البناية شرح الهداية

باب الشهيد الشهيد من قتله المشركون أو وجد في المعركة وبه أثر أو قتله المسلمون ظلما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الشهيد] [تعريف الشهيد]
م: (باب الشهيد) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الشهيد، وإنما أفرد هذا الباب عما قبله وإن كان الكل في حكم الموتى؛ لأن حكم الشهيد يخالف حكم غيره من الموتى في حق التكفين، والغسل.
وقال " صاحب المنافع ": لما كان المقتول ميتا بأجله يليق ذكر باب الشهيد عقيب باب الجنائز، ويحتمل وجها آخر، وهو أنه لما فرغ من بيان حال من يموت حتف أنفه، أعقبه بباب من يموت بسبب من جهة العباد.
وقال الأكمل: إنما بوب للشهيد بحياله لاختصاصه بالفضيلة. وكان إخراجه من باب الجنائز بباب على حدة، كإخراج جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الملائكة. وفيه تأمل لا يخفى واختلفوا في تسميته بالشهيد، فقيل: لأن الملائكة يشهدون موته فكان مشهودا. وقيل: مشهود بالجنة، فعلى هذا يكون على وزن فعيل بمعنى مفعول. وقيل: لأنه حي عند الله حاضر، ويشهد حضرة القدس ويحضرها، وقيل: لأنه شهد ما أعد الله له من الكرامة، وقيل: لأنه ممن يستشهد مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوم القيامة على سائر الأمم المكذبين، فعلى هذه المعاني الشهيد بمعنى فاعل.
م: (الشهيد) ش: مبتدأ، وقوله م: (من قتله المشركون) ش: جملة في محل الرفع على أنها خبر، والشهداء على ما ذكره ثلاثة أنواع.
الأول: هذا.
والثاني: قوله: م: (أو وجد في المعركة) ش: وهو موضع القتال م: (وبه أثر) ش: جملة وقعت حالا، أي والحال أنه وجد به أثر جراحة ظاهرة أو باطنة، وسيجيء تفسيره من المصنف عن قريب. م: (أو قتله المسلمون) ش: هذا النوع الثالث، وكذلك لو قتله أهل الذمة أو المستأمنون، وإنما قيد بقوله م: (ظلما) ش: احترازا به عما قتله المسلمون رجما أو قصاصا؛ وانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قتلا ظلما، ويجوز أن يكون تمييزا، أي من حيث الظلم.
وفي " المحيط ": أو قتل مدافعا عن نفسه أو أهله أو ماله أو عن المسلمين أو أهل الذمة بأي آلة قتل؛ بحديد، أو نحاس، أو صفر، أو رصاص، أو حجر، أو خشب.
وفي " البدائع ": لو قتل في المصر نهارا بزجاجة، أو ليطة قصب، أو طعنة برمح لازج له، أو رماه بنشابة لا نصل لها، أو أحرقه بالنار أو بكل شيء يعمل عمل الحديد من جرح أو

(3/263)


ولم يجب بقتله دية فيكفن ويصلى عليه، ولا يغسل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بضع أو طعن لا يغسل.
وإن قتل فيها بغير سلاح كالحجر الكبير، والخشبة الكبيرة، أو بحدقة القصار، أو بخنق، أو بغريق، أو إلقاء من جبل، يغسل عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه شبه العمد، وبالحجر الصغير والخشبة الصغيرة، يغسل اتفاقا؛ لوجوب الدية، أو مات بوكزة، أو لكزة، أو وجد مقتولا في محلة، ولم يعرف قاتله، أو افترسه سبع، أو تردى من جبل، أو سقط عليه حائط، وكذا المبطون، والمطعون، والغريق، والحريق، وصاحب ذات الجنب، وصاحب الهدم، والمرأة تموت بجمع الذين عدهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الشهداء فهم شهداء في الآخرة، وأحكام الآخرة.
وفي " المحيط ": وإن وجد غريقا، أو حريقا في المعركة، ولا يدري كيف حاله لا يغسل، وإن لم يكن كذلك فهو ميت حتف أنفه فيغسل، كذلك النازل من رأسه. وعند الشافعي لا يغسل من مات في قتال أهل الحرب فهو شهيد سواء كان به أثر أو لا، ومن قتل ظلما في غير قتل الكفار، أو خرج في قتالهم، ومات بعد انفصال القتال، وكان بحيث يقطع ثوبه ففيه قولان: في قول: لم يكن شهيدا، وبه قال مالك وأحمد.
وفي " المغني ": إذا مات في المعترك فإنه لا يغسل رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، ولا يعلم فيه خلافا إلا عن الحسن وابن المسيب، فإنهما قالا: يغسل الشهيد، ولا يعمل به.

[الشهيد يكفن ويصلى عليه ولا يغسل]
م: (ولم يجب بقتله دية فيكفن ويصلى عليه ولا يغسل) ش: يعني أن قتله لم يكن موجبا للدية حال المباشرة، واحترز به عن شبه العمد والخطأ صورة الخطأ ما إذا قصد مباحا فأصاب محظورا.
وصورة شبه العمد ما إذا قتله بعصا صغيرة، أو سوط، أو وكزه بيده، أو لكزه برجله فمات، ولو سقط القصاص بعارض الأبوة ووجبت الدية كان شهيدا، والقصاص ليس بعوض عن المحل، بل عقوبة يوجبها الله تعالى جزاء للقتل، ولهذا تجري بين الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والدية عوض مالي.
والصلح على الدية بعد القتل لا يخرجه عن الشهادة، وكذلك قتل الأب ابنه لا يخرجه عن الشهادة، وكذا لو قتلت زوجها ولها منه ولد؛ لأن الواجب الأصلي وجوب القصاص فكيفن ويصلى عليه، ولا يغسل. هذا حكم الشهيد المذكور في الفصول الثلاثة، وفي هذا أيضا ثلاثة أشياء.
الأول: التكفين، وليس فيه خلاف على ما سيجيء.

(3/264)


لأنه في معنى «شهداء أحد، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم: زملوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسلوهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: الصلاة عليه، وفيه خلاف، وسيجيء أيضا.
الثالث: الغسل، وليس فيه خلاف معتبر إلا ما روي عن الحسن وابن المسيب على ما ذكرناه.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشهيد الموصوف المذكور م: (في معنى شهداء أحد) ش: وشهداء أحد قتلوا ظلما، ولم يرتثوا ولم يجب بقتلهم دية، فمن كان على صفتهم فهو شهيد، ومن لا فلا.
وفي " الذخيرة ": الشهيد كل مسلم مكلف طاهر قتل ظلما في قتال ثلاثة: مع أهل الحرب، أو البغي، أو قطاع الطريق بأي آلة قتل. ولم يحمل حيا للتمريض ولم يأكل ولم يشرب ولم يعش في المصرع يوما أو ليلة، ولم يجب عن دمه عوض مالي حتى لو حمل للتمريض ومات في أثنائه، أو على أيدي الناس يغسل، وإن حمل كيلا يطأه الخيل، لا للتمريض، فهو شهيد، انتهى.
ويوم أحد كان يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاث للهجرة، وأحد جبل على باب المدينة، دون الفرسخ، ويقال له: ذو عبتين، وكانت عدة المشركين فيه ثلاثة آلاف، وعدة الخيل مائتا فرس، وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا، وعدة المسلمين ألفا، وانحرف عبد الله بن أبي المنافق بثلث العسكر فرجع إلى المدينة.
م: (وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم: «زملوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسلوهم» ش: قال الزيلعي: هذا حديث غريب.
قلت: أخرج أحمد في مسنده، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشرف على قتلى أحد. فقال: إني شهيد على هؤلاء زملوهم بكلومهم ودمائهم» ، وأخرجه النسائي، عن معمر عن الزهري، قال عبد الله بن ثعلبة: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زملوهم بدمائهم» ، الحديث. وأخرج البخاري في صحيحه، وأصحاب السنن الأربعة، عن الليث بن سعد، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ويقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن، فإذا شهد له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلهم» ، وزاد البخاري، والترمذي: «ولم يصل عليهم» .

(3/265)


فكل من قتل بالحديدة ظلما وهو طاهر بالغ ولم يجب به عوض مالي فهو في معناهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج أبو داود في سننه عن ابن عباس قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم» .
وأخرج أيضا عن جابر قال: «رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات، وأدرج في ثيابه كما هو، ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قال النووي: سنده على شرط مسلم.
قوله: زملوهم أي لفوهم فيها، يقال: تزمل بثوبه، إذا التف فيه.

