البناية شرح الهداية

باب ما يوجب القضاء والكفارة قال: وإذا أكل الصائم أو شرب أو جامع نهارا ناسيا لم يفطر، والقياس أن يفطر، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لوجود ما يضاد الصوم فصار كالكلام ناسيا في الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ما يوجب القضاء والكفارة] [الحكم لو أكل الصائم أو شرب أو جامع ناسياً]
م: (باب ما يوجب القضاء والكفارة) ش: أي هذا باب في بيان ما يوجب القضاء والكفارة على الصائم على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، ولما فرغ من بيان الصوم وأنواعه شرع في بيان ما يجب عند إبطاله لأنه أمر عارض على الصوم فناسب أن يذكر مؤخراً.
م: (قال: وإذا أكل الصائم أو شرب أو جامع ناسياً) ش: أي حال كونه ناسياً م: (لم يفطر) ش: قال الكاكي لم يفطر بالتشديد والتخفيف، فعلى الأول يكون مسندا إلى الأكل [....] ، قلت: فيه تعسف لأنه يقال حينئذ الضمير في لم يفطر يرجع إلى الآكل الذي دل عليه أكل وكذا ينبغي أن يرجع إلى الشرب الذي دل عليه أو شرب والجماع الذي يدل عليه أو جامع فحينئذ ينبغي أن يقال لم يفطرن بنون الجمع، وهذا كله تكلف، والأحسن أن يكون الضمير في - لم يفطر - راجعاً إلى الصائم أي لم يفطر الصائم بالأشياء المذكورة في الأكل والشرب ناسياً لا يفطر عند جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم وهم علي بن أبي طالب وأبو هريرة وابن عمر وعطاء وطاووس ومجاهد والحسن البصري والحسن بن صالح وعبد الله بن الحسن وإبراهيم النخعي وأبو ثور وابن أبي ذئب والأوزاعي والثوري والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإسحاق وأبو ثور وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والنخعي وابن المنذر.
وأما في الجماع ناسيا فهو مذهبنا. وهو قول مجاهد وإسحاق البصري والثوري والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقال عطاء والأوزاعي والليث: عليه القضاء وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليه القضاء والكفارة.
م: (والقياس أن يفطر وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وربيعة وابن علية وسعيد بن عبد العزيز م: (لوجود ما يضاد الصوم) ش: ووجود ما يضاد الشيء يقدم له الاستحالة وجود الضدين معا م: (فصار كالكلام ناسيا في الصلاة) ش: حيث تفسد صلاته.
م: (ووجه الاستحسان قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (للذي أكل وشرب ناسيا: تم على صومك، فإنما أطعمك الله وسقاك) ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واللفظ لأبي داود، قال) ش: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فقال يا رسول الله إني أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم، فقال الله

(4/35)


ووجه الاستحسان «قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للذي أكل وشرب ناسيا: " تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك» وإذا ثبت هذا في حق الأكل والشرب ثبت في الوقاع للاستواء في الركنية، بخلاف الصلاة، لأن هيئة الصلاة مذكرة
فلا يغلب النسيان، ولا مذكر في الصوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أطعمك وسقاك» انتهى.
وهو أقرب إلى لفظ المصنف ولفظ الباقين من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه.
ورواه ابن حبان والدارقطني [في " سننه «أن رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال إني كنت صائماً فأكلت وشربت ناسياً فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتمم صومك فإن الله أطعمك وسقاك» .
وزاد الدارقطني] فيه فلا قضاء عليه ولا كفارة. قوله: تم على صومك بكسر التاء المثناة من فوق وتشديد الميم المفتوحة أمر من تم يتم معناه أتمه وامض عليه واستتم، ويقال تم على أمره أمضاه، وتم على أمرك أمضه.
فإن قلت: هذا الحديث يعارض الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (سورة البقرة: الآية 187) فإن الصيام إمساك وقد فات، فالآية تدل على بطلانه، [و] لأن انتفاء ركن الشيء يستلزم إمضاه لا محالة، والحديث يدل على بقائه كما كان فيجب تركه، قلت هذا السؤال مع جوابه للإمام حميد الدين الضرير. وأجاب بأن في الكتاب دلالة على أن النسيان معفو عنه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] م: (سورة البقرة: الآية: 286) فكان الحديث موافقاً للكتاب فعمل، ويحتمل قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] على حالة انتفاء الإتمام عمدا؛ لأن الإتمام فعل اختياري فيكون عمدة الفوات له لذلك والنسيان ليس باختياري فلا يفوته. وقال تاج الشريعة: هذا الخبر مشهور قبله السلف حتى قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عقب هذه المسألة حاكياً عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لو قال الناس لقلت يقتضي معنى لو قول الأئمة وروايتهم هذا الحديث لقلت بالقضاء، فإن قال السائل سلمنا ذلك لكن النص ورد في الأكل والشرب على خلاف القياس، فكيف تعدى إلى الجماع؟.
فأجاب بقوله: م: (وإذا ثبت هذا) ش: أي بقاء الصوم م: (في حق الأكل والشرب ثبت في الوقاع للاستواء في الركنية) ش: لأن كلا منهما نظير الأخرى في كون الكف عن كل منهما ركنا في الآخر، فيكون الثبوت بالدلالة لا بالقياس م: (بخلاف الصلاة لأن هيئة الصلاة مذكرة) ش: هيئة الصلاة القيام والركوع والسجود والانتقال من واحد إلى واحد، وكل هذه الأفعال تذكر المصلي.

م: (فلا يغلب النسيان) ش: ولا يستلزم غلبة النسيان عدم نفي هيئات ما م: (ولا مذكر) ش:

(4/36)


فيغلب، ولا فرق بين الفرض والنفل، لأن النص لم يفصل، ولو كان مخطئا أو مكرها فعليه القضاء
خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يعتبر بالناسي. ولنا أنه لا يغلب وجوده وعذر النسيان غالب، ولأن النسيان من قبل من له الحق، والإكراه من قبل غيره فيفترقان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي ولا شي مذكر م: (في الصوم فيغلب) ش: لأن هيئة الصائم وغير الصائم سواء لأن الصوم أمر مبطن فغلب عليه النسيان م: (ولا فرق) ش: أي لا وفرق في المسألة المذكورة م: (بين النفل والفرض) ش: لأن بين صوم النفل وصوم الفرض.
م: (لأن النص) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تم على صومك مطلق. م: (لم يفصل) ش: بين النفل والفرض، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي ليلى ومحمد بن مقاتل الرازي في الفرض يقضي وهو القياس، كذا ذكره الإمام المحبوبي.
م: (ولو كان) ش: أي الأكل والشرب م: مخطئاً أو مكرهاً) ش: بفتح الراء: (فعليه القضاء) ش: الفرق بين النسيان والخطأ أن الناسي قاصد للفعل ناس الصوم، والمخطئ ذاكر للصوم غير قاصد للفعل، صورة المخطئ إذا تمضمض فسبق الماء حلقه، وصورة المكره صب الماء في حلق الصائم كرهاً.
وفي " المحيط " لو جامع ناسياً فنزع مع التذكر فصومه تام، وعند زفر عليه القضاء والكفارة. ولو أكل ناسياً فقيل أنت صائم فلم يتذكر وأكل بعده أفطر في قول أبي حنيفة، وقال زفر والحسن لا يفطر، ذكره في " المحيط " وفي " الخزانة " فسد صومه عند أبي حنيفة ولا كفارة عليه، وفي المرغيناني إن أكل ناسياً قبل النية ثم نوى الصوم ذكره في المغازي أنه لا يجزي صومه، وفي " البقالي " النسيان قبل النية أو بعدها.
وذكر أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " نوازله " أن رجلاً نظر إلى غيره يأكل ناسياً يكره له أن لا يذكره إذا كان قوياً على صومه، وإن كان يضعف بالصوم لا يكره لأن ما يفعله ليس بمعصية عند العلماء.
وفي [فتاوى] قاضي خان إن كان شاباً يخبره، وإذا كان شيخاً ضعيفاً لا يخبره. وفي " الخزانة " لو تقيأ ناسيا ًأكل فيه لا يفسد صومه، ولو ابتلع ماء في المضمضة خطأ يفسد صومه، وهو قول أكثر العلماء وقال عطاء وإسحاق وقتادة وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسده، وقال إبراهيم النخعي لا يفسده في الفرض ويفسده في النفل.

م: (خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يعتبر بالناسي) ش: أي يقيسه على الناسي والجامع الفصل، وقال الكاكي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولان أحدهما يفطر كقولنا، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختاره المزني، والثاني أنه لا يفطر وهو الأصح عنه، وبه قال أحمد وأبو ثور - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختلف أصحابه، فمنهم من أطلق القولين من غير فصل وإن لا يبالغ ومنهم من قال

(4/37)


كالمقيد والمريض في قضاء الصلاة.
قال: فإن نام فاحتلم لم يفطر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء والحجامة والاحتلام» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذلك على الحالين إن بالغ بطل صومه، وإن لم يبالغ فقولان: أحدهما لا تبطل وهو الصحيح.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن كل واحد من الخطأ [والنسيان] والإكراه م: (لا يغلب وجوده وعذر النسيان [غالب] ) ش: فيكون اعتباره فاسداً، لأنه على خلاف القياس م: (ولأن النسيان) ش: إشارة إلى فرق آخر، وهو أن النسيان م: (من قبل من له الحق) ش: والحق لله تعالى م: (والإكراه من قبل غيره) ش: أي من قبل غير من له الحق، فإذا كان كذلك م: (فيفترقان) ش: فلا يصح أن يجعلا على السواء، ثم ذكر له نظيراً بقوله. م: (كالمقيد والمريض في [قضاء] الصلاة) ش: فإن المقيد الذي قيده أحد إذا صلى قاعداً بعذر القيد يقضي، والمريض إذا صلى لا يقضي، لأن المقيد من قبل ليس له الحق، بخلاف المريض، فإن مرضه من قبل من له الحق.

[احتلام الصائم]
م: (فإن نام فاحتلم) ش: أي أنزل م: (لم يفطر) ش: بإجماع الأئمة الأربعة لم يفطر م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام» ش: هذا الحديث أخرجه الترمذي حدثنا محمد بن عبيد المحاربي حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ثلاث] لا يفطرن الصائم الحجامة والقيء والاحتلام» وقال أبو عيسى حديث أبي سعيد الخدري حديث غير محفوظ، وقد روي عن عبد الله بن زيد بن أسلم وعبد العزيز وغير واحد من أهل الحديث عن زيد بن أسلم ولم يذكروا فيه عن أبي سعيد وعبد الرحمن بن أسلم ضعيف في الحديث.
وقال الشراح: ذكروا هذا الحديث في معرض الاستدلال، ولم يذكره الأترازي واستدل هنا بقوله، وهذا لما روى صاحب السنن مرفوعاً إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم» ولم يذكر من هو صاحب السنن ولا ما اسم الصحابي الذي رواه عن

(4/38)


ولأنه لم توجد صورة الجماع ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة بالمباشرة وكذا إذا نظر إلى امرأة فأمنى كما بينا وصار كالمفتكر إذا أمنى، وكالمستمني بالكف على ما قالوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في " الأوسط " عن ثوبان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخرجه البزار عن ابن عباس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يوافق متن حديث المصنف إلا لفظ الترمذي.

م: (ولأنه لم توجد صورة الجماع) ش: وهو إيلاج الفرج م: (ولا معناه) ش: أي ولا معنى الجماع م: (وهو الإنزال عن شهوة بالمباشرة) ش: يعني مس الرجل والمرأة.
م: (وكذا) ش: أي لا يفطر م: (إذا نظر إلى المرأة فأمنى) ش: أي أنزل المني م: (كما بينا) ش: وهو قوله - لأنه لم يوجد صورة الجماع ولا معناه - ثم إنه سواء إذا نظر إلى وجهها وفرجها بخلاف حرمة المصاهرة فإنها تثبت بالنظر إلى فرجها، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن نظرت مرة وكذلك وإن نظرت مرتين فسدت، وفي السروجي بالنظر لا تفسد الصوم وإن تكرر، وكذا بإنزال معه من غير تكرر، وهو قول جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبي ثور واختيار ابن المنذر، وقال مالك يفسد وإن صرف وجهه عنها، وهو رواية حنبل عن ابن حنبل ولا كفارة فيه عندهم.
م: (وصار كالمتفكر إذا أمنى) ش: إذا تفكر في امرأة حسناء فأنزل المني لا يفطر، ولأصحاب مالك في التفكر روايتان، وخالف فيه بعض الحنابلة م: (وكالمستمني بالكف) ش: يعني أن الصائم إذا عالج ذكره فأمنى أو عالج امرأته لم يفطر م: (على ما قالوا) ش: أي المشايخ وهو قول أبي بكر الإسكاف وأبي القسام لعدم الجماع صورة، وعامتهم قالوا يفسد صومه وعليه القضاء، وهو قول محمد بن سلمة وهو اختيار الفقيه أبي الليث في النوازل. وقال المصنف في التجنيس الصائم إذا عالج ذكره حتى أمنى يجب عليه القضاء وهو المختار لأنه وجد الجماع معنى، وقيل فيه نظر، لأن معنى الجماع يعتمد المباشرة على ما قلنا ولم يوجد.
وأجيب بأن معناه وجد، وهو المقصود من الجماع وهو قضاء الشهوة وهل يحل له أن يفعل ذلك إن أراد الشهوة لا يحل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ناكح اليد ملعون» وإن أراد به تسكين ما به من الشهوة أرجو أن لا يكون عليه وبال.
وقال الأترازي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - قيل لأبي بكر الإسكاف أيحل للرجل أن يفعل ذلك قال مثل ما ذكرنا، ثم قال في آخره وهو مأجور فيه، قال الفقيه أبو الليث روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال ما يكفيه أن يتجوز رأساً برأس. وقال الأترازي: والأصح عندي قول أبي بكر، لأن الجماع لم يوجد لا صورة ولا معنى لعدم الإيلاج والإنزال باليد إلا أنا نكرهه احتياطاً، ونظم فيه شيخنا جلال الدين النهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جملة نظمه ما في قاضي خان:

(4/39)


ولو ادهن لم يفطر لعدم المنافي، وكذا إذا احتجم لهذا ولما روينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجائز للعازب المسكين ... إمناؤه باليد للتسكين
وعن أحمد والشافعي - رحمهما الله - في القديم يرخص فيه وفي الجديد يحرم، ولو عملت المرأتان عمل الرجال إن أنزلتا عليهما القضاء وإلا لا قضاء ولا كفارة ولا غسل عليهما.

[ما لا يفطر الصائم]
[دهن الشعر أو الشارب في الصيام]
م: (ولو ادهن لم يفطر لعدم المنافي) ش: يعني إذا دهن شعره أو شاربه ليس بمناف لصومه فلا يفطر، لأن المنافي للصوم المفطرات الثلاث ولم يوجد واحد منها م: (وكذا) ش: أي لا يفطر م: (إذا احتجم لهذا) ش: أي لعدم المنافي وهو الداخل: ولما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام» ولكن يكره الحجامة ولا يفسد صومه، وبه قال مالك والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وداود. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفطر الحاجم والمحجوم، وفي وجوب الكفارة فيها روايتان عن أحمد، وحديث «أفطر الحاجم والمحجوم» روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
[منهم] رافع بن خديج رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه النسائي واختلف في رفعه ووقفه وسعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه ابن عدي في " الكامل " وفيه داود بن الزبير فإنه متروك، وشداد بن أوس أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
وثوبان مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأسامة بن زيد أخرج حديثه النسائي وفي سنده اختلاف، وعائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها النسائي، واختلف في رفعه ووقفه، ومعقل بن يسار أخرج حديثه النسائي أيضاً وأبو هريرة أخرج حديثه النسائي أيضاً مرفوعاً وموقفاً، وابن عباس أخرجه النسائي أيضاً مرفوعاً وموقوفا، وأبو موسى أخرج حديثه النسائي أيضاً مرفوعاً وموقوفاً.
وبلال أخرج حديثه النسائي أيضاً وفي سنده اختلاف، وأنس بن مالك أخرج حديثه البزار أيضاً، وأبو زيد الأنصاري أخرج حديثه ابن عدي وفيه ضعف، وأبو الدرداء أخرج حديثه الوليد بن مسلم وفيه ضعف.
وقال شيخنا زين الدين في " شرح الترمذي " وقد ذهب أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن الحجامة لا تفطر، وبه قال من الصحابة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وابن عباس وزيد بن أرقم والحسن بن علي وأبو هريرة وأنس وعائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

(4/40)


وإن اكتحل لم يفطر لأنه ليس بين العين والدماغ منفذ والدمع يترشح كالعرق والداخل من المسام لا ينافي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومن التابعين الشعبي وعروة والقاسم وعطاء بن يسار وزيد بن أسلم وعكرمة وأبو العالية وإبراهيم النخعي، ومن الأئمة سفيان الثوري ومالك وأبو حنيفة والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال ابن عبد البر: الأحاديث متدافعة متناقضة في إفساد صوم من احتجم فأقل أحوالها أن يسقط الاحتجاج بها، والأصل بأن الصائم لا يقضي فإنه قال وصح النسخ فيها.
قلت: لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أفطر الحاجم والمحجوم» كان في ثمان عشرة من رمضان عام الفتح، والفتح كان في السنة الثامنة واحتجامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في السنة العاشرة ذكره جماعة.

[اكتحال الصائم]
م: (وإن اكتحل لم يفطر) ش: هذا على إطلاقه قول عطاء والحسن وإبراهيم النخعي والأوزاعي والشافعي وأبي ثور ومذهب أنس بن مالك وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وإن لم يصل إلى جوفه لم يبطل بلا خلاف، وإن وصل [....] أو طاهراً يفسد صومه عند مالك وأحمد وهو قول ابن أبي ليلى وسليمان التيمي ومنصور بن المعتمر وابن شبرمة وإسحاق.
وفي " شرح مختصر الطحاوي " لا بأس بالكحل سواء وجد طعمه أو لم يوجد، وكذا في " المحيط " كما لو أخذ حنطة في فيه فوجد مرارته في حلقه، أو ماء فوجد عذوبته أو ندواته في حلقه، وكذا لو صب لبناً في عينه أو دواء فوجد طعمه أو مرارته في حلقه لا يفسد صومه، ولو بزق بعد الاكتحال فوجد الكحل من حيث اللون، قيل يفسده ذكره في " جوامع الفقه " م: (لأنه ليس بين العين والدماغ منفذ) ش: فما وجد في حلقه من طعمه إنما [هو] أثره لا عينه.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وليس بين العين والجوف منفذ فلا يصل من الكحل من العين إلى الجوف، وإنما وصل إليه أثر الكحل وهو الطعم، فقد وصل إليه من المسام فلا يعتد به كما لو اغتسل بالماء البارد فوجد برودته في الباطن، انتهى.
قلت: هذا الكلام غير سديد، والصواب ما قاله المصنف ليس بين العين والدماغ منفذ، وذكر الجوف ليس له صحة على ما لا يخفى، وقوله أيضاً، وإنما وصل إليه أثر الكحل وهو المفطر غير صحيح، والطعم الذي هو أثر الكحل كيف يوجد في الجوف ولا يوجد إلا في الحلق ينفذ إليه من الدماغ.
م: (والدمع يترشح كالعرق) ش: جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال لو لم يكن بين العين والدماغ منفذ لما خرج الدمع، فأجاب بقوله والدمع يترشح أي ينزل من الدماغ شيئاً فشيئاً كما يترشح العرق من مسام الجلد م: (والداخل [من] المسام لا ينافي) ش: هو من جملة الجواب.
قال الكاكي: المسام المنافذ مأخوذ من سم الإبرة، وإن لم يسمع إلا من الأطباء.

(4/41)


كما لو اغتسل بالماء البارد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ذكره الأزهري، والمراد به مسام العرق، لأن المنافذ التي هي المخارق المعتادة م: (كما لو اغتسل بالماء البارد) ش: ذكر هذا نظير المناسبة، فإنه لا ينافي الصوم مع أنه يجد برودة الماء في باطنه.
فإن قيل هذا تعليل في مقابلة النص وهو باطل، وذلك لما روى معبد بن هودة الأنصاري «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال عليكم بالإثمد المروح وقت النوم وليتقه الصائم» أجيب بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ندب إلى الصوم يوم عاشوراء والاكتحال فيه، وقد أجمعت الأئمة على الاكتحال يوم عاشوراء فهو راجح على الأول، انتهى.
قلت: هذا الحديث رواه أبو داود من رواية عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هودة عن أبيه عن جده «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال ليتقه الصائم» ورواه البخاري في " تاريخه ".
1 -
وقال قال أبو نعيم «حدثنا عبد الرحمن بن النعمان الأنصاري عن أبيه عن جده وكان أتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمسح رأسه وقال لا تكتحل وأنت صائم، اكتحل ليلاً، الإثمد يجلو البصر وينبت الشعر» انتهى.
[قلت] : الإثمد بكسرة الهمزة بالفارسية ترمذ، وذكره الجوهري في باب ثمد فدل على [أن] الألف فيه زائدة، وقال الإثمد: حجر يكتحل بها. المروح بضم الميم وفتح الراء وتشديد الواو المفتوحة وبالحاء المهملة أي المطيب بالمسك كأنه جعل الرائحة تفوح بعد أن لم تكن له رائحة. وقال الأكمل قد اجتمعت الأمة على الاكتحال يوم عاشوراء فيه نظر يحتاج إلى الدليل على هذا.
وإيراده السؤال بحديث معبد غير موجه لأن يحيى بن معين قال حديث معبد منكر لا يحتج به، وعبد الرحمن ضعيف، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يقول الأكمل هذا تعليل في مقابلة النص، وهو باطل، ثم يجيب بقوله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ندب إلى الصوم يوم عاشوراء، والاكتحال فيه، ومع هذا لم يبين كيف ندب ومتى ندب.
فإن قال ندب في حديث حميد، قلنا قد سمعت حال هذا الحديث، وإن قال روى البيهقي في " شعب الإيمان " من رواية حسين بن بشر عن محمد بن الصلت عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اكحتل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً» قال: قال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن رواه إسناده ضعيف، وجرير ضعيف والضحاك لم يلق ابن عباس. وقال الأترازي في معرض الاستدلال بأن الاكتحال لم يفطر.
ولنا ما روى أبو بكر الجصاص الرازي في " شرحه لمختصر الطحاوي " عن عبد الباقي بن

(4/42)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قانع عن عبد الرحمن بن أحمد عن محمد بن سليمان عن حبان بن علي عن محمد بن عبد الله ابن أبي رافع عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكحتل بالإثمد وهو صائم» . وقال الشيخ أبو الحسين القدوري في " شرح مختصر الكرخي ".
«قال ابن مسعود خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان وعيناه مملوءتان من الكحل كحلته أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -» - انتهى.
قلت: الذي يتصدى لشرح كتاب يذكر فيه أحاديث في معرض الاستدلال ينبغي أن لا يكتفي بهذا المقدار، لأن الخصم لا يرضى به.
أما حديث أبي رافع فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل " بإسناده نحوه وهو حديث منكر. قال البخاري: محمد بن عبد الله منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء.
وأما حديث ابن مسعود الذي ذكره فليس بصحيح من وجهين، أحدهما أن الحديث ليس لابن مسعود وإنما هو لابن عمر رواه ابن عدي في " الكامل "، قال أخبرنا أبو يعلى قال أنا عمار بن ياسر قال حدثنا سعيد بن زيد هو أخو حماد بن زيد حدثنا عمرو بن خالد القرشي عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر، وعن محمد بن علي عن ابن عمر قال «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيت حفصة وقد اكتحل بالإثمد في رمضان» .
وقال ابن عدي هذه الأحاديث التي يرويها عمرو بن خالد عن حبيب بن أبي ثابت ليست [هي] المحفوظة، ولا يرويها غيره أو هو المفهم فيها. وقال شيخنا زين الدين عمرو بن خالد الهمداني الواسطي، وقال أبو طاهر: وقوله القرشي (بدليله) كيلا يعرض لأنه كذاب. الثاني من الوجهين إنه حديث لا يحتج به.
فإن قلت: هذا روي عن علي بن أبي طالب أيضاً، رواه الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا أبو زكريا حدثنا سعيد بن زيد، عن عمرو بن خالد، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، «عن علي بن أبي طالب، وعن حبيب بن ثابت، عن نافع عن ابن عمر قال انتظرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرج في رمضان، فخرج من بيت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كحلته وملأت عينيه كحلاً» انتهى.
قلت: قد وقفت على حال عمرو بن خالد، وقال شيخنا زين الدين وهذان الحديثان ليسا صريحين في الكحل للصائم، إنما ذكر فيهما رمضان فقط، ولعله كان في رمضان.
فإن قلت: روى ابن الجوزي في كتاب " فضائل الشهور " من رواية شريح بن يونس عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديث طويل فيه صيام

(4/43)


ولو قبل امرأته لا يفسد صومه يريد به إذا لم ينزل لعدم المنافي صورة ومعنى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عاشوراء والاكتحال فيه.
قلت: رواه في " الموضوعات " بهذا الإسناد، ثم قال هذا حديث لا يشك عاقل في وضعه.
فإن قلت: روى الطبراني في " الأوسط «عن بريرة، قالت: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكتحل بالإثمد وهو صائم» .
قلت: قال شيخنا زين الدين وفي إسناده غير واحد يحتاج إلى الكشف عنهم.

[التقبيل والمباشرة للصائم]
م: (ولو قبل امرأته لا يفسد صومه يريد به إذا لم ينزل) ش: أي يريد القدوري أو محمد في " الجامع الصغير " بقوله - ولو قبل امرأة لا يفسد صومه - إنه إذا لم ينزل المني (لعدم المنافي صورة ومعنى) أي لعدم ما ينافي الصوم من حيث الصورة وهو إيلاج الفرج في الفرج ومن حيث المعنى وهو الإنزال بالمس عن شهوة، وقد روى البخاري ومسلم «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبل ويباشر بعض نسائه وهو صائم وكان أملككم لإربه» . قوله - لإربه - بكسر الهمزة وسكون الراء، قال ابن الأثير أي لحاجة يعني أنه كان غالباً لهواه، وقال: أكثر المحدثين يرويه بفتح الهمزة والراء يعنون الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلات أحدها [أرادت به] الحاجة ويقال فيها الإربة والمأربة، والثاني أرادت به العضو وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة.
فإن قلت: روى ابن ماجه من رواية زيد بن جبير عن أبي يزيد بن الضبي عن ميمونة مولاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل قبل امرأته وهما صائمان، قال قد أفطرا جميعاً» ثم قال فينبغي أن لا تجوز القبلة للصائم أصلاً، ثم قال قلت المراد منه إذا أنزل بالقبلة توفيقا بين الحديثين، انتهى.
قلت: هذا الحديث ليس بشيء، لأنه إنما يصح هذا الجواب إذا كان الحديثان متساويين في الصحة وحديث ميمونة هذا لا يساوي حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لأن في إسناده أبا يزيد الضبي لا يعرف اسمه، وهو مجهول، وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " العلل المفرد " سألت محمداً عن هذا الحديث فقال هذا حديث منكر لا أحدث به.
واختلف العلماء في القبلة للصائم على أربعة مذاهب:
أحدها: إباحتها مطلقا، وهو قول عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وبه قال عطاء والشعبي والحسن البصري، وهو قول أحمد وإسحاق وداود، واختاره ابن عبد البر.
والثاني: كراهتها مطلقاً للصائم، وهو قول ابن مسعود وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،

(4/44)


خلاف الرجعة والمصاهرة، لأن الحكم هنالك أدير على السبب على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. ولو أنزل بقبلة أو لمس فعليه القضاء دون الكفارة لوجود معنى الجماع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو عمر: عن [ابن] المسيب وابن شبرمة ومحمد بن الحنفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن من قبل فعليه قضاء ذلك اليوم.
والثالث، الفرق بين الشيخ والشاب، وعبر بعضهم عنه بقوله بالتفرقة بين من تحرك القبلة شهوته وبين من لا تحرك، وهو قول ابن عباس وقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه وسفيان الثوري والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
والرابع: التفرقة بين صيام الفرض وصيام النفل تكره في الفرض ولا تكره في النفل وهي رواية ابن وهب عن مالك.
فإن قلت: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كان يقبل في شهر الصوم الذي رواه الترمذي ومسلم كما مر الآن لا يلزم منه أن يكون نهاراً، لأن ليل الصوم من شهر الصوم.
قلت: في الذي رواه البخاري ومسلم وهو صائم كما مر الآن.
فإن قلت: لا يلزم منه أن يكون في رمضان.
قلت: في رواية أبي بكر السهيلي عند مسلم كان يقبل في رمضان وهو صائم.
فإن قلت: الصائم منهي عن الجماع فينبغي أن يمنع من القبلة أيضاً لأنها من دواعيه.
قلت: هذا غير وارد، لأن المحرم ممنوع عن الطيب وهو من دواعيه، والصائم ليس بممنوع عنه، وفي جوامع الفقه يكره مس فرجها ولا بأس بالقبلة والمعانقة إذا أمن على نفسه، أو كان شيخاً كبيراً. وعن أبي حنيفة تكره المعانقة والمصافحة، وعنه تكره المباشرة الفاحشة لا بثوب وذلك أن المعانقة وهما متجردان ويمس فرجه ظاهر فرجها والتقبيل الفاحش مكروه، وهو أن يمضغ شفتيها.

م: (بخلاف الرجعة والمصاهرة) ش: يعني أنهما يثبتان بالقبلة بالشهوة وكذا بالمس وإن لم ينزل م: (لأن الحكم هنالك) ش: أي في الرجعة والمصاهرة م: (أدير على السبب) ش: إذ حرمة المصاهرة تبتني على الاحتياط، وأما ها هنا فالفساد تعلق بالمواقعة ولم توجد صورتها ولا معناها، ولهذا لا يفسد الصوم بعقد النكاح م: (على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى) ش: يعني في باب الرجعة. م: (وإن أنزل بقبلة أو مس فعليه القضاء) ش: لأنه يجب بمجرد الإفساد م: (دون الكفارة) ش: لأنها لا تجب إلا بكمال الجناية، لأنها تسقط بالشبهات لكونها دائرة بين العبادة والعقوبة وعدم صورة الجماع صار شبهة فلم تجب الكفارة.

(4/45)


ووجود المنافي صورة أو معنى يكفي لإيجاب القضاء احتياطا، أما الكفارة فتفتقر إلى كمال الجناية لأنها تندرئ بالشبهات كالحدود،
ولا بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه أي الجماع أو الإنزال ويكره إذا لم يأمن لأن عينه ليس بمفطر، وربما يصير فطرا بعاقبته، فإن أمن يعتبر عينه وأبيح له، وإن لم يأمن تعتبر عاقبته، وكره له. والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق فيه في الحالين والحجة عليه ما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل لا نسلم أن كمال الجناية شرط لوجوب الكفارة ألا ترى أنها تجب بنفس الإيلاج وإن لم يحصل الإنزال الأكمل إلا به أجيب بأن الكمال يحصل بنفس الإيلاج، ولهذا يجب الغسل أنزل أو لم ينزل، أما الإنزال فأمر زائد على الجماع، ولهذا لا يشترط في تحليل الزوج الثاني لأنه شبع ومبالغة فيه.
م: (لوجود معنى الجماع) ش: وهو قضاء الشهوة بالمباشرة م: (ووجود المنافي) ش: للصوم م: (صورة) ش: أي من حيث الصورة م: (أو معنى) ش: أي أو من حيث المعنى م: (يكفي لإيجاب القضاء احتياطاً) ش: أي لأجل الاحتياط: (أما الكفارة فتفتقر إلى كمال الجناية لأنها تندرئ) ش: أي تندفع م: (بالشبهات) ش: وهنا الشبهة عدم صورة الجماع كما ذكرنا م: (كالحدود) ش: يعني مثل الحدود فإنها تندرئ بالشبهات.

