البناية شرح الهداية

باب من يجوز دفع الصدقات إليه ومن لا يجوز قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] (التوبة: الآية 60) فهذه ثمانية أصناف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب من يجوز دفع الصدقات إليه ومن لا يجوز] [الفقير والمسكين من مصارف الزكاة] [الفرق بين الفقير والمسكين]
م: (باب من يجوز دفع الصدقات إليه ومن لا يجوز) ش: أي هذا باب في بيان من يجوز دفع الزكاة إليه ومن لا يجوز دفعها إليه، لما فرغ من بيان أنواع الزكاة وبيان المعدن والركاز، شرع في بيان مصارفها ممن هو منها وممن ليس منها.
وقال تاج الشريعة: لما فرغ من بيان السبب وقدر الواجب والنصاب المطلق والمقيد شرع في بيان مصارفها، ولم يقدم صدقة الفطر للتفاوت في مصرفها، فإن صدقة الفطر يجوز دفعها إلى الذمي.
م: (الأصل فيه) ش: أي من يجوز الصرف إليه م: (قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية (التوبة: آية60)) ش: يجوز في الآية الرفع والنصب، أما الرفع فعلى الابتداء وخبره محذوف، وتقديره الآية بتمامها، وأما النصب فعلى المفعولية، والتقدير اقرأ الآية.
قوله: إنما، كلمة حصر وقصر، والقصر تخصيص أحد الأمرين بالآخر وحصره فيه، قال علماء المعاني والبيان: إنما لحصر الشيء في الحكم كقولك إنما زيد منطلق، أو لحصر الحكم في الشيء، كقولك إنما المنطلق زيد، لأن كلمة إن للإثبات، وما للنفي ليقتضي إثبات المذكور ونفي ما عداه، ومعنى الآية، والله أعلم: الصدقات للأصناف المذكورة لا لغيرهم، كقولك: إنما الخلافة لقريش أي لهم لا لغيرهم، ثم ذكر الأربعة الأولى باللام والأربعة الأخيرة بفي للأبدان بأنه أرجح في استحقاق التصدق عليهم بمن استحق ذكره لأن في الرعاية على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر.
قلت: وفي الغارمين من الغرم من التخليص والإبعاد، جمع الغارم الفقير والمنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل فيه فضل وترجيح لهذين على الرقاب، والغارمين. م: (فهذه ثمانية أصناف) ش: أي المذكورون في الآية الكريمة ثمانية أصناف، وهو جمع صنف بكسر الصاد. قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الصنف النوع والضرب. والصنف بالفتح لغة فيه.
فإن قلت: الصدقات جمع قلة والفقراء والمساكين جمع كثرة فكيف يناسب قسمة القليل على الكثير.
قلت: جمع القلة إذا دخله لام التعريف كان للكثرة والاستغراق، وأيضا جمع القلة يستعمل للكثرة وبالعكس قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ} [لقمان: 27] .

(3/442)


وقد سقط منها المؤلفة قلوبهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] م: (وقد سقط منها) ش: أي من الثمانية أصناف، م: (المؤلفة قلوبهم) ش: وهم ثلاثة عشر رجلا ذكرهم الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر المديني في "أماليه" عند ذكر عدي بن قيس، وهم: أبو سفيان بن حرب من بني أمية، والحارث بن أبي هشام، وعبد الرحمن بن يربوع من بني مخزوم، وحكيم بن حزام بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى، وصفوان بن أمية من بني جمح، وعدي بن قيس من بني سهم، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى بن عامر بن لؤي، والعلاء بن جارية من ثقيف، والعباس بن مرداس من بني سليم، وعيينة بن حصن من بني بدر من فزارة، ومالك بن عوف من بني حنظلة، والأقرع بن حابس فأعطاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة مائة من الإبل إلا حويطب بن عبد العزى وعبد الرحمن بن يربوع أعطاهما خمسين خمسين من الإبل.
وذكر فخر الإسلام: زيد الخير، وعلقمة بن علاثة منهم، وفي الكامل للمبرد: أنه جيء من اليمن بذهب فقسمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرباعا أعطى ربعا الأقرع بن حابس المجاشعي وربعا زيد الخير الطائي وربعا علقمة بن علاثة، وربعا عيينة بن حصن الفزاري وكانوا من المؤلفة، ومنهم أبو سفيان واسمه صخر بن حرب وصفوان بن أمية، وأعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزبرقان بن بدر بن امرئ القيس، وكان يقال له: قمر نجد لحسنه وجماله أسلم سنة تسع، فولاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة قومه، وأقره عليها أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ومنهم عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ومنهم عباس بن مرداس السلمي وأعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا سفيان وصفوان والأقرع وعيينة وعباسا كل واحد منهم مائة من الإبل. وقال صفوان بن أمية: «لقد أعطاني ما أعطاني، وهو أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى كان - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أحب الناس إلي» رواه مسلم، قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هؤلاء كلهم صحابة. وفي " المحيط " و" المبسوط ": كان - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يعطيهم سهما من الصدقة يتألفهم على الإسلام.
وقيل: كانوا قد أسلموا، وقيل: كانوا وعدوا بالإسلام، وقيل: قوما يرجى خيرهم وينتصر بهم على غيرهم من الكفار، وضرب منهم يخاف شره، وفي " المنافع ": المؤلفة قلوبهم أصناف ثلاثة: صنف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتألفهم ليسلموا أو يسلم قومهم بإسلامهم. وصنف أسلموا وفي إسلامهم ضعف فيريد بذلك تقريرهم على الإسلام، وصنف يعطيهم لدفع شرهم.
فإن قيل: ما وجه إعطائه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إياهم خوفا من شرهم والأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - لا يخافون أحدا سوى الله عز وجل؟
قيل لهم: ما كان ذلك للخوف منهم بل كان خشية أن يكبهم الله عز وجل على وجوههم

(3/443)


لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم وعلى ذلك انعقد الإجماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في نار جهنم.
فإن قلت: من أي المال كان يعطيهم؟
قلت: كان يعطي المؤلفة من الزكاة، والذي كان أعطى عدي بن حاتم والزبرقان من خمس الخمس، والذي أعطى من كان أقعدهم عن الجهاد الضعف من سهم الغزاة، وقيل: من سهم المؤلفة، والذي أعطى من كان يؤخذ منهم الزكاة، ويحمل إليه من الزكاة، وقيل: من سهم الغنيمة.
م: (لأن الله تعالى أعز الإسلام وأغنى عنهم) ش: أي عن المؤلفة بالقهر وقوة الإسلام، وكان سقوط ما كان يعطي للمؤلفة في خلافة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال الإمام الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي " كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيهم ليؤلفهم على الإسلام، فلما قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءوا إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فاستبدلوا منه حظا لسهامهم فبدل لهم الحظ، ثم جاءوا إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبروه بذلك فأخذ الحظ من يدهم ومزقه وقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم فقد أعز الله دينه، فليس بيننا وبينكم إلا السيف أو الإسلام، فانصرفوا إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا: أنت الخليفة أم هو؟ قال: هو إن شاء الله، ولم ينكر عليه، بطل حقهم من ذلك اليوم، وبقى سبعة.
وعن أبي عبيدة أنه قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالا: يا خليفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إيانا وأشهد عمر فكتب لهما عليها كتابا وليس عمر في القوم، فانطلقا إليه، فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما فتفل فيه فمحاه، فندموا وقالوا مقالة سيئة، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتألفكم والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أعز الإسلام، اذهبا واجهدا جهدكما لا أدعو الله عليكما.
وروى أنهما ذكرا ذلك لأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالا له: أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: هو إن شاء الله ولم ينازعه، ولم ينكر أبو بكر ذلك من عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكان اتفاقا منهما على قطع ذلك وبقي للمستوجبين الاقتداء بهما حجة، وتابعهما الصحابة في ذلك، فكان إجماعا.
وأشار المصنف إلى ذلك بقوله: م: (وعلى ذلك) ش: أي على سقوط سهم المؤلفة م: (انعقد الإجماع) ش: أي إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - السكوتي حتى لا يرد عليه قول الحسن البصري والزهري ومحمد بن علي وأبي عبيد وأحمد والشافعي في قول أن سهم

(3/444)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المؤلفة لم يسقط، وبه قالت الظاهرية.
فإن قلت: كيف تصرف الزكاة لهم وهم كفار:
قلت: الجهاد واجب على فقراء المسلمين، وأغنيائهم لدفع شرهم، فكان يدفع إليهم سهم من سهام الفقراء فكان ذلك قائما مقام الجهاد في ذلك الوقت لعجز الفقراء عنه، ثم سقط لعدم الحاجة إلى جهاد الفقراء لكثرة أولي القوة والنجدة من المسلمين.
فإن قلت: لا يجوز النسخ بالإجماع بل لا يتصور، لأن حجية الإجماع بعد وفاته - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وروي عن عكرمة أن الصدقات كانت تفرق على الأصناف الثمانية، وكيف انتسخت المؤلفة بالإجماع.
قلت: فيه أجوبة:
الأول: يجوز أن يكون في ذلك نص علمه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الثاني: أنه ليس من باب النسخ بل من انتهاء العلة الداعية إليه، وقد كانوا يعرفون الداعي إلى الحكم، فلما زال الداعي على خلاف ذلك الحكم زال الحكم.
الثالث: أنه إنما كان يدفع إليهم ذلك لقلة عدد المسلمين وكثرة عدد الكفار دفعا للصغار عن بيضة الإسلام، فلما وقع الأمن من شرهم كان الدفع ذلا وصغارا، فيعود الأمر على موضعه بالنقض، وهذا في الحقيقة هو الجواب.
الرابع: ذكر شمس الأئمة، وفخر الإسلام، أن بعض المشايخ يجوز النسخ بالإجماع، لأنه موجب على اليقين كالنص، فيجوز النسخ به، والإجماع أقوى من الخبر المشهور، فإذا جاز النسخ بالمتواتر والمشهور، فبالإجماع أولى، وما شرطوا حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجواز النسخ، فإن النسخ بالمتواتر والمشهور يجوز، ولا يتصور هذا إلا بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قلت: ما وجه ما يعمل بسهمهم الذي سقط.
قلت: أما عندنا فينضم إلى سهام البقية من الثمانية ولا يعطى مشرك بحال من الأحوال، وهو قول عمر وعلي وعثمان والحسن والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في قول، وفي قول عنه يعطى كفارهم من غير الزكاة من الصفي فكان نصيب كفارهم ساقطا عنده من الزكاة قولا واحدا، وأما مسلموهم فأربعة أصناف قوم شرفاء قومهم وقوم بنيتهم ضعيفة ففيهما له قولان.
أحدهما: أنهم لا يعطون.

(3/445)


والفقير من له أدنى شيء، والمسكين من لا شيء له، وهذا مروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثاني: أنهم لا يعطون، ومن أي شيء يعطون فيه قولان، أحدهما من الصدقات، والثاني من خمس الغنيمة، وقوم بإزاء الكفار، ولهم قوة وشوكة إن أعطوا قاتلوهم، وقوم على طرف دار الإسلام، ويقرب منهم قوم من المسلمين لا يؤدون الزكاة إلا خوفا من جيرانهم ففيهم له أربعة أقوال:
أحدها: أنهم يعطون سهما من المصالح.
والثاني: أنهم يعطون من سهم المؤلفة من الزكاة.
والثالث: من سهم الغزاة.
والرابع: من سهم الغزاة ومن سهم المؤلفة، كذا في "تتمتهم".
وفي " التحفة ": اختلف أصحابه في سهم المؤلفة، قال بعضهم: منسوخ، وقال بعضهم: يصرف سهمهم إلى من كان حديث عهد بالإسلام، ممن هو في مثل حالهم من الشوكة والقوة، لئلا يكون ذلك حائلا لأمثالهم عن الدخول في الإسلام.
م: (والفقير من له أدنى شيء) ش: شرع في تفسير الأصناف المذكورة في الآية الكريمة، فبدأ بالفقير اتباعا لما في الآية الكريمة، وفسره بقوله: الفقير من له أدنى شيء.
م: (والمسكين من لا شيء له وهذا مروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك وأبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبه قال من أصحاب اللغة الأخفش وثعلب والفراء، وفي " الكامل ": عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة الفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل، وقيل: الفقير الزمن المحتاج والمسكين الصحيح المحتاج وللشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيهما قولان في قول يشترط في الفقراء الزمانة وعدم السؤال، وفي قول: لا يشترط كلاهما بل من له حاجة قوية وفي المسكين قولان في القديم: المسكين هو السائل أو من له حرفة، وفي الجديد: السؤال ليس بشرط، المعتبر فيه وجود شيء من المال والقدرة على تحصيله كذا في "تتمتهم".
وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الفقير الذي يسأل ويظهر الفقارة وحاجته إلى الناس، والمسكين هو الذي يسأل ولا يعطى وبه زمانة، قال تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] (البلد: آية 16) ، أي لاصق بالتراب من الجوع والعري.
وفي " الينابيع ": قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الفقير المذكور في الآية هو المحتاج الذي لا يسأل ولا يطوف على الأبواب، والمسكين الذي يسأل، وفي المرغيناني: الفقير والمسكين الذي لا يملك نصابا غير أن المسكين يسأل والفقير لا يسأل، وروى ابن سماعة -رحمه

(3/446)


