البناية شرح الهداية

باب في المعادن والركاز قال: معدن ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو صفر وجد فيه أرض خراج أو عشر ففيه الخمس عندنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب في المعادن والركاز] [حكم زكاة المعدن والركاز ومقدار الواجب فيه]
م: (باب في المعادن والركاز) ش: أي هذا باب في بيان أحكام المعادن والركاز وإنما أخر باب المعادن عن باب العاشر لأن العشر أكثر وجودا من الخمس الذي يؤخذ من المعادن، فكان بيانه أحوج لكثرة وقوعه لأن العشر أقل من الخمس والقليل يقدم على الكثير ذاتا، فقدم بيانه، والمعادن جمع معدِن بكسر الدال في عدَن يعدِن من باب ضرب يضرب عدونا إذا أقام، ومنه جنات عدن، ومعدن كل شيء ومركزه واحد، والمعدن خاص لما يكون في باطن الأرض خلقة، والكنز خاص لما يكون موضوعا، والركاز يصلح لهما في " جمع الغرائب "، قيل: الركاز المعادن، وقيل: هو كنوز الجاهلية، والأصل فيه من ركز رمحه في الأرض إذا ثبت أصله، والكنز يركز في الأرض كما يركز الرمح، وقال ابن الأثير: الركاز: كنوز الأرض الجاهلية المدفونة في الأرض، وهي المطالب في العرف عند أهل الحجاز، وهي المعادن عند أهل العراق والقولان يحتملهما اللغة، قال: والمعدن والركاز واحد، وقال أبو خيثمة اللغوي: أركز الرجل إذا أصاب قطعا من الذهب تخرج من المعادن، قال ابن بطال: وهو قول صاحب " العين " وأبي عبيد وقال النووي: الركاز بمعنى المركوز كالكتاب بمعنى المكتوب، وفي " شرح الطحاوي " المال المستخرج من الأرض له أسماء كثيرة كنز ومعدن وركاز، فالكنز اسم لما دفنه بنو آدم. والمعدن اسم لما خلقه الله في الأرض يوم خلقها. والركاز اسم لهما جميعا، فقد يذكر ويراد به الكنز، ويذكر ويراد به المعدن. ثم المراد من الركاز في الباب الكنز، لأن الباب يشتمل على بيان المعدن والكنز، فلو أريد به المعدن يلزم محض التكرار بلا فائدة، ولهذا لقب الباب التمرتاشي باب في بيان المعدن والركاز.
وقال تاج الشريعة: الجواهر المستخرجة من الأرض تتنوع إلى مخلوق الله تعالى وإلى مدفون الناس ويعرف النوعان بأسماء ثلاثة وبالمعدن والكنز والركاز.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (معدن ذهب أو فضة أو رصاص أو حديد أو صفر) ش: بضم الصاد.
قال الجوهري: هو الذي تعمل منه الأواني، وفي " ديوان الأدب ": هو النحاس والحديد، وعن أبي عبيد جاء فيه كسر الصاد م: (وجد في أرض خراج أو عشر) ش: قيد بأرض خراج أو عشر، لأنه لو وجد في أرض مملوكة أو دار لا يجب فيه الخمس عند أبي حنيفة كما يجيء، وسواء كان الواجد مسلما أو ذميا أو صبيا أو امرأة أو عبدا أو مكاتبا م: (ففيه الخمس عندنا) ش: يعني يؤخذ الخمس من الواجد والباقي له، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو عبيد واختاره الزهري،

(3/403)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء عليه فيه، لأنه مباح سبقت يده إليه كالصيد إلا إذا كان المستخرج ذهبا أو فضة فيجب فيه الزكاة، فلا يشترط الحول في قول لأنه نماء كله والحول للتنمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويبنى على هذا مسائل وهي أن من حفر معدنا بإذن الإمام يخرج منه الخمس وباقيه له، وإن حفر فلم يصل إليه شيء، وجاء آخر فحفر ووصل إلى المعادن فهو له، لأنه الواجد، وإن اشتركا في الحفر فوجد أحدهما دون الآخر فهو للواجد، ومن تقبل من السلطان معدنا فاستأجر آخر واستخرجوا المعدن وتجب فيه الخمس والباقي للمتقبل، وإن عملوا بغير إذن المتقبل فأربعة أخماس لهم دون المتقبل، ولو باع الركاز فالخمس على المشتري ويرجع على الواجد البائع بخمس الثمن.
م: (وقال الشافعي: لا شيء عليه فيه) ش: وبه قال مالك م: (لأنه مباح سبقت يده إليه كالصيد) ش: فهو لمن أخذه م: (إلا إذا كان المستخرج) ش: بفتح الراء م: (ذهبا أو فضة فيجب فيه الزكاة) ش: وبه قال أحمد، لكن عند الشافعي في الوجوب في الذهب والفضة ثلاثة أقوال: أصحها أن الواجب فيه ربع العشر، وبه قال أحمد ومالك في رواية.
والثاني: أن الواجب فيهما الخمس مثل قولنا، وهو قول المزني.
والثالث: ما ناله بلا تعب ومؤنة ففيه العشر وما ناله بتعب ومؤنة كالمعالجة بالنار ونحوها ففيه ربع العشر، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وعن أحمد يجب في المعدن وفي كل ما يستخرج من الأرض حتى القير والكحل.
م: (فلا يشترط الحول في قول) ش: للشافعي وهذا هو الصحيح من مذهبه، وبه قال مالك وفي قول آخر: يشترط الحول لأنه كالزكاة، وفي "تتمتهم": إن قبلنا أن الواجب فيه الخمس لا يعتبر الحول قولا واحدا، وإن قلنا: إن الواجب فيه العشر فيه وجهان: أحدهما: أنه يعتبر لأنه حق يتعلق بالذهب والفضة فيعتبر فيه الحول كالزكاة.
والثاني وهو الصحيح: لا يعتبر لأنه من أموال الأرض فلا يعتبر فيه الحول كما في الحبوب المعشورة.
م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الذهب والفضة م: (نماء كله) ش: يعني النماء م: (والحول للتنمية) ش: يعني شرع الحول للتنمية، فالنماء عين النقدين فلا يجب اشتراط الحول.
فإن قلت: ذكر في جانب الشافعي عدم اشتراط الحول، ولم يذكر في جانبنا مع أن عندنا كذلك.
قلت: لأن الشافعي قائل بالزكاة، وكان عليه أن يشترط الحول فنفاه بما ذكر من الدليل، ونحن نقول بالخمس فلا يشترط فيه الحول.