م: (ولا بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه أي الجماع أو الإنزال) ش: قال السغناقي: صحت الرواية بكلمة أو، وقال الكاكي الرواية في النسخ المقروءة على المشايخ كلمة أو، وقال الأترازي: صحت الرواية عن مشايخنا بما وراء بكلمة أو، والوجه عندي أن يذكر الواو، ولأن الأمان عن أحدهما ليس بكاف لعدم الكراهة، بل الأمان منها شرط لعدم الكراهة حتى إذا أمن الجماع ولم يأمن الإنزال تكره له القبلة لتعريض الصوم على الفساد، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله أي الجماع أو الإنزال إنما ذكر هكذا لأن المشايخ اختلفوا على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا أمن على نفسه قال بعضهم أراد بالأمن عن الوقوع في الوقاع، وقال بعضهم أراد به الأمن من خروج المني. م: (ويكره إذا لم يأمن) ش: يعني إذا لم يأمن الإنزال أو الجماع م: (لأن عينه) ش: أي عين القبلة ذكر الضمير باعتبار التقبيل، والمراد من عين القبلة نفسها م: (ليس بمفطر) ش: وهذا ظاهر م: (وإنما يصير فطراً بعاقبته) ش: يعني باعتبار المال بوجود الجماع أو الإنزال م: (فإن أمن يعتبر عينه) ش: أي نفس القبلة م: (وأبيح له) ش: أي القبلة لأنها ليست بنفسها مفطرة م: (وإن لم يأمن) ش: أي الجماع أو الإنزال م: (تعتبر عاقبته) ش: أي مآله م: (وكره له) ش: حينئذ م: (والشافعي أطلق له في الحالين) ش: أي جوز له القبلة فيما إذا أمن على نفسه أو لم يأمن، وفيه نظر، لأنه ذكر في " وجيزهم " وتكره القبلة للشاب الذي لا يملك إربه م: (والحجة عليه ما ذكرناه) ش: أي الحجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما ذكرنا، وهو قوله لأن عينه ليس بمفطر ... إلخ.

(4/46)


والمباشرة الفاحشة مثل التقبيل في ظاهر الرواية. وعن محمد أنه كره المباشرة الفاحشة لأنها قلما تخلو عن الفتنة. ولو دخل حلقه ذباب وهو ذاكر لصومه لم يفطر، وفي القياس يفسد صومه لوصول المفطر إلى جوفه وإن كان لا يتغذى به كالتراب والحصاة، ووجه الاستحسان أنه لا يستطاع الاحتراز عنه فأشبه الغبار والدخان، واختلفوا في المطر والثلج، والأصح أنه يفسد لإمكان الامتناع عنه إذا آواه خيمة أو سقف ولو أكل لحما بين أسنانه فإن كان قليلا لم يفطر، وإن كان كثيرا يفطر. وقال زفر: يفطره في الوجهين؛ لأن الفم له حكم الظاهر حتى لا يفسد صومه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمباشرة الفاحشة) ش: وهو أن يعانقها مجردين ويمس فرجه ظاهر فرجها م: (مثل التقبيل في ظاهر الرواية) ش: يكره إذا لم يأمن ولا يكره إذا أمن م: (وعن محمد أنه كره المباشرة الفاحشة لأنها قلما تخلو عن الفتنة) ش: عن الوقوع في الجماع. وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولو دخل حلقه ذباب وهو ذاكر لصومه لم يفطر) ش: لأنه مغلوب فيه كما في الغبار والدخان م: (وفي القياس أنه يفسد صومه لوصول المفطر إلى جوفه، وإن كان لا يتغذى به) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها، ولا فرق بين المأكول وغيره م: (كالتراب والحصاة) ش: م: (ووجه الاستحسان أنه لا يستطاع الامتناع منه، فأشبه الغبار والدخان) ش: فإنه لا يستطاع دفعهما، وإن وصل الذباب إلى جوفه ثم خرج حياً لم يفطر، ذكره في " الحاوي " وهو قول سحنون من المالكية. وفي " خزانة الأكمل "، ولو دخل جوفه وهو كاره له لم يفطره.
م: (واختلفوا في المطر والثلج) ش: يعني اختلف المشايخ في المطر، فقال بعضهم المطر يفسد والثلج لا يفسد. وقال بعضهم على العكس. وقال عامتهم بإفسادهما م: (والأصح أنه يفسد) ش: لحصول الفطر معنى م: (لإمكان الامتناع عنه إذا أواه) ش: أي ضمه م: (خيمة أو سقف) ش: قلت: إذا كان في البرية وليس عنده خيمة ولا شيء يمنع المطر عنه، فالقياس أن لا يفسده، ولو خاض الماء فدخل أذنه لا يفطره، بخلاف الدهن، وإن كان بغير صيغة لوجود إصلاح بدنه، لو صب الماء في أذنه، فالصحيح أنه لا يفطره لفقده إصلاح البدن، لأن [الماء] يضر بالدماغ، وفي " الخزانة " لو دخل حلقه من دموعه أو عرق جبينه قطرتان أو نحوهما لا يضره والكثير الذي يجد ملوحته في حلقه يفسد صومه [....] ، ولو نزل المخاط، من أنفه في حلقه على تعمد منه فلا شيء عليه، ولو بلع بزاق غيره أفسد صومه ولا كفارة عليه، كذا في " المحيط ". وفي " البدائع " لو ابتلع ريق حبيبته أو [صديقه] ، قال الحلواني عليه كفارة، لأنه لا يعافه بل يلتذ به، وقيل لا كفارة فيه، ولو جمع ريقه في فيه ثم ابتلعه لم يفطر ويكره، ذكره المرغيناني.
م: (ولو أكل لحماً بين أسنانه فإن كان قليلاً لم يفطر) ش: يعني إذا كان قليلاً م: (وإن كان كثيراً يفطره. وقال زفر: يفطره في الوجهين) ش: يعني في القليل والكثير م: (لأن الفم له حكم الظاهر حتى

(4/47)


بالمضمضة.
ولنا أن القليل تابع لأسنانه بمنزلة ريقه بخلاف الكثير لأنه لا يبقى فيما بين الأسنان. والفاصل مقدار الحمصة وما دونها قليل. وإن أخرجه وأخذه بيده ثم أكله ينبغي أن يفسد صومه لما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصائم إذا ابتلع سمسمة بين أسنانه لا يفسد صومه، ولو أكلها ابتداء يفسد صومه. ولو مضغها لا يفسد لأنها تتلاشى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا يفسد صومه بالمضمضة) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد، وفي " تتمتهم " إن قدر على إخراجه فابتلعه يفطر وإلا لا. وفي " شرح الإرشاد " إن كان مما يجري به الريق لا يفطر عنده، وإن كان لا مما يجري يفطر.

[ابتلاع الصائم الشيء اليسير]
م: (ولنا أن القليل تابع لأسنانه بمنزلة ريقه، بخلاف الكثير لأنه لا يبقى فيما بين الأسنان) ش: فكان الاحتراز عنه ممكناً. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " أنه إذا ابتلعه، فأما إذا استخرجه فأخذه بيده ثم ابتلعه يجب أن يفسد [صومه. ومنهم من قال لا يفسد صومه] سواء قصد ابتلاعه أو لم يقصد. ألا ترى ما قال محمد في " الجامع الصغير " [عن] محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الصائم يكون في أسنانه اللحم فأكله متعمداً فقال: ليس عليه قضاء ولا كفارة م: (والفاصل) ش: أي بين القليل والكثير م: (مقدار الحمصة) ش: فهو كثير والحمصة بتشديد الميم المفتوحة، قال ثعلب هو المختار، وقال المبرد بكسرها م: (وما دونها) ش:. أي [وما] دون الحمصة فهو م: (قليل) ش: ولم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط والجامع الصغير "، وذكر في " شرح زفر ويعقوب " لابن شجاع أبي عبد الله البلخي قال: أخبرني ابن أبي مالك عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما كان بين أسنانه في قدر الحمصة فطره أجعل قدر الحمصة كثيراً لأنه لا تبقى بين الأسنان غالباً وما دونه يبقى وقال الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحمصة فصاعداً كثيراً وما دون ذلك قليل، قال أبو نصر الدبوسي إذا أراد أن يبتلعه بغير ريق فهو كثير وإن لم يمكنه ذلك بغير استعانة بالبزاق فهو قليل.
م: (فإن أخرجه) ش: أي فإن أخرج الذي بين أسنانه م: (وأخذه بيده ثم أكله ينبغي أن يفسد صومه) ش: لإمكان الاحتراز عنه م: (لما روي عن محمد) ش: أي بالقياس على ما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الصائم إذا ابتلع سمسمة) ش: كائنة م: (بين أسنانه لا يفسد صومه) ش: لأنه قليل، وبه قال زفر والشافعي - رحمهما الله - وأحمد. وفي " الخلاصة " يجب أن يفسد صومه، وعلى هذا لو أخذ لقمة من الخبز وهو ناس لصومه فلما مضغها ذكر أنه صائم فابتلعها وهو ذاكر، إن ابتلعها قبل الإخراج من فيه عليه الكفارة، وإن أخرجها ثم أعادها لا كفارة عليه، وبه أخذ الفقيه.
م: (فلو أكلها ابتداء) ش: أي لو أكل سمسمة من الخارج م: (يفسد صومه) ش: لأنها من جنس ما يؤكل ويتغذى به، كذا في " فتاوى الولوالجي "، هذا إذا لم يمضغها م: (ولو مضغها إلا

(4/48)


وفي مقدار الحمصة عليه القضاء دون الكفارة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه الكفارة أيضا لأنه طعام متغير ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعافه الطبع، فإن ذرعه القيء لم يفطر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قاء فلا قضاء عليه ومن استقاء عامدا فعليه القضاء»
ويستوي فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يفسد صومه لأنها تتلاشى) ش: وكذا لو مضغ حبة حنطة لا يفسد صومه، لأنها تلتزق بأسنانه فلا تصل إلى جوفه، لأنه يصير تابعاً لريقه، ولو ابتلع ريقه لا يفسد بإجماع الأمة.
ولو استشم مخاطه فأخرجه من فيه لا يفسد كريقه. ولا تجب الكفارة [....] الدم في الظاهر، وفي رواية تجب، ولو عمل عمل الإبريسم فأدخل الإبريسم في فمه فخرجت فيه خضرة الصبغ أو صفرته أو حمرته فاختلط بالريق فصار الريق أحمر أو أخضر، فابتلع الريق وهو ذاكر لصومه يفسد، كذا في " الخلاصة ".

م: (وفي مقدار الحمصة عليه القضاء دون الكفارة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه الكفارة أيضاً) ش: أي مع القضاء م: (لأنه طعام متغير) ش: فلا يمنع ذلك وجوب الكفارة، كما إذا أكل اللحم المنتن.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعافه الطبع) ش: أي يكرهه، يقال أعاف الماء عيافة كرهه، وذلك لأنه لما بقي بين الأسنان دخل في معنى الغذاء نقصان، ولهذا إذا تخلل يرميه وربما تكون له رائحة كريهة يكرهها الطبع، فلما دخل في معنى الغذاء نقصان قصرت الجناية، ومع قصورها لا تجب الكفارة. م: (فإن ذرعه القيء) ش: أي سبق إلى فيه وغلبه فخرج منه، ذكره في " المغرب "، وقيل غشيه من غير تعمد من باب منع وهو بالذال المعجمة م: (لم يفطر به) ش: وبه قال علي بن أبي طالب: وابن عمر وزيد بن أرقم والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وإسحاق. قال ابن المنذر وهو قول كل من يحفظ عنه [العلم، قال وبه أخذ. قال وعن الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان في الفطر،] وقال الصدر نقل عن ابن مسعود وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن لا فطر في القيء مطلقاً. وعند المالكية خلاف في فطر من ذرعه القيء، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يفطر في الفاحش.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من قاء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عامدا فعليه القضاء» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الأربعة عن عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من قاء.. الحديث " وقال

(4/49)


ملء الفم وما دونه فلو عاد وكان ملء الفم فسد عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه خارج حتى انتقض به الطهارة وقد دخل وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسد لأنه لم توجد صورة الفطر وهو الابتلاع وكذا معناه لأنه لا يتغذى به عادة وإن أعاده فسد بالإجماع لوجود الإدخال بعد الخروج فتتحقق صورة الفطر، وإن كان أقل من ملء الفم فعاد لم يفسد صومه لأنه غير خارج ولا صنع له في الإدخال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الترمذي حسن غريب، وقال محمد يعني البخاري لا أراه محفوظاً، ورواه الحاكم في " المستدرك " وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواته كلهم ثقات.
قوله - استقاء - بالمد استفعل من قاء يقيء يعني طلب القيء وكذلك تقيأ، ولا قضاء عليه في القيء، لأن كل ما يخرج من البدن لا يفسد الصوم، كالبول والغائط ونحوهما، فكذا القيء، وكان هذا هو القياس في الاستقاء، إلا أنا تركناه بالحديث.
فإن قيل: روى الطحاوي عن أبي الدرداء «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاء فأفطر» ينبغي أن يكون القيء مفطراً، كما هو مذهب البعض، أجيب بأن معناه قاء فضعف فأفطر توفيقاً بين الحديثين.

[حكم القيء بالنسبة للصائم]
م: (ويستوي فيه) ش: أي في القيء الذي ذرعه م: (ملء الفم وما دونه) ش: يعني إذا ذرعه القيء لا يفطر، سواء ملء الفم أو أقل منه م: (فلو عاد) ش: أي القيء الذي ذرعه م: (وكان ملء الفم) ش: أي والحال أنه كان ملء الفم م: (فسد عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه خارج) ش: حقيقة م: (حتى انتقض به الطهارة وقد دخل) ش: أي الخارج فيفسد الصوم.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسد لأنه لم توجد صورة الفطر وهو الابتلاع وكذا معناه) ش: أي معنى صورة الفطر م: (لأنه لا يتغذى به عادة) ش: لأن الاعتبار بحصول التغذي أو التردي إلى الجوف، قيل لا نسلم عدم حصول الفطر معنى، ألا ترى أن بالقيء تندفع الصفراء أو البلغم، وفيه صلاح البدن، وأجيب بأن صلاح البدن إذا كان الخارج لا يؤثر في نقض الصوم، ولهذا لا يفسد الصوم بالفصد، وفيه صلاح البدن أيضاً، ولهذا يسميه الأطباء الاستفراغ الكلي.
م: (وإن أعاده) ش: أي وإن أعاد الذي قاء فيه فما إذا ذرعه ملء الفم م: (فسد) ش: أي صومه م: (بالإجماع لوجود الإدخال بعد الخروج فتتحقق صورة الفطر) ش: بدخول الخارج في الجوف بنفسه.
م: (وإن كان) ش: أي القيء الذي ذرعه م: (أقل من ملء الفم فعاد) ش: يعني بنفسه إلى الجوف م: (لم يفسد صومه لأنه غير خارج ولا صنع له في الإدخال) ش: لأن الدخول يترتب على

(4/50)


إن أعاد فكذلك عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم الخروج. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسد صومه لوجود الصنع منه في الإدخال، فإن استقاء عمدا ملء فيه فعليه القضاء لما روينا، والقياس متروك به ولا كفارة عليه لعدم الصورة،
وإن كان أقل من ملء الفم فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لإطلاق الحديث، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسد لعدم الخروج حكما ثم إن عاد لم يفسد عنده، لعدم سبق الخروج، وإن أعاده فعنه أنه لا يفسد لما ذكرنا، وعنه أنه يفسد فألحقه بملء الفم لكثرة الصنع. قال: ومن ابتلع الحصاة أو الحديد أفطر لوجود صورة الفطر، ولا كفارة عليه لعدم المعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخروج ولم يوجد الخروج م: (فإن أعاد) ش: أي فإن أعاده الذي تقيأ م: (فكذلك) ش: أي لا تفسد م: (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم الخروج) ش: فلا يوجد الخروج م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسد صومه لوجود الصنع منه في الإدخال) ش: وهو فعله، والنقض أثر الفعل.
م: (فإن استقاء عمدا ملء فيه فعليه القضاء) ش: ذكر العمد تأكيدا ًلأن الاستقاء استفعال من القيء، وهو التكليف فيه، ولا يكون التكلف إلا بالعمد، كذا قاله الأترازي. وقال الكاكي: قوله: عمداً: إشارة إلى أنه لو استقاء ناسياً لصومه لا يفسد صومه.
قلت: هذا أوجه من الأول م: (لما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من استقاء عمداً فعليه القضاء» م: (والقياس متروك به) ش: أي بالحديث المذكور؛ لأن القياس أن لا يفطر إلا بالدخول، ألا ترى أنه لا يفسد بالبول وغيره، ولكن ترك القياس بالحديث، وكذلك إن غلبه م: (ولا كفارة عليه لعدم الصورة) ش: وهذا الدخول.

م: (وإن كان أقل من ملء الفم فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي يفسد م: (لإطلاق الحديث) ش: لأنه لم يفصل بين القليل، والكثير م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسد لعدم الخروج حكما) ش: أي من حيث الحكم، ولهذا لا ينتقض به الطهارة.
م: (ثم إن عاد) ش: إلى جوفه بنفسه فيما إذا استقاء أقل من ملء الفم م: (لم يفسد عنده) ش: أي عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لعدم سبق الخروج، وإن أعاده) ش: أي أعاد ما صنعه م: (فعنه) ش: أي فعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه لا يفسد) ش: في رواية م: (لما ذكرنا) ش: يريد به عدم سبق الخروج م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أخرى م: (أنه يفسد فألحقه بملء الفم لكثرة الصنع) ش: وهو صنع الاستقاء وصنع الإعادة.
م: (قال: ومن ابتلع الحصاة أو النواة أو الحديد) ش: إنما قال: ابتلع، ولم يقل أكل؛ لأن الأكل هو المضغ والابتلاع جميعاً، والمضغ لا يحصل في الحصاة ونحوها، بخلاف الابتلاع، فإنه يحصل لأنه عبارة عن إدخال الشيء في الحلق م: (أفطر) ش: إلا على قول من لا يعتمد على قوله، وهو الحسن بن صالح، فإنه يقول: الفطر بإقضاء الشهوة، وهو قول بعض أصحاب

(4/51)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مالك م: (لوجود صورة الفطر) ش: بإيصال الشيء إلى باطنه م: (ولا كفارة عليه لعدم المعنى) ش: أي لعدم معنى الفطر، وهو التغذي، والتروي إلى البدن.
وقال مالك: تجب عليه لأنه مفطر غير معذور، وكل من هو كذلك يجب عليه عنده، كذا قاله الأكمل، وهو خلاف ما نقله في " الذخيرة " [....] ، ولو ابتلع حصاة أو نواة، أو ما لا يتغذى به، قال مالك: يقضي، ولا يكفر عنهم، قال سحنون من أصحابه: عليه الكفارة إن تعمده وإلا فالقضاء. وقال ابن القاسم: لا شيء في سهوه، وفي عمده الكفارة، وذكر في " الجواهر ": وهو من كتب المالكية عن بعض المتأخرين من المالكية: لا يفطر، ومشهور مذهبه الفطر، وعدم الكفارة. وفي " البدائع ": لو ابتلع ما لا يؤكل عادة كالحجر، والمدر، والجوهر، والذهب، والفضة أفطر ولا كفارة عليه، وكذا لو ابتلع حصاة أو حشيشاً أو جوزة رطبة أو يابسة وابتلعها كفر.
وقيل: إن وصل القشر إلى حلقه أو لا لم يكفر، وإن مضغ فستقة مشقوقة يجب الكفارة، وإن لم تكن مشقوقة لا تجب إلا إذا مضغها، وفي الأرز والعجين لا تلزمه الكفارة، وكذا في دقيق الحنطة، والشعير إلا عند محمد، وفي دقيق الأرز قالوا: يلزمه، وفي " الذخيرة ": قيل: إن لته بسمن، أو دهن، تجب الكفارة بأكله، وفي الملح وحده لا تلزمه الكفارة إلا إذا اعتاد ذلك. وفي " الذخيرة ": قيل في قليله دون كثيره، لأنه مضر، وقيل: يجب مطلقاً، وإذا ابتلع حبة حنطة تلزمه الكفارة بخلاف حبة الشعير إلا إذا كانت مغلوة، ولو أكل لحماً غير مطبوخ تلزمه الكفارة بخلاف الشحم، وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والأصح عندي في الشحم لزومها، وفي الشحم، واللحم، والقديد: تجب الكفارة، لأنهما يؤكلان بذلك عادة، ولو أكل لحم الميتة وهي منتنة قد تدودت لا كفارة عليه، وإلا فعليه الكفارة.
وفي " المحيط ": لو ابتلع سمسمة فطره قيل لا تلزمه الكفارة، لعدم التيقن بوصولها إلى الجوف، وقيل: يجب الكفارة نروي ذلك عن أبي حنيفة نصاً، وهو الأصح، وبه قال محمد بن مقاتل الرازي، والأول قول الصفار، وإن مضغها لا يفطر، لأنها تتلاشى، وتبقى بين أسنانه، وفي " خزانة الأكمل ": في التفاحة والخوخة الكفارة، وإن ابتلع رمانة صحيحة فلا كفارة عليه، وفي كتاب الصيام للحسن بن زياد في قشر رمانة رطبة، وجوزة رطبة، ولوزة رطبة [فعليه] كفارة، ولا كفارة في اليابسة، ومنها: ولو ابتلع بلوطة، أو عفصة منزوعة القشر كفر، وفي ابتلاع مسك أو زعفران الكفارة، وفي " الخزانة ": لو أكل طيناً فعليه القضاء دون الكفارة إلا في الطين الأرمني عليه الكفارة إلا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه كسائر الأطيان عنده. وقال محمد: هو بمنزلة الغاريقون يتداوى به، وفي ابتلاع الهليلجة روايتان.

(4/52)


ومن جامع في أحد السبيلين عامدا فعليه القضاء استدراكا للمصلحة الفائتة والكفارة، لتكامل الجناية. ولا يشترط الإنزال في المحلين اعتبارا بالاغتسال، وهذا لأن قضاء الشهوة يتحقق دونه وإنما ذلك شبع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[جماع الصائم عامدا]
م: (ومن جامع في أحد السبيلين عامدا) ش: هما القبل والدبر، وقيد بقوله - عامداً - لأنه إذا كان ناسياً لا يجب عليه شيء أصلاً م: (فعليه القضاء) ش: وعليه جمهور العلماء، وقال الأوزاعي وبعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إن كفر بالصوم لا يجب عليه القضاء لأنه من جنسه، وإن كفر بغيره وجب، وحكي قول عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا كفر لا قضاء عليه، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين للأعرابي الكفارة ولم يبين حكم القضاء، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أفطر متعمداً فعليه ما على المظاهر وليس على المظاهر سوى الكفارة شيء» ، ولنا أنه وجب عليه الصوم بشهود الشهر، وقد انعدم فلزمه القضاء، كما لو كان معذوراً فلم يؤده فيضمنه ما عنده، كما في حقوق العباد، وإنما أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله فعليه ما على المظاهر بسبب الفطر، وبه نقول، لكن وجوب القضاء عند تفويت الأداء غير مشكل كذا في " المبسوط ".
م: (استدراكا للمصلحة الفائتة) ش: يعني لأجل الاستدراك للمصلحة التي فاتت بإفساد الصوم، لأن الشارع حكيم لا يأمر بالإمساك إلا لحكمة، فإذا فوت هذه الحكمة والمصلحة بالإفساد يجب القضاء ليدركها.
قلت: هذه الحكمة لمصلحة قهر النفس الأمارة بالسوء، فبالجماع يفوت قهر النفس للتنافي بينهما فيجب القضاء للاستدراك، والقضاء يجب على المعذور وعلى غير المعذور أولى.
م: (والكفارة) ش: أي وعليه الكفارة أيضاً م: (لتكامل الجناية) ش: صورة ومعنى وهي إيلاج الفرج في الفرج، وهو قول الجمهور وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: لا كفارة عليه، وهو قول الزهري وابن سيرين أيضاً وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الحسن عنه لا تجب الكفارة في الوطء في الدبر في الذكر والأنثى. قال في " المحيط ": تجب فيه الكفارة بالجماع [و] هو الصحيح، بخلاف الحد عنده لأنه متعلق بالزنا ولم يوجد. م: (ولا يشترط الإنزال في المحلين) ش: أي في القبل والدبر م: (اعتبارا بالاغتسال) ش: يعني إذا أدخل فنزع وجب عليه الغسل، فكذلك الكفارة، وقيل: الكفارة تندرئ بالشبهات، وأيضاً معنى الجماع وهو قضاء الشهوة فدرئت الشبهة، والغسل يجب بالاحتياط، فقياس أحدهما على الآخر غير صحيح، وأجيب بمنع معنى الجماع م: (لأن قضاء الشهوة يتحقق [دونه] ) ش: أي بدون الإنزال والإنزال شبع وليس بشرط، ألا ترى أن من أكل لقمة وجبت عليه الكفارة، وإن لم يوجد الشبع، وإليه أشار بقوله م: (وهذا) ش: أي قولنا الإنزال م: (وإنما ذلك شبع) ش: هذا جواب عن سؤال ذكر في " المبسوط " فإن قيل: تكامل الجناية شرط لإيجاب الكفارة وذلك لا يحصل بدون الإنزال. قلنا انقضاء شهوة

(4/53)


وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا تجب الكفارة بالجماع في الموضع المكروه اعتبارا بالحد عنده، والأصح أنها تجب لأن الجناية متكاملة لقضاء الشهوة،
ولو جامع ميتة أو بهيمة فلا كفارة أنزل أو لم ينزل خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الجناية تكاملها بقضاء الشهوة في محل مشتهى ولم يوجد،
ثم عندنا كما تجب الكفارة بالوقاع على الرجل تجب على المرأة. وقال الشافعي - رحمه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المحل يتم بالإيلاج والإنزال شبع، ولا يعتبر به في تكميل الجناية.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا تجب الكفارة بالجماع في الموضع المكروه) ش: وهو الدبر م: (اعتبارا بالحد عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه لم يجعل هذا الفعل جناية كاملة في إيجاب العقوبة التي تندرئ بالشبهات، وهذه عقوبة تندرئ بالشبهات كالحدود في جانب المفعول ليس لقضاء الشهوة، وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (والأصح أنها تجب) ش: أي الكفارة. رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الجناية متكاملة لقضاء الشهوة) ش: في محله، والسبب قد تم وهو الفطر بهذه الجناية، وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال مالك وأحمد عليهما الغسل، وقال ابن قدامة قال أبو حنيفة في أشهر الروايتين عنه لا كفارة في الوطء في الدبر.
قلت: هذا غير صحيح، والأصح ما ذكرناه.

م: (ولو جامع ميتة أو بهيمة فلا كفارة أنزل أو لم ينزل خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فالصحيح عنه أنه تجب الكفارة. وفي " شرح المهذب " للنووي أولج في قبل بهيمة أو دبرها بطل صومه أنزل أو لم ينزل، وفيما دون الفرج لا يبطل إلا بالإنزال، ولا كفارة فيه، كقولنا، وتجب الكفارة في البهيمة في أصح الطريقين أنزل أم لا، واختلف الحنابلة في وجوب الكفارة في وطء البهيمة والميتة م: (لأن الجناية تكاملها بقضاء الشهوة في محل مشتهى ولم يوجد) ش: تكاملها بالرفع لأنه خبر إن والأولى أن يكون بالنصب بدلاً من الجناية، وقوله في قضاء الشهوة يكون خبر إن، والتقدير أن تكامل الجناية في قضاء الشهوة، حاصل المعنى أن الكفارة تعتمل الجناية الكاملة، وتكاملها لا يكون إلا بقضاء الشهوة في محل مشتهى، ولم ويوجد، ألا ترى أن الطباع السليمة تنفر عنها، فإن حصل به قضاء الشهوة فذلك لغلبة الشهوة والشبق أو لفرط السفه.

[كفارة المفطر عمدا بجماع أو غيره]
م: (ثم عندنا كما تجب الكفارة بالوقاع على الرجل تجب على المرأة) ش: هذا إذا طاوعته المرأة، أما إذا غلبها على نفسها فعليها القضاء دون الكفارة، وبه قال مالك وأبو ثور وابن المنذر وأحمد في أصح الروايات، قال الخطابي: هو قول أكثر العلماء.
م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول: لا تجب عليها) ش: أي الكفارة وهو أظهر أقوال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو رواية عن محمد، وفي قول: تجب كفارة واحدة على الواطئ

(4/54)


الله - في قول: لا تجب عليها لأنها متعلقة بالجماع وهو فعله، وإنما هي محل الفعل، وفي قول تجب ويتحمل الرجل عنها اعتبارا بماء الاغتسال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنهما ويتحمل عنها، وهو قول الأوزاعي، وله قول ثالث كقولنا م: (لأنها متعلقة بالجماع) ش: أي لأن الكفارة متعلقة بالجماع يعني بسبب فعل الجماع م: (وهو) ش: أي الجماع م: (فعله) ش: أي فعل الرجل، م: (وإنما هي محل الفعل، فلا تجب عليها، وفي قول) ش: للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (تجب ويتحمل الرجل عنها) ش: لأنه أوقعها في هذه المؤنة هذا إذا كان موسراً، وأما إذا كان معسراً فلا يتحملها كالتكفير بالصوم م: (اعتبارا بماء الاغتسال) ش: يعني قياساً على ماء الاغتسال، فإنه عليه، لأنه أوقعها فيه والحق التعلق بالجماع ينقسم إلى بدني ومالي، فما كان مالياً، فعلى الزوج، وما كان بدنياً فعليهما كثمن ماء الاغتسال فإنه عليه والاغتسال عليها، وفي تتمتهم فيه تسعة فروع.
أحدها: إذا كانا جميعاً من أهل الإطعام أو العتق يحمل ويتداخلان لأنهما جنس واحد والسبب واحد.
الثاني: إذا كانا جميعاً من أهل الصوم، فعلى كل واحد أن يصوم ولا يتحمل عنها، لأنها عبادة بدنية ولا يجزئ فيها التحمل.
الثالث: إذا كان الرجل من أهل الإعتاق، وهي من أهل الصوم فيه وجهان، أحدهما: عليه الصوم لعدم التحمل فيه، والثاني: يسقط عنها لعتق الرجل.
الرابع: إذا كان هو من أهل العتق وهي من أهل الإطعام يتحمل عنها، وهما يتداخلان؟ فيه وجهان، أحدهما: لا يتداخلان لأنهما جنسان مختلفان، ولا تداخل مع الاختلاف. والثاني: تدخل فيه.
الخامس: لو كان هو من أهل الصوم، وهي من أهل العتق [فوجهان، أحدهما: لا يتحمل عنها، لأنه عاجز، والثاني: يتحمل فتبقى] في ذمته إلى أن يقدر.
والسادس: لو كان هو من أهل الإطعام وهي من أهل الصوم لا يتحمل عنها، لأنه [بدني فلا يتحمل فيه. السابع: لو زنى بامرأة لا يتحمل عنها، لأن] التحمل بسبب الزوجية ولم يوجد، ولهذا لا يلزمه ثمن ماء الاغتسال.
الثامن: إذا كان نائماً فاستدخلت ذكره فعليها الكفارة، لأن الرجل لم يجعلها مفطرة.
التاسع: إذا قدم الرجل من سفر مفطراً فجامعها، فإن ظن أنها مفطرة فلا يتحمل ولو جامعها مع العلم بصومها فيه وجهان، أحدهما: لا يتحمل، والثاني يتحمل.