وقد قيل على العكس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله- عن محمد عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الفقير أسوأ حالا من المسكين، ذكره المرغيناني.
وقيل: تفسير الفقير الذي في الآية فقراء المهاجرين، والمساكين الذين لم يهاجروا، قاله الضحاك، وقيل: الفقير من به زمانة والمسكين الصحيح المحتاج وهو قول قتادة، وقيل: الفقير من لا مال له يقع منه موقعا، ولا يغنيه سائلا كان أو غير سائل.
وقال ابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعزى هذا إلى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقيل: المسكين الذي يخشع ويتمسكن وإن لم يسأل، والفقير يتحمد ويتقبل الشيء سرا ولا يخشع وهذا قول عبد الله بن الحسن البصري.
وقال محمد بن سلمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الفقير الذي له مسكن يسكنه، والخادم والمسكين الذي لا ملك له وفي " طلبة الطالب ": المسكين الذي أسكنه العجز عن الطواف للسؤال، والفقير المحتاج وقيل: الفقراء من المسلمين والمساكين من أهل الذمة، يروى عن عكرمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقيل: الفقير الذي ليس له مال وهو بين أظهر عشيرته، والمسكين الذي ليس له مال ولا عشيرة.
م: (وقد قيل: على العكس) ش: يعني أن المسكين من له أدنى شيء، والفقير من لا شيء له، وبه قال الشافعي والطحاوي والأصمعي من أهل اللغة، وابن الأنباري، واستدل الأصمعي وابن الأنباري بقول الشاعر:
هل لك من أجر عظيم تؤجره ... تغيث مسكينا كثيرا عسكره

عشر شياه سمعه وبصره
وقال الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] (الكهف: آية 79) ، فأثبت لهم سفينة، وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين، وأعوذ بالله من الفقر» رواه البخاري ومسلم: «وأحيني مسكينا وأمتني مسكينا» رواه الترمذي والبيهقي وإسناده ضعيف.
فدل على أن الفقر أشد، لأن الفقير بمعنى المفقور، وهو المكسور الفقار، ولأن الله تعالى قدمهم على المساكين، والتقديم يدل على الاهتمام بهم، دون غيرهم.
وللجمهور: قَوْله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] (البقرة: آية 273) سماهم فقراء، ووصفهم بالتعفف، وترك المسألة، ولأن الجاهل لا يحسب غنيا، إلا وله

(3/447)


ولكل وجه. ثم هما صنفان أو صنف واحد وسنذكره في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظاهر جميل وهيئة حسنة، فدل على أن ملكه للقليل لا يسلبه صفة الفقر، وأنشد عن ابن الأعرابي يمدح عبد الملك بن مروان ويشكر سعايته.
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال ولم يترك له سبده
سماه فقيرا مع وجود الحلوبة وهي الناقة التي تحلب، ويقال ما له سبد ولا لبد أي شيء، وقال الجوهري: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا قليل ولا كثير، والجواب عن الشعر الذي احتج به ابن الأنباري أن قائله مجهول، ولأن لم يرو أن له عشر شياه، بل لو حصل له عشر شياه لكانت سمعه وبصره.
والجواب: عن الآية إنما سماهم مساكين ترحما واستضعافا، كما يقال لمن امتحن بنكبة وبلية مسكين، وفي الحديث مساكين أهل النار، وقيل: لا نسلم أن إضافة السفينة إليهم بسبيل الحقيقة بأن كانت ملكا لهم فلم لا يجوز أن يضاف إليهم بسبيل المجاز لكونها في أيديهم عارية أو إجارة.
والجواب عن الحديث أنه لم يرد به معنى الفقر، وإنما أراد بقوله: «أحيني مسكينا» أي محسنا متواضعا لله تعالى غير متكبر ولا جبار.
أما قوله: فلأن الفقير بمعنى المفقور، وهو المكسور الفقار ممنوع، فإن الأخفش قال: الفقير من قولهم فقرت له فقرة يعني أعطيته، فيكون الفقير من له قطعة من المال لا تغنيه.
وأما توجيه: تقديم الفقراء فلأنهم لا يسألون، أو قدموا لكثرتهم وتيسير وجودهم على صاحب الزكاة بخلاف المساكين.
وحاصل المذهب عندنا، أن المسكين أشد حالا من الفقير، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على العكس، والأول: قول ابن عباس وجابر بن زيد، ومجاهد وعكرمة والزهري والحسن ومالك، ومثله عن ابن زيد وأبي عبيد ويونس وابن السكيت وابن عيينة والعتبي والأخفش وثعلب، وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو قول أهل اللغة جميعا.
م: (ولكل وجه) ش: أي ولكل واحد من المهاجرين وجه، وفائدة الخلاف لا تظهر في الزكاة بل تظهر في الوصايا والأوقاف والنذور.
م: (ثم هما صنفان أو صنف واحد) ش: أي الفقير والمسكين صنفان أو صنف واحد، لم يبين ذلك وأحال البيان إلى كتاب الوصايا بقوله: م: (وسنذكره في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى) ش: قال فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير ": وعن أبي يوسف أنهما صنف واحد حتى قال فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين أن لفلان نصف الثلث، وللفريقين جميعا

(3/448)


والعامل يدفع الإمام إليه إن عمل بقدر عمله فيعطيه ما يسعه وأعوانه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نصف الثلث لأنهما صنف واحد، وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لفلان ثلث الثلث فجعلهما نصفين.
قال الأترازي: أقول هذا هو الصحيح، لأن العطف للمغايرة، وقد عطف أحدهما على الآخر في الآية.
قلت: لا يحتاج أن يثبت الأترازي الصحة لقوله، فإن هذا الذي ذكره فخر الإسلام بعينه.

[العاملون عليها من مصارف الزكاة]
[قدر ما يعطى العامل من الزكاة]
م: (والعامل) ش: هذا المصرف الثالث، ذكر بعد المسكين كما في الآية، وهو مرفوع على أنه مبتدأ، وقوله: م: (يدفع الإمام إليه) ش: خبره وهو الذي يبعثه الإمام بجباية الصدقات وهو الذي يسمى الساعي م: (إن عمل) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: إن عمل لنفي الجار عن العامل باعتبار ما كان م: (بقدر عمله فيعطيه ما يسعه) ش: أي بقدر ما يكفيه.
م: (وأعوانه) ش: بالنصب أي ويقدر ما يسع أعوانه، والأعوان جمع عون، وهو الظهير أي المساعد.
وفي " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعطي الإمام كفايته ثمنا كان أو أقل، وفي " المفيد " فيعطيهم ما يكفيهم وعيالهم وأعوانهم مدة ذهابهم وإيابهم، لأنه فرغ نفسه لهذا العمل وكل من فرغ نفسه لعمل من أمور المسلمين يستحق على ذلك رزقا كالقضاة، وليس ذلك على وجه الإجارة لأنها لا تكون إلا على عمل معلوم أو مدة معلومة، وأجرة معلومة.
وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويعطي العاشر وهو الذي يجمع أرباب الأموال، والعريف وهو الذي يعرف الساعي أهل الصدقات، كالنقيب للقبيلة والجانب، والقاسم، والكاتب كلهم يأخذون من سهم العامل ولا يزاحمونه في أجرة عمله وتزداد في عدد هؤلاء بقدر الكفاية، وأما الإمام والقاضي فلا يصرف إليهما من الزكاة.
وفي " الذخيرة ": وروى مالك السابق والداعي وهو شاذ، وفي " الذخيرة " لو أخذ عمالته من غير الزكاة فلا بأس به، وإن حمله إلى الإمام بنفسه لا يستحق العامل من تلك الصدقة.
وفي " جوامع الفقه ": لو كان كفاية العامل تستغرق الزكاة كلها أخذ نصفها أو أخذ النصف من الأنصاف، ولو ضاع المال من يده سقطت عمالته وأحرزه المؤدي، كالمضارب إذا هلك مال المضاربة في يده بعد التصرف كذا في " المبسوط " و" الإيضاح ".

(3/449)


غير مقدر بالثمن خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن استحقاقه بطريق الكفاية، ولهذا يأخذ وإن كان غنيا، إلا أن فيه شبهة الصدقة فلا يأخذها العامل الهاشمي تنزيها لقرابة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شبهة الوسخ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وغير مقدر بالثمن خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: غير مقدر نصب على الحال من قوله ما يسعه أي حال كونه ما يسعه غير مقدر بالثمن.
قال تاج الشريعة: وإنما قال بالثمن نظرا إلى الأصناف الثمانية، والمراد السبع بسقوط المؤلفة قلوبهم.
وقال الكاكي: فإن قيل: كيف يستقيم قوله: غير مقدر بالثمن على قول الشافعي، فإن المؤلفة سقطت بالإجماع، فينبغي أن يقول غير مقدر بالسبع.
قلنا: المؤلفة صنفان كفار ومسلمون، فإن عنده سقط صنف الكفار فقط فيبقى مقدرا بالثمن.
م: (لأن استحقاقه) ش: أي لأن استحقاق العامل م: (بطريق الكفاية) ش: لأن ما يأخذه أجرة من وجه لأجل عمله، وصدقة من وجه لأنه عامل لله تعالى، فصار مصرفا للصدقة، والصدقة لا توجب التقدير، والأجرة توجب التقدير بالكفاية فوجب رزقه على حسب الكفاية، ثم في الكفاية يعتبر الوسط لا الشهوة لأنها حرام لكونها إسرافا محضا.
وعلى الإمام أن يبعث من يزكي بالوسط من غير إسراف ولا تقتير م: (ولهذا يأخذ وإن كان غنيا) ش: أي ولأجل استحقاقه بطريق الكفاية لأجل عمله يأخذ العامل، وإن كان غنينا لأن ما يأخذه هو عوض عن عمله والزكاة لا تجوز أن تدفع عوضا عن شيء.
وإن قلت: العامل صنف منصوص عليه فصار كسائر الأصناف.
قلت: سائر الأصناف يستحقون الدفع إليهم بكل حال، والعامل لا يستحق إلا بالعمل.
م: (إلا أن فيه شبهة الصدقة فلا يأخذها العامل الهاشمي تنزيها لقرابة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شبهة الوسخ) ش: هذا استثناء في الحقيقة من قوله لأن الاستحقاق بطريق الكفاية، حاصله أن ما أخذه بطريق الكفاية، وإن كان أجرة، ولكن فيه شبهة الصدقة لكونه عاملا لله تعالى كما ذكرنا، وإذا كان فيه شبهة الصدقة فلا يأخذها العامل إذا كان هاشميا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن هذا الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» ، رواه مسلم، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نحن أهل البيت لا تحل لنا الصدقة» ، رواه البخاري.
والهاشمي منسوب إلى بني هاشم وهم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل الحارث بن عبد

(3/450)


والغني لا يوازيه في استحقاق الكرامة، فلم تعتبر الشبهة في حقه

. قال وفي الرقاب أن يعان المكاتبون منها في فك رقابهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المطلب.
قوله: تنزيها، أي لأجل التنزيه لقرابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومذهب مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كمذهبنا، وقيل: هو مذهب الشافعي أيضا في الصحيح، ويحرم على بني عبد المطلب أيضا، وفي " النهاية ": الأصح جواز صرفها على العامل منهم، فإن بعض المالكية يجوز أن يستأجر بعض بني هاشم على حراستها وسوقها. قال ابن العربي: ولا يحوز لأن حراستها وسوقها كجمعها وضمها.
وفي " الذخيرة ": أجاز محمد بن نصر أن يكون العامل هاشميا أو عبدا أو ذميا بالقياس على العامل، يعني قلنا أوساخ الناس لا ينافي الغني وينافي الهاشمي لشرفه والعبد لعجزه والكافر لعدم ولايته على المسلم.
فإن قلت: ما تقول في استدلال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعث عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى اليمن مصدقا وفرض له، فإن الظاهر أنه فوض له فيما يأخذه؟
قلت: ليس فيه أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فرض له في الصدقات، وقد كان - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فوض إليه أمر الحرب، والظاهر أنه فرض له من الفيء لا من الصدقات.
م: (والغني لا يوازيه من استحقاق الكرامة فلم تعتبر الشبهة في حقه) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر من جهة الخصم، تقديره أن يقال: إذا كان المانع من جواز استعمال عامل هاشمي وجود معنى الصدقة فيما يأخذه، فالغني كذلك ينبغي أن يمنع من العمل، لأن غناه يمنع أخذ الصدقة.
فأجاب بقوله: والغني لا يوازيه أي لا يوازي الهاشمي في استحقاق الكرامة فلم تعتبر شبهة الصدقة فيه، لان فيه شبهة الأجرة أيضا، والهاشمي يمتنع لأن فيه حقيقة الصدقة، فافهم.