(3/404)


ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وفي الركاز الخمس»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «وفي الركاز الخمس» ش: هذا رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» .
أخرجه مطولا ومختصرا، والركاز يطلق على المعدن وعلى المدفون كما ذكرنا.
وجه التمسك به أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سئل عما يوجد في الطريق المار أو الخراب البادي فقال فيه: «وفي الركاز الخمس» ، فعطف الركاز على المدفون، فعلم أن المراد منه المدفون، وفي رواية أبي هريرة «سئل ما الركاز يا رسول الله؟، قال: " الذهب الذي خلقه الله في الأرض» .
فإن قلت: لو كان الموجود في المعدن ما دون النصاب، والواجد فقير ينبغي أن لا يجب الخمس، لما أن مصرف الخمس الفقير وهو فقير كما في اللقطة، وكذلك لو كان الموجود نصابا والواجد مديونا.
قلت: الحديث عام يتناول الفقير والمديون.
فإن قلت: لو كان الواجد ذميا ينبغي أن يؤخذ منه الكل كما لو كان حربيا لأنهما في الكفر سواء لا استحقاق لهما في الغنيمة.
قلت: لا بل للذمي حق في الغنيمة، فإن أهل الذمة لو قاتلوا أهل الحرب فإنه يرضخ لهم في الغنيمة، فجاز أن يكون لهم حظ فيما له حكم الغنيمة. أما الحربي فلا حظ له فيها سواء قاتل بإذن الإمام أو بغير إذنه، فلا يعطى له من الغنيمة شيء.
فإن قلت: الجنس التي لا تجب الزكاة في عينه كالحديد ونحوه، لا يجب حق المعدن كالفيروزج.
قلت: القياس ليس بصحيح لوجود الفارق وهو أن الفيروزج لا ينطبع.
فإن قلت: احتج الشافعي لربع العشر بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أقطع لبلال بن الحارث المعادن القَبَلية وهي مواضع بناحية المدينة وأخذ فيها الزكاة ربع العشر، فيؤخذ منها ربع العشر إلى يوم القيامة، رواه مالك وأبو داود، والقَبَلية بفتح القاف والباء الموحدة، وقال البكري: هي من ناحية الفُرُع بضم الفاء والراء من أعمال المدينة، والصفراء قالوا: أعمالها من الفرع ومضافة إليها.
قلت: قال ابن عبد البر: هذا منقطع، وقال أبو عبيدة: ومع انقطاعه ليس فيه أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر بذلك، وإنما قال: يؤخذ منه.
وقال النووي في شرح "المهذب ": قال الشافعي: ليس هذا مما يثبته أهل الحديث ولو أثبتوه

(3/405)


وهو من الركز فأطلق على المعدن، ولأنها كانت في أيدي الكفرة حوتها أيدينا غلبة فكانت غنيمة، وفي الغنائم الخمس بخلاف الصيد لأنه لم يكن في يد أحد، إلا أن للغانمين يدا حكمية لثبوتها على الظاهر، وأما الحقيقية فللواجد فاعتبرنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يكن فيه رواية عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا انقطاعه، فإن الزكاة في المعدن دون الخمس ليست مروية عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال البيهقي: هو كما قال الشافعي في رواية مالك، قيل: قد اعترف الشافعي أنه لا حجة فيه ولم يثبت رفعه عنده لذكره محتجا به، فكيف له أن يجعله مذهبه بعد إقراره بذلك بغير دليل.
فإن قلت: رواه الدراوردي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه أخذ من المعادن القبلية الصدقة» موصولا. أخرجه البيهقي.
قلت: كثير مجتمع على ضعفه، لا يحتج بمثله، ذكره البزار وانفرد به أبو أشبرة، ولم يتابع على إسناده.
وقال يحيى بن معين: كثير ليس بشيء، وعن أحمد مثله، وعنه لا يساوي شيئا. وقال النسائي: متروك الحديث.
م: (وهو من الركز) ش: أي الركاز مشتق من الركز، وهو الإنبات، وهذا المعنى حقيقة في المعدن، ولأنه خلق فيها مركبا وفي الكنز مجاز للمجاوزة م: (فأطلق على المعدن) ش: لما ذكرنا فكانت إرادة المعدن من الركاز أحق للحقيقة.
م: (ولأنها) ش: أي ولأن أراضي المعدن م: (كانت في أيدي الكفرة حوتها) ش: بالحاء المهملة أي جمعتها وجازتها م: (أيدينا غلبة) ش: أي من حيث الغلبة م: (فكانت غنيمة وفي الغنائم الخمس) ش: أي الواجب أيضا في الغنائم الخمس بالنص م: (بخلاف الصيد) ش: جواب عما قاله الشافعي: أنه مال مباح سبقت يده إليه كالصيد م: (لأنه لم يكن في يد أحد) ش: أي لأن الصيد لم يكن في يد أحد فلم يدل على عدم الوجوب في الصيد على عدم الوجود في المعدن، وقياسه على الصيد قياس بالفارق وهو غير صحيح.
م: (إلا أن للغانمين يدا حكمية) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر وارد على قوله كانت غنيمة تقديره أن يقال: لو كانت هذه غنيمة عنده حتى يجب فيها الخمس كانت أربعة أخماسه للغانمين لأن الحكم في الغنيمة هكذا، فأجاب بقوله: إلا أن للغانمين يدا حكمية لا حقيقية م: (لثبوتها على الظاهر) ش: أي لثبوت اليد الحكمية على ظاهر الأرض.
م: (وأما الحقيقية فللواجد) ش: أي وأما اليد الحقيقية فللواجد، وهذا ظاهر م: (فاعتبرنا