(4/55)


ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر» وكلمة "من" تنتظم الذكور والإناث، ولأن السبب جناية الإفساد لا نفس الوقاع وقد شاركته فيها ولا يتحمل لأنها عبادة أو عقوبة ولا يجري فيهما التحمل،
ولو أكل أو شرب ما يتغذى به أو ما يتداوى به فعليه القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر» ش: قال الأترازي: هذا ما رواه أصحابنا في كتبهم وذكره السغناقي ثم تبعه الأكمل مجرداً من غير بيان في حاله ولا نسبه إلى أحد. وقال الكاكي وفي " المبسوط "، واحتج علماؤنا بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر» ، رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال مخرج أحاديثه: هذا حديث غريب لم أجده، واستدل ابن الجوزي في التحقيق لمذهبنا ومذهبه بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً» انتهى قال: ووجهه أنه علق التكفير بالإفطار وهو معنى حسن صحيح.
وقال الكاكي: وما رواه في المتن رواه الدارقطني بمعناه، قلت: روى الدارقطني في " سننه " عن يحيى الحماني حدثنا هشيم عن إسماعيل بن سالم عن مجاهد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الذي أفطر يوماً في رمضان بكفارة الظهار» .
م: (وكلمة من تنتظم الذكور والإناث) ش: قال الله تعالى {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 31] [الأحزاب: 31] وفي بعض النسخ تنتظم الذكور والإناث، م: (ولأن السبب) ش: أي سبب الكفارة م: (جناية الإفساد) ش: أي إفساد الصوم م: (لا نفس الوقاع) ش: ولهذا إذا حصل الوقاع ولم يوجد الإفساد لا تجب الكفارة، كما في الوقاع في ليالي رمضان.
م: (وقد شاركته فيها) ش: أي في جناية الفساد فشاركته في الكفارة فتجب عليها كما تجب عليه، وهذا جواب عن قول الشافعي أعني عن قوله الأول.
م: (ولا يتحمل لأنها) ش: أي لأن الكفارة م: (عبادة أو عقوبة) ش: وأيا ما كانت لا تلزمه م: (ولا يجري فيهما) ش: أي في العبادة والعقوبة م: (التحمل) ش: لأن العبادة فعل اختياري، فلو جاز التحمل لحصل الجبر واللازم منتف فينتفي الملزوم، وأما العقوبة فقد شرعت زجراً على الجاني لا على غيره، وهذا جواب عن قوله الثاني.

م: (ولو أكل) ش: أي الصائم م: (أو شرب ما يتغذى به أو ما يداوى به) ش: في نهار رمضان وكان عمداً م: (فعليه القضاء) ش: أي قضاء ذلك اليوم، وقال الأوزاعي: ليس عليه

(4/56)


والكفارة وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا كفارة عليه لأنها شرعت في الوقاع بخلاف القياس لارتفاع الذنب بالتوبة، فلا يقاس عليه غيره. ولنا أن الكفارة تعلقت بجناية الإفطار في رمضان على وجه الكمال لا بنفس الوقاع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القضاء، واستدل بحديث الأعرابي، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين حكم الكفارة، ولم يبين حكم القضاء. قلنا: إنه وجب عليه الصوم بشهود الشهر، وقد انعدم الأداء عنه فيلزمه القضاء، وإنما بين للأعرابي ما كان مشكلاً.

م: (والكفارة) ش: أي مع القضاء هو قول جمهور العلماء منهم الشعبي والزهري والثوري والحسن البصري وعطاء ومالك وإسحاق وأبو ثور ومحمد بن جرير الطبري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وكان سعيد بن جبير يقول: لا كفارة على المفطر في رمضان، أي مفطر كان، لأن في آخر حديث الأعرابي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كلها أنت وعيالك» فانتسخ بهذا حكم الكفارة، ولنا ما يأتي عن قريب.
وقال سعيد بن المسيب: عليه صوم شهر، وقال عطاء: عليه تحرير رقبة، فإن لم يجد فبدنة أو بقرة أو عشرون صاعاً من طعام على أربعين مسكيناً، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: عليه أن يصوم اثني عشر يوماً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] [التوبة: 36] ، وعند إبراهيم النخعي عليه أن يصوم ثلاثة آلاف يوم، رواه عنه حماد بن أبي سليمان وقال أبو عمر بن عبد البر، هذا لا وجه له إلا أن يكون كلامه قد خرج على وجه التغليظ والغضب، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عليه عتق رقبة أو صوم شهر أو إطعام ثلاثين مسكيناً، وعن ابن سيرين يقضي يوماً، وهو رواية عن الشعبي ومذهب ابن جبير، ورواه القاضي بكار عن النخعي، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقضي يوماً ويطعم مسكيناً واحداً.
وعن الحسن البصري أنه سئل عن رجل أفطر أربعة أيام يأكل ويشرب وينكح. قال: يعتق أربع رقاب، فإن لم يجد فأربعة من البدن فإن لم يجد فعشرون صاعاً من التمر لكل يوم، فإن لم يجد صام لكل يوم يومين، وروي مثله مرسلاً من طريق بن المسيب، وعن علي وابن مسعود رضي عنهما - أنهما قالا: لا يقضيه أبداً، وإن صام الدهر كله، ورفعه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال أبو عمر: وهو ضعيف.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا كفارة عليه) ش: ولكن يعزره السلطان ويجب عليه إمساك بقية يومه، وبه قال أحمد وداود م: (لأنها) ش: أي لأن الكفارة م: (شرعت في الوقاع) ش: أي الجماع بخلاف القياس لارتفاع الذنب بالتوبة فلا يقاس عليه غيره) ش: بيانه أن الأعرابي جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تائباً نادماً، والتوبة رافعة للذنب بالنص، ومع ذلك أوجب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكفارة فعلم أنها تثبت على خلاف القياس، وما كان كذلك لا يقاس عليه غيره.

(4/57)


وقد تحققت.
وبإيجاب الإعتاق تكفيرا عرف أن التوبة غير مكفرة لهذه الجناية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن الكفارة تعلقت بجناية الإفطار) ش: أي أن وجوب الكفارة في الوقاع تعلق بجناية الإفساد للصوم م: (في رمضان على وجه الكمال لا بنفس الوقاع وقد تحققت) ش: أي الجناية في الأكل والشرب فوجب القول بوجوب الكفارة بطريق الأولى، لأن الكفارة وردت زجراً، والزجر إنما يكون في إتيان حرام تدعو إليه النفس، وداعية النفس في الصوم إلى الأكل والشرب أكثر منها إلى الجماع، فلما وجب في الجماع الزجر، فلأن تجب الكفارة في الأكل والشرب أولى وأحرى، قيل: لا نسلم عدم تعلق الكفارة بنفس الوقاع لأنه حرام في الصوم.
وأجيب بأن وقاع الزوجة من حيث هو ليس بحرام بالنص، فعلم أن الكفارة تعلقت بإفساد الصوم فقيل: لا نسلم تعلقها بإفساد الصوم والفساد حاصل في الإطار بالحصاة والنواة فأجيب نعم لكن لا على وجه الكمال فيما ذكر لعدم فوت معنى الصوم وهو قهر النفس بالتجويع.

م: (وبإيجاب الإعتاق تكفيرا عرف أن التوبة غير مكفرة لهذه الجناية) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الكفارة شرعت في الوقاع بخلاف القياس لارتفاع الذنب بالتوبة، وبيانه أن يقال لا نسلم أن هذه الجناية [ترفع بالتوبة، فإن الشرع لما أوجب الإعتاق كفارة هذه الجناية] ، علم أنها غير مفكرة لها كجناية السرقة والزنا حيث لا يرتفعان بمجرد التوبة بل بالحد، والباقي بإيجاب العتق تتعلق بقوله - عرف - والتقدير عرف بإيجاب الشارع الإعتاق أن التوبة غير مكفرة، وقوله - تكفيراً - نصب على التعليل أي لأجل التكفير.
فإن قال الخصم للجماع مزية في استدعاء الزاجر لغلظه في الجناية ولا يثبت الحكم في غير من زجره، الأول: أن الجماع يوجب الفطر من [الحكم] فكان أشد بخلاف الأكل والشرب.
والثاني: أن الإحرام يفسد بسبب الجماع، ولا يفسد بسائر محظورات الإحرام.
والثالث: أن الشارع أوجب في الوقاع عند عدم الملك ولم يشرع في الأكل عند عدم الملك، فكان أشد.
والرابع: أن تمام الجوع يبيح الفطر عند الضرورة، فكان نقيضه يوجب شبهة الإباحة والكفارة لا تجب بالشبهة، بخلاف الوقاع فإنه لا يباح أصلاً في حق الصائم.
والخامس: أن الوقاع بالمرأة له داعيان من النظر بخلاف الأكل فكان أشد.
وأجيب عن الأول بأنه لا فرق بين جماع الصغير، والكبير والمكرهة والبهيمة على أصله وليس فطراً، ومع ذلك وجبت الكفارة. وعن الثاني خوف الجماع في الحج أقوى حتى لا يرتفع بالحلق إلى أن يطوف طواف الزيارة بخلاف سائر المحظورات حتى ترتفع بالحلق، وهنا كلها سواء. وعن الثالث التسوية بين الأكل والوقاع في الركنية حرمة وإباحة.

(4/58)


ثم قال: والكفارة مثل كفارة الظهار لما روينا، ولحديث الأعرابي فإنه قال: «يا رسول الله هلكت وأهلكت، فقال: ماذا صنعت؟، قال: واقعت امرأتي في نهار رمضان متعمدا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعتق رقبة، فقال: لا أملك إلا رقبتي هذه، فقال: صم شهرين متتابعين، فقال: وهل جاءني ما جاءني إلا من الصوم؟ فقال: أطعم ستين مسكينا، فقال: لا أجد، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن يؤتى بفرق من تمر "ويروى" بعرق فيه خمسة عشر صاعا، وقال: فرقها على المساكين: فقال: والله ليس ما بين لابتي المدينة أحد أحوج مني ومن عيالي، فقال: كل أنت وعيالك يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن الرابع: أن تمام الجوع لا يبيح الفطر عند الضرورة، لأن الضرورة عبارة عن خلو المعدة لخوف الهلاك على نفسه بسبب من الجوع، لأن الجوع عبارة عن الاستشهاء ووقوع الحاجة إلى الأكل، وهذا لا يباح بحال، والضرورة عبارة عن خلو المعدة التي يتعلق بها بقاء الطبيعة، وذلك الخلو لا يتصور بعضه ببعض الزاد إذا بقي، ولا يخلو دخول الجوف عما فيه لا يتصور بعضه، وعن الخامس فهو الجواب عن الأول.

[صفة كفارة المفطر عمدا في رمضان]
م: ( [ثم قال] والكفارة مثل كفارة الظهار) ش: أي الكفارة التي تجب بالواقع، مثل كفارة الظهار، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر م: (لما روينا) ش: أراد به قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر» .
م: «ولحديث الأعرابي فإنه قال: يا رسول الله هلكت وأهلكت، فقال: ماذا صنعت؟، قال: واقعت امرأتي في نهار رمضان متعمداً، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعتق رقبة، فقال: لا أملك إلا رقبتي هذه، فقال: صم شهرين متتابعين، فقال: وهل جاءني ما جاءني إلا من الصوم؟ فقال: أطعم ستين مسكينا، فقال: لا أجد، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يؤتى بفرق من تمر "ويروى" بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا، وقال: فرقها على المساكين: فقال: والله ليس بين لابتي المدينة أحد أحوج مني ومن عيالي، فقال: كل أنت وعيالك يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك» ش: الكلام في هذا الحديث على أنواع:

(4/59)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: أن هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة من حديث أبي هريرة فقال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني حميد بن عبد الرحمن «حدثنا أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تجد من رقبة تعتقها؟ قال لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال لا، قال فمكث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينما نحن كذلك أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفرق فيها تمر، والفرق المكيل، قال: أين السائل؟ فقال أنا، فقال خذها فتصدق بها، فقال الرجل: أعلى [وجه الأرض] أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أسنانه، قال: أطعمه أهلك» .
وقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير كلهم عن ابن عيينة، قال يحيى أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هلكت يا رسول الله فقال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال هل تجد ما تعتق رقبة قال لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال: لا قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال لا، ثم جلس فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا فقال أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أسنانه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك» .
وقال أبو داود: حدثنا مسدد ومحمد بن عيسى المعنى قالا: حدثنا سفيان، قال مسدد حدثنا الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: «أتى رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال هلكت، فقال: ما شأنك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال لا، قال اجلس فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرق فيه تمر، فقال: تصدق به، فقال: يا رسول الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت ثناياه وقال: أطعمهم إياه» .
وقال الترمذي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وأبو عمار الضبي وأحمد واللفظ لفظ أبي عمار، قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن «عن أبي هريرة ... قال أتاه رجل فقال يا رسول الله هلكت، فقال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال لا، فأجلس؟ فجلس فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفرق فيه تمر، والفرق المكتل الضخم، قال: فتصدق به، قال: ما بين لابتيها

(4/60)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحد أفقر منا، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت ثناياه، قال: خذه فأطعمه أهلك» .
وقال النسائي: أخبرنا محمد بن نصر النيسابوري ومحمد بن إسماعيل الترمذي، قالا حدثنا أيوب بن سليمان قال حدثني أبو بكر وهو ابن أبي أويس عن سليمان قال يحيى بن سعيد وأخبرني ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أخبره «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً، قال الرجل: يا رسول الله ما أجده، فأتي بفرق من تمر فقال: خذ هذا فتصدق به، قال: ما أحد أحوج يا رسول الله مني فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أنيابه ثم قال: كله» . ورواه من طريق أخرى.
وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقال: هلكت فقال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق رقبة قال: لا أجدها قال صم شهرين متتابعين قال: لا أطيق قال أطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد، قال: اجلس فجلس فبينما هو كذلك إذ أتي بمكتل يدعى الفرق، قال: اذهب فتصدق به فقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، قال: فانطلق فأطعمه عيالك» .
النوع الثاني: في معناه قوله - بينما - أصله بين فأشبعت فتحة النون فصارت بينا، ثم زيدت فيه الميم فصارت بينما، وتضاف إلى جملة اسمية وفعلية، وتحتاج إلى جواب يتم به المعنى، وجوابه هنا هو قوله - إذ جاء رجل - زعم ابن بشكوال أن هذا الرجل هو سلمة بن صخر البياضي فيما ذكره ابن أبي شيبة في مسنده، وعن ابن الجارود سليمان بن صخر. وفي جامع الترمذي سلمة بن صخر، وهذا في المتن لحديث الأعرابي، والأعرابي نسبة إلى الأعراب، والأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة. والعرب اسم لهذا الجيل من الناس سواء أقاموا بالبادية أو المدن، والنسبة إليه عربي.
قوله - هلكت - في رواية البخاري وكذا في رواية البقية، وفي متن حديث الباب - هلكت وأهلكت - وليس في الكتب الستة لفظ وأهلكت، وقال الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه اللفظة غير محفوظة، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، إنما ذكروا قوله - هلكت - فقط غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان فذكر هذا الحرف فيه وهو غير محفوظ، والمعلى ليس بذاك القوي في الحفظ والإتقان، انتهى.
قلت: أخرجه الدارقطني في " سننه " عن أبي ثور حدثنا المعلى بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري به، وفيه هلكت وأهلكت، وفي رواية البيهقي في " سننه " أيضاً جاءه رجل

(4/61)


وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله يخير لأن مقتضاه الترتيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو ينتف شعره ويدق صدره، ويقول هلكت ألا بعد وأهلكت، [وفي رواية ويدعو بالويل، وفي رواية ويلطم وجهه، وفي رواية الحجاج بن أرطاة ويدعو ويله، وفي مرسل سعيد بن المسيب عن الدارقطني ويحثي على رأسه التراب.
قوله - قال مالك - وفي رواية مسلم - وما أهلكك - وكذا في رواية الترمذي وابن ماجه] ، وفي رواية أبي داود - وما شأنك؟ - وفي متن حديث الكتاب ماذا صنعت؟. قوله - بفرق - بفتح الفاء والراء مكيال لستة عشر رطلاً، والعرق بفتح العين والراء، وقال أبو عبيد فتح الراء وهو الصواب عند أهل اللغة، قال وأكثرهم يروونه بسكون الراء. وفي ديوان الأدب - العرق - الزنبيل، وقال أبو عمر - العرق - أكبر من المكتل، والمكتل أكبر من الفرق، والعرقة زنبيل، وفي المحكم الفرق واحدته فرقة.
قوله - لابتي المدينة - تثنية اللابة، قال الأصمعي اللابة الحرة وهي الأراضي التي قد ألبتها حجارة سود، جمعها لابات ولوب. قوله - يجزيك لا يجزي أحداً بعدك - لم يرد في كتاب من كتب الحديث.
النوع الثالث: أن هذا الحديث يدل على بيان كفارة من أفطر في رمضان عمداً على الترتيب المذكور فيه، وفيه كلام كثير لا يحتمل هذا الموضع بيانه، فمن أراد ذلك فعليه بشرحنا للبخاري والذي سميناه عمدة القاري في شرح البخاري.

م: (وهو) ش: أي حديث الأعرابي م: (حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله يخير) ش: أي يخير من عليه الكفارة بين الإعتاق والصوم والإطعام مطلقاً، فأيهما أدى خرج عن العهدة. وقال الكاكي قوله - وهو حجة على الشافعي في قوله يخير - وقع سهواً من الكاتب، فإن الشافعي لا يقول بالتخيير، بل يقول مثل مذهبنا بالترتيب، وبه قال أحمد في أصح الروايتين.
وقال في شرح الموطأ وابن المنذر في الأشراف قالوا هذا مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه والأوزاعي، والثوري والحسن بن حي والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأحمد وأبي ثور، وقال السغناقي: والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقول بالتخيير بل يقول بالترتيب المذكور في حق المظاهر كما هو قولنا، وهو منصوص في كتبهم في الوجيز والخلاصة المسنوبان للغزالي، وكذلك في كتبنا في مبسوط شمس الأئمة وفخر الإسلام.
م: (لأن مقتضاه) ش: أي مقتضى الحديث وجوب م: (الترتيب) ش: ودلالة الحديث على الترتيب ظاهرة، والذي ذهب إلى التخيير استدل بحديث سعد بن أبي وقاص «أن رجلاً سأل

(4/62)


وعلى مالك في نفي التتابع للنص عليه. ومن جامع فيما دون الفرج فأنزل فعليه القضاء لوجود الجماع معنى، ولا كفارة عليه لانعدام الصورة.
وليس في إفساد الصوم في غير رمضان كفارة، لأن الإفطار في رمضان أبلغ في الجناية ولا يلحق غيره به. ومن احتقن أو استعط أو أقطر في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني أفطرت في رمضان، فقال: أعتق رقبة أو صم شهرين [متتابعين] أو أطعم ستين مسكيناً» . أجيب بأن حديث الأعرابي مشهور لا يعارضه هذا الحديث، فيحمل على أن المراد به بيان ما تتأدى به الكفارة في الجملة لا التخيير، قلت حديث سعد بن أبي وقاص رواه الدارقطني في " سننه ". م: (وعلى مالك) ش: أي وحجة أيضاً على مالك م: (وفي نفي التتابع) ش: فإنه يجوز الصوم مطلقاً تابع أو فرق، هذا على ما ذكره المصنف، ولكن نسبته إلى مالك سهو أيضاً، فإن القائل بنفي التتابع هو ابن أبي ليلى ومالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يقول إلا بالتتابع كقولنا، وفي " الذخيرة " للمالكية يجب صوم شهرين متتابعين عند مالك، وقال ابن قدامة في المغني لا اختلاف بين من أوجب الصوم أنه شهران متتابعان، وفي السروجي عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شهر واحد، وعند ابن أبي ليلى شهرين ولم يوجب فيهما التتابع، ذكره القرطبي وغيره م: (للنص عليه) ش: أي لنص الحديث على التتابع، حيث قال صم شهرين متتابعين، وكل صيام لم يذكره الله في القرآن متتابعاً فالصائم بالخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق وكل صوم ذكر في القرآن متتابعاً فعليه التتابع والصيامات المذكورة في القرآن ثمانية، أربعة منها متتابعة، صوم رمضان وكفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة اليمين عندنا، وأربعة منها صاحبها بالخيار قضاء رمضان، وصوم المتعة، وصوم كفارة الحلق، وكفارة [جزاء] الصيد، وفي المبسوطين من مشايخنا من قال كل كفارة شرع فيها عتق فصاحبها بالخيار، فحينئذ يدخل فيه كفارة الفطر م: (ومن جامع فيما دون الفرج) ش: أي أراد به الاستعمال في فخذ المرأة، أو في بطنها ولم يرد به اللواطة فإنه فيها تجب الكفارة م: (فأنزل فعليه القضاء لوجود الجماع معنى) ش: وهو الإنزال عن المس بشهوة م: (ولا كفارة عليه) ش: وبه قال الشافعي، وقال مالك وأحمد وأبو ثور تجب الكفارة لوجود هتك حرمة الصوم، ولهذا يجب عليه القضاء بالإجماع م: (لانعدام الصورة) ش: أي صورة الجماع، وهو إيلاج الفرج في الفرج.

[الحقنة والقطرة للصائم]
م: (وليس في إفساد صوم في غير رمضان كفارة) ش: حكي عن قتادة أن الكفارة تجب بإفساد قضاء رمضان اعتباراً بأدائه م: (لأن الإفطار في رمضان أبلغ في الجناية) ش: لأن فيه هتك حرمة الشهر م: (ولا يلحق غيره به) ش: أي غير رمضان برمضان، وهذا بخلاف الكفارة في الحج، حيث يستوي فيه الفرض والنفل، لأن وجوبها لحرمة العبادة، وفي رمضان لحرمة الأمان لا لنفس العبادة، فافترق صوم رمضان وغيره.
م: (ومن احتقن) ش: أي وضع الحقنة في الدبر، والحقن بفتح الحاء كذا في " المغرب " وقال ابن الأثير: الحقنة أن يعطى المريض الدواء من أسفله وهي معروفة عند الأطباء، وفي الحديث أنه

(4/63)


أذنه أفطر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الفطر مما دخل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كره الحقنة، وقال أصحابنا لا بأس بالاحتقان حال الضرورة، وهو قول النخعي، وقال مجاهد والشعبي يكره م: (أو استعط) ش: بفتح التاء أيضاً أي صب السعوط في الأنف، وهو بفتح السين اسم دواء يصب في أنف المريض، واستعطه إياه، ولا يقال استعط على بناء المجهول، والوجور دواء يصب في وسط الفم م: (أو أقطر في أذنه) ش: وقطره مثله، وأقطره، وقطر، وقطر بنفسه قطراً سال.
م: (أفطر) ش: بالفاء جواب من، أي أفطر الصائم بالاحتقان والاستعاط والإقطار في الأذن عند عامة العلماء إلا عند الحسن بن صالح وداود، فإنهما قالا لا يفطر، وقال مالك والأوزاعي في السعوط إن نزل إلى حلقه يفطر وإلا لا، ولمالك في الحقنة، روايتان، وفي " الأجناس " توجب الفطر ولا يقع بها الرضاع، ونقله عن " نوادر هشام "، لأن الرضاع إنما يثبت باللبن الذي يشربه الصغار بمعنى النشء والنمو والتغذية، ألا ترى أنه في حال الكبر لا يوجب والحقنة مفارقة للشرب في هذا المعنى.
م: «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[الفطر مما دخل» ش: هذا الحديث] رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " حدثنا أحمد بن منيع حدثنا مروان بن معاوية «عن رزين البكري قال حدثتنا مولاة لنا يقال لها سلمى بنت بكر بن وائل أنها سمعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تقول دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا عائشة هل من كسرة، فآتيته بقرص فوضعه على فيه، فقال يا عائشة هل دخل بطني منه شيء، كذلك قبلة الصائم، إنما الإفطار مما دخل وليس مما خرج» .
وروى عبد الرزاق في " مصنفه " هذا موقوفاً على ابن مسعود فقال أخبرنا الثوري عن وائل ابن داود عن أبي هريرة عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال إنما الوضوء مما خرج وليس مما دخل والفطر في الصوم مما دخل وليس مما خرج ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبراني في " معجمه "، ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " موقوفاً على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال الفطر مما دخل وليس مما خرج. وكذلك رواه البيهقي وقال: وروي من قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يثبت، وذكره البخاري في " صحيحه " تعليقاً، وقال ابن عباس وعكرمة: الصوم مما دخل

(4/64)


ولوجود معنى الفطر وهو وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف ولا كفارة عليه لانعدام الصورة، ولو أقطر في أذنيه الماء أو دخله لا يفسد صومه لانعدام المعنى والصورة بخلاف ما إذا دخله الدهن. ولو داوى جائفة أو آمة بدواء فوصل إلى جوفه أو دماغه أفطر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي يصل هو الرطب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليس مما خرج، ولوجود معنى الفطر

م: (وهو وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف) ش أي إلى جوف الرأس أو البطن م: (ولا كفارة عليه) ش: لانعدام الصورة أي صورة الفطر، وهو الوصول إلى الجوف من المنفذ المعهود، وهو الفم م: (ولو أقطر في أذنيه الماء أو دخله) ش: أي أو دخل الماء أذنه بنفسه م: (لا يفسد صومه لانعدام المعنى والصورة) ش: أراد بالمعنى صلاح البدن وهو معدوم، لأن الماء الذي يدخل في الأذن يضر ولا ينفع، وأراد بالصورة الوصول إلى الجوف من المنفذ المعهود وهو الفم.
وعند الشافعية لو قطر في أذنه ماء أو دهناً فوصل إلى دماغه فطره في أصح الوجهين.
وقال القاضي حسين والقوزاني والسنجي: لا يفطره، وصححه القرافي، ولو اغتسل فدخل الماء أذنه فلا شيء عليه ولو صبه فيها فعليه القضاء، والمختار لا شيء عليه فيهما، وهو قول مالك والأوزاعي وداود، وفي " خزانة الأكمل " لو صب الماء في أذنه لا يفطره، هكذا عند بعض مشايخنا بخلاف الدهن يفعله فعليه القضاء، وفي " السليمانية ": من تبخر بالدواء فوجد طعم الدخان في حلقه يقضي الصوم، وفي " الخزانة " عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن استنشق فوصل الماء دماغه لزمه القضاء م: (بخلاف ما إذا دخله الدهن) ش: يعني أفطره إذا أدخل في أذنه الدهن لوجود صلاح البدن.
م: (ولو داوى جائفة) ش: وهي الطعنة التي تبلغ الجوف م: (أو آمة) ش: بمد الهمزة وبالتشديد وهي الشجة التي تبلغ أم الرأس وأمه يؤمه من آمته إذا ضربته بالعصا إذا ضربت أم رأسه وهي الجلدة التي تجمع الدماغ، وإنما قيل للشجة: آمة على معنى ذات أم كعيشة راضية.
م: (بدواء يصل إلى جوفه) ش: يرجع إلى الجائفة م: (أو دماغه) ش: يرجع إلى الآمة م: (أفطر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - م: (والذي يصل هو الرطب) ش: أشار بهذا إلى أن المراد من قوله: يصل إلى جوفه هو الدواء الرطب، لأن الخلاف فيه، وأما إذا كان يابساً لا يفسد صومه بالإجماع، كذا في " المبسوط " و " تحفة الفقهاء " وغيرهما، وهو ظاهر الرواية.
قال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فرق في ظاهر الرواية بين الرطب واليابس، وأكثر مشايخنا على أن العبرة للوصول حتى إذا علم أن اليابس وصل إلى جوفه فسد صومه.

(4/65)


وقالا: لا يفطر لعدم التيقن بالوصول لانضمام المنفذ مرة واتساعه أخرى كما في اليابس من الدواء. وله أن رطوبة الدواء تلاقي رطوبة الجراحة فيزداد ميلا إلى الأسفل فيصل إلى الجوف، بخلاف اليابس، لأنه ينشف رطوبة الجراحة فينسد فمها، ولو أقطر في إحليله لم يفطر عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفطر. وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مضطرب فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا علم أن الرطب لم يصل لا يفسد، وفي " الأجناس " لا فرق بين الرطب و [اليابس] إذا وصلا إلى الجوف فطر، أو إذا لم يصلا إلى الجوف لم يفطراه، ثم قال: هكذا فسره محمد بن شجاع في " تفسير المجدد "، وما ذكره في الأصل مطلقا في الرطب أنه يفطره فهو بناء على الغالب، لأنه يصل إلى الجوف غالباً، ثم قال: روى: ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إن كان الرطب يصل إلى جوفه
ولم يفرق القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين الرطب واليابس في كتاب التقريب، بل حقق الخلاف فيهما جميعاً بين أبي حنيفة وصاحبيه.

م: (وقالا: لا يفطر لعدم التيقن بالوصول) ش: أي المنفذ الأصلي والمنافي للصوم هو الواصل إلى الجوف من المخارق المعتادة التي خلقها الله تعالى في البدن م: (لانضمام المنفذ مرة واتساعه أخرى) ش: إذا ظهر أن المنفذ إذا انضم وانزوى لا يصل منه شيء إلى الباطن، وإذا اتسع يصل فلا يتيقن ذلك ولا يصل إلى الجوف فلا يفسد الصوم م: (كما في اليابس من الدواء) ش: أي كما لا يفصد في تداويه بدواء يابس لأنه يستمسك، فلا يصل إلى الباطن، وبقولهما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وله) ش: لأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أن رطوبة الدواء تلاقي رطوبة الجراحة فيزداد ميلا إلى الأسفل) ش: لأن ما كان مبطناً في نفسه وله سبب ظاهر يدار الحكم على السبب الظاهر، والوصول إلى الجوف هو الموجب للفطر، إلا أنه مبطن لا يوقف عليه وله سبب ظاهر وهو كون الدواء مائعاً سائلاً، لأن كل مائع طبعه التحدر والتسفل، وإذا كان الدواء رطباً يصير مائعاً بانضمام رطوبة الجراحة إليه فينحدر إلى الأسفل م: (فيصل إلى الجوف) ش: بانحداره وتسفله.
م: (بخلاف اليابس لأنه ينشف رطوبة الجراحة فينسد فمها) ش: أي من الجراحة فلا ينفذ إلى أسفل.
م: (ولو أقطر في إحليله) ش: وهو مخرج البول من الذكر م: (لم يفطر عند أبي حنيفة) ش: وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور وداود وبعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفطر) ش: وبه قال الشافعي م: (وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مضطرب فيه) ش: أي غير مستقر على وجه، فلذلك ذكر قوله في الأصل مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر الطحاوي في " مختصره " مع أبي يوسف أنه شك في وجود المنفذ من الإحليل إلى الجوف فتوقف.

