - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يجوز، قال النووي: احتجوا بحديث «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قلت: وارأساه لصداع في رأسي، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بل أنا وارأساه يا عائشة ما ضرك لومت قبلي فغسلتك وكفنتك..» الحديث رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والدارمي والبيهقي بإسناد ضعيف، وفيه محمد بن إسحاق كذبه مالك وغيره.
وقال ابن الجوزي: رواه البخاري ومسلم ولم يقل غسلتك، إلا ابن إسحاق، واحتجوا أيضا بما رواه البيهقي وابن الجوزي عن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت لأسماء بنت عميس يا أسماء إذا مت فاغسليني أنت وعلي بن أبي طالب، فغسلاها. قال ابن الجوزي: في إسناده عبد الله بن نافع. قال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك، والبيهقي رواه في " سننه الكبرى " ولم يتكلم عليه، وظن أنه يخفى.
وقال صاحب " المبسوط " و " المحيط " و " البدائع " وجماعة غيره أن ابن مسعود أنكر على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذلك، فقال له إنها زوجته في الدنيا والآخرة، يعنون أن الزوجية باقية بينهما لم تنقطع.
قلت: وفيه نظر، لأنه لو بقيت الزوجية بينهما لما تزوج أمامة بنت زينب بعد موت فاطمة وقد مات عن أربع حرائر، ولو مات الرجل في السفر ومعه نساء إن كانت فيهن امرأته غسلته وكفنته وصلين عليه، وتقوم إمامهن وسطهن. وعند مالك والشافعي النساء وحدهن يصلين عليه منفردات ثم يدفنه، وإن لم يكن فيهن امرأته ومعهن كافر يعلمنه الغسل والتكفين ثم يخلين بينهما ثم يصلي عليه النساء ويدفنه، ويروى جواز غسل الكافر للمسلم عن مكحول وسفيان وعلقمة وغيرهم.
وإن لم يكن معهن كافر، وكانت معهن صبية لا تشتهي وتطيق غسله، عليها الغسل والتكفين، ثم يصلي عليه النساء ويدفنه، وإن لم يكن ييممنه وإن ماتت ولي سمعه مسلمات ومعها رجل كافر أو كافرة أو صبي لم يبلغ حد الشهوة فالرجل يعلمها كما تقدم، وكذا المرأة تيمم عندنا، وبه قال ابن المسيب والنخعي وحماد بن أبي سليمان ومالك وأحمد.

(3/191)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الحسن البصري وقتادة والزهري وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يصب عليها الماء من فوق ثيابها. وعن ابن عمر ونافع تغمس في ثيابها. وقال الأوزاعي: تدفن كما هي ولا تيمم.
وقال ابن المنذر: بالتيمم أقول.
وعند الشافعية في أحد الوجهين تغسل الأجنبية بخرقة وتستر بثوب. وقال القاضي حسين: وتصح بغير خرقة بلا خلاف. وييمم المحرم بغير خرقة، وغير المحرم بخرة، وكذا الأمة تيمم الرجل، والرجل ييمم الأمة بغير خرقة، ذكره في " البدائع ". وقال أبو قلابة: يغسل الرجل ابنته. وقال مالك: لا بأس بأن يغسل أمه وأخته عند الضرورة، وقال الأوزاعي: يصب عليها الماء، وأنكر أحمد فعل أبي قلابة، وينظر إلى وجهها دون ذراعيها.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الرجل ييممها إلى الكوعين، والمرأة إلى المرفقين. ولو كانت زوجته حاملا فوضعت لا تغسله، خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ولو بانت منه قبل موته وارتدت قبله أو بعده أو قتلت ابنه أو أباه أو وطئت بشبهة، قال في " المحيط " في رواية الحسن عنه، وهي الأصح يحرم عليه غسله، خلافا لزفر، والمطلقة الرجعية تغسله، وبه قال أحمد، وعند الشافعي: لا يغسل أحدهما الآخر كالبائن والفسخ، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجعي كالمذهبين. وفي " المبسوط " و " المحيط ": لو كانت مجوسية وهو مسلم لا تغسله إلا أن تسلم، ولو ارتدت ثم أسلمت لا تغسله، ولو وطئت بشبهة ثممات وانقضت عدتها من ذلك الوطء لا تغسله خلافا لأبي يوسف، ولو طلق إحد امرأتيه ثلاثا وقد دخل بها لم تغسله واحدة منهما. وفي " المحيط ": إذا ظاهر منهما ثم مات الأصح أنها تغسله، ولا تغسله أمته، لأنه مثل الغير، ولا مديرته ولا أم ولده. وفي " البدائع " في أم الولد روايتان، في رواية تغسله لقول زفر ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - والثانية لا تغسله. وقال النووي: الأصح أنه ليس لأم الولد أن تغسل سيدها، وله غسلها.
وقال المرغيناني: الخنثى ييمم، وقيل: يغسل في ثيابه. وقال الحلواني: يجعل في كوارة ويغسل. وعند الشافعية يغسل المحرم وإن لم يكن، قيل يغسل من فوق بثوب، وقيل ييمم.
لا غسل على من غسل ميتا، وهو قول عامة أهل العلم كابن عباس وابن عمر وعائشة والحسن البصري والنخعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وحكاه أبو بكر ابن المنذر وقال: لا شيء عليه، وليس فيه حديث يثبت.
وعن علي وأبي هريرة أنهما قالا من غسل ميتا فليغتسل، وبه قال ابن المسيب وابن سيرين والزهري. وقال النخعي وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يتوضأ. وقال مالك: أحب له

(3/192)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغسل، واستحبه الشافعي. وقال في " البويطي ": إن صح الحديث قلت بوجوبه. والأول أصح.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتا فليغتسل» رواه أبو داود وغيره.
وقال البيهقي: الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال الترمذي عن البخاري أنه قال: إن أحمد وعلي بن المديني قالا: لا يصح في الباب شيء، وكذا قال محمد بن يحيى شيخ البخاري، ورواه البيهقي أيضا من رواية حذيفة مرفوعا، وإسناده ساقط.
وأما «حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه غسل أباه أبا طالب فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغتسل» ورواه البيهقي من طريق فهو حديث باطل.
وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة وغسل الميت» رواه أبو داود وغيره بإسناد ضعيف، وهكذا الحديث في الوضوء من حمل الميت ضعيف. وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» وقال الترمذي: حديث حسن، قال النووي: بل عليه قوله حسن بل هو ضعيف، بين ضعفه البيهقي وغيره.
وقال المزني: هذا الغسل غير مشروع، وكذا الوضوء من مس الميت وحمله، لأنه لم يصح فيها شيء. وقال في " المختصر ": لو مس خنزيرا فليس عليه شيء من الوضوء ولا الغسل، فالمؤمن أولى. قال النووي: هذا قوي.
وقال أصحابنا: هذا إذا ثبت محمول على غسل ما أصابه من غسالة الميت. والوصي إذا حمله ليصلي عليه، والمحرم وغير المحرم فيه سواء عندنا. وقال مالك مثله. وقال الشافعي وأحمد وعطاء وداود لا يغطى رأسه، وإن كان امرأة لا يغطى وجهها، ولا يلبس المخيط ولا يقرب الطيب.

(3/193)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولنا عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غطوا رؤوس موتاكم ولا تشبهوا باليهود» ، ويستحب أن يكون الغاسل أقرب الناس إلى الميت، فإن لم يكن أو كان لا يعلم الغسل يغسله أهل الأمانة والورع. ولو كان الغاسل جنبا أو حائضا أو كافرا جاز، ولكن يكره.
ولو اختلط موتى المسلمين بموتى الكافرين يغسلون إن كان المسلمون أكثر. وقال مالك والشافعي - رحمهما الله -: يصلى عليهم بالتحري، ومن لا يدري أنه مسلم أوكافر إن كان عليه شبه المسلمين، أو في متاع دار الإسلام يغسل، وإلا فلا. ولو سبي صبي مع أحد أبويه ثم مات لا يغسل حتى يقر بالإسلام أو يعقل. وفي الكل اختلاف. ولو سبي وحده غسل وصلي عليه تبعا للدار.
ولو وجدت أكثر الميت أو نصفه مع الرأس غسل وصلي عليه وإلا فلا، وبه قال مالك. وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: يغسل القليل أيضا ويصلى عليه. وقال ابن جبير: لا غسل إلا على البدن الكامل، والأفضل أن يغسل الميت مجانا، ولو طلب الغاسل الأجر فإن كان في البلدة غيره يجوز له أخذ الأجرة، وإن لم يكن لا يجوز، وأما أجرة خائطة الكفن وأجرة الحامل والدفان من رأس المال.

(3/194)


فصل في التكفين السنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، إزار وقميص ولفافة، لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في التكفين] [ما يجزئ في الكفن بالنسبة للرجل]
م: (فصل في التكفين) ش: أي هذا فصل في بيان أمور التكفين. ولما فرغ من بيان غسل الميت، شرع في بيان كفنه على الترتيب. والتكفين مصدر من كفن بالتشديد. وقال الجوهري: الكفن غزل الصوف. يقال: كفن يكفن يعني من باب نصر ينصر، ثم قال: والكفن معروف، يقال: كفنت الميت تكفينا.
م: (السنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب) ش: ذكر لفظ السنة هنا لبيان كيفية التكفين لا في أصله، لأن أصل التكفين واجب بدليل أنه يقدم على الدين والوصية والإرث، وبدليل أن الميت إذا لم يترك شيئا، أو لم يكن له من يجب عليه نفقته يفترض على الناس أن يكفنوه إن قدروا عليه، وإلا سألوا الناس. وأما قول صاحب " التحفة " عن تكفين الميت بعد الغسل، لأنه سنة ففيه تسامح، وقد نص في " البدائع " وغيره على أنه واجب وقيل فرض كفاية كالصلاة والغسل.
م: (إزار وقميص ولفافة) ش: يجوز جر هذه الأشياء ورفعها، أما الجر فعلى أنها بدل من أثواب، وأما الرفع فعلى أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي إزار وقميص ولفافة، وسيأتي بيانها عن قريب م: (لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة» .
وفي رواية أبي داود «ثلاثة أثواب يمانية بيض» . وفي رواية النسائي فذكر لعائشة قولهم في ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتى بالبرد، ولكنهم ردوه. وفي رواية لمسلم: «أما الحلة فإنها شبه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها فتركت الحلة» .
قيل: استدلال المصنف بهذا الحديث لا يتم، لأنه حجة عليه في عدة القميص.
قلت: استدلاله لا يتم إلا بحديث جابر بن سمرة فإنه قال: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب قميص وإزار ولفافة» رواه ابن عدي في " الكامل ". وهذا هو المناسب في الاستدلال وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يناسب، لأنه صرح فيه بعدم القميص، والشافعي أخذه بظاهره واحتج به على أن الميت يكفن في ثلاث لفائف، وبه قال أحمد. وقال النووي: في إ زار ولفافتين ليس فيها قميص، والإزار من السرة، واستحب مالك القميص كقولنا.

(3/195)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال النووي: إن شاء كفنه بقميص ولفافتين، وإن شاء بثلاثة لفائف. وقال ابن المنذر: وممن قال يكفن في ثلاثة أثواب طاوس والأوزاعي، ومالك يجيز اثنين إذا لم يوجد غيرهما، قال: وقال النعمان: ويكفن الرجل في ثوبين.
قلت: السنة عنده ثلاثة كما هو مذكور في كتب أصحابنا، ونقله عنه خطأ، ولكن يجزئه ثوبان. وفي " المحيط " و " جوامع الفقه " ثلاثة أثواب قميص وإزار ورداء، فذكر الرداء موضع اللفافة.
فإن قلت: إذا لم يتم الاستدلال بالحديث المذكور، فما دليل أصحابنا أن الثلاثة فيها قميص، والحديث ليس فيها قميص؟ قلت: أكثر أصحابنا احتجوا بالحديث المذكور بناء على أن نقلهم بعض الحديث الذي يوافق لما ذهبوا إليه غير أن صاحب " الدراية " قال: ولنا حديث ابن عباس «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب فيها قميص» . وروى عبد الله بن مغفل «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في قميصه الذي مات فيه» .
وروى البخاري ومسلم «أن عبد الله بن أبي بن سلول سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه، فكفن فيه» .
وروى البزار «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في سبعة أثواب» يعني ثلاثة سحولية وقميصه وعمامته وسراويله وقطيفته التي جعلت تحته.
قلت: هذا الشارح نقل هذه الأحاديث نقلا مجردا من غير تعرض لحالها. وأما حديث ابن عباس، فرواه أبو داود، وأحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة قالا: ثنا ابن إدريس عن يزيد يعني ابن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب نجرانية الحلة ثوبان، وقميصه الذي مات فيه» . قال عثمان: «في ثلاثة أثواب، حلة حمراء وقميصه الذي مات فيه» .
وأما حديث عبد الله بن مغفل، وأما حديث البزار فرواه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورواه أحمد وابن أبي شيبة أيضا.
فإن قلت: في سند حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف،

(3/196)


ولأنه أكثر ما يلبسه عادة في حياته، فكذا بعد مماته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يحتجون بحديثه.
قلت: لا نسلم ذلك، فإن مسلما قد أخرج له في المتابعات، وفي " الكمال " روى له مسلم وأبو داود والترمذي، ولما أخرج أبو داود حديثه هذا سكت عنه، وذلك دليل رضاه بصحته.
فإن قلت: في سند حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو سيء الحفظ.
قلت: قالوا إن حديثه يصلح للمتابعات، وإذا انفرد فحسن، وإذا خالف فلا يقبل، وروى الحاكم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما يعضد رواية ابن عقيل هذه.
ولنا في هذا الباب حديث آخر، رواه ابن عدي في " الكامل " عن ناصح بن عبد الله الكوفي عن سماك عن جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب، قميص وإزار ولفافة» . وروى محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد ابن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في حلة يمانية وقميص» . وأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " وأخرج عن الحسن نحوه.
قوله: " ثلاثة أثواب " الأثواب جمع ثوب. وقوله: " بيض " بكسر الباء جمع أبيض. وقوله: " سحولية " بفتح السين ثياب منسوبة إلى السحول، وهو القشر، لأنه يسحلها أي يقشرها، أو سحول قرية باليمن، وبالضم جمع سحل، وهو الثوب الأبيض من القطن، وعلى هذا ذكرها مع البيض للتأكيد، وفيه شذوذ من حيث نسبتها إلى الجمع، وتجمع على سحل أيضا، وقيل بالضم أيضا اسم القرية. وفي " المغرب " الفتح هو المشهور.
وقال الهروي: بفتح السين وهي ثياب منسوبة إلى قرية باليمن، وعن الأزهري بالضم. وجاء في رواية " ثلاثة أثواب سحول " بالضم، بدل من الأثواب جمع سحل أو وصف معناه بيض.

م: (ولأنه أكثر ما يلبسه عادة في حياته، فكذا بعد مماته) ش: هذا دليل عقلي، أي ولأن الميت أكثر ما يلبس الثياب الثلاث عادة في حياته فكذلك ينبغي أن يكون كفنه ثلاثة أثواب بعد مماته اعتبارا بحال الحياة.
وفي " المبسوط " وغيره: لأنه كان يخرج في ثلاثة أثواب في العادة قميص وسراويل وعمامة، وفيه نظر، لأن عادة الخارج من بيته أن يكون في أربعة أثواب يلبس فوق القميص قباء أو جبة أو نحوهما، ثم الزيادة على الثلاثة فقد ذكر في " الذخيرة " في كتاب الحي لو صام يكفن

(3/197)


فإن اقتصروا عل ثوبين جاز. والثوبان إزار ولفافة، وهذا كفن الكفاية لقول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرجل زيادة على الثلاثة إلى خمسة أثواب، مثل كفن النساء فلا يكره، ولا بأس به.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك: يستحب إلى الخمسة للرجال والنساء، وإلى التسعة مباحة، وما زاد فسرف، ذكره في " الذخيرة " للمالكية، وكره أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الزيادة على الثلاثة والنقص عنها، عنه رواية أخرى كقولنا.
ولنا أن ابن عمر كفن ابنه واقدا في خمسة أثواب، قميص وعمامة وثلاث لفائف وأدار العمامة غل تحت حنكه، رواه سعيد بن منصور، وأوصى أنس إلى ابن سيرين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يغسله فغسله وكفنه في خمسة أثواب، أحدها العمامة وطلاه بالمسك من فوقه إلى قدمه، رواه ابن حرب في " مسائله ".
وفي " المبسوط ": وكره بعض مشايخنا العمامة، لأنه يصير شغفا، واستحسنه بعض المشايخ لحديث ابن عمر المذكور، وكان يعمم الميت، ويجعل دفنها على الوجه، بخلاف الحي، لأنه للزينة في الحي.
وفي " المرغيناني ": قال بعض المشايخ: إن كن عالما معروفا أو من الأشراف يعمم، وإن كان من الأوساط لا يعمم.

م: (فإن اقتصروا على ثوبين جاز، والثوبان إزار ولفافة) ش: أي الثوبان اللذان اقتصروا عليهما إزار ولفافة، وهذا ذكر في " المفيد " و " المزيد " و " التحفة " والدليل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي وقصته دابته «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين» رواه البخاري وغيره في السنة من حديث ابن عباس م: (وهذا كفن الكفاية) ش: أي الاقتصار على الثوبين كفن الكفاية، لأن الأكفان على ثلاثة أقسام كفن السنة، وكفن الكفاية، وكفن الضرورة، وقد ذكر كفن السنة في حق الرجل، وهذا كفن الكفاية، وسيأتي بيان كفن الضرورة عن قريب.
م: (لقول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما) ش: هذا أخرجه أحمد في كتابه " الزهد ": ثنا يزيد بن هارون أنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله التيمي مولى الزبير بن العوام عن عائشة بأطول منه، وفيه: انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما ثم كفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد منهما.
وروى ابنه عبد الله بن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في كتاب " الزهد " أيضا ثنا هارون بن معروف ثنا حمزة عن جابر بن أبي سلمة عن عباد بن نسي قال: لما حضرت أبا بكر والوفاة قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: اغسلوا ثوبي هذين ثم كفنوني فيهما، فإنما أكون أحد رجلين إما

(3/198)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مكسو أحسن الكسوة أو مسلوب أسوأ السلب.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لثوبيه الذي كان مرض فيهما: اغسلوهما وكفنوني فيهما، فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ألا نشتري لك جديدا؟ قال: لا، إن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.
وروي أيضا عن جريج عن عطاء، قال: سمعت عبيد بن عمير يقول: أمر أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إما عائشة وإما أسماء بنت عميس بأن يغسل ثوبين كان مرض فيهما ويكفن فيهما، فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أو ثيابا جددا؟ قال: الأحياء أحق بذلك.
ورواه ابن سعد في " الطبقات " أنا الفضل بن دكين أنا سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت القاسم بن محمد قال: قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين حضره الموت: كفنوني في ثوبي هذين اللذين كنت أصلي فيهما واغسلوهما فإنها للمهل والتراب.
ورواه أيضا عن الواقدي عن معمر بسند عبد الرزاق ومتنه، وذكره محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " بلاغا، فقال: بلغنا عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما.
قلت: العجب من السروجي كيف يقول في الكتاب لقول أبي بكر الصديق اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما لا أصل له.
نعم روى البخاري خلاف هذا أخرج عن عائشة أن أبا بكر قال لها: في كم كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، قال: في أي يوم توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قلت: يوم الاثنين، قال: فأي يوم هذا؟ قال: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل فنظر إلى ثوب كان مرض فيه به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيهما، قالت: إن هذا أخلق، قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة، فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن يصبح، انتهى.
الردع بفتح الراء اللطخ والأثر، والمهلة بضم الميم وكسرها وفتحها هي دم الميت وصديده.
والجواب عن قولها ليس فيها قميص أن معناه لم يتخذ قميص جديد أو قميص كامل له كمان ودخاريص، ويقال معناه لم يكن فيها قميص الأحياء، وأيضا حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - معارض بما روي عن عبد الله بن المغفل وابن عباس، والأولى أن يعمل بروايتهما، لأنهما حضرا تكفين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعائشة لم تحضر، والحال أكشف على الرجال، لأنهم هم المباشرون،

(3/199)


ولأنه أدنى لباس الأحياء، والإزار من القرن إلى القدم، واللفافة كذلك، والقميص من أصل العنق إلى القدم، وإذا أرادوا لف الكفن ابتدؤوا بجانبه الأيسر فلفوه عليه ثم بالأيمن كما في حال الحياة وبسطه أن يبسط اللفافة أولا ثم يبسط عليها الإزار ثم يقمص الميت ويوضع على الإزار ثم يعطف الإزار من قبل اليسار ثم من قبل اليمين، ثم اللفافة كذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومع ذلك الميت أولى من الباقي.

م: (ولأنه أدنى لباس الأحياء) ش: هذا دليل عقلي، والضمير في لأنه يرجع إلى الاقتصار الذي يدل عليه قوله: " فإن اقتصروا على ثوبين " أي لأن الاقتصار على ثوبين أدنى لباس الأحياء، فيقتصر أيضا في التكفين على ثوبين، لأنهما كسوته بعد الوفاة، فيعتبر بكسوته في الحياة، ولهذا تجوز صلاته فيهما بلا كراهة.
م: (والإزار من القرن إلى القدم) ش: هذا دليل حد الإزار الذي هو أحد الثياب الثلاثة، وأراد بالقرن الرأس، يقال الأول ما تطلع الشمس قرن الشمس وقرنا الرأس، أي ناحيتاه. وقال الأترازي: القرن ها هنا بمعنى الشعر.
قلت: كل ضفيرة من ضفائر الشعر تسمى قرنا. والقرن يأتي لمعان كثيرة م: (واللفافة كذلك) ش: أي من القرن إلى القدم.
م: (والقميص من أصل العنق إلى القدم) ش: لكن بلا جيب ولا دخريص وفي " مغني الحنابلة " يلبس القميص ويكون مثل قميص الحي له كمان ودخاريص وأزارر [......] .
قلنا: الحي يحتاج إلى هذه الأشياء ليتمكن له المشي فيه، بخلاف الميت.
م: (وإذا أرادوا لف الكفن ابتدؤا بجانبه الأيسر، فلفوه ثم بالأيمن) ش: هذه صفة لف الكفن على الميت، وإنما يقدم الابتداء بالجانب الأيسر، لأن لليمين فضلا على اليسار، فإذا أخر لف اليمين فوق اليسار، أشار إليه بقوله " ثم بالأيمن " أي ثم ابتدأوا بالجانب بالجانب الأيمن ليكون على الأيسر م: (كما في حال الحياة) ش: أي كما يبتدأ في حالة الحياة في لبس القباء بالجانب الأيسر، ليكون الجانب الأيمن عليه، وحالة الموت تعتبر بحالة الحياة. م: (وبسطه) ش: أي وبسط الكفن، وهو مبتدأ وخبره قوله: م: (أن بسط اللفافة أولا) ش: يعني بغير شيء.
م: (ثم يبسط عليها الإزار) ش: أي على اللفافة، فيكون الإزار بين اللفافة والقميص م: (ثم يقمص الميت) ش: أي ثم يلبس الميت قميصه م: (ويوضع على الإزار ثم يعطف الإزار من قبل اليسار، ثم من قبل اليمين) ش: وذلك كما ذكرنا ليكون الجانب الأيمن على الأيسر م: (ثم اللفافة كذلك) ش: أي ثم يعطف اللفافة كما يعطف الإزار في الابتداء من الجانب الأيسر، ليكون الأيمن فوقه.