[كل من يدخل في معنى الشهيد]
م: (وكل من قتل بالحديدة ظلما وهو طاهر بالغ ولم يجب به عوض مالي فهو في معناهم) ش: أي في معنى شهداء أحد، وهاهنا قيود.
الأول: أن يكون القتل ظلما، احترازا عن القتل بحق على ما ذكرناه.
والثاني: القتل بالحديدة، وإنما يشترط هذا القيد إذا كان القتل من المسلمين، وأما من أهل الحرب والبغي وقطاع الطريق، فليس بشرط فبقتلهم شهيد بأي شيء قتل، لا يقال احترز بالحديدة عن القتل بالمثقل على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأن الاحتراز عنه يحصل بقوله ولم يجب به عوض مالي؛ لأن على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجب العوض المالي في القتل بالمثقل، فلا حاجة إلى قيد الحديدة.
والقيد الثالث: أن يكون طاهرا فلا يكون جنبا وحائضا.
والقيد الرابع: أن يكون بالغا ولا يكون صبيا، وفي هذين خلاف بين أبي حنيفة وصاحبه على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
والقيد الخامس: أن لا يجب بقتله عوض مالي احترز به عن شبه العمد والخطأ، فإن الواجب فيهما المال، والشرط فيه أن يكون ذلك حالة القتل، فإن القصاص إذا وجب ثم انقلب مالا بالصلح فإنه لا يمنع الشهادة، وكذلك الحكم في قتل الوالد ولده، فإنه يجب بالمال فيه حالة القتل، ولا يمنع الشهادة كما ذكرناه. وهاهنا قيدان آخران، لم يذكرهما المصنف.
الأول: أن يكون مسلما.
والثاني: أن يكون غير مرتث. وما ذكره في " الذخيرة ": الذي ذكرناه عن قريب هو الجامع الأحسن.

(3/266)


فيلحق بهم، والمراد بالأثر الجراحة؛ لأنه دلالة القتل، وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد كالعين ونحوها، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في الصلاة، ويقول: السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فليحق بهم) ش: أي بشهداء أحد، ومن لم يكن بمعناهم فلا يلحق بهم م: (والمراد بالأثر الجراحة) ش: أي المراد من قوله: أو وجد في المعركة وبه أثر، هو الجراحة. وعبارة القدوري: وبه أثر الجراحة.
وفي " الينابيع " يريد بالأثر علامة تدل على قتله كالذبح والطعن والجرح والرض وسيلان الدم من عينه أو أذنه، ولا يكون ذلك إلا بجرح في الباطن، وإن كان يسيل من دبره أو ذكره أو أنفه لا يكون شهيدا؛ لأن الدم يخرج من هذه المخاريق من غير ضرب في العادة، إذ صاحب الباسور يخرج الدم من دبره؛ والجبان يبول دما من الخوف، وتسيل الأسنان بالرعاف، وكذا إذا وجد ميتا وليس به أثر؛ إذ الجبان يبول دما من الخوف وقد يموت من الفزع، وكونه في المعركة ليس بسبب لقتله، بدون الإصابة، فإن القتل لا يكون إلا بالأثر.
م: (لأنه دلالة القتل) ش: أي لأن الأثر الذي هو الجراحة دلالة القتل؛ لأن الحكم يضاف إليه في الظاهر م: (وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد) ش: أي وكذا دلالة القتل خروج الدم منه ليس في العادة خروج الدم منه م: (كالعين ونحوها) ش: مثل الأذن والسرة. وفي " الزيادات ": دلالة القتل جراحة توجد أو دم يخرج من عينه، أو أذنه، أو يصعد من جوفه إلى فيه، فأما ما يخرج من أنفه أو دبره أو ذكره أو ينزل من رأسه شيء من دمه فلا يصلح دليلا على القتل؛ لأنه قد يوجد ذلك من غير ضرب عادة.
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في الصلاة) ش: ويقول: لا يصلى على الشهيد وبه قال مالك وإسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو قول أهل المدينة. وقال النووي في " شرح المهذب ": المذهب الجزم بتحريم الصلاة عليه. وقال ابن حزم في " المحلى ": إن شاءوا صلوا عليه، وإن شاءوا تركوها، ومذهبنا هو قول ابن عباس وابن الزبير، وعقبة بن عامر، وعكرمة، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومكحول، والثوري، والأوزاعي، والمزني، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية. واختاره الخلال، وقال في موضع آخر يصلى عليه، وفي رواية المروزي الصلاة عليه أجود.
م: (ويقول) ش: أي قال الشافعي م: (السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة) ش: تقريره إذا كان السيف محاء للذنوب لا يبقى للشهيد ذنب فيستغنى عن الشفاعة التي كانت الصلاة لأجلها، وقوله: محاء على وزن فعال، مبالغة ماحي من محا يمحو محوا، ومحى يمحيه محيا. ومحا

(3/267)


ونحن نقول: الصلاة على الميت لإظهار كرامته، والشهيد أولى بها،
والطاهر من الذنوب لا يستغني عن الدعاء كالنبي والصبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يمحاه أيضا فهو ممحو وممحي، صارت الواو بالكسرة ما قبلها فأدغمت في الياء التي هي لام الفعل.
م: (ونحن نقول: الصلاة على الميت لإظهار كرامته والشهيد أولى بها) ش: أي بهذه الكرامة، ولهذا اختص المسلمون بهذه الكرامة، والشهيد من جملة أموات المسلمين والصلاة عليهم فرض من فروض الكفاية عليهم فلا يسقط من غير فعل أحد بالتعارض، بخلاف غسله؛ إذ النص في سقوطه لا معارض له.

م: (والطاهر من الذنوب لا يستغني عن الدعاء) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - السيف محاء للذنوب، وتقريره أن العبد وإن تطهر من الذنوب لم يبلغ درجة عن الاستغناء عن الدعاء م: (كالنبي والصبي) ش: فإن النبي مطهر من الذنوب مع أنه صلي عليه، ومع هذا لا يبلغ أحد درجة الأنبياء، وكذلك الصبي مطهر من الذنوب، وقد صلي عليه.
فإن قلت: روى البخاري عن جابر «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل على قتلى أحد،» وروى أبو داود عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم» .
قلت: روى البخاري أيضا عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوما فصلى على شهداء أحد صلاته على الميت، ثم انصرف، قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر» وزاد ابن حبان: «ثم دخل بيته فلم يخرج حتى قبضه الله عز وجل» .
والميت أولى في باب التراجيح، على أن جابرا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يومئذ مشغولا، فقد قتل أبوه وأخوه وخاله في ذلك، فرجع إلى المدينة ليدبر حالهم، وكيف يحملهم فلم يكن حاضرا حتى صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شهداء أحد، وقد روى ما روى. وذكر الواقدي أيضا في غزوة أحد قال جابر بن عبد الله: «كان أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الهزيمة» .
وروى النسائي عن شداد بن الهاد «أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -....
.» الحديث، وفيه أنه استشهد فصلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى البخاري في "صحيحه «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات» وعن أبي مالك الغفاري قال: «كان يجاء بقتلى أحد تسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيدفنون التسعة ويدعون حمزة، ثم يجاء بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم فيدفنون التسعة ويدعون حمزة،» رواه الطحاوي والدارقطني.

(3/268)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى الطحاوي عن ابن عباس وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شهداء أحد مع حمزة، وكان يؤتى بتسعة لتسعة، وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، وكبر يومئذ سبع تكبيرات» . قال: وقد صلى على غيرهم، كما روى بشير بن الهاد «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى أعرابيا أسلم نصيبه، وقال: قسمته لك، فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكن ابتعتك على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأموت فأدخل الجنة، ثم أتي بالرجل قد أصابه سهم حيث أشار فكفن في جبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى عليه، فكان من صلاته أن هذا عبد خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، أنا أشهد عليه فلم يغسله وصلى عليه» ورواه النسائي أيضا.
وأخرج الطحاوي هذا الحديث لمعنيين أحدهما: لأنه شاهد لما ذكره من الدلائل في إثبات الصلاة على الشهيد. والثاني: ردا على من زعم أنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى على أحد ممن قتل في المعركة في غير غزوة أحد.
فإن قلت: لم لا يجوز أن تحمل الصلاة في الأحاديث التي ورد فيها الصلاة على الدعاء؟ وممن قال ذلك ابن حبان والبيهقي.
قلت: يدفع هذا قوله في الحديث الذي رواه عقبة بن عامر المذكور صلاته على الميت.
فإن قلت: أنتم لا ترون الصلاة على القبر بعد ثلاثة أيام، فكيف يحملون عليه على معنى الصلاة العرفية، وقد كانت واقعة أحد في سنة ثلاث من الهجرة، وصلاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على شهداء أحد حين خروجه من الدنيا بعد وقعة أحد في سبع سنين.
قلت: المذهب عندنا الصلاة على القبر يجوز ما لم يتفسخ، والشهداء لا يلحقهم تفسخ، أحياء عند الله؛ فإذا لا يجوز حمل الصلاة عليهم على معنى الدعاء، وكيف يجوز هذا وقد أكد قوله صلاته على الميت لنفي احتمال المحال.
فإن قلت: قال ابن قدامة: حديث عقبة مخصوص بشهداء أحد، فإنه صلى عليهم في القبور وهم لا يرون الصلاة على القبر أصلا، ونحن فيما بعد الشهر.
قلت: إذا ثبت أنه صلى على شهداء أحد صحت الصلاة عليهم بعدم القائل بالفرق، وقوله: "وهم لا يرون الصلاة على القبر" غير صحيح، فإذا دفن الميت ولم يصل عليه صلى على قبره ما لم يتغير كما ذكرناه.
فإن قلت: الصلاة على الميت لا تصح بلا غسل فما لم يغسل الشهيد لا تصح الصلاة عليه.
قلت: وكذا لا يدفن بلا غسل، فلما دفن الشهيد بلا غسل دل على أنه في حكم المغسولين، فكانت الصلاة عليه صلاة على المغسول حكما، وهو مغسول بصب رحمة الله تعالى.