(3/406)


الحكمية في حق الخمس، والحقيقية في حق الأربعة الأخماس حتى كانت للواجد.
ولو وجد في داره معدنا فليس فيه شيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا فيه الخمس لإطلاق ما روينا. وله أنه من أجزاء الأرض مركب فيها ولا مؤنة في سائر الأجزاء، فكذا في هذا الجزء، لأن الجزء لا يخالف الجملة بخلاف الكنز فإنه غير مركب فيها. قال: وإن وجده في أرضه. فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه روايتان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحكمية) ش: أي اليد الحكمية م: (في حق الخمس والحقيقية) ش: أي اليد الحقيقية م: (في حق الأربعة الأخماس حتى كانت) ش: أي الأربعة الأخماس- م: (للواجد) ش: إنما عملوا هكذا دون العكس، لأن الحقيقية أقوى من الحكمية ولأنهم اعتبروا اليد الحقيقية في حق الخمس مع أنه عبادة يحتاط في إثباتها يلزمنا العمل بها في حق الغانمين، وبتعطيل العمل بالشبهين حينئذ.

[حكم من وجد في داره معدنا هل عليه زكاة]
م: (ولو وجد في داره معدنا فليس فيه شيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أحمد وسواء كان الواجد مسلما أو ذميا.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (فيه الخمس) ش: للحال، وعند مالك والشافعي تجب الزكاة في الحال م: (لإطلاق ما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وفي الركاز الخمس» ولم يفصل بين الدار والأرض والحانوت والمنزل كالدار.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن المعدن م: (من أجزاء الأرض مركب فيها ولا مؤنة في سائر الأجزاء فكذا) ش: لا مؤنة م: (في هذا الجزء لأن الجزء لا يخالف الجملة) .
ش: فإن قلت: لو كان المعدن من أجزاء الأرض ينبغي أن نجوز به التيمم.
قلت: إنه جزء من [من الأرض] ولكنه ليس من جنس الأرض كالخشب وقال الأكمل: يجوز التيمم بما هو من جنسها لا من أجزائها خلقة، وهذا ليس من جنسها.
قلت: فيه تأمل لا يخفى.
م: (بخلاف الكنز فإنه غير مركب فيها) ش: كما عرفت، أي لأن اتصالها اتصال مجاورة، ألا ترى أنه لا يملكه أحد بالشراء ولم يجب عن الحديث، والجواب عنه أنه عام مخصوص منه الأحجار فخص المتنازع فيه. وقيل إن الإمام لما خصه بهذه الدار فكانت نقل بها وللإمام هذه الولاية.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (وإن وجده) ش: أي المعدن م: (في أرضه فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان) ش: في رواية الأصل: لا شيء فيه، وفي رواية " الجامع

(3/407)