(3/200)


وإن خافوا أن ينتشر الكفن عنه عقدوه بخرقة صيانة عن الكشف، وتكفن المرأة في خمسة أثواب درع وإزار وخمار ولفافة وخرقة تربط فوق ثدييها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ما يجزئ في الكفن بالنسبة للمرأة]
م: (وإن خافوا أن ينتشر الكفن عقدوه بخرقة صيانة) ش: أي لأجل صيانة الميت م: (عن الكشف) ش: ولا سيما في المرأة م: (وتكفن المرأة في خمسة أثواب) ش: هذا كفن السنة في حقها على ما يأتي عن قريب م: (درع وإزار وخمار ولفافة تربط فوق ثدييها) ش: يجوز في درع وما بعده الجر على البدلية والرفع على أنه خبر مبتدأ، أي درع.... إلخ، ويجوز النصب أيضا على تقدير أعني درعا وإزارا وخمارا ولفافة وخرقة، وقوله تربط فوق ثدييها في محل الرفع أو الجر أو النصب على أنه صفة لخرقة.
وقال ابن المنذر في " الأشراف " كل من يحفظ عنه يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب كالشعبي والنخعي والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعن ابن سيرين: تكفن المرأة في خمسة أثواب درع وخمار ولفافتين وخرقة.
وعن النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تكفن في خمسة، درع وخمار ولفافة ومبطن ورداء وعن الحسن: في خمسة، درع وخمار وثلاثة لفائف. وعن عطاء: تكفن في ثلاثة أثواب درع وثوب تحته وثوب فوقه. وقال سليمان بن موسى الأشدق الدمشقي: تكفن في درع وخمار ولفافة تدرج فيها.
وقال الشافعي: تكفن في خمسة: ثلاث لفائف وإزار وخمار، وفي " القديم " قميص ولفافتان وهو الأصح، واختاره المزني: وقال أحمد: تكفن في قميص ومئزر ولفافة ومقنعة وخامة تشد بها فخذها.
وفي " المنافع ": الخرقة ثوب واحد من بين ركبتيها إلى صدرها، وتكون فوق الأكفان على الثديين والبطن حتى لا يشد الكفن عنها. وفي " المبسوط " و " المجتبى " والخرقة تشد فوق الأكفان على القدمين والمبطن لئلا ينتشر الكفن. وقيل: على الثديين إن عظمتا وإلا على البطن.
وعند زفر: على فخذها كيلا يضطرب إذا حملت على السرير، والصبي المراهق كالبالغ، والمراهقة كالبالغة، وأدنى ما يكفن به الصبي الصغير ثوب واحد، والصغيرة ثوبان، وفي " المبسوط " والطفل الذي لم يتكلم إن كفن في خرقتين إزار ورداء فحسن، ويجوز في إزار واحد، والسقط والمولود ميتا يلف في خرقة.
وقال ابن المسيب: يكفن الصبي في ثوب. وقال النووي: يجزئه ثوب. وقال أحمد وإسحاق: يكفن في خرقة، وإن كفنوه في ثلاثة فلا بأس. وعن الحسن يكفن في ثوبين. وقال الشافعي: وأقله ما يستر العورة، وعنهم ثوب يعم البدن، وأكثرهم صحح الأول، وإمام الحرمين والغزالي والبغوي والسرخسي من الشافعية قطع بالثاني وحسين صححه، وحكى

(3/201)


لحديث أم عطية «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى اللوائي غسلن ابنته خمسة أثواب»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البندنيجي وجها ثالثا، وهو وجوب الثلاثة.
وقال النووي: وهو شاذ مردود، ثم المستحب في الكفن البياض جديدا كان أو غسيلا. وفي " البدائع " هما سواه إن كان خلقا، وقال حسين والبغوي من الشافعية: الغسيل أفضل من الجديد. وفي " الروضة " ويكفن في القطن والكتان والبرود إن كان لها أعلام ما لم يكن فيها تماثيل.
وفي " شرح المهذب " للنووي: ويجوز بالكتان والقطن والصوف والوبر والشعر على لبسه عادة، ويكره للرجال المزعفر والمعصفر، والحرير، والإبريسم، ذكرها في " المحيط " و " الإيضاح " وغيرهما، ولا يكره للنساء. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره تكفينها في الحرير والمعصفر والمزعفر، ومن يكره تكفين الموتى في الحرير الحسن البصري وابن المبارك وإسحاق.
وقال ابن قدامة في تكفين المرأة في الحرير احتمالان، أقيسهما الجواز، وكره مالك المعصفر في " المدونة "، ومنع الحرير فيه للرجال والنساء، وروي جوازه للرجال والنساء، وكره في " الذخيرة " وجوزه ابن حبيب للنساء خاصة، وذكره مالك الخز لأن سداه حرير.
ولنا أن حالها بعد موتها في حق الكفن معتبرة بحال الحياة، والمرأة لا يكره في حقها في حال حياتها ذلك فكذا بعد موتها بخلاف الرجل، وإن لم يوجد إلى حرير يجوز الكفن به ولا يزاد على ثوب واحد.
1 -
م: (لحديث أم عطية أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى اللوائي غسلن ابنته خمسة أثواب» ش: اسم أم عطية نسيبة بنت الحارث، وقيل بنت كعب الغاسلة، وحديثها بهذا اللفظ غريب، وبغير هذا اللفظ أخرجه الجماعة، ولفظ البخاري قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي زينب زوج أبي العاص،» وهي أكبر بناته -، ومصرح به في لفظ مسلم: عن أم عطية قالت: «لما ماتت زينب بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لنا ونحن نغسلها: اغسلنها وترا....» الحديث.
وفي " سنن أبي داود " و " مسند أحمد " و " تاريخ البخاري الأوسط " أنها أم كلثوم أخرجوه عن ابن إسحاق حدثني نوح بن حكيم الثقفي وكان قارئا للقرآن عن رجل من بني عروة بن مسعود يقال له داود قد ولدته أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس عند الباب ومعه كفنها يناولناها ثوبا ثوبا» .
وقال المنذري في " مختصره " فيه محمد بن إسحاق، وفيه من ليس بمشهور، والصحيح أن

(3/202)


ولأنها تخرج فيها حالة الحياة، فكذا بعد الممات. هذا كفن السنة. وإن اقتصر على ثلاثة أثواب جاز وهي ثوبان وخمار وهو كفن الكفاية، ويكره أقل من ذلك، وفي الرجل يكره الاقتصار على ثوب واحد إلا في حالة الضرورة، لأن مصعب بن عمير حين استشهد كفن في ثوب واحد، وهذا كفن الضرورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذه القضية في زينب. لأن أم كلثوم توفيت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غائب ببدر، قوله " الحقاء " بكسر الحاء هو الحقو بالفتح والكسر، وهو المئزر، و " قانف " بالنون.

م: (ولأنها تخرج فيها حالة الحياة، فكذا بعد الممات) ش: أي ولأن المرأة تخرج من بيتها في خمسة أثواب، درع وخمار وإزار وملاءة ونقاب، فكذا يكون بعد موتها، وفي " المبسوط " ويجوز لها أن تخرج فيها وتصلي، فكذا بعد الموت.
م: (هذا كفن السنة) ش: أشار بهذا إلى أن ما ذكره في خمسة أثواب في كفن المرأة، هو كفن السنة، للحديث المذكور، م: (وإن اقتصر) ش: على صيغة المجهول م: (على ثلاثة أثواب جاز، وهي ثوبان وخمار) ش: المراد من الثوبين: (الإزار واللفافة، صرح بذلك في " الينابيع ".
م: (وهو كفن الكفاية) ش: أي الاقتصار على الثلاثة هو كفن الكفاية في حق المرأة م: (ويكره أقل من ذلك) ش: أي يكره الاقتصار على أقل من الثلاثة في حق المرأة إذا كان بغير عذر.
م: (وفي الرجل يكره الاقتصار على ثوب واحد) ش: لأنه لا يستركما ينبغي، ولهذا أجمعوا على أنه لا يكفن في ثوب يصف ما تحته ولا يستر، وقال ابن تيمية: ولا يجزئ ستر العورة وحدها، خلافا للشافعي م: (إلا في حالة الضرورة) ش: أي حالة الضرورة مستثناة في الشرع م: (لأن «مصعب بن عمير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين استشهد كفن في ثوب واحد» ش: هذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه «عن خباب بن الأرت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هاجرنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نريد وجه الله.
فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه بدت رأسه، فأمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر» أخرجه الترمذي في " المناقب " والباقي في الجنائز.
«وكفن حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ثوب واحد، وأمرنا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بتغطية رجليه بالإذخر» دليل ذلك على أن ستر العورة وحدها لا تجزئ، خلافا للشافعي. والنمرة بفتح النون وكسر الميم كساء ملون، والإذخر على مثال الإثمد نبت بمكة، كذا قاله الأترازي وليس بمخصوص بمكة.
م: (وهذا كفن الضرورة) ش: أي الثوب الواحد كفن الضرورة. وفي " المبسوط " ولو كفنوه في ثوب واحد فقد أساؤوا، لأن في حياته تجوز صلاته في إزار واحد مع الكراهة، فكذا بعد

(3/203)


وتلبس المرأة الدرع أولا، ثم يجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع، ثم الخمار فوق ذلك ثم الإزار تحت اللفافة، وتجمر الأكفان قبل أن يدرج فيها الميت وترا؛ «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإجمار أكفان ابنته وترا» والإجمار هو التطيب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الموت إلا عند الضرورة بأن لم يوجد غيره.

م: (وتلبس المرأة الدرع أولا ثم يجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع) ش: وقال الشافعي: يسرح شعرها ويجعل ثلاثة ضفائر، ويجعل خلف ظهرها، لأن التي غسلت ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلت كذلك، والظاهر أنها فعلت ذلك بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلنا: هذا للزينة، والميت مستغن عنها، وما رواه يحتمل والحكم لا يثبت به. م: (ثم الخمار فوق ذلك) ش: أي ثم تلبس الخمار فوق الدرع تحت الإزار م: (ثم الإزار) ش: أي تلبس الإزار م: (تحت اللفافة) ش: يعني تبسط اللفافة، ثم يبسط الإزار فتوضع المرأة في الإزار، ويكون الخمار تحت الإزار واللفافة، وتربط فوق عند الصدر، وقد ذكرنا الروايات فيه.
م: (وتجمر الأكفان قبل أن يدرج فيها الميت وترا) ش: أي قبل أن يدرج الميت في الأكفان وانتصاب وترا على أنه صفة للتجمير الذي يدل عليه قوله أي تجميرا وترا، يعني مرة أو ثلاثا أو خمسا، ولا يزاد على ذلك، وفي " الإمام " عن أبي يعلى الموصلي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جمرتم الميت فأوتروا» والتجمير هو إحراق عود في المجمرة لتبخر به الأكفان، وفي " المجتبى " قيل: يحتمل بالتجمير جمع الأكفان وترا ها هنا قبل الغسل، يقال أجمر كذا إذا جمعه، والأول هو الأظهر.
وفي " الذخيرة " للمالكية: وللتجمير أربع أحوال عند خروج روحه كرهه مالك، واستحسنه ابن حبيب، وعند غسله يستحب بقطع الروائح كتجمير ثيابه، وهو متفق عليه، وخلف الجنازة متفق على كراهته، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار» رواه أبو داود، ولما فيه من التشاؤم بالنار: وفي " المبسوط " يكره الإجمار في القبر واتباع الميت بها. قال النخعي: أكره أن يكون آخر زاده من الدنيا نارا.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر بإجمار أكفان ابنته وترا) ش: هذا غريب لم يرد هذا الوجه، ولكن روى ابن حبان في " صحيحه " من حديث جابر مثلما ذكر عن أبي يعلى آنفا، ولكن لفظه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا» وفي لفظ له «فأوتروا» وفي لفظ للبيهقي «جمروا كفن الميت ثلاثا» قال النووي: وسنده صحيح.
م: (والإجمار هو التطيب) ش: يقال: ثوب مجمر، أي مبخر بالطيب، ويقال من باب التفعل، ومن باب الإفعال يعني مجمر ومجمر، وجمرت الثوب، وأجمرته، والذي يتولى ذلك يقال له مجمر من التجمير.

(3/204)


فإذا فرغوا عنه صلوا عليه، لأنها فريضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإذا فرغوا عنه) ش: أي عن تكفين الميت م: (صلوا عليه، لأنها) ش: أي لأن الصلاة على الميت م: (فريضة) ش: أراد به فرض الكفاية، وهذا مجمع عليه. وقال أصبغ من المالكية: هي سنة، قاله ابن القاسم في المجموعة، وقال مسند صاحب " الطراز " وهو المشهور، بل قال مالك: هي أخفض من السنة والجلوس في المسجد والنافلة أفضل منها إلا جنازة من ترجى بركته أوله حق قرابة أو غيرها، واستدلوا بانتقاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة الكسوف عن الصلاة على ولده، ولو كانت واجبة لقدمت. قال النووي: هذا قول مردود لا يلتفت إليه.
قلت: لا تعلق لهم به، فإنه أخرها حتى يجهز فأمكن الجمع بينهما.
وفي " البدائع " و " التحفة ": هي فريضة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على كل بر وفاجر» ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال لا إله إلا الله» رواه الدارقطني، وهو ضعيف. وقال صاحب " المحيط ": وهي فرض كفاية كالجهاد لكي لا ينبغي الاجتماع على الترك كالجهاد.
فروع: تكفين الميت واجب، وقيل: سنة، والأول هو الصحيح، نص على وجوبه في " البدائع " وغيره، وعلى ورثته أن يكفنوه من جميع ماله قبل الدين والوصية والميراث، ويستثنى منه ما إذا كانت التركة عبدا جانيا أو كانت مرهونة، فإنهما يقدمان على التكفين، وفي " المحلى " والدين مقدم على الكفن، وتكفينه حينئذ واجب على من حضر من المسلمين من غريم وغيره، انتهى.
وقال خلاس بن عمرو: التكفين من الثلث، وقال طاوس: إن كان ماله كثيرا فمن رأس ماله، وإلا فمن ثلثه، ولو أوصى بزيادة على كفن المثل يعتبر من ثلث ماله ويقدم على وصاياه، وتبطل بالدين [....
... ] فإن لم يكن له مال يجب على من تجب عليه نفقته في حياته من أقاربه إلا الزوجة، فإنه يجب على زوجها عند أبي يوسف، وعليه الفتوى، وهكذا في الملتقطات و " منية المفتي " وعامة كتب الفقه. وفي " شرح الفرائض السراجية " لمصنفها جعله قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو الأصح في قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبه قال مالك.
وقال محمد: الزوج كالأجنبي وهو قول الشعبي وأحمد. وفي " جوامع الفقه ": ويجب على ولدها عند محمد، ثم قال: الأقارب فالأقرب فالأقرب، ثم على بيت المال. وفي " الجوامع " أيضا: فإن لم يكن شيء من ذلك سألوا من الناس بما يواريه، وإن لم يوجد غسل ودفن، وجعل [ ... ] على قبره.
ولا يجب على الزوجة كفن الزوج بالإجماع لنفقته. وقال ابن الماجشون: كفنها عليه، إن كان لها مال، وهو رواية عن مالك. وفي " المرغيناني " و " الروضة " وغيرهما: يجب الكفن على قدر المواريث، كما إذا ترك أبا أو ابنا فعلى الأب السدس وعلى الابن خمسة الأسداس، فإن ترك

(3/205)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بنتا وأختا لأب فعليهما نصفان، ولو كانت له خالة موسرة ومولاه الذي أعتقه قال محمد: كفنه على خالته. ومن لا يجب عليه نفقته لا يجب عليه الكفن وإن كان وارثا كابن العم، ذكره المرغيناني.
ولو كفنه من يرثه يرجع به في تركته، ون كفنه من أقاربه لا يرجع به في التركة، سواء أشهد بالرجوع أو لا، نص عليه في " الهارونيات ". وفي " جوامع الفقه ". ليس لصاحب الدين أن يمنع من كفن السنة، وهو ثلاثة أثواب في الرجل، وخمسة في المرأة مثل ثيابهما في العيدين والجمعة.
وقال الفقيه أبو جعفر: كفن المثل يعتبر بما يلبسه غالبا، ومثل ثيابه. وفي " المرغيناني ": لو كان في المال كثرة وفي الورثة قلة فكفن السنة أولى، وإن كان على العكس فكفن الكفاية أولى، ويجوز كفن السنة مع وجود الأيتام ولا يمنعه تحسين الكفن.
وفي " الذخيرة " للمالكية: ليس للغرماء منع الورثة من ثلاثة، وإن استغرقت الدين. وقال النووي في " شرح المهذب " عند الدين المستغرق يكفن في ثوب واحد في أصح الوجهين، وفي الوجه الثاني في ثلاثة كالمفلس يترك له الثياب اللائقة.
1 -
وإن نبش قبره يكفن ثانيا من رأس المال وبعد قسمة التركة ووفاء الديون تجب على الورثة دون الغرماء وأصحاب الوصايا، وإن نبش بعدما يفتح يلف في خرقة، ولو كفنه أجنبي ثم أكله سبع أو غيره فالكفن للأجنبي، لأنه لم يخرج عن ملكه بعدم التمليك، إذ الميت ليس من أهله. وفي " الذخيرة " جعله قول أبي يوسف ومحمد.
ولو وهبه لوارثه ليكفنه به فهو له، ولو جمعت دارهم تكفنه ثم فضلت فضلة ردت على أصحابها إن علموا وإن لم يعلم معطيها صرفت إلى كفن ميت آخر، فإن تعذر تصدق بها، وهو قول الحنابلة، ذكره ابن تيمية.
حي عريان وميت وبينهما ثوب أو ثوب [....
..] ، فالحي أولى به، وإن كان الحي وارثا. فإن كان الميت كفن وبحضرته مضطر إليه لبرد أو ثلج أو سبب آخر يخشى منه التلف يقدم الحي على الميت، كما لو كان للميت ماء وهناك مضطر إليه لعطش، قدم به على غسله.
بخلاف ما لو كان حاجة الحي إلى السترة للصلاة أو إلى الماء للطهارة، فإن الميت يستر به وبمائه أحق، لأنه باق على ملكه، والحي يمكنه أن يصلي عريانا أو متيمما لوجود العذر، وقالت الشافعية والحنابلة. ويجمع بين الاثنين والثلاثة في كفن واحد عند الضرورة، وعندنا لا يجمع بينهما في كفن واحد فلا ساتر عورة أحدهما عورة الآخر.

(3/206)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " قاضي خان " اشترى الوصي من التركة تابوتا وثوبا عليه، وأعطى القراء والشعراء والنوائح الحضار في التعزية، وبنى في القبر بناء منكرا، أو حظيرة، أو مقبرة لا يجوز، ويضمن جميع ذلك إلا التابوت، ولو اشترى بعض الورثة من التركة تابوتا للميت من غير إذن البقية، والأرض يقبر فيها بغير تابوت، يجب عليه دونهم.
مات رجل وله أثواب هو لابسها، وعليه ديون يكفن فيها ولا يباع ثوباه للدين، كما في حال الحياة. مات في السفر وأخذ صاحبه ماله وأنفقه في التجهيز والتكفين لا يضمن استحسانا.

(3/207)


فصل في الصلاة على الميت وأولى الناس بالصلاة على الميت السلطان إن حضر، لأن في التقدم عليه ازدراء به، فإن لم يحضر فالقاضي، لأنه صاحب ولاية، فإن لم يحضر فيستحب تقديم إمام الحي لأنه رضيه في حال حياته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الصلاة على الميت] [حكم الصلاة على الميت وأولى الناس بالصلاة عليه]
م: (فصل في الصلاة على الميت) ش: أي هذا فصل في بيان الصلاة على الميت، ولما فرغ من بيان تكفينه شرع في بيان الصلاة عليه على الترتيب.
م: (وأولى الناس بالصلاة على الميت) ش: أي بإقامة الصلاة على الميت م: (السلطان إن حضر، لأن في التقدم عليه ازدراء به) ش: أي استخفافا به، والواجب تعظيمه وتوقيره م: (فإن لم يحضر السلطان فالقاضي) ش: أي فإن لم يحضر السلطان فالقاضي أولى الناس بالصلاة عليه م: (لأنه صاحب ولاية) ش: فيكون أولى من غيره.
م: (فإن لم يحضر) ش: أي القاضي م: (فيستحب تقديم إمام الحي، لأنه رضيه في حال حياته) ش: أي لأن الميت رضيه إماما في حال حياته، فكذا بعد مماته، وهذا الذي ذكره ترتيب القدوري، وروى الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الإمام الأعظم وهو الخليفة أولى بالصلاة عليه إن حضر، فإن لم يحضر فإمام المصر، وهو سلطانها، لأنه في معنى الخليفة، وبعده القاضي، وبعده صاحب الشرط، وبعده خليفة الوالي، وبعده خليفة القاضي، وبعده هو إمام الحي، فإن لم يحضروا فالأقرب من ذوي قرابته، وبهذه الرواية أخذ كثير من المشايخ.
وفي " الذخيرة " ذكر محمد في كتاب الصلاة أن إمام الحي أولى بالصلاة على الميت. وفي " البدائع " ذكر في الأصل أن إمام الحي أولى بالصلاة عليه. وفي " الذخيرة " وإنما قدم إمام الحي في كتاب الصلاة، لأن الخليفة والسلطان لا يوجدان في كل بلد ولا يحضران في الجنائز.
وقال الكرخي في كتابه: وتقديم إمام الحي ليس بواجب، ولكنه أصل، أما تقديم الإمام الأعظم والسلطان فواجب. وقال تاج الشريعة: أولى الناس بالإمامة السلطان الأعظم إن حضر، فإن لم يحضر فسلطان كل مصر، فإن لم يحضر فإمام المصر أو القاضي، فإن لم يحضر أحدهما فإمام الحي.
وفي " الخلاصة ": ولو حضر والي المصر والقاضي فالوالي أولى، فإن لم يحضر الوالي لكن حضر خليفته فخليفته أحق من القاضي وصاحب الشرط. والمختار أن الإمام الأعظم أولى، فإن لم يحضر فسلطان المصر، وإن لم يكن فإمام المصر أو القاضي، فإن لم يكن فإمام الحي،

(3/208)


قال: ثم الولي والأولياء على الترتيب المذكور في النكاح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الإمام العتابي: إمام مسجد الجامع أولى من إمام مسجد المحلة.

م: (قال: ثم الولي) ش: أي قال القدوري: ثم الولي أحق بالصلاة عليه. وقال النووي في " شرح المهذب " إن اجتمع الوالي والولي فقولان مشهوران، القديم: الوالي ثم إمام المسجد ثم الولي. والجديد: والولي مقدم. ومثله عن الضحاك، وبالأول قال علي وابن مسعود وأبو هريرة وزيد بن ثابت والحسن والحسين وعلقمة والأسود والحسن البصري وسويد بن غفلة ومالك وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، قال: وبه أقول. وجه قوله الجديد قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] (الأنفال: الآية 75) ، مطلقا من غير فصل بين الحياة والممات، والاعتبار بولاية النكاح، ولأن معظم الفرض هاهنا الدعاء للميت، فمن يختص بالشفقة فدعاؤه أقرب إلى الإجابة، بخلاف سائر الصلوات.
وأما ما روي أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما مات خرج الحسين والناس معه لصلاة الجنازة فقدم الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سعيد بن العاص، وكان أميرا على المدينة من قبل معاوية، فأبي سعيد أن يتقدم، فقال له الحسين تقدم وصل، ولولا السنة ما قدمتك، ولأن هذه صلاة تقام بالجماعة غالبا، فيكون السلطان أولى، ولأن الوالي نائب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الذي كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فينوب نائبه منابه في التقدم، ولأن ولايته وولاية القاضي عامة، والآية محمولة على المواريث وعلى ولاية الإنكاح، وليس ولاية الإمامة كولاية الإنكاح، ولأن ولاية الإنكاح مما لا يتصل بالجماعة، فكان القريب أولى كالتكفين والغسل.
وأما قوله دعاء القريب أولى بالإجابة، فقلنا: لا بل دعاء الإمام أقرب لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «ثلاثة لا يحجب دعاؤهم " وعد منهم الإمام» كذا في " مبسوط شيخ الإسلام " و " المحيط ". م: (والأولياء على الترتيب المذكور في النكاح) ش: أي الترتيب المذكور في النكاح كالترتيب في الإرث والأبعد محجوب بالأقرب، وها هنا كذلك يعتبر الأقرب فالأقرب من ذوي الأنساب، فإن تساويا في القرابة فأسنهما أولى مثل ولدين أو أخوين لأب وأم أو عمين هما متساويان في القرابة وأحدهما أكبر سنا من الآخر، ولو اجتمع الأب والابن ذكر في كتاب الصلاة أن الأب أولى، ومن مشايخنا من قال: هذا قول محمد، وأما على قول أبي حنيفة الابن أولى، وبه قال مالك. وقال أبو يوسف: الولاية لهما لكن الابن يقدم تعظيما له، كما في النكاح. وقيل: لا بل الأب أولى، وبه قال الشافعي وأحمد، وفي " المحيط " وهو الأصح.