(3/269)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: الشهداء أحياء عند الله، والصلاة إنما شرعت على الموتى.
قلت: هم أحياء في حكم الآخرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] (آل عمران: 169) ، لا في أحكام الدنيا والصلاة عليهم من أحكام الدنيا كسائر الموتى، ولهذا يقسم ميراثهم بين ورثتهم ويتزوج نساؤهم وتحل ديونهم المؤجلة ويعتق أمهات الأولاد ومدبروهم وينفذ وصاياهم، ثم هم يدفنون، فدل ذلك كله أن الحياة لهم عند الله بعد الموت.
فإذا قلت: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لعل ترك الصلاة لاستغنائهم مع التخفيف على من بقي من المسلمين.
قلت: هذا التعليل لا يقبل؛ لأن الصلاة على الميت دعاء له، ولا يستغني أحد عن الدعاء كما ذكرناه، وكذلك التعليل بالتخفيف، فإنهم يتممون إلقاءهم ويحضرون قبروهم ويكلفون دفنهم.
فإن قلت: الصلاة على الميت من باب الشفاعة، والشهداء يشفعون للناس ولا يحتاجون إلى من يشفع لهم.
قلت: الصلاة عليهم زيادة كرامة لهم، وقضاء لحق الميت، وقد أشار المصنف إلى هذا المعنى بقوله: والصلاة على الميت لإظهار كرامته، وقد استوفينا الكلام هناك، وقد ظهر من هذا أن ما ذهبنا إليه أرجح من وجوه عديدة؛ الأول: أن الخبر المثبت في هذا أولى من النافي.
الثاني: أن أحاديثنا أكثر فكانت أولى، قال محمد في " السير الكبير ": أخذنا بما أجمع عليه أهل العراق دون ما انفرد به أهل المدينة، فرجح بالكثرة.
فإن قلت: هذا خلاف ظاهر مذهبكم، فإن الترجيح بالكثرة لا يعتبر عندكم.
قلت: قد ذكر بعض مشايخنا الترجيح بكثرة الرواة؛ إذ الظن بصدق خبر الاثنين أقوى منه بخبر الواحد.
الثالث: أن الصلاة على الموتى أصل في الدنيا وفرض من فروض الكفاية على المسلمين، فلا يسقط من غير فصل أحد.
الرابع: لو كانت الصلاة عليهم غير مشروعة، كما في عموم تنبيهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عدم مشروعيتها، وعلة سقوطها كما نبه على علة سقوط غسلهم.
الخامس: يجوز أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يصل عليهم، وصلى عليهم غيره لما كان به من الجراحات، وكسور رباعيته وما أصابه يومئذ من المشركين.

(3/270)


ومن قتله أهل الحرب أو أهل البغي أو قطاع الطريق فبأي شيء قتلوه لم يغسل؛ لأن شهداء أحد ما كان كلهم قتيل السيف والسلاح،
وإذا استشهد الجنب غسل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يغسل؛ لأن ما وجب بالجنابة سقط بالموت، والثاني: لم يجب للشهادة. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الشهادة عرفت مانعة غير رافعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السادس: إن لم يكن صلى عليهم في ذلك اليوم صلى عليهم في يوم آخر؛ لأنه لا يعتبر عليهم بمرور السن كما ذكرناه.
السابع: قد ثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على غيرهم من الشهداء، ويقولون: لا تشرع الصلاة على شهيدنا.
الثامن: أن الذي ذهبنا إليه أحوط في الدين، وفيه تحصيل الأجر والثواب العظيم، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من صلى على ميت فله قيراط» ، ولم يفصل بين ميت وميت. م: (ومن قتله أهل الحرب أو أهل البغي أو قطاع الطريق فبأي شيء قتلوه لم يغسل) ش: عندنا، خلافا للشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في غير أهل الحرب وقالت الشافعية: قتيل أهل البغي يغسل ويصلى عليه في أصح القولين. وفي قتيل قطاع الطريق طريقان، وكذا في قتيل اللصوص طريقان. ولو أمر الكافر مسلما وقتلوه صبرا ففي غسله والصلاة عليه وجهان: أصحهما أنه ليس بشهيد، وعندنا شهيد، وبه قال مالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولما كان في قتال أهل الحرب ليتمم الآلة، فكذا في قتال أهل البغي وقطاع الطريق؛ لأنهم في حكم القتال كأهل الحرب حتى لا يضمنون ما أتلفوا.
م: (لأن شهداء أحد ما كان كلهم قتيل السيف والسلاح) ش: لأن منهم من دفع بالحجر، ومنهم من قتل بالعصا، وغير ذلك، وعمم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق ترك غسلهم.

[تغسيل الشهيد الجنب]
م: (وإذا استشهد الجنب غسل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أحمد وسحنون. ومن المالكية ابن شريح وابن أبي هريرة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من الشافعية، وهو قول الأوزاعي.
م: (وقالا: لا يغسل) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: لا يغسل، وبه قال الشافعي وأشهب م: (لأن ما وجب بالجنابة) ش: الذي هو الغسل م: (سقط بالموت) ش: للعجز عنه م: (والثاني) ش: أي الغسل الثاني م: (لم يجب للشهادة) ش: أي لأجل كونه شهيدا، إذا للشهادة تمنعه؛ لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زملوهم بكلومهم ودمائهم» لا يفصل بين الشهيد الجنب وغيره.
م: (ولأبي حنيفة أن الشهادة عرفت مانعة) ش: وجوب غسل الميت م: (غير رافعة) ش: لقد وجب عليه قبل موته، ألا ترى أنه لو كان في ثوب الشهيد نجاسة تغسل تلك النجاسة ولا يغسل عنه الدم؟

(3/271)


فلا ترفع الجنابة، وقد صح أن حنظلة لما استشهد جنبا غسلته الملائكة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: لو لم يكن رافعا لوضوء الحدث إذا استشهد، واللازم باطل، فكذا الملزوم، قلت: لا يلزم من أن لا يكون رافعا للأعلى أن يكون رافعا للأدنى.
م: (وقد صح أن حنظلة لما استشهد جنبا غسلته الملائكة) ش: روي هذا من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه الطبراني في "معجمه " عنه، قال: أصيب حمزة بن عبد المطلب، وحنظلة بن الراهب وهما جنبان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إني رأيت الملائكة تغسلهما ". وحديث ابن الزبير رواه ابن حبان في "صحيحه " والحاكم في " المستدرك " من حديث يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عبد الله عن جده قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد قتل حنظلة بن عامر الثقفي أن صاحبكم حنظلة غسلته الملائكة، فسألوا صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهاتفة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لذلك غسلته الملائكة» . قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وليس عنده فاسألوا صاحبته.
قال السهيلي في " الروض الأنف ": وصاحبته هي زوجته جميلة بنت أبي ابن سلول أخت عبد الله بن أبي، وكان قد بنى بها تلك الليلة فرأت في منامها كأن بابا من السماء فتح فدخل وأغلق دونه، فعرفت أنه مقتول من الغد، فلما أصبحت دعت برجال من قومها وأشهدتهم أنه دخل بها خشية أن يقع في ذلك نزاع، ذكره الواقدي، وذكر غيره أنه وجد بين قتلى يقطر رأسه ماء؛ تصديقا لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال ابن سعد في " الطبقات ": قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء نزل في صحاف الفضة» .
وحديث محمود بن لبيد رواه ابن إسحاق في " المغازي " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن صاحبكم - يعني حنظلة بن أبي عامر - لتغسله الملائكة " فسألوا أهله ما شأنه؟ فقالت: إنه خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة» بالتاء المثناة من فوق والفاء، ويقال: الهايعة بالتاء آخر الحروف وبالعين المهملة، والهيعة الصوت الشديد عند الفزع. وحنظلة بن أبي عامر عمرو بن صيفي بن زيد الأنصاري الأوسي، يعرف أبوه بالراهب في الجاهلية، فسماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفاسق؛ لأنه يروح من المدينة إلى مكة، ثم قدم قريش يوم أحد محاربا، وكان بمكة إلى أن فتحت، فهرب إلى هرقل فمات هناك كافرا سنة تسع أو عشر، وأولاد حنظلة يسمون أولاد غسيل الملائكة.
فإن قلت: الواجب غسل بني آدم دون الملائكة، ولو كان ذلك واجبا لأمر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بإعادة

(3/272)


وعلى هذا الخلاف الحائض والنفساء إذا طهرتا، وكذا قبل الانقطاع في الصحيح من الرواية،
وعلى هذا الخلاف الصبي. لهما أن الصبي أحق بهذه الكرامة. وله أن السيف كفى عن الغسل في حق شهداء أحد بوصف كونه طهرة عن الذنوب، ولا ذنب على الصبي فلم يكن في معناهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غسله.
قلت: الواجب هو الغسل، وأما الغاسل فيجوز كائنا من كان، ألا ترى أن الملائكة لما غسلوا آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأدي به الواجب ولم يعد أولاده غسله.