ووجه الفرق على إحداهما وهو رواية الجامع الصغير أن الدار ملكت خالية عن المؤن دون الأرض، ولهذا وجب العشر والخراج في الأرض دون الدار، فكذا هذه المؤنة، وإن وجد ركازا أي كنزا وجب فيه الخمس عندهم لما روينا، واسم الركاز يطلق على الكنز لمعنى الركز وهو الإثبات ثم إن كان على ضرب أهل الإسلام كالمكتوب عليه كلمة الشهادة فهو بمنزلة اللقطة، وقد عرف حكمها في موضعه، وإن كان على ضرب أهل الجاهلية كالمنقوش عليه الصنم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصغير " فيه الخمس م: (ووجه الفرق على إحداهما) ش: أي على إحدى الروايتين م: (وهي رواية " الجامع الصغير " أن الدار ملكت خالية عن المؤن فلم يخمس دون الأرض) ش: أي بخلاف الأرض، فإن فيها مؤنة العشر والخراج فتخمس م: (ولهذا) ش: أي ولكون المؤنة فيها م: (وجب العشر والخراج في الأرض دون الدار) ش: تقرير هذا الفرق أن الإمام وإن اصطفى الأرض له لكن ما أخلاها عن المؤن حتى أوجب العشر أو الخراج فيها م: (فكذا هذه المؤنة) ش: أما الدار فقد أصفاها له عن الحقوق فكذا في حكم المعدن.
م: (وإن وجد ركازا) ش: أي كنزا إنما فسر بهذا لأن الركاز اسم مشترك بين المعدن والكنز، وقد فرغ من بيان المعدن وأراد به الكنز م: (وجب فيه الخمس عندهم) ش: أي عندنا وعند الشافعي أيضا م: (لما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «في الركاز الخمس» فإن قلت: في هذا التمسك يلزم تعميم المشترك وهو لا عموم له، لأنه استدل بهذا الحديث على وجوب الخمس في المعدن، واستدل به أيضا على وجوب الخمس في الكنز، ولفظ الركاز مشترك بين المعدن والكنز، كما قال أيضا هنا بقوله.
م: (واسم الركاز يطلق على الكنز لمعنى الركز فيه) ش: أي في الركاز م: (وهو الإثبات) ش: وفي المعدن هذا المعنى أيضا، والجواب عن السؤال المذكور أن هذا مشترك معنوي، فإن الركز لغة الإثبات، والركز تثبت فيتناول المعدن والكنز بالمعنى العام، فكان كل واحد من أنواع العام لا من أنواع المشترك، ونظير هذا قوله عز وجل: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] (سورة الجمعة: الآية: 9) فإنه يتناول البيع والشراء وكلاهما مراد المعنى العام وهو مبادلة المال بالمال.
فإن قلت: المراد بالركاز المعدن بدليل العطف في الحديث الذي مضى، قلت: العطف لا يمنع دخول الكنز فيه لجواز أن يكونه تعميما بعد التخصيص كما في قَوْله تَعَالَى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] (سورة نوح: الآية: 28) .
م: (ثم إن كان) ش: أي الكنز م: (على ضرب أهل الإسلام كالمكتوب عليه كلمة الشهادة فهو بمنزلة اللقطة) ش: في الحكم م: (وقد عرف حكمها) ش: أي حكم اللقطة م: (في موضعه) ش: في كتاب اللقطة م: (وإن كان على ضرب أهل الجاهلية كالمنقوش عليه الصنم) ش: وهو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم ولا صورة فهو وثن، وقال ابن الأثير: الصنم ما اتخذ إلها من

(3/408)


ففيه الخمس على كل حال لما بينا.
ثم إن وجده في أرض مباحة فأربعة أخماسه للواجد لأنه تم الإحراز منه إذ لا علم به للغانمين فيختص هو به، وإن وجده في أرض مملوكة فكذا الحكم عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الاستحقاق بتمام الحيازة وهي منه. وعند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- هو للمختط له وهو الذي ملكه الإمام هذه البقعة أول الفتح، لأنه سبقت يده إليه وهي يد الخصوص فيملك به ما في الباطن، وإن كانت على الظاهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دون الله تعالى م: (ففيه الخمس على كل حال) ش: يعني كان الموجود ذهبا أو فضة أو رصاصا أو غيرها، وسواء كان الواجد صغيرا أو كبيرا أو عبدا مسلما أو ذميا ذكرا كان أو أنثى، وسواء وجده في دار أو أرض أو موات إلا إذا كان الواجد حربيا أو مستأمنا فيؤخذ منه، إلا إذا كان الإمام أقطعه إياه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون عند شروطهم» ، غير أنه إن وجده في أرض مملوكة اختلف أصحابنا فيمن يستحق أربعة الأخماس فإنه لا خلاف في وجوب الخمس م: (لما بينا) ش: أي لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وفي الركاز الخمس» .

م: (ثم إن وجده) ش: أي الكنز م: (في أرض مباحة) ش: كالمفاوز والجبال وغيرها م: (فأربعة أخماسه للواجد، لأنه تم الإحراز منه) ش: من أحرزت الشيء أُحرزه إحرازا إذا حفظه وضمه إليه وصانه عن الأخذ م: (إذ لا علم به للغانمين) ش: هذا الدليل لقوله: لأنه تم الإحراز منه أي من الواجد المذكور. قوله: به أي بإحراز الواجد، فإذا كان كذلك م: (فيختص هو به) ش: أي فيختص الواجد بالذي أحرزه، والأصل فيه أن الغانمين لهم الاستيلاء، والإحراز به، ولكن هذا الواجد سبقهم بالإحراز فاختص بما بقي من الخمس وهو أربعة أخماس.
فإن قلت: إحراز هذا المحرز ليس بموجود فكيف وجب فيه الخمس.
قلت: ابتداء الأخذ جهارا، فالواجب كذلك.
م: (وإن وجده في أرض مملوكة فكذا الحكم) ش: أي فكالمذكور من الحكم هنا، يعني: يؤخذ منه الخمس، والباقي له م: (عند أبي يوسف، لأن الاستحقاق بتمام الحيازة) ش: من حازه يحوزه إذا قبضه، وملكه واستبد به م: (وهي منه) ش: أي الحيازة الناشئة من الواجد.
م: (وعند أبي حنيفة، ومحمد -رحمهما الله- هو للمختط له) ش: أي الذي اختط له، وفسره بقوله: م: (وهو الذي ملكه الإمام هذه البقعة أول الفتح) ش: يعني يوم الفتح، وذلك أن الإمام إذا فتح بلدة يجعل لكل واحد من الغانمين ناحية، ويجعل تلك الناحية له، ويجعل عليها علامة يخط عليها خطا ليعلم أنه قد احتازها ومنه سميت خطط البصرة، والكوفة وهي جمع خطة بالكسر م: (لأنه سبقت يده إليه) ش: أي إلى الذي أخذه م: (وهي يد الخصوص) ش: يعني اختصت يده به لسبقه إليه م: (فيملك به) ش: أي بالخصوص م: (ما في الباطن) .
م: (وإن كانت) ش: يده م: (على الظاهر) ش: كلمة إن للوصل، أي يد الخصوص هذا