(3/209)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو اجتمع أخوان لأب وأم أو لأب فأكبرهما سنا أولى كما ذكرنا، وبه قال الشافعي في قول.
ولو أراد الأسن أن يقدم الأجنبي ليس له ذلك إلا برضى الآخر، لأن الحق لهما، لكن قدمناه بالسنة ولا سنة في تقديم من قدمه. وفي قول للشافعي الأتقى مقدم، لأنه أولى. وفي فتاوى العتابي الزوج كالأجنبي، وبه قال الشافعي ومالك. وعن أصحابنا أن الزوج أولى من الأجنبي، وكذا الجار.
وفي " المحيط " ابن عم المرأة أولى من زوجها إذا لم يكن لها ابن من الزوج، وإذ كان للزوج من ولد فالزوج أولى، خلافا للشافعي ومالك، وقال القدوري: سائر القرابات أولى من الزوج، وكذا مولى العتاقة وابنه لأنهما عصبته.
وقال الشافعي: الزوج أولى منهما. وحكى ابن المنذر في " الأشراف " عن أبي بكر الصديق وابن عباس والشعبي وعطاء وعمر بن عبد العزيز وإسحاق وأحمد، أن الزوج أولى بالصلاة على زوجته من الولي. وقال عمر بن الخطاب وسعيد بن المسيب والزهري وبكير بن الأشج والحكم، وقتادة وأصحابنا ومالك والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا ولاية للزوج لانقطاع الزوجية بالموت. قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في امرأته أنتم أحق بها بعد موتها. وقال الأوزاعي والحسن البصري: الأب أحق، ثم الزوج ثم الابن ثم الأخ، وعند الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقدم الأب على الابن، وكذا الجد وعند الشافعي.
وعند مالك الابن أولى، وعن محمد أبو الميتة أولى من ابنها إن كان من غير زوجها، فإن كان منه فالأب أولى ثم الزوج، وفي " شرح الأسبيجابي " ابن ابنها أولى من أبيها، لأنه عصبة لكن يقدم الجد وهو أبو الميتة، ولا يقدم أباه وهو زوجها إلى برضى الجد ثم الأب يقدم على الجد، لكن يقدم أباه، وكذا المكاتب إذا مات ابنه أو عبده فالولاية للمكاتب، وله أن يقدم سيده.
وإن مات المكاتب من غير وفاء وله أب أو ابن وهما حران فالمولى أحق، فإن ترك وفاء فأديت كتابته أو كان المال حاضرا لا يخاف التوى، فالأب أحق، عبد مات فاختصم في الصلاة عليه المولى وابن العبد وأبوه وهما حران، فالمولى أحق، وقيل أبوه الحر أوأخوه الحر أولى لانقطاع الملك بالموت، والفتوى على الأول ذكره في " الملتقطات ".
وفي المجنونة: الأب أحق من الابن عند الكل، هكذا قاله بعض المشايخ، ونص هشام، عن محمد، عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " النوادر ": أن الأب أولى، ولو تشاجر الوليان فتقدم أجنبي، إن صلى الأولياء خلفه جازت، وإلا تعاد، وإلا للولي إعادتها، وإن دفن أعاد على قبره، ولا يعيد من صلى مع الأجنبي من غير الأولياء.

(3/210)


فإن صلى غير الولي أو السلطان أعاد الولي، يعني إن شاء لما ذكرنا أن الحق للأولياء، وإن صلى الولي لم يجز لأحد أن يصلي بعده لأن الفرض يتأدى بالأولى والتنفل بها غير مشروع، ولهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن صلى غير الولي أو السلطان أعاد الولي) ش: قيد بالسلطان لأنه لو صلى السلطان فلا إعادة لأحد، لأنه هو المقدم على الولين ثم هو ليس بمنحصر على السلطان، بل كان من كان مقدما على الولي في ترتيب الإمامة في صلاة الجنازة فصلى هو لا يعيد الولي ثانيا، كذا في " فتاوى الولوالجي ". وفي " الظهيرية ": وكذا لو صلى إمام مسجد الجامع لا تعاد. وفي " التجنيس ": للقوم الإعادة ولو اقتدى بعض الأولياء مع رجل وصلى ليس للباقين الإعادة.
م: (يعني إن شاء) ش: أي الولي، وإنما قيد به لأنه لو لم يقيد كان يفهم الوجوب، ولما كان الحق له إن شاء أجاز فعله، وإن شاء لم يجز م: (لما ذكرنا أن الحق للأولياء) ش: فيكون لهم الخيار في ذلك.
م: (وإن صلى الولي لم يجز لأحد أن يصلي بعده) ش: وبه قال النخعي والثوري والليث والحسن بن حي ومالك. وقال الشافعي والأوزاعي يصلي عليه، وعند أحمد إلى شهر.
وقال النووي: فيه أربعة أوجه، أصحها باتفاق الأصحاب لا تستحب الإعادة بل المستحب تركها، وفي وجه يكره إعادتها، وبه قطع الفوراني وصاحب " العدة " وغيرهما، وعند الحنابلة فيها وجهان، واستدلوا بصلاة الصحابة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرادا. قال ابن عبد البر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " مجمع عليه عند أهل السير والنقل. وقال ابن دحية: أنا أستعجب من قوله مع اتساع علمه، فإن الخلاف منصوص عليه هل صلوا عليه صلاتنا على موتانا أم لا؟ حكى ابن القصار قولين، وهل صلوا عليه أفرادا أو جماعة؟ على الاختلاف.
واختلف فيمن أم، قيل: أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ذكره ابن القصار ولا يصح لضعف روايته، وحكى البزار والطبراني أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أول من صلى علي رب العزة» وهو موضوع، قاله الأزدي والبزار. وقيل صلوا عليه بصلاة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهو معلول، والصحيح أنهم صلوا أفرادا لا يؤمهم أحد، وهذا مخصوص به. وروي أنه أوصى بذلك، ذكره البزار والطبري، وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «انتهى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى قبر رطب وصفوا خلفه فكبر أربعا» متفق عليه.
وحجتنا ما أشار إليها المصنف بقوله: م: (لأن الفرض يتأدى بالأولى) ش: أي فرض الصلاة على الميت يتأدى بالصلاة الأولى، لأنها فرض كفاية ولا معنى للثانية م: (والتنفل بها غير مشروع) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لم لا يجوز أن يصلي ثانية وكانت نافلة كما في غيرها من الفرائض، فأجاب عن ذلك بقوله " والتنفل بها " أي بالصلاة على الميت غير مشروع، يعني لم يرد به الشرع، ثم أوضح ذلك بقوله: م: (ولهذا) ش: أي ولعدم مشروعية

(3/211)


رأينا الناس تركوا عن آخرهم الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو اليوم كما وضع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النفل بالصلاة على الميت م: (رأينا الناس تركوا عن آخرهم الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو اليوم) ش: أي والحال أنه اليوم م: (كما وضع) ش: لأن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -.
1 -
فإن قلت: الاقتصار على صلاة غير الولي جائز، وذلك دليل على سقوط الفرض، ومع هذا لو أعاد الولي جاز فعلم أن التنفل بها مشروع.
قلت: صلاة غير الولي إنما تعتبر عند عدم تعرض الولي، فإذا تعرض بالإعادة زال حكم صلاة غيره، فكان للميت بغير صلاة عليه، فإذا صلى الولي يكون ما صلاه هو الفرض، فإذا كان هو الفرض فكيف يكون نفلا.
فإن قلت: ترك الناس الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان خوفا من أن يتخذ قبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجدا أو لم يكن ذلك لأجل عدم مشروعية التنفل بها.
قلت: لا يلزم من الصلاة على قبره اتخاذه مسجدا، ألا ترى أنهم جوزوا أن يصلى عند قبور أهل العلم والأولياء مع مزيد اعتقاد العامة في التعظيم لهم الخارج عن الشرع.
فإن قلت: حق الميت وإن كان مقضيا بالصلاة مرة فلا يوجب سقوطه أولا، لأن الصلاة في الحقيقة دعاء، وهو باق كالوضوء، شرع لإقامة الفرض، والفرض يسقط بواحد، لكن لو أعاده لكل صلاة كان حسنا.
قلت: الأصل أن الميت لا ينتفع بالصلاة عليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] (النجم: الآية 39) ، ولكن عرف هذا شرعا بخلاف القياس، فإذا كان كذلك سقط بالمرة الواحدة فلم يتصور الثاني قضاء من عندنا بلا توقيف، بخلاف الدعاء فإن التوقيف فيه باق كما بقي بالأمر بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذه على سبيل الدعاء.
فإن قلت: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبعين مرة، وكان الفرض قد تأدى بالأولى؟ قلت: أجيب عنه بجوابين: الأول: أنه كان موضوعا بين يديه فيؤتى بواحد واحد من الذين استشهدوا وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على كل واحد صلاة، فظن الراوي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على حمزة في كل مرة، فقال: صلى على حمزة سبعين مرة. الثاني: يجوز أن يكون المراد من قول الراوي صلى على حمزة سبعين مرة للمعنى اللغوي، وهو الدعاء، أي دعا سبعين مرة.
فإن قلت: قد صلى كل واحد من الصحابة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة منفردة، فدل على جواز التكرار.

(3/212)


وإن دفن الميت ولم يصل عليه صلي على قبره، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر امرأة من الأنصار»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: يحتمل أن الصلاة كانت فرض عين على الصحابة لتعظيم حقه كالدعاء اليوم على المسلمين مرة واحدة لقوله صلوا، وكانت تكرار الصلاة عليه من كل أحد لأداء الفرض عليه.
وأما الجواب عن حديث ابن عباس فلأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان هو الولي، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] (الأحزاب: الآية6) ، ومن العلماء من جعل الصلاة على القبر من خصائص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بدليل ما روي من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وإني أنورها بصلاتي عليهم» .
فإن قلت: ابن حبان يتبع هذا الوجه، فقال: ليس الأمر كما توهموه، بدليل أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى الناس خلفه، فلو كان من خصائصه لزجرهم عن ذلك.
قلت: يجوز أن يكون صفهم خلفه لأجل أن يدعو لا للصلاة حقيقة.

[الحكم لو دفن الميت ولم يصل عليه]
م: (وإن دفن الميت ولم يصل عليه صلي على قبره) ش: ولا يخرج منه لأنه قد سلم إلى الله تعالى، وفي إخراجه انكشافه، ويصلى عليه ما لم يعلم أنه تمزق، هكذا في " المبسوط "، وهذا يشير إلى أنه إذا شك في تفرقة وتفسخه يصلى عليه، وقد نص الأصحاب على أنه لا يصلى عليه مع الشك في ذلك، ذكره في " المزيد " و " المفيد " و " جوامع الفقه " وعامة الكتب وبقولنا قال الشافعي وأحمد وهو قول ابن عمر وأبي موسى وعائشة وابن سيرين والأوزاعي، ثم هل يشترط في جواز الصلاة على قبره كونه مدفونا بعد الغسل، فالصحيح أنه يشترط. وروى ابن سماعة عن محمد أنه لا يشترط.
م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلى على قبره امرأة من الأنصار» ش: أخرج ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حديث خارجة بن زيد بن ثابت «عن عمه زيد بن ثابت - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وكان أكبر من يزيد، قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر، فسأل عنه فقالوا: فلانة، فعرفها، فقال: ألا آذنتموني بها، قالوا كنت قائلا صائما..» الحديث، ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا.
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة «أن رجلا أسود كان يقم المسجد، فمات فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه فقالوا: مات، قال: أفلا آذنتموني به، دلوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه» . قوله: يقم المسجد بضم القاف وتشديد الميم أن يكنسه ويخرج منه القمامة، وهي الكناسة.
فإن قلت: كيف يصلي عليه وهو غائب عن أعين الناس بالتراب؟ قلت: نعم، ولكن هذا لا يمنع جواز الصلاة، ألا ترى أنه قبل الدفن كان غائبا بالكفن، ولم يمنع ذلك عن جواز الصلاة، وهذا إذا دفن بعد الغسل قبل الصلاة عليه.

(3/213)


ويصلى عليه قبل أن يتفسخ والمعتبر، في معرفة ذلك أكبر الرأي في الصحيح لاختلاف الحال والزمان والمكان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا دفنوه بعد الصلاة عليه ثم تذكروا أنهم لم يغسلوه، فإن لم يهل التراب عليه يخرج ويغسل، ويصلى عليه، وإن هالوا التراب عليه لم يخرج، وهل يصلى عليه ثانيا في القبر، ذكر الكرخي أنه يصلى عليه، وفي " النوادر " عن محمد: القياس أن لا يصلى عليه. وفي " الأسبيجابي ": أن يصلى عليه، لأن تلك الصلاة لم يعتد بها لترك الطهارة مع الإمكان، والآن زال الإمكان وسقطت فريضة الغسل، فيصلى عليه في قبره.
وأما إذا صلى عليه قبل الغسل وهو لم يدفن بعد فإنه يغسل وتعاد الصلاة عليه بعد الغسل، وكذا لو غسلوه وبقي عضو من أعضائه أو قدر لمعة، كذا في " المبسوط " و " المحيط "، وفي المحيط أيضا لو صلى عليه من لا ولاية له عليه يصلى على قبره.

م: (ويصلى عليه قبل أن يتفسخ) ش: يعني إنما تجوز الصلاة على الميت في قبره أن يتفسخ الميت ويتمزق، ثم أشار إلى معرفة الطريق فيه بقوله: م: (والمعتبر في معرفة ذلك) ش: أي في كونه قبل التفسخ م: (أكبر الرأي) ش: أي غالب الظن، فإن كان غالب الظن أنه يتفسخ لا يصلى عليه، وإن كان غالب الظن أنه لم يتفسخ فيصلى عليه، وإذا شك لا يصلى عليه، رواه ابن رستم عن محمد م: (في الصحيح) ش: احترز به عما روي عن أبي يوسف أنه يصلى عليه إلى ثلاثة أيام وبعدها لا يصلى عليه، وهذا رواية ابن رستم في " نوادره " عن محمد عن أبي حنيفة، لأن الصحابة كانوا يصلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ثلاثة أيام.
وللشافعية ستة أوجه، أولها: إلى ثلاثة أيام، لقول أبي يوسف: إنه يصلى عليه إلى ثلاثة أيام. ثانيها: إلى شهر، كقول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ثالثها: ما لم يبل جسده. رابعها: يصلي عليه من كان من أهل الصلاة عليه يوم موته. خامسها: يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه يوم موته. واتفقوا على تضعيفه، وممن صرح به: الماوردي، والمحاملي، والفوراني، والبغوي، وإمام الحرمين، والغزالي، وقال إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصلي القادم من السفر إلى شهر، والحاضر إلى ثلاثة أيام، وقال سحنون من المالكية: لا يصلى على القبر؛ سدا للذريعة في الصلاة على القبور.
م: (لاختلاف الحال) ش: أي لأجل اختلاف حال الميت بالسمن والهزال، فإنه إذا كان سمينا ينفسخ عن قريب، وإن كان مهزولا يبطئ في التفسخ م: (والزمان) ش: أي ولاختلاف الزمان، فإنه يتفسخ في الشتاء عن قريب لحرارة ما تحت الأرض في الشتاء، وفي الصيف يبطئ فيه لبرودة ما تحت الأرض م: (والمكان) ش: أي ولاختلاف المكان، فإنه يبقى في الأرض الصلبة أكثر مما يبقى

(3/214)


والصلاة أن يكبر تكبيرة......إلخ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الأرض الرخوة، فلما اختلفت هذه الأشياء فوض الأمر إلى رأي المبتلى به.
فإن قلت: روى البخاري عن عقبة بن عامر «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين» .
قلت: أجاب السرخسي في " المبسوط " وغيره أن ذلك محمول على الدعاء، ولكنه غير سديد، لأن الطحاوي روى عن عقبة بن عامر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوما فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت» .
والجواب السديد: أن أجساده لم تبل، ولما أراد معاوية أن يجري العين التي تؤخذ عند قبور الشهداء أصابت المسحاة إصبع حمزة سيد الشهداء فانفطرت دما، ولما سقط حائط قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمن الوليد أخذوا في بنائه فثبت لهم قدم ففزعوا، وقالوا: هذه قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عروة: لا والله هذه قدم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم تبل بعد ثمانين سنة والمدينة سبخة تأكل الميت الملح ونفسه السبخي وتحيله إلى نفسها، وشرف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما ظنك به، ذكره ابن دحية في العلم المشهور.
وفي " الموطأ ": أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كان السيل قد حفر قبرهما وهما ممن شهد أحدا، فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكفنهما ستة وأربعون سنة.

[كيفية صلاة الجنازة]
م: (والصلاة أن يكبر تكبيرة) ش: وهذا شروع في بيان كيفية الصلاة على الميت، وبينها بقوله: م: (والصلاة) ش: أي الصلاة على الميت م: (أن يكبر تكبيرة ... إلخ) ش: ولم يبين كيف ينوي، وهي أن يقول نويت أن أصلي لله وأدعو لهذا الميت، ذكره في " منية المفتي " وغيره، وذكر في " البدائع " وغيره أنه يقول سبحانك اللهم وبحمدك
إلخ، بعد التكبير.
وفي " المحيط " جعله رواية الحسن عن أبي حنيفة، وذكر في " البدائع " ذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا استفتاح فيه، كما يستفتحون في سائر الصلوات، وفي " الروضة " يقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله الذي يحيي الخلائق ويميتهم، وهو حي قيوم، أبدي لا يزول أبدا، سبحان رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومالك الرقاب، الغني عن خلقه الذي لا إله إلا هو.
وإن قرأ الفاتحة على نية الدعاء جاز، وليس في صلاة الجنازة قراءة القرآن عندنا: قال ابن بطال: وممن كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة وينكر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وأبو هريرة ومن التابعين عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وابن سيرين وابن جبير والشعبي والحكم. وقال ابن المنذر ومجاهد وحماد وبه قال الثوري، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:

(3/215)


ويحمد الله عقيبها، ثم يكبر تكبيرة ويصلي فيها على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يكبر تكبيرة يدعو فيها لنفسه وللميت وللمسلمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قراءة الفاتحة ليست معمولا بها في بلدنا في صلاة الجنازة، وعند مكحول وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يقرأ الفاتحة في الأولى.
وقال ابن حزم: يقرأها في كل تكبيرة عند الشافعي، وهذا النقل عنه غلط. وقال الحسن بن علي: يقرأها ثلاث مرات. وقال الحسن البصري: يقرأها في كل تكبيرة، وهو قول شهر ابن حوشب، وعن المسور بن مخرمة: يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وسور قصيرة.

م: (ويحمد الله عقبيها) ش: أي عقيب التكبيرة الأولى، قال الأترازي: يعني يقول: سبحانك اللهم وبحمدك..إلخ.
قلت: الحمد لله أعم من قراءة سبحانك اللهم وغيرها، ولكن قال شمس الأئمة السرخسي: اختلف المشايخ فيه، فقال بعضهم يحمد الله كما في ظاهر الرواية، وقال بعضهم يقرأ سبحانك اللهم إلى آخره، كما في الصلوات كلها، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة.
وفي دعاء الاستفتاح للشافعي قولان، أحدهما: يسن كسائر الصلوات. والثاني لا يسن. وقراءة الفاتحة واجبة عنده، وهو قول أحمد لما روى جابر «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ فيها بأم القرآن.» وقرأ ابن عباس الفاتحة وجهر، ثم قال: عمدا فعلت ليعلم أنه سنة.
قلنا: كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ على سبيل الثناء لا على وجه القراءة، وقال الترمذي: حديث جابر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إسناده ليس بقوي.
م: (ثم يكبر تكبيرة) ش: ثانية م: (ويصلي فيها على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: الصلاة المعروفة في التشهد، وقيل: يقول في الثانية: اللهم صل على النبي الأمي البشير النذير عبدك ورسولك، سيد الأنبياء والمرسلين وخير الخلائق أجمعين، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم اجعل نوامي صلاتك وفواضل بركاتك، وتحيتك ورحمتك ورأفتك على عبدك ونبيك الأمي وسلم تسليما كثيرا.
م: (ثم يكبر تكبيرة) ش: ثالثة م: (يدعو فيها لنفسه وللميت وللمسلمين) ش: الدعاء فيها أن يقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، صغيرنا وكبيرنا، ذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان. رواه أبو داود، وأحمد. وخصص هذا الميت بالروح والراحة والرحمة والمغفرة والرضوان، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه ووفه الندى والكرامة والزلفى برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لي ولوالدي ولجميع المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأ حياء منهم والأموات،

(3/216)


ثم يكبر الرابعة ويسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتابع بيننا وبينهم بالخيرات. إنك مجيب الدعوات، منزل البركات، ورافع السيئات، مقيل العثرات، إنك على كل شيء قدير. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] (آل عمران: الآية 7) .
وزاد في بعض شروح القدوري: اللهم اجعل قلوبنا قلوب أخيارنا، اللهم آنس وحدته، وارحم غربته، وبرد مضجعه، ولقنه حجته، ووسع مدخله وأكرم منزله، وتقبل حسنته، وامح بعفوك سيئاته، اللهم كن له بعد الأحباب حبيبا، وبعد الأهل والأقارب قريبا، ولدعاء من دعا له سميعا مجيبا، اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به فإنه يفتقر إلى عفوك وغفرانك وجودك وإحسانك وأنت غني عن عذابه، اللهم اقبل شفاعتنا فيه وارحمنا ببركته يا أرحم الراحمين.
وفي " صحيح مسلم " عن عوف بن مالك «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة رجل فقال: اللهم عافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدخله واغسله بالثلج والماء والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار يا أرحم الراحمين» .

م: (ثم يكبر الرابعة) ش: أي التكبيرة الرابعة ولا يدعوا بعدها. وفي " البدائع ": ليس في ظاهر المذهب بعد التكبيرة الرابعة دعاء سوى السلام، وهو قول مالك وأحمد - رحمهما الله - وقد اختار بعض مشايخنا ما يختم به سائر الصلوات وهو: " اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ". زاد في " المبسوط ": وقنا برحتمك عذاب النار وعذاب القبر وسوء الحساب.
وقال النووي: اتفقوا على أنه يجب الذكر بعد الرابعة، واستحب في أحد الوجهين، والوجه الثاني إن شاء قاله وإن شاء تركه، والذي يقوله: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. وزاد المحاملي وصاحب " التنبيه ": واغفر لنا وله.
وفي " المجتبى ": قيل: هو مخير بين الدعاء والسكوت، وقيل: يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة....إلخ، وقيل: يقول: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] (آل عمران: الآية 8) ، وقيل: يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات: 180] (الصافات: الآية 180) إلخ.
م: (ويسلم) ش: عن يمينه وعن يساره. والمشهور عن الشافعي أيضا تسليمتان. قال الفوراني هو أيضا في " الجامع الكبير ". ومن الناس من قال: تسليمة واحدة، وبه قال أحمد وآخرون، لأن مبناها على التخفيف. وهل يرفع صوته بالتسليم؟ قال في " البدائع ": لم يتعرض له في ظاهر الرواية، وذكر الحسن بن زياد أنه لا يرفع صوته، لأن رفعه للإعلام، فلا

(3/217)


«لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا في آخر صلاة صلاها»
فنسخت ما قبلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حاجة إليه بالتسليم عقيب الرابعة، لأنه مشروع، والأفضل عقيب التكبير. قال: ولكن العمل في زماننا يخالف ما ذكره الحسن. وفي " المحيط ": ويسلم تسليمتين ويخافت في الكل إلا في التكبير. وفي " المرغيناني " لا ينوي الإمام الميت فيهما، بل ينوي من عن يمينه في الأولى ومن عن يساره في الثانية. وفي " الأسبيجابي " وينوي الميت في التسليمة الأولى لا غير، ومن عن يساره في الثانية. وفي " الذخيرة ": من مشايخ بلخ يقولون: السنة أن يسمع الصف الثاني من الصف الأول، والثالث من الثاني. وعن أبي يوسف لا يجهرون كل الجهر ولا يسرون كل الإسرار.