م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (الحائض والنفساء إذا طهرتا) ش: عندهما لا يغسلان؛ لأن الغسل الأول سقط بالموت، والثاني أنه لم يجب بالشهادة، وعنده يغسلان؛ لأن الشهادة عرفت مانعة غير رافعة م: (وكذا قبل الانقطاع) ش: أي وكذا يغسلان إذا قتلتا قبل انقطاع الدم م: (في الصحيح من الرواية) ش: عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهي رواية الحسن عنه، واحترز به عن رواية المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما لا يغسلان؛ لأنه لم يكن الغسل واجبا حالة الحياة قبل الانقطاع، فلم يجب بالموت غسل آخر.
وجه الصحيح من الرواية أن حكم الحيض انقطع بالموت، فصار كأن انقطاع الحيض قبل الموت. وعندهما لا يغسلان بكل حال. وفي الجنازية هذا الحديث في النفساء يجري على إطلاقه؛ لأن أقل النفساء لا حد له. أما الحائض فتصور فيه فيما إذا استمر بها الدم ثلاثة أيام، ثم قتلت قبل الانقطاع، أما لو رأت يوما أو يومين، ثم قتلت لا تغسل بالإجماع، ذكره التمرتاشي بعدم كونها حائضا.

م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (الصبي) ش: إذا استهل يغسل عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافا لهما وللشافعي أيضا م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن الصبي أحق بهذه الكرامة) ش: وهي سقوط الغسل؛ لأن سقوط الغسل لإبقاء أثر مظلوميته في الغسل وكان إكراما له، والمظلومية في حق الصبي أشد، فكان أحق بهذه الكرامة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن السيف كفى عن الغسل في حق شهداء أحد بوصف كونه طهرة عن الذنوب، ولا ذنب على الصبي، فلم يكن في معناهم) ش: أي في معنى شهداء أحد، فإذا لم يكن في معناهم يغسل، وكذلك الخلاف في المجنون إذا استشهد. وفي " المبسوط ": الصبي غير مكلف ولا يخاصم بنفسه في حقوقه، والخصم عنه في حقوقه في الآخرة هو الله تعالى، فلا حاجة إلى بقاء أثر الشهادة لعلهم يدلونه.

(3/273)


ولا يغسل عن الشهيد دمه، ولا ينزع عنه ثيابه، لما روينا
وينزع عنه الفرو والحشو والقلنسوة والسلاح والخف؛ لأنها ليست من جنس الكفن،
ويزيدون وينقصون ما شاءوا إتماما للكفن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ذكر ابن قدامة في " المغني " أن حارثة بن النعمان، وعمير بن أبي وقاص أخا سعد كانا من شهداء أحد وهما صغيران.
قلت: هذا غلط؛ لأن عمير بن أبي وقاص قتل يوم بدر قبل أحد، وهو ابن ست عشرة ذكره ابن سعد في " الطبقات ".
وأما حارثة بن النعمان فتوفي في خلافة معاوية وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها، وأما حارثة المستشهد غلاما هو حارثة بن الربيع الأنصاري قتل يوم بدر، كذا في "الصحيحين" وغيرهما، وليس في قتلى أحد من اسمه جارية، قال: ذكر ذلك تميمة في " شرح الهداية ".

[كيفية تغسيل الشهيد]
م: (ولا يغسل عن الشهيد دمه، ولا ينزع عنه ثيابه لما روينا) ش: وأشار به إلى ما ذكره من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «زملوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسلوهم» وهذا يدل على عدم غسل الدم عن الشهيد، ولكن لا يدل على عدم نزع الثياب، وإنما الدليل على ذلك ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتلى أحد أن تنزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم» . أخرجه أبو داود وابن ماجه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

م: (وينزع عنه الفرو والحشو) ش: أريد بالحشو الثوب المحشو بالقطن وهو بحسب اصطلاح الناس لا بحسب اللغة م: (والقلنسوة) ش: أريد بها القبع، وفي تفسيره أقوال م: (والسلاح والخف؛ لأنها) ش: أي لأن هذه الأشياء م: (ليست من جنس الكفن) ش: وفي " المبسوط " وكفن الشهيد ثيابه وينزع عنه ما ليس من جنس الكفن كالفرو والسلاح والجلود والحشو والخفين والقلنسوة.
وفي " الذخيرة " والسراويل. وقال الشافعي: ينزع ما ليس من غالب لباس الناس كالجلود والفرو والخفاف والدرع والبنصر والجبة والمحشوة، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك: لا تنزع الفرو والجلود والقلنسوة، وقال مطرف: لا ينزع المنطقة ولا الخاتم إلا أن يكثر ثمنها. وفي الأسبيجابي: ويكره أني ينزع عنهم جميع ثيابهم ويجدد لهم الكفن. وفي " التحفة ": ولا يكفن ابتداء في ثياب أخر دون ثيابه التي كانت عليه عند قتله.

م: (ويزيدون وينقصون ما شاءوا) ش: إذا كان ناقصا عن عدد المسنون، والضمير في يزيدون وينقصون يرجع إلى أولياء القتيل، لدلالة القرينة عليه، ولا اشتباه فيه حتى يقال: إنه إضمار قبل الذكر، قيل: وقد استدلوا بهذه اللفظة على أن عدد الثلاثة ليس بلازم، وأكثرهم على مراعاة الوتر والكفن.
قلت: ما ذكرنا أو في التعليل الذي ذكره في الكتاب م: (إتماما للكفن) ش: أي لأجل إتمام

(3/274)


قال: ومن ارتث غسل. وهو من صار خلقا في حكم الشهادة لنيل مرافق الحياة؛ لأن بذلك يخف أثر الظلم فلم يكن في معنى شهداء أحد، والارتثاث: أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يداوى، أو ينقل من المعركة حيا؛ لأنه نال بعض مرافق الحياة، وشهداء أحد ماتوا عطاشا، والكأس تدار عليهم، فلم يقبلوا خوفا من نقصان الشهادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكفن، قيل: هو يرجع إلى قوله يزيدون.
قلت: لا مانع من أن يرجع إلى اللفظين معا؛ لأنه إذا نقص من الزائد على العدد المسنون يكون إتماما للكفن المسنون. فإذا لم ينقص لا يسمى كفن السنة. وأشار في " المبسوط " في نزع الأشياء المذكورة إلى أن هذه الأشياء كانت لدفع بأس العدو، وقد استغني عن ذلك، ولأن هذه عادة أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا يدفنون أبطالهم بما عليهم من الأسلحة، وقد نهينا عن التشبه بهم.

م: (ومن ارتث غسل) ش: على صيغة المجهول، بالتاء المثناة من فوق المضومة، ثم الثاء المثلثة، وهو من قولهم: ثوب رث أي خلق. وفي " المغرب ": ارتث الجريح إذا حمل من المعركة وبه رمق؛ لأنه حينئذ يكون ملقى كرثة المتاع، وقال الجوهري: اترث فلان على ما لم يسم فاعله، أي حمل من المعركة رثبة، أي جريحا وبه رمق. ومراد الفقهاء من ذلك مما أشار إليه المصنف بقوله م: (وهو) ش: أي المرتث دل عليه قوله: "ارتث" كما في قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (المائدة: الآية 8) ؛ م: (من صار خلقا) ش: بفتح اللام، يقال: ثوب خلق أي بلي، يستوي فيه المذكر والمؤنث؛ لأنه في الأصل مصدر من خلق يخلق.
قال الجوهري: وقد خلق الثوب بالضم خلوقه أي بلي إذا خلق الثوب، مثله وأخلقه إنما متعد ولا يتعدى م: في حكم الشهادة لنيل مرافق الحياة) ش: وهي راحة الحياة.
م: (لأن بذلك) ش: أي بذلك النيل م: (يخف أثر الظلم، فلم يكن في معنى شهداء أحد) ش: لأنهم ماتوا على الحالة التي وقعت فيها الجراحة، ولم ينالوا من مرافق الحياة شيئا م: (والارتثاث) ش: الذي يوجب غسل القتيل م: (أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يداوى أو ينقل من المعركة حيا) ش: أو يصلي أو يتكلم بكلمة في رواية ابن سماعة عن أبي يوسف. وفي رواية عنه أنه يزيد على كلمة. وفي " البدائع " أو باع أو ابتاع أو تكلم بكلام طويل، وذكر ابن سماعة أن إكثار الكلام بمنزلة الأكل م: (لأنه نال بعض مرافق الحياة) ش: بمباشرة شيء من الأشياء المذكورة.
م: (وشهداء أحد ماتوا عطاشا والكأس) ش: أي كأس الماء م: (تدار عليهم فلم يقبلوا) ش: قال الجوهري: والكأس كل إناء فيه شراب وهي مؤنثة م: (خوفا من نقصان الشهادة) ش: شرب الماء الذي هو من لوازم الأحياء حتى لا ينالوا من مرافق الدنيا. وفي " شرح المصطفى " لعبد الملك بن محمد النيسابوري عن خارجة بن زيد عن أبيه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد أرسلني إلى سعد بن