(3/409)


كمن اصطاد سمكة في بطنها درة ملك الدرة ثم بالبيع لم تخرج عن ملكه لأنه مودع فيها بخلاف المعدن، لأنه من أجزائها فينتقل إلى المشتري، وإن لم يعرف المختط له يصرف إلى أقصى مالك يعرف في الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المجموع لدفع شبهة أوردها شيخ الإسلام في "مبسوطه "، وملخصها أن يد المختط له ثابتة من وجه من حيث إن اليد على الظاهر تدل على الباطن تقديرا، واليد الحكمية لا تثبت الملك كما في حق الغانمين، فإن لهم يدا ثابتة على ما في الباطن، ومع هذا لم يصر ملكا لهم، والجواب أن يد المختط له يد خاصة، واليد الحكمية إذا كانت بهذه المثابة يثبت الملك في المباح كما في المعدن، ألا ترى أن تصرف الغازي بعد القسمة نافذ، وقبلها غير نافذ لثبوت اليد الحكمية على الخصوص.
م: (كمن اصطاد سمكة في بطنها درة ملك الدرة ثم بالبيع) ش: أي بيع السمكة م: (لم تخرج الدرة عن ملكه لأنه مودع فيها) ش: أي في السمكة هكذا فسر الأترازي هذا الموضع، حيث قال: كمن اصطاد سمكة في بطنها درة فباع السمكة لا تخرج الدرة عن ملك الصياد، بخلاف المعدن كما ذكره في المتن، قال السغناقي: ثم بالبيع أي بيع الأرض التي تحتها كنز لم يخرج عن ملكه بلفظ التذكير، أي لم يخرج الكنز عن ملكه بدلالة قوله لأنه بالتذكير ولم يقل: "لأنها" حتى ترجع إلى الدرة، لأنه مودع فيها، أي لأن الكنز مودع في الأرض، وكذا فسره الكاكي تبعا له، وهو الصواب.
ثم ذكر شيخ الإسلام في مسألة الدرة فقال في ظاهر الرواية لم يفصل بين كون الدرة مثقوبة أو لا، وقيل: إن كانت مثقوبة لم تدخل في ملك المشتري لأنها بمنزلة الكنز، وإن كانت غير مثقوبة تدخل كمن اصطاد سمكة فوجد في بطنها عنبرا، لأنه حشيش يأكله السمك فيكون تبعا له. وفي " المحيط ": إن كانت الدرة في الصدف فهي للمشتري، لأن السمك يأكل الصدف، وكل ما يأكله بالسمك فهو للمشتري، ولو اشترى جملا فوجد في بطنه دينارا لم يكن له لأنه لا يأكله عادة.
م: (بخلاف المعدن لأنه من أجزائها فينتقل إلى المشتري) ش: يعني بانتقال الأرض إليه لأنه من عروق الأرض.
م: (وإن لم يعرف المختط له يصرف إلى أقصى مالك يعرف له في الإسلام) ش: يعني لم يعرف المختط له ولا دراية يصرف إلى آخره، وهو اختيار السرخسي، وذكر أبو اليسر يوضع في بيت المال، كذا ذكره التمرتاشي هذا إذا لم يقل مالك الأرض: أنا وضعته، فإن ادعاها فالقول قوله بالاتفاق، وإن تصادقا أنه كنز فيه خلاف أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المالك أولى إذا ادعاه، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن نازعه غيره كان المالك أولى، لأن الظاهر أن ما ملكه له، ولو لم يدعه ولم يعرف عامرها

(3/410)


على ما قالوا، ولو اشتبه الضرب يجعل جاهليا في ظاهر المذهب لأنه أصل. وقيل: يجعل إسلاميا في زماننا لتقادم العهد،
ومن دخل دار الحرب بأمان فوجد في دار بعضهم ركازا رده عليهم تحرزا عن الغدر، لأن ما في الدار في يد صاحبها خصوصا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظاهر الذهب أنه يجعل لقطة يعرفه سنة، ويمتلكه، وعن القفال أنه مال ضائع يدفعه إلى الإمام ليضعه في بيت المال، ولو كانت الأراضي في يده بإعارة أو إباحة، وادعى أن المال له فهو أولى، ولو نازعه منازع، فالقول له مع اليمين بشرط الإمكان، لأنه صاحب اليد، وقال المزني: المالك أولى، لأن الدفين تابع للأرض، وفي اعتبار النصاب قولان:
أحدهما: لا يعتبر كقولنا لعموم الحديث وفي الجديد: يعتبر ذكره في " الأم "، وكذا في " الحلية " م: (على ما قالوا) ش: أي المتأخرون.
م: (ولو اشتبه الضرب) ش: بأن لم يعرف هل هو ضرب الإسلام أو ضرب الجاهلية م: (يجعل جاهليا في ظاهر المذهب، لأنه الأصل) ش: أي لأن الجاهلي هو الأصل يقدم م: (وقيل: يجعل إسلاميا) ش: أي يجعل إسلاميا م: (في زماننا لتقادم العهد) ش: أي في الإسلام، فالظاهر أنه ليس بمدفون الكفار، حتى لو علم أنه مدفونهم يخمس، والباقي للواجد، أي من كان فيها، لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل كذلك، إلا أن يكون حربيا، وقال الشافعي: لقطة ما يعرفها سنة.