[وفي الرقاب من مصارف الزكاة]
م: (وفي الرقاب) ش: هو الرابع من المصارف أي توضع الزكاة في فك الرقاب وهو جمع رقبة م: (أن يعان المكاتبون منها) ش: أي من الزكاة م: (في فك رقابهم) ش: أي من الزكاة م: (في فك رقابهم) ش: هذا تفسير لقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] المذكور في الآية أي يعانون على أداء بدل الكتابة، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في رواية. وهو قول أكثر العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال مالك وأحمد في رواية المراد به أن يشتري بخير مال الصدقة عبدا فيعتقه، وهو المروي عن ابن عباس والحسن البصري وأكثر العلماء منهم الحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والزهري والليث بن سعد وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

(3/451)


وهو المنقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن تيمية: إن كان معه وفاء لكتابته لم يعط لأجل فقره، لأنه عبد، وإن لم يكن معه شيء أعطي الجميع، وإن كان معه بعضه يتمم سواء كان قبل حلول النجم أو بعده، كيلا يحل النجم وليس معه شيء فتنفسخ الكتابة، ويأخذ مع كونه قويا مكتسبا، ويجوز دفعها إلى سيدهن لأنه أعجل بعتقه، وعند الشافعية إن لم يحل عليه نجم ففي صرفه إليه وجهان، وإن دفعه إليه فأعتقه المولى، أو أبرأه من بدل الكتابة، أو عجز نفسه، والمال في يد المكاتب رجع فيه، قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو المذهب.
وفي " المغني ": إن انفسخت الكتابة فما في يده لسيده، وهو قول عطاء وأبي حنيفة وأصحابه، ورواية البزدوي والكوسج عن أحمد كسائر أكسابه، فإن ادعى أنه مكاتب كلف البينة ويقبل فيها الاستفاضة، وإن صدقه سيده أنه تقبل، إذ من تلك الأشياء ملك الأخبار، وتصرف إلى المكاتب بغير إذن سيده ولا تصرف إلى سيده إلا بإذنه، ولا تصرف إلى مكاتبه وهو المذهب، وجوزه أبو يعلى بن حيران قال: وهو ضعيف.
قلت: اشتراط إذن المكاتب في الدفع إلى سيده بعيد جدا لأنه قضاء دين المكاتب بغير إذنه، وقضاء الديون من الأجانب لا يتوقف على إذن المديون.
وفي " المحيط ": وقد قالوا: لا يدفع إلى مكاتب الهاشمي بخلاف مكاتب الغني. وفي " الجواهر ": يشتري بها الإمام الرقاب فيعتقها عن المسلمين، والولاء لجميعهم.
م: (وهو المنقول) ش: أي عون المكاتبين من الزكاة هو المنقولمن ب عن أئمة التفسير، كذا قال الأترازي، وقال السغناقي: هو المنقول عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذا قال الأكمل، ثم قال فإنه روي «أن رجلا قال: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: "فك الرقبة أو أعتق النسمة، قال: أوليسا سواء يا رسول الله؟ قال: "فك الرقبة أن تعين في عتقه» .
قلت: هذا الحديث أخرجه ابن حبان والحاكم عن البراء بن عازب قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: "أعتق النسمة وفك الرقبة"، قال: أوليسا واحدا، قال: "لا، أعتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين على ثمنها» انتهى.
هذا ليس فيه المقصود، فإن مراد المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تفسير الآية لا تفسير الفك، نعم الحديث يفيد في معرفة الفرق بين العتق والفك. فمن هذا عرفت أن الصواب مع الأترازي.
وروى الطبري في "تفسيره " من طريق محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن الحسن

(3/452)


والغارم من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من تحمل غرامة في إصلاح ذات البين وإطفاء النائرة بين القبيلتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البصري أن مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أيها الأمير حث الناس على ما يحث عليه أبو موسى الأشعري، فألقى الناس عليه، هذا يلقي عمامة وهذا يلقي ملاءة، وهذا يلقي خاتما، حتى ألقى الناس عليه سوادا كثيرا، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال اجمعوه، ثم أمر به فبيع وأعطى المكاتب كتابته، ثم أعطى الفضل في الرقاب نحو ذلك ولم يرده على الناس، وقال: إن هذا الذي أعطوه في الرقاب.
م: (والغارم من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه) ش: هذا هو الخامس من المصارف يعني يصرف للغارم أيضا، قوله: من لزمه دين، إلى آخره تفسير الغارم، وهو من الغرم، وهو من الخسران، وكان الغارم هو الذي خسر ماله، والخسران النقصان.
وقال أبو نصر البغدادي: الغارم من لزمه دين وإن كان في يده مال، لأنه يستحق بالدين فصار كمن لا مال له، وفي الذخيرة: الغارم أن يكون ماله قدر دينه أو كان له مال على الناس لا يمكنه أخذه فهو غني على الظاهر وتحمل له الصدقة.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الغارم: هو الذي له مال غائب وديون لا يأخذ من الصدقة إلا قدر حاجته، بخلاف الفقير حيث يأخذ فوق حاجته.
م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من تحمل غرامة في إصلاح ذات البين) ش: أي الغارم من تحمل الغرامة، أصل الغرامة اللزوم، ومنه قَوْله تَعَالَى {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] (الفرقان: آية 65) ، ويطلق الغريم على المديون، وصاحب الدين.
وقال الأزهري: معنى إصلاح ذات البين إصلاح حال الرجل بعد المبانية، والبين يكون وصلا ويكون فرقة.
وقال تاج الشريعة: قوله إصلاح ذات البين يعني الأحوال التي بينهم، وإصلاحها بالإحسان والإنفاق حتى تصير أحوال الاختلاف ائتلافا وإرفاقا بعد أن كانت أحوال اختلاف وتفارق، ولما كانت الأحوال ملابسة للتبين وصفت به، فقيل: ذات البين، كما قيل للأسرار ذات الصدور كذلك.
م: (وإطفاء النائرة بين القبيلتين) ش: النائرة العداوة كأنها فاعلة من النار، وإطفاؤها عبارة عن تسكين الفتنة.
وفي " الحلية ": والغارم ضربان ضرب لإصلاح ذات البين، بأن يحمل مالا أتلف في

(3/453)


وفي سبيل الله منقطع الغزاة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه هو المتفاهم عند الإطلاق، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - منقطع الحاج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حرب لتسكين فتنة فيه وجهان.
أحدهما: أنه يعطى مع الغني خلافا لأبي حنيفة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» وذكر من جملتها الغارم، والغارم الذي يعطى مع الغني الذي تحمل الحمالة، وضرب الغرم لمصلحة نفسه من الدين في غير معصية، فهل يعطى مع الغنى، فيه قولان، قال في الأم: يعطى مع الغني لعموم الآية.
الثاني: لا يعطى مع الغني وهو الصحيح، ولو عزم المعصية ثم تاب عنها فهل يعطى مع الفقر؟ فيه وجهان.
أحدهما: أنه يعطى لأنه فقير.
والثاني: لا يعطى لأنا لو قضينا دينه بعد التوبة لا يؤمن من أن يظهر التوبة حتى يأخذ المال ثم يعود إلى الفسق.

[وفي سبيل الله من مصارف الزكاة]
[المقصود بسبيل الله]
م: (وفي سبيل الله) ش: هو السادس أي وموضع الزكاة أيضا في سبيل الله، وفي تفسيره خلاف على ما نذكره الآن م: (منقطع الغزاة) ش: أي في سبيل هو منقطع الغزاة م: (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه) ش: أي لأن قوله "في سبيل الله" م: (هو المتفاهم عند الإطلاق) ش: لأن سبيل الله عبارة عن جميع القرب لكن عند الإطلاق يصرف إلى الجهاد.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - منقطع الحاج) ش: وفي " المبسوط ": في سبيل الله منقطع الحاج، وفقراؤهم فقراء الغزاة عند أبي يوسف، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقراء الحاج.
وقال السروجي بعد أن عد جملة من كتب أصحابنا: لم يذكر أحد منهم قول أبي حنيفة، ثم قال فكشفت عن ذلك من نحو ثلاثين مصنفا، فكيف لا يتكلم الإمام في معرفة سبيل الله مع وقوع الحاجة إلى ذلك، وفي الوبري: هم الحاج والغزاة المنقطعون عن أموالهم، وفي الأسبيجابي أراد به الفقراء من أهل الجهاد، ولم يحكيا فيه خلافا فيجوز أن يكون ذلك قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي: منقطع الغزاة، وهو المراد من قَوْله تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60) ، عند أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي ومالك، وعند محمد وأحمد منقطع الحاج.
قلت: لم يبين في أي كتاب رأي أن أبا حنيفة مع أبي يوسف، ولكن يحتمل أنه اطلع عليه في موضع خفي ذكره معه، وقال ابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف ومحمد: (في سبيل الله) هو الغازي غير الغني.

(3/454)


لما روي «أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحمل عليه الحاج»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج، وذكر ابن بطال في " شرح البخاري " أنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، ونقله النووي في شرحه، وقال السروجي: فهؤلاء نقلوا قول أبي حنيفة، ثم وجدت في " خزانة الأكمل " ما يوافق نقل هؤلاء الجماعة، فقال: في سبيل الله فقراء الغزاة عندنا، وعند محمد منقطع الحاج، فهذا يدل على أن ذلك رواية عن محمد وهي قول ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وبه قال أحمد في رواية وإسحاق واختاره البخاري. وقال ابن عبد الحكم: يدخل في شراء المساحي والحبال والمراكب، وكراء النواتية للغزو، وتدفع للجواسيس النصارى.
وقال النووي في شرح "المهذب " هم الغزاة المنقطعون الذي لا حق لهم في الديوان، وفي المرغيناني، وقيل: في سبيل الله طلبة العلم، وقال: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدينة العلم أرسل ليبين للناس ما ترك إليهم، وغالب من اتبعه في أول الإسلام فقراء منقطعون لأخذ العلم عنه كأبي هريرة وغيره، وكأنه عبر عنهم بعبارة يفهمها أهل الزمان الآن، والله أعلم، وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا بعيد، فإن الآية نزلت وليس هناك قوم يقال لهم: طلبة العلم.
م: (لما «روي أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحمل عليه الحاج» ش: هذا الحديث له أصل في سنن أبي داود، والنسائي، والحاكم، والطبراني، والبزار، وليس بهذه العبارة، فروى أبو داود، عن إبراهيم بن مهاجر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: «أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أم معقل قالت: كان أبو معقل حاجا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما قدم قالت أم معقل: قد علمت أن علي حجة، فانطلقا يمشيان حتى دخلا عليه فقالت: يا رسول الله إن علي حجة، وإن لأبي معقل بكرا فقال أبو معقل: صدقت جعلته في سبيل الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعطها فلتحج عليه فإنه في سبيل الله" فأعطاها البكر فقالت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني إمرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزئ عني من حجتي، فقال: "عمرة في رمضان تجزئ حجة» ، ورواه أحمد في "مسنده"، ورواه أبو داود أيضا، من غير هذا الطريق.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وجه قول محمد، ما روى البخاري في "الصحيح "، عن أبي لاس، قال: «حملنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إبل الصدقة للحج» قال: يعلم من ذلك أن سبيل الله، منقطع الحاج، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صرف الصدقة إليه.
قلت: فيه تأمل لا يخفى، ثم قال: وجه قول أبي يوسف ما روى البخاري أيضا في " الصحيح " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن خالدا احتبس أدراعه في سبيل الله» ، ولا شك أن الدرع

(3/455)


ولا تصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا، لأن المصرف هو الفقراء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للحرب لا للحج، فعلم بذلك أن المراد الجهاد لا الحج.
قلت: فيه نظر أيضا لا يخفى.
فإن قلت: قوله: في سبيل الله مكرر سواء كان منقطع الغزاة أو منقطع الحاج، لأنه إما أن يكون له مال في وطنه أو لا، فإن كان فهو ابن السبيل، وإن لم يكن فهو الفقير، فمن أين يكون العدد سبعة؟
قلت: هو فقير إلا أنه زاد فيه شيئا آخر سوى الفقر، وهو الانقطاع في عبادة الله من الجهاد، أو الحج، فلذلك يغاير الفقير المطلق بذلك، فإن المقيد يغاير المطلق، لا محالة.
م: (ولا تصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا) ش: أي ولا تصرف الزكاة إلى أغنياء الغزاة عندنا م: (لأن المصرف هو الفقراء) ش: أي لأن مصرف الزكاة هو الفقراء، وأشار بقوله -عندنا- إلى خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن عنده يجوز أن تدفع إلى الغازي مع الغناء، وبه قال مالك.
قال الكاكي: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة إلا لخمسة» ، وذكر من جملتها الغزاة في سبيل الله، ثم قال وذكر في " التجنيس " الغازي في سبيل الله والعامل عليها ورجل اشترى الصدقة بماله، ورجلا تصدق بها على المسكين فأهداها المسكين إليه، وفي رواية " المصابيح " ابن السبيل، انتهى.
قلت: هذا عجز حيث أحال بيان الخمسة على " التجنيس "، والحديث رواه أبو داود مرسلا ومسندا، فقال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة، لغاز في سبيل الله أو العامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني» ، هذا مرسل، وقال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه وهذا مسند.
وأجاب الأترازي: عن هذا بقوله: معناه الغني بكسبه، أي المستغني بكسبه عن السؤال، لأنه أي المستغني بالكسب لا يحل له طلب الصدقة، إلا إذا كان غازيا فيحل له لاشتغاله بالجهاد عن الكسب، وقال الكاكي: المراد بالغنى قوة البدن، والقدرة على الكسب إنما تكون بقدرة البدن لا بملك المال، فإن الغازي إذا اشتغل بالكسب يقعده عن الجهاد، فجاز له الأخذ، والدليل عليه ما روي في حديث آخر، وردها في فقرائهم، كذا في " المبسوط "، وقال: وفيه نوع تأمل، لأن القدر على الكسب غير مالك النصاب يحل له أخذ الزكاة عندنا، خلافا لمالك

(3/456)


وابن السبيل من كان له مال في وطنه وهو في مكان آخر لا شيء له فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلا أن يعلل على جهة الإلزام.
وقال الرازي في " أحكام القرآن ": قد يكون الرجل غنيا في أهل بلده بالدار والأثاث والخادم والفرس وله فضل مال تجب عليه الزكاة فيه، ولا تحل له الصدقة، فإذا عزم على الخروج للغزو واحتاج إلى آلات السفر وسلاح الغزو أو العدة فيجوز له أخذ الصدقة إذ قد أنفق الفضل فيما يحتاج إليه من السلاح والعدة، ولولا سفره للغزو لكان غنيا، إذ لا يحتاج في إقامته إلى إنفاق الفضل، فإذا قصد الغزو جاز له أخذ الصدقة وهو غني في هذا الوجه، فهذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصدقة تحل للغازي الغني» ، انتهى.
قيل: حديثهم يفيد الحصر في الخمسة المذكورة بين النفي والإثبات، وبذكر العدد الخمسة، قد جوزوا الدفع إلى أغنياء المؤلفة وليسوا من الخمسة، فوجب تأويل حديثهم. وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولعلمائنا ومن قال بقولهم حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له «أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» ، متفق عليه ولا يعارضه حديثهم لأنه لم يصح، ولو صح لا يبلغ درجة الحديث الثابت في " الصحيحين ".