(3/275)


إلا إذا حمل من مصرعه كيلا تطأه الخيول؛ لأنه ما نال شيئا من الراحة، ولو آواه فسطاطا أو خيمة كان مرتثا لما بينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الربيع، وقال: إن رأيته أقرئه السلام: وقل له: يقول لك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كيف تجدك؟ " قال: جعلت أطوف بين القتلى حاصبة، وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم، فقلت له: يا سعد: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ قال: على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجد رائحة الجنة. وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم إن وصل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيكم عين تطرف، وفاضت عيناه» .
وقال العلامة الكردري في قوله: "خوفا من نقصان الشهادة": قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] (التوبة: الآية 111) ، أخذ الشهيد بعض مرافقه للحياة، فكان هذا تصرفا في البيع قبل التسليم لتحقق النقصان في تسليم المبيع كما لو تصرف البائع في المبيع قبل التسليم، فإنه يسقط بعض الثمن أو يثبت للمشتري الخيار، ولهذا لو استشهد الصبي يغسل؛ لعدم أهليته للبيع عنه، وروى البيهقي في " شعب الإيمان " عن أبي جهيم بن حذيفة العدوي، قال: انقطعت يوم الرسول ابن عمي ومعي سقية ماء، فقلت: إن كان به رمق سقيته من الماء فوجدته ومسحت وجهه، فإذا به ينشع، فقلت: أسقيك؟ فأشار إلى جانبه فنظرت فإذا رجل يقول: آه، فأشار هشام ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص، فأتيته فقلت: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
م: (إلا إذا حمل من مصرعه كيلا تطأه الخيول؛ لأنه ما نال شيئا من الراحة) ش: الاستثناء من قوله بمن ارتث غسل، يعني لا يغسل في هذه الصورة فهو شهيد: قال الأترازي: فيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن الحمل من المصراع ليس بنيل راحة.
قلت في نظره نظر؛ لأن الحمل من المصراع إنما يكون نيل راحة إذا كان لصرم القتال، ألا ترى إلى ما قال في " الذخيرة " ولو كانوا في معمعة القتال، فوجدوا جريحا فحملوه والقوم في القتال ثم مات فهو شهيد. قال الحاكم الشهيد: ومجرد حمله ورفعه من المعركة والقتال على حاله بعد لا يجعله مرتثا وإنما ارتثاثه بذلك بعدم تصرم القتال، وفي " التحفة " وفي " المحيط " و" المفيد " أو بقي يوما وليلة في المعركة.
م: (ولو آواه) ش: بالمد، أي لو ضمه، م: (فسطاط) ش: وهي الخيمة الكبيرة فيه ست لغات، ضم الفاء وكسره، وبالباء مكان الطاء الأولى، وتشديد السين بغير الطاء والباء مع ضم الفاء وكسرها، ذكرها ابن قتيبة م: (أو خيمة كان مرتثا) ش: فيغسل م: (لما بينا) ش: أراد به قوله؛ لأنه

(3/276)


ولو بقي حيا حتى مضى عليه وقت صلاة وهو يعقل فهو مرتث؛ لأن تلك الصلاة صارت دينا في ذمته وهو من أحكام الأحياء، قال: وهذا مروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو أوصى بشيء من أمور الآخرة كان ارتثاثا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ارتفاق، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يكون؛ لأنه من أحكام الأموات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نال مرافق الحياة.
م: (لو بقي حيا حتى مضى عليه وقت صلاة وهو يعقل فهو مرتث) ش: أي والحال أنه يعقل، واحترز به. أما إذا بقي مغمى عليه؛ لأنه لا يكون مرتثا، كذا روي عن أبي يوسف.
وفي " الذخيرة ": ذكر ابن سماعة أو مضى عليه وقت صلاة كاملة.
وفي " التحفة " أو مضى عليه وقت صلاة وهو يعقل، ويقدر على أدائها بالإيماء، حتى يجب القضاء بتركها.
وفي " المجتبى " والمراد بوقت الصلاة قدر ما تجب عليه الصلاة وتصير دينا في ذمته، وهو رواية عن أبي يوسف. وعندنا يوم وليلة، ولو كان مغمى عليه يوما وليلة لم يكن مرتثا. وعن محمد لو بقي في المعركة حيا يوما وليلة فهو مرتث وإن لم يعقل. وفي " نواد بشر " عن أبي يوسف إذا مكث الجريح في المعركة أكثر من يوم حيا والقوم في القتال وهو يعقل أو لا يعقل، فهو بمنزلة الشهيد.
قال الأترازي: إنه لو تأمل اليوم كله ثم خر ميتا من جراحه أصابته في أول النهار كان شهيدا، وإن تصرم القتال بينهم فهو جريح في المعركة فمكث وقت صلاة لا يكون شهيدا، وذكر الكرخي في "مختصره ": إن عاش في مكانه وهو لا يعقل لا يغسل، وإن زاد على يوم وليلة؛ لأنه لا ينتفع بحياته فكان كالميت.
م: (لأن تلك الصلاة صارت دينا في ذمته وهو) ش: أي كون الدين في ذمته م: (من أحكام الأحياء) ش: فيكون مرتثا فيغسل.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذا مروي عن أبي يوسف) ش: وروي عن محمد مثل قول أبي يوسف، إلا أنه قال: إن عاش في مكانه يوما كان مرتثا، سواء كان عاقلا أو لم يكن، وإن كان أقل من ذلك، لم يكن مرتثا م: (ولو أوصى بشيء من أمور الآخرة كان ارتثاثا عنده) ش: أي عند أبي يوسف م: (لأنه ارتفاق) ش: بحصول الثواب.
م: (وعند محمد لا يكون ارتثاثا؛ لأنه من أحكام الأموات) ش: أي لا يعبأ بشيء من الأمور الآخرة من أحكام الأموات، وقال الصدر الشهيد في " الجامع الصغير ": قيل: الاختلاف فيما إذا أوصى بشيء من أمور الآخرة، أما إذا أوصى بشيء من أمور الدنيا كان ارتثاثا بالإجماع.

(3/277)


ومن وجد قتيلا في المصر غسل؛ لأن الواجب فيه القسامة والدية فخف أثر الظلم إلا إذا علم أنه قتل بحديدة ظلما؛ لأن الواجب فيه القصاص وهو عقوبة، والقاتل لا يتخلص عنها ظاهرا إما في الدنيا وإما في العقبى، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما لا يلبث بمنزلة السيف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال في " شرح الطحاوي ": قيل: إنه لا اختلاف فيما بينهما في الحقيقة. فجواب أبي يوسف خرج في الذي أوصى بأمور الدنيا. وجواب محمد خرج في الذي أوصى بأمور الآخرة، وقال أبو بكر الرازي: وإن كان أكثر من كلامه في وصيته، فطال غسل؛ لأن الوصية شيء من أمور الموت، فإذا طالت أشبهت أمور الدنيا.

م: (ومن وجد قتيلا في المصر غسل) ش: قيد بالمصر؛ لأنه لو وجد في مفازة ليس بقربها عمران لا يجب فيه قسامة ولا دية ولا يغسل لو وجد به أثر القتل م: (لأن الواجب فيه القسامة والدية فخف أثر الظلم) ش: فلم يكن في معنى شهداء أحد فيغسل م: (إلا إذا علم أنه قتل بحديدة ظلما) ش: هذا الاستثناء من قوله "غسل" يعني لا يغسل القتيل في المصر إذا علم أنه قتل بحديدة ظلما مظلوما، ولكن هذا فيما إذا علم قاتله لوجوب القصاص.
أما إذا لم يعلم قاتله فيغسل، وإن قتل بحديدة؛ لأنه ليس فيه معنى شهداء أحد، لأنه إذا لم يعمل قاتله يجب القسامة والدية. وعند الشافعي: يغسل القتيل في المصر، وإن قتل بحديدة وإن عرف قاتله لوجوب القصاص، وهو بدل الدم كالدية وكذا ما قاله المصنف بقوله:
م: (لأن الواجب فيه القصاص وهو عقوبة) ش: إما في الدنيا إن وجد، وإما في الآخرة إن لم يوجد م: (والقاتل لا يتخلص عنها) ش: أي عن العقوبة م: (ظاهرا) ش: من حيث ظاهر الأمر م: (إما في الدنيا) ش: إن وجد م: (وإما في العقبى) ش: إن لم يوجد كما ذكرنا، والقصاص عقوبة وليس بعوض حتى يخفف أثر الظلم، وإن كان عوضها لكن نفعه يعود إلى الورثة لا له فلم ينتفع الميت به، بخلاف الدية، فإن نفعها يعود إليه حتى يقضي منها ديته وينفذ وصاياه، كذا في " مبسوط فخر الإسلام "، والسر فيه أن وجوب المال دون القصاص دليل صفة الحياة، بدلالة أن المال يثبت بالشبهة، والقصاص دليل صفة الجناية؛ لأن المال يثبت بالشبهة والقصاص يجب الشبهة.
م: (وعنده أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - ما لا يلبث بمنزلة السيف) ش: أراد بهذا أنه لا يشترط في القتيل وجد في المصر أن يقتل بالحديد عندهما، بل ما لا يلبث في الباب مثل الثقل من الحجر، والخشب مثل السيف عندهما؛ حتى لا يغسل القتيل ظلما في المصر إذا علم قاتله، وعلم أنه قتل بالمثقل لوجوب القصاص عندهما، وعند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجب القصاص في القتل بالمثقل؛ لأنه لو وجب فلا يخلو إما أن يستوفي دما أو جرحا فلا يجوز الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا بالسيف» ولا يجوز المال في اللزوم لزيادة، والقصاص مبناه على المماثلة م:

(3/278)


ويعرف في الجنايات إن شاء الله تعالى،
ومن قتل في حد أو قصاص غسل وصلي عليه؛ لأنه باذل نفسه لإيفاء حق مستحق عليه، وشهداء أحد بذلوا أنفسهم لابتغاء مرضاة الله تعالى فلا يلحق بهم.
ومن قتل من البغاة أو قطاع الطريق لم يصل عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ويعرف ذلك في الجنايات إن شاء الله تعالى) ش: أي يعرف حكم عدم القصاص عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافا لهما في كتاب الجنايات على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

[تغسيل من قتل في حد أو قصاص]
م: (ومن قتل في حد أو قصاص غسل وصلي عليه) ش: هذا بالإجماع، إلا أن مالكا يقول: لم يصل الإمام على المرجوم والمقتول قصاصا، وصلى على غيره؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل على عاص وصلى عليه غيره. وقال الزهري: لا يصلى على المرجوم أصلا م: (لأنه) ش: أي لأن المقتول في الحد أو القصاص م: (باذل نفسه لإيفاء حق مستحق عليه) ش: أي واجب عليه م: (وشهداء أحد بذلوا أنفسهم لابتغاء مرضاة الله تعالى) ش: أي بطلب رضى الله من غير أن يكون عليهم حق م: (فلا يلحق بهم) ش: أي بشهداء أحد في ترك الغسل، وأما ماعز ففي رواية البخاري أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، وفي " الصحيح " أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على المرجومة في الزنا، ومن قتل في تعزيز، أو عدا على قوم فقتلوه يغسل؛ لأنه ظلم نفسه فلا يكون شهيدا.

[تغسيل من مات من البغاة]
م: (ومن قتل من البغاة) ش: بضم الباء الموحدة جمع باغ كقضاة جمع قاض، وهو الذي يخرج عن طاعة الإمام، وأصل البغي مجاوزة حد م: (أو قطاع الطريق لم يصل عليه) ش: وفي " الذخيرة " عن محمد قاطع الطريق لا يصلى عليه سواء قتل في الحرب أو قتله الإمام حدا، وفي " الملتقطات ": أو قتلوه بعد ما وضعت الحرب أوزارها صلي عليهم، يعني البغاة، وكذا قطاع الطريق إذا قتلوا بعد ثبوت يد الإمام عليهم. وإنما لا يصلى عليهم إذا قتلوا في حال المحاربة والحرب. وفي " الذخيرة " ذكر الصدر الشهيد في " الواقعات " إن قتلوا في الحرب لا يصلى عليهم، وإن قتلوا بعدما وضعت الحرب أوزارها صلي عليهم، وكذا قطاع الطريق مثلما ذكر في " الملتقطات ".
قال أبو الليث: وبه نأخذ، ولم يذكر أنهم هل يغسلون. وذكر نجم الدين النسفي اختلاف المشايخ قيل: يغسلون للفرق بينهم وبين الشهداء. وحكم المقتول بالمعصية حكم الباغي ومن قتل أبويه لا يصلى عليه؛ إهانة له، ذكره في " جوامع الفقه ". ومن قتل نفسه خطأ بأن قصد رجلا من العدو ليضربه بالسيف فأخطأ، وأصاب نفسه يغسل ويصلى عليه بلا خلاف. ومن قتل نفسه بحديدة ظلما ذكر الصدر الشهيد في " الجامع الصغير " أنه يغسل ويصلى عليه عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومحمد بخلاف الباغي.
وفي " شرح السير " أن فيه اختلاف المشايخ، قال شمس الأئمة الحلوائي: الأصح أنه يصلى عليه. وقال القاضي أبو الحسن السعدي: إنه لا يصلى عليه؛ لأنه باغ على نفسه، وذكر

(3/279)


لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يصل على البغاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السروجي ومن قتل نفسه أو قتل من المغنم يغسل ويصلى عليه. وقال مالك والشافعي وداود وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يصلي عليه الإمام؛ لأنه باغ على نفسه، وذكر السروجي ويصلي عليه بقية الناس. وقال الأوزاعي وعمر بن عبد العزيز: لا يصلى عليه، وهو رواية عن أصحابنا ويغسل، وكذا الزنا ويصلى عليه عند جميع أهل العلم خلافا لقتادة وأهل البغاة، فعند الشافعي يغسلون ويصلى عليهم.
واختلف أصحاب أحمد في ذلك، ودليلنا فيه ما أشار إليه المصنف بقوله م: (لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يصل على البغاة) ش: ذكر ابن سعد في " الطبقات " قضية أهل النهروان وليس فيها ذكر الصلاة، ولفظه قال: لما كان بين علي ومعاوية ما كان وقع بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين، ورجع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكوفة خرجت عليه الخوارج عن أصحابه بحروراء؛ لذلك سموا الحرورية، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس فخاصمهم وحاجهم فرجع منهم كثير، وثبت آخرون على رأيهم، وساروا إلى نهروان، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت فسار إليهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقاتلهم بالنهراون، وقتل ذا الثدية، وذلك سنة ثمان وثلاثين، ثم رجع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكوفة فلم يزالوا يخافون عليه من الخوارج حتى قتل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال السروجي: ولنا أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يغسل أهل النهروان ولم يصل عليهم فقيل له أكفار هم؟ فقال: لا؛ إخواننا بغوا عينا فقاتلناهم، ذلك عقوبة لهم ليكون زجرا لغيرهم كالمصلوب يتحرك على خشبة عقوبة له وزجرا لغيره.
1 -
فروع: إذا قتل الباغي في المعركة للكافر لا يغسل ولا يصلى عليه. وكذا الذي يقتل بالحتف عليه، رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وفي " الخلاصة ": حكم من قتل بالبغي في الأرض بالفساد، كالمكابرين، والخناق الذي خنق غيره مرة، والمقتولين بالمعصية حكم أهل البغي وقطاع الطريق، وحكم من قتل مسمى لا يوصف بالظلم، كما إذا افترسه السبع أو سقط عليه البناء، أو سقط من شاهق جبل، أو سال عليه الوادي وغرق في الماء حكم المقتول برجم أو قصاص، ومن قتل في المصر ليلا بسلاح أو غير سلاح نهارا، أو خارج المصر بسلاح أو غيره ولم يجب دية فيكون شهيدا عندنا، وإلا فلا.

(3/280)