م: «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا في آخر صلاة صلاها» فنسخت ما قبلها) ش: لما ذكر أن التكبيرات على الجنازة أربع، استدل في ذلك بقوله «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا» هذا روي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب وابن أبي خيثمة وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث ابن عباس فله طرق. الأول: عند الحاكم في " المستدرك " والدارقطني في " سننه " عن الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن عبد الله بن عباس - رضي اله عنهم - قال: «آخر ما كبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنائز أربع تكبيرات، وكبر عمر على أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أربعا، وكبر ابن عمر على عمر أربعا، وكبر الحسن بن علي على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أربعا، وكبر الحسين بن علي على الحسن أربعا، وكبرت الملائكة على آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربعا» وسكت الحاكم عنه. وقال الدارقطني: الفرات بن السائب متروك.
الطريق الثاني: عند البيهقي في " سننه " والطبراني في " معجمه " عن النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال: «آخر جنازة صلى عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر عليها أربعا» . قال البيهقي: تفرد به النضر بن عبد الرحمن أبو عمر الخزاز عن عكرمة، وهو ضعيف، وقد روي هذا من وجوه أخر، كلها ضعيفة إلا أن إجماع أكثر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على أربع كالدليل على ذلك الطريق.
الثالث: عند أبي نعيم الأصبهاني عنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر على أهل بدر سبع تكبيرات وعلى بني هاشم سبع تكبيرات، ثم كان آخر صلاته أربع تكبيرات إلى أن خرج من الدنيا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.»
الطريق الرابع: عند ابن حبان في كتاب " الضعفاء " من حديث محمد بن معاوية أبي علي النيسابوري عن أبي المليح بن مهران عن ابن عباس، وأعله بمحمد بن معاوية وقال:

(3/218)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إنه يأتي عن الثقات بما لا يتابع عليه، فاستحق الترك إلا فيما وافق الثقات، فإنه كان صاحب حفظ وإتقان قبل أن يظهر منه ما ظهر.
وأما حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند الدارقطني من حديث يحيى بن أبي أنيسة عن جابر عن الشعبي عن مسروق قال: «صلى عمر على بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسمعته يقول: لأصلين عليها مثل آخر صلاة صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مثلها، فكبر عليها أربعا ... » ويحيى وجابر الجعفي ضعيفان.
وأما حديث ابن أبي حثمة فرواه أبو عمر في " الاستذكار " قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وسبعا فثمانيا، حتى جاء موت النجاشي فخرج إلى المصلى فصف الناس وراءه وكبر عليه أربعا، ثم ثبت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أربع حتى توفاه الله عز وجل» .
وأبو حثمة هذا ابن حذيفة بن غانم القرشي العدوي، والد سليمان وأخو أبي جهم، ذكره الذهبي هكذا في " تجريد الصحابة "، ثم قال: له رواية بلا رواية، ولم يذكر له اسم، ومنهم أبو حثمة آخر واسمه عبد الله، وقيل عامر بن ساعدة الأوسي الحارثي والد سهل.
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فرواه الحارث بن أبي سلمة [....] قال «آخر: ما كبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر بلفظ حديث ابن عباس، وزاد: وكبر على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يزيد بن المكفف أربعا، وكبر ابن الحنفية على ابن عباس بالطائف أربعا» .
وأما حديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند الحازمي في كتاب " الناسخ والمنسوخ «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على أهل بدر سبع تكبيرات وعلى بني هاشم سبع تكبيرات، وكان آخر صلاة صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعا حتى خرج من الدنيا» ثم قال: وإسناده واه.

قوله: م: (فنسخت ما قبلها) ش: أي نسخت تكبيراته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأربع التكبيرات التي كبرها خمسا أو ستا أو سبعا أو ثمانيا قبل ذلك. ويؤيد ما قاله المصنف قول أبي عمر بن عبد البر -

(3/219)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - انعقد الإجماع على الأربع، ولا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال خمسا إلا ابن أبي ليلى.
وقال صاحب " المبسوط " وغيره من الأصحاب: قد ثبت ما زاد على الأربع بفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أما قول أبي عمر ففيه نظر، لأن ابن المنذر ذكر في " الأشراف " أن الخمس قول ابن مسعود وزيد بن أرقم. وأما قول صاحب " المبسوط " فيه نظر: لأنه يمكن أن يحمل الكل على الجواز مع أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قد فعلوا ذلك بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى ابن حزم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بإسناد صحيح أنه كان يكبر على الجنازة ثلاثا، وكذا روي عن أنس. وقال ابن سيرين: إنما كانت التكبيرات ثلاثا فزادوا واحدة. وعن جابر بن زيد أنه أمر يزيد بن المهلب أن يكبر على الجنازة ثلاثا، قال: هي أسانيد في غاية الصحة، وكبر زيد بن أرقم على الجنازة خمسا بعد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كبر على سهل بن حنيف ستا ثم التفت إلينا وقال: إنه بدري، وذكر ابن بطال عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يكبر على البدري ستا وعلى سائر الصحابة خمسا وعلى غيرهم أربعا، وكبر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على قتادة سبعا، ولكن ما رواه محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " في كفاية الاحتجاج على استقرار الأمر على الأربع.
قال أبو حنيفة: عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - «أن الناس كانوا يصلون على الجنائز خمسا وستا وأربعا حتى قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم كبروا كذلك في ولاية أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثم ولي عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ففعلوا ذلك، فقال لهم عمر: إنكم معشر أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متى تختلفون تختلف الناس بعدكم والناس حديث عهد بالجاهلية فأجمعوا على شيء يجمع عليه من بعدكم، فأجمع رأي أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينظروا آخر جنازة كبر عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قبض فيأخذونها ويرفعون ما سواها، فنظروا فوجدوا آخر جنازة كبر عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعا» .
قلت: فيه انقطاع بين إبراهيم وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن «آخر صلاة صلاها على النجاشي كبر أربعا، وثبت عليها حتى توفي» . وذكر ابن بطال عن همام بن الحارث أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جمع الناس على الأربع إلا أهل بدر، فإنهم كانوا يكبرون عليهم خمسا وستا وسبعا.
وقال ابن حزم في " المحلى ": كبر عمر أربعا وعلي أربعا وزيد بن ثابت كبر أربعا على أمه، وعبد الله بن أبي أوفى كبر أربعا على ابنته، وزيد بن أرقم كبر أربعا، وكذا البراء بن عازب وابن عمر وأبو هريرة وعقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وصح أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

(3/220)


ولو كبر الإمام خمسا لم يتابعه المؤتم، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه منسوخ لما روينا، وينتظر تسليمة الإمام في رواية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبر أربعا، وصلى صهيب على عمر فكبر أربعا، وصلى الحسن على علي فكبر أربعا، وصلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على خباب فكبر أربعا.

[الحكم لو كبر الإمام خمسا في صلاة الجنازة]
م: (ولو كبر الإمام خمسا لم يتابعه المؤتم خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يقول زفر: قال أحمد وابن أبي ليلى والظاهرية والشيعة، وفي " المجتبى " قال أبو يوسف: يتابعه. وفي " النهاية ": وهو رواية عن أبي يوسف. وحكى أحمد عن الشافعي قولا فقال: إذا كبر خمسا يتابعه المأموم، ولا تبطل بها الصلاة عندنا وعند الشافعي في الأظهر، وعند أصحابه وجد أنها تبطل، وعن أصحاب أحمد كذلك.
وفي " الذخيرة " لو زاد الإمام خامسة صحت صلاته، وروى ابن القاسم عن مالك لا يتبع فيها، لأنها من شعار الشيعة، وينظر تسليم الإمام، وهو المختار. وفي " المحيط " وهو الأصح. وفي رواية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسلم ولا ينتظره، وهو قول الثوري ومالك في رواية ابن المنذر وابن القاسم.
وفي " الذخيرة " قال ابن القاسم: يسلمون بسلامه، وجه قول زفر ومن معه أنه مجتهد فيه كما قلنا فيتابعه المقتدي كما في تكبيرات العيد.
ووجه قول أبي حنيفة وأصحابه ما أشار إليه المصنف بقوله: م: (لأنه منسوخ) ش: أي لأن الزائد على أربع تكبيرات منسوخ، ولا متابعة في المنسوخ. وقال الأكمل: قلنا: ثبت أن الصحابة تشاوروا، فرجعوا إلى آخر صلاة صلاها، صار ذلك منسوخا بإجماعهم.
قلت: فيه نظر، لأنا قد ذكرنا عن جماعة من الصحابة والتابعين، أنهم كبروا أكثر من أربع بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يكون إجماعا؟ وكيف يكون النسخ بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟.
وقال الأترازي: لم يجز الاقتداء في التكبير الزائد على الأربع، كما لم يجز الاقتداء في تكبيرات العيد إذا زاد الإمام خارجا عن أقاويل الصحابة. قلت: إذا زاد الإمام على الأربع في الجنازة، فعلى كلامه ينبغي أن يتابعه المقتدي ما لم يجاوز عن فعل الصحابة، وقد ذكرنا عن جماعة منهم أنهم كبروا أكثر من أربع بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (لما روينا) ش: وهو قوله لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا م: (وينتظر تسليمة الإمام في رواية) ش: أشار بهذا إلى أنه إذا لم يتابعه المقتدي في الزيادة ماذا يصنع، فقال: ينتظر تسليم الإمام، يعني لا يتابعه في الزيادة، ولكنه ينتظر تسليم الإمام فيسلم معه ليصير متابعه فيما وجب المتابعة فيه.
وفي " الواقعات " وعليه الفتوى. وبه قال مالك في رواية، وفي " الحلية " في الانتظار

(3/221)


وهو المختار،
والإتيان بالدعوات استغفار للميت، والبداية بالثناء ثم بالصلاة سنة الدعاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجهان.
وفي " روضة الزيدوسي " لم يتابعه إذا كان يسمع من الإمام، أما إذا كان يسمع من المنادي يكبر كما في تكبيرات العيد م: (وهو المختار) ش: أي انتظار تسليم الإمام في الزيادة، وهو المختار في رواية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا ينتظر تحقيقا للمخالفة.

م: (والإتيان بالدعوات استغفار للميت والبداية بالثناء ثم بالصلاة سنة الدعاء) ش: أشار بهذا إلى بيان المقصود من إتيان الدعوات للميت بعد التكبيرة الثالثة، وهو أن المقصود من ذلك استغفار للميت، أي طلب المغفرة له، ولكن هذا الدعاء هل سنة يعمل بها حتى يستجيب الله تعالى هذا الدعاء منه، وهو أن يبدأ أولا بالثناء ثم بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد التكبيرة الثانية، ثم يأتي بالدعاء بعد التكبيرة الثالثة، وذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أراد أحدكم أن يدعو فليحمد الله وليصلي على النبي ثم يدعو» كذا ذكره صاحب " الدراية " ولم يبين من حاله شيئا.
قلت: هذا الحديث، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وحديث فضالة بن عبيد قال: «سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو لم يحمد الله ولم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عجل هذا " ثم دعاه فقال له: " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم يصلي عل النبي ثم يدعو بعد بما شاء» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في " صححيه "، والحاكم في " المستدرك " واعتبر ذلك بالتشهد في الصلاة.
وفي " التجنيس " ولا يجهر بشيء من الحمد والثناء والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء للميت، لأن هذه الأفعال ذكر كلها، والذكر فيه الإخفاء أولى.
وقال بعض المشايخ أن السنة أن يسمع الصف الثاني ذكر الصف الأول، ويسمع الثالث ذكر الصف الثاني. وعن أبي يوسف أنهم لا يجهرون كل الجهر، ولا يسرون كل الإسرار، وينبغي أن يكون بين ذلك.
وقال الكرخي: وليس مما ذكر من الثناء على الله تعالى ولا في الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في الدعاء للميت شيء موقت يقرأ من ذلك ما حضره وتيسر عليه، وذلك لما روى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما وقت لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الجنازة قولا ولا قراءة، كبر ما كبر الإمام، واختر من أطيب الكلام ما شئت.
وقد بسطنا الكلام فيه فيما مضى عن قريب.

(3/222)


ولا يستغفر للصبي، ولكن يقول اللهم اجعله فرطا واجعله لنا أجرا وذخرا واجعله لنا شافعا ومشفعا. ولو كبر الإمام تكبيرة أو تكبيرتين لا يكبر الآتي حتى يكبر الإمام أخرى بعد حضوره عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكبر حين يحضر لأن الأولى للافتتاح والمسبوق يأتي به. ولهما أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الاستغفار للصبي في صلاة الجنازة]
م: (ولا يستغفر للصبي، ولكن يقول: اللهم اجعله لنا فرطا، واجعله لنا أجرا وذخرا واجعله لنا شافعا ومشفعا) ش: لأن الصبي مرفوع القلم عنه، ولا ذنب له فلا حاجة إلى الاستغفار.
وفي " البدائع ": إذا كان الميت صبيا يقول: اللهم اجعله فرطا وذخرا وشفعه فينا، كذا روي عن أبي حنيفة، وهو مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي " المحيط " إذا كان الميت صبيا أو مجنونا يقول: اللهم اجعله لنا فرطا، اللهم اجعله لنا ذخرا، اللهم اجعله لنا شافعا ومشفعا.
وفي " المفيد " ويدعو لوالديه وللمؤمنين. وقيل: يقول اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما، اللهم اجعله في كفالة إبراهيم، وألحقه بصالح المؤمنين، وأبدله دارًا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، اللهم اغفر لسلفنا وفرطنا ومن سبقنا بالإيمان.
قوله " فرطا " بفتح الفاء والراء، قال الأصمعي: الفرط والفارط المتقدم في طلب الماء، والمراد هاهنا المتقدم في أمر الآخرة، ومنه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدمكم. قوله: ذخرا بضم الذال المعجمة، أي خيرا باقيا مدخرا. قوله: شافعا من شفع له. قوله: مشفعا بتشديد الفاء المفتوحة، أي مقبول الشفاعة.
م: (ولو كبر الإمام تكبيرة أو تكبيرتين لا يكبر الآتي حتى يكبر الإمام أخرى) ش: أي تكبيرة أخرى م: (بعد حضوره) ش: أي حضور الثاني م: (عند أبي حنيفة ومحمد) ش: ثم إذا كبر الإمام يكبر معه، فإذا فرغ الإمام كبر هذا الآتي ما فاته قبل أن ترفع الجنازة. وهذا الحكم، سواء أدرك الإمام بعد التكبيرة الأولى أو الثانية أوالثالثة. قال ابن المنذر: وهو قول الحارث بن يزيد والثوري ومالك وإسحاق وأحمد في رواية.
م: (وقال أبو يوسف: يكبر حين يحضر، لأن الأولى) ش: أي التكبيرة الأولى م: (للافتتاح) ش: أي افتتاح الصلاة، كما في سائر الصلوات م: (والمسبوق يأتي به) ش: أي بتكبير الافتتاح بل انتظار، كما في غير صلاة الجنازة، وبقوله قال الشافعي وأحمد في رواية، وعن أحمد أنه يكبر.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أن كل تكبيرة) ش: من التكبيرات الأربع م: (قائمة مقام ركعة) ش: فلا يجوز للمسبوق أن يقضي الفائت قبل أن يشرع مع الإمام، والدليل على أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة أنه لو ترك واحدة منها لا تجوز صلاته، كما لو ترك ركعة، ولهذا قيل أربع كأربع الظهر، ثم إن عندهما يقضيها بعد السلام ما لم ترفع

(3/223)


والمسبوق لا يبتدئ بما فاته إذ هو منسوخ، ولو كان حاضرا مع الإمام فلم يكبر مع الإمام لا ينتظر الثانية بالاتفاق؛ لأنه بمنزلة المدرك، ويقوم الذي يصلي على الرجل أو المرأة بحذاء الصدر لأنه موضع القلب، وفيه نور الإيمان، فيكون القيام عنده إشارة إلى الشفاعة لإيمانه. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقوم من الرجل بحذاء رأسه، ومن المرأة بحذاء وسطها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجنازة، ولو رفعت بالأيدي ولم توضع على الأكتاف يكبر في ظاهر الرواية، وعن محمد: إن كانت إلى الأرض أقرب يكبر، وإن كانت إلى الأكتاف أقرب لا يكبر، وقيل: لا يقطع حتى يتباعد.
وعند الشافعي قولان، وقد أشار الشافعي إلى ترجيح التكبيرات معا بغير دعاء في " البويطي ". وفي " الأشراف ": قال ابن المسيب وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين والثوري وقتادة ومالك وأحمد في رواية، وإسحاق والشافعي: المسبوق يقضي ما فاته متتابعا قبل أن ترتفع الجنازة، فإذا ارتفعت سلم وانصرف كقول أصحابنا، قال ابن المنذر: وبه أقوال، وقال ابن عمر: لا يقضي ما فاته من التكبير، وبه قال الحسن البصري والسختياني والأوزاعي وأحمد، ولو جاء وكبر الإمام أربعا ولم يسلم لم يدخل معه، وفاتته الصلاة.
وعند أبي يوسف والشافعي - رحمهما الله - دخل معه ويأتي بالتكبيرات معا إن خاف رفع الجنازة. وفي " المحيط ": وعليه الفتوى. وعند الشافعي: يقرأ الفاتحة أيضا، سواء صار مسبوقا بأربع أو أقل، وظاهر مذهبه أنه أتم الصلاة بالصفة المشروعة وإن رفعت الجنازة.

[أحكام المسبوق في صلاة الجنازة]
م: (والمسبوق لا يبتدئ بما فاته إذ هو منسوخ) ش: هذا جواب عن قول أبي يوسف والمسبوق يأتي به، وتقريره أن المسبوق ليس له أن يبتدئ أولا بما فاته من الإدراك مع الإمام، لأنه إذا ابتدأ به يقع في قضاء ما فاته قبل أداء ما أدركه مع الإمام، وأنه منسوخ كان ذلك في صدر الإسلام، ثم نسخ، وكلمة إذ في قوله: إذ هو للتعليل، يعني أن الابتداء بما فاته منسوخ.
م: (ولوكان) ش: أي الرجل الذي يريد الصلاة وقد فاتته التكبيرة الأولى م: (حاضرا مع الإمام فلم يكبر مع الإمام لا ينتظر الثانية) ش: أي التكبيرة الثانية م: (بالاتفاق) ش: بين الأئمة الثلاثة م: (لأنه بمنزلة المدرك) ش: لتلك التكبيرة ضرورة العجز عن المفارق م: (ويقول الذي يصلي على الرجل أو المرأة بحذاء الصدر) ش: أي بحذاء صدر المرأة م: (لأنه) ش: أي لأن الصدر م: (موضع القلب وفيه نور الإيمان) ش: قال الله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22] (المجادلة: الآية 22) ، م: (فيكون القيام عنده) ش: أي عند الصدر م: (إشارة إلى الشفاعة لإيمانه) ش: يعني إشارة إلى أن يشفع لإيمانه. وقال في " المبسوط ": وأحسن مواقف الإمام من الميت بحذاء الصدر. قال في " جوامع الفقه ": هو المختار، واختاره الطحاوي.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقوم في الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها) ش:

(3/224)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبه قال ابن أبي ليلى، وهو قول النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي " البدائع " وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الصلاة أنه يقوم بحذاء وسط الرجل وعند رأس المرأة، وفي " المبسوط " الصدر هو الوسط، فإن فوقه يديه ورأسه، وتحته بطنه ورجلاه.
قال صاحب " النهاية ": الوسط بسكون السين لأنه اسم مبهم لداخل الشيء، يعني ما بين طرفي الشيء، وليس بمراد، هكذا نقل الأكمل عن صاحب النهاية وهو السغناقي. وقال صاحب " الدراية ": وضبطها بسكون السين هكذا كان معربا بخط شيخ شيخي العلامة، لأنه بالسكون اسم لداخل الشيء، والمتحرك اسم لما بين طرفيه، والمراد بالوسط في الحديث الوسط المعنوي لا اللغوي، والوسط المعنوي هو الصدر، فإن فوقه الرأس مع اليدين، وتحته البطن مع الرجلين. وهذه قسمة عادلة كما ترى.
وأورد بالحديث ما رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث «سمرة بن جندب، قال: صليت وراء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها للصلاة وسطها.» وأما الأترازي فإنه ضبط بخطه الوسط بتحريك السين في مواضع عديدة، ومن عادته ضبط الألفاظ في تصانيفه بخطه، وهو يحتاط فيه.
قلت: الصواب معه من وجه، لأن الوسط بالسكون، يقال فيما كان متفرق الأجزاء غير متصل كالناس والدواب وغير ذلك، فإذا كان متصل الأجزاء كالدار والرأس، فهو بالفتح، فعلى هذا هنا بالفتح، ويقال: كل منهما يرفع الأجزاء، فعلى هذا يجوز فيه الوجهان، وعلى الصواب الفريقان.
ونقل القاضي عياض عن أبي يحيى وغيره سكون السين في الحديث المذكور، وكذا ضبطه الجبائي. وأجاز ابن دينار الوجهين، وذكر عن بعضهم فتحها.
وفي " التحفة " و " المفيد ": المشهور من الروايات عن أصحابنا في الأصل وغيره أن يقوم من الرجل والمرأة بحذاء الصدر، وعن الحسن بحذاء الوسط منهما إلا أنه يكون في المرأة إلى رأسها أقرب، وعن أبي يوسف أنه يقوم بحذاء الوسط من المرأة، وبحذاء الرأس من الرجل.
ذكره في " المفيد "، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " المحيط ". وفي ظاهر الرواية يقوم منها بحذاء صدرها، وقال مالك: يقوم في الرجل عند وسطه، ومن المرأة عند منكبيها.
وقال أبو علي الطبري من الشافعية يقوم الإمام عند صدره، واختاره إمام الحرمين والغزالي، وقطع به السرخسي، قال الصيدلاني: وهو اختيار أئمتنا، وقال الماوردي: قال أصحابنا البصريون يقوم عند صدره، وهو قول الثوري. وقال البغداديون عند رأسه وقالوا ليس

(3/225)


لأن أنسا فعل كذلك، وقال هو السنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في ذلك نص، وممن قاله المحاملي في " المجموع " و " التحرير " وصاحب " الحاوي " والقاضي حسين وإمام الحرمين. وفي " المغني " لا يختلف المذهب في أن السنة أن يقوم الإمام في صلاة الجنازة عند صدر الرجل وعند عجيزة المرأة، وروى حرب عن أحمد كقول أبي حنيفة.

م: (لأن أنسا فعل كذلك) ش: أي قام من المرأة بحذاء وسطها م: (وقال هو السنة) ش: أي قال أنس: القيام من المرأة بحذاء وسطها وهو السنة. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه «عن نافع أبي غالب قال: كنت في سكة المريد فمرت جنازة معها ناس كثير، قالوا: جنازة عبد الله بن عمير فتبعتها، فإذا أنا برجل عليه كساء رقيق على رأسه خرقة تقيه من الشمس فقلت: من هذا الدهقان؟ فقالوا: هذا أنس بن مالك، قال: فلما وضعت الجنازة قام أنس فصلى عليها وأنا خلفه لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه فكبر أربع تكبيرات لم يطل ولم يسرع ثم ذهب يقعد، فقالوا: يا أبا حمزة المرأة الأنصارية فقربوها وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها فصلى عليها نحو صلاته على الرجل ثم جلس فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي علىالجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة؟ قال: نعم، إلى أن قال أبو غالب: فسألت عن صنيع أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قيامه على المرأة عند عجيزتها، فحدثوني أنه إنما كان لأنه لم تكن النعوش، فكان يقوم الإمام حيال عجيزتها يسترها من القوم» هذا لفظ أبي داود.
ولفظ الترمذي «عن أبي غالب قال: صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه، ثم جاءوا بجنازة امرأة من قريش، فقال: يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنازة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه، قال: نعم، فلما فرغ قال: احفظوا» .
ولفظ ابن ماجه «عن أبي غالب قال: رأيت أنس بن مالك صلى على رجل، فقام حيال رأسه فجيء بجنازة أخرى، فقالوا: يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام في الجنازة مقامك من الرجل وقام من المرأة مقامك من المرأة، قال: نعم، فقام، فأقبل علينا العلاء بن زياد، فقالوا: احفظوا» وهذا اللفظ رواه أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم " وأبو غالب اسمه نافع، وقيل: رافع الباهلي الخياط البصري، قال يحيى بن معين: صالح، وقال أبو حاتم: شيخ.