[ابن السبيل من مصارف الزكاة]
[المقصود بابن السبيل]
م: (وابن السبيل) ش: هذا هو المصرف السابع، أي توضع الزكاة في ابن السبيل م: (من كان له مال في وطنه وهو في مكان آخر لا شيء له فيه) ش: أي ابن السبيل من كان له مال في وطنه والحال أنه في مكان لا شيء له فيه، وسمي المسافر ابن السبيل لكثرة ملازمته السبل، لأنه لما حصل له كثرة الملازمة صار كأنه ولد الطريق، ومنه قولهم للصوفي ابن الوقت كذا قاله الأترازي، وفيه نظر، لأن من سافر في عمرة مرة وجرى له هذا يطلق عليه ابن السبيل، ويحل له أخذ الزكاة، ولو كانت ملازمته السبيل شرطا لما جاز لهذا أن يأخذ الزكاة فافهم.
وقال السروجي: يجوز أن يقال ابن السبيل لما دفعته من بلد إلى بلد كما تدفع الآدمي الأرحام، سمي ابن السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث.
وفي " البدائع ": ابن السبيل هو المختار في مصر قد قطع به، أو الحاج أراد الانصراف إلى أهله ولم يجد ما يتحمل به.
وفي " جوامع الفقه ": هو الغريب الذي ليس في يده شيء وإن كان له مال في بلده ومن له ديون على الناس ولا يقدر على أخذها لغيبتهم أو لعدم البينة أو لإعسارهم أو لتأجيله يحل له أخذها.
وقال بعضهم: ابن السبيل، هو من عزم على السفر، وليس معه ما يتحمل به، وقيل: هذا خطأ لأن السبيل هو الطريق، فمن لم يحصل في الطريق لا يكون ابن سبيل، وكذا لا

(3/457)


قال: فهذه جهات الزكاة، وللمالك أن يدفع إلى كل واحد منهم، وله أن يقتصر على صنف واحد. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز إلا أن يصرف إلى ثلاثة من كل صنف، لأن الإضافة بحرف اللام للاستحقاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصير ابن سبيل بالعزم على السفر، وابن السبيل كعابر السبيل. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] (النساء: آية 43) ، هم المسافرون لا يجدون الماء فيتيممون، فكذا ابن السبيل هو المسافر لا من عزم على السفر.
وفي " الينابيع ": ابن السبيل منقطع الغزاة. وفي كتاب علي بن صالح الجرجاني: ابن السبيل، هو الذي لا يقدر على ماله في سفره وهو غني ويقدر أن يستقرض فالقرض خير له من قبول الصدقة، وإن قبلها أجزأ عمن يعطيه ولا يلزمه استقراض، لاحتمال عجزه عن الأداء. وفي " خزانة الأكمل ": لا يجب على ابن السبيل أداء زكاته حتى يرجع إلى ماله، ولو تصدق غيره بغير أمره فبلغه فرضي به، لم يجز وبأمره يجوز، وقيل: إذا كانت قائمة في يد الفقير ينبغي أن يجوز، لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة على ما عرف.

م: (قال) ش أي صاحب الكتاب م: (فهذه جهات الزكاة) ش: أي هذه التي ذكرناها من الأصناف هي جهات الزكاة، أي مصارفها لا مستحقوها عندنا م: (وللمالك أن يدفع إلى كل واحد منهم) ش: أي من الأصناف السبعة المذكورة.
م: (وله أن يقتصر على صنف واحد) ش: من السبعة، وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس وحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وبه قال سعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وأبو العالية، وعطاء بن أبي رباح، وإليه ذهب الثوري، ومالك، وأحمد في ظاهر الرواية، وأبو ثور، وأبو عبيد، وعن النخعي: إن كان المال، كثيرا يحتمل قسمته على الأصناف قسمة عليهم، وإن كان قليلا صرف إلى صنف واحد.
م: (وقال الشافعي: لا يجوز إلا أن يصرف إلى ثلاثة من كل صنف) ش: فيكون واحدا وعشرين نفسا، وكذا صدقة الفطر وخمس الزكاة. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلا العاملين عليها، فإنه يجوز أن يكون العامل واحدا، فإن فرق زكاته بنفسه، أو بوكيله سقط نصيب العامل، فيفرق الباقي على سبعة أصناف، أحد وعشرين نفسا إن وجدوا، حتى لو ترك واحد منهم ضمن نصيبه، وهو قول عكرمة، وداود الظاهري.
وقال الإصطخري: تصرف صدقة الفطر إلى ثلاثة من الفقراء لقلتها واختاره الروياني في " الحلية " م: (لأن الإضافة بحرف اللام للاستحقاق) ش: أي لأن إضافة الصدقات إليهم بحرف اللام تقتضي الملك إذا أضيف به إلى من يصح له الملك كقولك المال لزيد، فإن أوصى بثلث ماله

(3/458)


ولنا أن الإضافة لبيان أنهم مصارف لا لإثبات الاستحقاق. وهذا لما عرف أن الزكاة حق الله تعالى، وبعلة الفقر صاروا مصارف فلا يبالى باختلاف جهاته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لهؤلاء الأصناف لم يجز حرمان بعضهم، فكذلك في أمر الشرع.
م: (ولنا أن الإضافة) ش: أي إضافة الصدقات إليهم م: (لبيان أنهم مصارف) ش: وأن تصير العاقبة لهم م: (لا لإثبات الاستحقاق) ش: لأن المجهول لا يصلح مستحقا، واللام للاختصاص لا للملك، كما يقال: الجل للفرس ولا ملك له، فكان المراد اختصاصهم بالصرف إليهم، ومعاني اللام ترتقي إلى أكثر من عشرة، ولكن أصلها للاختصاص.
ولم يذكر الزمخشري في المفصل غير الاختصاص لعمومه، فقال اللام للاختصاص، كقولك المال لزيد والسرج للدابة، واللام في الآية للاختصاص، يعني أنهم مختصون بالزكاة ولا تكون لغيرهم كقولهم الخلافة لقريش أو السقاية لبني هاشم أي لا يوجد ذلك في غيرهم، ولا يلزم أن تكون مملوكة لهم، فتكون اللام لبيان محل صرفها، وأيضا الفقراء والمساكين لا يحصون لكثرتهم فكانوا مجهولين، والتمليك من المجهول محال.
ولهذا قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو كان في أكثر من ثلاثة من الصنف لا يثبت ملكهم ولا ينتقل إلى ورثتهم بموتهم، فدل على عدم الملك فبطل دعواهم أن اللام للملك بخلاف الثلاثة عندهم وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60) ، كاللام فيهما، فإذا حمل على الاختصاص استقام الجميع ولا يستقيم الملك في الطرق، وهذا بين مكشوف وأيضا أنهم قالوا يجوز للإمام أن يدفع صدقة الرجل الواحد وأكثر إلى فقير واحد، والإمام يقوم مقام رب المال في التفريق، فأبطلوا لام الملك والعدد ولم يستوعبوا آحاد الصنف الواحد أيضا. قال الشيخ شهاب الدين القرافي: وهذه الصورة هي مذهبه في الملك. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المراد في الآية في بيان المصارف قال: أينما صرفت إلى أحد من الأفراد أجزأت، كما أن الله تعالى أمرنا باستقبال القبلة في الصلاة، فإذا استقبلت جزءا منها كنت ممتثلا للأمر.
م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا أن الإضافة لبيان أنهم مصارف لا لإثبات الاستحقاق م: (لما عرف أن الزكاة حق الله تعالى) ش: لأنها عبادة ولا يستحقها إلا الله تعالى م: (وبعلة الفقر صاروا مصارف) ش: أي بعلة الفقر والاحتجاج صارت الأصناف المذكورة مصارف للزكاة، لأن الله تعالى ذكرهم بأوصاف تنبئ عن الحاجة.
م: (فلا يبالى) ش: على صيغة المجهول، أي فلا يلتفت ولا يحمل لهم م: (باختلاف جهاته) ش: أي بسبب اختلاف جهات المصرف، وإنما ذكر الضمير لأنه يرجع إلى المصرف الذي يدل عليه لفظ المصارف.

(3/459)


والذي ذهبنا إليه مروي عن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والذي ذهبنا إليه) ش: أي من الاقتصار على صنف واحد في دفع الصدقات م: (مروي عن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أما المروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الطبري في "تفسيره " من حديث الليث عن عطاء أنه قال {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60)
قال: أيما صنف أعطيته من هذا أجزأ عنك، وأخرجه، عن حفص، عن الليث عن عطاء، عن عمر، أنه كان يأخذ الفرض في الصدقة، ويجعله في صنف واحد.
وأما المروي عن ابن عباس فأخرجه الطبري أيضا عن عمر بن عيينة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60) ، قال في أي صنف وضعته أجزأك، وقال الإمام الأسبيجابي في شرحه " لمختصر الطحاوي ": جملة ما يجيء في بيت المال في الأموال أربعة أنواع، منها الصدقات، وهي زكاة السوائم والعشور، وما أخذه العاشر من المسلمين الذين يمرون عليه من التجارة.
ونوع آخر ما أخذ من خمس الغنائم والمعدن والركاز، ويصرف في هذين النوعين الأصناف التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وهو قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60) ، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] (الأنفال: آية 41) ، ففي الآية الأولى بيان مصرف السبعة، وفي الآية الثانية ما ذكره الله تعالى، فيها سهم الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكر اسمه تعالى للتبرك، وسهم الرسول سقط بموته، وسهم ذوي القربى ساقط عندنا وهم قرابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيصرف اليوم إلى ثلاثة أصناف، اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سهم ذوي القربى ثابت.
والنوع الثالث: هو الخراج والجزية وما صولح عليه مع بني نجران من الحلل، ومع بني تغلب من الصدقة المضاعفة، وما أخذ العاشر من المستأمن من أهل الحرب، وما أخذ من تجار أهل الذمة، تصرف هذه في عمارة الرباطات والقناطر والجسور وسد الثغور وكري الأنهار العظام التي لا ملك لأحد فيها كجيحون والفرات ودجلة، ويصرف إلى أرزاق القضاة وأرزاق الولاة والمحتسبين والمعلمين والمقاتلة وأرزاق المقاتلة ويصرف إلى رصد الطريق في دار الإسلام عن اللصوص وقطاع الطريق.
والنوع الرابع: ما أخذ من تركة الميت الذي مات ولم يترك وارثا، أو ترك زوجا أو زوجة، فمصرف هذا نفقة المرضى في أدويتهم وعلاجهم وهم فقراء، وكفن الموتى الذين لا مال لهم ونفقة اللقيط، وعقل جنايته، ونفقة من هو عاجز عن الكسب وليس له من يقضي عليه في نفقته وما أشبه ذلك، فيجب على الأئمة والسلاطين والولاة إيصال الحقوق إلى أربابها، وأن لا

(3/460)


ولا يجوز أن تدفع الزكاة إلى ذمي، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم» . قال: ويدفع إليه ما سوى ذلك من الصدقة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يدفع وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحبسوها عنهم على ما يرون من تفضيل وتسوية من غير ميل في ذلك إلى هوى، ولا يحل لهم منها إلا مقدار ما يكفيهم ويكفي أعوانهم بالمعروف وإن قصروا في ذلك عليهم صاروا ظلمة مفسدين.

[دفع الزكاة إلى الذمي]
م: (ولا يجوز أن تدفع الزكاة إلى ذمي) ش: وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإسلام ليس بشرط في صرف الزكاة وغيرها، وقال الزهري وابن شبرمة: يجوز دفعها إلى الذمي م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «خذها من أغنيائهم وردها إلى فقرائهم» ش: أي خذ الزكاة، والخطاب لمعاذ بن جبل، وأخرج الأئمة الستة حديث معاذ من حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذا إلى اليمن....
الحديث مشهور، وفيه أنه افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم.
قوله: خذها من أغنيائهم، أي من أغنياء المسلمين، هذا بالإجماع، لأن الزكاة لا تجب على الكافر، وكذا الضمير في فقرائهم يرجع إلى المسلمين لئلا يحل لهم العطب. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى ذمي، يجوز صرف صدقة الفطر والنذور والكفارات إليهم.
وجوز دفع صدقة الفطر إلى الرهبان، عمر بن شرحبيل ومرة الهمداني. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاث روايات فيها، والأصح أنه لا يجوز دفع الصدقة إليهم إلا التطوع، وبالمنع قال مالك والشافعي، وأما الحربي فلا يجوز دفع صدقة ما إليه بالإجماع حتى التطوع، وفي " خزانة" الأكمل يجوز صرف صدقة الفطر وصدقة النذر إلى أهل الذمة، وأما الكفارات فلا.
م: (قال: ويدفع إليه) ش: أي إلى الذمي م: (ما سوى ذلك من الصدقة) ش: أراد به صدقة الفطر والنذور والكفارات كما ذكرنا.
فإن قلت: لم لا يجوز دفع الزكاة إلى الذمي كما ذهب إليه زفر لعموم النص، ولا يجوز الزيادة عليه بخبر الواحد.
قلت: هذا خبر مشهور تلقته الأمة بالقبول، فجاز الزيادة عليه بخبر الواحد.
قلت: هذا خبر مشهور تلقته الأمة بالقبول فجاز الزيادة به.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يدفع) ش: أي ما سوى ذلك من الصدقة إلى الذمي م: (وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قول الشافعي بالمنع رواية عن أبي يوسف م:

(3/461)