(4/66)


فكأنه وقع عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن بينه وبين الجوف منفذا، ولهذا يخرج منه البول،
ووقع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المثانة بينهما حائل والبول يترشح منه، وهذا ليس من باب الفقه. ومن ذاق شيئا بفمه لم يفطر لعدم الفطر صورة ومعنى، ويكره له ذلك لما فيه من تعريض الصوم للفساد، ويكره للمرأة أن تمضغ لصبيها الطعام إذا كان لها منه بد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى ابن سماعة عن محمد أنه توقف في آخر عمره فيه م: (وكأنه وقع عند أبي يوسف أن بينه) ش: أي بين الإحليل م: (وبين الجوف منفذا) ش: هذا إشارة إلى أن الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهذه المسألة تبتنى على أنه هل بين المثانة والجوف منفذ، والمثانة حائلة بين الجوف وقصبة الذكر أم لا، فأبو حنيفة يقول: لا منفذ بينهما، وإنما ينزل البول إلى المثانة بالترشيح كالجوف [....] ، وأبو يوسف يقول: بينهما منفذ م: (ولهذا) ش: أي لكون المنفذ بينهما م: (يخرج منه البول) ش: من المنفذ.

[ذوق الطعام ومضغ العلك للصائم]
م: (ووقع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المثانة بينهما حائل) ش: أي بين الإحليل والمنفذ م: (والبول يترشح منه) ش: أي من المنفذ م: (وهذا ليس من باب الفقه) ش: يعني ليس هذا الخلاف لهذه الصورة متعلقاً بباب الفقه، بل هو متعلق باصطلاح أهل تشريح الأبدان من الحكماء، فلذلك توقف محمد لأنه أشكل عليه أمره فاضطرب قوله فيه.
م: (ومن ذاق شيئا بفمه لم يفطر) ش: الذوق معرفة الشيء بفمه من غير إدخال عينه في حلقه، وإنما قيد الذوق بالفم لأنه ليس بمخصوص به، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حتى تذوقي عسيلته» م: (لعدم الفطر صورة ومعنى) ش: أما صورة فلأنه لم يصل إلى الجوف شيء من المنفذ المعهود، وأما معنى فلأنه لم يصل إلى البدن ما يصلحه م: (ويكره له) ش: أي للصائم م: (ذلك) ش: أي ذوق الشيء بالفم م: (لما فيه) ش: أي في الذوق م: (من تعريض الصوم للفساد) ش: لأنه لا يؤمن أن يصل إلى جوفه. وفي " المحيط " لا بأس بذوق العسل أو الطعام [ليعلم] جيده ورديئه كيلا يغبن متى لم يذقه، وكرهه في " فتاوى سمرقند "، وقال الحسن بن حي، وابن حنبل وابن إدريس: لا بأس، وفي فتاوى قاضي خان قال بعضهم: إن كان الزوج سيئ الخلق لا بأس للمرأة أن تذوق المرقة بلسانها، وقيل: الكراهة في صوم الفرض دون النفل.
م: (ويكره للمرأة أن تمضغ لصبيها الطعام إذا كان لها منه بد) ش: أي إذا كان للمرأة من المضغ بد، أي عدم احتياج، بأن وجدت حليباً ونحو ذلك، وقال ابن المنذر: وروينا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا بأس أن تمضغ الصائمة لصبيها الطعام، وكره الأوزاعي، ومالك ذوق الطعام حتى للطباخ ولمن يشتري، ومضغه للطفل، وكذا أطلق الثوري الكراهة. وفي " الذخيرة " للمالكية يكره ذوق الطعام ووضع الدواء في الفم [....] إن وجد طعمه في حلقه ولم يتيقن بالابتلاع فظاهر المذهب إفطاره خلافاً للجماعة، وفي " المغني " إن وجد طعمه في حلقه

(4/67)


لما بينا ولا بأس إذا لم تجد منه بدا صيانة للولد؛ ألا ترى أن لها أن تفطر إذا خافت على ولدها،
ومضغ العلك لا يفطر الصائم؛ لأنه لا يصل إلى جوفه، وقيل: إذا لم يكن ملتئما يفسد؛ لأنه يصل إليه بعض أجزائه وقيل: إذا كان أسود يفسد، وإن كان ملتئما لأنه يتفتت، إلا أنه يكره للصائم لما فيه من تعريض الصوم للفساد، ولأنه يتهم بالإفطار. ولا يكره للمرأة إذا لم تكن صائمة لقيامه مقام السواك في حقهن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أفطر م: (لما بينا) ش: أشار إلى قوله، لما فيه من تعريض الصوم على الفساد. م: (ولا بأس إذا لم تجد منه بدا صيانة للولد) ش: لأنه يباح لها الإفطار عند الضرورة، فالمضغ أولى، ولأن حق الصبي يفوت لا إلى بدل وحق الله يفوت إلى بدل، وهو القضاء لأن حق العبد مقدم، والله عز وجل مستغن عن الحاجة م: (ألا ترى أن لها أن تفطر إذا خافت على ولدها) ش: هذا توضيح لقوله ولا بأس.... إلخ، فإن كان لها الإفطار عند خوفها على الولد إذا صامت فالمضغ أولى كما قلنا.

م: (ومضغ العلك) ش: بكسر العين الذي يمضغ، وأما بالفتح فهو مصدر علك يعلك علكاً إذا لاك م: (لا يفطر الصائم؛ لأنه لا يصل إلى جوفه) ش: وبه قال الشافعي لأنه لا يدور في الفم ولا يصل إلى الجوف م: (وقيل: إذا لم يكن ملتئما) ش: أي مصلحاً [....] ، فإن مضغه غيره حتى انضمت أجزاؤه م: (يفسد؛ لأنه يصل إليه) ش: أي إلى جوفه م: (بعض أجزائه) ش: لأنه إذا لم يكن ملتئماً تفتت فيدخل في حلقه من ذلك شيء فيفسد صومه.
م: (وقيل: إذا كان) ش: أي العلك م: (أسود يفسده) ش: لأن الأسود يذوب ويصل إلى جوفه منه شيء، وإذا كان أبيض ملتئماً لا يفطره م: (وإن كان ملتئماً) ش: واصل بما قبله، أي الأسود يفسد ولو كان ملتئماً م: (لأنه يتفتت) ش: فيدخل منه شيء إلى الحلق.
م: (إلا أنه يكره للصائم) ش: هذا استثناء من قوله: ومن مضغ العلك لا يفطر م: (لما فيه من التعريض للفساد) ش: لأنه يتوهم وصول شيء منه إلى الباطن، فيكون معرضاً لصومه أي على الفساد م: (ولأنه يتهم بالإفطار) ش: وفي بعض النسخ - ولأنه يوهم الإفطار- لأن من رآه من بعيد يظن أنه مفطر، وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إياك وما سبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أكرهه لأنه يجفف الفم ويعطش، ذكره في " التهذيب " عنه، لكن يدبغ المعدة ويهضم الطعام ويشتهي الأكل، ذكره في " المبسوط "، وأشار في " الجامع الصغير " إلى أنه لا يكره العلك لغير الصائم، ولكن يستحب للرجال تركه إلا من عذر مثل أن يكون في فمه بخر.
م: (ولا يكره للمرأة إذا لم تكن صائمة لقيامه) ش: أي لقيام العلك م: (مقام السواك في حقهن) ش: لضعف أسنانهن ومضغه ينقي الأسنان ويشد اللثة كالسواك، وقال الكاكي: وإنما قال

(4/68)


ويكره للرجال على ما قيل إذا لم يكن من علة، وقيل: لا يستحب لما فيه من التشبه بالنساء،
ولا بأس بالكحل ودهن الشارب لأنه نوع ارتفاق، وهو ليس من محظورات الصوم، وقد ندب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الاكتحال يوم عاشوراء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يكره، وإن لم يكن موضع التشبه لأن مضغ العلك يورث هزال الجنين م: (ويكره) ش: أي العلك م: (للرجال على ما قيل) ش: ذكره فخر الإسلام م: (إذا لم يكن) ش: أي العلك م: (من علة) ش: أي من أجل علة في فمه، لأن الاشتغال به عند عدم العلة اشتغال بما لا يفيد م: (وقيل: لا يستحب) ش: أي العلك للرجال م: (لما فيه من التشبه بالنساء) ش: وقد ورد النهي عن تشبه الرجال بالنساء.
فإن قلت: قد ذكر قبله، ويكره فقوله ولا يستحب تكرار.
قلت: قال بعضهم لا فرق بينهما، وليس كذلك بل بينهما فرق لأنه يجوز أن يكون الشيء غير مستحب وغير مكروه كالمباحات في المشي والقيام والقعود في الأمر المباح.

[الاكتحال والسواك للصائم]
م: (ولا بأس بالكحل) ش: بفتح الكاف مصدر من كحل يكحل كحلاً مثل نصر ينصر نصراً ويجوز أن يكون بالضم فيكون اسما بمعنى الاكتحال، والأول أولى م: (ودهن الشارب) ش: كذلك يجوز فيه الوجهان وفتح الدال أولى، فيكون بمعنى الادهان م: (لأنه) ش: أي كل واحد من الكحل والدهن [ليس] من ممنوعات الصوم، فإذا لم يمنعا الصوم فلا بأس بهما لأنه نوع ارتفاق [وهو ليس من محظورات الصوم] ، وقد ندب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الاكتحال يوم عاشوراء) ش: لم يتعرض أكثر الشراح إلى ذكر حديث الاكتحال يوم عاشوراء غير أن السروجي قال في " شرحه ": الندب إلى صوم عاشوراء قد صح ولم يرد الندب إلى الاكتحال فيه في ما علمت من كتب الحديث، ثم قال: روى شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم عاشوراء من بيت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وعيناه مملوءتان كحلاً كحلته أم سلمة،» انتهى.
قلت: روى البيهقي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " شعب الإيمان " من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً» ، ثم قال: إسناده ضعيف فجويبر ضعيف والضحاك لم يلق ابن عباس، ومن طريقه، روى ابن الجوزي في " الموضوعات "، ونقل عن الحاكم فيه حديثاً موضوعاً وضعه قتلة الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انتهى.
وجويبر، قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وقال أحمد: متروك، وأما الضحاك لم يلق ابن عباس فروى ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا أبو داود عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، قال لم يلق الضحاك ابن عباس إنما لقي سعيد بن جبير فأخذ عنه التفسير.

(4/69)


وإلى الصوم فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن أبي داود عن شعبة قال: أخبرني ناس قال: سألت الضحاك هل رأيت ابن عباس، قال: لا.
وروى ابن الجوزي في " الموضوعات " من طريق ابن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اكتحل يوم عاشوراء لم ترمد عينه تلك السنة كلها» وقال: وفي رجاله من ينسب إلى تفضيل [....] عليه في أحاديث الثقات.
وأما الحديث الذي رواه شمس الأئمة عن ابن مسعود الذي ذكرناه الآن فما رأيت أحدا من أهل هذا الشأن ذكره عن ابن مسعود وإنما الحديث رواه الحارث بن أبي أسامة حدثنا سعيد بن زيد عن عمرو بن خالد عن محمد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن حديث ابن أبي ثابت عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «انتظرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرج في رمضان إلينا فخرج من بيت أم سلمة وقد كحلته وملأت عينه كحلاً» قال شيخنا زين الدين: هذا ليس بصريح في الكحل للصائم إنما ذكر في رمضان فقط، ولعله كان في رمضان في الليل.
وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " باب ما جاء في الكحل للصائم " حدثنا عبد الأعلى بن واصل حدثنا الحسن بن عطية حدثنا أبو عاتكة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اشتكت عيني فأكتحل وأنا صائم؟ قال: " نعم» ثم قال الترمذي: حديث [أنس] ليس إسناده بالقوي ولا يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب شيء، وأبو عاتكة يضعف، قال البخاري فيه منكر الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: ذاهب الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، واسم أبي عاتكة طريف بن سلمان وقيل: سليمان، وقيل سلمان بن طريف، وروى ابن عدي في " الكامل " والبيهقي من طريقه والطبراني في الكبير من رواية حبان بن علي عن محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتحل بالإثمد وهو صائم» ومحمد هذا، قال البخاري فيه: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء.
وروى ابن ماجه من رواية بقية الزبيدي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «اكتحل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم» والزبيدي هذا هو سعيد بن [أبي سعد] الزبيدي قال الترمذي: هو من مجاهيل شيوخ بقية ينفرد بما لا يتابع عليه. وقال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس بمجهول بل مشهور بالضعف، ضعفه ابن عدي والدارقطني والخطيب.
م: (وإلى الصوم فيه) ش: أي وندب أيضاً إلى الصوم في يوم عاشوراء لما روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن في الناس: " من كان لم يصم فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم

(4/70)


ولا بأس بالاكتحال للرجال إذا قصد به التداوي دون الزينة ويستحسن دهن الشارب إذا لم يكن من قصده الزينة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن اليوم يوم عاشوراء» " وروى مسلم عن جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده» ... الحديث وروي فيه أحاديث كثيرة.

م: (ولا بأس بالاكتحال للرجال إذا قصد به التداوي دون الزينة) ش: لأن الزينة للنساء، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعني اكتحال الرجل بالكحل الأسود مباح إذا قصد به التداوي، فأما الزينة فلا. قلت: لم أدر ما فائدة قيد الكحل بالأسود، وليس الكحل إلا الأسود، وقال السروجي: ولا بأس بالاكتحال للرجال في الصوم وغيره لقصد التداوي دون الزينة.
قلت: اختلفوا فيه فذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق إلى كراهة الكحل للصائم، وحكى ابن المنذر عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جوازه بلا كراهة وأنه لا يفطر به، سواء وجد طعمه في حلقه أم لا، وقال شيخنا زين الدين: وكذا روي عن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي ثور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحكي عن مالك وأحمد أنه إذا وجد طعمه في الحلق أفطر، وحكي أيضاً عن سليمان التيمي وسليمان بن المعتمر وابن شبرمة وابن أبي ليلى أنهم قالوا: يبطل به صومه، وقال قتادة: يجوز بالإثمد ويكره بالصبر.
وقال الثوري وإسحاق: يكره، وفي " سنن " أبي داود عن الأعمش قال: ما رأيت أحداً من أصحابنا يكره الكحل للصائم، وفي المجتبى لو وجد طعم الكحل في حلقه أو دماغه لا بأس به لدخول رائحة المسك والعود والثوم ورائحة الغذاء ودخان النار فإنها غير معتبرة بالإجماع، ولو بزق ورأى أثر الكحل، ولونه في بزاقه لا يفسد عند الأكثر.
فإن قلت: قد ذكر الاكتحال مرة في هذا الباب فما فائدة ذكره ثانياً بعد هذا.
قلت: قال الكاكي أخذاً من " النهاية "، قلنا لكل موضع فائدة، فإنه يستفاد من الأول عدم الفطر به، ولا يلزم منه عدم الكراهة بل يجوز أن يكون الشيء مكروهاً للصائم، وهو غير مفطر كما إذا ذاق شيئا ًبلسانه، وهذه المسألة يعلم أنه مكروه، ثم قد يختلف حكمه بين الرجال والنساء كما في العلك، فعلم [المسألة بالمسألة الثانية أنهما لا يفترقان إذا قصد الرجل شيئاً غير الزينة، مع أن هذا من خواص " الجامع الصغير "، وذلك من مسائل القدوري، والثالث من مسائل الفتاوى.
م: (ويستحسن دهن الشارب) ش: هكذا بفتح الدال قطعاً مصدر من دهن رأسه أو جسده إذا طلاه بالدهن بضم الدال م: (إذا لم يكن من قصده الزينة) ش: قال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصل ذلك أن الصوم كف عن الشهوة، وليس في دهن الشارب شهوة لا صورة ولا معنى فلم يكن محظوراً بالصوم وليس يحرم بالصوم الارتفاق ولا يجب به الشعث بخلاف الإحرام، فإنه يحرم

(4/71)


لأنه يعمل عمل الخضاب، ولا يفعل لتطويل اللحية إذا كانت بقدر المسنون وهو القبضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
به دهن الشارب، وقال الأترازي وقد دل هذا على أنه يستحسن دهن شعر الوجه وبذلك جاءت السنة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه يعمل عمل الخضاب انتهى. قلت: السنة التي جاءت باستحسان دهن شعر الوجه رواه الترمذي، حدثنا يحيى بن موسى قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة» ".
وقوله: " ادهنوا به " يشمل دهن شعر الوجه وغيره من أعضائه، والسنة التي جاءت بالخضاب ما رواه الترمذي أيضاً، قال حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا حماد بن خالد الخياط قال حدثنا فايد مولى لآل أبي رافع «عن علي بن عبيد الله عن جدته وكانت تخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: ما كان يكون لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرحة ولا نكبة إلا أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أضع عليها الحناء» .

م: (لأنه يعمل عمل الخضاب) ش: أي لأن دهن شعر الشارب يعمل عمل الخضاب وبالخضاب جاءت السنة ولكن إذا لم يكن لقصد الزينة بل لحاجة أخرى يدل عليه ما رويناه عن الترمذي، وفي " المبسوط " لا بأس بالخضاب لأجل النساء ولأجل الحرب. قلت خضابه لأجل النساء لا يخلو عن الزينة على ما لا يخفى.
م: (ولا يفعل) ش: أي الدهن م: (لتطويل اللحية إذا كانت) ش: أي اللحية م: (بقدر المسنون وهو القبضة) ش: بضم القاف، وقال الكاكي: طول اللحية بقدر القبضة عندنا، وما زاد على ذلك يجب قطعه هكذا روي «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأخذ من طولها» أورده أبو عيسى في " جامعه ".
قلت: لفظ الترمذي كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها أخرجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأخذ ... الحديث، وقال: هذا حديث غريب.
قلت: هذا لا يدل على أن الذي كان يأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبضة، نعم جاء أثران فيه أحدهما: عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه أبو داود والنسائي من حديث مروان بن سالم المقنع. قال: رأيت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف، وذكره

(4/72)


ولا بأس بالسواك الرطب بالغداة والعشي للصائم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البخاري تعليقاً، فقال: وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه، وجهل من قال رواه البخاري، وإنما يقال في مثل هذا ذكره، ولا يقال رواه.
والآخر: عن أبي هريرة أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي زرعة قال: كان أبو هريرة يقبض على لحيته فيأخذ ما فضل عن القبضة، ولكن يعارض هذا حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «احفوا الشارب وأعفوا اللحى» ، أخرجه البخاري ومسلم ويمكن أن يجاب عنه أن المراد بإعفاء [اللحى أن لا تحلق كلها كما يفعله المجوس، والدليل عليه ما جاء في رواية مسلم من] رواية أبي هريرة، قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جزوا الشوارب واعفو اللحى، خالفوا المجوس» فإن المجوس كانوا يحلقون لحاهم ويتركون شواربهم ولا يأخذون منها شيئاً أصلاً ".
وفي " المحيط " اختلف في إعفاء اللحية قال بعضهم: يتركها حتى تكثف وتكبر، والقص سنة فما زاد على قبضة قطعها، ولا بأس بنتف الشيب وأخذ أطراف اللحية إذا طالت، ولا بأس بالأخذ من حاجبه وشعر وجهه ما لم يشبه المخنثين.

[السواك للصائم]
م: (ولا بأس بالسواك الرطب) ش: أي لا بأس للصائم استعمال السواك م: (بالغداة والعشي للصائم) ش: يعني في أول النهار وآخره، وإذا كان بالرطب فلا بأس به فباليابس أولى، وكذلك إذا كان مبلولاً بالماء أو غير مبلول، ولفظ " الجامع الصغير " لا بأس بالرطب بالماء للصائم، في الفريضة بالغداة والعشي] .
وقال الكاكي: اعلم أن محمداً ذكر في الأصول أنه لا بأس أن يستاك بالسواك الرطب، ولم يذكر أن رطوبته بالماء أو بالرطوبة الأصلية التي تكون في الأشجار، ولا ذكر أنه بريقه أو بالماء فلولا رواية " الجامع " لكان لقائل أن يقول: إذا كان رطباً بالريق لا بأس به، أما إذا كان بالماء فيكره لما فيه من الحوم حول الحمى، ولما نص ها هنا بالماء أو لأن ذلك إشكال ولا يعتبر بما قاله أبو يوسف وهو أنه يكره بالمبلول لما فيه من إدخال الماء في الفم، لأن ما يبقى من الرطوبة بعد المضمضة أكثر مما يبقى بعد السواك.
وقد روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأمر عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ببل السواك بريقها ثم يغسله ويتوضأ» كذا في " الفوائد الظهيرية "، وقال شيخ الإسلام: شرط محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الكتاب الفريضة قيل مراده إذا توضأ للمكتوبة وإلا فيكره، وقيل: أراد الصوم الفرض إبطالاً لقول من زعم أنه يكره في الفرض، وهو المروي عن مالك فإنه قال يكره السواك في الفرض بعد الزوال دون النفل، لأن المستحب في النوافل الإخفاء، ولو ترك السواك لا يؤمن أن تظهر رائحة [من] فمه فيظهر للناس أنه صائم، وقيل أراد الوضوء الفرض وعندنا لا بأس في الأحوال كلها.

(4/73)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يكره بعد الزوال في النفل، ويكره في الفرض، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره السواك الرطب بالغداة والعشي لما فيه من تعريض الصوم على الفساد وبسبب دخول الرطوبة، ولكن ذكر في " شرح الوجيز " عن مالك لا يكره في المشهور عنه، وعندنا يكره بعد الزوال وهو رواية عن أحمد لما روى حبان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قال «إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي، فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه إلا كانتا نوراً بين عينيه يوم القيامة» ، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعاً مثل ذلك، إلى هنا كلام الكاكي.
وقوله: وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر ... إلى آخره، وحديث حبان رواه الطبراني والدارقطني والبيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من طريقه في حديث كيسان أبي عمر القصار عن عمرو بن عبد الرحمن عن حبان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إلخ، وكيسان أبو عمر ضعفه ابن معين والساجي وقال الدارقطني: ليس بالقوي.
وقال شيخنا في " شرح الترمذي ": اختلف العلماء في حكم السواك للصائم على ستة أقوال:
الأول: أنه لا بأس به للصائم مطلقاً قبل الزوال وبعده بيابس أو رطب، وهو قول إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه والثوري والأوزاعي وابن علية، ويروى عن علي وابن عمر أنه لا بأس بالسواك الرطب للصائم، وروي ذلك أيضاً عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء.
الثاني: كراهته للصائم بعد الزوال واستحبابه قبله برطب أو يابس، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصح قوليه وأبي ثور، وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كراهة السواك بعد الزوال، رواه الطبراني.
الثالث: كراهته بعد العصر فقط، يروى عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الرابع: التفرقة بين صوم الفرض وصوم النفل، فيكره في الفرائض بعد الزوال، ولا يكره في النفل لأنه أبعد عن الرياء، حكاه المسعودي وغيره من أصحابنا عن أحمد بن حنبل، وحكاه صاحب " المعتمد " من الشافعية - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن القاضي حسين.
الخامس: أنه يكره للصائم بالسواك الرطب دون غيره سواء أول النهار أو آخره وهو قول مالك وأصحابه.
السادس: كراهته للصائم بعد الزوال مطلقاً وكراهة الرطب مطلقاً، وهو قول أحمد وإسحاق بن راهويه.

(4/74)


لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير خلال الصائم السواك» من غير فصل. وقال الشافعي: يكره بالعشي لما فيه من إزالة الأثر المحمود وهو الخلوف فشابه دم الشهيد. قلنا: هو أثر العبادة، والأليق به الإخفاء، بخلاف دم الشهيد لأنه أثر الظلم، ولا فرق بين الرطب الأخضر وبين المبلول بالماء لما روينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «خير خلال الصائم السواك» ش: هذا الحديث رواه ابن ماجه في " سننه " من حديث مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خير خلال الصائم السواك» والخلال بكسر الخاء المعجمة جمع خلة بالفتح وهي الخصلة، وقال الجوهري: م: (من غير فصل) ش: يعني الحديث مطلقاً لم يفصل فيه بين حال وحال وينتفي به ما قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الرطب بالماء مكروه.
م: (وقال الشافعي: يكره بالعشي) ش: أي يكره السواك للصائم بالعشي وهو بعد الزوال م: (لأن فيه) ش: أي لأن السواك بالعشي م: (من إزالة الأثر المحمود وهو الخلوف) ش: والخلوف: بضم الخاء المعجمة، قال الأترازي بالضم لا غير، قال الخطابي في " شرح غريب الحديث ": إن أصحاب الحديث يقولون بفتح الخاء، وإنما هو ظرف بضم الخاء مصدر خلف فيه يخلف خلوفاً إذا تغير، فأما الخلوف بفتح الخاء فهو الذي بعدهم الخلف، وقال السروجي: فتح الخاء خطأ، قلت: وقال السغناقي: هما لغتان م: (فشابه دم الشهيد) ش: أي فشابه الخلوف دم الشهداء فإن كل واحد منهما أثر عبادة وصف بالطيب، أما في الخلوف ففي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» . وأما دم الشهيد فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللون لون الدم والريح ريح المسك» . وما يكون محموداً عند الله فسبيله الاستبقاء كما في دم الشهيد، حيث قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «زملوهم بكلومهم ودمائهم» .
م: (قلنا: هو أثر العبادة) ش: أي خلوف فم الصائم أثر العبادة م: (واللائق به الإخفاء) ش: أي اللائق بأثر العبادة الإخفاء فراراً عن الرياء م: (بخلاف دم الشهيد لأنه أثر الظلم) ش: فيبقى عليه ليكون شهيداً له على خصمه يوم القيامة، فأما الصوم فبينه وبين ربه فلا حاجة إلى الشاهد.
م: (ولا فرق بين الرطب الأخضر وبين المبلول بالماء) ش: هذا نفي لقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قال يكره إذا كان مبلولاً بالماء م: (لما روينا) ش: أراد به قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خير خلال الصائم السواك» ، وقد مر عن قريب.

(4/75)


فصل ومن كان مريضا في رمضان، فخاف إن صام ازداد مرضه أفطر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل أحكام المريض والمسافر في الصيام] [المفاضلة بين صوم المريض والمسافر وفطرهما]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل، ولا يعرف إلا إذا قدرنا هكذا، لأن الإعراب لا يكون إلا في الجزء المركب، ولما فرغ من مسائل الصوم شرع في هذا الفصل الموجود في بيان وجوه الأعذار المبيحة للفطر في الصوم.
م: (ومن كان مريضا في رمضان) ش: أي في شهر رمضان، والمرض معنى يزول به ويحلو له في بدن الحي اعتذار الطباع الأربع.
فإن قلت: م: (أهذه الواو في قوله - ومن كان مريضاً.
قلت سمعت من الأساتذة الكبار أن هذه الواو التي تذكر في أول الكلام الذي لم يذكر شيء قبله تسمى واو الاستفتاح، ولم يذكر النحاة هذا م: (فخاف إن صام ازداد مرضه أفطر) ش: هذا يشير إلى أن مجرد المرض لا يبيح الإفطار، وقال فخر الإسلام إن المرض لا يوجب إباحة الإفطار بنفسه، بل لعلة المشقة بإجماع عامة العلماء.
وقال أو يوجب الإباحة بنفسه لظاهر الآية. وحكي عن ابن سيرين هكذا، قلنا الآية محمولة على مرض يوجب المشقة بالصوم، بدليل قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] [البقرة: 185] أما السفر فإنه يوجب الإباحة لأنه لا يخلو عن مشقة بخلاف المرض، فإنه نوعان: ما يوجب المشقة، وما لا يوجبها فوجب الفصل، فقلنا كل مرض يضره الصوم يوجب الإباحة، وما لا فلا، وكان خوف ازدياد المرض مرخصاً للفطر كخوف الهلاك.
وذكر الإمام المحبوبي طريق معرفة ذلك إما باجتهاده أو بقول طبيب حاذق، وقال القاضي: إسلام الطبيب شرط، ثم المرض على أقسام سبعة: فخفيف لا يشق معه الصوم وينعقد، وخفيف لا يشق منه ولا ينعقد، وشاق لا يزيد بالصوم، وشاق يزيد به، وشاق لا يزيد به، ولكن يحدث مع الصوم علة أخرى، وشاق يخشى طوله، وصحيح يخشى المرض به، فالأول والثاني كالصحيح الذي لا يضره الصوم فلا يفطر، والثالث يتخير، والرابع والخامس والسادس يفطر، وإن صاموا أجزأهم على الصحيح الذي يخشى المرض به كالمرض الذي تخشى زيادته، وهذا الفرع الأخير في " المغني " للحنابلة.
وفي " المرغيناني " لا يعتبر خوف المرض، وفي " الذخيرة " المرض الذي يبيح الفطر ما يخاف منه الموت أو زيادة المرض. وفي " المحيط " و " البدائع خوف ازدياد المرض كاف، وإليه وقعت الإشارة في " الجامع الصغير " إن لم يفطر يزداد وجعاً وعناء أو حمى شديدة أفطر، وعن أبي

(4/76)


وقضى وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يفطر. وهو يعتبر خوف الهلاك أو فوات العضو كما يعتبر في التيمم. ونحن نقول: إن زيادة المرض وامتداده قد يفضي إلى الهلاك فيجب الاحتراز عنه
وإن كان مسافرا لا يستضر بالصوم فصومه أفضل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا كان يجوز له الأداء قاعداً يجوز له الإفطار.
م: (وقضى) ش: لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] .
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يفطر) ش: يعني عند خوف ازدياد المرض م: (وهو) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يعتبر خوف الهلاك أو فوات العضو) ش: أي يخاف فوات عضو من أعضائه م: (كما يعتبر في التيمم) ش: يعني لا يجوز عنده ترك استعمال الماء للمريض إلا إذا خاف على نفسه أو عضو منه، فحينئذ يجوز له التيمم وعندنا يجوز له التيمم بمجرد زيادة المرض.
م: (ونحن نقول: إن زيادة المرض وامتداده قد يفضي إلى الهلاك فيجب الاحتراز عنه) ش: أي عن الإفضاء إلى الهلاك، فلو برئ من المرض لكن الضعف باق هل يفطر فسئل القاضي الإمام فقال لا، والمبيح المرض لا الضعف، فلو خاف أن يعود المرض لو صام، قال الخوف ليس بشيء وذكر الإمام التمرتاشي الأمة إذا ضعفت في الطبخ والخبز والغسل فخافت أفطرت وقضت، وفي النصاب وكذا الذي ذهب به موكل السلطان للعمارة فاشتد الحر وضعف فأكل لم يكفر، ولو خاف إن صام يضعف فيصلي قاعداً عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصوم ويصلي قاعداً.
وعن نجم الأئمة البخاري من اشتد مرضه كره صومه ولو خاف نقصان العقل أو زيادة الوجع يفطر، ولو أتعب نفسه في عمل حتى أجهده العطش فأفطر كفر، لأنه ليس بمريض ولا مسافر، وقيل بخلافه وبه قال البقالي، وقال مالك في " الموطأ ": من أجهده الصوم أفطر وقضى ولا كفارة عليه، ولو علم الغازي يقيناً أنه يقاتل العدو وخاف الضعف يفطر قبل الحرب.

م: (وإن كان مسافرا لا يستضر بالصوم فصومه أفضل) ش: وبه قال مالك والشافعي رحمهما الله على ما ذكر في كتبهم. وقال النووي: هو المذهب ولكن نقلت هذه المسألة من كتب أصحابنا على خلاف ما وقعت في كتبهم فإن الغزالي ذكر أن الصوم أحب من الإفطار في السفر لتبرأ ذمته وهو مذهب أنس وعثمان بن أبي العاص الثقفي، وحذيفة وابن عباس وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وبه قال عروة بن الزبير وعمرو بن ميمون وأبو بكر بن عبد الرحمن وطاووس والفضيل بن عياض وابن المبارك وأبو ثور، وأبو وائل والأسود بن يزيد والثوري والنخعي ومجاهد، وعن ابن عمر وابن المسيب والشعبي والأوزاعي وإسحاق: الفطر أفضل في حقه، وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصوم في السفر مكروه.