[حكم من دخل دار الحرب بأمان فوجد في دار بعضهم ركازا]
م: (ومن دخل دار الحرب بأمان فوجد في دار بعضهم ركازا) ش: وفي " المحيط ": وضع محمد هذه المسألة في " الجامع " في الركاز، قال شيخ الإسلام: أراد بالركاز معدنا لا الكنز، والقدوري وضعها في الكنز فهذا أبين لك أن الكنز والمعدن في هذه الصورة سواء.
وقال الأترازي: هاهنا اعلم أن الداخل في دار الحرب إذا وجد ركازا أو معدنا أو كنزا فإن وجده في الصحراء فهو له بلا خمس، سواء دخل بأمان أو بغير أمان، انتهى.
قلت: المصنف قيد بقوله: إذا وجد في دار أحدهم، لأنه إذا وجد في الصحراء في غير ملك أحدهم، فهو له، ولا يخمس، دخل بأمان أو بغير أمان وبه قال ابن الماجشون من المالكية، وفي " القنية ": إن دخلها بأمان وأخرجه ملكه، ولا يطيب له، وقال الشافعي: إن وجد في دار الحرب في موات لا يدبرون عنه ففيه الخمس، والباقي له، وكذا إذا كانوا يدبون عنه في الصحيح، وقال مالك: هو بين الجيش، وقال الأوزاعي: هو بين الجيش بعد إخراج الخمس.
م: (رده عليهم) ش: أي على أهل الحرب م: (تحرزا عن الغدر) ش: أي لأجل الاحتراز عن الغدر الذي هو حرام لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة» م: (لأن ما في الدار في يد صاحبها خصوصا) ش: أي من حيث الخصوص يعني مختص به ليس لغيره.

(3/411)


وإن وجده في الصحراء فهو له لأنه ليس في يد أحد على الخصوص فلا يعد غدرا ولا شيء فيه، لأنه بمنزلة متلصص غير مجاهر.
قال: وليس في الفيروزج الذي يوجد في الجبال خمس لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا خمس في الحجر»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن وجده في الصحراء) ش: أراد به المفازة وموضعها لا ملك لأحد فيه م: (فهو له) ش: أي كله له ولا يخمس وعند الشافعي يخمس م: (لأنه ليس في يد أحد على الخصوص فلا يعد غدرا) ش: فإن قيل: يدهم ثابتة على الصحراء، فإن المستأمن لو وجد شيئا من ذلك في دارنا في الصحراء لا حق له فيه لثبوت يدنا عليه حكما. فيجب أن يكون كذلك وما وجد المستأمن هنا في دارهم قلنا: اليد على ما في الصحراء ثبتت حكما لا حقيقة، وأجيب بأن دارنا دار أحكام فتعتبر اليد الحكمية فيها بخلاف دارهم فإنها دار قهر لا حكم فتعتبر فيها اليد الحقيقية لا الحكمية وذلك لم يوجد على ما في الصحراء كذا في " جامع شمس الأئمة ".
وفي " شرح الطحاوي ": وأما إن أصاب الأسير في دار الحرب المسلم والذمي الذي لم يهاجر إلينا من كنز أو معدن فهو كالمستأمن إلا فيما أصابا في ملك الحربي فهو لهما بلا عشر ولا خمس، وإذا أخرجاه فلا بأس للمستأمن أن يتخلص ما في أيديهم بوجه ما في حر مسلم أو ذمي أو مكاتب أو مدبر أو أم ولد المسلم ويقاتلهم حتى يستنقذهم، وإن أتى ذلك على قتل بعضهم لأن هؤلاء لا يجزئ عليهم.
لهذا لو أسلموا كانوا ظالمين في إمساكهم.
م: (ولا شيء فيه) ش: أي لا خمس فيه م: (لأنه بمنزلة متلصص غير مجاهر) ش: أي لأن هذا الواجد في الصحراء والمتلصص الذي يتلصص أي مباشرا للصوص خفية من غير استيلاء وهو معنى قوله غير مجاهر.

م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (وليس في الفيروزج الذي يوجد في الجبال خمس) ش: إنما قيد بقوله- في الجبال- احترازا عما يوجد هنا أو غيره مما ذكره بعد من الزئبق واللؤلؤ في خزائن الكفار قهرا فإنه يخمس بالاتفاق لأن مال الغنيمة كسائر الأموال م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا خمس في الحجر» .
هذا رواه ابن عدي في " الكامل " عن عمر بن أبي عمر الكلاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في الحجر» وضعف ابن عدي عُمَرَ بنَ أبي عمر وقال: إنه مجهول لا أعلم من حدث عنه غير بقية فأحاديثه منكرة وغير محفوظة، وأخرجه أيضا عن محمد بن عبد الله العرزمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ونقل تضعيف العرزمي عن البخاري وابن معين والنسائي والفلاس ووافقهم فيه وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن عكرمة قال: «ليس في حجر اللؤلؤ ولا حجر الزمرد زكاة إلا أن يكون للتجارة، فإن كان للتجارة

(3/412)


وفي الزئبق الخمس في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرا، وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف ولا خمس في اللؤلؤ والعنبر عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ففيه الزكاة.»
وقال السغناقي: لا خمس في الحجر، والفيروزج حجر لأنه لا ينطبع ويجوز التيمم به إلا أن بعض الأحجار أضوأ من بعض، وذكر في " المبسوط ": لا زكاة في الحجر وهو معرب - بيروزة.