اعتبارا بالزكاة. ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصدقوا على أهل الأديان كلها» . ولولا حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لقلنا بالجواز في الزكاة
ولا يبني بها مسجد ولا يكفن بها ميت لانعدام التمليك وهو الركن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(اعتبارا بالزكاة) ش: بأن يقال هذه صدقة واجبة، فلا يجوز دفعها إلى الذمي كالزكاة.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «تصدقوا على أهل الأديان كلها» ش: هذا حديث مرسل. رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه ": حدثنا جرير بن عبد الحميد عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصدقوا إلا على أهل دينكم" فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] إلى قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272] (البقرة: الآية 272) ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تصدقوا على أهل الأديان» والحربي والمستأمن خرجا منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ} [الممتحنة: 9] (الممتحنة: الآية 9) ، وبالإجماع، فبقي أهل الذمة داخلا فيه.
فإن قلت: هذا الحديث لا يقبل التخصيص لقطع الاحتمال بلفظ الكل.
قلت: لفظ الكل تأكيد للأديان لا للأهل، فبقي فيه احتمال فيجوز تخصيصه.
م: (ولولا حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لقلنا بالجواز في الزكاة) ش: لإطلاق الآية، كما قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلولا حديث معاذ جواب عن الثاني ولم يجب عن الأول، وجوابه ما ذكرناه، لأنه مخصوص في حق الحربي والمستأمن بقوله {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ} [الممتحنة: 9] .... الآية قيل فيه نظر، لأنه لحقه بيان التقرير وهو يمنع الخصوص، وأجيب بما ذكرنا أن كلمة كل لتأكيد الأديان، لا لتأكيد الأهل، قيل فيه غموض، ولئن سلمناه، ولكن يقتضي أن يكون التخصيص مقارنا عندنا وليس بثابت، على أن في الآية النهي عن التولي لا عن البر، فلا يكون التعلق بالصدقة، قيل في صدر الجواب نحن أمرنا بقتالهم بآيات القتال، فإن كان شيء منها متأخرا عن هذا الحديث كان ناسخا في حقهم، وإلا لم يبق الحديث معمولا به في حقهم لأن التصدق عليهم رحمة لهم ومواساة، وهي منافية لمقتضى الآية وليس في مرتبتها، وسقط العمل في حقهم، وبقي معمولا به في حق أهل الذمة عملا بالدليل بقدر الإمكان.

م: (ولا يبنى بها مسجد) ش: أي لا يبنى بالزكاة مسجد، لأن الركن في الزكاة التمليك من الفقير ولم يوجد م: (ولا يكفن بها ميت لانعدام التمليك) ش: من الميت م: (وهو الركن) ش: وكذا لا تبنى بها القناطر والسقايات، ولا يحفر بها الآبار، ولا تصرف في إصلاح الطرقات وسد الثغور والحج والجهاد ونحو ذلك مما لا يملك فيه.
فإن قلت: روى أنس والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما أعطيت من الجسور والطريق صدقة ماضية.

(3/462)


ولا يقضى بها دين ميت، لأن قضاء دين الغير لا يقتضي التمليك منه لا سيما من الميت ولا يشتري بها رقبة تعتق، خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث ذهب إليه في تأويل قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا وهم عليهما، وليس مرادهما عمارة الجسور والطريق، بل معناه إعطاء الزكاة لمن يبني الجسور والطريق من العشار الذين يقيمهم السلطان لأخذهم الزكاة والعشور، وأن ذلك يسقط الغرض، ووجه الوهم أنما قال: ما أعطيت من الجسور والطريق، ولم يقولا في الجسور.
كذا في كتاب أبي عبيد، وقد أصلحه بعض من نظر فيه فضرب على من والحق في ليستقيم الكلام على المعنى الذي توهمه، ولم يعلم أن الرواية صواب، وإنما الوهم في معناهما.
م: (ولا يقضى بها دين ميت لأن قضاء دين الغير لا يقتضي التمليك منه) ش: أي من الغير، بدليل أن الدائن والمديون إذا تصرفا على أن لا دين بينهما، وللمؤدي أن يسترد المقبوض من القابض فلم يصر هو ملكا للقابض، وإنما قيده بقوله دين ميت، فإنه لو قضى بها دين حي بأمره يجوز، وتقع الزكاة كأنه تصدق على المديون، والقابض وكيل في قبض الصدقة كذا في " شرح الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا الولوالجي لو أمر فقيرا بقبض دين له من زكاة ماله جاز، لأنه قبض عينا والعين تجوز عن العين والدين جميعا، أما لو تصدق بمال على الذي هو له عليه دين وهو فقير جاز عن ذلك، ولم يجز عن العين، لأن في الوجه الأول أدى المال الناقص عن الناقص فيجوز، وفي الوجه الثاني أدى الناقص عن الكامل فلا يجوز. وقال أبو ثور وابن حبيب من المالكية: يقضي بها دين الميت، وجعلاه من الغانمين، والصحيح ما ذكرناه.
وبه قال الثوري ومالك والشافعي وأحمد م: (لا سيما من الميت) ش: كان في نسخة الأترازي وقع سيما بدون لا، فقال: هذا على خلاف استعمال العرب، لأن قياس كلامهم أن يقال لا سيما وهي من كلمات الاستثناء، قال صاحب " المقتصد ": أما لا سيما فله وجهان، أحدهما أن يقول كما في القوم لا سيما زائدة فيجر وتجعل ما زائدة، كأنك قلت: لا سي زيد بمنزلة لا مثل زيد.
والوجه الثاني: أن تقول: لا سيما زيد فتجعل ما بمعنى الذي، وزيد خبر مبتدأ محذوف كأنك قلت لا سي الذي هو زيد، وقيل الجر بعد لا سيما كثير والرفع قليل، وقد يجوز النصب وهو الأقل، انتهى. وقال الميداني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الهادي للساري ": إن لا سيما كلمة تخصيص، أي أخص ما يذكر بعده إذا قلت: أكرمني الناس، لا سيما زيد أي خاصة زيد. م: (ولا يشتري بها) ش: أي بالزكاة م: (رقبة تعتق، خلافا لمالك حيث ذهب إليه) ش: أي إلى جواز شراء العبد بالزكاة لأن يعتق، وبه قال إسحاق وأبو ثور وعبد الله بن الحسن العنبري، ورواه البخاري عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (في تأويل قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] ش:

(3/463)


ولنا أن الإعتاق إسقاط الملك وليس بتمليك.
ولا تدفع إلى غني
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أو لأنه قال يشتري مملوكا فيعتق، لأن لفظ الرقاب يقتضي ذلك.
م: (ولنا أن الإعتاق إسقاط وليس بتمليك) ش: لأن التمليك ركن، لأنه الأصل في دفع الزكاة.
فإن قلت: أنتم جعلتم اللام في الآية للعاقبة ودعوى التمليك بدلالة اللام فلم تبق إلا دعوى مجردة.
قلت: معنى جعل اللام للعاقبة أن المقبوض يصير ملكا لهم في العاقبة ثم يحصل لهم الملك بدلالة اللام فلم تبق دعوى مجردة.

م: (ولا تدفع) ش: أي الزكاة م: إلى غني) ش: أي الذي يملك النصاب، لأن الغنى ثلاثة أنواع. أحدهما: الغنى الذي يتعلق به وجوب الزكاة وهو أن يملك نصابا من المال النامي الفاضل عن حاجته.
الثاني: الغنى الذي تحرم له الصدقة وتجب به الفطرة والأضحية وهو أن يملك ما يساوي مائتي درهم فاضلا عن ثيابه وثياب أهل بيته وخادمه ومسكنه وفرسه وسلاحه.
والثالث: الغنى الذي يحرم له السؤال وعليه العامة، وفي " العين " عن أحمد روايتان في الغنى المانع من أخذ الزكاة، أظهرهما مالك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب، وإن لم يقل بكفايته. وفي " شرح الهداية " لأبي الخطاب روي ذلك عن علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص والنخعي والثوري وابن المبارك وابن جني وابن راهويه.
والرواية الثانية: والغنى المحرم لأخذ الزكاة ما يحصل به كفاية الإنسان حتى لو كان محتاجا حلت له الصدقة وإن كان يملك نصابا، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي رواية عن مالك وعندنا ملك النصاب الذي يصير به غنيا على ما ذكرته، وهو قول ابن شبرمة ورواية المغيرة عن مالك، والتقدير بالحاجة مع ملك النصاب ضعيف، إذ لا ضابط للحاجة ولم يرد به شرع، والنصاب ضابط شرعي لأن الغني دافع لا آخذ.
وقال الحسن البصري وأبو عبيد: الغني من ملك أوقية وهي أربعون درهما، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو كان للرجل دار تساوي عشرة آلاف درهم ليس فيها من فضل على سكناه يحل له أخذ الزكاة، وإن فضل فيها عن ذلك ما يساوي مائتي درهم لا تحل، ولو كانت له ضيعة غلتها لا تفضل عنه وعن عياله لا تحل له الزكاة عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تحل له لأنها مشغولة بحاجة ويشق عليه بيعها، ولو كان له فيها [.....] لا تحل له الزكاة عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تحل لأنه تبع للضيعة.

(3/464)


لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " فتاوى" الفضلي قيل لرجل: كيف حالك؟ قال: أنا غني عند أبي يوسف فقير عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هذا رجل ملك دارا وحوانيت تساوي ألوفا، لكن لا تكفي غلتها لقوته وقوت عياله، عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - غني لا تحل له الصدقة، وعند محمد فقير تحل له الصدقة، وعن الحسن البصري قال: كانت الصدقة تحل للرجل وله دار وخادم وسلاح يساوي عشرة آلاف درهم.
وفي المرغيناني لو كان له كسوة ثيابا لا يحتاج إليها في الصيف لا تحل له الزكاة عند أبي يوسف، وقياس هذا لا تحل له الزكاة عند أبي يوسف إذا كان له طعام سنة يبلغ نصابا، وهو خلاف المشهور، وفي " المحيط وجوامع الفقه " لو زاد على طعام شهر يبلغ مائتي درهم لا تحل له الصدقة، وذلك وفي " الذخيرة " هذا قول المشايخ، واختاره الصدر الشهيد، وبعض المشايخ اعتبر ما زاد على السنة.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا تحل الصدقة لغني» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فعن عبد الله بن عمرو أخرجه أبو داود والترمذي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» ، وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه النسائي وابن ماجه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي» ، وأخرجه ابن حبان أيضا، وعن حبشي بن جنادة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وهو واقف بعرفة.... الحديث، وفيه: «أن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي إلا لذي فقر مدقع أو غرم» ، وانفرد به الترمذي.
وعن جابر أخرجه الطبراني في "الأوسط" أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من سأل وهو غني عن المسألة يحشر يوم القيامة وهي خموش في وجهه» وعن الوازع بن نافع عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله: «قال جاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة فركبه الناس، فقال: "إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح سوي ولا لعامل قوي» ، وقال ابن حبان: الوازع بن نافع يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته.

(3/465)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن طلحة بن عبد الله أخرجه أبو يعلى الموصلي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» ، ضعيف، وعن عبد الرحمن بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الطبراني في "معجمه" نحو حديث طلحة، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه ابن عدي في " الكامل " نحوه وهو ضعيف، وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه أبو داود وابن ماجه «أن رجلا من الأنصار أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأله فقال: "أما في بيتك شيء؟ " قال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء....» الحديث، وفيه: «إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة، لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع» .
وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه تمام في "فوائده " من حديث مسروق قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل الناس ليروا ماله فإنما هو رضف من النار يلتقمه، فمن شاء فليفعل، ومن شاء فليكثر» ، وفيه يحيى بن السلمي ضعيف صالح مرره، وعن عمران بن حصين أخرجه أحمد والدارمي من رواية الحسن عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مسألة الغني شين في وجهه يوم القيامة» ، وعن ثوبان أخرجه أحمد والبزار والطبراني من رواية معدان بن أبي طلحة عن ثوبان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سأل مسألة وهو عنها غني كانت شينا في وجهه يوم القيامة» وإسناده صحيح، وعن مسعود بن عمر أخرجه البزار والطبراني في "الكبير " بإسنادهما عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه» .
وعن رجل من بني هلال رواه أحمد من رواية أبي زميل، قال حدثني رجل من بني هلال قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تحل المسألة لغني ولا لذي مرة سوي» . وعن رجلين غير مسميين أخرجه أبو داود والنسائي من رواية عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: «أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة. فسألاه منها فرفع فينا البصر وخففه فرآنا جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» ، انتهى.
المرة بكسر الميم القوة والشدة ومنه قَوْله تَعَالَى في وصف جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 6] (النجم: الآية 6) ، والسوي الصحيح الأعضاء، ومدقع بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر القاف وبعين مهملة هو الشديد وهو من الدقع وهو التراب، ومعناه يفضي لصاحبه إلى الدقعاء، والغرم شيء لازم له، ومفظع بضم الميم وكسر الظاء المعجمة وهو

(3/466)


وهو بإطلاقه حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غني الغزاة، وكذا حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما روينا.
قال: ولا يدفع المزكي زكاته إلى أبيه وجده وإن علا ولا إلى ولده وولد ولده وإن سفل، لأن منافع الأملاك بينهم متصلة فلا يتحقق التمليك على الكمال ولا إلى امرأته للاشتراك في المنافع عادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشديد الشنيع. قوله -لذي دم، بالدال المهملة وتخفيف، وموجع، بكسر الجيم، وهو ما وجب على العاقلة تحمله من الدية.
م: (وهو بإطلاق حجة على الشافعي في غني الغزاة) ش: فإنه يجوز دفع الزكاة إلى الغازي وإن كان غنيا.
فإن قلت: خص منه العامل الغني حيث يحل له أخذ الصدقة، وابن السبيل الذي له مال كثير في بيته.
قلت: لا نسلم التخصيص لأن الذي يأخذه العامل أجرة عمله لا باعتبار أنه صدقة، وأن الذي يأخذه ابن السبيل باعتبار أنه فقير في هذه الحالة.
فإن قلت: جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله أو ابن السبيل أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك» فهذا يدل على ما قاله.
قلت: معنى الغني بكسبه، أي المستغني بكسبه عن السؤال، فإنه إن استغنى بالكسب لا تحل له الصدقة إلا إذا كان غازيا فتحل له لاشتغاله بالجهاد عن الكسب.
م: (وكذا حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما روينا) ش: أي وكذا حديث معاذ بن جبل حجة عليه وقد مر.