(4/77)


وإن أفطر جاز؛ لأن السفر لا يعرى عن المشقة فجعل نفسه، عذرا، بخلاف المرض فإنه قد يخف بالصوم، فشرط كونه مفضيا إلى الحرج، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: "الفطر أفضل"، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس من البر الصيام في السفر» ولنا أن رمضان أفضل الوقتين، فكان الأداء فيه أولى، وما رواه محمول على حالة الجهد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر في " المغني " عن عمر وأبي هريرة لا يصح الصوم في السفر وعن عبد الرحمن بن عوف الصوم في السفر كالفطر فيه سواء ذكره المنذري في " شرح مختصر سنن أبي داود " وقال أبو عمر بن عبد البر: هو قول ابن علية والشافعي في قول وعنه قال الصوم أحب إلي.

م: (وإن أفطر) ش: أي المسافر م: (جاز) ش: للنص الوارد فيه م: (لأن السفر لا يعرى عن المشقة) ش: لأنه مظنة المشقة بكل حال فأدير الحكم فيه على أصل السفر م: (فجعل نفسه) ش: أي نفس السفر م: (عذرا بخلاف المرض فإنه قد يخف بالصوم) ش: كالهيضة ونحوها م: (فشرط كونه) ش: أي المرض م: (مفضيا إلى الحرج) ش: ولهذا لا يجوز الإفطار بمجرد المرض كما ذكرنا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: "الفطر أفضل) ش: أي من الصوم م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «ليس من البر الصيام في السفر» ش: هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر فرأى زحاماً ورجل قد ظلل عليه فقال: " ما هذا؟ " قالوا صائم فقال: " ليس من البر الصوم في السفر» .
وزاد مسلم في لفظ: «وعليكم برخصة الله التي رخص لكم» ، وروي «ليس من امبر امصيام في امسفر» وهي لغة بعض العرب، رواه عبد الرزاق في " مصنفه " وقد ذكرنا أن هذا القول من الشافعي لم يصح ولا حكي عنه، ولكن مذهب أحمد هكذا نقله عنه ابن الجوزي واستدل له بهذا الحديث.
م: (ولنا أن رمضان أفضل الوقتين) ش: أراد بهما خارج رمضان وفي " مبسوط فخر الإسلام " لا شك أن رمضان أفضل الوقتين، ألا ترى أن عدة من أيام أخر كالخلف من رمضان، والخلف لا يساوي الأصل بحال والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختار لنفسه الصوم ثم ذكر الرخصة عند شكواهم الجهد كما روينا من حديث أبي هريرة، فدل أن الصوم أفضل وهو معنى قوله: م: (فكان الأداء فيه) ش: أي في رمضان أولى وفي " المبسوط " الصوم عزيمة والفطر رخصة والأخذ بالعزيمة م: (أولى، وما رواه) ش: هذا جواب عن الحديث المذكور وهو ما رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (محمول على حالة الجهد) ش: بفتح الجيم أي المشقة ونحن نقول به ولهذا يكره الصوم في السفر لمن أجهده بالإجماع.

(4/78)


وإذا مات المريض أو المسافر وهما على حالهما لم يلزمهما القضاء؛ لأنهما لم يدركا عدة من أيام أخر، ولو صح المريض وأقام المسافر ثم ماتا لزمهما القضاء بقدر الصحة والإقامة؛ لوجود الإدراك بهذا المقدار، وفائدته وجوب الوصية بالإطعام، وذكر الطحاوي خلافا فيه بين أبي حنيفة وأبي يوسف - يرحمهما الله -، وبين محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وليس بصحيح، وإنما الخلاف في النذر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[موت المسافر والمريض المفطران في رمضان]
م: (وإذا مات المريض أو المسافر) ش: أي أو مات المسافر م: (وهما على حالهما) ش: أي والحال أنهما على حالهما يعني مات المريض في مرضه والمسافر في سفره م: (لم يلزمهما القضاء؛ لأنهما لم يدركا عدة من أيام أخر) ش: لأن شرط وجوب إدراك عدة الأيام الأخر بالنص فلم يحصل الإدراك فلم يلزم القضاء.
م: (ولو صح المريض وأقام المسافر ثم ماتا لزمهما القضاء بقدر الصحة) ش: في المرض م: (والإقامة) ش: أي بقدر الإقامة في المسافر م: (لوجود الإدراك) ش: إلى أيام أخر م: (بهذا المقدار، وفائدته) ش: أي وفائدته لزوم القضاء م: (وجوب الوصية بالإطعام) ش: يعني يجب عليه أن يوصي بأن يطعم عنه من ثلث ماله لكل يوم مسكيناً بقدر ما يجب في صدقة الفطر وإن لم يوص وتبرعت الورثة جاز فإن لم يتبرعوا لا يلزمهم الأداء بل يسقط في حكم الدنيا عندنا خلافاً للشافعي على ما يجيء.
م: (وذكر الطحاوي خلافا فيه) ش: أي في المذكور في هذه المسألة وفي وجوب الوصية بالإطعام عن الباقي م: (خلافاً بين أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ وبين محمد - رحمهما الله -) ش: فقال عندهما إذا صح يوماً يلزمه قضاء الجميع فتلزمه الوصية عما لم يصح، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تلزمه الوصية بالإطعام عما لم يصح وما قدر على قضائه تجب الوصية بالإطعام عنه إن لم يصح بالاتفاق.
م: (وليس بصحيح) ش: أي هذا الخلاف ليس بصحيح، وقال أبو بكر الجصاص الرازي: هذا الخلاف الذي نقله الطحاوي ولا نعرفه عنهم، بل المشهور من قولهم جميعا ًأنه لا يلزم إلا قضاء ما أدرك، وقال صاحب " التحفة ": ذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه المسألة على الخلاف ثم قال: وهذا غلط، وقال صاحب " الإيضاح ": والصحيح أن لا خلاف هاهنا، وقال المصنف: وليس بصحيح.
م: (وإنما الخلاف في النذر) ش: فإن المريض إذا قال لله علي أن أصوم شهراً فمات قبل أن يصح لم يلزمه وإن صح يوماً واحداً لزمه أن يوصي بجميع الشهر في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزمه بقدر ما صح لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى فصار كقضاء رمضان.

(4/79)


والفرق بينهما، أن النذر سبب فيظهر الوجوب في حق الخلف، وفي هذه المسألة السبب إدراك العدة فيتقدر بقدر ما أدرك وقضاء رمضان إن شاء فرقه، وإن شاء تابعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والفرق بينهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بين قضاء رمضان والنذر م: (أن النذر سبب) ش: وقد وجد المانع وهو عدم صحة الذمة في التزام أدائه قد زال بالبرء وإذا وجد السبب المقتضي وزال المانع م: (فيظهر الوجوب) ش: لا محالة، وصار كصحيح نذر فمات قبل الأداء، وإذا ظهر الوجوب ولم يتحقق بكماله بل بعضها يتحقق م: ( [في حق الخلف، وفي هذه المسالة السبب إدراك العدة] فيتقدر بقدر ما أدرك) ش: لأن وجوب القضاء مشروط بشرط إدراك العدة فوجب بقدر الإدراك.
وقيل: تعصب إن أرى الطحاوي بأنه لا يهتم في غزارة علمه واجتهاده وورعه وتقدمه ثم ذكر مولده ووفاته ثم مدح كتابه " معاني الآثار " وقال: هل ترى له نظيرا ًفي سائر المذاهب فضلاً عن مذهبنا.
وقال: قد نشأ جماعة بعده بكثير من الزمان، باعتبار أن الخلاف لم يبلغهم، فذلك ليس بحجة لهم عليه، لأن جهل الإنسان لا يعتبر حجة على غيره، وفي آخر كلامه فما أصدق من قال: قد تبين الصبح لذي عينين.
وهذا كله لا يفيد في تعصبه لأن كل من نشأ بعد الطحاوي فقد اعترف بفضله من علماء مذهبه ومذهب غيره، حتى قال حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر: كان الطحاوي كوفي المذهب فكان عالماً بجميع مذاهب العلماء، وقال السمعاني: كان الطحاوي ثقة ثبتاً.
وقال ابن الجوزي في ترجمته في كتاب " المنتظم "، كان الطحاوي ثقة ثبتاً فهماً فقيهاً عاقلاً، واتفقوا على فضله وصدقه وزهده وورعه. وقال ابن كثير في " البداية والنهاية ": وهو أحد الثقات الأثبات والحفاظ الجهابذة، فهو كما ترى إمام عظيم ثبت ثقة حجة كالبخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب " السنن " و " الصحاح " يدل على ذلك اتساع روايته ومشاركته إياهم بل هو أثبت منهم في استنباط الأحكام من القرآن والسنة وأفقه منهم من الفقه، يصدق ذلك من ينظر في كلامه وكلامهم، ولا بينة للأترازي فيما ذكره في حق الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه مثل الذي يمدح الشمس بقوة النور ويذكره المحاق بقوة الظلمة وما كانت [....] إلا في ترجيح كلامه هنا على من رد عليه وتحقيق كلامه بالرد عليهم ولم يفعل شيئاً.
م: (وقضاء رمضان) ش: أي وقضاء صوم شهر رمضان عند فوات الأداء م: (إن شاء فرقه) ش: أي صوم متفرقاً م: (وإن شاء تابعه) ش: أي يصوم متوالياً هذا قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأبي عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص ورافع بن خديج وسعيد بن جبير وابن محيريز وأبي قلابة

(4/80)


لإطلاق النص،
لكن المستحب المتابعة مسارعة إلى إسقاط الواجب، وإن أخره حتى دخل رمضان آخر صام الثاني؛ لأنه في وقته. وقضى الأول بعده لأنه وقت القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومجاهد والحسن وابن سيرين وابن المسيب وعبد الله بن عتبة وطاووس وعطاء وعبيد بن عمير والأوزاعي وابن حي والثوري ومالك والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد وإسحاق وقال أبو عمر كلهم يستحبون التتابع ولا يوجبون وحكي وجوبه عن علي وابن عمر والنخعي والشعبي وعروة بن الزبير.
وقال داود بن علي: يجب ولا يشترط م: (لإطلاق النص) ش: وقَوْله تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وهو مطلق غير مقيد بالتتابع فجاز التتابع والتفريق بحكم الإطلاق.
فإن قلت: وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: نزلت فعدة من أيام أخر متتابعات.
قلت: قالوا لم تثبت صحة هذه الرواية ولو ثبتت كانت منسوخة لفظاً وحكماً، ولهذا لم يقرأ بها أحد من الشواذ.
وفي " المنافع " قرأ بها أبي ولم تشتهر فكانت كخبر الواحد غير مشهور فلا تجوز الزيادة على الكتاب بمثله، بخلاف قراءة ابن مسعود في كفارة اليمين فإنها مشهورة غير متواترة والقراءات السبع متواترة عند الأئمة الأربعة وجميع أهل السنة خلافاً للمعتزلة فإنها [ ... ] عندهم.
فإن قلت: روى ابن المنذر بإسناده عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه» .
قلت: في صحته نظر ولئن ثبت فهو خبر واحد فلا يزاد به على النص.

م: (لكن [المستحب المتابعة مسارعة إلى إسقاط الواجب، وإن أخره) ش: أي وإن أخر قضاء رمضان م: (حتى دخل رمضان آخر صام الثاني) ش: أي رمضان الثاني م: (لأنه في وقته) ش: فيصومه م: (وقضى الأول) ش: أي رمضان الأول م: (بعده) ش: أي بعد رمضان الثاني م: (لأنه وقت القضاء) ش: فلا بد من إسقاطه كما في سائر العبادات، وسواء في ذلك التأخير بعذر أو بغير عذر وهو قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحسن البصري وطاووس وإبراهيم النخعي والشعبي وحماد وداود وأصحابه وفي " المحيط ": ومن أفطر بعذر وقدر على القضاء فعليه القضاء.
وفي " البدائع " أيضاً على التراخي عند عامة مشايخنا ويضيق عليه عند آخر عمره وعند الكرخي على الفور، وحكاه عن أصحابنا، والصحيح الأول، وحكى الكرخي أيضاً عن الأصحاب أنه موقوف بما بين الرمضانين وهو غير سديد.

(4/81)


ولا فدية عليه؛ لأن وجوب القضاء على التراخي حتى كان له أن يتطوع والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، أو ولديهما أفطرتا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا فدية عليه) ش: فقال الشافعي عليه الفدية، وبه قال مالك وأحمد قالوا عليه لكل يوم مد من الطعام ولو أخر القضاء إلى الرمضان الثاني أثم عندهم، ومذهبهم يروى عن ابن عمر وأبي هريرة وابن عباس مرفوعاً، ومذهبنا عن علي وابن مسعود، وبقولنا قال المزني.
م: (لأن وجوب القضاء على التراخي حتى كان له أن يتطوع) ش: لأنه لو لم يكن وجوب القضاء على التأخير لما كان له أن يتطوع لأن تأخير الواجب عن وقته المضيق بالنفل لا يجوز.
فإن قلت: روى الدارقطني من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «من أدرك رمضان ثم أفطر لمرض ثم صح ولم يقضه حتى دخل رمضان آخر صام الذي أدركه ثم يقضي الذي عليه ثم يطعم عن كل يوم مسكيناً» قلت: في إسناده عمر بن موسى وهو ضعيف جداً، والراوي عنه إبراهيم بن نافع وهو أيضاً ضعيف.
م: (والحامل والمرضع) ش: الواو بمعنى أو لأن الحكم في كل واحد منهما ثابت على الانفراد بدليل ما ذكر في " المبسوط "، إذا خافت الحامل والمرضع على نفسهما أو ولدهما، والحامل التي في بطنها ولد، والمرضع التي لها لبن ولا يدخل في آخرهما التاء كما في حائض وطالق، لأن ذلك صار من الصفة الثابتة لا الحادثة، فصار كالاسم، فقال الخليل: هذا معنى النسب كلابن وتامر بمعنى ذات حمل وذات إرضاع وذات حيض وذات طلاق.
وقال سيبويه: إنسان أو أنثى حامل ومرضع إذا أريد به الحدوث يجوز إدخال التاء يقال: حائضة الآن أو غدا ًوفي " الذخيرة " المراد من المرضع الظئر لأنها إذا كانت أم ولد وللمولودات لا تفطر الأم لأن الصوم واجب عليها والإرضاع غير واجب، قال الكاكي: قال شيخي العلامة: ينبغي أن يشترط أن يكون الأب موسراً ويأخذ الولد ضرع غيرها، أما إذا كان الأب معسراً أو الولد لا يأخذ ضرع غير أمه فحينئذ يجب على أمه الإرضاع.
م: (إذا خافتا على أنفسهما، أو ولديهما أفطرتا) ش: بإجماع أهل العلم م: (وقضتا) ش: وهو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأنس وابن عمر وعكرمة ومجاهد وعطاء وسعيد بن المسيب وأبي الزناد والزهري ويحيى بن سعيد وأحمد وإسحاق وسعيد بن جبير وطاووس والأوزاعي والثوري.
وقال مالك: لا يجب عليه شيء، ويروى ذلك عن ربيعة وخالد بن دريد وأبي ثور وداود بن علي الظاهري واختاره الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن المنذر، ويحكى ذلك عن القاسم وسالم

(4/82)


وقضتا، دفعا للحرج، ولا كفارة عليهما؛ لأنه إفطار بعذر، ولا فدية عليهما، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا خافت على الولد، هو يعتبره بالشيخ الفاني. ولنا: أن الفدية بخلاف القياس في الشيخ الفاني، والفطر بسبب الولد ليس في معناه؛ لأنه عاجز بعد الوجوب،
والولد لا وجوب عليه أصلا، والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصيام يفطر، ويطعم لكل يوم مسكينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومكحول وسعيد بن عبد العزيز لأنه عاجز عن الصوم فأشبه المريض إذا مات قبل البرء والمسافر إذا مات قبل الإقامة والصبي والمجنون.
وللشافعي قولان أحدهما، لا تجب الفدية عليهما لعدم وجوب الصوم عليهما، والثاني تجب الفدية لكل يوم مد من طعام وهو الصحيح، وعدم وجوب الفدية هو القديم والوجوب هو الجديد، وقال البويطي: هي مستحبة.
م: (دفعا للحرج) ش: أي لدفع الحرج عنهما في الصوم. قال الله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] م: (ولا كفارة عليهما) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر بأن يقال، ينبغي أن تجب عليهما الكفارة على قياس مذهبكم، لأنكم توجبون الكفارة في الأكل والشرب عمداً فأجاب بقوله م: (لأنه إفطار بعذر) ش: ووجوب الكفارة عند عدم العذر فأشبهت المريض والمسافر.
م: (ولا فدية عليهما خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا خافت على الولد) ش: يعني إذا خافت الحامل أو المرضع على ولدهما وأما إذا خافتا على نفسهما لا تجب الفدية.
م: (هو يعتبره بالشيخ الفاني) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر الفطر بفطر الشيخ الفاني أي يقيس عليه وجه الاعتبار أن الفطر حصل بسبب نفس عاجزة عن الصوم خلقة لا علة، فيوجب الفدية كفطر الشيخ الفاني الذي قارب الفناء أو الذي فنيت قوته.
م: (ولنا أن الفدية بخلاف القياس في الشيخ الفاني) ش: لأن الفدية في الشيخ الفاني تشبيع والصوم تجويع (والفطر بسبب الولد ليس في معناه) ش: أي في معنى الشيخ الفاني م: (لأنه) ش: أي لأن الشيخ الفاني م: (عاجز بعد الوجوب) ش: أي بعد وجوب الصوم عليه لتوجه الخطاب عليه فصار إلى حقه وهو الفدية.

م: (والولد لا وجوب عليه أصلاً) ش: فكيف يصار إلى الخلف بدون الأصل فيكون قياساً ضعيفاً لوجود الفارق م: (والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصيام) ش: وفي جامع البرهاني " تفسيره أن يعجز عن الأداء أو لا يرجى له عود القوة، ويكون مآله الموت بسبب الهرم.
م: (يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا) ش: وعن مالك والشافعي - رحمهما الله - في قول وأبي ثور ولا تجب عليه الفدية وعن مالك أنها مستحبة وفي وجوبها عنه روايتان م: (كما يطعم في

(4/83)


كما يطعم في الكفارات، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] [البقرة: الآية 184] قيل: معناه لا يطيقونه، ولو قدر على الصوم يبطل حكم الفداء، لأن شرط الخلفية استمرار العجز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكفارت) ش: نصف صاع وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الفدية مقدرة بالمد من الطعام وعن أحمد مدان من البر من الشعير والتمر صاع م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الحكم م: (قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] [البقرة: الآية 184] ) ش: نزلت في الشيخ الفاني.
وقال في " الإيضاح " و " شرح الأقطع ": السلف على أن المراد بالآية الشيخ الفاني، وقال الأترازي: وفي دعوى الإجماع نظر عندي وطول الكلام فيه وهذا ما هو مخصوص به حتى يقول: عندي؛ لأن غيره قال في كلام " الإيضاح " نظر لأنه روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن الآية في حق الحامل والمرضع.
فإن قلت: روي عن الشعبي أنه قال: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] كان الأغنياء يفطرون [ويطعمون] والفقراء يصومون، على أن في بدء الإسلام كان الرجل مخبراً بين الصوم والفدية ثم نسخت بعد ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] والمنسوخ لا يصح الاستدلال به.
قلت: أجيب بأن الآية وإن وردت في الشيخ الفاني كما ذهب إليه بعض السلف فظاهر، وإن وردت في التخيير فكذلك لأن النسخ إنما يثبت في حق العاجز عن الصوم، فيبقى الشيخ الفاني على حاله، كما كان.
م: (قيل: معناه لا يطيقونه) ش: جاء حذف لا كثيراً قال الله تعالى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أي أن لا تضلوا، وقال: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] أي أن لا تميد بكم وعادة العرب الاختصار إذا كان المحذوف مما لا يخفى، وقرأ ابن عباس وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] فلا يطيقونه معناه يكلفون الصوم ولا يطيقونه.

[حكم الشيخ الفاني في رمضان]
م: (ولو قدر) ش: يعني لو قدر الشيخ الفاني م: على الصوم) ش: بعدما أدى الفدية م: (يبطل حكم الفداء) ش: ويجب عليه القضاء كالآيسة إذا اعتدت بالأشهر ثم حاضت بطل حكم اعتدادها بالشهور م: (لأن شرط الخلفية استمرار العجز) ش: أي لأن شرط كون الفدية خلفاً عن الصوم في حق الشيخ الفاني، دوام العجز، فلما قدر على الصوم انتفى شرط الخليفة، ومثل هذا لا يفعل في التيمم لئلا يلزم الحرج بتضاعف الصلاة.
فإن قلت: يلزم الحرج أيضاً في الشيخ الفاني لأنه إذا أطعم لكل يوم مسكيناً نصف صاع ثم قدر على الصوم فأمر بقضاء الصوم وبطلان الفدية يلزم الحرج لأنه تضييع ماله بلا فائدة وهو حرج.

(4/84)


ومن مات وعليه قضاء رمضان، فأوصى به أطعم عنه وليه لكل يوم مسكينا نصف صاع من بر، أو صاعا من تمر أو شعير؛ لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره فصار كالشيخ الفاني، ثم لا بد من الإيصاء عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلى هذا الزكاة. هو يعتبره بديون العباد؛ إذ كل ذلك حق مالي تجزئ فيه النيابة. ولنا أنه عبادة، ولا بد فيه من الاختيار، وذلك في الإيصاء دون الوراثة لأنها جبرية ثم هو تبرع ابتداء حتى يعتبر من الثلث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: المعنى فيه: إن الشيخ الفاني قدر على الأصل قبل حصول المقصد بالتخلف وهو استمرار العجز فبطل حكم الخلف هناك قدر على الأصل بعد حصول المقصد بالخلف. فلا يبطل حكم الخلف كمن كفر بالصوم ثم وجد ما يعتق، فإن الوجود لا يظهر في حق ما حصل الفراغ منه.

[حكم من مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به]
م: (ومن مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به) ش: معناه قرب من الموت فأوصى [بقضاء] رمضان، لأن الإيصاء بعد الموت لا يتصور م: (أطعم عنه وليه لكل مسكينا نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير) ش: روى كذلك سليمان التيمي عن عمر بن الخطاب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره فصار كالشيخ الفاني) ش: في جواز الفدية عنه بسبب العجز الكامل.
م: (ثم لا بد من الإيصاء عندنا) ش: يعني إذا أوصى يلزم الإطعام عنه على الولي من ثلث ماله وبه قال مالك فيجزئه إن شاء الله، وإن لم يوص لا يلزم على الولي الإطعام، ومع هذا لو أطعم جاز إن شاء الله.
م: (خلافا للشافعي) ش: فعنده لا حاجة إلى الإيصاء بل يلزم الولي أن يطعم عنه أوصى أو لم يوص وبه قال أحمد م: (وعلى هذا الزكاة) ش: أي وعلى هذا الخلاف الزكاة وصدقة الفطر، يعني أن الميت إذا أوصى بذلك يلزم على الولي إخراجها عن التركة وإلا فلا، ولكن إذا تبرع الوصي بإخراج الزكاة وصدقة الفطر جاز، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجب الإخراج وإن لم يوص.
م: (هو يعتبره) ش: أي الشافعي يعتبر هذا الدين م: (بديون العباد إذ كل ذلك حق مالي تجزئ فيه النيابة) ش: وكما أن ديون العباد تخرج من جميع المال وإن لم يوص فكذلك هذا م: (ولنا أنه) ش: أي أن الإطعام الذي دل عليه قوله أطعم عنه وليه م: (عبادة، ولا بد فيه من الاختيار) ش: ولم يبق الاختيار بعد الموت.
م: (وذلك) ش: أي الاختيار م: (في الإيصاء دون الوراثة؛ لأنها) ش: أي لأن الوراثة م: (جبرية) ش: لا اختيار فيها م: (ثم هو) ش: أي الإيصاء م: (تبرع ابتداء حتى يعتبر من الثلث) ش: أي من ثلث المال للميت، وعند الشافعي، وأحمد من جميع المال بدون الإيصاء، وقول مالك

(4/85)


والصلاة كالصوم باستحسان المشايخ، وكل صلاة تعتبر بصوم يوم هو الصحيح. ولا يصوم عنه الولي ولا يصلي لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كقولنا، ولما كان الموت مسقطاً للعبادة في أحكام الدنيا، واشتراط الإيصاء فجاز من الثلث.

م: (والصلاة كالصوم) ش: يعني حكم الصلاة كحكم الصوم في جواز الإطعام عنها م: (باستحسان المشايخ) ش: لأن القياس عدم الجواز لأن الصلاة لا تؤدى بالمال حال الحياة فكذا بعد الممات إلا أن المشايخ استحسنوا في التجويز لما أنها تشبه الصوم من حيث كونها عبادة بدنية.
م: (وكل صلاة تعتبر بصوم يوم هو الصحيح) .
م: (ولا يصوم عنه الولي ولا يصلي) ش: احترز به عن قول محمد بن مقاتل فإنه قال يجب بصلاة يوم نصف صاع على قياس الصوم ثم رجع فقال كل صلاة فرض على حدة بمنزلة صوم يوم.
وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يطعم عن كل صلاة مد، وفي النوازل روي عن محمد بن الحسن أنه قال يتصدق لكل صلاة مدين من حنطة، وبه قال الشافعي في القديم يصوم ويصلي عنه الولي يعني لو فعل يجوز وهو قول الزهري، وأبي ثور ومالك وداود. وهو قول طاووس وقتادة والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضاً وعند أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصوم الولي عنه صوم النذر وهو مذهب ابن عباس، ويطعم عنه في يوم رمضان ورواه الأثرم. واختار ابن عقيل أن صوم النذر كرمضان لا يصام عنه وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا يختص بالولي، بل كل من يصوم عنه يجزئه.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد» ش: هذا غريب مرفوعاً روي موقوفاً عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه النسائي في سننه الكبرى في الصوم من رواية عطاء بن أبي رباح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لا يصلي أحد من أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مد من حنطة ".
وحديث ابن عمر رواه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الوصايا عن ابن عمر قال: " لا

(4/86)


ومن دخل في صلاة التطوع، أو في صوم التطوع ثم أفسده قضاه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصلين أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد " واستدل أصحابنا في هذا الباب بما روى الترمذي عن أشعث بن سوار عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رجل مات وعليه صيام: " يطعم عنه كل يوم مسكيناً» قلت: وقال الترمذي ولا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه والصحيح عن ابن عمر أنه موقوف وضعفه عبد الحق في " أحكامه ".
حدثنا شعيب وابن أبي ليلى وقال البيهقي: لا يصح هذا الحديث قال: محمد بن أبي ليلى كثير الوهم، وروى أصحاب نافع عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قوله.
وروى أبو بكر الرازي في شرحه لمختصر الطحاوي قال حدثنا ابن نافع قال حدثنا محمد بن بشير عن محمد بن عبد الله بن سعيد المستملي عن إسحاق الأزرق عن شريك عن ابن أبي ليلى، عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات وعليه رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم نصف صاع لمسكين» ".
فإن قلت: روى البخاري من حديث عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من مات وعليه صوم صام عنه وليه» وروى أيضاً بإسناده إلى مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: " نعم فدين الله أحق أن يقضى» ".
قلت: المراد من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الإطعام الذي يقوم مقام الصوم مجازاً، بدليل حديث ابن عمر.
وأما حديث ابن عباس ففي متنه اضطراب لأنه في رواية عطاء ومجاهد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قالت امرأة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أختي ماتت» كذا في الصحيح وفي رواية الحكم عن سعيد عن ابن عباس «قالت امرأة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن أمي ماتت وعليها صوم نذر» كذا في الصحيح أيضاً، ولا يصح الاحتجاج به على أنا نقول إنما ذكر فيه القضاء وذلك يحصل بالإطعام فلا يراد الصيام.
فإن قلت: يرد عليكم الحج حيث يقضي عن الميت.
قلت: لا إيراد لأن كلامنا في العبادة البدنية خالصة والحج عبادة تتعلق بالبدن والمال جميعاً.

[الحكم فيمن دخل في صوم التطوع أو صلاة التطوع ثم أفسده]
م: (ومن دخل في صوم التطوع) ش: يعني شرع فيه م: (أو في صلاة التطوع) ش: أي شرع في صلاة التطوع م: (ثم أفسدها قضاه) ش: وهو قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عباس

(4/87)


خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - له: أنه تبرع بالمؤدى فلا يلزمه ما لم يتبرع به.
ولنا: أن المؤدى قربة وعمل فتجب صيانته بالمضي عن الإبطال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومكحول وداود وإسماعيل بن علية م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) ش: وبقوله قال أحمد، وقال مالك يلزمه الإتمام لكن لو أفسدها لعذر كالسفر لا يلزمه القضاء في أحد الروايتين عنه وبه قال أبو ثور م: (له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه تبرع بالمؤدى) ش: بفتح الدال المشددة م: (فلا يلزمه ما لم يتبرع به) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وهو محسن فيما يفعل، فلو وجب عليه القضاء يكون عليه سبيل هذا كمن أخرج درهمين، ليتصدق بهما فتصدق بأحدهما، لا يلزمه التصدق بالآخر.

م: (ولنا: أن المؤدى قربة وعمل فتجب صيانته بالمضي عن الإبطال) ش: قال الله تعالى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] والنهي عن الإبطال يوجب الإتمام فإذا ترك الإتمام الواجب عليه يجب عليه القضاء كالنذر.
فإن قلت: إبطال العمل غير متصور لأنه قبل العمل عدم وبعده متلاش لأنه عرض وحال الموجود غير الموجود على التمام، وأيضاً الإبطال إذا طرأ على الموجود برفعه وإذا قارنه يمنعه، والمنع في الموجود لا يسمى إبطالاً.
قلت: لو لم يتصور إبطال العمل لم يرد به النهي كما في الآية المذكورة، والنهي لا يقتضي التصور لا محالة ومطلقه للتحريم والترديد المذكور غير وارد لأن البطلان في اللغة هو الذهاب والتلاشي فإذا أضيف إلى العمل لا يراد به ذهاب ذاته وتلاشيه بل يراد به فوات الفرض المتعلق [به] ، وهو الثواب هنا.
فإن قلت: روى أبو داود والترمذي والنسائي حديث أم هانئ مرفوعاً «الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر» وقال الأترازي وفي بعض الروايات «إن شئت فاقضه وإن شئت فلا» ثم قال ذلك محمول على عدم وجوب القضاء على الفور.
قلت: قوله وفي بعض الروايات إلخ ليس بمذكور في رواية المذكورين ويكفي هنا أن يقول هذا الحديث مختلف في لفظه وتكلم عليه البيهقي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال النسائي وفيه سماك بن حرب وقد اختلف عليه وليس هو ممن يعتمد عليه إذا انفرد في الحديث.
فإن قلت: روى البخاري عن أبي جحيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال «آخى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين سلمان وأبي الدرداء، الحديث، وفيه فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال: كل فإني صائم فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل وفيه فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: صدق

(4/88)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سلمان وجعله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -[....] بقوله صدق سلمان ولم يأمره بالقضاء» .
قلت: كان الفطر لعذر الضيافة وقد أمر بالقضاء في غيره من الأحاديث.
وقال الكاكي: وروي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وحفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالتا: " كنا صائمتين متطوعتين فأهدي لنا طعام فأفطرنا فدخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته حفصة عن ذلك فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقضيا يوماً مكانه» ، ذكره في " الموطأ "، والترمذي، والنسائي انتهى.
قلت: لم أره في الترمذي، ولا النسائي وإنما رواه البزار، والطبراني في " الأوسط "، وفي إسناده حماد بن الوليد. قال فيه أبو حاتم: شيخ، وضعفه الجمهور. وفي الطبراني أيضاً، عن أبي هريرة «أهديت لعائشة وحفصة هدية، وهما صائمتان فأكلتا منها فذكرتا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " اقضيا يوماً مكانه ولا تعودان» ، وفي إسناده محمد بن أبي سلمة المكي ذكره العقيلي في " الضعفاء "، وقال: لا يتابع على حديثه.
وروى ابن حزم هذا الحديث، عن جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمر، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ثم قال: وقد صح القضاء بالإفطار في ذلك.
ويروى في " الموطأ ": من عدة طرق مرسلاً، وقال الدارقطني: فيه فرج وجرير فخالفهما حماد بن زيد، وعباد بن العوام، ويحيى بن أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فرووه عن يحيى بن سعيد على وهم من وصله من العدول الثقات، وقال ابن الحصار أيضاً: هذا سند صحيح، ورجاله رجال الصحيحين، ولا يضره الإرسال، وقال أبو الفرج: لا يقبل طعن الدارقطني، إذا انفرد به لما عرف من عصبيته.
فإن قلت: أخرج مسلم «عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: " دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال هل عندكم شيء؟ قالت: لا قال: إني إذا صائم " ثم أتى يوماً آخر فقلنا يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال أرنيه فلقد أصبحت صائماً فأكل» فعلم أنه غير لازم.
قلت: زاد النسائي فيه ولكن يصوم يوماً مكانه وصحح هذه الزيادة أبو محمد بن عبد الحق.
فإن قلت: روى الدارقطني عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يصبح صائماً وهو يريد الصوم فيقول أعندكم شيء فنقول لعله يصبح صائماً فيقول بلى» ، ولكن لا بأس إن أفطر ما لم يكن نذراً أو قضاء من رمضان.
قلت: في سنده محمد بن عبد الله العذري ولا يحتج به.