باب الصلاة في الكعبة الصلاة في الكعبة جائزة فرضها ونفلها، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الصلاة في الكعبة] [حكم الصلاة في الكعبة]
م: (باب الصلاة في الكعبة) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الصلاة في الكعبة، وهي اسم للبيت الحرام، وسمي البيت الحرام بذلك لتربعه من قولهم: برد مكعب إذا كان فيه شيء مربع. ولما كانت الصلاة فيها مخالفة لسائر الصلوات من حيث جواز الصلاة فيها بالتوجه إلى الجهات الأربع قصدا، بخلاف غيرها، وصارت كأنها جنس آخر أجزأها عنهما، كذلك لقلة دورها بالنسبة إلى غيرها، ولكون مساس الحاجة إلى غيرها أكثر.
وأما وجه المناسبة في ذكرها عقيب باب الجنائز هو أن البيت ضامن الأمن من دخله بالنص، فكذلك القبر ضامن الميت.
م: (الصلاة في الكعبة جائزة فرضها ونفلها) ش: ارتفاع فرضها ونفلها بالبدلية من الصلاة بدل الاشتمال، وبقولنا: قال جماعة من السلف: منهم الثوري والشافعي أيضا، وقول المصنف م: (خلافا للشافعي فيهما) ش: أي في الفرض والنفل ليس كما ينبغي. قال السغناقي: كأن هذا اللفظ وقع سهوا من الكاتب، فإن الشافعي يرى جواز الصلاة في الكعبة فرضها ونفلها، كذا أورده أصحابه في كتبهم عن " الوجيز " و" الخلاصة " ," والذخيرة " وغيرها، ولم يرد أحد من علمائنا أيضا هذا الخلاف فيما عندي من الكتب " كالمبسوط " و" الأسرار " و" الإيضاح " و" المحيط " و" شروح الجامع الصغير " وغيرها ما خلا أنه يشترط السترة المتصلة بالأرض اتصال قرار إذا كان المصلي في عرصة الكعبة كالحجر والشجر.
قلت: ذكر في " الوجيز " لو انهدمت الكعبة -والعياذ بالله- تصح صلاته خارج الكعبة متوجها إليها كمن صلى على جبل أبي قبيس والكعبة تحته، ولو صلى فيها لم يجز إلا أن يكون بين يديه شجرة أو يقيه حائط، والواقف على سطحها كالواقف في العرصة، فلو وضع شيئا لا يجزئه، ولو غرز خشبة فيه وجهان وفي " الخلاصة " للغزالي: تجوز الصلاة في الكعبة إلى بعض ثباتها. وقال الإمام برهان السمرقندي في جواب ما قاله السغناقي: بأن تزاد أصحاب الشافعي في كتبهم جواز الصلاة فيها لا يدل على أن عدم الجواز ليس قوله كما في كثير من المسائل، وعدم إيراد أصحابنا علمائنا لا يدل على ذلك أيضا، ومن له أدنى مسكة من العقل إذا تأمل ذلك لاح له بلا ريب بطلان قول هذا القائل.
وقال الشيخ الإمام عبد العزيز في الرد عليه: الصحيح ما ذكره السغناقي؛ فإن اتفاق أصحابه على إيراد الجواز في كتبهم وتعريفاتهم، واتفاق أصحابنا على عدم إيراد الخلاف في كتبنا يدل على عدم الخلاف مع اجتهاد كل فريق في بيان الخلاف، وجهدهم في بيان الأقوال لدفع شبهة

(3/281)


ولمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفرض؛ «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في جوف الكعبة يوم الفتح»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخصوم بقدر الإمكان. وقال السروجي نصرة للمنصف: وما ذكر في الكتاب عن الشافعي محمول على ما إذا توجه إلى الباب وهو مفتوح، فإن كان الباب مردودا أو له عتبة قدر ثلثي ذراع يجوز. قال النووي: هذا هو الصحيح. وفي وجه يقدر بذراع. وقيل: كفى بحوجها. وقيل: يشترط قدر ما قامته طولا وعرضا، ولو وضع بين يديه متاعا واستقبله لم يجز، وأخذ الأكمل من كلامه فقال: وأجيب بأن مراده إذا توجه إلى الباب وهو مفتوح وليست العتبة مرتفعة قدر مؤخرة الرحل، وهو خير من الحمل على السهو.
قلت: كل هذا لا يخلو من تأمل ونظر [....
.....] عليه البيت.
م: (ولمالك في الفرض) ش: يعني خلافا لمالك في صلاة الفرض، فإنها لا تجوز في الكعبة، ويجوز النفل. وفي " الذخيرة " القرافية؛ فإن مالكا لا يصلي في البيت والحجر فريضة ولا ركعتا الطواف الواجبتان ولا الوتر ولا ركعتا الفجر، وذكر القرطبي في تفسره عن مالك أنه لا يصلي فيها الفرض ولا السنن، ويصلي التطوع، فإن صلى فيها مكتوبة أعاد في الوقت كمن صلى إلى القبلة بالاجتهاد. وعن ابن حبيب، وأصبغ يعيد أبدا، ويقول مالك: قال أحمد: وقال أبو عبد الحكم: لا يصلي فيه ومنع محمد بن جرير الطبري الجميع فيها. وجه قول مالك أن المصلي فيها مستدبر ومستقبل بوجه. فاجتمع ما يوجب الجواز وما يوجب عدمه، فعملنا على ما يوجب عدم الجواز في الفرض وعلى ما يوجب في النفل احتياطا وهو القياس في النفل أيضا، لأن بابه أوسع، ولهذا يجوز قاعدا وراكبا بلا عذر؛ ولأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: " إن الطواف في جوفها لا يصح " فكذا الصلاة.
ولنا ما أشار إليه المصنف بقوله م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في جوف الكعبة يوم الفتح) ش: أخرجه البخاري ومسلم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: «لما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح بمكة ونزل بفناء الكعبة وأرسل إلى عثمان بن طلحة، فجاء بالمفتاح ففتح الباب، قال: ثم دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبلال، وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وأمر بالباب فأغلق عليه فلبثوا فيه مليا» وللبخاري «فمكثوا فيه نهارا طويلا، ثم فتح الباب قال عبد الله: فبادرت الباب فنفلت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خارجا، وبلال على أثره، قلت لبلال: وهل صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه؟ قال: صلى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: أين؟ قال: بين العمودين تلقاء وجهه، ونسيت أن أسأله كم صلى» .
وأخرجه عن سالم عن ابن عمر قال: «أخبرني بلال أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في جوف الكعبة بين العمودين اليمانيين» وأخرج البخاري «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة قال ابن عمر فأقبلت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خرج، ووجد بلالا قائما بين البابين فسألت بلالا. قلت: هل صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة، قال: نعم ركعتين بين الساريتين على يساره إذا دخلت ثم خرج من الكعبة.

(3/282)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فصلى في وجه الكعبة ركعتين» .
فإن قلت: أخرج البخاري ومسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دخل الكعبة قام عند سارية ودعا ولم يصل» وبه عن ابن عباس أخبرني أسامة بن زيد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل البيت دعا فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين، وقال: هذه القبلة» .
قلت: أخذ الناس بحديث بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه ثبت، وقدموه على حديث ابن عباس؛ لأنه نُفي، وإنما يؤخذ بشهادة المثبت ومن تأول قول بلال أنه صلى، أي دعا فليس بشيء؛ لأن في حديث ابن عمر أنه صلى ركعتين. رواه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولكن رواية بلال ورواية ابن عباس صحيحتان، ووجهها أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلها يوم النحر فلم يصل، ودخلها من الغد، وذلك في حجة الوداع، وهو حديث مروي عن ابن عمر، أخرجه الدارقطني في "سننه " بإسناد حسن عن يحيى بن جعدة عن ابن عمر قال: «دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت ثم خرج وبلال خلفه، فقلت لبلال: هل صلى؟ قال: لا. فلما كان من الغد دخل، فسألت بلالا: هل صلى؟ قال: نعم. صلى ركعتين» .
وأخرج الدارقطني أيضا، والطبراني في "معجمه " عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت فصلى بين الساريتين ركعتين، ثم خرج فصلى بين الباب والحجر ركعتين، ثم قال: هذه القبلة ثم دخل مرة أخرى، فقام فدعا ثم خرج ولم يصل» . وأما حديث أسامة بن زيد فروى عنه خلافه أحمد في "مسنده "، وابن حبان في "صحيحه "، عن ابن عمر أخبرني أسامة بن زيد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الكعبة بين الساريتين» .
قلت: حاصل الكلام في هذا الباب أن المخلص بين هذه الروايات المختلفة ما ذكرناه أولا. مع أنه روي عن ابن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن السائب أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الكعبة، فحديث عمر رواه أبو داود في "سننه " من حديث مجاهد، عن عبد الرحمن بن صفوان، قال: «قلت لعمر بن الخطاب: كيف صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دخل الكعبة؟ قال: صلى ركعتين» . وفي إسناده

(3/283)


ولأنها صلاة استجمعت شرائطها لوجود استقبال القبلة؛ لأن استيعابها ليس بشرط،
فإن صلى الإمام بجماعة فيها، فجعل بعضهم ظهره إلى ظهر الإمام جاز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يزيد بن أبي زياد، وفيه مقال، قاله الخصم.
قلت: روى له مسلم مقرونا بغيره، واحتجت له الأربعة والطحاوي، وحديث عبد الله بن السائب رواه ابن حبان في "صحيحه " قال: «حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح وقد صلى في الكعبة، فخلع نعليه فوضعها على يساره، ثم افتتح سورة المؤمنون، فلما بلغ ذكر موسى وعيسى أخذته سعلة، فركع» .
وأما الجواب عن قول مالك فنقول: إنه استقبل شطر المسجد الحرام وهو المأمور، قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] (البقرة: الآية 144) ، فيجزئه قياسا على ما لو صلى خارجها، فإنه حينئذ لا يتوجه إلى الكل، واستدبار البعض مع استقبال البعض لا يضر؛ لأنه ما أمر بالتوجه إلى الكل في حالة واحدة؛ لأنه غير ممكن، وإلا ينصرف إلى ما في الوسع، وفي وسعه توجه البعض، فيكون مأمورا بذلك لا غير، وليست الصلاة كالطواف؛ لأن الطواف بالبيت مأمور فيه، والطواف بالكل ممكن، فيجب الطواف خارج البيت؛ ليقع الكل، ألا ترى أن الطواف خارج المسجد الحرام لا يجوز، بخلاف الصلاة والاستدبار خارج البيت مفسد؛ لعدم استقبال ما هو مأمور لا الاستبدار، فوقع الفرق بين الاستدبارين، كذا في " المبسوط " و" الأسرار ". م: (ولأنها صلاة) ش: دليل عقلي، أي ولأن الصلاة في الكعبة صلاة م: (استجمعت شرائطها) ش: من الطهارة عن الحدثين، وطهارة الثوب والمكان والنية م: (لوجود استقبال القبلة) ش: لأنه استقبل جزءا من الكعبة، واستقبال الكل ليس بممكن، ولا هو شرط، وهو معنى قوله م: (لأن استيعابها ليس بشرط) ش: أي استيعاب أجزاء الكعبة.