[دفع الزكاة للآباء والأبناء والزوجة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يدفع المزكي زكاته إلى أبيه وجده وإن علا، ولا إلى ولده وولد ولده وإن سفل) ش: وكذا لا يدفع إليهم عشره وسائر واجباته، بخلاف الركاز إذا وجده له أن يعطي خمسه من هو من أهل الحاجة منهم، ولو بقي شيء لولده لم يعطه، وكذا المخلوق من مائه بالزنا م: (لأن منافع الأملاك بينهم متصلة) ش: حتى ينتفع أحدهما بمال الآخر ولهذا لم تقبل شهادة البعض للبعض، فكان الصرف إليهم صرفا إلى نفسه من وجه م: (فلا يتحقق التمليك على الكمال) ش.
فالشرط التمليك الكامل م: (ولا إلى امرأته) ش: أي ولا يدفع المزكي زكاته إلى امرأته م: (للاشتراك في المنافع عادة) ش: قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] (الضحى: الآية 8) ، قيل أي بمال خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وسواء كانت امرأته في عدة رجعي أو بائن بواحدة أو بثلاث،

(3/467)


ولا تدفع المرأة إلى زوجها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما ذكرنا. وقالا: تدفع إليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة» قاله لامرأة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو تزوجت امرأة الغائب فولدت أولادا قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الأولاد من الغائب، ومع هذا يجوز دفع الزكاة إليهم، وتجوز شهادة الأولاد له، ذكره الإمام التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " المبسوط " وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجزئه إذا دفعها إلى امرأته لأنه لا حرمة بينهما، وتجوز شهادته له عنده، وفي " المجتبى " وهذا قول مسند، والمشهور عن الشافعي أنه لا يجوز.
وفي " الأسبيجابي " وأما الأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأولادهم فلا بأس بدفع الزكاة إليهم، وذكر الزندويسني أن الأفضل في مصرف الزكاة المال إلى هؤلاء السبعة، أخوته وأخواته الفقراء، ثم أولادهم ثم أعمامه وعماته الفقراء، ثم أخواله وخالاته الفقراء، ثم ذوو أرحامهم ثم جيرانه ثم أهل سكنه ثم أهل مصره.
م: (ولا تدفع المرأة) ش: أي الزكاة م: (إلى زوجها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم ذكرنا) ش: أي للاشتراك في المنافع، وبه قال مالك وأحمد، واختاره الحربي وأبو بكر من الحنابلة م: (وقالا تدفع إليه) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-: تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها وبه قال الشافعي وأشهب من المالكية، وقال القرافي كرهه الشافعي وأشهب.
قلت: حكى الثوري أن زوجها أفضل عند الشافعي م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة» قاله لامرأة ابن مسعود) ش: هذا الحديث أخرجه مسلم وأخرجه الجماعة إلا أبا داود عند زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن"، قالت فرجعت إلى عبد الله فقلت إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم، قالت: فقال لي عبد الله: بل ائتيه أنت. فانطلقت فإدا امرأة من الأنصار بباب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلنا له: أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن امرأتين بالباب يسألونك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبر من نحن.
قالت: فدخل بلال فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "من هما؟ " فقال: امرأة من الأنصار وزينب، قال: "أي الزيانب" قال: امرأة عبد الله بن مسعود، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لهما أجران أجر القرابة وأجر الصلة» واسم امرأة ابن مسعود زينب وهي بنت عبد الله بن معاوية الثقفية، ويقال اسمها رايطة، ويقال ريطة، ويقال اسمها زينب وريطة لقت لها، وقيل ريطة

(3/468)


وقد سألته عن التصدق عليه قلنا هو محمول على النافلة.
قال: ولا يدفع إلى مكاتبه وأم ولده ومدبره لفقدان التمليك إذ كسب المملوك لسيده، وله حق في كسب مكاتبه فلم يتم التمليك، ولا إلى عبد قد أعتق بعضه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه بمنزلة المكاتب عنده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زوجة أخرى لابن مسعود وهي أم ولده، ذكرها ابن الأثير في الصحابيات. وقال الطحاوي: ورايطة هذه هي زينب امرأة عبد الله، ولا نعلم أن عبد الله كانت له امرأة غيرها في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (وقد سألته عن الصدقة على زوجها) ش: أي والحال أن امرأة ابن مسعود سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التصدق على ابن مسعود م: (قلنا هو محمول على النافلة) ش: هذا جواب عن حديث زينب، وهو أنه محمول على صدقة التطوع، ألا ترى أنها سألت عما كانت تنفق على عبد الله وأيتام لها في حجرها، ومعلوم أن صدقة الشخص إذا كانت فريضة فلا يحوز صرفها في ولده، فعلم بذلك أنها كانت نافلة.

م: (قال ولا يدفع إلى مكاتبه) ش: أي ولا يدفع زكاته إلى أي وبه قال الثوري والشافعي وجمهور العلماء، لأن كسب المكاتب موقوف على سيده، فلم يوجد الإخراج الصحيح، وإذا دفع إلى مكاتب غيره وإن كان مولاه غنيا، لأن أداء الزكاة إلى الغني يجوز في الجملة كالعامل الغني وابن السبيل إذا كان له مال في وطنه م: (وأم ولده) ش: لقيام الملك فيها، ولهذا يحل وطؤها وإنما يحرم بيعها.
م: (ومدبره) ش: سواء كان مقيدا أو مطلقا لقيام الملك فيه، ولهذا يجوز عتقه، وهذا التعليل يرجع إلى الكل م: (لفقدان التمليك أو كسب المملوك لسيده، وله حق في كسب مكاتبه فلم يتم التمليك) ش: وهذا التعليل يرجع إلى الكل.
م: (ولا إلى عبد قد أعتق بعضه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه بمنزلة المكاتب عنده) ش: إن كانت الرواية بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله، فصورته إذا رهن عبد ثم أعتقه الراهن وهو معسر فهذا العبد يسعى والمستسعى عنده كالمكاتب، فلو أدى الرهان زكاته إليه لا يجوز عنده، لأنه أدى إلى مكاتبه، وهو محمول على ما إذا أعسر بعد وجوب الزكاة عليه، وقال السروجي: يؤخذ على صاحب الحواشي حكمان فيه، الأول: كون المستسعى عنده كالمكاتب ليس على الإطلاق، فتارة يكون حكمه حكم المكاتب عنده، إلا أنه لا يرد إلى الرق للعجز، وتارة يكون حرا وهو يسعى بالإنفاق، وهذا في مسائل ذكرها في زيادات قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -. منها إذا قال المولى لأمته: أعتقتك على أن تزوجيني نفسك، فقبلت عتقت، فإن أبت تسعى في قيمتها وهي حرة بالإنفاق، وفيما إذا أعتق الراهن العبد المرهون وهو معسر يسعى في قيمته وهو حر بالاتفاق.

(3/469)


وقالا: يدفع إليه لأنه حر مديون عندهما، ولا يدفع إلى مملوك غني، لأن الملك واقع لمولاه ولا إلى ولد غني إذا كان صغيرا، لأنه يعد غنيا بمال أبيه، بخلاف ما إذا كان كبيرا فقيرا، لأنه لا يعد غنيا بيسار أبيه وإن كانت نفقته عليه، بخلاف امرأة الغني لأنها وإن كانت فقيرة لا تعد غنية بيسار زوجها وبقدر النفقة لا تكون موسرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحكم الثاني: وهو قوله: إذا أعتق الراهن العبد المرهون يسعى وهو عنده كالمكاتب عنده، بل هذا غلط بل يسعى وهو حر.
م: (وقالا: يدفع إليه لأنه حر مديون عندهما) ش: وفي " الكافي ": هذا لا يستقيم على قولهما، لأنه لو أعتق نصف عبده يعتق كله بلا سعاية، وإنما يستقيم على قولهما إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه وهو معسر فحينئذ عندهما حر مديون، قيل في جوابه: هذا بعد عرضة كونه مديونا لأنه خرج عن الرق، وليس له شيء ولا يتهيأ له كسب في الحال، فلا بد من لحوق الدين غالبا وهو غير قوي.
م: (ولا يدفع إلى مملوك غني) ش: بإضافة المملوك إلى الغني، أي مملوك رجل غني م: (لأن الملك واقع لمولاه) ش: لأن العبد لا يملك شيئا، ولا بد من قيد إلى مملوك غني غير مكاتبه، وفي " التحفة " لا يجوز إلى مملوكه إذا لم يكن عليه دين كدين الاستهلاك أو دين التجارة، وإن كان مستغرقا به ينبغي أن يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يملك كسبه عنده، وكذا لا يجوز دفها إلى مدبر غني وأم ولده إذا لم يكن عليهما دين مستغرق. وفي " الذخيرة " إذا كان العبد زمنا وليس في عيال مولاه ولا يجد شيئا يجوز، وكذا إذا كان مولاه غائبا، وإن كان غنيا، يروى عن أبي يوسف.
م: (ولا إلى ولد غني إذا كان صغيرا، لأنه يعد غنيا بمال أبيه) ش: لأنه تجب ولاية الأب ومؤنته. وفي " فنية المنية ": إذا لم يكن للصغير أب وله أم غنية يجوز الدفع إليه، وفي " الذخيرة "، وذكر في بعض " شروح الجامع الصغير " إن على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز الدفع إلى ولد الغني صغيرا كان أو كبيرا، وقال صاحباه: يجوز في " الكبير " دون الصغير م: (بخلاف ما إذا كان كبيرا فقيرا، لأنه لا يعد غنيا بيسار أبيه وإن كانت نفقته عليه) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها، أي كانت نفقة الولد الكبير على الأب بأن كان زمنا أو أعمى أو أنثى.
م: (وبخلاف امرأة الغني لأنها إذا كانت فقيرة لا تعد غنية بيسار زوجها وبقدر النفقة لا تكون موسرة) ش: لأن مقدار النفقة لا يغنيها، وفي " التحفة ": يجوز الدفع إلى امرأة الغني إذا كانت فقيرة، وكذلك إلى البنت الكبيرة فقيرة، يعني وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن الزوج لا يدفع حوائج الزوجية والبنت الكبيرة. وفي " الينابيع ": يجوز دفع الزكاة إلى امرأة الغني عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

(3/470)


ولا تدفع إلى بني هاشم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يا بني هاشم! إن الله تعالى حرم عليكم غسالة الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقالا: إن فرض القاضي النفقة على الزوج لا يجوز، وقيل: قول محمد مع أبي حنيفة وهو الأصح، وإن لم يفرض القاضي النفقة لها جاز بالإجماع، وإنما شرط القضاء بالنفقة على قول أبي يوسف لأن الاستغناء به يتأكد، لأن قبل القضاء لا يصير دينا، كذا في " الإيضاح ".
ولو دفع إلى صبي غير عاقل فدفعه هو إلى وصيه أبو أبيه لا يجزئه من الزكاة، ويجوز قبض الصغير بنفسه إذا عقل ذلك. ولو دفع إلى المعتوه جاز بخلاف المجنون.