(4/89)


وإذا وجب المضي وجب القضاء بتركه. ثم عندنا لا يباح الإفطار فيه بغير عذر في إحدى الروايتين لما بينا، ويباح بعذر، والضيافة عذر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أفطر، واقض يوما مكانه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى أبو أحمد من حديث جعفر بن الزبير عن القاسم، عن أبي أسامة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من صام تطوعاً فهو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار» .
قلت: جعفر بن الزبير متروك، وكان رجلا صالحا ذكره القرطبي، فلو كان ثابتا لكان بيانا لصحة الشروع في الصوم؛ لأنه لا يصح شروعه بعد نصف النهار.

م: (وإذا وجب المضي وجب القضاء بتركه) ش: لأنه لو لم يلزم القضاء يلزم إبطال العمل واللازم منتف بقوله تعالى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، فينتفي الملزوم، وهو عدم لزوم القضاء.
م: (ثم عندنا لا يباح الإفطار [فيه) ش: أي في الصوم وكان هذا بيان لمبنى الاختلاف وهو أن] الإفطار بعد الشروع ليس بمباح. م: (بغير عذر في إحدى الروايتين لما بينا، ويباح بعذر) ش: وذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عن الأًصحاب أنه لا يباح له الفطر إلا بعذر.
م: (والضيافة عذر) ش: أي على الأظهر وفي " المبسوط " و " المجتبى " والأظهر عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الضيافة عذر، وهو رواية هشام عن محمد وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا تكون عذراً، وفي " المرغيناني " الصحيح من المذهب أن صاحب الدعوة إذا كان يرضى بمجرد حضوره لا يفطر ومسألة اليمين على هذا التفصيل.
وفي " المحيط ": إن حلف بطلاق امرأته يفطر في التطوع دون الفرض وهو قول أبي الليث وقال في " الدراية " واختلف المشايخ فيمن حلف بطلاق امرأته أن يطلق قال أبو الليث:
الأولى: أن يفطر وقال نصير وخلف بن أيوب لا يفطر ودعه يحنث وهذا كله قبل الزوال وبعده لا يفطر إلا إذا كان في تركه عقوق الوالدين أو أحدهما، وفي الفرض والواجب لا يفطر إلا بعذر والضيافة ليست بعذر وكذا السفر الذي أنشأه فيه وعذر فيما عداه، والمرض عذر في الأيام كلها ذكر ذلك في " الذخيرة " وروى بشر عن أبي يوسف إذا كان صائماً في ظهار أو نذر أو قضاء رمضان [لا يفطر] وإن أفطر يصوم يوماً مكانه.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أفطر، واقض يوما مكانه» ش: قال الأترازي:

(4/90)


وإذا بلغ الصبي، أو أسلم الكافر في رمضان، أمسكا بقية يومهما قضاء لحق الوقت بالتشبه، ولو أفطرا فيه لا قضاء عليهما؛ لأن الصوم غير واجب فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا ليس بحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل هو من كلام الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
قلت: هذا وهم فاحش فقد رواه أبو داود الطيالسي في " مسنده " من حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال «صنع رجل طعاماً ودعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحاباً له، فلما أتي بالطعام تنحى أحدهم، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مالك؟ " قال: إني صائم، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أخوك تكلف وصنع لك طعاماً أفطر واقض يوماً مكانه» وروى نحوه الدارقطني من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وفي آخره يقول «إني صائم كل وصم يوماً مكانه» .

[الحكم لو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في نهار رمضان]
م: (وإذا بلغ الصبي، أو أسلم الكافر في رمضان) ش: أي في يوم من أيام رمضان م: (أمسكا بقية يومهما) ش: وكذلك الحائض إذا طهرت والنفساء والمجنون إذا أفاق والمريض إذا برئ والمسافر إذا أقام فحكم هؤلاء في الإمساك عن المفطرات سواء، وهكذا كل معذور زال عذره بعد طلوع الفجر، أما لو زال قبل طلوع الفجر لزمه الصوم. وبقولنا قال أحمد في أصح الروايتين وبعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبو ثور وهو قول الأوزاعي، والحسن بن حي وإسحاق، وابن الماجشون وقال الشافعي، ومالك وداود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: يستحب الإمساك ولا يلزم لأن هذا شخص لا يلزمه الصوم لا ظاهراً ولا باطناً، فلا يلزمه الإمساك كما في حالة العذر.
م: (قضاء لحق الوقت بالتشبه) ش: يعني لقضاء حق الوقت بالتشبه بالصائمين، ولئلا يعرض نفسه للتهمة، وفي " النهاية ": اختلفوا في إمساك بقية اليوم، أنه على طريق الاستحباب، [لأنه مفطر فكيف يجب عليه الكف عن المفطرات. وقال الشيخ الإمام الزاهد الصفار - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الصحيح أن ذلك على طريق الاستحباب] ، انتهى. وعلى قول ابن شجاع لا خلاف بيننا وبين الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن معه م: (ولو أفطرا) ش: أي الصبي الذي بلغ والكافر الذي أسلم م: (فيه) ش: أي في اليوم الذي بلغ فيه الصبي وأسلم الكافر م: (لا قضاء عليهما؛ لأن الصوم غير واجب فيه) ش:، وقال زفر وإسحاق وأحمد في رواية: يجب القضاء قياساً على الصلاة وإذا بلغ الصبي قبل الزوال يكون صائماً نفلاً إذا نوى الصوم في ظاهر الرواية، لأنه أهل للنفل بخلاف الكافر، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز صومه عن الفرض بخلاف الكافر وقيل الكافر كذلك عنده، ولو أسلم في غير رمضان ونوى قبل الزوال كان صائماً حتى لو أفطر يلزمه قضاؤه. وفي " الخزانة ": لا يصح نفلاً ولا فرضاً بخلاف خروج رمضان حيث يكون نفلاً في حق الصبي ولا يتعلق به اللزوم، وفي " المحيط ": إذا أسلم بعد الطلوع لا يصح صومه لا فرضاً ولا نفلاً.

(4/91)


وصاما ما بعده لتحقق السبب، والأهلية، ولم يقضيا يومهما ولا ما مضى لعدم الخطاب، وهذا بخلاف الصلاة، لأن السبب فيها الجزء المتصل بالأداء، فوجدت الأهلية عنده، وفي صوم الجزء الأول، والأهلية منعدمة عنده، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إذا زال الكفر، أو الصبا قبل الزوال فعليه القضاء؛ لأنه أدرك وقت النية. وجه الظاهر أن الصوم لا يتجزأ وجوبا، وأهلية الوجوب منعدمة في أوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: يصح نفلاً، وفي ظاهر الرواية لا يصح، وإذا قدم المسافر من سفره قبل الزوال وكان قد نوى الإفطار فنوى الصوم أجزأه، وإن كان في رمضان وجب عليه الصوم لزوال المرض في وقت النية، وكذا لو كان مقيماً في أول الوقت فسافر لا يباح له الفطر، ولو أفطر فيهما لا تجب الكفارة.

م: (وصاما ما بعده لتحقق السبب) ش: وهو شهود الشهر م: (والأهلية) ش: الإسلام والبلوغ م: (ولم يقضيا يومهما) ش: الذي بلغ فيه الصبي وأسلم الكافر م: (ولا ما مضى) ش: من الأيام م: (لعدم الخطاب) ش: لأن الخطاب إنما يكون عند الأهلية وكانت منتقية.
فإن قلت: انتفاء الأهلية في أول النهار لا يمنع وجوب القضاء، فإن المجنون إذا أفاق في يوم رمضان قبل الزوال، والأكل ونوى الصوم يقع عن الفرض، ولو أفطر يجب عليه القضاء، مع أن الصوم لم يكن واجباً عليه في ذلك وقت طلوع الفجر.
قلت: لا نسلم أن الوجوب لم يكن ثابتاً عليه في ذلك الوقت بل الوجوب في حقه كان ثابتاً إلا أنه لم يظهر أثره عند الاستغراق، فإذا لم يستغرق ظهر أثر الوجوب.
م: (وهذا بخلاف الصلاة) ش: أي هذا الحكم الذي ذكرنا، وهو عدم وجوب قضاء صوم ذلك اليوم الذي بلغ فيه الصبي أو أسلم الكافر، بخلاف الصلاة يجب قضاؤها إذا بلغ أو أسلم في بعض الوقت م: (لأن السبب) ش: أي السبب في وجوب الصلاة م: (فيها) ش: أي في الصلاة م: (الجزء [المتصل بالأداء، فوجدت الأهلية عنده، وفي صوم الجزء] الأول، والأهلية منعدمة عنده) ش: أي عند الجزء الأول.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إذا زال الكفر) ش: عن الكافر م: (أو الصبا) ش: أي وإذا زال الصبا عن الصبي م: (قبل الزوال فعليه القضاء؛ لأنه أدرك وقت النية) ش: وهذا كمن أصبح ناوياً للفطر ثم نوى قبل الزوال أن الصوم أجزأه، ولا شك أن نية الفطر منافية للصوم لكنها منافية حكماً لا حقيقة، فلا تمنع نية الصوم قبل الزوال، وكذلك الكفر مناف للصوم حكماً لا حقيقة لا تمنع نية الصوم قبل الزوال م: (وجه الظاهر) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أن الصوم لا يتجزأ وجوبا) ش: أي من حيث الوجوب م: (وأهلية الوجوب منعدمة في أوله) ش: أي

(4/92)


إلا أن للصبي أن ينوي التطوع في هذه الصورة دون الكافر على ما قالوا لأن الكافر ليس من أهل التطوع أيضا، والصبي أهل له. وإذا نوى المسافر الإفطار ثم قدم المصر قبل الزوال فنوى الصوم أجزأه لأن السفر لا ينافي أهلية الوجوب، ولا صحة الشروع، وإن كان في رمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في أول اليوم، بيانه أن الصوم لما لم يجب عليه في أول اليوم لعدم أهلية الوجوب في البقية؛ لأن الصوم الواجب، [ ... ] لا يتجزأ فلا يجب القضاء.

م: (إلا أن للصبي أن ينوي التطوع في هذه الصورة) ش: أشار بهذا الاستثناء إلى الفرق بين حكم الصبي وحكم الكافر في هذه الصورة، وهي ما إذا بلغ الصبي قبل الزوال أو أسلم الكافر قبل الزوال وبيان الفرق بينهما أن الصبي إذا نوى التطوع يصح لأنه أهل له قبل البلوغ.
والكافر الذي أسلم ونوى التطوع لا يصح، وهو معنى قوله م: (دون الكافر) ش: لعدم الأهلية م: (على ما قالوا) ش: أشار إلى الاختلاف بين المشايخ فعامة المشايخ على ما ذكر من الفرق، أن الكافر إذا نوى التطوع بعدما أسلم قبل الزوال لا يصح، وأن الصبي إذا نوى كذلك يصح، وذكر في " الجامع الصغير "، الصغير يبلغ والكافر يسلم قال: هما سواء.
وفي " المنتقى ": عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه سوى بينهما، وقال: يكون تطوعاً منهما جميعاً م: (لأن الكافر ليس من أهل التطوع أيضا، والصبي أهل له) ش: هذا التعليل كقول عامة المشايخ الذين فرقوا بينهما، ولا ترد مسألة المجنون؛ لأنه لو أفاق في نهار رمضان، ولم يكن أكل شيئاً فنوى الصوم حيث يقع صومه عن الفرض؛ لأن المجنون إذا لم يستوعب لا ينافي أهلية الوجوب. أما الصبا، والكفر فينافيان أهلية الوجوب.
م: (وإذا نوى المسافر الإفطار) ش: يعني في غير رمضان بدليل قوله فيما بعده: وإن كان في رمضان م: (ثم قدم المصر) ش: أي مصره م: (قبل الزوال فنوى الصوم أجزأه لأن السفر لا ينافي أهلية الوجوب) ش: أي وجوب الصوم، ولهذا يصح أداؤه في السفر م: (ولا صحة الشروع) ش: لأنه لو صام صح م: (وإن كان في رمضان) ش: أي وإن كان المسافر الذي نوى الإفطار وقدم مصره قبل الزوال في رمضان، قال الأترازي: هذا تكرار من المصنف؛ لأن ما قبله أيضاً في مسافر قدم المصر قبل الزوال في رمضان بدلالة التعليل بقوله؛ لأن السفر لا ينافي أهلية الوجوب، ومثل هذا الكلام، لا يستعمل في النفل.
قلت: قال السغناقي: إن المراد من قوله وإن نوى المسافر الإفطار في غير رمضان كما ذكرنا عن قريب فهذا أولى من حمل كلام المصنف على التكرار.
وكذا قال الأكمل؛ أن الأولى في غير رمضان والثانية في رمضان؛ فلا [يلزم] تكرار، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: وإذا نوى المسافر الإفطار ثم قدم المصر قبل الزوال فنوى الصوم إن كان مراده من هذا الصوم تطوعاً، فيكون المراد من الوجوب في قوله لا ينافي

(4/93)


فعليه أن يصوم لزوال المرخص في وقت النية. ألا ترى أنه لو كان مقيما في أول اليوم ثم سافر لا يباح له الفطر ترجيحا لجانب الإقامة فهذا أولى، إلا أنه إذا أفطر في المسألتين لا تلزمه الكفارة لقيام شبهة المبيح.
ومن أغمي عليه في رمضان لم يقض اليوم الذي حدث فيه الإغماء لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية، إذ الظاهر وجودها منه وقضى ما بعده لانعدام النية، وإن أغمي عليه أول ليلة منه قضاه كله غير يوم تلك الليلة لما قلنا. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقضي ما بعده؛ لأن صوم رمضان عنده يتأدى بنية واحدة بمنزلة الاعتكاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أهلية الوجوب [الثبوت، وإن كان نذراً معيناً فالمراد الوجوب] الاصطلاحي، وإنما قلت كذلك لأنه ذكر بعده وإن كان في رمضان، انتهى.
قلت: يمكن الرد بالشق الأول على تعليل الأترازي في دعواه التكرار في كلام المصنف فليتأمل م: (فعليه أن يصوم لزوال المرخص) ش: وهو السفر م: (في وقت النية. ألا ترى أنه لو كان مقيما [في] أول اليوم ثم سافر لا يباح له الفطر ترجيحا لجانب الإقامة) ش: على جانب السفر لعروضه على الإقامة التي هي الأصل م: (فهذا أولى) ش: يعني ترجيح الإقامة أولى وجه الأولوية أن المرخص وهو السفر قائم في وقت الإفطار في تلك المسألة ومع ذلك لم يبح له الإفطار فلا يباح في هذه المسألة وهو ليس بقائم فيه أولى.
م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن الرجل المذكور م: (إذا أفطر في المسألتين) ش: يعني في مسألة المسافر الذي أقام ومسألة المقيم الذي سافر م: (لا تلزمه الكفارة لقيام شبهة المبيح) ش: وهو السفر؛ لأنه في الأصل مبيح للفطر؛ فإذا اقترن بالسبب الموجب للكفارة يكون مورثا ًبشبهة مسقطة للكفارة، وإن لم يصر الفطر مباحاً له بمنزلة النكاح الفاسد يكون مسقطاً للحد وإن لم يكن مبيحاً للوطء.

[أحكام المغمى عليه والمجنون في رمضان]
م: (ومن أغمي عليه في رمضان لم يقض اليوم الذي حدث فيه الإغماء لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية، إذ الظاهر وجودها) ش: أي وجود النية م: (منه وقضى ما بعده لانعدام النية) ش: أي قضى ما بعد ذلك اليوم الذي حدث فيه الإغماء لعدم النية فيه؛ لأن الإغماء يمنع وجود النية ولا يصح الصوم بدونها، ولو كان الرجل الذي أغمي عليه في رمضان منتهكاً قد اعتاد الفطر في رمضان أو كان مسافراً فيه يقضي الكل لعدم النية في الكل، م: (وإن أغمي عليه أول ليلة منه قضاه كله غير يوم تلك الليلة لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقضي ما بعده؛ لأن صوم رمضان عنده يتأدى بنية واحدة بمنزلة الاعتكاف) ش: لأن الله تعالى أوجب الصوم باسم الشهر وأنه شيء واحد وإنما رخص له الفطر بالليالي ليتمكن من الأداء فاعتبر الشهود في حق الشهر النية شيئاً واحداً كالاعتكاف لا يحتاج فيه نية

(4/94)


وعندنا لا بد من النية لكل يوم؛ لأنها عبادات متفرقة لأنه يتخلل بين كل يومين ما ليس بزمان لهذه العبادة بخلاف الاعتكاف، ومن أغمي عليه في رمضان كله قضاه؛ لأنه نوع مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجى فيصير عذرا في التأخير لا في الإسقاط، ومن جن في رمضان كله لم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لكل يوم.

م: (وعندنا لا بد من النية لكل يوم؛ لأنها) ش: أي لأن صيام الشهر م: (عبادات متفرقة) ش: أي صوم كل يوم عبادة وحدها، ألا ترى أن الفساد في الأصل لا يمنع صحة الباقي، فكانت كصلاة مختلفة فيستدعي لكل نية واحدة م: (لأنه يتخلل بين كل يومين ما ليس بزمان هذه العبادة) ش: وهو الليالي فيبقى صوم كل يوم عبادة طول الشهر فيحتاج إلى تعداد النية بتعداد الأيام ولا عبادة إلا بالنية.
م: (بخلاف الاعتكاف) ش: لأنه لم يتخلل بين كل يومين فيه ما ليس بزمان العبادة، إذ الليل أيضاً وقت الاعتكاف؛ ولهذا يفسد بوجود المفسد في الليل، فكان شيئاً واحداً، فيكفيه نية واحدة.
م: (ومن أغمي عليه في رمضان كله قضاه) ش: أي قضى كل رمضان هذا بالإجماع، إلا ما روي عن الحسن البصري وابن شريح من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما إذا استوعب لا قضاء عليه كما في المجنون؛ لأن سبب وجوب الأداء وهو شهود الشهر لم يتحقق موجباً في حقه لعدم الفهم، ووجوب القضاء يبنى عليه م: (لأنه نوع مرض) ش: أي لأن الإغماء نوع مرض م: (يضعف القوى ولا يزيل الحجى) ش: بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم مقصوراً وهو العقل، ألا ترى أن الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كانوا يثبتون بالإغماء دون الجنون لأنه منفي عنهم، والفرق بينهما أن العقل يكون في الإغماء مغلوباً وفي الجنون مسلوباً م: (فيصير) ش: أي الإغماء م: (عذرا في التأخير) ش: أي في تأخير الصوم إلى وقت زوال الإغماء م: (لا في الإسقاط) ش: أي لا يكون عذراً في إسقاط بالكلية.
م: (ومن جن في رمضان كله لم يقضه) ش: أي إذا جن قبل غروب الشمس من أول الليلة؛ لأنه لو كان مفيقاً في أول الليلة ثم جن رمضان كله إلى آخر الشهر قضى صوم الشهر كله بالاتفاق غير يوم تلك الليلة.
ذكر شمس الأئمة في أصوله، وفي جامع النوازل إذا أفاق أول ليلة من رمضان ثم أصبح مجنوناً واستوعب الشهر اختلف فيه أئمة بخارى، والفتوى على أنه لا يلزمه القضاء لأن الليلة لا يصام فيها وكذا لو أفاق في ليلة من وسطه أو في آخر يوم من رمضان بعد الزوال كما في " المجتبى ".
وقال الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المراد من قوله كله مقدار ما يمكنه ابتداء الصوم، حتى لو

(4/95)


يقضه خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هو يعتبره بالإغماء. ولنا أن المسقط هو الحرج، والإغماء لا يستوعب الشهر عادة فلا حرج والجنون يستوعبه فيتحقق الحرج،
وإن أفاق المجنون في بعضه قضى ما مضى من الشهر خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله -، هما يقولان: لم يجب عليه الأداء لانعدام الأهلية، والقضاء يترتب عليه، وصار كالمستوعب، ولنا أن السبب قد وجد، وهو الشهر والأهلية بالذمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أفاق بعد الزوال من اليوم الآخر، من رمضان لا يلزمه القضاء؛ لأنه لا يصح فيه كالليل هو الصحيح، كذا في " فتاوى قاضي خان ".
م: (خلافاً لمالك) ش: فإن عنده يقضيه، وبه قال أحمد في رواية وابن شريح من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (هو) ش: أي مالك م: (يعتبره) ش: أي يعتبر حكم هذا م: (بالإغماء) ش: لأن الجنون المستوعب لا ينافي أهلية الوجوب قياساً على الإغماء إذا استوعب، فلا يمنع الوجوب كغير المستوعب.
م: (ولنا أن المسقط) ش: أي للوجوب م: (هو الحرج، والإغماء لا يستوعب الشهر) ش: لأن المغمى عليه لا يأكل ولا يشرب وصومه إلى شهر بلا أكل وشرب نادر، فإذا كان كذلك م: (فلا حرج) ش: لندرته م: (والجنون يستوعبه) ش: أي يستوعب الشهر م: (فيتحقق الحرج) ش: والإسقاط يتعلق بالحرج.

[الحكم لو أفاق المجنون في بعض رمضان]
م: (وإن أفاق المجنون في بعضه) ش: أي في بعض شهر رمضان م: (قضى ما مضى من الشهر خلافا لزفر والشافعي) ش: في الجديد وأحمد، وأبي ثور م: (هما يقولان) ش: أي زفر، والشافعي - رحمهما الله - يقولان: م: (لم يجب عليه الأداء لانعدام الأهلية، والقضاء يترتب عليه) ش: أي الأداء، والأداء لا يجب عليه بالاتفاق فكذلك القضاء قياساً عليه كذا، ذكر الإمام علاء الدين السمرقندي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في طريقة الخلاف أن مذهبهما قياساً ومذهبنا استحساناً م: (وصار كالمستوعب) ش: يعني في إسقاط كل اعتبار للبعض بالكل.
وقوله: بالذمة خبره وهو جواب عن سؤال مقدر تقديره، أن يقال: يجوز أن يمنع من ذلك مانع وهو عدم الأهلية فيما مضى، فأجاب بأن الأهلية للوجوب بالذمة وهي كونه أهلاً للإيجاب، وهي موجودة؛ لأنه بالذمة، والذمة في الأصل العهدة، ولهذا سمي قابل الجزية

(4/96)


في الوجوب فائدة، وهو صيرورته مطلوبا على وجه لا يحرج في أدائه بخلاف المستوعب؛ لأنه يحرج في الأداء فلا فائدة،
/ وتمامه في الخلافيات، ثم لا فرق بين الأصلي والعارض، قيل: هذا في ظاهر الرواية، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه فرق بينهما؛ لأنه إذا بلغ مجنونا، التحق بالصبي فانعدم الخطاب، بخلاف ما إذا بلغ عاقلا ثم جن وهذا مختار بعض المتأخرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذمياً لكونه معاهداً، وسمي محل التزام العهد وهو الرقبة بالذمة مجازاً إطلاقاً لاسم الحال على المحل.
ثم قال: هكذا لقائل أن يقول: لو كان ما ذكرتم صحيحاً، لوجب على المستغرق أيضاً فأجاب بقوله: م: (وفي الوجوب فائدة، وهو) ش: أي الفائدة ذكرها باعتبار المذكور.
وفي بعض النسخ: وهي على الأصل م: (صيرورته مطلوباً على وجه لا يحرج في أدائة بخلاف المستوعب؛ لأنه يحرج في الأداء فلا فائدة) ش: ولهذا قلنا في النائم، والمغمى عليه: يجب عليهما القضاء إن استوعب النوم، والإغماء شهراً لعدم الحرج.
فإن قلت: زفر والشافعي استدلاً أيضاً بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
قلت: المراد منه رفع تكليف الأداء لا نفي أصل الوجوب، ولهذا يجب على النائم القضاء.

م: (وتمامه في الخلافيات) ش: أي تمام البحث المذكور مذكور في الكتب المتعلقة بذكر الخلافيات م: (ثم لا فرق بين الأصلي) ش: أي بين المجنون الأصلي، وهو أن يدرك مجنوناً.
م: (والعارض) ش: أي الجنون العارض وهو أن يدرك مفيقاً ثم جن يعني لا فرق بينهما حيث يلزمه قضاء ما مضى ثم م: (قيل: هذا) ش: أي عدم الفرق بين الجنونين.
م: (في ظاهر الرواية، وعن محمد أنه فرق بينهما) ش: أي بين الجنونين م: (لأنه) ش: أي لأن الصبي م: (إذا بلغ مجنونا، التحق بالصبي فانعدم الخطاب) ش: في حقه إذا أفاق في بعض الشهر ليس عليه قضاء ما مضى لأن ابتداء الخطاب وجه إليه الآن فكان كصبي [ثم] بلغ.
وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: القياس هكذا إلا أني أستحسن بأن يقضي ما مضى في الجنون الأصلي إذا أفاق في بعض الشهر كما في الجنون العارض.
م: (بخلاف ما إذا بلغ عاقلا ثم جن) ش: يعني لا يلحق بالصبي، فلزمه قضاء ما مضى.
م: (وهذا) ش: أي المروي عن محمد م: (مختار بعض المتأخرين) ش: منهم الإمام أبو عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجرجاني والإمام الربيعي والإمام الزاهد الصفار، وفي " المبسوط " المحفوظ

(4/97)


ومن لم ينو في رمضان كله لا صوما ولا فطرا فعليه قضاؤه وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتأدى صوم رمضان بدون النية في حق الصحيح المقيم؛ لأن الإمساك مستحق عليه فعلى أي وجه يؤديه يقع عنه، كما إذا وهب كل النصاب من الفقير. ولنا: أن المستحق الإمساك بجهة العبادة، ولا عبادة إلا بالنية، وفي هبة النصاب وجد نية القربة على ما مر في الزكاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن محمد أنه لا يقضي ما مضى في الأصل كالصبي ولا رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختلف فيه المتأخرون على قياس مذهبه، والأصح أنه ليس عليه قضاء ما مضى وبه قال ابن الماجشون المالكي.
وفي " البدائع ": الجنون العارض، إذا أفاق في أوله، أو في وسطه، أو في آخره قضى جميعه، وفي الأصلي روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه سوى بينهما.

[حكم اشتراط النية في صوم رمضان]
م: (ومن لم ينو في رمضان كله لا صوما ولا فطرا فعليه قضاؤه) ش: هذه المسألة من خواص " الجامع الصغير "، ثم لا بد من التأويل لهذه المسألة لما أن دلالة حال المسلم كافية لوجود النية، ألا ترى أن من أغمي عليه بعدما غربت الشمس من الليلة الأولى من رمضان أنه يصير صائماً في يومها ولم يعرف منه نية الصوم ولا الفطر لما أنا حملنا أمره على النية على ظاهر حاله.
قال السغناقي: ثم قال مشايخنا تأويل هذه المسألة أن يكون مريضاً أو مسافراً أو منتهكاً اعتاد الفطر في رمضان حتى لا يصلح حاله دليلاً على العزيمة ونية الصوم، ذكره فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتأدى صوم رمضان بدون النية في حق الصحيح المقيم) ش: أبو شجاع هو الذي روى هذا القول عن زفر، وروي هكذا عن عطاء ومجاهد واستبعدوا هذا من زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان الكرخي ينكر أن يكون هذا مذهبه عنه ويقول مذهبه أنه يتأدى كله بنية واحدة، وهو قول مالك وإسحاق ورواية عن أحمد وإنما قيد بالصحيح والمقيم؛ لأن المريض والمسافر لا بد لهما من النية بالاتفاق م: (لأن الإمساك مستحق عليه فعلى أي وجه يؤديه يقع عنه) ش: لأنه متعين بأصله ووصفه بتعيين الله عز وجل، فلما لم يلزم تعيين الوصف لم يلزمه تعيين الأصل لتبعيته م: (كما إذا وهب كل النصاب من الفقير) ش: فإنه تسقط عنه الزكاة.
م: (ولنا: أن المستحق الإمساك بجهة العبادة، ولا عبادة إلا بالنية) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأعمال بالنيات» م: (وفي نية النصاب وجد نية القربة على ما مر في الزكاة) ش: باختيار المحل ووجد معنى القربة لحاجة المحل، ألا ترى أن من وهب لفقير شيئاً لا يملك الرجوع لحصول الثواب له.
فإن قلت: إعطاء النصاب لفقير واحد للزكاة باطل عند زفر فكيف ذكر الجواز ها هنا على مذهبه؟. قلت: قالوا: جاز أن يكون المراد منه أي على مذهبكم، وقيل: تأويله أن يكون الفقير مديوناً فعند ذلك يجوز أداء النصاب زكاة بالاتفاق.