(3/226)


قلنا تأويله أن جنازتها لم تكن منعوشة، فحال بينها وبينهم فإن صلوا على جنازة ركبانا أجزأهم في القياس لأنها دعاء، وفي " الأسبيجابي " لا تجزئهم، لأنها صلاة من وجه لوجود التحريمة، فلا يجوز تركه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: " المربد " بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء الموحدة وهو الموضع الذي يحبس في الإبل والغنم، وبه سمي مربد المدينة والبصرة، والمربد أيضا الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف، والسكة الطريقة المصطفة من النخل، ومنها قيل: للأزقة السكة، لاصطفاف الدور فيها. قوله " تقيه " أي تحفظه من وقى يقي، والدهقان بكسر الدال وفتحها رئيس القرية ومقدم الساسة وأصحاب الزراعة، وهو معرب، ونونه أصلية، وقيل زائدة، وأبو حمزة كنية أنس.
قوله: " المرأة الأنصارية " وفي رواية الترمذي " امرأة من قريش " قال النووي: لعلها كانت من قريش وبالحلف من الأنصار، وعكسه. قوله: " عليها نعش أخضر " النعش بفتح النون وسكون العين المهملة، وفي آخره شين معجمة، وهو مثل المحفة توضع على السرير، وتغطى بثوب يسرتها عن أعين الناس، وهي كالقبة على السرير.
م (قلنا: تأويله أن جنازتها لم تكن منعوشة، فحال بينها وبينهم) ش: هذا التأويل غير صحيح، لأن في رواية أبي داود فقربوها وعليها نعش أخضر، فيكف يقال إن جنازتها لم تكن منعوشة.
فإن قلت: الماوردي يكون قد اعتمد على رواية الترمذي، فإنها لم يذكر فيها النعش.
قلت: الحديث واحد في قضية واحدة، والراوي عن أنس هو أبو غالب فيحتمل أن الراوي عن أبي غالب قد اقتصر فيه عن ذكر النعش، ولكن يمكن أن يقال: إن المرأة التي صلى عليها أنس كانت جنازتها منعوشة ولا يلزم من ذلك أن يكون النساء اللاتي صلى عليهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جنائزهن منعوشات، فيصح التأويل. قوله: (فحال بينها وبينهم) أي بين المرأة التي صلى عليها أنس وبين القوم الذين كانوا صلوا معه ليسترها من القوم.
والعجب من الشراح مع نفض أياديهم لم يحوموا حول هذا المكان، ولم يتعرضوا لتحقيقه بالاتفاق، وخصوصا الأترازي يقول: قيل في تأويله لأنه حيث لم تكن النعوش وكان يقوم الإمام حيال عجيزتها، لأنه يسترها من القوم.
قلت: كيف يقال لأنه لم تكن النعوش، وقد حكى البندنيجي أن أول ما اتخذ لزينب بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه أمر بذلك.

[الحكم لو صلوا على الجنازة ركبانا]
م (فإن صلوا على جنازة ركبانا أجزأهم في القياس لأنها دعاء) ش: ولا يشترط فيها القيام، فلهذا تجوز بلا ركوع وسجود ولا قراءة، والقهقهة فيها ليست بحدث، وبه قال بعض المالكية م: (وفي " الأسبيجابي " لا يجزئهم، لأنه صلاة من وجه لوجود التحريمة، فلا يجوز تركه) ش: أي ترك

(3/227)


من غير عذر احتياطا،
ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة، لأن التقدم حق الولي، فيملك إبطاله بتقديم غيره. وفي بعض النسخ لا بأس بالأذان أي الإعلام وهو أن يعلم بعضهم بعضا ليقضوا حقه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القيام م: (من غير عذر احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط، وبه قال الشافعي، وأحمد وأشهب وآخرون، وقال ابن قدامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا أعلم فيه خلافا، وأراد بالتحريمة التكبيرة الأولى، فإنها ركن فيها، وكذلك يشترط فيها استقبال القبلة والطهارة وسترة العورة وإزالة النجاسة.

م: (ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة) ش: أي لا بأس بإذن الولي لغيره بالإمامة إذا أحسن ظنه شخص في تقديمه من به خير وثواب وشفاعة أرجى له م: (لأن التقدم حق الولي) ش: أي لأن التقدم على الغير في الصلاة على الميت حق الولي م: (فيملك إبطاله) ش: أي يملك الولي إبطال حقه، أي تركه بغيره م: (بتقديم غيره) ش: في الصلاة عليه، وقيل أراد به أن يأذن الأقرب للأبعد أن يقدم في الصلاة عليه.
وقيل أراد به إذن أولياء الميت للمصلين في الانصراف قبل دفن الميت فإنه لا ينبغي لهم أن ينصرفوا قبل دفنه إلا بإذنهم لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أميران، وليسا بأميرين: ولي الميت قبل الدفن، والمرأة تكون في الركب» .
وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن كان له قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مل الجبلين العظيمين» متفق عليه. وفي مسلم «حتى توضع في اللحد " ويورى القيراط مثل أحد» .
م: (وفي بعض النسخ) ش: أي نسخ الجامع الصغير م: (لا بأس بالاذان، أي الإعلام، وهو أن يعلم) ش: الناس م: (بعضهم بعضا ليقضوا حقه) ش: أي ليؤدوا حق الميت، لما روي عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» أخرجه البخاري ومسلم.
وفي " المحيط " وكره بعض المشايخ النداء في الأسواق لأنه سنة عن الجاهلية، والأصح أنه لا بأس به، لأن فيه تكثير الجماعة من المصلين عليه والمستغفرين له. وفي " البدائع " و " جوامع الفقه " يكره النداء في المحال والأسواق، وفي " قاضي خان " وقد استحسن بعض المتأخرين النداء في الأسواق للجنازة إلى ترغيب الناس في الصلاة عليها، ذكر بعضهم ذلك، والأول أصح. وفي " الذخيرة " ذكر بعض مشايخ بلخ ذلك، وذكر الكرخي عن أبي حنيفة أنه لا ينبغي أن يؤذن بها إلا أهلها وجيرانها، وكثير من مشايخ بخارى لم يروا به بأسا، كالنداء الخاص.

(3/228)


ولا يصلى على ميت في مسجد جماعة لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من صلى على جنازة في المسجد فلا أجر له»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[صلاة الجنازة في المسجد]
م: (ولا يصلى على ميت في مسجد جماعة) ش: احترز به عن المسجد الذي بني لأجلها، وبه قال مالك وابن أبي ذئب، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا بأس بها إذا لم يخف تلويثه، واحتجوا بما روي «أن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما توفي أمرت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بإدخال جنازته المسجد حتى صلى عليها أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قالت لبعض من حولها: هل عاب الناس علينا ما فعلنا؟ فقيل لها نعم، فقالت: ما أسرع ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جنازة سهيل بن البيضاء إلا في المسجد» رواه مسلم.
وأشار إلى دليلنا بقوله م: (لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من صلى على جنازة في المسجد فلا أجر له» ش: هذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى على ميت في المسجد فلا شيء له» ، هذا لفظ أبي داود، ولفظ ابن ماجه «فليس له شيء» .
وقال الخطيب: المحفوظ، «فلا شيء له» وروي «فلا أجر له» . وقال ابن عبد البر: رواية «فلا أجر له» خطأ فاحش، والصحيح «فلا شيء له» ورواه ابن أبي شيبة في مصفنه بلفظ «فلا صلاة له» .
فإن قلت: روى ابن عدي في " الكامل " هذا الحديث وعده من منكرات صالح، ثم أسند إلى شعبة أنه كان لا يروي عنه، وينهى عنه، وإلى مالك لا يأخذوا عنه شيئا فإنه ليس بثقة، وإلى النسائي أنه قال فيه ضعف. وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء "، واختلط بآخره ولم يتميز حديث حديثه من قديمه فاستحق الترك، ثم ذكر له هذا الحديث، وقال البيهقي: صالح مختلف في عدالته كان مالك يجرحه.
وقال النووي: أجيب عن هذا بأجوبة أحدها: أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به، قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف.
والثاني: أن الذي في النسخ المشهورة المسموعة من سنن أبي داود «فلا شيء عليه» فلا حجة فيه.
والثالث: أن اللام فيه بمعنى على لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] [الإسراء: 7] أي فعليها، جمعا بين الأحاديث. قلت: الجواب عما قالوه من وجه.

(3/229)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: أن أبا داود روى هذا الحديث وسكت عنه، فهذا دليل رضاه به، وأنه صحيح عنده.
الثاني: أن يحيى بن معين الذي هو فيصل في هذا الباب، قال: صالح ثقة، إلا انه اختلط قبل موته، فمن سمع منه قبل ذلك فهو ثبت حجة، ومن سمع منه قبل الاختلاط ابن أبي ذئب، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث وأسكت ابن أبي ذئب.
الثالث: قال ابن عبد البر: منهم من يقبل عن صالح ما رواه عنه ابن أبي ذئب خاصة.
الرابع: أن غالب ما ذكر منه تحامل، من ذلك قول النووي أن الذي في النسخ المشهورة والمسموعة من سنن أبي داود «فلا شيء عليه» فإنه يرده قول الخطيب المحفوظ فلا شيء له، وقول السروجي وفي " الأسرار " فلا صلاة له، وفي " المرغيناني " فلا وجه له، ولم يذكر ذلك في كتب الحديث، يرده ما ذكرناه من رواية ابن أبي شيبة في مصنفه «فلا صلاة له» وقال الخطيب: وروي «فلا أجر له» فلعدم اطلاعه في هذا الموضع جازف فيه. ومن تحاملهم جعل اللام بمعنى على بالتحكم من غير دليل ولا داع إلى ذلك. ولا سيما أن المجاز عندهم ضروري لا يصار إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة ها هنا، وأقوى ما يرد كلامه هذا رواية ابن أبي شيبة، وهي «فلا صلاة له» فلا يمكن له أن يقول ها هنا اللام بمعنى على لفساد المعنى.
الخامس: أن قول ابن حبان هذا باطل جرأة منه على تعطيل الصواب، فكيف هذا القول، وقد رواه أبو داود وسكت، فأقل الأمر أنه يدل على حسنه عنده، وأنه رضي به، وحاشى منه أن يرضى بالباطل.
السادس: ما قاله الجهبذ النقاد الإمام أبو جعفر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ملخصا، وهوأن الروايات لما اختلفت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث يحتاج إلى إلى الكشف ليعلم المتأخر منها فيجعل ناسخا لما تقدم، فحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إخبار عن فعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الذي تقدم على الإباحة، فصار ناسخا لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وإنكار الصحابة عليها مما يؤيد ذلك.
فإن قلت: من أي قبيل يكون هذا النسخ؟ قلت: من قبيل النسخ بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين موجبا للخطر، والآخر موجبا للإباحة، والحظر طارئ عليها، فيكون متأخرا.
فإن قلت: لما لا يجعل بالعكس؟

(3/230)


ولأنه بني لأداء المكتوبات،
وفيما إذا كان الميت خارج المسجد اختلاف المشايخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لئلا يلزم النسخ مرتين، وهذا ظاهر.
فإن قلت: ليس بين الحديثين منافاة، فلا تعارض فلا حاجة إلى التوفيق.
قلت: ظهر لك صحة حديث أبي هريرة بالوجوه التي ذكرناها، فثبت التعارض.
فإن قلت: مسلم أخرج حديث عائشة ولم يخرج حديث أبي هريرة.
قلت: لا يلزم من ترك مسلم تخريجه عدم صحته، لأنه لم يلزم إخراج كل ما صح عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وكذلك البخاري، ولئن سلمنا ذلك فإن حديث أبي هريرة لا يخلو من كلام، فكذلك حديث عائشة لا يخلو من كلام، لأن جماعة من الحفاظ مثل الدارقطني وغيره عابوا على مسلم تخريجه إياه سندا، لأن الصحي أنه مرسل كما رواه مالك والماجشون عن أبي النضر عن عائشة مرسلا، والمرسل ليس بحجة عند الخصم، وقد أول بعضهم حديث عائشة بأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما صلى في المسجد بعذر المطر، وقيل بعذر الاعتكاف، وعلى كل تقدير الصلاة على الجنازة خارج المسجد أولى وأفضل، بل أوجب للخروج عن الخلاف لا سيما في باب العبادات.
م: (ولأنه بني لأداء المكتوبات) ش: أي ولأن المسجد بني لإقامة الصلوات المكتوبات، فيكون غيرها في خارج المسجد أولى وأفضل م (ولأنه يحتمل تلويث المسجد) ش: أي ولأن فعل صلاة الجنازة في المسجد يحتمل تلويثه، وقد أمرنا بتنظيفه، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم» فإذا أمروا أن يجبنوا الصبيان والمجانين المساجد فالميت أولى لأنه لا [......] له، فلا يؤمن منه تلويث المسجد.

م: (وفيما إذا كان الميت خارج المسجد اختلاف المشايخ) ش: قوله اختلاف المشايخ مبتدأ وخبره قوله فيما إذا كان الميت وانتصاب خارج المسجد على التوسع، يعني في خارج المسجد، وذكر في تتمة الفتاوى ناقلا عن فتاوى الإمام نجم الدين إذا كانت الجنازة والقوم والإمام في المسجد فالصلاة مكروهة باتفاق أصحابنا، وإذا كانت الجنازة والإمام وبعض القوم خارج المسجد وباقي القوم في المسجد فالصلاة غير مكروهة بالاتفاق.
وإن كانت الجنازة وحدها خارج المسجد فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا يكره، منهم السيد الإمام أبو شجاع لما أن المسجد بني لأداء المكتوبات، وقال بعضهم لا يكره، لأن المعنى الموجب للكراهة وهو احتمال تلويث المسجد مفقود، ولا يقال يلزم على ما ذهب إليه السيد الإمام أبو شجاع أن لا يجوز التطوع في المسجد، لأنا نقول أن التطوع تبع للمكتوبة، فألحق بها، بخلاف صلاة الجنازة لأنها جنس آخر. وقال إسماعيل المتكلم: الصلاة عليه في

(3/231)


ومن استهل بعد الولادة سمي وغسل وصلي عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المسجد مكروهة كراهة تحريم، وقال شرف الأئمة العقيلي كراهة تنزيه، ذكره في " قنية المنية ".

[حكم الصلاة على من استهل بعد الولادة ثم مات]
م: (ومن استهل بعد الولادة سمي وغسل وصلي عليه) ش: - استهل - بفتح التاء على بناء الفاعل، لأن المراد ها هنا رفع الصوت لا الإبصار، ففي " المغرب " أهلوا الهلال، استهلوا رفعوا أصواتهم عند رؤيته وأهل واستهل على بناء المفعول إذا أبصر، والمراد رفع الصوت بالبكاء عند ولادته، وفي " الإيضاح " الاستهلال أن يكون منه ما يدل على حياته من بكار أو تحريك عضو وأن يطرف بعينه، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال مالك: لا يصلى عليه إلا أن يطول ذلك فيتحقق حياته. وعن مالك وأحمد في رواية الاستهلال أن يستهل صارخا.
وفي " شرح مختصر الكرخي " ومن ولد حيا ثم مات فعلوا به ذلك كله، يعني التسمية والغسل والصلاة، وكذا إذا استهل، وفي " التحفة " وغيرها إذا لم يستهل لا يغسل ولا يورث ولا يسمى، لأن هذه الأمور من أحكام الأحياء.
وروى الطحاوي أن الجنين الميت يغسل، ولم يحك خلافه، وعن محمد في سقط استبان خلقه يغسل ويكفن ويحنط ولا يصلى عليه، وقال النووي: إذا استهل يصلى عليه لحديث ابن عباس أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا استهل السقط صلي عليه وورث» وهو غريب، ومن رواية جابر. رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وإسناده ضعيف.
ونقل ابن المنذر الإجماع على وجوب الصلاة على الطفل، وعن أبي حنيفة لا يصلى عليه حتى يبلغ. وخالف العلماء كافة، وحكى العبدري عن بعض العلماء أنه إن صلى صلي عليه، وهو مردود شاذ، وعن المغيرة بن شعبة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه» رواه النسائي والترمذي وأحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ومن لا ذنب له يصلى عليه كالنبي والكافر إذا أسلم ومات عقيب إسلامه قبل أن يحدث ذنبا والمجنون الذي استمر جنونه من حين البلوغ حتى مات. وعن ابن عمر يصلى عليه وإن لم يستهل، وبه قال ابن سيرين وإسحاق، وقال أحمد وداود: يصلى عليه إذا كان له أربعة أشهر.
وفي " المحيط " قال أبو حنيفة: إذا خرج أكثر الولد وهو يتحرك صلي عليه، وإن خرج أقله لا يصلى عليه. وقال ابن حزم في " المحلى ": يستحب أن يصلى عليه استهل أو لم يستهل، ولا يجب

(3/232)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واستدل بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يصل على ولده إبراهيم وهو ابن ثمانية عشر شهرا. وقد جاء حديثان مرسلان.
قلت: أخرج أبو داود في " سننه " من طريق ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت: «مات إبراهيم ابن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -، ورواه أيضا أحمد والبزار وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم "، وأما الحديثان المرسلان فرواهما أبو داود أيضا.
الأول: قال حدثنا هناد بن السري ثنا محمد بن عبيد عن وائل بن داود قال: سمعت البهي قال: «لما مات إبراهيم ابن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المقاعد» .
الثاني: قال قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثكم ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع عن عطاء «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى على ابنه إبراهيم، وهو ابن سبعين ليلة.» وقال الخطابي إن مرسل عطاء أولى الأمرين، وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالا، واعتل هو وغيره ممن سلم ترك الصلاة عليه بعلل ضعيفة منها نقل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الصلاة صلاة الكسوف ومنها أنه استغنى بفضيلة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الصلاة كما استغنى الشهداء بفضيلة الشهادة، ومنها أنه لا يصلى على نبي وقد جاز أنه لو عاش لكان نبيا، ومنها أنه لم يصل عليه هو بنفسه وصلى عليه غيره.
قلت: قد جاء في صلاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على إبراهيم عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهم ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري، فحديث ابن عباس عند ابن ماجه قال: «لما مات إبراهيم ابن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى عليه رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال: إن له مرضعا في الجنة، ولو عاش لكان صديقا نبيا، ولو عاش لعتقت أخواله القبط وما استرق قبطي» .
وحديث البراء عند أحمد في " مسنده «قال: صلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على ابنه إبراهيم ومات وهو ابن ستة عشر شهرا» .
وحديث أنس عند أبي يعلى الموصلي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى على ابنه إبراهيم وكبر أربعا» ورواه ابن سعد في " الطبقات ".

(3/233)


لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا استهل المولود صلي عليه، وإن لم يستهل لم يصل عليه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث الخدري عند البزار في " مسنده " بلفظ أبي يعلى الموصلي، وقال البيهقي: وكونه صلى عليه وهو أشبه بالأحاديث الصحيحة.
قلت: الصلاة عليه مستحبة، ولا يظن به - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ترك المستحب مع أن الإثبات مقدم على النفي، وقال النووي: رواية الإثبات أصح من رواية النفي. قوله البهي بفتح الباء الموحدة وكسر الهاء وتشدد الياء اسمه عبد الله بن يسار مولى مصعب بن الزبير تابعي يعد في الكوفيين. قوله في المقاعد هي مواضع قعود الناس من الأسواق وغيرها.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا استهل المولود صلي عليه، وإن لم يستهل لم يصل عليه» ش: روي هذا عن جابر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فحديث جابر رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل» هذا لفظ الترمذي.
قال: وقد اضطرب الناس فيه فرواه بعضهم عن أبي الزبير مرفوعا، وبعضهم موقوفا، وكأنه أصح، وسنده رواه الحاكم في " المستدرك " وسكت عنه. ولفظ النسائي: «إذا استهل الصبي صلي عليه وورث» ، ولفظ ابن ماجه كلفظ النسائي.
«وحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه ابن عدي في " الكامل " قال: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول في السقط: لا يصلى عليه حتى يستهل، فإذا استهل صلي عليه وعقل وورث، وإن لم يستهل لم يصل عليه ولم يورث ولم يعقل» وحديث ابن عباس أخرجه ابن عدي أيضا عنه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا استهل الصبي صلي عليه وورث» .
وحديث المغيرة بن شعبة أخرجه الترمذي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» وقال حديث حسن صحيح وحديث أبي هريرة عند ابن ماجه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على أطفالكم، فإنهم من أفراطكم» ، وضعفه الدارقطني، وتحمل الأطفال ها هنا والسقط في حديث المغيرة على من استهل، والإفراط جمع فرط بتحريك الراء وهو الذي يتقدم لتهيئة التركة، والسقط مثلث السين.

(3/234)


ولأن الاستهلال دلالة الحياة فيتحقق في حقه سنة الموتى ومن لم يستهل أدرج في خرقة كرامة لبني آدم ولم يصل عليه لما روينا، ويغسل في ظاهر الرواية، لأنه نفس من وجه، وهو المختار، وإذا سبي صبي مع أحد أبويه ومات لم يصل عليه لأنه تبع لهما، إلا أن يقر بالإسلام وهو يعقل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الاستهلال دلالة الحياة فيتحقق في حقه سنة الموتى) ش: أي إكراما لبني آدم، وانتصابه على التعليل م: (ولم يصل عليه لما روينا) ش: إشارة إلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا استهل المولود ... » الحديث.
م: (ويغسل في ظاهر الرواية) ش: وهي رواية عن أبي يوسف ومحمد أنه فيه يغسل، وبه أخذ الطحاوي م: (لأنه نفس من وجه) ش: بدليل ثبوت الاستيلاد به وانقضاء العدة به، ولا يلزم من سقوط الصلاة سقوط الغسل كما في الكافر م: (وهو المختار) ش: أي غيرظاهر الرواية وهو المختار. وعن محمد لا يغسل ولا يصلى عليه، وهو ظاهر الرواية، وبه أخذ الكرخي، وعند الشافعي لو لم تظهر فيه علامة الحياة ولم يكن له أربعة أشهر لف في خرقة ودفن بلا غسل، وإن كن قد بلغ أربعة أشهر ففيه قولان، القديم يغسل ويصلى عليه، وفي الحديث لا يغسل ولا يصلى عليه.
م: (وإذا سبي صبي مع أحد أبويه فمات لم يصل عليه، لأنه تبع لهما) ش: أي للأبوين، وفي بعض النسخ تبع له، أي لأحد أبويه فمات لم يصل عليه الذي سبي الصبي معه، وإنما لا يتبع دار الإسلام لأن تبعية أحد الأبوين أولى، لأن الولد جزؤه، والتبعية على مراتب.
أقواها تبعية الأبوين أو أحدهما، ثم الدار إن لم يكن معه أحد أبويه يكون مسلما تبعا للدار لأن للدار تأثيرا في الاستتباع كما في لقيط يوجد في الدار حيث يجعل على دين أهل الدار ثم بعد الدار تعتبر اليد، حتى لو وضع في الغنيمة صبي في سهم رجل في دار الحرب فمات يصلى عليه ويجعل مسلما تبعا لصاحب اليد.
وفي " المغني ": لا يصلى على أطفال المشركين إلا أن يسلم أحد أبويه أو يموت مشركا فيكون ولده مسلما أو يسبى منفردا مع أحد أبويه، فإنه يصلى عليه، وقال أبو ثور: إذا سبي مع أحد أبويه لا يصلى عليه إلا أن يسلم. وفي " الأشراف " وقال أبو ثور: إذا سبي مع أبويه أو أحدهما أو وحده ثم مات قبل أن يجاوز الإسلام يصلى عليه.
م: (إلا أن يقر بالإسلام وهو يعقل) ش: الاستثناء من قوله لم يصل عليه؛ يعني إذا أقر بالإسلام، والحال أن يعقل صفة الإسلام وصفة الإسلام هي التي ذكرت في حديث جبريل -

(3/235)


لأنه صح إسلامه استحسانا أو يسلم أحد أبويه لأنه يتبع خير الأبوين دينا،
وإن لم يسب معه أحد أبويه صلي عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله، وقيل: معناه يعقل المنافع والمضار وأن الإسلام هدى، واتباعه خير، والكفر ضلالة واتباعه شر، وكذا لو اشترى جارية واستوصفها صفة الإسلام فلم تعلم لا تكون بذلك مؤمنة، وإنما يصلى عليه عند الإقرار بالإسلام.
م: (لأنه صح إسلامه استحسانا) ش: وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وفي القياس لا يصح إسلامه، وهو ظاهر مذهب الشافعي م: (أو يسلم أحد أبويه) ش: ينصب الميم عطف على قوله أن يقر؛ يعني يصلي عليه إذا أسلم أحد أبويه وإن لم يقر الصبي بالإسلام م: (لأنه) ش: أي لأن الصبي م: (يتبع خير الأبوين دينا) ش: أي من حيث الدين حتى إن الصبي إذا كان بين اليهودية والنصرانية يتبع النصرانية، لأن اليهودي شر من النصراني وكذلك بالعكس.