[حكم إعطاء الزكاة والصدقة لبني هاشم ومواليهم]
م: (ولا تدفع إلى بني هاشم) ش: أي ولا تدفع الزكاة إلى بني هاشم. وفي " الإيضاح" الصدقات الواجبات كلها عليهم لا تجوز لإجماع الأئمة الأربعة، وروى أبو عصمة عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز دفع الزكاة إلى الهاشمي، وإنما كان لا يجوز في ذلك الوقت لسقوط خمس الخمس، ويجوز النقل بالإجماع. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه قال: لا بأس بصدقة بني هاشم بعضهم على بعض، ولا أرى الصدقة عليهم ولا على مواليهم من غيرهم. وفي " شرح الآثار ": عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا بأس بالصدقات كلها على بني هاشم والحرمة للعوض، وهو خمس الخمس، فلما سقط ذلك بموته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلت لهم الصدقة.
قال الطحاوي: وبه نأخذ، في السفر يجوز الصرف إلى بني هاشم في قوله خلافا لهما، وفي " المبسوط " يجوز دفع صدقة التطوع والأوقاف إلى بني هاشم، وروي عن أبي يوسف ومحمد في " النوادر " وفي " شرح مختصر الكرخي " و" الأسبيجابي " و" المفيد " إذا سموا في الوقف، وفي " الكرخي " إذا أطلق الوقف لا يجوز، لأن حكمهم حكم الأغنياء. وفي " الذخيرة ": الوقف على أقرباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جائز، وإن كانت الصدقة لا تحل لهم، وفي " النسفي " عن أبي يوسف: يجوز صرف صدقات الأوقاف إلى الهاشمي إذا سمي في الوقف.
وفي " شرح التجريد " للكردي: الصدقة على بني هاشم بطريق الصلة والتبرع، قال بعض أصحابنا تحل، وقال بعضهم: لا تحل. وفي " شرح القدوري ": الصدقة الواجبة كالزكاة والعشر والنذر والكفارات لا تجوز لهم.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «يا بني هاشم! إن الله تعالى حرم عليكم غسالة الناس وأوساخهم، وعوضكم منها بخمس الخمس» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وروى الطبراني في "معجمه " من حديث عكرمة، وروى مسلم في حديث طويل من رواية عبد المطلب وربيعة مرفوعا أن «هذا الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد.» وروى الطبراني في "معجمه " من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء، إنما هي غسالة الأيدي وإن لكم في

(3/471)


بخلاف التطوع، لأن المال ها هنا كالماء يتدنس بإسقاط الفرض، أما التطوع فبمنزلة التبرد بالماء. قال: وهم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث بن عبد المطلب ومواليهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خمس الخمس لم يعنيكم» . وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أخذ الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تمرا من تمر الصدقات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» ، متفق عليه. وكخ كلمة لزجر الصبيان والودع. قال الداودي: هي كلمة عجمية عربتها العرب، ويروى بفتح الكاف والتنوين، وفي رواية أبي ذر بكسر الكف وسكون الخاء ويروى بتشديد الخاء أيضا.
م: (بخلاف التطوع) ش: أي يجوز صرف صدقة التطوع إلى بني هاشم م: (لأن المال ها هنا كالماء يتدنس بإسقاط الفرض) ش: أراد أن حكم المال في هذا الباب كحكم الماء، فإنه يصير مستعملا بإسقاط الفرض م: (أما التطوع) ش: أي ما صدقة التطوع م: (فبمنزلة التبرد بالماء) ش: حيث لا يتدنس المؤدي به بمنزلة الماء المستعمل، وفي النفل يتبرع بما ليس عليه فلا يتدنس به المؤدى كمن تبرد بالماء، أو نقول: الماء في التطهير فوق المال، لأن المال يطهر حكما، والماء حقيقة وحكما، فيكون المال مطهرا من وجه دن وجه.
فجعله متدنسا في الفرض دون النفل عملا بالشبهين، وأجيب بالوجه الثاني عن اعتراض من يقول بأن التشبيه بالوضوء على الوضوء كان السبب باعتبار وجود القربة بهما.
م: (قال: وهم) ش: أي بنو هاشم م: (آل علي وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث ابن عبد المطلب ومواليهم) ش: أي موالي هؤلاء، اعلم أن العباس والحارث عمان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجعفر وعقيل أخوان لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فكلهم ينتسبون إلى هاشم بن عبد مناف، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وولده أبو طالب عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن عبد المطلب طالبا ولا عقب له، وجعفرا ذا الجناحين قتل يوم مؤتة وعقيلا وعليا، وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وكان بين طالب وعقيل عشر سنين، وبين عقيل وجعفر عشر سنين، وبين جعفر وعلي عشر سنين.
قال أبو نصر البغدادي: وما عدا المذكورين لا تحرم عليهم الزكاة، ويقويه قول الأسبيجابي في " شرح القدوري ": أنهم كانوا ينسبون إلى هاشم بن عبد مناف إلا من أبطل النص قرابته وهم بنو أبي لهب. وعن أحمد روايتان في بني عبد المطلب، وقال أصبغ: هم عشيرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأقربون الذين أمروا بإنذارهم إلى قصي.
وقيل قريش كلها. وفي " الكمال ": كل من ينسب إلى فهر ليس بقرشي، وإن من تقدم

(3/472)


أما هؤلاء فلأنهم ينسبون إلى هاشم بن عبد مناف، ونسبة القبيلة إليه. وأما مواليهم فلما روي «أن مولى لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأله أتحل لي الصدقة؟ فقال: لا أنت مولانا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا فلا يقال إنه قرشي، وفهر أبو قريش، وقال محمد بن إسحاق: قريش هو النضر، وتابعه عليه أبو عبيد وأكثر الناس. وحكى الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معاني القرآن " أن ولد المطلب منهم، قال: ولم أجد ذلك رواية عنهم، وجعل بني أبي لهب من أهل البيت، فمقتضى هذا أن تحرم الصدقة عليهم، وهذا خلاف ما ذكره أبو نصر والأسبيجابي. م: (أما هؤلاء) ش: أشار به إلى قوله وهم آل علي إلى آخره.
م: (فلأنهم ينسبون إلى هاشم بن عبد مناف) ش: اسم هاشم عمرو، وإنما سمي هاشما لأنه هشم الئريد لقومه، واسم عبد مناف المغيرة م: (ونسبه القبيلة إليه) ش: أي نسبة قبيلة بني هاشم إلى هاشم بن عبد مناف، ذكر الزبير بن بكار أن العرب ستة طبقات شعب وقبيلة وعمارة وبطن وفخذ وفصيلة، قالوا: كنانة بن خزيمة قبيلة.
وقريش هو النضر بن كنانة عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، والشعب فوق الكل بجميع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل، والشعب مثل مضر وربيعة وحمير ومذحج.
م: (وأما مواليهم) ش: جمع مولى أي وأما وجه دخول موالي بني هاشم في حكم بني هاشم في حرمة أخذ الصدقات م: (فلما روي أن مولى «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأله أتحل لي الصدقة؟ فقال: لا أنت مولانا» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن ابن أبي رافع مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني، فلك نصيب منها، فقال: لا حتى آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسأله، فأتاه فسأله فقال: "مولي القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة» . وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، وأخرجه أحمد في "مسنده" والحاكم في "مستدركه "، واسم ابن أبي رافع عبد الله واسم أبي رافع أسلم وقيل: إبراهيم، وقيل: ثابت، وقيل: هرمز، وكان كاتب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله رجلا من بني مخزوم هو الأرقم بن أبي الأرقم القرشي المخزومي بين ذلك النسائي والخطيب، كان من المهاجرين الأولين، وكنيته أبو عبد الله، وهو الذي استخفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في داره بمكة في أسفل الصفا حتى كملوا أربعين رجلا آخرهم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهي الدار التي تعرف بالخيزران.
قوله: أتحل لنا الصدقة، الهمزة فيه للاستفهام على وجه الاستخبار، والمراد بالصدقة

(3/473)


بخلاف ما إذا أعتق القرشي عبدا نصرانيا حيث تؤخذ منه الجزية ويعتبر حال المعتق، القياس والإلحاق بالمولى بالنص وقد خص الصدقة
قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا دفع الزكاة إلى رجل يظنه فقيرا ثم بان أنه غني أو هاشمي كافر، أو دفع في ظلمة فبان أنه أبوه أو ابنه فلا إعادة عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزكاة، وللشافعي في الموالي وجهان أحدهما مثل مذهبنا، وفي وجه لا تدفع.
م: (بخلاف ما إذا أعتق القرشي عبد نصرانيا حيث تؤخذ منه الجزية، ويعتبر حال المعتق) ش: بفتح التاء، هذا جواب عن سؤال مقدر، بيانه أن يقال: كيف ألحق موالي بني هاشم بهم في حرمة الصدقة؟ ولم يلحق مولى القرشي في منع أخذ الجزية؟ إذ لا يجوز وضع الجزية على القرشي، ويجوز وضعها على عبده النصراني إذا أعتقه، فقال في جوابه بخلاف ما إذا أعتق..
إلخ، وحاصله أن القياس أن يعتبر حال المعتق بفتح التاء، ولا يلحق بالمعتق بكسر التاء في حال ما، لأن كل واحد منهما أصل بنفسه من حيث البلوغ والعقل والحرية، وخطاب الشرع م: (لأن القياس والإلحاق) ش: أي إلحاق المعتق م: (بالمولى) ش: إنما كان م: (بالنص وقد خص) ش: أي النص م: (الصدقة) ش: يعني ورد النص خاصا بالصدقة، فاقتصر على مورد النص لوروده على خلاف القياس فلا يتعداه، ولهذا يؤخذ من مولى التغلبي الجزية دون الصدقة المضاعفة.

[الحكم لو دفع الزكاة لغير مستحقيها وهو لا يعلم]
م: (قال أبو حنيفة ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا دفع الزكاة إلى رجل يظنه فقيرا) ش: أي حال كون الدافع يظن الرجل الذي دفع إليه الزكاة فقيرا م: (ثم بان) ش: أي ظهر م: (أنه غني أو هاشمي أو كافر، أو دفع زكاته في ظلمة فبان أنه أبوه أو ابنه فلا إعادة عليه) ش: أي لا يجب عليه إعادة الزكاة، وهو قول الحسن البصري وأبي عبيد، وبه قال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قول، هذا من المغني عنده، وأما في الكافر فأظهر القولين الإعادة وبه قال مالك وأحمد.
وكذا لو بان هاشميا أو أحد أبويه أو ابنه فإنه يعيدها عندهم، وفي طريق آخر إن كان الدفع من جهة الإمام فيه قولان، وإن كان من جهة رب المال فعليه الإعادة قولا واحدا. قوله: أو كافر، أراد به الذمي، وقد صرح أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح مختصر الطحاوي ". وقال صاحب " التحفة ": وأجمعوا أنه إذا ظهر أنه حربي أو مستأمن لا يجوز. وفي " التحفة " أيضا إذا دفعها إلى المذكورين فهذا على ثلاثة أوجه.
الأول: دفعها بنية الزكاة، ولم يخطر بباله أنه غني أو فقير أو مسلم أو ذمي فهو على الجواز، إلا إذا تبين من يمنعه.
الثاني: دفعها على وجه الشك، ولم يتحر أو تحرى بقلبه ولم يفهم دليل الفقر، فالأصل الفساد إلا إذا تبين أنه فقير فيجوز.

(3/474)


وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه الإعادة لظهور خطأه بيقين، وإمكان الوقوف على هذه الأشياء وصار كالأواني والثياب. ولهما حديث معن بن يزيد فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: «يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت» وقد دفع إليه وكيل أبيه صدقته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: إذا تحرى وطلب، وفي " المبسوط " فسأله فأخبره أنه فقير أو كان جالسا مع الفقراء أو كان عليه زي الفقر. وفي " المفيد ": وكان يصنع صنعهم من مد اليد، أو كان ضريرا ومعه عصي فظهر خلافه، فلا إعادة عليه عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-.
م: (وقال أبو يوسف: عليه الإعادة) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول الثوري وابن حي وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لظهور خطئه بيقين وإمكان الوقوف على هذه الأشياء) ش: فيكون مقصرا فعليه الإعادة ثانيا ولا تقع الأولى عن الزكاة، فليس معناه أنه يجب استرداد ما أدى لأنه يرد بالاتفاق، وهل يطيب المقبوض للقابض، ذكر الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه رواية فيه واختلفوا فيه.
فعلى قول من لا يطيب ماذا يصنع بها؟ قيل يتصدق به، وقيل يرد للمعطى على وجه التمليك ليعيد الأداء م: (وصار كالأواني والثياب) ش: أي صار الحكم في هذه المسألة كالحكم في الأواني والثياب، يعني إذا توضأ من إناء نجس على اجتهاده أنه طاهر، أو صلى في ثوب نجس على اجتهاده أنه طاهر ثم تبين أنه نجس تلزمه الإعادة، والأواني الطاهرة إذا اختلطت بالنجسة، فإن غلبت الطهارة مثل أن يكون إناءان طاهرين أو واحدا نجسا فإنه لا يجوز له أن يترك التحري.
فإذا تحرى وتوضأ ثم ظهر الخطأ يعيد الوضوء، وأما إذا غلبت الطهارة أو تساويا يتيمم ولا يتحرى. أما الثياب الطاهرة إذا اختلطت بالنجسة وليس ثمة علامة يعرف بها فإنه يتحرى مطلقا، فإذا صلى بثوب بها بالتحري ثم طهر خطؤه أعاد الصلاة.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- م: (حديث معن بن يزيد فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: «يا يزيد لك ما نويت، ويا معن لك ما أخذت» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري عن معن بن يزيد قال: «بايعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وأبي وجدي وخطب على فأنكحنى وخاصمت له، وكان أبي أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فأخذتها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن» ، وجوز ذلك ولم يستفسر أن الصدقة كانت فريضة أو تطوعا، وذلك يدل على أن الحال لا يختلف، أو لأن مطلق الصدقة ينصرف إلى الفريضة.
م: (وقد دفع إليه) ش: أي إلى معن م: (وكيل أبيه صدقته) ش: هذا بيان صورة الواقعة، وبينها في متن الحديث، ولكن ليس في الحديث أن وكيل أبيه دفعه أليه، وإنما فيه هو الذي أخذه

(3/475)


ولأن الوقوف على هذه الأشياء بالاجتهاد دون القطع فيبني الأمر فيها على ما يقع عنده كما إذا اشتبهت عليه القبلة، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير الغني أنه لا يجزئه، والظاهر هو الأول، وهذا إذا تحرى ودفع، وفي أكبر رأيه أنه مصرف، أما إذا شك ولم يتحر أو تحرى فدفع وفي أكبر رأيه أنه ليس بمصرف لا يجزئه غلا إذا علم أنه فقير فتجزئه هو الصحيح.
ولو دفع إلى شخص ثم علم أنه عبده أو مكاتبه لا يجزئه لانعدام التمليك لعدم أهلية الملك وهو الركن على ما مر،
ولا يحوز دفع الزكاة إلى من يملك نصابا من أي مال كان، لأن الغنى الشرعي مقدر به الشرط أن يكون فاضلا من الحاجة الأصلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولم يدفعه إليه وكيل أبيه م: (ولأن الوقوف على هذه الأشياء بالاجتهاد دون القطع) ش: أي هذا جواب عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن كان الوقوف على هذه الأشياء، يعنى سلمنا أن الوقوف على هذه الأشياء ممكن، لكنه بالاجتهاد دون القطع، وإذا كان كذلك م: (فيبنى الأمر فيها على ما يقع عنده) ش: لأن العلم بحقيقة الفقر والغنى غير ممكن، فإن الإنسان قد لا يعرف أحوال نفسه فيهما فكيف يعرف أحوال نفسه في غيرهما، والتكليف بحسب الوسع، ووسعه الاجتهاد دون القطع م: (كما إذا اشتبهت عليه القبلة) ش: فإنه يتحرى بحسب وسعه فيصلي بما يقع على تحريه.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير الغني أنه لا يجزئه) ش: يعني إذا بان أنه هاشمي أو كافر أو أنه أبوه أو ابنه فإنه يعيده م: (والظاهر هو الأول) ش: أي ظاهر الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الإجزاء في الكل م: (وهذا) ش: أي عدم الإعادة م: (إذا تحرى ودفع وفي أكبر رأيه أنه) ش: أي والحال أن في أكبر رأيه م: (مصرف) ش: أي للزكاة م: (أما إذا شك فلم يتحر أو تحرى ودفع وفي أكبر رأيه أنه ليس بمصرف لا يجزئه إلا إذا علم أنه فقير فتجزئه هو الصحيح) ش: احترز به عن قول بعض مشايخنا أنه لا يجزئه عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-.