(4/98)


ومن أصبح غير ناو للصوم فأكل لا كفارة عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه الكفارة؛ لأنه يتأدى بغير النية عنده، وقال أبو يوسف، ومحمد - رحمهما الله - إذا أكل قبل الزوال تجب الكفارة؛ لأنه فوت إمكان التحصيل، فصار كغاصب الغاصب. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الكفارة تعلقت بالإفساد، وهذا امتناع إذ لا صوم إلا بالنية. وإذا حاضت المرأة، أو نفست أفطرت وقضت، بخلاف الصلاة؛ لأنها تحرج في قضائها، وقد مر في الصلاة، وإذا قدم المسافر، أو طهرت الحائض في بعض النهار، أمسكا بقية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حكم أصبح غير ناو للصوم فأكل]
م: (ومن أصبح غير ناو) ش: أي حال كونه غير ناو م: (للصوم فأكل لا كفارة عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: سواء أكل قبل الزوال أو بعده وكذا لو جامع، وبقول أبي حنيفة قال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال زفر: عليه الكفارة؛ لأنه يتأدى عنده بدون النية) ش: يعني النية ليست بشرط م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف، ومحمد - رحمهما الله - م: (إذا أكل قبل الزوال تجب الكفارة؛ لأنه فوت إمكان التحصيل) ش: أي تحصيل الصوم؛ لأن قبل الزوال يجب حكم الإمساك موقوفاً على أن يصير صوماً قبل نصف النهار، فصار بأكله مفوتاً لإمكان تحصيل الصوم، أما بعد الزوال فإمساكه غير موقوف على ذلك فلا يصير مفوتاً، فلا كفارة عليه.
وقال أبو بكر الرازي في " شرحه لمختصر الطحاوي ": المشهور عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فصار كغاصب الغاصب) ش: فإن المغصوب كما يضمن الغاصب الأول لتفويت الأصل يضمن غاصب الغاصب لتفويت إمكان الرد.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الكفارة تعلقت بالإفساد) ش: أي بإفساد الصوم م: (وهذا امتناع) ش: أي عن الصوم لا إفساد له م: (إذ لا صوم إلا بالنية) ش: فلا كفارة عليه لأنه غير صائم.
م: (وإذا حاضت المرأة أو نفست) ش: بضم النون أي صارت نفساء م: (أفطرت وقضت) ش: أي الصوم م: (بخلاف الصلاة) ش: لا تقضي الصلاة م: (لأنها تحرج) ش: يقع فيها الحرج م: (في قضائها) ش: لكثرتها م: (وقد مر في الصلاة) ش: أي بيان الفرق بين الصوم والصلاة في وجوب قضاء الصوم دون الصلاة في باب الحيض.
فإن قلت: هذه المسألة مكررة لأنه ذكرها في باب الحيض.
قلت: ذكر في باب الحيض أن الحائض لا تصوم لكن لم تذكر أن الصائمة إذا حاضت أفطرت.
م: (وإذا قدم المسافر) ش: أي مصره م: (أو طهرت الحائض في بعض النهار، أمسكا بقية

(4/99)


يومهما وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب الإمساك، وعلى هذا الخلاف كل من صار أهلا للزوم، ولم يكن كذلك في أول اليوم، وهو يقول: التشبيه خلف، فلا يجب إلا على من يتحقق الأصل في حقه كالمفطر متعمدا، أو مخطئا. ولنا أنه وجب قضاء لحق الوقت أصلا لا خلفا لأنه وقت معظم، بخلاف الحائض والنفساء والمريض والمسافر، حيث لا يجب عليهم حال قيام هذه الأعذار لتحقق المانع عن التشبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يومهما) ش: عن كل ما يمسك عنه الصائم تعظيماً للوقت م: (وقال الشافعي: لا يجب الإمساك) ش: يعني في بقية يومهما م: (وعلى هذا الخلاف) ش: يعني بيننا وبين الشافعي م: (كل من صار أهلا للزوم) أي للزوم الإمساك م: (ولم يكن كذلك) ش: أي والحال أنه لم يكن أهلاً للزوم الإمساك م: (في أول اليوم) ش: مثل الكافر يسلم والصبي يبلغ والمجنون يفيق في بعض النهار فإنهم يؤمرون بالإمساك بقية يومهم خلافاً للشافعي.

م: (وهو) ش: أي الشافعي م: (يقول: التشبه خلف) ش: أي عن الصوم م: (فلا يجب إلا على من يتحقق الأصل) ش: وهو الصوم م: (في حقه كالمفطر متعمداً) ش: أي كالذي أفطر عمداً م: (أو مخطئاً) ش: أي كالذي أفطر حال كونه مخطئاً كالذي أكل يوم الشك، ثم ظهر أنه من رمضان أو تسحر على ظن أنه ليل وكان الفجر طالعاً، أو كالذي أخطأ في المضمضة ونزل الماء في جوفه لا يفطر عنده.
وفي " الكافي ": الأصل عنده، من كان له الأصل مباحاً في أول اليوم، ظاهراً أو باطناً لا يلزمه الإمساك في بقية يومه ففي الفطر عمداً أو خطأ يلزمه الإمساك إجماعاً وفي الحائض والنفساء لا يجب إجماعاً.
فإن قيل: ما وجه قوله أو مخطئاً وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتحقق الفطر بالخطأ قلنا: المراد بالمخطئ من لم يصح صومه اليوم عنده لعدم قصده في إفساد صومه كمن أكل يوم الشك ثم ظهر أنه من رمضان فإنه يتحقق منه الإفطار، وها هنا يجب التشبه بالاتفاق.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن التشبيه م: (وجب قضاء لحق الوقت أصلاً) ش: أي من حيث الأصل م: (لا خلفا) ش: أي لا من حيث الخلفية م: (لأنه وقت معظم) ش: ولهذا وجبت الكفارة على المفطر فيه عمدا ًدون غيره وإذا كان معظماً وجب قضاء حقه بالصوم، إن كان أهلاً وبالإمساك، إن لم يكن خلفاً م: (بخلاف الحائض والنفساء والمريض والمسافر، حيث لا يجب) ش: أي الإمساك م: (عليهم حال قيام هذه الأعذار) ش: وهي الحيض، والنفاس، والمرض والسفر.
م: (لتحقق المانع عن التشبه) ش: أما في الحائض والنفساء فإن الصوم عليهما حرام والتشبه بالحرام حرام وما في المريض والمسافر فلأن الرخصة في حقهما باعتبار الحرج، فلو ألزمنا

(4/100)


حسب تحققه عن الصوم قال: وإذا تسحر وهو يرى
أن الفجر لم يطلع فإذا هو قد طلع، أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا هي لم تغرب أمسك بقية يومه قضاء لحق الوقت بالقدر الممكن، أو نفيا للتهمة، وعليه القضاء لأنه حق مضمون بالمثل، كما في المريض، والمسافر ولا كفارة عليه؛ لأن الجناية قاصرة لعدم القصد. وفيه قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما تجانفنا لإثم قضاء يوم علينا يسير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التشبيه عاد على موضوعتها له م: (حسب تحققه عن الصوم) ش: أي مثل تحقق المانع عن الصوم أراد أن المانع من التشبيه متحقق كما أن المانع من الصوم متحقق، وذلك لأن ما كان حراماً كان ما يشبهه حراماً كعبادة الصنم فإنها حرام، والصلاة بين يديه أيضاً مكروه لمشابهته عبادة الصنم.
م: (قال: وإذا تسحر) ش: في أكثر النسخ قال: وإذا تسحر أي قال القدوري م: (وهو يرى) ش: بضم الياء وفتح الراء أي والحال أنه يظن وفي بعض النسخ وهو يظن، والمراد من الظن غلبة الظن حتى لو كان شاكاً تجب الكفارة، كذا ذكره الإمام حميد الدين الضرير وحافظ الدين النسفي في " مستصفاه ".
قال الأترازي: وذلك لا يصح على إطلاقه، لأن الرواية في أكل المتسحر الشاك بخلاف ذلك، ألا ترى إلى ما ذكره في شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لو شك في طلوع الفجر فالأفضل له أن لا يتسحر فإن تسحر مع الشك لم يفسد صومه ولا قضاء عليه، لأنه في يقين من الليل وشك في النهار، والأصل أن اليقين لا يزول بالشك إلا إذا تسحر وأكبر رأيه أن الفجر طالع وقت السحر وأحب إلينا أن يقضي، ثم قال: كذا ذكر في كتاب الصوم.

[حكم من شك في طلوع الفجر أو غروب الشمس فأكل]
م: (أن الفجر لم يطلع فإذا هو قد طلع، أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا هي لم تغرب أمسك بقية يومه قضاء لحق الوقت بالقدر الممكن، أو نفيا) ش: أي لأجل النفي م: (للتهمة) ش: فإنه إذا أكل ولا عذر به اتهمه الناس بالفسق والتحرز عن مواضع التهمة واجب بالحديث م: (وعليه القضاء) ش: خلافاً لابن أبي ليلى وعطاء والحسن ومجاهد وإسحاق بن راهويه وداود والمزني فإن عندهم لا يجب عليه القضاء، لأن صومه لا يفسد م: (لأنه) ش: أي لأن فوت الأداء م: (حق مضمون بالمثل) ش: شرعاً فإذا فوته قضاه م: (كما في المريض، والمسافر) ش: أي كما يقضي المريض والمسافر بقدر مرضه والمسافر بقدر قدومه مصره.
م: (ولا كفارة عليه، لأن الجناية قاصرة لعدم القصد) ش: خلافاً لبعضهم حيث أوجبوا الكفارة م: (وفيه) ش: أي مثل ما قلنا م: (قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما تجانفنا لإثم قضاء يوم علينا يسير) ش: وقال الأترازي في " شرحه ": هذا ما رواه أبو عبيد في كتاب " غريب الحديث "

(4/101)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن أبي معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أفطر في رمضان وهو يرى أن الشمس قد غربت ثم نظر فإذا الشمس طالعة فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا نقضيه، ما تجانفنا لإثم أي مايلنا إليه ولا تعديناه ونحن نعلمه وكل مائل فهو متجانف جنف، قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} [البقرة: 182] أي ميلاً.
أما قوله: لا نقضيه فتأويله قال له قائل كأن الشمس طالعة وقد أثمنا فقال رداً عليه: لا أي ليس الأمر كما ظننت أي نقضي ما ليس مكان يوم ليس علينا غيره، ومثله قَوْله تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] (القيامة: الآية 1) ، فأراد من أنكره البعث ومثله قَوْله تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] وهذا الذي ذكرنا عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الصحيح من الرواية عند الثقات، وما ورد في بعض نسخ الهداية " بعثناك داعياً لا راعياً " فقال: ليس بصحيح.
وقد أورد بعضهم في " شرح الهداية " أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين أفطر مع أصحابه يوماً صعد المؤذن المئذنة وقال: الشمس يا أمير المؤمنين قال: بعثناك داعياً لا راعياً للأذان وإعلام الناس ولا حافظاً للأحوال، ثم قال ما تجانفنا لإثم من الموضوعات فلا ملتفت إليه. إلى هنا كله كلام الأترازي وفيه نظر من وجوه:
الأول: تأويله في قوله لا نقضيه فيما أوله تكلف جداً، لأن ابن أبي شيبة روى في " مصنفه ": حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن ابن زيد بن وهب قال: خرج عباس من بيت حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وعلى السماء سحاب فنظر أن الشمس قد غابت فأفطروا ولم يلبثوا أن تجلى السحاب فإذا الشمس طالعة فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ما تجانفنا من إثم ".
حدثنا علي بن شهر عن الشيباني عن خالد بن سحيم عن علي بن حنظلة عن أبيه قال: شهدت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رمضان وقرب إليه شراب فشرب بعض القوم وهم يرون الشمس قد غربت ثم ارتقى المؤذن فقال: والله يا أمير المؤمنين إن الشمس طالعة لم تغرب فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من كان أفطر فليصم يوماً مكانه ومن لم يكن أفطر فليتم حتى تغرب الشمس وادعاه من طريق آخر فزاد فيه فقال له: إنما بعثناك داعياً ولم نبعث راعياً وقد اجتهدنا وقضاء يوم يسير انتهى.
وروى محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن حماد ابن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: أفطر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه في

(4/102)


والمراد بالفجر الفجر الثاني، وقد بيناه في الصلاة. ثم التسحر مستحب لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تسحروا فإن في السحور بركة» والمستحب تأخيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوم غيم ظنوا أن الشمس غابت قال: فطلعت الشمس فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما تعرضنا لجنف نتم هذا اليوم ثم نقضي يوماً مكانه.
الثاني: أن هذا الأثر الذي ذكره عن أبي عبيد هو بالإسناد الذي رواه ابن أبي شيبة والاختلاف في المتن والأخذ بالمتن الذي رواه ابن أبي شيبة أولى وأجدر من المتن الذي رواه أبو عبيد، على ما يخفى وإن كان أبو عبيد أيضاً إماماً كبيراً، ولكن ابن أبي شيبة من مشايخ البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه وأحمد بن حنبل وآخرين وكثيرين من الأئمة وأبو عبيد لم يرو له البخاري وذكره في كتاب " القراءة خلف الإمام " وحكى عنه أيضاً في كتاب " أفعال العباد ".
الثالث: أن قوله الذي ذكرنا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الصحيح مجرد دعوى ولم يبرهن عليها، بل الصحيح الذي ذكره غيره وقوله أورده بعضهم في " شرح الهداية " أراد به السغناقي فإنه هو الذي ذكره في " النهاية " وتبعه الكاكي على ذلك ثم الأكمل.
الرابع: أن قوله بعثناك داعياً لا راعياً فذاك ليس بصحيح [....] يظهر لك ما ذكرنا عن ابن أبي شيبة.
الخامس: قوله في آخر كلامه من الموضوعات احتراز قوي حيث ينسب الأئمة المذكورين إلى الوضع وكأنه لم يطلع على " مصنف ابن أبي شيبة " وأوسع كلامه على عادته في غير تأمل ولا نظر كلام المصنف.

م: (والمراد بالفجر) ش: يعني في قوله أن الفجر لم يطلع م: (الفجر الثاني) ش: وهو الفجر الصادق وهو المعتبر في الصلاة والصوم لا الفجر الكاذب م: (وقد بيناه في الصلاة) ش: في باب المواقيت م: (ثم التسحر مستحب) ش: التسحر أكل السحور بفتح السين وهو ما يؤكل وقت السحر وأشار إلى استحبابه بقوله م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «تسحروا فإن في السحور بركة» ش: أي في أكل السحور بركة، وقيل: المراد من البركة زيادة القوة في أداء الصوم بدليل قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «استعينوا بقائلة النهار - أي بقيلولته - على قيام الليل. وبأكل السحور على صيام النهار» ، وجاز أن يكون بها نيل الثواب لاستنانه بسنن المرسلين وعلمه بما هو مخصوص بأهل الإسلام، فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكل السحور» .
م: (والمستحب تأخيره) ش: أي تأخير السحور فيكون مستحباً في مستحب لما أن نفس

(4/103)


لقوله - عليه الصلاة السلام -: «ثلاث من أخلاق المرسلين: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، والسواك» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السحور وهو أكل السحور مستحب وتأخيره إلى آخر الليل مستحب أيضاً فيكون مستحباً أيضاً في مستحب م: (لقوله عليه الصلاة السلام) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «ثلاث من أخلاق المرسلين تعجيل الإفطار وتأخير السحور والسواك» ش: هذا الحديث أخرجه الطبراني في معجمه، حدثنا جعفر بن محمد بن حرب، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن علي بن أبي العالية، عن مورق العجلي، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من أخلاق المرسلين تعجيل الفطر وتأخير السحور، والسواك، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة» ، وذكره ابن أبي شيبة في " مصنفه " موقوفاً.
والدارقطني رواه في الأفراد من حديث حذيفة مرفوعاً بنحو حديث أبي الدرداء قال الأترازي: روي عن الحسن البصري أنه قال: «ثلاث من أخلاق المرسلين تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمين على الشمال في الصلاة» .
ولم يتكلم أحد من الشراح في حال هذا الحديث غير أن كلاً منهم قال: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وهذا الأترازي نسبه إلى البصري وقال السغناقي بعد أن ذكر الحديث مجرداً وفي " المنافع " ذكر وضع اليمين على الشمال في الصلاة مكان السواك ولكن ما ذكر هنا موافق لما ذكر في " المبسوط ".
وروى البيهقي من رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة» .
ورواه أيضاً هكذا من رواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفي رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم قال: كلها ضعيفة.
1 -
فإن قلت: على تقدير صحته يدل على أن تأخير السحور واجب وإذا كان تأخيره واجباً يكون السحور أيضاً واجباً.
قلت: الحديث الذي في المتن يدل على أنه مستحب أو سنة والعمل بهذا الحديث، وفي " المحيط ": السحور مندوب إليه وفي " البدائع " سنة فإذا كان نفس السحور مستحباً أو سنة يكون تأخيره كذلك.

(4/104)


إلا أنه إذا شك في الفجر، ومعناه تساوي الظنين الأفضل أن يدع الأكل تحرزا عن المحرم، ولا يجب عليه ذلك، ولو أكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ما حد تأخيره؟ قلت: آخر الليل وعن الليث هو سدسه الآخر، وقال ابن عباس وعطاء والأوزاعي يأكل حتى يبيض الفجر. وقال السروجي: وهو قول الجمهور وقال النووي: لو شك في طلوع الفجر جاز له الأكل والشرب والجماع حتى يتحقق الفجر قال: ولم يقل أحد بتحريمه إلا مالك فإنه حرمه، وأوجب عليه القضاء، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنان بلال وابن أم مكتوم، قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا» . رواه البخاري، ومسلم.
وعن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «تسحرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال خمسين آية» . رواه البخاري ومسلم.
1 -
فإن قيل: ما وجه تأخير السحور من أخلاق المرسلين وهو مخصوص بأهل الإسلام، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب بأكل السحور.
أجيب بجوابين آخرين أيضاً:
أحدهما: أن يقال: لا نسلم أنه لم يكن من علتهم لجواز أن يكون ونحن لا نعلم والآخر أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: ثلاث من سنن المرسلين أي ثلاث خصال لهم فلا يلزم منه أن يكون لكل واحد منهم ثلاث خصال لجواز أن يكون كل واحد منهم مخصوصاً بخصلة كما يقال للعلماء خصال حميدة في البحث، والمناظرة، والتصنيف، فلا يلزم أن تكون الكل مجتمعة في واحد ورأيت حاشية نسبت إلى شيخنا علاء الدين السيراجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهي أنه قال: الأشبه في الجواب أن يقال اللام في المرسلين للجنس إذ لا عهد فيكون من أخلاق نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن الجنس يصدق على الواحد أو يكون ذلك من خواصهم والله أعلم.
م: (إلا أنه إذ شك في الفجر) ش: فحينئذ ترك التسحر هو المستحب للاحتراز عن الوقوع في الحرام، ومع هذا لا يجب عليه ذلك كما يجيء الآن م: (ومعناه) ش: أي معنى الشك م: (تساوي الظنين الأفضل أن يدع الأكل تحرزا عن المحرم) ش:. قيل: هذه العبارة فيها مسامحة لأن الظن رجحان الاعتقاد فكيف يكون بقاء الليل عنده راجحاً على طلوع الفجر، وطلوع الفجر راجحاً على بقاء الليل والظن هو راجح، والمرجوح وهم، وإذ يساويان، ومراده بذلك تساوي الأمارتين، فالأفضل أن يدع الأكل، والشرب. م: (ولا يجب عليه ذلك) ش: أي ترك السحور وروى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجب عليه ذلك احتياطاً في أمر الدين م: (ولو أكل

(4/105)


فصومه تام، لأن الأصل هو الليل. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان في موضع لا يستبين الفجر، أو كانت الليلة مقمرة، أو متغيمة، أو كان ببصره علة، وهو يشك لا يأكل، ولو أكل فقد أساء؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وإن كان أكبر رأيه أنه أكل، والفجر طالع، فعليه قضاؤه عملا بغالب الرأي، وفيه الاحتياط، وعلى ظاهر الرواية لا قضاء عليه؛ لأن اليقين لا يزال إلا بمثله، ولو ظهر أن الفجر طالع لا كفارة عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فصومه تام لأن الأصل هو الليل) ش: أي في رواية عن مالك يبطل صومه في الفرض إذا استبان الفجر قد طلع. م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان في وضع لا يستبين الفجر، أو كانت الليلة مقمرة، أو متغيمة، أو كان ببصره علة، وهو يشك لا يأكل، ولو أكل فقد أساء) ش: رواه الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ش: قال السغناقي وتبعه الكاكي وعليه «فإن الكذب ريبة وإن الصدق طمأنينة» ولم يذكر من رواه من الصحابة ولا من خرجه من الأئمة، وأما الأترازي، والأكمل فإنهما لم يذكراه أصلاً وليس هذا من دأب الشراح وليس ذلك إلا من العجز.
قلت: هذا الحديث رواه الترمذي في كتاب الطب، والنسائي في كتاب الأشربة، عن أبي الجون السعدي، قال: قلت للحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما حفظت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حفظت منه «دع ما يريبك إلا ما لا يريبك زاد الترمذي: فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة» وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورواه الطبراني في الصغير بإسناده إلى عبد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحلال بين والحرام بين، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . انتهى قوله ما يريبك من رابه ريباً شككه، والريبة الشك والتهمة أي دع ما يشكك ويحصل فيك الريبة وهي في الأصل قلق النفس [......] سكنت واطمأنت.

م: (وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر) ش: أي والحال أن الفجر م: (طالع، فعليه قضاؤه) ش: أي قضاء ذلك اليوم م: (عملا بغالب الرأي، وفيه الاحتياط) ش: لأن قضاء ما ليس عليه أولى من قضاء ما عليه. م: (وعلى ظاهر الرواية لا قضاء عليه) ش: وفي " الإيضاح ": هو الصحيح.
م: (لأن اليقين لا يزال إلا بمثله) ش: لأن الليل هو الأصل فلا ينقل عنه إلا بيقين، وكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وجعل هذا في الكتاب ظاهر الرواية م: (ولو ظهر أن الفجر طالع لا كفارة عليه) ش: أي لو ظهر طلوع الفجر فيما إذا أكل وفي أكبر رأيه أن الفجر طالع

(4/106)


لأنه بنى الأمر على الأصل فلا تتحقق العمدية.
ولو شك في غروب الشمس لا يحل له الفطر؛ لأن الأصل هو النهار، ولو أكل فعليه القضاء عملا بالأصل، وإن كان أكبر رأيه أنه أكل قبل الغروب فعليه القضاء رواية واحدة؛ لأن النهار هو الأصل، ولو كان شاكا فيه وتبين أنها لم تغرب، ينبغي أن تجب الكفارة؛ نظرا إلى ما هو الأصل وهو النهار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا تجب عليه الكفارة م: (لأنه بنى الأمر على الأصل) ش: لأن الليل هو الأصل.
م: (فلا تتحقق العمدية) ش: أي لا يتحقق القصد على الإفطار في رمضان بظهور طلوع الفجر، فلا تجب الكفارة، وفي بعض النسخ: العمدية بفتح العين، وسكون الميم، وكسر الدال، وتشديد الياء، والأصح العمدية بضم الدال، وبه الجار والمجرور.

م: (ولو شك في غروب الشمس لا يحل له الفطر؛ لأن الأصل هو النهار، ولو أكل فعليه القضاء عملا بالأصل) ش: وهو النهار م: (وإن كان أكبر رأيه أنه أكل قبل الغروب فعليه القضاء رواية واحدة) ش: إنما قيد بقوله رواية واحدة احترازاً عما إذا كان أكل وفي أكبر رأيه أن الفجر طالع لأن في وجوب القضاء روايتين ولم يتعرض المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -[إلى] وجوب الكفارة في هذا فقال صاحب " التحفة " ليس عليه الكفارة لاحتمال قيام الغروب فتكفي شبهة خلافاً لما قال بعض الفقهاء أنه تجب عليه الكفارة لأنه متيقن بالنهار.
م: (لأن النهار هو الأصل) ش: فيجب عليه القضاء م: (ولو كان شاكاً فيه) ش: أي في غروب الشمس م: (وتبين أنها لم تغرب) ش: أي ظهر أن الشمس لم تغرب م: (ينبغي أن تجب الكفارة) ش: إنما قال: ينبغي؛ لأن في وجوب الكفارة اختلاف المشايخ.
وفي " الخلاصة ": يلزمه القضاء بالاتفاق، وفي وجوب الكفارة اختلاف، في جامع شمس الأئمة تلزمه الكفارة وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكفر.
م: (نظرا إلى ما هو الأصل هو النهار) ش: يعني بالنظر إلى ما هو الأصل وبالاعتبارية. وفي " النهاية ": يشكل على هذا ما إذا شهد اثنان أن الشمس قد غابت وشهد آخران أنها لم تغب فأفطر، ثم ظهر أنها لم تغب عليه القضاء دون الكفارة بالاتفاق، مع أن تعارض الشهادتين يورث الشك لا محالة فلا تجب الكفارة هناك بالاتفاق مع أن الشك فيه موجود فكيف وجبت هنا بالشك، والجواب: أنه لم يثبت التعارض لأن الشهادة بعدم الغروب ليست بشهادة لكونها على النفي فبقيت الشهادة بالغروب خالية عن المعارضة فتقبل فلم تجب الكفارة.
وفي " المحيط " أمر إنساناً ليطالع الفجر فأخبره بالطلوع فإن كان عدلا ًلا يجوز له الأكل حراً كان أو مملوكاً، ذكراً كان أو أنثى، وإن كان صبياً عاقلاً إن غلب على ظنه لا يأكل ولو أخبره عدل بالطلوع وعدل بعدمه حرية كانا أو عبدين أو أحدهما يتحرى ويأخذ بقول عدلين

(4/107)


ومن أكل في رمضان ناسيا، وظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا عليه القضاء دون الكفارة؛ لأن الاشتباه استند إلى القياس الشبهة، وإن بلغه الحديث وعلمه فكذلك فيظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها تجب، وكذا عنهما؛ لأنه لا اشتباه فلا شبهة. وجه الأول: قيام الشبهة الحكمية بالنظر إلى القياس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا عارضه الحران العدلان والعبدان يأخذ بقولين العدلين وإن كان يأكل فأخبره عدل واحد بالطلوع فأتم الأكل، وكذا في الجماع لا كفارة عليه عندنا خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولو كان ممسكاً فأكل بعده أو استدام الجماع كفر بالإجماع، وقال شمس الأئمة: لا بأس بالتسحر باكراً لرأي إذا لم يخف على مثله وإلا فيدع الأكل والتسحر بضرب طول المسحر إن كان من جوانب البلد، أو أحد يعتمد عدالته يجوز وإن عرف فسقه لا يعتمد عليه، وإن لم يعرف حاله يحتاط واختلف في صياح الديك.

م: (ومن أكل في رمضان) ش: حال كونه م: (ناسيا، وظن أن ذلك يفطره) ش: أي والحال أنه قد ظن أن الأكل ناسياً يفطره بضم الياء وتشديد الطاء م: (فأكل بعد ذلك متعمدا) ش: أي حال كونه قاصداً الأكل م: (فعليه القضاء دون الكفارة؛ لأن الاشتباه استند إلى القياس) ش: والقياس الصحيح يقتضي أن لا يبقى الصوم بانتفاء ركنه بالأكل ناسياً، فإذا أكل بعده لم يلاق فعله الصوم فلا تجب عليه الكفارة لتحقق الشبهة وهو معنى قوله م: (الشبهة) ش: لاستنادها إلى القياس.
م: (وإن بلغه الحديث) ش: وهو ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» م: (وعلمه) ش: أي وعلم معنى الحديث وهو أنه لا يفسده.
م: (فكذلك) ش: في رواية، أي فكذلك لا تجب عليه الكفارة في رواية عن أبي حنيفة، وهي رواية الحسن عنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها) ش: أي الكفارة م: (تجب، وكذا عنهما) ش: وكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد أن الكفارة تجب م: (لأنه لا اشتباه) ش: أي في معنى الحديث لأنه لما علم معنى الحديث علم أن القياس متروك به فلم يشتبه عليه الحال م: (فلا شبهة) ش: أي لا يبقى شبهة، وبين الشبهة المؤثرة في إسقاط الكفارة، لأن ظنه مدفوع بالحديث.
م: (وجه الأول) ش: أي وجه المذكور الأول وهو عدم وجوب الكفارة م: (قيام الشبهة الحكمية بالنظر إلى القياس) ش: أي الشرعية وهي شبهة المحل وهو الصوم لأن الشيء لا يبقى مع فوات ركنه، فتساوى في هذا الأصل العالم وغير العالم، فلا تجب الكفارة خصوصاً إذا تأيدت تلك الشبهة باختلاف العلماء، فإن عند مالك وربيعة الرأي وابن أبي ليلى يفسد صومه

(4/108)


فلا ينتفي بالعلم كوطء الأب جارية ابنه، ولو احتجم وظن أن ذلك يفطره ثم أكل متعمدا، عليه القضاء والكفارة؛ لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي إلا إذا أفتاه فقيه بالفساد؛ لأن الفتوى دليل شرعي في حقه، ولو بلغه الحديث فاعتمده، فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالأكل ناسياً، وهو اختيار محمد بن مقاتل الرازي من أصحابنا، واختلاف العلماء يورث الشبهة.
وقال المحبوبي: لا تلزمه الكفارة وإن كان عالماً لأن الشبهة تمكنت في المحل باعتبار انعدام ركن الصوم حقيقة، وفي مثل هذه الشبهة العالم يساوي الجاهل كالأب إذا وطئ جارية ابنه لا يلزمه الحد سواء علم حرمتها أو ظن أنها تحل له وهو معنى قوله:

م: (فلا ينتفي بالعلم كوطء الأب جارية ابنه) ش: يجوز فيما لا ينتفي التذكير باعتبار عود الضمير الذي فيه إلى القياس، ويجوز التأنيث باعتبار عوده إلى الشبهة والتحقيق في سقوط الحد عن الأب في الصورة المذكورة أن قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» يقتضي أن يكون مال الابن ملكاً للأب، لكن انتفى ذلك بدليل آخر فبقيت الإضافة مورثة للشبهة وهي شبهة المحل، فاستوى فيها العلم وعدمه فلم يجب الحد لاستناد الشبهة إلى الأصل.
م: (ولو احتجم وظن أن ذلك) ش: أي الاحتجام م: (يفطره ثم أكل متعمدا) ش: أي قصداً م: (عليه القضاء والكفارة لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي) ش: أي لأن ظن المحتجم ما استند إلى دليل شرعي حتى تسقط عنه الكفارة، فإن الحجامة كالفصد في خروج الدم من العرق والفصد لا يفسد وكذا الحجامة وقد صح في البخاري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم فدل هذا على أن الحجامة لا تفطر الصائم.
م: (إلا إذا أفتاه فقيه بالفساد) ش: استثناء من قوله والكفارة يعني لا تجب الكفارة على المحتجم إذا أكل بعدما أفتاه فقيه بفساد صومه بالحجامة. وقال الكاكي: فقيه من الحنابلة لأن عندهم يفطر الحاجم والمحجوم لظاهر قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» .
وقال المحبوبي: يشترط أن يكون المفتي ممن تؤخذ عنه الفتوى ويعتمد على فتواه في البلدة، ولا يعتبر بغيره، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن رستم عن محمد وبشر بن الوليد عن أبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (لأن الفتوى دليل شرعي في حقه) ش: لأن العامي يلزمه الرجوع إلى فتوى الفقيه وقد أفتاه بما اختلف الفقهاء فيه فصار ذلك عذراً في الشبهة م: (ولو بلغه الحديث) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» م: (فاعتمده) ش: أي الحديث م: (فكذلك عند محمد) ش: أي لا تجب الكفارة م: (لأن قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: [بيان] م: (لا ينزل عن قول المفتي) ش: بيان هذا أن قول

(4/109)


لأن قول الرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لا ينزل عن قول المفتي، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلاف ذلك لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث.
وإن عرف تأويله تجب الكفارة؛ لانتفاء الشبهة، وقول الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يورث الشبهة، لمخالفته القياس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المفتي بالفطر بالحجامة يكون عذراً في سقوط الكفارة، فقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي هو فرق كل قول أولى بأن يكون عذراً في عدم وجوب الكفارة.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلاف ذلك) ش: أي خلاف المذكور عن محمد، وهو ما روى ابن سماعة وبشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا أفطر المحتجم. الحديث عليه القضاء والكفارة م: (لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث) ش: يعني العامي إذا سمع حديثاً ليس له أن يأخذ بظاهره، لأنه لا يهتدي إلى معرفة أحواله، لأنه قد يكون منسوخاً أو متروكاً أو مصروفاً عن ظاهره.