م: (وإن لم يسب معه أحد أبويه صلي عليه) ش: وبه قال بعض أصحاب الشافعي تبعا للسابي حتى لو مات في دار الحرب بعدما وقع في يد مسلم يصلى عليه. وقال بعضهم هو على حكم الكفر وهو ظاهر مذهب الشافعي، وبه قال مالك، وكذا لو دخل دارنا، ولكن بعض مشايخنا جعل تبعية الدار بعد تبعية السابي وجعل تبعية اليد مقدما على تبعية الدار كما في اللقيط، يعني لو وجد في دار يجعل تبعا لأهل تلك الدار كما يجيء إن شاء الله تعالى.
قلت: ذكر في " المحيط " عند انعدام أحد الأبوين يكون تبعا لصاحب اليد، وعند انعدام صاحب اليد يكون تبعا للدار، جعل الإمام قاضي خان تبعية الدار مقدمة على تبعية صاحب اليد.
وفي جامع أبي اليسر: أولاد المسلمين إذا ماتوا حال صغرهم قبل أن يعقلوا يكونون في الجنة، فإن فيهم أحاديث كثيرة، روي عن أبي حنيفة الوقف فيهم، وهذه الرواية غير صحيحه، وإنما وقف أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أولاد الكفار إذا ماتوا في صغرهم قبل أن يعقلوا ووكل أمرهم إلى الله، واختلف أهل السنة في هذا فعن محمد أنه قال: أعرف أن الله لا يعذب بغير ذنب، وقال بعضهم: يكونون خداما للمسلمين في الجنة، وقال بعضهم: إن كان قال يوم أخذ الميثاق بلى عن اعتقاد، يكون في الجنة، وإن كان قال من غير اعتقاد يكون في النار.
وفي " الفتاوى الظهيرية " يحشر السقط، وعن أبي جعفر الكبير إذا نفخ فيه الروح يحشر وإلا فلا، والذي يقتضيه مذهب علمائنا أنه يحشر إذا استبان بعض خلقه، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن سيرين، وفي " الإحياء " وينبغي أن يسمى السقط.
قال عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بلغني أن السقط وراء أبيه يوم القيامة يقول ضيعتني

(3/236)


لأنه ظهرت تبعيته للدار فيحكم بإسلامه كما في اللقيط، وإذا مات الكافر وله ولي مسلم فإنه يغسله ويكفنه ويدفنه، بذلك أمر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حق أبيه أبي طالب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأنت تركتني لا اسم لي اليوم! فقال عمر بن عبد العزيز: كيف ولا ندري أغلام هو أم جارية؟ فقال عبد الرحمن: من الأسماء ما يجمعهما كحمزة وعمارة وطلحة.

[تغسيل وتكفين القريب الكافر]
م: (لأنه ظهرت تبعيته للدار) ش: بعدم سبيه مع أحد أبويه م: (فيحكم بإسلامه) ش: بتبعية الدار م: (كما في اللقيط) ش: يوجد في الدار يكون تبعا لأهل الدار م: (وإن مات الكافر وله ولي مسلم) ش: أي قريب مسلم لأن حقيقة الولاية منفية. وإطلاق الولي شارك كل قريب له من ذوي الفروض والعصبات وذوي الأرحام، وهذا الإطلاق لفظ الجامع الصغير، وذكر في الأصل كافر مات وله ابن مسلم ويغسله ويكفنه ويدفنه إذا لم يكن هناك من أقربائه الكفار من يتولى أمره، فإن كان ثمة أحد منهم فالأولى أن يخلي المسلم بينه وبينهم ليصنعوا به ما يصنعون بموتاهم.
م: (فإنه يغسله ويكفنه ويدفنه بذلك أمر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حق أبيه أبي طالب) ش: أخرج ابن سعد حديث علي هذا في الطبقات مطابقا لما في المتن، فقال: أخبرنا محمد ابن عمر الواقدي حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما أخبرت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بموت أبي طالب بكى ثم قال لي: اذهب فاغسله وكفنه وواره، قال: ففعلت ثم أتيته فقال لي: اذهب فاغتسل، قال: وجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بهذه الآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] الآية (التوبة: 113) .»
وأخرج أبو داود والنسائي عن سفيان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب «عن علي لما مات أبوه أبو طالب قال: انطلقت إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقلت له: إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال اذهب فوار أباك ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني، فذهبت فواريته فأمرني فاغتسلت ودعا. لي» . ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة وأبو يعلى والبزار في مسانيدهم وليس فيه التعرض إلى الغسل والتكفين.
واستدل به البيهقي وغيره من الشافعية على الاغتسال من غسل الميت، مع أن البيهقي روى هذا الحديث في " سننه " من طرق، ثم قال إنه حديث باطل، وأسانيده كلها ضعيفة وبعضها منكرا، واستدل ابن الجوزي بهذا الحديث لمن يرى بجواز غسل قريبه الكافر إذا مات وتكفينه ومواراته، ثم أجاب بأنه كان في ابتداء الإسلام، وهذا ممنوع ليس عليه دليل.
واعلم أن أبا طالب وخديجة بنت خويلد زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ماتا في عام واحد، قاله

(3/237)


لكن يغسل غسل الثوب النجس ويلف في خرقة وتحفر له حفيرة من غير مراعاة سنة التكفين واللحد ولا يوضع فيه، بل يلقى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن إسحاق، وقال البيهقي: بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام، وزعم الواقدي أنهما ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل موت أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة، وقال بعضهم: الصحيح أن أبا طالب توفي في شوال سنة عشر من النبوة بعد خروج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الحضر بثمانية أشهر وإحدى وعشرين يوما، وكان عمره بضعا وثمانين سنة، ثم توفيت خديجة بعد أبي طالب بثلاثة أيام وكان موتها قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وقال ابن كثير: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء.
وأبو طالب اسمه عبد مناف، وهو أخو عبد الله لأمه، وكان له من الولد: طالب مات كافرا وجعفر وعلي وأم هانئ اسمها فاختة، وقيل هند، وقيل فاطمة، وهو الذي كفل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعد وفاة جده عبد المطلب، وذهب بعض الشيعة إلى أنه مات مسلما، والذي صح في البخاري يخالفه.

م: (لكن يغسل غسل الثوب النجس ويلف في خرقة) ش: بإفاضة الماء عليه وبغير الوضوء، وغير البداية بالميامن، وغير التثليث، ويلف في خرقة من غير مراعاة اعتبار التكفين من اعتبار عدد وغير حنوط وكافور م: (وتحفر له حفيرة) ش: من غير مراعاة ترتيب القبر، وأشار إلى ذلك كله بقوله: م: (من غير مراعاة سنة التكفين واللحد) ش: وهذا يتعلق بالمسألتين، مسألة اللف في الخرقة، ومسألة حفر القبر م: (ولا يوضع فيه) ش: أي في اللحد، يعني لا يجعل له لحد حتى يوضع فيه م: (بل يلقى) ش: في الحفيرة كما تلقى الجيفة، وبقولنا قال الشافعي.
وقال مالك وأحمد: ليس لولي الكافر غسله ولا دفنه، ولكن قال مالك بل لو مواراته، ولم يبين في الكتاب أن ابن المسلم إذا مات وله أب كافر هل يمكن أبوه من القيام بغسله وتجهيزه؟ ينبغي أن لا يمكن من ذلك، بل يفعله المسلمون لأن «ابن اليهودي لما آمن برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند موته قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: ادفنوه» كذا في " المبسوط " و " الذخيرة "، ولم يحل بينه وبين والده اليهودي.
ويكره أن يدخل الكافر في قبر قريب المسلم ليدفنه، لأن موضع الكافر موضع اللعن، والمسلم يحتاج إلى نزول الرحمة، فيستنزه قبره من ذلك، كذا في " المبسوط " و " المحيط "، وذكر التمرتاشي لو كان هناك من يقوم بذلك من أقاربه الكفرة فالأولى للمسلم أن يدع ذلك لهم، ولكن يتبع الجنازة إن شاء، إلا إذا كان معها كفار ينبغي أن يمشي على ناحية منهم أو أمام الجنازة، ليكون معتزلا عنهم وذكر الإمام الكسائي والمحبوبي أن الكافر إنما يغسل لأنه سنة في عامة بني

(3/238)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
آدم ولأنه حال رجوعه إلى الله تعالى يكون ذلك حجة عليه لا تطهيرا، حتى لو وقع الماء أفسده، بخلاف المسلم إذا غسل ثم وقع فيه فإنه لا يفسده. وقيل الغسل يفسده.
وكذا لو صلى وهو حامل ميت مسلم إن كان قبل الغسل لا تجوز صلاته، وبعد الغسل يجوز، بخلاف الكافر حيث لا يجوز قبل الغسل وبعده، غير أن الكافر لا ينجس في حال حياته لحمله أمانة الله تعالى ولاحتمال الإسلام، فلما ختم له بالشقاوة صار شرا من الخنزير.
وفي " الخلاصة " وأما المرتد إذا قتل يحفر له حفيرة ويلقى فيها كالكلب ولا يدفع إلى من انتقل إلى دينهم ليدفنوه، بخلاف اليهودي والنصراني، وذكر في " النوازل " أنه يدفع إلى من يدين بدينهم، وقال أبو يوسف لا يدفع كما ذكرناه إذا اختلط موتى المسلمين وموتى المشركين إن وجدت علامة المسلمين وسيماهم، وهي أربع: الختان، والخضاب، وحلق العانة، ولبس السواد يصلى عليهم، هكذا ذكر في " البدائع " وغيرها. قلت: في الختان نظر لأن اليهود وبعض النصارى يختتنون.
وإن لم يوجد، وكان المسلمون أكثر غسلوا كلهم وكفنوا وصلي عليهم وينوى بها المسلمون، وإن كان الكفار أكثر غسلوا ولا يصلى عليهم، وقال الشافعي: يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم وإن كان موتى الكفار أكثر يعينون بالصلاة المسلمين، وبه قال مالك وأحمد، وألزمنا ابن قدامة في " المغني " بما اختلطت الميتة بالذكيات أو ذكية بالميتات حيث لا اعتبار بالأكثر، وهو إلزام باطل، فإن الميتة إذا كانت أكثر فإنه لا يتحرى، وحكم الكل حكم الميتات، وإن كانت الذكية أكثر يتحرى، وأما إذا اختلطت أخته بالأجنبيات فالتحري إنما يكون فيها مباحا عند الضرورة، والبضع لا يستباح إلا بالضرورة فلا يجوز التحري، وإن كانوا سواء يغسلون.
وهل يصلى عليهم؟ قيل: لا يصلى عليهم، وقيل: يصلى عليهم وينوي بالصلاة، الدعاء للمسلمين، وأما الدفن فلا رواية فيه في " المبسوط "، وذكر الحاكم الجليل في " مختصره " أنهم يدفنون في مقابر المشركين، وقيل في مقابر المسلمين، وقيل يتخذ لهم مقبرة على حدة وتسوى قبورهم، ولا تسنم، وهو قول أبي جعفر الهندواني.
وأصل الاختلاف في كتابية تحت مسلم ماتت حبلى لا يصلى عليها بالإجماع، لكنها تغسل وتكفن، واختلف الصحابة في دفنها، قال بعضهم: تدفن في مقابر المسلمين ترجيحا للولد المسلم، وقيل: في مقابر المشركين، وقال عقبة بن عامر وواثلة بن الأسقع: يتخذ لها قبر على حدة، وهذا أحوط، وفي بعض كتب المالكية: يجعل ظهرها إلى القبلة لأن وجه الجنين إلى ظهرها، وهو حسن.

(3/239)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فروع أخرى: وجد قتيل في دار الإسلام إن كان عليه سيما المسلمين يغسل ويكفن ويصلى عليه وإن لم يكن ففيه روايتان، والصحيح أنه مسلم بحكم الدار، وإن وجد في دار الحرب، فإن كان عليه سيما المسلمين فكذلك بالإجماع، وإن لم يكن ففيه روايتان والصحيح أنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عيه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويعمل بالسيما وحدها بالإجماع، وفي الدار وحدها روايتان، والصحيح العمل بها بغلبة الظن.
وفي " القنية ": حضرت صلاة في وقت صلاة المغرب قيل تقدم على سنة المغرب، وقيل تقدم السنة عليها، ولا خلاف في تقديم صلاة المغرب عليها، وتقدم صلاة العيد عليها، وتقدم هي على الخطبة ولو جهز الميت صبيحة يوم الجمعة، يكره تأخير الصلاة عليه ودفنه إلى وقت صلاة الجمعة، ولو خافوا فوات وقت الجمعة بسبب دفنه أخروا دفنه.
اتباع الجنائز أفضل من النوافل إذا كانوا بجوار أو قرابة أو صلاح مشهور وإلا فالنوافل أفضل، يكره الصلاة على الجنازة قبل طلوع الشمس وزوالها وغروبها، وإن صلوا فيها جازت، وكرهها في هذه الأوقات عطاء والنخعي والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق، ورخص فيه مالك بعد العصر ما لم تصفر، وبعد الصبح ما لم يسفر، وقال الشافعي: يصلى عليها في أي ساعة كانت من ليل أو نهار. وفي " مختصر الزعفراني " تعاد الصلاة عليها في وقت آخر، وفي الأصل لا تعاد ولا تكره بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس ولا بعد صلاة العصر قبل تغير الشمس.

(3/240)


فصل في حمل الجنازة / 50 وإذا حملوا الميت على سريره أخذوا بقوائمه الأربع بذلك وردت السنة، وفيه تكثير الجماعة وزيادة الإكرام والصيانة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السنة أن يحملها رجلان يضعها السابق على أصل عنقه والثاني على صدره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في حمل الجنازة] [كيفية حمل الجنازة]
م: (فصل في حمل الجنازة) ش: أي هذا فصل في بيان حمل الجنازة يعني في بيان كيفية حملها، ولما فرغ من بيان كيفية الصلاة عليها شرع في بيان كيفة حملها على الترتيب.
م: (وإذا حملوا الميت على سريره أخذوا بقوائمه الأربع) ش: معناه يرفعونه أخذا باليد لا وضعا على العنق كما تحمل الأثقال، كذا قال الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير ". وقال السغناقي: ولأن عمل الناس اشتهر بهذه الصفة، وهو أيسر عل الحاملين المتداولين بينهم، وأبعد عن تشبيه حمل الجنازة بحمل الأثقال، وقد أمرنا بذلك، ولهذا كره حملها على الظهر أو على الدابة م: (بذلك وردت السنة) ش: أي بأخذها بقوائم السرير الأربع جاءت السنة، وهو ما رواه أبو داود والطيالسي وابن ماجه والبيهقي من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنها من السنة، ثم إن شاء فليبطئ، وإن شاء فليسرع» هذا لفظ ابن ماجه.
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن أبي الدرداء نحوه، وفي " العلل " لابن الجوزي مرفوعا عن ثوبان وأنس نحوه، وإسنادهما ضعيف. وروى الطبراني في " الأوسط " عن أنس مرفوعا «من حمل جوانب السرير الأربع كفر الله عنه أربعين كبيرة» .
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " وعبد الرزاق أيضا من طريق الأزدي قال: رأيت ابن عمر في جنازة يحمل بجوانب السرير الأربع. وروى عبد الرزاق من طريق ابن المهزم عن أبي هريرة من حمل الجنازة بجوانبها الأربع فقد مضى الذي عليه.
م: (وفيه تكثير الجماعة) ش: أي وفي الأخذ بقوائمه الأربع تكثير الجماعة حتى لو لم يتبعها أحد كان هؤلاء جماعة م: (وزيادة الإكرام) ش: حيث لم يحمل مثلما يحمل الأثقال م: (والصيانة) ش: أي وصيانة الميت عن السقوط والانقلاب.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السنة أن يحملها رجلان يضعها السابق على أصل عنقه والثاني) ش: أي الذي يتلو السابق م: (على صدره) ش: فتكون محمولة على رجلين، وقال النووي التربيع جائز، وفي الأفضل ثلاثة أوجه، والصحيح الذي قطع به أكثرهم الحمل بين العمودين، والثاني التربيع أفضل حكاه إمام الحرمين، وقال وهو ضعيف لا أصل له، والثالث

(3/241)


لأن جنازة سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا حملت. قلنا: كان ذلك لازدحام الملائكة عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هما سواء في الفضيلة، حكاه الرافعي، والأفضل مطلقا الجمع بين الوجهين، وهو أن يحملها خمسة واحد بين العمودين، وأربعة من جوانبها، وقيل: أن تحمل تارة بين العمودين وتارة بالتربيع، ولا يحصل بين العمودين إلا بالثلاثة في الصحيح، وقال الدارمي وأبو إسحاق المروزي: يحصل باثنين.
وقال النووي: وهذا ضعيف شاذ مردود، وحملها بين العمودين هو أن يجعل الحامل رأسه بين عمودي مقدمة النعش، ويجعلها على كاهله، ويحمل مؤخرة النعش رجلان أحدهما من الجانب الأيمن والآخر من الجانب الأيسر، ولا يتوسط المؤخرتين أحد، لأنه لا يرى ما بين قدميه، بخلاف المقدمين، وفي " الحلية " الحمل بين العمودين أفضل، وقال أحمد: التربيع أفضل، وقال النخعي: يكره الحمل بين العمودين، وهو قول أبي حنيفة.
وقال في " المغني ": التربيع أخذهما بجوانب السرير الأربعة، وهو سنة في حمل الجنازة، وقال في " ذخيرة المالكية ": هو أفضل من حملها بين العمودين، قال: وبه قال أكثرهم كالحسن والنخعي والثوري وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: وكرهوا حملها بين العمودين، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وابن جبير، وعن أحمد روايتان.
وفي " شرح مختصر الكرخي " يكره أن يحمل بين عمودي السرير من مقدمه أو مؤخره، لأن السنة فيه التربيع، وفي " الذخيرة " قال محمد رأيت أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل هكذا، وذلك دليل قوله ضعه. وقال في " قاضي خان " قال يعقوب: رأيت أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك لتواضعه.
قلت: أو لزيادة الأجر، والحاصل أن السنة عندنا أن يحملها أربعة من جوانبها الأربعة، وقالوا: ينبغي أن يحملها الإنسان من كل جانب عشر خطوات، لما روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من حمل الجنازة أربعين خطوة كفرت عنه أربعين كبيرة» رواه أبو بكر النجاد.

م: (لأن جنازة سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا حملت) ش: يعني بين العمودين، رواه الشافعي عن بعض الصحابة «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» ورواية ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي حبيبة عن شيوخ من بني عبد الأشهل وسعد ابن معاذ بن النعمان أبو عمرو الأنصاري الأزدي سيد الأوس شهد بدرا والمشاهد ورمي يوم الخندق بسهم فعاش شهرا، ثم انتقض جرحه ومات، رماه حبان بن العرقة العامري.
م: (قلنا كان ذلك لازدحام الملائكة عليه) ش: هذا جواب عما رواه الشافعي بطريق التسليم، وتقريره أنه كان ذلك بسبب الطريق بازدحام الملائكة، حتى كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

(3/242)


ويمشون به مسرعين دون الخبب لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سئل عنه قال: ما دون الخبب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يمشي على رؤوس وصدور قدميه، وعندنا في حالة الضرورة، لضيق الطريق أو لقلة الحاملين لا بأس بأن يحمل الجنازة رجلان.
وأما الجواب بطريق المنع فهو أي الذي رواه الشافعي ضعيف لا يصلح للحجة ضعفه البيهقي وغيره، حتى قال النووي: ليس في حمل الجنازة بين العمودين نص ثابت عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وقال الشافعي: الحمل عبادة، وما قلنا أوثق على الندب فكان أفضل، والجواب عما ذكر أن ما قلنا راجع إلى أصل العبادة، وما قاله راجع إلى وصف العبادة فكانت الصيانة أولى من الاكتساب زيادة المشقة، كذا ذكره شيخ الإسلام والمحبوبي.

[الإسراع بالجنازة]
م: (ويمشون به مسرعين) ش: أي الذين يحملون الميت يمشون به حال كونهم مسرعين، لما روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخبر تقدمونها، وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» ولما كان الإسراع يتناول الخبب وما دونه قيده بقوله: م: (دون الخبب) ش: بفتح الخاء المعجمة، والباء الموحدة وهو ضرب من العدو، يقول خبب الفرس يخبب بالضم خب خبا وخببا وخبيبا، قاله الجوهري، وفي " المغرب ": الخبب ضرب من العدو دون العنق، والعنق خطو مع سرعة.
وفي " المغني " لا خلاف بين الأئمة في استحباب الإسراع بها، وقال بعض الحنابلة يخب ويرمل، وروي عن النخعي: بطئوا بها ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى.
وفي " المبسوط " ليس في المشي بالجنازة شيء مؤقت غير أن العجلة أحب إلي من الإبطاء، وفي " التحفة " الإسراع بالميت سنة ويكون دون الخبب.
وفي " البدائع " و " جوامع الفقه " يسرع بالميت لا يضطرب على الجنازة، وهو قول جمهور العلماء.
م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حين سئل عنه قال: ما دون الخبب» ش: أي سئل عن المشي بالجنازة فقال ما دون الخبب، رواه أبو داود والترمذي «عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: سألنا نبينا عن المشي بالجنازة، فقال ما دون الخبب إن يكن خيرا تعجل إليه، وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار» وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه، وقال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يضعف حديث ابن ماجه هذا.
وقال البيهقي: هذا حديث ضعيف. قلت: راوي هذا الحديث عن ابن مسعود هو أبو

(3/243)


وإذا بلغوا إلى قبره يكره للناس أن يجلسوا قبل أن يوضع عن أعناق الرجال لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون والقيام أمكن منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ماجدة الحنفي ويقال العجلي، قال الحميدي عن ابن عيينة قلت ليحيى بن عبد الله الجابر: الذي روى هذا الحديث أبو ماجدة من أبو ماجدة؟ قال: شيخ طرأ علينا، وهو منكر الحديث. وقال الدارقطني: مجهول متروك، وقال الترمذي: مجهول. وقال أبو أحمد الكرابيسي: حديثه ليس بالقائم.
فإن قلت: روى البخاري ومسلم من رواية عطاء قال: حضرن مع ابن عباس جنازة ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بسرف، فقال ابن عباس: هذه ميمونة إذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوه، ولا تزلزلوه، وارفقوا. وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن محمد بن فضيل عن بنت أبي بردة عن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «مر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بجنازة وهي تمحض كما يمحض البرق، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليكم بالفضل في جنائزكم» وهذا يدل على استحباب الرفق في الجنازة، وترك الإسراع، فكيف الجمع بين ذلك وبين ما تقدم من الحديث؟ قلت: أما قول ابن عباس فإنه أراد بالرفق في كيفية الحمل لا في كيفية المشي، فإنه خشي أن يسقط أو ينشكف النعش عنها أو نحو ذلك، أو أن هذا رأي لابن عباس، والحديث المرفوع أولى بالاتباع.
وأما حديث أبي موسى، فإنه منقطع بين بنت أبي بردة وبين أبي موسى، ومع ذلك فظاهره أنه كان يفرط في الإسراع بها.