م: (ولو دفع إلى شخص ثم علم أنه مكاتبه لا يجزئه) ش: وكذا إذا ظهر أنه مدبره أو أم ولده، وبه صرح في " شرح الطحاوي " م: (لانعدام التمليك) ش: لأنه لم يوجد الإخراج عن ملكه م: (لعدم أهلية الملك وهو الركن) ش: أي والحال أن التمليك وهو الركن في الزكاة ولم يوجد، لأن العبد وما في يده لمولاه، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
م: (على ما مر) ش: إشارة إلى قوله: لفقدان التمليك، إذ كسب المملوك لسيده، وله حق في كسب المكاتب فلم يتم التمليك.

م: (ولا يجوز دفع الزكاة إلى من ملك نصابا من أي مال كان) ش: يعني سواء كان من النقدين أو من العروض أو من السوائم م: (لأن الغنى الشرعي مقدر به) ش: أي بالنصاب م: (والشرط أن يكون فاضلا عن الحاجة الأصلية) ش: أي شرط عدم جواز دفع الزكاة إليه أن يكون النصاب فاضلا

(3/476)


وإنما النماء شرط الوجوب ويجوز دفعها إلى من يملك أقل من ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن الحاجة الأصلية، لأنه إذا كان غير فاضل عن حاجته الأصلية يجوز الدفع إليه، والحاجة الأصلية في حق الدراهم والدنانير أن يكون الدين مشغولا بها، وفي غيرها احتياجه إليه في الاستعمال وأحوال المعاش.
وعن هذا ذكر في " المبسوط ": لو كان له ألف درهم وعليه ألف درهم وله دار وخادم لغير الحاجة قيمته عشرة آلاف درهم فلا زكاة عليه، لأن الدين مصروف إلى المال الذي في يده، وأما الدار والخادم فمشغولان بالحاجة الأصلية فلا يصرف الدين إليه، وعلى هذا قال مشايخنا: إن الفقيه إذا ملك من الكتب ما يساوي مالا عظيما ولكنه يحتاج إليها يحل له أخذ الصدقات إلا أن يملك فاضلا عن حاجته ما يساوي مائتي درهم. وذكر المرغيناني: من كانت عنده كتب فقه أو حديث أو أدب يحتاج إلى دراستها يجوز دفع الزكاة إليه وكذا المصاحف.
وفي " جوامع الفقه ": الزائد على مصحف والكتب التي لا يحتاج إليها إذا بلغت قيمتها مائتي درهم يمنع جواز الدفع إلى مالكها، وعن الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعطى الزكاة لمن له عشرة آلاف درهم من الفرس والسلاح والأثاث والثياب والخادم والدار، كذا في " الإيضاح ".
م: (وإنما النماء شرط الوجوب) ش: يعني الشرط في عدم جواز الدفع ملك النصاب الفاضل عن الحاجة الأصلية ناميا كان أو غير نام، والنماء شرط وجوب الزكاة، لا كلام فيه، فلا يشترط لحرمان الصدقة، لأن الحرمان بالغناء وهو يحصل بالنامي وغير النامي، ولهذا تجب عليه صدقة الفطر والأضحية م: (ويجوز دفعها) ش: أي دفع الزكاة، م: (إلى من يملك أقل من ذلك) ش: أي من النصاب. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز دفعها إلى من ملك خمسين درهما لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل الناس وعنده ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش) قالوا: وما يغنيه يا رسول الله؟ قال: "خمسون درهما أو قيمتها من الذهب» . ذكر الكاكي هذا الحديث ولم يبين من أخرجه ولا أجاب عنه.
قلت: هذا الحديث أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قوله: خدوش، وفي رواية الترمذي خموش أو كدوح، الخموش هي الخموش وهو جمع خدش وهو قشر الجلد، والكدوح جمع كدح وهو كل أثر من خدش أو عض، وبهذا الحديث استدل الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق أن من كان عنده خمسون درهما لم تحل له الصدقة، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يرو الحديث المذكور حجة لضعفه، وهو إن حسنه الترمذي فقد ضعفه ابن معين والنسائي والدارقطني وغيرهم، لأن في إسناده حكيم بن جبير. قال الترمذي: وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث، وقال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "شرحه": وسئل شعبة عن حكيم بن جبير؟ فقال: أخاف النار، وقد كان

(3/477)


وإن كان صحيحا مكتسبا، لأنه فقير، والفقراء هم المصارف، ولأن حقيقة الحاجة لا يوقف عليها فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النصاب.
ويكره أن يدفع إلى واحد مائتي درهم فصاعدا، وإن دفع جاز. وقال زفر لا يجوز، لأن الغنى قارن الأداء فحصل الأداء إلى الغني. ولنا أن للغناء حكم الأداء فيتعقبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يروى عنه قديما، وقد ضعفه جماعة.
م: (وإن كان صحيحا مكتسبا لأنه فقير، والفقراء هم المصارف) ش: هذا واصل بما قبله أي وإن كان هذا الذي يملك أقل من النصاب صحيحا غير زمن ولا أعمى قادرا على الاكتساب، واحترز به عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده لا يجوز الدفع حقيقة الفقر والغنى لا يعلمها إلا الله -عز وجل- إذ رب شخص عليه آثار الفقر وهو أغنى القوم، ورب شخص عليه آثار الغنى وهو أفقر القوم في نفس الأمر لا يملك شيئا.
م: (فأدير الحكم على دليلها) ش: أي على دليل الحاجة م: (وهو) أي دليل الحاجة م: (فقد النصاب) ش: أي عدم النصاب وهو دليل ظاهر، فيقام مقام حقيقة الحاجة كما في الإخبار عن المحبة فيما إذا قال: إن كنت تحبيني فأنت طالق، فقالت: أحبك، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز دفعها إلى الفقير الكسوب، وقد ذكرناه. وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح المهذب ": القوي من أهل البيوعات لم تجر عادته بالتكسب بالبدن له أخذ الزكاة، ولو اشتغل بالعلم وترك التكسب، ويرجى له النفع حلت له الزكاة.

م: (ويكره أن يدفع إلى واحد مائتي درهم فصاعدا) ش: قال في " المبسوط ": الكراهة فيما إذا لم يكن عليه دين أو لم يكن صاحب عيال، أما إذا كان مديونا يجوز له أن يعطى قدر دينه وزيادة على دينه دون المائتين، وكذا إذا كان صاحب عيال يحتاج إلى نفقتهم وكسوتهم. قوله: فصاعدا، نصابا م: (وإن دفع جاز) ش: أي وإن دفع أكثر من مائتي درهم جاز.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز الغنى قارن الأداء) ش: لأنه كما يحصل الأداء يحصل الغنى، إذ الحكم يقارن العلة م: (فحصل الأداء إلى الغنى) ش: وبه قال الحسن بن زياد.
م: (ولنا أن للغنى حكم الأداء) ش: يعني يحصل الغنى بعد الأداء حكما له فلا يكون الغنى اللاحق له مانعا من جواز الأداء، لأن المانع يكون سابقا لا لاحقا، وهو معنى قوله: م: (فيتعقبه) ش: أي فيتعقب الأداء، قيل فيه نظر، لأن حكم العلة مقارن فلا يتأخر عنها كما في العلة الحقيقية، فإن الاستطاعة مع الفعل. عند أهل السنة فكيف يصح قوله: فيتعقبه.
وأجيب بأن الكل وإن قارب التمليك، لكن الغنى يثبت بحقيقة الأداء، لأن الغنى يقع ثم يقع الاستغناء به، والاستغناء إنما يثبت بالتمكن والاقتدار على التصرفات وذلك بما يقتضيه ولا

(3/478)


لكنه يكره لقرب منه كمن صلى وبقربه نجاسة. قال: وأن يغنى بها إنسانا أحب إلي معناه الإغناء عن السؤال يومه ذلك، لأن الإغناء مطلقا مكروه.
ويكره نقل الزكاة من بلد إلى بلد، وإنما تفرق صدقة كل فريق فيهم لما روينا من حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفيه رعاية حق الجوار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقترن به، وقال فخر الإسلام: الأداء بلا في الفقر، وإنما يثبت الغنى بحكمه، وحكم الشيء لا يصلح مانعا، لأن المانع ما يسبقه لا ما يلحقه، والجواز لا يحتمل البطلان لأن بالبقاء يستغنى عن الفقر م: (لكنه) ش: أي لكن دفع المائتي درهم إلى واحد م: (يكره لقرب الغنى منه) ش: أي من دفع المائتين م: (كمن صلى وبقربه نجاسة) ش: فإن صلاته جائزة مع الكراهة.
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وأن يغنى به إنسانا أحب إلي) ش: قال الأترازي: قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إغناؤك واحد وأحب إلي من إنفاقها إلى الكثير. وقال السغناقي وتبعه الكاكي والأكمل: هذا خطاب يخاطب به أبا حنيفة وأبا يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
قلت: الذي قال الأترازي أقرب إلى الصواب على ما لا يخفى، فيكون الخطاب من محمد إلى دافع الزكاة، وإنما كان أحب إليه لأن المراد منه الإغناء عن السؤال بأداء قوت يومه، وإليه أشار بقوله م: (معناه) ش: أي معنى كونه أحب م: (الإغناء عن السؤال) ش: في يومه ذلك، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم» م: (لأن الإغناء مطلقا مكروه) ش: بأن يجعله غنيا مالكا بالنصاب للنصاب.
وقال فخر الإسلام: من أراد أن يتصدق بدرهم فاشترى به فلوسا يفرقها فقد قصر في الصدقة، لأن الجمع كان أولى من التفريق، وفي " قاضي خان " إذا أراد أن يتصدق بدرهم فالصدقة على واحد أولى من أن يشترى به فلوسا ويتصدق بها على جماعة من الفقراء، وفي " الحاوي ": دفع زكاته إلى فقير واحد أفضل من تفريقه على جماعة لحصول الغناء للواحد دون الجماعة.

[حكم نقل الزكاة]
م: (ويكره نقل الزكاة من بلد إلى بلد) ش: وفي بعض النسخ قال، أي القدوري: ويكره أي أخذ الزكاة، قال محمد: م: (وإنما تفرق صدقة كل فريق فيهم لما روينا من حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم» م: (وفيه) ش: أي في ترك النقل إلى بلد آخر م: (رعاية حق الجوار) ش: لأن رعاية حق الجوار مما يجبن ومهما كانت المجاورة بقدر كانت رعايتها أوجب، ولو نقل على غيريهم أجزأه، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول، وبعض المالكية لأن الصدقات في عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت تنقل إليه من القرى والقبائل.

(3/479)


إلا أن ينقله الإنسان إلى قرابته أو إلى قوم أحوج من أهل بلده، لما فيه من الصلة أو زيادة دفع الحاجة، ولو نقل إلى غيرهم أجزأه وإن كان مكروها، لأن المصرف مطلق الفقراء بالنص. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي أصح قولي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجوز النقل إلا إذا فقد جميع المستحقين. وقال السروجي: ومذهب الشافعي يصعب، والأصح حرمة النقل وعدم الإجزاء، وفي قول: لا يحرم ويجزئ، وفي قوله يحرم ويجزئ. ولا فرق في الأصح بين المسافة القصيرة وغيرها ومع النقل أوصى أحمد ولم يفرق بين المسافة القصيرة وغيرها وبين الأحوج والقرابة وغيرهما، وفي " المغني ": فإن خالف ونقلها أجزأ عند أهل العلم.
واختاره أبو الخطاب، وهو قول الليث ومالك، وجوز النقل في رواية، إلا البقر وهو قول الحسن وعبد الرحمن بن مهدي، ومنع النقل سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (إلا أن ينقله الإنسان إلى قرابته) ش: هذا الاستثناء من قوله: ويكره نقل الزكاة، لأن فيه أجر الزكاة وأجر الصلة م: (أو إلى قوم) ش: أي أو ينقله إلى قوم م: (أحوج من أهل بلده) ش: لأن المقصود سد خلة الفقير، فمن كان أحوج كان أولى م: (لما فيه من الصلة) ش: في النقل إلى قرابته وغيرهم أحوج من أهل بلده، ووجه الجواز أن مطلق الفقراء م: (أو زيادة دفع الحاجة، ولو نقل إلى غيرهم أجزأه وإن كان مكروها) ش: واصل بما قبله، وجه الكراهة ما في حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد مر م: (لأن المصرف) ش: أي مصرف الزكاة م: (مطلق الفقراء بالنص) ش: في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ولم يقصد النص بشيء.

(3/480)