م: (وإن عرف تأويله) ش: أي تأويل الحديث م: (تجب الكفارة لانتفاء الشبة) ش: حاصل المعنى أن العامي إذا بلغه الحديث وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» وعرف تأويله ولم يعتمده فأكل بعد ذلك عمداً تجب الكفارة لعدم الشبهة، وتأويله بما ذكر الطحاوي في " شرح الآثار " بإسناده إلى أبي الأشعث الصنعاني، قال: إنما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» لأنهما كانا يغتابان حتى حبط أجرهما بالغيبة فصارا كالمفطرين لا أنهما أفطرا حقيقة، والمحجوم هو معقل بن سنان، قيل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر به وجماعة معه وهما يغتابان آخر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» [أي فطره بما صنع به فوقع عند الراوي أنه قال: أفطر الحاجم المحجوم] بغير الواو على أن المحجوم مفعول فاعتمده، وهذه رواية، والرواية المشهورة بالواو على أن المحجوم عطف على الحاجم.
م: (وقول الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يورث الشبهة، لمخالفته القياس) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر بأن يقال: لا نسلم أن منشأ الشبهة ذلك وحده، بل قول الأوزاعي بذلك منشأ لها أيضاً، وقوله: إن الحجامة تفطر الصائم، وبه قال أحمد أيضاً، فأجاب بأن قول الأوزاعي لا يورث الشبهة في سقوط الكفارة لمخالفته القياس، فإن الفطر مما يدخل لا مما يخرج، لا يقال في عبارته تناقض، لأنه قال: إلا إذا أفتاه فقيه، وفتواه لا يكون إلا بقوله ثم قال، وقال الأوزاعي: لا يورث الشبهة، [وأيضاً في هذا الباب لا يكون إلا مخالفاً للقياس، فكيف تكون شبهة] من غير الأوزاعي دونه، لأنا نقول ذلك بالنسبة إلى العامي، وهذا بالنسبة إلى من عرف التأويل.
واسم الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من الأوزاع وهم بطن من همدان، وقال الواقدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان يسكن بيروت وأهله باليمامة ومات ببيروت سنة

(4/110)


ولو أكل بعد ما اغتاب متعمدا فعليه القضاء والكفارة كيفما كان؛ لأن الفطر يخالف القياس، والحديث مؤول بالإجماع وإذا جومعت النائمة، أو المجنونة وهي صائمة عليها القضاء دون الكفارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سبع وخمسين ومائة وهو يومئذ ابن اثنين وسبعين سنة.

م: (ولو أكل بعد ما اغتاب متعمدا فعليه القضاء والكفارة كيفما كان) ش: يعني سواء ظن أن الغيبة فطرته أو استفتى فقيهاً فأفتاه بفساد صومه بالغيبة أو تأول الحديث بأنها تفطره فأكل بعد ذلك عمداً يجب عليه القضاء والكفارة.
م: (لأن الفطر) ش: يعني بالغيبة م: (يخالف القياس) ش: لأن القياس يأبى ذلك م: (والحديث) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الغيبة تفطر الصائم» كذا قاله الأترازي، وقال الكاكي: هو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ثلاث يفطرن الصائم وتنقض الوضوء ويهدمن العقل، الغيبة والنميمة والنظر إلى محاسن المرأة " ولنبين الآن حال هذين الحديثين م: (مؤول بالإجماع) ش: تأويله بأن المراد به ذهاب الثواب، فلم يوجد الدليل النافي للحرمة في ذاته فلا يكون شبهة، بخلاف حديث الحجامة، فإن بعض العلماء أخذ بظاهره من غير تأويل.
وذكر شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الترمذي " قد اختلف العلماء في الحجامة والفصد للصائم، فذهب من الصحابة أبو موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب، ومن العلماء عطاء والأوزاعي وابن المبارك وأحمد وإسحاق وعبد الرحمن بن مهدي وابن المنذر وابن خزيمة من الشافعية وداود الظاهري إلى أنه تفطر الصائم.
قلت: وردت أحاديث في كون الغيبة مفطرة للصائم كلها مدخولة، فإن الحديث الأول أخرجه إسحاق بن راهويه في " مسنده " من حديث يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس بن مالك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اغتاب الصائم فقد أفطر» " والحديث الثاني رواه ابن الجوزي عن أنس أيضاً مرفوعاً، ولفظه: «خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء الكذب والنميمة والغيبة والنظر بشهوة واليمين الكاذبة» ، ثم قال: هذا حديث موضوع.
م: (وإذا جومعت النائمة، أو المجنونة وهي صائمة عليها القضاء دون الكفارة) ش: أما صوم النائمة فظاهر، وأما صوم المجنونة فقد تكلموا في صحته، لأنها لا تجامع المجنون. وحكي عن أبي سليمان الجوزجاني أنه قال: لما قرأت هذه المسألة على محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قلت: كيف تكون المجنونة صائمة، فقال لي: دع هذه، فإنها انتشرت في الآفاق. ومن المشايخ من قال: كأنه كانت في الأصل مجبورة فظن الكاتب أنها مجنونة ولهذا قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دع.

(4/111)


وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا قضاء عليهما اعتبارا بالناسي، والعذر هنا أبلغ لعدم القصد. ولنا أن النسيان يغلب وجوده، وهذا نادر، ولا تجب الكفارة لانعدام الجناية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأكثر المشايخ: قالوا: تأويله أن العاقلة نوت الصوم ثم جنت في بعض النهار ونامت ثم جامعها ثم أفاقت بعد ذلك واستيقظت وعلمت بفعل الزوج فعليها القضاء والكفارة، كذا في " جامع الأسبيجابي والمحبوبي "، وفي " الفوائد الظهيرية " عن يحيى بن أبان أنه قال: قلت لمحمد هذه مجنونة فقال: لا بل مجبورة، أي المكرهة، فقلت: إلا تجعلها مجبورة، فقال: بلى ثم قال: وكيف وقد سارت بها الركبان؟ دعوها، وبقولنا قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أحمد: لو جومعت المجبورة يبطل صومه وتجب الكفارة، ولو أكره بالأكل لا يبطل صومه.
م: (وقال زفر والشافعي لا قضاء عليهما) ش: أي على النائمة والمجنونة المذكورتين م: (اعتبارا بالناسي) ش: أي يعتبران اعتبار الناسي م: (والعذر هنا أبلغ) ش: أي العذر في النوم والجنون أبلغ من العذر في النسيان، لأن الناسي قاصد للأكل والنائمة والمجنونة لا قصد منهما أصلاً وهو معنى قوله: م: (لعدم القصد) ش: فيهما لأن الجماع في قصد الناسي بغفلة بخلاف النائمة والمجنونة.
م: (ولنا أن النسيان يغلب وجوده) ش: فيفضي إلى الحرج ولا يصح الجماع بالناسي م: (وهذا) ش: أي جماع النائمة والمجنونة م: (نادر) ش: فالقضاء لا يفضي إلى الحرج م: (ولا تجب الكفارة لانعدام الجناية) ش: لعدم القصد، وبقول زفر والشافعي - رحمهما الله - قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وأبو ثور، وعلى هذا الخلاف إذا صب الماء [في] حلق الصائم.

(4/112)


فصل فيما يوجبه على نفسه وإذا قال: لله علي صوم يوم النحر أفطر، وقضى، فهذا النذر صحيح عندنا خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله - هما يقولان: إنه نذر بما هو معصية؛ لورود النهي عن صوم هذه الأيام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل فيما يوجبه على نفسه من الصيام] [حكم نذر صيام يوم النحر]
م: (فصل فيما يوجبه على نفسه) ش: أي هذا فصل في بيان حكم ما يوجبه الشخص على نفسه، ولما فرغ من بيان ما يوجبه الله تعالى شرع في بيان ما يوجبه العباد على أنفسهم، إذ إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وفي " النهاية " و " الأصل " ما ذكره شيخي أن النذر لا يصح إلا بثلاث شرائط في الأصل إلا إذا قام الدليل على خلافه، أحدها: أن يكون الواجب من جنس ما أوجبه الله تعالى. والثاني: أن يكون مقصوداً لا وسيلة، والثالث: أن لا يكون واجبا عليه في الحال أو بيان الحال، فلذلك لا يصح النذر بعيادة المريض لانعدام الشرط الأول، ولا بالضوء وسجدة التلاوة لانعدام الشرط الثاني، ولا بصلاة الظهر وغيرها من المفروضات لانعدام الشرط الثالث.
فإن قلت: يشكل على هذا النذر بالحج ماشياً. والاعتكاف وإعتاق الرقبة حيث تجب هذه الأشياء بالنذر، مع أن الحج بصفة المشي غير واجب شرعاً، وكذلك نفس الاعتكاف من غير مباشرة بسبب يوجب الاعتكاف غير واجب وكذلك الإعتاق.
قلت: هذه الصور من المستثنى الذي قام الدليل على وجوبه، بخلاف القياس.
م: (وإذا قال: لله علي صوم يوم النحر أفطر) ش: لأن الصوم فيه منهي عنه م: (وقضى) ش: لأن مشروعية الصوم لا تفصل بين صوم وصوم، فالصوم في ذاته عبادة، لأن فيه إظهار الخضوع لله عز وجل وتعظيمه، ولكن تعلق بصوم هذا اليوم نهي يجب امتثاله م: (فهذا النذر صحيح عندنا) ش: لكونه نذراً بما هو مشروع فيجب القضاء صيانة له م: (خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله -) ش: ومالك وأحمد وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابن المبارك عنه، وقال مالك لو نذر صوم يوم قدوم فلان، فقدم يوم العيد، قال ابن عبد الملك يقضيه وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرة.
م: (هما) ش: أي زفر والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - م: (يقولان إنه نذر) ش: أي هذا نذر م: (بما هو معصية لورود النهي عن صوم هذه الأيام) ش: وهو يوم العيدين وأيام التشريق، وأشار بهذا إلى حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه البخاري ومسلم «عن عبيد قال: شهدت العيد مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام هذين اليومين، وأما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم» .

(4/113)


ولنا: أنه نذر بصوم مشروع، والنهي لغيره؛ وهو ترك إجابة دعوة الله تعالى فيصح نذره، لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاورة، ثم يقضي إسقاطا للواجب، وإن صام فيه يخرج عن العهدة؛ لأنه أداه كما التزمه. وإن نوى يمينا فعليه كفارة يمين، يعني إذا أفطر. وهذه المسألة على وجوه ستة: إن لم ينو شيئا. أو نوى النذر لا غير. أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا يكون نذرا؛ لأنه نذر بصيغته، كيف وقد قرره بعزيمته. وإن نوى اليمين، ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا؛ لأن اليمين محتمل كلامه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا: أنه نذر بصوم مشروع) ش: بالنظر إلى نفس الصوم، ولكن اقترن به النهي م: (والنهي لغيره) ش: أي لمعنى في غيره م: (وهو ترك إجابة دعوة الله تعالى) ش: لأن الناس أضياف الله تعالى في هذه الأيام م: (فيصح نذره) ش: لأن النهي لغيره لا يمنع صحة من حيث ذاته م: (لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاورة) ش: وهي النهي المذكور م: (ثم يقضي إسقاطا للواجب) ش: أي لأجل إسقاط الواجب وهو النذر.
م: (وإن صام فيه) ش: أي في يوم النحر م: (يخرج عن العهدة) ش: أي عهدة النذر م: (لأنه أداه كما التزمه) ش: كما أنه إذا نذر أن يصلي عند طلوع الشمس فله أن يصلي في وقت آخر، فإذا صلى في ذلك الوقت خرج عن عهدته لأنه أداه كما التزمه.
م: (وإن نوى يميناً) ش: يعني إن نوى يميناً في قوله لله علي صوم يوم النحر م: (فعليه كفارة يمين يعني إذا أفطر) ش: الفرق بين النذر واليمين أن في النذر يلزمه القضاء دون الكفارة، وفي اليمين تجب الكفارة دون القضاء م: (وهذه المسألة على وجوه ستة) ش:
الأول: هو قوله م: (إن لم ينو شيئا) ش: يعني قال لله علي صوم يوم النحر ولم ينو لا نذراً ولا يميناً.
م: (أو نوى النذر لا غير) ش: يعني لم ينو اليمين، هذا هو الثاني من الوجوه الستة.
م: (أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا) ش: هذا هو الثالث م: (يكون نذرا) ش: يعني في هذه الوجوه الثلاثة م: (لأنه نذر بصيغته) ش: فتعين النذر في الوجه الأول بلا نية لكونه حقيقة كلام. وفي الوجه الثاني تعين بطريق الأولى، لأنه قد أدى النذر بعزيمة. وفي الثالث أولى وأحرى لكونه مراداً، لأنه قدر النذر بعزيمته، وبقي غيره أن يكون مراداً م: (كيف وقد قرره بعزيمته) ش: أي وكيف لا يكون نذراً والحال أنه قد قرر كلامه بعزيمته أي بنيته.
[م: (وإن نوى اليمين، ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا) ش: هذا هو] م: (لأن اليمين محتمل كلامه) ش: لأن اللام تجيء بمعنى الباء كقوله تعالى: {آمنتم له} [طه: 71] أي به، ألا ترى إلى قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دخل آدم الجنة، فلله ما غربت الشمس حتى خرج أي

(4/114)


وقد عينه، ونفى غيره. وإن نواهما يكون نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون نذرا. ولو نوى اليمين فكذلك عندهما، وعنده يكون يمينا. لأبي يوسف أن النذر فيه حقيقة، واليمين مجاز حتى لا يتوقف الأول على النية، ويتوقف الثاني فلا ينتظمهما، ثم المجاز يتعين بنيته، وعند نيتهما تترجح الحقيقة، ولهما أنه لا تنافي بين الجهتين؛ لأنهما يقتضيان الوجوب إلا أن النذر يقتضيه لعينه واليمين لغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فبالله
م: (وقد عينه) ش: أي وقد عين المحتمل بنيته ونفى غيره فصار المحتمل هو المراد م: (ونفى غيره) ش: فلم يلزمه حيث نفاه.
م: (وإن نواهما) ش: هذا هو الوجه الخامس، أي وإن نوى النذر واليمين م: (يكون نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -) ش: حتى لو لم يصم يجب القضاء والكفارة، القضاء باعتبار النذر، والكفارة باعتبار اليمين م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون نذرا) ش: كما يجيء دليله فيه.
م: (ولو نوى اليمين) ش: هو الوجه السادس، أي ولو نوى اليمين فقط في المسألة المذكورة م: (فكذلك) ش: أي فكذلك يكون نذراً ويميناً كما في الوجه الخامس م: (عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -.
م: (وعنده) ش: أي وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يكون يمينا. لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن النذر فيه) ش: أي في قوله " لله علي صوم يوم النحر " يراد به م: (حقيقة) ش: لعدم توقفه على النية م: (واليمين) ش: أي وأراد اليمين م: (مجاز حتى لا يتوقف الأول) ش: أي النذر م: (على النية، ويتوقف الثاني) ش: أي اليمين م: (على النية فلا ينتظمها) ش: أي فلا ينتظم كلامه النذر واليمين معاً، لأنه يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز بلفظ واحد وهو لا يجوز، وذلك كما في قوله لامرأته أنت علي حرام، إن ونوى به الطلاق كان طلاقاً، وإن نوى به اليمين كان يميناً فلا يجتمعان.
م: (ثم المجاز يتعين بنيته) ش: أراد أنه إذا أراد المجاز بتعيين بنيته وتبطل الحقيقة حينئذ لامتناع الجمع بينهما م: (وعند نيتهما) ش: أي وعند نية النذر واليمين معاً م: (تترجح الحقيقة) ش: وهذا النذر فلا يكون المجاز مراداً، فإذا نوى اليمين تعين المجاز بنيته فلا تكون الحقيقة مراده.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه لا تنافي بين الجهتين) ش: أي بين جهة النذر وجهة اليمين م: (لأنهما) ش: أي لأن الجهتين م: (يقتضيان الوجوب) ش: أراد أن كلاً منهما يقتضي الوجوب في ذاته، لكن يختلف من حيث الجهة أشار إليه بقوله: م: (إلا أن النذر يقتضيه) ش: أي يقتضي الوجوب م: (لعينه) ش: ولهذا يجب القضاء بتركه م: (واليمين لغيره) ش: أي يقتضي اليمين الوجوب لغيره وهو صيانة اسم الله عز وجل عن الهتك، ولهذا لا يجب القضاء بل تجب الكفارة، ويجوز أن يكون الشيء واجباً لعينه وواجباً لغيره، كما إذا حلف

(4/115)


فجمعنا بينهما عملا بالدليلين، كما جمعنا بين جهتي التبرع والمعاوضة في الهبة بشرط العوض. ولو قال: لله علي صوم هذه السنة أفطر يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق وقضاها؛ لأن النذر بالسنة المعينة نذر بهذه الأيام، وكذا إذا لم يعين لكنه شرط التتابع؛ لأن المتابعة لا تعرى عنها لكن يقضيها في هذا الفصل موصولا تحقيقا للتتابع بقدر الإمكان،
ويتأتى في هذا خلاف زفر، والشافعي - رحمهما الله - للنهي عن الصوم فيها، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ألا لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأصلين ظهر هذا اليوم في الوقت فيجب أداء الظهر لعينه ولغيره، حتى يجب القضاء باعتبار وجوب عينه. والكفارة باعتبار وجوب غيره، ولا يسمى هذا مجازاً، ولكل واحد من هذا دليل شرعي يجب العمل به إذا أمكن، والعمل هنا يمكن لعدم التنافي بينهما.

م: (فجمعنا بينهما) ش: أي بين النذر واليمين م: (عملا بالدليلين) ش: اللذين نشأ أحدهما من النذر والآخر من اليمين، يعني نشأ من جهتهما م: (كما جمعنا بين جهتي التبرع والمعاوضة في الهبة بشرط العوض) ش: حيث جعل هبة في الابتداء للفظ الهبة وبيعاً في الانتهاء لدلالة المعاوضة ولهذا يصح الرجوع قبل القبض اعتبارا ًللتبرع وثبتت الشفعة بعد القبض اعتباراً بالبيع، فلم يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لاختلاف الجهة، فكذا فيما نحن فيه.
م: (ولو قال: لله علي صوم هذه السنة أفطر يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق) ش: وهي ثلاثة أيام بعد عيد النحر م: (وقضاها) ش: أي الأيام الخمسة م: (لأن النذر بالسنة المعينة نذر بهذه الأيام) ش: أي لأن السنة لا تخلو عن هذه الأيام، وصار نذراً لسنة معينة نذراً لهذه الأيام، والنذر بالأيام المنهية صحيح عندنا، لأن النهي لا يعدم المشروعية ولم يجب قضاء رمضان، لأن صومه لم يجب بهذا النذر.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يفطر الأيام الخمسة وقضاها م: (إذا لم يعين) ش: السنة يعني لم يقل هذه السنة، بل قال لله علي صوم سنة م: (لكنه شرط) ش: أي لكن الناذر شرط م: (التتابع) ش: بأن قال: صوم سنة متتابعة م: (لأن المتابعة لا تعرى عنها) ش: أي عن الأيام الخمسة المذكورة م: (لكن يقضيها) ش: أي لكن يقضي هذه السنة المذكورة م: (في هذا الفصل موصولاً) ش: أي قضاء موصولاً بانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف م: (تحقيقا للتتابع بقدر الإمكان) ش: أي لأجل تحقيق التتابع، وإن لم يشترط التتابع لم يجزه صوم هذه الأيام ويقضي خمسة وثلاثين يوماً، خمسة للأيام الخمسة، وثلاثين لرمضان، ومبنى جواز هذه الأيام وعدم جوازه إنما وجب كاملاً لا يتأدى ناقصاً وما وجب ناقصاً جاز أن يتأدى ناقصاً.

م: (ويتأتى) ش: [ويتأدى] م: (في هذا) ش: أي في قضاء صوم هذه الأيام م: (خلاف زفر، والشافعي - رحمهما الله -) ش: يعني لا تقضى عندهما م: (للنهي عن الصوم فيها، وهو) ش: أي النهي هو م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «ألا لا تصوموا في هذه الأيام

(4/116)


تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب، وبعال» وقد بينا الوجه فيه، والعذر عنه ولو لم يشترط التتابع لم يجزه صوم هذه الأيام؛ لأن الأصل فيما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنها أيام أكل وشرب وبعال» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه الطبراني في " معجمه " عن عكرمة عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أرسل أيام منى صائحاً يصيح: ألا لا تصوموا هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وبعال» والبعال وقاع النساء.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه الدارقطني في " سننه " في الضحايا عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى ألا إن الذكاة في الحلق واللبة. ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال» . وفي سنده سعيد بن سلام رماه أحمد بالكذب.
وعن عبد الله بن حذافة أخرجه الدارقطني أيضاً بسند الواقدي «قال ابن حذافة بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته أيام منى أنادي أيها الناس إنها أيام أكل وشرب وبعال» . وقال الدارقطني: الواقدي ضعيف.
قلت: لا يلتفت إليه في هذا.
وعن أم خلدة الأنصارية رواه إسحاق بن راهويه في " مسنده «عن عمر بن خلدة عن أمه قالت بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علينا مناديا ينادي أيام منى إنها أيام أكل وشرب وبعال، يعني النكاح» .
وعن زيد بن خالد الجهني رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " بإسناده عنه قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً فنادى أيام التشريق ألا إن هذه الأيام أيام أكل وشرب ونكاح» .
وعن نبيشة الهذلي رواه مسلم في " صحيحه " عنه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيام التشريق أيام أكل وشرب» ، زاد في طريق: " وذكر الله ". وقال المنذري: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة مع كثرة طرقها منها ما هو مقصور على الأكل والشرب، ومنها ما هو فيه وذكر الله، ومنها ما فيه وصلاة، وليس في شيء منها وبعال، وهو لفظ غريب.
م: (وقد بينا الوجه فيه) ش: أي في قوله " لله علي صوم يوم النحر " م: (والعذر عنه) ش: أي وبينا العذر عنه، أي عن وجه النهي، وهو ما ذكره في أول الفصل بقوله " ولنا أنه نذر بصوم مشروع والنهي لغيره " وأراد بالعذر الجواب عنه.
م: (ولو لم يشترط التتابع) ش: أي ولو لم يشترط الناذر التتابع في قوله " لله علي صوم سنة " ولم يذكر متابعة م: (لم يجزه صوم هذه الأيام) ش: يعني الأيام الخمسة المذكورة م: (لأن الأصل فيما

(4/117)


يلتزمه الكمال، والمؤدى ناقض لمكان النهي، بخلاف ما إذا عينها؛ لأنه التزم بوصف النقصان، فيكون الأداء بالوصف الملتزم. قال: وعليه كفارة يمين، إن أراد به يمينا، وقد سبقت وجوهه. ومن أصبح يوم النحر صائما ثم أفطر لا شيء عليه، وعن أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - في " النوادر ": أن عليه القضاء؛ لأن الشروع ملزم كالنذر، وصار كالشروع في الصلاة في الوقت المكروه، والفرق لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو ظاهر الرواية أن بنفس الشروع في الصوم يسمى صائما، حتى يحنث به الحالف على الصوم فيصير مرتكبا للنهي، فيجب إبطاله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يلتزمه الكمال) ش: فلا يتأدى بالنقص لأن ما وجب كاملاً لا يتأدى بالناقص م: (والمؤدى) ش: بفتح الدال م: (ناقض لمكان النهي) ش: فيه بالحديث المذكور.
م: (بخلاف ما إذا عينها) ش: متصل بقوله " لم يجزه صوم هذه الأيام " يعني بخلاف ما إذا عين السنة بأن قال لله علي صوم هذه السنة حيث يجوز صوم هذه الأيام فيه م: (لأنه التزم بوصف النقصان فيكون الأداء بالوصف الملتزم) ش: بفتح الزاي، لأن ما وجب ناقصاً يتأدى بناقص.
م: (قال: وعليه) ش: أي على الناذر المذكور م: (كفارة يمين، إن أراد به يمينا) ش: لأن كلامه يحتمله وقد سبق وجهه أي وجه هذا عند قوله " لله علي صوم يوم النحر " وفي بعض النسخ وقد سبق وجهه من قبل، وفي بعضها م: (وقد سبقت وجوهه) ش: وكذا هو في نسخة الأترازي، وفسره بقوله أي وجوه ما إذا قال لله علي صوم هذه السنة عند قوله " لله علي صوم يوم النحر " وأراد بها الوجوه الستة المذكورة.

م: (ومن أصبح يوم النحر صائما ثم أفطر لا شيء عليه) ش: أي لا قضاء عليه، لأن القضاء إنما يبنى على سلامة الموجب عن شائبة الحرمة، والصوم في يوم النحر حرام، فلا يجب شيء.
م: (وعن أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - في " النوادر ": أن عليه القضاء؛ لأن الشروع لزوم كالنذر) ش: يعني قياساً على النذر بصوم هذه الأيام م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كالشروع في الصلاة في الوقت المكروه) ش: مثل وقت طلوع الشمس ووقت الزوال ووقت الغروب حيث يجب القضاء فيها إذا أفسدها.
م: (والفرق لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني بين النذر بصوم يوم النحر، وبين الشروع في الوقت المكروه في الأوقات المكروهة م: (وهو ظاهر الرواية) ش: أي عن أصحابنا، كذا قال الأترازي: والأولى أن يقال وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف، ومحمد، وهذه جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، أعني قوله: - والفرق - مبتدأ وخبره هو قوله م: (أن بنفس الشروع في الصوم يسمى صائما) ش: يعني يصح إطلاق اسم الصائم عليه م: (حتى يحنث به الحالف على الصوم) ش: فيما إذا حلف أنه لا يصوم، فصام يوم النحر م: (فيصير مرتكبا للنهي) ش: يبقى النذر الوارد فيه م: (فيجب إبطاله) ش: لأجل النهي.

(4/118)


فلا تجب صيانته، ووجوب القضاء يبتني عليه ولا يصير مرتكبا للنهي بنفس النذر، وهو الموجب ولا بنفس الشروع في الصلاة حتى يتم ركعة، ولهذا لا يحنث به الحالف على الصلاة فتجب صيانة المؤدى، ويكون مضمونا بالقضاء،
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب القضاء في فصل الصلاة أيضا، والأظهر هو الأول، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلا تجب صيانته) ش: لكونه معصية.
م: (ووجوب القضاء يبتني عليه) ش: أي على وجوب صيانة المؤدي م: (ولا يصير مرتكبا للنهي بنفس النذر، وهو الموجب) ش: أي النذر هو الموجب لأنه إيجاب في الذمة، وهو أمر عقلي وجاز للعقل أن مجرد الأصل عن الوصف فلم يكن مرتكباً للنهي م: (ولا بنفس الشروع) ش: أي ولا يصير أيضاً مرتكباً بنفس الشروع م: (في الصلاة حتى يتم ركعة) ش: لأن الشروع في الصلاة ليس بصلاة، لأن تمامها بالركوع والسجود.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون نفس الشروع لا يسمى صلاة م: (لا يحنث به الحالف على الصلاة) ش: أي لا يحنث الحالف بالشروع إذا حلف على أن لا يصلي ما لم يركع ويسجد، فإذا ركع وسجد صارت ركعة فيحنث بها حينئذ م: (فتجب صيانة المؤدى) ش: يعني لما كان شروع فيها صحيحاً يجب عليه صون المؤدى م: (ويكون مضمونا بالقضاء) ش: هذا هو المشهور عن أصحابنا.

م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب القضاء في فصل الصلاة أيضاً) ش: يعني إذا دخل في الصلاة عند الزوال ثم أفسدها لا يجب عليه القضاء لأنه ممنوع عن الدخول، وما بعدها مبني عليه م: (والأظهر) ش: أي الأظهر والأشهر من الرواية عن أصحابنا م: (هو الأول) ش: أي المذكور الأول، وهو وجوب القضاء بالشروع في الصلاة في الأوقات الثلاثة إذا أفسدها.
واعلم أن في الوقت لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجوهاً أخرى غير الذي ذكر المصنف.
الأول: أن الشروع في الصلاة بالتكبير للافتتاح وهي ليست من الصلاة عندنا فحصل الشروع بها ولا نهي بخلاف الصوم.
الثاني: أن الصلاة وجوبها بالقول كالنذر بخلاف الشروع في الصوم، فإنه بالنية.
الثالث: أن الصلاة لزومها بالقول والنية بإيجاب الصوم بالنية وحدها، فكان الأول أقوى فلا يلزم من ضمان الأقوى ضمان الأضعف.
الرابع: أن الصوم لا يمكنه فعله إلا على وجه المعصية، والصلاة يمكن أداؤها على غير وجه المعصية، بأن يصبر حتى يخرج وقت الكراهة فيؤديها، على وجه الاستحسان، وكذا لا يكون مرتكباً للنهي بنفس النذر، مع أن النذر ممنوع في رواية أبي يوسف وعبد الله بن المبارك عن

(4/119)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ذكرها في " البدائع " وغيره.
وفي " شرح التكملة ": شرع في صوم يوم النحر ثم أفسده لم يقضه. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه القضاء، ولم يذكر خلافاً لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " العيون " جعل قول محمد مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والخلاف لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: يجوز التطوع بالصوم ممن عليه صوم رمضان، وبه قال أهل العلم، وقال أحمد: لا يجوز ممن عليه صوم يوم فرض لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من صام تطوعاً وعليه شيء من رمضان لم يقضه، فإنه لا يقبل منه حتى يصومه» . وفي سنده ابن لهيعة [ ... ] الحال.
وعن أحمد: أنه يجوز مثل قول الجمهور لا بأس بقضاء رمضان في أيام العشر غير يوم العيد، وهو قول سعيد بن المسيب، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وروي استحبابه، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورويت كراهته، عن علي، والحسن والزهري، وهو رواية عن أحمد.
وفي " المبسوط ": تبع جوازه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أراد أن يقول لله علي صوم يوم، فجرى على لسانه شهر لزمه شهر، ولو قال لله علي صوم آخر يوم من أول الشهر وأول يوم من آخره يلزمه الخامس عشر والسادس عشر، ولو نذر صوم يوم غد أو نوى كل ما دار الغد لا تصح نيته.
ولو قال: صوم يوم ونوى صوم كل ما دار يوم صحت، ذكره في " جوامع الفقه ": ولو قال صوم الجمعة يلزمه صوم يوم الجمعة لا غير، إلا إذا نوى أيام الأسبوع. وإن نكر الجمعة لزمه الأسبوع كله.
ولو قال لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم ليلاً لا يلزمه شيء، لأن اليوم اسم للبياض، وكذا إن قدم بعد الأكل نهاراً أو الحيض، وعن أبي يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقضيه، وإن قدم بعد الزوال فلا رواية فيه. وقال السرخسي: الأظهر التسوية بينهما وإن قدم قبل الزوال صامه لبقاء وقت النية.
وفي " الواقعات ": قال: لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان شكراً لله تعالى، وأراد به اليمين فقدم في يوم رمضان عليه كفارة يمين، ولا قضاء عليه، ولو قال: لله علي أن أصوم الأبد فضعف عن الصوم، لأجل اشتغاله بالمعيشة له أن يفطر، ويطعم.

(4/120)