م: فإن صلى الإمام بجماعة فيها) ش: أي في الكعبة م: (فجعل بعضهم) ش: أي بعض الجماعة م: (ظهره إلى ظهر الإمام جاز) ش: أي جاز فعله ذلك يعني صلاته. وفي " المرغيناني " و" جوامع الفقه " لو صلوا فيها بجماعة جازت صلاتهم، سواء كان المقتدي وجهه إلى ظهر الإمام أو إلى وجهه أو إلى جنبه أو ظهره أو إلى ظهره إلى جنبه، لكن يكره إذا كان وجهه إلى وجه الإمام، لاستقبال الصورة إلا بحائل، ولا يجوز صلاة ثلاثة من كان ظهره إلى وجه الإمام والثاني من كان وجهه إلى الجهة التي وجه الإمام إليها وهو عن يمينه. ويقدم عليه بأن كان أقرب إلى الحائط من الإمام، والثالث: عن يساره مثله لتقدمه على الإمام بذلك أو لم يعلم.

(3/284)


لأنه متوجه إلى القبلة، ولا يعتقد إمامه على الخطأ، بخلاف مسألة التحري، ومن جعل منهم ظهره إلى وجه الإمام لم تجز صلاته؛ لتقدمه على إمامه،
وإذا صلى الإمام في المسجد الحرام فتحلق الناس حول الكعبة، وصلوا بصلاة الإمام، فمن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام جازت صلاته إذا لم يكن في جانب الإمام؛ لأن التقدم والتأخر إنما يظهر عند اتحاد الجانب،
ومن صلى على ظهر الكعبة جازت صلاته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه متوجه إلى القبلة، ولا يعتقد إمامه على الخطأ) ش: أي والحال أن لا يعتقد على الخطأ قال الأترازي: هذا التعليل ليس بكاف؛ لجواز صلاة من جعل ظهره إلى ظهر الإمام. لأن هذه العلة وهي توجه القبلة وعدم الاعتقاد خطأ الإمام. حاصله فيما إذا جعل ظهره إلى وجه الإمام، ومع هذا صلاته فاسدة، وكان ينبغي أن يزاد فيه قيد آخر بأن يقال: لأنه متوجه إلى القبلة غير متقدم على إمامه ولا يعتقد إمامه على الخطأ، وأجاب عنه الأكمل بأنه لما علل عدم الجواز في الوجه الرابع بالتقدم على الإمام، دل على أنه مانع، فاقتصر عن ذكره في الأول اعتمادا على أنه يفهم من الثاني: " بخلاف مسألة التحري) ش: يعني إذا صلوا في ليلة مظلمة، فجعل بعضهم ظهره إلى ظهر الإمام وقد علم حال إمامه لا تجوز صلاته؛ لأنه اعتقد إمامه على الخطأ.
م: (ومن جعل منهم) ش: أي من القوم م: (ظهره إلى وجه الإمام لم تجز صلاته لتقدمه على إمامه) ش: قيد به؛ لأنه إذا كان وجهه إلى وجه الإمام جازت صلاته كما ذكرنا، وفي " الإيضاح " ينبغي لمن يواجه الإمام أن يجعل بينه وبين الإمام سترة؛ احترازا بالتشبيه بعابد الصورة.

[الحكم لو صلى الإمام في المسجد الحرام فتحلق المأمومون حول الكعبة]
م: (وإذا صلى الإمام بالمسجد الحرام فتحلق الناس حول الكعبة وصلوا بصلاة الإمام) ش: لفظ تحلق الناس جملة وقعت حالا. والجملة الفعلية الماضية إذا وقعت حالا يجوز إثبات الواو وحذفه، ولكن لا بد من قد ظاهرة أو مقدرة، والعجب من الأكمل حيث قال: فقال بعضهم أن يحلق حال بتقدير قد. فكأنه استغرب هذا، وأسنده إلى البعض مع أن معنى التركيب على هذا، وليست بجواب إذا.
وجواب إذا هو قوله م: (فمن كان منهم) ش: أي من القوم م: (أقرب إلى الكعبة من الإمام جازت صلاته إذا لم يكن في جانب الإمام) ش: لأنه مستقبل الجزء من الكعبة وليس بمتقدم على إمامه، فصار كمن صلى خلفه وهذا م: (لأن التقدم والتأخر إنما يظهر عند اتحاد الجانب) ش: لأنهما من الأسماء الإضافية فلا يظهر إلا عند اتحاد الجهة، بخلاف ما إذا كان من جهة الإمام؛ لأنه حينئذ يكون مستدبر الكعبة متقدما عليه في ذلك يخرجه من حكم الاقتداء.

م: (ومن صلى على ظهر الكعبة) ش: أي على سطحها، ولعل اختيار لفظ الظهر لورود الحديث به م: (جازت صلاته) ش: ولكن يكره، وكذا على جدارها إذا كان متوجها إلى ظهرها الذي هو سطحها، وإن حمل السطح إلى ظهرها لا تصح صلاته، ذكره في " جوامع الفقه "، وقال مالك: لو صلى على ظهر الكعبة يعيد أبدا. وقال أشهب: يعيد في الوقت. وقال ابن عبد الحكم لا يعيد. وقال صاحب " الجلاب ": تكره المكتوبة على ظهر الكعبة، وفيها وفي

(3/285)


خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الكعبة هي العرصة والهواء إلى عنان السماء عندنا دون البناء؛ لأنه ينقل، ألا ترى أنه لو صلى على جبل أبي قبيس جاز، ولا بناء يبن يديه. إلا أنه يكره لما فيه من ترك التعظيم وقد ورد النهي عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحجر م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه لم يجوزها على سطح الكعبة، إلا إذا كان بين يديه سترة متصلة، وإن كان بين يديه عصا مغروزة غير مبنية ولا مستمرة فوجهان، ولو جمع تراب السطح أو العرصة وحفر حفرة فوقف فيها أو استقبل شجرة نابتة، ولو استقبل حشيشا نابتا أو خشبة فوجهان، وقال ابن شريح: يصح في الكل، وإن وقف على طرف سطح الكعبة واستدبرها لا يجوز بلا خلاف.
م: (لأن الكعبة هي العرصة) ش: بسكون الراء م: (والهواء إلى عنان السماء) ش: بفتح العين، وفي " ديوان الأدب " العنان السحاب م: (عندنا دون البناء؛ لأنه ينقل) ش: وفي " المحيط " و" الوبري " وغيرهما القبلة هي موضع الكعبة، والعرصة مع الهواء إلى عنان السماء؛ لأن الجدران مؤلفة من الحجارة والطين والجير ونحوها، وكل ذلك مما ينقل ويحول م: (ألا ترى أنه لو صلى على جبل أبي قبيس جاز ولا بناء بين يديه) ش: وكذا لو صلى على غيره من المواضع العالية، وفي " شرح المهذب " لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - فوقف خارج العرصة واستقبلها في صلاته جازت بلا خلاف، أما إذا توقف على وسط العرصة وليس بين يديه شيء شاخص لم تصح صلاته على المنصوص، وقال ابن شريح تصح صلاته. م: (إلا أنه يكره) ش: استثناء من قوله: جازت صلته ويتذكر الضمير في أنه تأويل فعل الصلاة أو أدائها م: (لما فيه) ش: أي في المصلي على ظهر الكعبة م: (من ترك التعظيم وقد ورد النهي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي عن ترك التعظيم، وقيل: عن أداء الصلاة على ظهرها وجب النهي، رواه ابن عمر، وأخرجه الترمذي وابن ماجه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله» قال الترمذي: حديث حسن ليس إسناده بالقوي.
1 -
فروع: امرأة وقعت بحذاء الإمام وقد نوى إمامة النساء فاستقبلت الجهة التي استقبلها الإمام فسدت صلاة الكل، وإن استقبلت جهة أخرى لا تفسد، ذكره المرغيناني. وقال القرافي في " الذخيرة ": هل المشروط في الاستقبال بعض هوائها أو بعض بنائها أو جميع بنائها، فالأول: قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والثاني: قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والثالث: قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وعليه توكلي ورجائي.

(3/286)