[حكم الزكاة في الزئبق ومقدارها]
م: (وفي الزئبق الخمس) ش: أي إن الزئبق يجب فيه الخمس وهو فارسي معرب وقد عرب بالهمزة وبفتح الباء الموحدة، ومنهم من يقول بكسر الباء بعد الهمزة م: (في قول أبي حنيفة آخرا وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف) ش:.
كان أبو حنيفة يقول أولا: لا شيء فيه، وفي قوله الأول كان يقول أولا: لا شيء فيه وحكي عن أبي يوسف أن أبا حنيفة كان يقول أولا: لا شيء فيه، وكنت أقول: فيه الخمس فلم أزل أناظره وأقول يلزماه كالرصاص حتى قال: فيه الخمس، ثم رأيت أن لا شيء فيه ثم رأيت الحاصل أن على قول أبي حنيفة الآخر وهو قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد فيه الخمس، وعلى قول أبي يوسف الآخر وهو قول أبي حنيفة الأول لا شيء فيه لأنه ينبع من عينه ولا ينطبع بنفسه فهو كالقير والنفط.
وقال التمرتاشي: قال أبو يوسف: لا يخمس وهو معين بدليل أنه يستسقي بالدلاء فصار كالنفط، ولهما أنه جوهر أذابته حرارة الأرض ومعدنه فصار كما لو أذيب بالنار.
م: (ولا خمس في اللؤلؤ والعنبر عند أبي حنيفة ومحمد) ش: اللؤلؤ بهمزتين وبواوين واللام، والثانية بالواو والأولى بالهمزة، وبالعكس، قال: في اللؤلؤ أربع لغات قيل: لا يقال بتخفيف الهمزة لغة، واللؤلؤ مطر الربيع يقع في الصدف فيصير لؤلؤا، فعلى هذا أصله ماء ولا شيء في الماء.
وقيل: إن الصدف حيوان يخلق فيه اللؤلؤ والعنبر، قيل: إنه ينبت في البحر بمنزلة الحشيش في البر: هكذا رواه ابن رستم عن محمد، وقيل: إنه شجيرة تنكسر فيلقيها الموج إلى الساحل وليس في الأشجار شيء، وقيل: إنه خثي دابة، وليس في أخثاء الدواب شيء، ذكر ذلك كله في " المبسوط "، وقيل: يخرج من عين في البحر، وقيل: العنبر نبت يكون في قعر البحر فربما يبتلعه الحوت فإذا استقر في بطنه لفظه لمرارته وما لم يبتلعه الحوت فهو الجيد، وقيل: إنه زبد البحر، وقالوا: إن البحر إذا تلاطمت فيه الأمواج صار منها الزبد فلا يزال يضرب الريح بعضها على بعض حتى يمكث ما صفي في الزبد فينعقد عنبرا ثم يتجمد فيقذفه إلى الساحل ويذهب ما لا ينتفع به من الزبد جفاء، وإليه أشار الله تعالى في كتابه {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]

(3/413)


وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما وفي كل حلية تخرج من البحر خمس، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ الخمس من العنبر، ولهما أن قعر البحر لم يرد عليه القهر فلا يكون المأخوذ منه غنيمة، وإن كان المأخوذ ذهبا أو فضة. والمروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما دسره البحر وبه نقول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(الرعد: الآية 17) ، ولا خمس في الماء والزبد منه.
م: (وقال أبو يوسف: فيهما) ش: أي يجب الخمس فيهما أي في اللؤلؤ والعنبر م: (وفي كل حلية) ش: أي يجب الخمس أيضا في كل حلية م: (تخرج من البحر خمس) ش: الحلية على وزن فعلة بالكسر وهي ما يزين به من الذهب والفضة وغيرهما، وفي " المبسوط " قال مشايخنا: لو وجد الذهب والفضة في قعر البحر لم يجب فيه شيء، لأن ما في البحر ليس في يد أحد قط لأن قعر البحر يمنع قهر غيره م: (لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ الخمس من العنبر) ش: هذا غريب عن عمر بن الخطاب وإنما هو عن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل أن عمر بن العزيز أخذ الخمس، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" حدثنا وكيع عن سفيان عن ليث أن عمر بن عبد العزيز خمس العنبر.
فإن قلت: روى أبو عبيد في " كتاب الأموال " أخبرنا نعيم بن حماد عن عبد العزيز بن محمد عن رجاء بن روح عن رجل قد سماه عبد العزيز عن ابن عباس عن يعلى بن أمية قال: كتب إلي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن آخذ من العنبر العشر.
قلت: قال أبو عبيدة: هذا إسناده ضعيف، وقول أبي يوسف هو قول الحسن البصري والزهري وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أن قعر البحر لم يرد عليه القهر) ش: يعني بالاستيلاء لعدم القدرة م: (فلا يكون المأخوذ منه غنيمة) ش: ولا شيء فيه م: (وإن كان المأخوذ ذهبا أو فضة) ش: واصل بما قبله.
م: (والمروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا جواب عن استدلال أبي يوسف لقوله لأن عمر أخذ الخمس في العنبر وهو دون الذي روي عن عمر م: (فيما دسره البحر) ش: أي دفعه ورماه إلى البر م: (وبه نقول) ش: أي بوجوب الخمس في العنبر الذي دسره البحر نقول، فلم يبق حينئذ حجة لأبي يوسف في حديث عمر.
وقال السغناقي: لكن لا يتم دفع قول أبي يوسف بمطلق ما ذكر في " الكتاب " من دسر البحر الذي يجب فيه الخمس، فإن في حديث ابن عباس كان العنبر مما دسره البحر أيضا على ما ذكره في " المبسوط "، ونفى الخمس عنه فلا بد من زيادة القيد الذي يوجب الخمس ليفيد دخول دسر البحر في حديث عمر وهو أن يقال: والمروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما دسره