[الجلوس قبل وضع الجنازة عن الأعناق]
م (وإذا بلغوا إلي قبره يكره للناس أن يجلسوا قبل أن يوضع عن أعناق الرجال، لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون) ش: في الحمل لأن فيه إظهار العناية لأمر الميت. وكره الجلوس قبل وضعها الحسن بن علي وأبو هريرة وابن الزبير وابن عمر والنخعي والشعبي، والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال مالك والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا بأس بالجلوس قبل أن يوضع، وقال ابن شعبان: لا ينزل الراكب حتى يوضع.
ولنا ما روى أبو داود، ثنا أحمد بن يونس ثنا زهير ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع» قال أبو داود: وروى الثوري هذا الحديث عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: «حتى توضع بالأرض» . ورواه أبو معاوية عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة «حتى توضع في اللحد» وسفيان أحفظ من أبي معاوية واسمه محمد بن حازم الضرير.
م: (والقيام أمكن منه) ش: أي من الجلوس، يعني أن التعاون في حال القيام أمكن من التعاون في حال الجلوس، فلا جرم كره الجلوس قبل وضع الجنازة عن أعناق الرجال.

(3/244)


قال: وكيفية الحمل أن تضع مقدم الجنازة على يمينك، ثم مؤخرها على يمينك ثم مقدمها على يسارك، ثم مؤخرها على يسارك إيثارا للتيامن، وهذا في حالة التناوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال وكيفية الحمل أن تضع مقدم الجنازة على يمينك ثم مقدمها على يسارك ثم مؤخرها على يسارك إيثارا للتيامن) ش: هذا لفظ " الجامع الصغير " بلفظ الخطاب خاطب به أبو حنيفة أبا يوسف - رحمهما الله -، قال في " الذخيرة ": مقدم الجنازة على يمينك ثم مؤخرها على يمينك نحو ما في المتن، ثم قال: هو السنة عند كثرة الحاملين إذا تناوبوا في حملها، وإليه أشار بقوله: م: (وهذا في حالة التناوب) ش: يعني حملها على الوجه المذكور إذا تناوب الحاملون، وإنما بدأ بالمقدم لأن المقدم بالأولى، والابتداء بالأول أولى، وإنما بدأ بالميامن لأن الله يحب التيامن.
وفي " الفتاوى الصغرى " ويبدأ في حمل الجنازة بالميامن، والمراد بالميامن يمين الميت لا يمين الجنازة، لأن يمين الميت على يسار الجنازة، ويساره على يمين الجنازة، وفي " النهاية " ثم اعلم أن في حمل الجنازة سنن، هذا بعد السنة وكمالها، أما نفس السنة هي أن تؤخذ الجنازة بقوائمها الأربع على طريق التعاقب، بأن تحمل في كل جانب عشر خطوات، جاء في الحديث: «من حمل جنازة أربعين خطوة كفرت له أربعين كبيرة» .
قلت: قد ذكرنا فيما مضى أن الطبراني أخرج هذا عن أنس مرفوعا قال: وهذا يتحقق في حق الجميع، وأما كمال السنة فلا يتحقق إلا في حق الواحد فلذلك لا تكون البداية بها إلا للواحد، فافهم.

(3/245)


فصل في الدفن ويحفر القبر ويلحد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللحد لنا والشق لغيرنا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الدفن] [المفاضلة بين اللحد والشق]
م: (فصل في الدفن) ش: أي هذا فصل في بيان دفن الميت، ولما فرغ من بيان حمل الميت شرع في بيان دفنه على الترتيب المقصود منه ستر سوءة الميت، وإليه الإشارة في قَوْله تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] [المائدة: 31] ، وهو واجب إجماعا.
م: (ويحفر القبر ويلحد) ش: كلاهما مجهولان لكن يلحد يحتمل أن يكون مجهول الثلاثي المجرد وهو لحد، ويحتمل أن يكون من المزيد فيه وهو ألحد وكلاهما متعد، يقال لحد القبر وألحده وقبر ملحود وملحد، وألحد الميت وألحد له لحدا، ولحد الميت وألحده جعله في اللحد.
وذكر النووي أن اللحد بفتح اللام وضمها وصفة اللحد أن تحفر حفيرة في القبر في جانب القبلة، ويوضع الميت فيها، ويقال اللحد طول الإنسان أو أكثر قليلا في جانب القبر من جهة القبلة.
واختلفوا في عمق القبر ففي " الروضة " عمقه قدر نصف قامة، وفي " الذخيرة " إلى صدر الرجل وسط القامة قال: فإن زاد فهو أفضل، وإن عمقوا مقدار قامة هو أحسن، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يعمق القبر إلى صدر الرجل، ذكره في " الذخيرة "، وبه قال الحسن وابن سيرين، وعن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما مات ابنه إبراهيم أوصى أن يحفروا قبره إلى السرة، ولا يعمقوا قال: ما على ظهر الأرض أفضل مما أسفل منها، وعنه احفروا ولا تعمقوا، فإن خير الأرض أعلاها وشرها أسفلها، ذكره في " الذخيرة " للمالكية، وفي " المغني " يحفر إلى صدر الرجل والمرأة سواء. وقال مالك: ليس بمحدد [....
... ] ، وقال الشافعي: قامة.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اللحد لنا والشق لغيرنا» ش: هذا الحديث روي عن ابن عباس وجرير بن عبد الله البجلي وعائشة وابن عمر وجابر، فحديث ابن عباس رواه الأئمة الأربعة حدثنا أبو داود عن إسحاق بن إسماعيل، والترمذي عن أبي كريب وغيره، والنسائي عن عبد الله بن محمد الأذرمي، وابن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير كلهم عن حكام بن سلم عن علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اللحد لنا والشق لغيرنا» ، وقال الترمذي: حديث ابن عباس حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وحديث جرير عند ابن ماجه وحديث عائشة وابن عمر عند ابن أبي شيبة في " مصنفه " وحديث جابر عند أبي حفص بن شاهين، وورد في اللحد للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن جماعة من

(3/246)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصحابة، وهم سعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وأبو طلحة، وبريدة بن الحصيب والمغيرة بن شعبة وابن عباس، «فحديث سعد عن مسلم والنسائي، وابن ماجه عنه قال في مرضه الذي هلك فيه ألحدوا لي لحدا، وأنصبوا علي اللبن نصبا كما فعل برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» -.
وحديث أنس عند ابن ماجه من رواية مبارك بن فضالة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: «لما توفي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان في المدينة رجل يلحد، وآخر يضرح، فقالوا نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» -.
وحديث أبي طلحة عند ابن سعد في " الطبقات "، قال: أنا محمد بن عمر قال: ثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة «عن أبي طلحة، قال: اختلفوا في الشق واللحد للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال المهاجرون: شقوا كما تحفر أهل مكة، وقالت الأنصار: ألحدوا كما نحفر بأرضنا، فلما اختلفوا في ذلك قالوا: اللهم خره لنبيك، ابعثوا إلى أبي عبيدة، وإلى أبي طلحة فأيهما جاء قبل الآخر فيعمل عمله، قال: فجاء أبو طلحة فقال: والله إني لأرجو أن يكون الله قد جاز لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه كان يرى اللحد فيعجبه» .
وحديث بريدة عند البيهقي من حديث علقمة بن يزيد عن بريدة عن أبيه قال: «أدخل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قبل القبلة، وألحد له لحدا، ونصب عليه اللبن نصبا» قال البيهقي وأبو بردة، هذا هو عمرو بن يزيد التميمي الكوفي، وهوضعيف في الحديث، ضعفه يحيى بن معين وغيره.
وحديث المغيرة عند ابن أبي شيبة في " مصنفه " قال: لحدنا النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وحديث ابن عباس عند ابن ماجه قال: «لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعثوا إلى أبي عبيدة ابن الجراح وكان يضرح بضريح أهل مكة، وبعثوا إلى أبي طلحة وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة وكان يلحد، فبعثوا إليهما رسولين، فقالوا: اللهم خره لرسولك، فوجدوا أبا طلحة، فجيء به ولم يوجد أبو عبيدة، فلحد لرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» -.
قوله اللحد لنا يعني لأجل أموات المسلمين والشق لهم، يعني لأجل أموات الكفار، ولو

(3/247)


ويدخل الميت مما يلي القبلة خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده يسل سلا لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سل سلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شقوا لمسلم يكون تركا للسنة، اللهم إلا إذا كانت الأرض رخوة لا تحمل اللحد، فإن الشق حينئذ يتعين، والشق أن يحفر حفرة في وسط القبر ويوضع فيها الميت.
وفي " المبسوط ": وصفة الشق أن يحفر حفيرة كالنهر في وسط القبر ويبنى جانباه باللبن أو غيره، ويوضع الميت فيه، وقال فخر الإسلام في " الجامع الصغير ": وإن تعذر اللحد فلا بأس بتابوت يتخذ للميت، لكن السنة أن يفرش فيه التراب، واللحد أفضل عند الأئمة الأربعة من الشق، وقال صاحب " المبسوط " و " المحيط " و " البدائع " وغيرهم عن الشافعي أن الشق أفضل عنده، وهكذا نقله القرافي في " الذخيرة " عنه، وقال النووي في " شرح المهذب ": أجمع العلماء على أن اللحد والشق جائزان، لكن إن كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها، فاللحد أفضل، وإن كانت رخوة ينهار فالشق أفضل.
قلت: ينبغي أن يتعين الشق حينئذ. وقال صاحب " المنافع " اختاروا الشق في ديارنا لرخاوة الأرض فيتعذ اللحد فيها حتى أجازوا الآجر ودفون الخشب واتخاذ التابوت ولو كان من حديد، ومثله في " المبسوط "، ويكون التابوت من رأس المال إذا كانت الأرض رخوة أو ندية منع كون التابوت في غيرها مكروها في قول العلماء قاطبة، وقال أحمد: إن كانت الأرض رخوة جعل له من الحجارة شبه اللحد، قال: ولا أحب الشق، وفي " قاضي خان " ينبغي أن يفرش فيه التراب ويطين الطبقة العليا مما يلي الميت، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير مثل اللحد وفي " المحيط " واستحسن مشايخنا اتخاذ التابوت للنساء، فإنه أقرب إلى الستر والحرز عند الوضع في القبر.

[كيفية الدفن]
م: (ويدخل الميت مما يلي القبلة) ش: يعني موضع الجنازة في جانب القبلة من القبر، ويحمل منه الميت فيوضع في اللحد وهو مذهب علي بن أبي طالب ومحمد بن الحنفية وإسحاق بن راهوية وإبراهيم التيمي وابن حبيب م: (خلافا للشافعي) ش: يعني خالفنا في ذلك خلافا للشافعي، وانتصاب خلافا بالفعل الذي ذكرناه م: (فإن عنده يسل سلا) ش: أي فعند الشافعي يسل الميت سلا، وهو أن يوضع رأس الميت عند رجل القبر وهو طرفه الذي يكون فيه رجل الميت ثم سل من قبل رأسه سلا، والسل إخراج الشيء من الشيء بجذب، وأريد هنا إخراج الميت من الجنازة إلى القبر، ومنه سل سيفه إذا نزعه من غمده، وبقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال أحمد: لا بأس بذلك كله، ومالك خير بين ذلك، وبه قالت الظاهرية.
م: (لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سل سلا) ش: روى الشافعي في " مسنده " أنا الثقة عن عمر ابن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: «سل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قبل رأسه» أنا مسلم

(3/248)


ولنا أن جانب القبلة معظم فيستحب الإدخال منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن خالد الزنجي وغيره عن ابن جريج عن عمران بن موسى «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سل من قبل رأسه، والناس بعد ذلك» أنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد وربيعة وأبي النضر لا خلاف بينهم في ذلك أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «سل من قبل رأسه» وكذلك أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومن طريق الشافعي رواها البيهقي وقال: هذا هو المشهور فيما بين أهل الحجاز.

م: (ولنا أن جانب القبلة معظم فيستحب الإدخال به) ش: هذا دليل عقلي، ولم يذكر دليلا نقليا، غير أن أجاب عن احتجاج الشافعي في السل فيقول رويت أحاديث، وأشار بذلك على ما ذهب إليه أصحابنا، فمن الأحاديث ما رواه ابن ماجه في " سننه " حدثنا هارون بن إسحاق ثنا المحاربي عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد أن «رسول الله أخذ من قبل القبلة واستقبل استقبالا» .
ومنها ما رواه الترمذي حدثنا أبو كريب ومحمد بن عمرو السواق قالا: حدثنا يحيى بن اليمان عن المنهال بن خليفة عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج، فأخذه من قبل القبلة، وقال: رحمك الله إن كنت لأواها تلاء للقرآن " وكبر عليه أربعا» وقال: حديث حسن.
ومنه ما رواه الجلال في " جامعه " عن عبد الله بن مسعود أنه سمع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو في قبر عبد الله ذي البجادين، [.....] وهو يقول أدنيا مني أخاكما حتى أسنده في لحده وأخذه من قبل القبلة، ومن الآثار ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن عمر بن سعد أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كبر على يزيد بن المكفف أربعا وأدخله من قبل القبلة.
وأخرج أيضا عن ابن الحنفية أنه ولي أمر ابن عباس فكبر عليه أربعا وأدخله من قبل القبلة، وأخرج عن إبراهيم النخعي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أدخل من قبل القبلة وقال أخبرني من رأى أهل المدينة يأخذون بالميت من القبلة ثم رجعوا على السل لضعف أرضهم: قوله جانب القبلة معظم، لأن جهتها أشرف الجهات فكانت أفضل فحينئذ المستحب إدخال الميت من جانب القبلة. فإن قلت روى أبو داود عن عبد الله بن زيد الخطمي الأنصاري الصحابي أنه صلى على الجنازة ثم أدخله القبر من قبل رأسه وقال إنه من السنة، وقال البيهقي: إسناده صحيح. قلت: ما روينا من الآثار يعارض هذا، فلا يتم به الاستدلال على أن إبراهيم التيمي أنكر السل، وقال ابن حزم في " المحلى ": حديث السل لا يصح، فإن صح ففيه أجوبة على ما نذكرها عن قريب إن شاء الله تعالى.

(3/249)


واضطربت الروايات في إدخال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا وضع في لحده يقول واضعه بسم الله وعلى ملة رسول الله، كذا قاله رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: حين وضع أبا دجانة في القبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (واضطربت الروايت في إدخال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: إضافة إدخال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من إضافة المصدر إلى المفعول أي في إدخال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبره، ووجه الاضطراب ما روي «أنه سل سلا» وما روي «أنه أدخل من قبل القبلة» فلما تعارضت الروايات لا يكون المحتمل حجة للخصم، على أنا نقول أحاديث السل غير صحيحة، ولئن سلمنا فالجواب عنها من وجوه.
الأول: أن ما رواه الخصم ما فعل الصحابة أو قوله: وما رويناه فعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وليس لأحد كلام معه:
الثاني: أنه يحتمل ما رواه فعل خوفا فمن إقامتها لرخاوة الأرض.
الثالث: لم يكن من جهة القبلة ما يسع فيه وضع الجنازة لقرب الحائط.
وفي " الدراية ": وإن صح ما رواه قائما كان ذلك لأجل الضرورة، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مات في حجرة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من قبل الحائط، وكانت السنة في دفن الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أن يدفنوا في الموضع الذي قبضوا فيه، فلم يتمكنوا من وضع السرير قبل القبلة لأجل الحائط فلهذا سل، ولا يدخل الميت من جانب القبلة لما روي عن ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن الميت يدخل من قبله القبلة» وفي " الإيضاح " روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «شهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على جنازة رجل وقال: يا علي استقبل به القبلة استقبالا وقولوا جميعا بسم الله وعلى ملة رسول الله، وضعوه لجنبه ولا تكبوه بوجهه، ولا تلقوه بظهره» .
م: (فإذا وضع) ش: أي الميت م: (في لحده يقول واضعه: بسم الله على ملة رسول الله) ش: أي بسم الله وضعناك، وعلى ملة رسول الله سلمناك، وروى الحسن عن أبي حنيفة بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله.
م: (كذا قاله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين وضع أبا دجانة في القبر) ش: هذا وهم فاحش، فإن أبا دجانة قتل شهيدا يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة في خلافة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكره ابن أبي خيثمة في " تاريخه ".
وفي " معجم الطبراني " ترجمة أبي دجانة استدعى محمد بن إسحاق قال في تسمية من استشهد يوم اليمامة من الأنصار أبو دجانة واسمه سماك بكسر السين المهملة ابن خرشة بفتح الخاء

(3/250)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المعجمة والراء والشين المعجمة.
واليمامة بفتح الياء آخر الحروف مدينة بالبادية، يعني مقام مسيلمة الكذاب، وهي بلاد بني حنيفة وهي أكثر نخلا من سائر الحجاز، ولما تنبأ بها أرسل إليه أبو بكر خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ووقع بينه، وبين قومه قتال طويل.
وآخر الأمر تقدم إليه وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فرماه بحربة فأصابته وخرجت من الآخر وسارع إليه أبو دجانة فضربه بالسيف فسقط واستشهد أبو دجانة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأقر هذا الوهم التقليد، فإن شيخ الإسلام ذكر هكذا في " المبسوط ".
وكذا ذكره صاحب " البدائع " والذي وضعه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قبره هو ذو البجادين واسمه عبد الله، وكان اسمه عبد العزى، فسماه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد الله، ولما أسلم عند قومه جردوه وألبسوه بجادا وهو الكساء الغليظ فهرب منهم، مات في غزوة تبوك، والبجاد بكسر الباء الموحدة وبالجيم.
قال ابن الأثير: لما أراد المصير إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قطعت أمه بجادا لها فقيل: فارتدى إحداهما واتزر بالأخرى.
وقد روي في هذا الباب حديث ابن عمر من طريق فروى ابن ماجه من حديث الحجاج بن أرطاة عن نافع عن ابن عمر قال: كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا دخل الميت القبر قال: " بسم الله وعلى ملة رسول الله» ، ورواه الترمذي، وزاد لفظ «بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله» وقال: حسن غريب من هذا الوجه.
ورواه أبو داود في " سننه " من حديث همام عن قتادة عن أبي الصديق الناجي عن ابن عمر نحوه بلفظ «بسم الله وعلى سنة رسول الله» وبهذا الإسناد رواه ابن حبان في " صحيحه ".
ورواه الحاكم في " المستدرك " بلفظ: «إذا وضعتم موتاكم في قبوركم فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله» ، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وهمام بن يحيى ثبت مأمون إذا أسند مثل هذا الحديث لا يعلل بأحد إذا أوقفه شعبة، ورواه البيهقي، وقال: تفرد برفعه همام بن يحيى بهذا الإسناد وهو ثبت إلا أن شعبة وهشاما

(3/251)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدستوري روياه عن قتادة موقوفا على ابن عمر، وقال الدارقطني في الموقوف هو المحفوظ.
قلت: روه ابن حبان في " صحيحه " من حديث شعبة عن قتادة به مرفوعا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا وضع الميت في قبره قال: «بسم الله وعلى ملة رسول الله» ، روى الطبراني في " الأوسط " من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا بلفظ الحاكم.
وروى الطبراني أيضا من «حديث عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال لي أبو اللجلاج بن خالد يا بني إذا أنا مت فالحد لي، فإذا وضعتني في اللحد فقل بسم الله وعلى ملة رسول الله، ثم سن على التراب سنا ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمها فإني سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول ذلك» .
قلت: الحلاج أبو العلاء العامري صحابي نزل دمشق روى عنه ابناه العلاء وخالد.
1 -
فروع: إذا انتهوا بالميت إلى قبره فلا يضر وتر دخله أو شفع، لأن المعتبر حصول الكفاية. وفي " الذخيرة " وقد صح أنه دخل قبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربع علي والعباس وابنه الفضل، واختلفوا في الرابع.
ذكر شمس الأئمة الحلواني: أن الرابع صالح مولى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده: أن الرابع صهيب، وذكر شمس الأئمة السرخسي: أن الرابع المغيرة بن شعبة، أو أبو رافع، وفي رواية أبي داود «دخل قبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علي، والفضل، وأسامة، وابن عبد الرحمن بن عوف معهم، فصاروا أربعة» .
وفي بعض روايات البيهقي، «عن علي، ولي دفنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربع علي والعباس والفضل، وصالح مولى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» - كما ذكره الحلواني، وعن ابن عباس، أنهم كانوا أربعة، علي، والفضل، وقثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهو بضم الشين لقب صالح مولاه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وفي " المعارضة ": وقد أدخل قبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربعة رجال كبراء علي والفضل ابنا عمه وعبد الرحمن بن عوف وأسامة مولاه، وقال الشافعي: يستحب في ذلك الوتر، فإن تعذر فواحد، وإلا فثلاثة، والحجة عليه ما ذكرناه، وذو الرحم المحرم أولى بوضع المرأة في القبر، وفي " الواقعات ": فأهل الصلاح من جوانبها تلي دفنها وإن لم يكن لها محرم يضعها الأجانب.
ذكر في " المحيط " أو المحرم من غير رحم ولا يدخل القبر امرأة ولا كافر وإن كانا قريبين ذكره

(3/252)


/
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القدوري في " شرحه "، والعتابي في " جوامع الفقه "، وقال مالك كذلك، إلا أن يوجد من قواعد النساء، من تطيق ذلك من غير كلفة، والأصح من قول أحمد لا يباشرها فيها النساء.
وفي " شرح المهذب " للنووي الأولى أن يتولى الدفن الرجال، سواء كان الميت رجلا أو امرأة، وهذا لا خلاف فيه، وقال " صاحب البيان " قال الصيدلاني: ويتولى النساء حمل المرأة من المغتسل إلى الجنازة وتسلمها إلى رجل في القبر.
قال صاحب " البيان " ولم أر هذا لغير الصيدلاني، قالوا: وقد نص الشافعي على مثلما قاله الصيدلاني في " الأم ".
وفي " الينابيع ": السنة أن يفرش في القبر التراب، وفي كتب الشافعية والحنابلة يجعل تحت رأسه لبنة أو حجر، قال السروجي: ولم أقف عليه عن أصحابنا، وفي " المبسوط " و " البدائع " وغيرهما: لو وضع في قبره لغير القبلة أو على شقه الأيسر أو جعل رأسه في موضع رجليه وهيل عليه التراب لا ينبش قبره لخروجه من أيديهم، فإن وضع اللبن ولم يهل التراب عليه نزع اللبن، وتراعى السنة في وضعه ويغسل إن لم يكن غسل، وقول أشهب، ورواه ابن نافع عن مالك.
وقال الشافعي: يجوز نبشه إذا وضع لغير القبلة، وإن وقع متاع القوم في القبر لا ينبش بل يحفر من جهة المتاع ويخرج، كذا في " المبسوط ".
وفي " جوامع الفقه ": لا بأس بنبشه وإخراجه، وعن المغيرة بن شعبة أنه سقط خاتمه في قبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فما زال بالصحابة حتى رفع اللبن وأخذ خاتمه وقبله بين عينيه، وكان يفتخر بذلك ويقول: أنا آخر عهدا برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولو بلي الميت وصار ترابا يجوز دفن غيره في قبره وزرعه والبناء فيه وسائر الانتفاعات به، وكره أن يكون تحت رأس الميت في القبر مخدة ونحوها، هكذا ذكره " المرغيناني "، وكره ابن عباس أن يلقى تحت الميت شيء في قبره، رواه الترمذي.
وعن ابن موسى: لا يجعل بينه وبين الأرض شيء، وقد جعل في قبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قطيفة حمراء، قال: قال شقران: طرحت القطيفة تحت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في القبر، رواه الترمذي ولم يكن ذلك عن اتفاق، وقيل إنما جعلت القطيفة تحته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأن المدينة سبخة.
وقال في " المعارضة ": قد روي أن العباس وعليا تنازعوا في القطيفة فبسطها شقران تحته ليرفع الخلاف وينقطع التنازع في الميراث، قاله ابن أبي حنيفة، وقال عياض: كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلبسها ويفرشها، فقال شقران: والله لا يلبسك أحد بعده أبدا فألقاها في القبر، ويسند

(3/253)


ويوجه إلى القبلة، بذلك أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتحل العقدة لوقوع الأمن من الانتشار ويسوى اللبن على اللحد لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على قبره اللبن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الميت بالتراب أو نحوه حتى لا ينقلب ويسوى اللبن على اللحد، أي يسند اللحد من جهة القبر ويقام اللبن فيه.
وفي " البدائع " ذكر شريح: وهو الإقامة، وفي " المفيد " وينصب سدا حاميا كيلا ينزل التراب على الميت، واستعمال اللبن فيه بإجماع، وقال ابن حبيب من المالكية أفضل ما يسند به اللبن ثم اللوح ثم القرامد ثم الآجر ثم الحجارة ثم القصب، وكل ذلك أفضل من التراب، والتراب أفضل من التابوت.