(3/414)


متاع وجد ركازا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البحر الذي من دار الحرب فدخل الجيش دار الحرب فوجدوه على ساحل بحر دار الحرب فأخذوه فكان غنيمة فيجب الخمس.
وأما حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ففيما دسره البحر الذي في دار الإسلام وأخذه واحد من الناس أو فيما دسره البحر الذي في دار الحرب ولكن أخذه واحد من المسلمين فلا خمس فيه لأنه بمنزلة المتلصص لا كالمجاهد، فليس فيما أخذ المتلصص خمس، انتهى.
قلت: هذا التطويل لا يفيد.
أما الأثر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يثبت كما ذكرنا، بل روي عنه خلافه كما مر.
وأما أثر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن أبا عبيد روى عن ابن أبي مريم عن داود بن عبد الرحمن العطار سمعت عمرو بن دينار يحدث عن ابن عباس قال: ليس في العنبر خمس، وروى عنه خلافه، رواه عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد -وكان عاملا بعدن - سأل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن العنبر فقال: إن كان فيه شيء فالخمس، واستدل الأترازي لأبي يوسف بقوله: ما روي أن يعلي بن أمية كتب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في عنبرة وجدت على ساحل البحر فكتب إليه: ذلك سيب من سيب الله يؤتيه من يشاء، فيها وفيما دسره البحر الخمس، انتهى.
قلت: لم يبين من روى هذا من أهل الحديث وهل هو حديث صحيح أو ضعيف مع أن له دعوى عريضة في هذا الباب ولم يبن السبب ما هو ووضع نقطة واحدة بعد السين تحت الباء فيكون الناظر فيه أنه سبب بباءين موحدتين وليس هو إلا سيب بفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة.
وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السيوب جمع سيب يريد به المال المدفون في الجاهلية أو المعدن، وقال ابن الأثير: السيوب في الأصل م: (الركاز) ش: وقيل: السيوب عروق من الذهب والفضة تسيب في المعدن أي يكون فيه ويظهر، انتهى.
قلت: ذكر الأترازي هذا الأثر حجة لأبي يوسف غير مناسب لأنه لا يطابق قول أبي يوسف في أخذ الخمس في العنبر على ما لا يخفى على المتأمل.
م: (متاع وجد ركازا) ش: متاع مبتدأ نكرة تخصص بالصفة، وقوله -ركازا- نصب على الحال أي وجد المتاع حال كونه ركازا لا حال كونه لقطة ولا حال كونه موضوعا في البيت وغيرهما من النقدين والاسم بمنزلة المصدر في باب الحال كما تقول: هذا بسرا أطيب منه رطبا،

(3/415)


فهو للذي وجده وفيه الخمس، معناه إذا وجد في أرض لا مالك لها لأنها غنيمة بمنزلة الذهب والفضة والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأبهم الركاز ولم يفسره كما فسره فيما قبل.
وفسره الأترازي بقوله -متاع وجد ركازا- أي كنزا، يعني إذا وجد كنز متاع في أرض غير مملوكة يجب فيه الخمس، وقال تاج الشريعة: ألفاظ المشايخ في تفسير المتاع مختلفة لكن الصحيح أنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد كل ما يتمتع به ثيابا أو أثاثا أو طعاما أو آنية ذهبا أو فضة أو رصاصا أو حديدا. وقال السغناقي: المتاع ما يتمتع به في البيت من الرصاص ونحوه، وقيل: المراد به الثياب، قال: وتفسيرهم بالذهب والفضة مما لا يكاد يصح، لأنه يقع تكرارا محضا من غير فائدة في حق الذهب والفضة، وإن لفظ الكتاب وهو قوله- لأنه غنيمة بمنزلة الذهب والفضة يقتضي أن يكون المراد بالمتاع الذهب والفضة.
قلت: روي في " الإمام " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الركاز الذهب الذي ينبت بالأرض» ، ورواه البيهقي في " المعرفة " وفيه أبو يعلى جبار بن علي العنزي، قال يحيى: صدوق وقال أبو زرعة: لين، ورواه البيهقي أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الركاز الخمس" قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: "الذهب الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت» . وذكره في " الإمام " أيضا ولم يتكلم عليه فدل على صحته.
م: (فهو للذي وجده) ش: خبر المبتدأ م: (وفيه الخمس) ش: أي يجب فيه الخمس م: (معناه إذا وجد في أرض مالك لها) ش: قيد بقوله: لا مالك لها لأنه إذا كان لها مالك فالحكم فيه ما ذكر في الذهب والفضة م: (لأنها غنيمة بمنزلة الذهب والفضة) ش: يدل عليه حديث أبي هريرة المذكور آنفا.

(3/416)