م: (ويوجه إلى القبلة) ش: أي ويوجه الميت واضعه إلى جهة القبلة م: (بذلك أمر رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي بتوجيه الميت إلى القبلة، أمر رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وورود الأمر بذلك من رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يثبت.
ولكن يستأنس له بحديث رواه أبو داود والنسائي عن عبد الحميد بن شيبان عن عبيد بن عمير بن قتادة الكتبي عن أبيه وكانت له صحبة «أن رجلا قال: يا رسول الله ما الكبائر، قال: هي التسع، فذكرها [.....] البيت الحرام، ثم قال قبلتكم أحياء وأمواتا» وروى ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ من قبل القبلة وأسند به القبلة، وقد ذكرناه.
م: (وتحل العقدة) ش: أي ويحل واضع الميت في قبره العقدة التي كان عقدها عند التكفين خوفا من الانتشار م: (لوقوع الأمن من الانتشار) ش: بوضعه في القبر م: (ويسوى اللبن عليه، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جعل على قبره اللبن) .
ش: هذا الحديث رواه ابن حبان في صحيحه عن جابر «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ألحد ونصبنا عليه اللبن نصبا ورفع قبره من الأرض نحو شبر» وأخرج أيضا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كفن في ثلاثة أثواب سحولية وألحد له ونصب عليه اللبن» . وأخرج الحاكم في " مستدركه «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: غسلت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى أن قال: وألحد لرسول الله عيه السلام لحدا، ونصب عليه اللبن نصبا» وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه منه غير اللحد.
قلت: هو وهم منه، فقد أخرج مسلم نصب اللبن أيضا «عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه قال في مرضه الذي مات فيه: ألحدوا إلي لحدا، وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» -: وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن الشعبي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جعل على قبره طنا من قصب» .

(3/254)


ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يجعل اللبن على اللحد ولا يسجى قبر الرجل، لأن مبنى حالهن على الستر، ومبنى حال الرجال على الانكشاف، ويكره الآجر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يجعل اللبن على اللحد) ش: أي يغطى قبر المرأة بثوب إلى أن يجعل اللبن على لحدها. يقال سجى يسجي تسجية، أي غطى تغطية، والمسجى المغطى، وثلاثيه سجى، يقال سجى الليل، إذا أظلم، قال الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] [الضحى: 2] وذكر في تفسير النسفي إذا أقبل بظلامه، وعن الضحاك غطى كل شيء، وعن قتادة إذا سكن بالخلق واستقر ظلامه، وقال الجوهري: سجى يسجو سجوا سكن ودام، وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] إذا دام وسكن، ومنه البحر الساجي، وسجيت الميت تسجية إذا مددت عليه ثوبا.
م: (ولا يسجى قبر الرجل) ش: وبه قال مالك وأحمد، والمشهور من مذهب الشافعي أن يسجى قبر الرجل والمرأة آكد، وتعلق بحديث ضعيف، وهو ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس قال: «جلل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر سعد بثوبه» ثم قال: لا أحفظه إلا من حديث يحيى بن عقبة بن أبي عيزار وهو ضعيف، وحكى الرافعي وجها في اختصاصه بالمرأة، واختاره أبو الفضل، وحكى ابن المنذر عن عبد الله بن زيد وشريح كراهة ذلك للرجل. وروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتاهم وقد دفنوا ميتا وبسطوا على قبره ثوبا فجذبه، وقال: إنما يصنع هذا بالنساء.
وشهد أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دفن أبي زيد الأنصاري فخمر القبر بثوب فقال عبد الله بن أنس: ارفعوا الثوب، إنما يخمر النساء وأنس شاهد على شفير القبر ولا ينكر، ولأن فيه تشبها بالنساء ولهذا لا تنعش جنازته، والمرأة عورة مستورة حتى زيد في كفنها والستر يليق بالنساء إلا لضرورة، وهي الحر الشديد والمطر والثلج على الداخلين في القبر، وقد أول بعضهم حديث سعد إنما سجي لأن كفنه لم يكن ستر بدنه فسجي حتى لا يقع اطلاع أحد على شيء من أعضائه وفيه تأمل.
م: (لأن مبنى حالهن) ش: أي حال النساء م: (على الستر) ش: لأنهن عورة مستورة م: (ومبنى حال الرجال على الانكشاف) ش: ولهذا إذا انشكف رأس الرجل وهو في الصلاة، أو ظهره، أو بطنه لا تبطل صلاته، بخلاف المرأة فكذلك اختصت المرأة بالنعش على جنازتها، وقد صح أن قبر فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سجي بثوب ونعش على جنازتها وأوصت قبل موتها أن تستر جنازتها واتخذوا لها نعشا من جريد النخل فبقي سنة في حق النساء.
م: (ويكره الآجر) ش: بضم الجيم وتشديد الراء، قال الجوهري: الآجر الذي يبنى به فارسي معرب، ويقال أيضا آجور على فاعول.

(3/255)


والخشب، لأنهما لإحكام البناء، والقبر موضع البلى
ثم بالآجر أثر النار يكره تفاؤلا
ولا بأس بالقصب، وفي " الجامع الصغير " ويستحب اللبن والقصب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الآجر هوالطوب المسوى بالنار، وقال له الغرسد بالدال المهملة، وقال الجوهري الغرسد الآجر، والجمع الغراسد م: (والخشب) ش: يعني كره الآجر والخشب واللحد.
م: (لأنهما) ش: أي لأن الآجر والخشب م: (لإحكام البناء والقبر موضع البلى) ش: بكسر الباء الموحدة من بلى الثوب يبلى بلى بالكسر، فإن فتحت الباء مددته.
وقال الأترازي: وعند الشافعي لا يكره الآجر، ولنا أن الآجر لإحكام البناء ويقصد به البقاء، والقبر ليس بموضع البقاء، وعند بعض مشايخنا إذا جعل الآجر خلف اللبن على اللحد لا بأس به.
وفي " المغني " ذكر الإمام أحمد الخشب، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يتسحبون اللبن ويكرهون الخشب ولا يستحبون الدفن في التابوت، لأنه لم ينقل عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا عن أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

م: (ثم بالآجر أثر النار فيكره تفاؤلا) ش: أي لأجل التفاؤل، وهذا إشارة إلى أن بعضهم قد فرق بين الآجر والخشب في التعليل، فكره الآجر لمناسبة النار دون الخشب لعدم الجامع فيه، ورده بعضه بأن مساس النار لا تصلح عليه الكراهة، فإن السنة أن يغسل الميت بالماء الحار وقد مسته النار، وأجيب عنه بجوابين، الأول: أن الماء الحار مست الحاجة إليه لزيادة النظافة، ولهذا استحب الإجمار بالنار عند غسل النجاسة إلى دفع الروائح الكريهة.
الثاني: أن المكروه إدخال ما مسته النار في القبر للتفاؤل بالنار، والقبر محل الجنة والعذاب بالنار وأول منزل من منازل الآخرة، ولهذا يكره الإجمار بالنار عند القبر واتباع الجنائز بها، وقال شمس الأئمة السرخسي: التعليل بإحكام البناء أوجب لأنه جمع في كتاب الصلاة بين استعمال الآجر [....] ولا يوجد معنى النار فيها، وقال التمرتاشي: هذا إذا كان حول الميت، فإن كان فوقه لا يكره لأنه يكون عصمة من السبع، وهذا كما اعتادوا التسنيم باللبن صيانة عن النبش ورأوا ذلك حسنا.

م: (ولا بأس بالقصب) ش: أي في اللحد، ويستحب اللبن والقصب في اللحد، وذلك لأن القصب لا يقصد به البقاء وهو سريع الذهاب.
م: (وفي " الجامع الصغير " ويستحب اللبن والقصب) ش: إنما صرح بلفظ " الجامع الصغير " لمخالفة روايته رواية القدوري لأن رواية القدوري لا تدل على الاستحباب، بل على نفي المدة لا غير، حيث قال ولا بأس بالقصب، ورواية " الجامع الصغير " تدل عليه، ولأن رواية القدوري لا

(3/256)


لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على قبره طن قصب، ثم يهال التراب
ويسنم القبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تدل على جواز الجمع بينهما، ورواية " الجامع الصغير " تدل، كذا قاله الأكمل. قلت: ما ادعاه إنما يصح إذا كان لفظ " الجامع الصغير " ويستحب اللبن والقصب بواو العطف، وأما إذا كان بلفظ أو كما في الأصل، فلا يدل على ذلك، ثم قال: الأكمل بعد قوله ورواية الجامع الصغير تدل؛ «لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جعل على قبره طن قصب» . قلت: إن أوقع الحديث دليلا على جواز الجمع بينهما فلا يدل على ذلك أصلا على ما لا يخفى.
م: «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على قبره طن قصب» ش: هذا رواه الشعبي مرسلا، أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " حدثنا مروان بن معاوية عن عثمان بن الحارث عن الشعبي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جعل على قبره طن قصب» .
وفي " المغرب " الطن بالضم الحزمة من القصب، وحكي عن شمس الأئمة الحلوائي أنه قال: هذا في قصب لم يعمل، وأما القصب المعمول فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يكره؛ لأنه قصب كله، وقال بعضهم: يكره لأنه لم يرد السنة بالمعمول. م: (ثم يهال التراب) ش: أي يصب التراب عليه بعد تسوية اللبن، يقال: أهلت الدقيق في الجراب صببته من غير كيل، وكل شيء أرسلته إرسالا من رمل أو تراب أو طعام ونحوه.
قلت: هلته أهيله هيلا وإيهالا، أي جرى وانصب. ومنه يهال التراب، أي يصب، وفي [....
... ] هال التراب، وأهاله: إذا صبه، ثم إذا صب التراب على اللبن لا يزاد على التراب الذي خرج من القبر، وفي " التحفة " يكره الزيادة، وعن محمد لا بأس بأن يزاد على تراب القبر.
والأول رواية الحسن عن أبي حنيفة، ذكره في " المحيط "، ولا ينقل تراب قبر إلى قبر آخر، وفي استحباب حثي التراب عليه رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى على جنازة، ثم أتى القبر فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا» رواه ابن ماجه.
وفي " شرح الوجيز " روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حثى على قبر ثلاث حثيات» وهو المستحب [....
....
] ، وفي " التتمة " ويستحب أن يقول مع الأولى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] وفي الثانية: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] وفي الثالثة: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] [طه: 55] .

[تسنيم القبر]
م: (ويسنم القبر) ش: من التسنيم، وتسنيم القبر رفعه من الأرض مقدار شبر أو أكثر قليلا. وفي " ديوان الأدب " يقال: قبر مسنم أي غير مسطح، وبه قال موسى بن طلحة وزيد بن أبي حبيب، والثوري، والليث، ومالك، وأحمد. وفي " المغني ". واختار التسنيم أبو علي الطبري، وأبو علي بن أبي هريرة والجويني والغزالي والروياني والسرخسي، وذكر القاضي حسين اتفاقهم عليه، وخالفوا

(3/257)


ولا يسطح أي لا يربع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشافعي في ذلك، فإن عنده يسطح على ما يجيء.
وقال القاضي عياض في " الإكمال ": واختار أكثر العلماء التسنيم وجماعة أصحابنا وأبي حنيفة والشافعي، وفي " المحيط ": وتسنيم القبر قدر أربع أصابع أو شبر. وفي " قاضي خان " قدر شبر، وفي " المهذب ": يشخص القبر بقدر شبر.

م: (ولا يسطح أي لا يربع) ش: وقال الشافعي يسطح، ومثله عن مالك، واحتج بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبيه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «سطح قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه الحصى» وبما رواه الترمذي عن أبي الفتاح الأسدي واسمه حبان، قال لي علي: «ألا بعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلى طمسته» .
وبما رواه أبو داود عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقلت: يا أماه اكشفي لي عن قبر رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا طن مسطوح ببطحاء العرصة الحمراء، فرأيت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مقدما وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وعمر رأسه عند رجل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
ولنا ما أخرجه البخاري " في صحيحه " عن أبي بكر بن أبي عياش أن سفيان التمار حدثه أنه رأى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسنما. وهو من مراسيل البخاري، ولم يرو البخاري عن ابن دينار ولا التمار هذا وقد وثقه ابن معين وغيره.
ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " ولفظه عن سفيان قال: دخلت البيت الذي فيه قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرأيت قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقبر أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مسنما.
والجواب: عما رواه الشافعي أنه ضعيف ومرسل، وهولا يحتج بالمرسل، وعما رواه الترمذي أن المراد من المشرفة المذكورة فيه هي المبنية التي تطلب بها المباهاة، وعما رواه أبو داود أن رواية البخاري تعارضها.
فإن قلت: قال البيهقي والبغوي رواية القاسم بن محمد أصح وأولى أن تكون محفوظة.
قلت: قال صاحب " اللباب ": هذه كبوة منهما من عارمة، وفيه من باب التعصب والعناد، ولا أحد يرجح رواية أبي داود على رواية البخاري في صحيحه. وقال صاحب " المغني " رواية البخاري أصح وأولى، وأسند البخاري عن النخعي أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سنم قبره، وعن محمد بن علي أن قبر رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مسنم، وعن الشعبي قال: رأيت قبور

(3/258)


«لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تربيع القبور» ومن شاهد قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخبر أنه مسنم..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال شمس الأئمة السرخسي: التربيع من شعار الرافضة. وقال ابن قدامة: التسطيح هو شعار أهل البدع، فكان مكروها.
م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تربيع القبور) . ش: هذا النهي رواه محمد بن الحسن في " كتاب الآثار " قال: أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: حدثنا شيخ لنا يرفعه إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنه نهى عن تربيع القبور وتجصيصها» . وقال السروجي: قوله في الكتاب أنه نهى عن تربيع القبور لا أصل له.
قلت: العجب منه كيف يقول هذا الكلام، وقد رواه مثل الإمام محمد، عن أبي حنيفة، وأعجب منه أمر الشراح، حيث لم يتعرض أحد منهم، إلى هذا النهي، م: (ومن شاهد قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخبر أنه مسنم) ش: كلمة - من - موصولة في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: أخبر بالنظر إلى لفظ المبتدأ. وروى أبو حفص بن شاهين في كتاب " الجنائز " بإسناده إلى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت ثلاثة كلهم له أب في قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، سألت أبا جعفر محمد بن علي، وسألت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسألت سالم بن عبد الله. قلت: أخبروني عن قبور آبائكم في بيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فكلهم قالوا: إنها مسنمة، وقد مر مرسل البخاري في هذا.

[تجصيص القبر وتطيينه] 1
فروع: في " المحيط ": لا يجص القبر ولا يطين، في رواية الكرخي، وكره التجصيص الحسن والنخعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأباح أحمد التطيين.
وفي " منية المفتي ": المختار أنه لا يكره، وكره أبو حنيفة أن يبنى على القبر أو يوطأ عليه، أو يجلس عليه، أو ينام عليه، أو يقضى عليه حاجة الإنسان من بول أو غائط، أو يعلم بعلامة، أو يصلى إليه، أو يصلى بين القبور.
وحمل الطحاوي الجلوس المنهي عنه على الجلوس لقضاء الحاجة وكره أبو يوسف أن يكتب عليه. وفي " قاضي خان " ولا بأس بكتابة شيء، أو بوضع الأحجار؛ ليكون علامة. وفي " الميحط ": لا بأس بالكتابة عند العذر.
ولا بأس برش الماء عليه حفظا للتراب على القبر حتى لا يندرس، وكرهه أبو يوسف؛ لأنه يجري مجرى التطيين ولا بأس بحجر أو آجر يضعه عليه، وعن الحسن عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يزال الميت يسمع الأذان، ما لم يطين قبره» . ذكره في " المغني ".

(3/259)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويكره أن يدفن رجلان في قبر واحد، وقال القدوري في شرحه، والسرخسي في " المبسوط "، والمرغيناني في " الذخيرة ": إن وقعت الحاجة إلى الزيادة فلا بأس بأن يدفن الاثنان، والثلاثة في قبر واحد.
وفي " المرغيناني " أو خمسة، وهو إجماع. وفي " البدائع ": ويقدم أفضلهما ويجعل بين كل اثنين حاجر من التراب فيكون في حكم قبرين، ويقدم الرجل في اللحد، وفي صلاة الجنازة، تقدم المرأة على الرجل إلى القبلة، ويكون الرجل إلى الرجل أقرب، والمرأة عنه أبعد. وفي " الميحط ": ويجعل الرجل مما يلي القبلة ثم خلفه الغلام ثم المرأة ثم الصبية. وفي " الوبري ": ولا بأس بتعزية أهل الميت وترغيبهم على الصبر، وعلى المعزى الرضى بقضاء الله عز وجل؛ لينال ثواب الصابرين، والدعاء للميت بالرحمة والمغفرة.
وفي " المرغيناني " التعزية لصاحب المصيبة حسن فلا بأس بأن يجلسوا في البيت أو المسجد والناس يأتونهم ويعزونهم، ويكره الجلوس على باب الدار، وما يصنع في بلادهم العجم من فرش البسط، والقيام على قوارع الطرق من أقبح القبائح.
أما التعزية فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى مصابا فله مثل أجره» رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود. قال النووي: إسناده ضعيف.
وعن أبي بردة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة» ، رواه الترمذي وضعفه. ويقول للمعزى: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك.
وأكثرهم أنه يعزى إلى ثلاثة أيام، ثم يترك كيلا يتجدد عليه الحزن، ولا يدفن الميت في داره، وإن كان صغيرا، بل يدفن في مقابر المسلمين، كما كان يفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه، وخصت الأنبياء بذلك، وخص أبو بكر وعمر من ذلك بشرف جوار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يسع إخراج الميت من القبر بعد الدفن إلا إذا كان بعذر، قلت المدة أو كثرت، والعذر: مثل أن يظهر للأرض مستحق أو أخذ الشفيع له بالشفعة، ذكرها في " الواقعات " وغيرها.
وفي " جوامع الفقه ": امرأة مات ولدها في القرية ودفن هناك، والأم لا تصير عنه لا ينبش ولا ينقل إلى بلدها، وعليها أن تصبر.
ويستحب أن يدفن حيث مات في مقابرهم، وإن حمل ميلا أو ميلين فلا بأس به. وقيل:

(3/260)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما دون السفر، وقيل: لا يكره السفر أيضا، وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر بقبور كانت عند المسجد أن تحول إلى البقيع، وقال: توسعوا في مساجدكم. وقيل: لا بأس في مثله.
وعن محمد أنه إثم ومعصية. وقال المارزي: ظاهر مذهبنا جواز نقل الميت من بلد إلى آخر، وقد مات سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بالعقيق ودفنا بالمدينة، وفي " الحاوي " قال الشافعي: لا أحب نقله إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فأختار أن ينقل إليها لفضل الدفن فيها.
وقال البغوي، والبندنيجي: يكره نقله. وقال القاضي حسين، والدارمي: يحرم نقله. قال النووي: هذا هو الأصح، ولم ير أحمد بأسا أن يحول الميت من قبره إلى غيره. قال: قد نبش معاذ امرأته، وحول طلحة. وخالف الجماعة في ذلك.

[الدفن ليلا] 1
ولا يكره الدفن ليلا، والمستحب النهار، وهو قول أهل العلم من فقهاء الأمصار، منهم عقبة بن عامر، وسعيد بن المسيب، وشريح، وعطاء، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وكرهه الحسن البصري والظاهرية، لحديث جابر قال: «زجر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك» رواه مسلم.
ولما روى جابر بن عبد الله قال: «رأى ناس نارا في القبر فأتوها، فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القبر، وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم وهو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر» رواه أبو داود على شرط البخاري ومسلم. ودفنت عائشة، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيرهما من الصحابة ليلا.
والنهي في حديث جابر عن دفنه قبل الصلاة عليه والمشي بالنعلين لا بأس به في القبور إذا لم يدركها كالماشي وهو المشهور من مذهب الشافعي، وكره النعلين أحمد ومنع ابن حزم النعال السبتية دون غيرها.
ويكره للنساء زيارة القبور، وهو قول الجمهور؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لعن الله زوارات القبور» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه ابن ماجه، وأحمد.
وفي " القنية "، قال أبو الليث: لا نعرف وضع اليد على القبور سنة، ولا مستحبا، ولا نرى به بأسا. وقال علاء الدين التاجري: هكذا وجدناه، من غير نكير من السلف. وقال شرف الأئمة: بدعة، قال: [....
....
....] ينكرون ذلك، ويقولون: إنه عادة أهل الكتاب. وفي [
....
.] : هو عادة النصارى.
وقال أبو موسى الحافظ الأصبهاني قال: الفقهاء الخراسانيون: لا يمسح القبر، ولا يقبله، ولا يمسه، فإن كل ذلك من عادة النصارى، قال: وما ذكروه صحيح.

(3/261)


..
....
....
....
..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الزعفراني: لا يستلم القبر بيده ولا يقبله، قال: وعلى هذا مضت السنة، وما يفعله العوام الآن من البدع المنكرة شرعا. وفي " جوامع الفقه ": يزار القبر من بعد، ولا يقعد الزائر، وعند الدعاء للميت يستقبل القبلة، وكذا عند قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو اختيار الزعفراني من الشافعية أيضا.

[قلع الحشيش الرطب من القبور]
ويكره قلع الحشيش الرطب من القبور؛ لأنها تسبح، وربما يستأنس به الميت، ولا بأس باليابس منه، وعن هذا قالوا: قلع الحشيش الرطب من غير حاجة لا يستحب. وفي " القنية " يكره أن يتخذ لنفسه تابوتا قبل موته، وتكره الصلاة فيه.
ماتت وفي بطنها ولد حي يشق بطنها ويخرج، وبه أفتى أبو حنيفة في زمانه، ولو علم بعد الدفن نبش وشق بطنها، ويخرج. وبه قال ابن شريح من أصحاب الشافعي. وقال بعض أصحابه: لا يشق، ولكن القابلة تمس بطنها فربما يخرج.
وقال أحمد: تعطاه للقوابل فإن خرج، وإلا ترك حتى يموت ثم يدفن. والسؤال في القبر، فإن مات ولم يدفن أياما بأن جعل في تابوت ليحمل من مصر إلى مصر، فمن لم يدفن لا يسأل، والسؤال لكل ذي روح حتى إن الرضيع يسأل ويلقنه الملك، ويلهمه الله تعالى. وهل الأنبياء يسألون في القبر؟ قال الإمام الزاهد الصفار: ليس في هذا نص ولا خبر. وقال غيره: يسألون. والسؤال لا يختص بهذه الأمة في قول عامة العلماء. وقال الشيخ الحكيم الترمذي: يختص بهذه الأمة.
وفي " فتاوى الظهيرية ": وهل يعذب الميت ببكاء أهله؟ قال عامة العلماء: لا يعذب، والحديث محمول على الوصية. ويكره نقل الطعام إلى المقبرة في الأعياد وإسراج السرج وغيرها، واتخاذ الدعوة لقراءة القرآن وختم القرآن، وقراءة سورة الأنعام وسورة الإخلاص ألف مرة، وجمع الصبيان والصلحاء لذلك. وكذا صياح أهل الفطر لستة أيام بعد رمضان، ولا بأس بقراءة القرآن عند القبور، ولكن لا يجلس على القبر، ولا يدخل في المقبرة للقعود ويدخل لقراءة القرآن.
وفي " الخلاصة ": ولا يكسر عظم اليهود إذا وجدوا في قبورهم. وفي " جمع العلوم ": لا يجوز النظر إلى عظام النساء في المقابر. قال بعض مشايخنا لا ينظر إلى عظم ما لاحتمال أنه للمرأة.

(3/262)