البناية شرح الهداية

باب الاعتكاف قال: الاعتكاف مستحب والصحيح أنه سنة مؤكدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واظب عليه في العشر الأواخر من رمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الاعتكاف] [حكم الاعتكاف] [أركان الاعتكاف وشروطه]
م: (باب الاعتكاف) ش: أي هذا باب في بيان كذا أخره عن الصوم، لأنه شرطه والشرط مقدم طبعاً فيقدم وضعاً، والاعتكاف افتعال من عكف، وهو متعد، فمصدره العكف ولازم فمصدره العكوف والمتعدي بمعنى الحبس والمنع، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا} [الفتح: 25] [الفتح: آية 25] ومنه الاعتكاف في المسجد؛ لأنه حبس النفس ومنه اللازم الإقبال على الشيء بطريق المواظبة ومنه قَوْله تَعَالَى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] [الأعراف: آية 138] ، وهو من ضرب ومن باب طلب، يعني يجوز في مضارعه كسر عين الفعل، وضمها.
وفي الشرع: الاعتكاف هو اللبث في المسجد مع النية، وفي " النهاية " تفسيره شريعة هو اللبث والقرار في المسجد مع نية الاعتكاف، فكان الشرعي مبنياً على التقدير اللغوي مع زيادة اشتراط المسجد وصفته أنه سنة، وركنه هو تفسيره شريعة، وشرطه الصوم ومسجد الجماعة، ومنه الاعتكاف في حق الرجال، وإن كان يجوز للمرأة أن تعتكف في مسجد الجماعة والأفضل لها مسجد بيتها.
وسببه إن كان واجباً فالنذر، وإن كان تطوعاً فالنشاط الداعي إلى طلب الثواب. وحكمه إن كان واجباً ما هو حكم سائر الواجبات وإن كان نفلاً ما هو حكم سائر النوافل، ونقيضه الخروج من المسجد إلا لحاجة لازمة طبعاً أو شرعاً.
ومحظوراته الجماع، ودواعيه، وآدابه أن لا يتكلم إلا بخير، وأن يلازم الاعتكاف عشرين رمضان وأن يختار أفضل المساجد كالمسجد الحرام، والمسجد الجامع.
م: (الاعتكاف مستحب) ش: وفي " المبسوط " قربة مشروعة، وعن بعض المالكية هو جائز.
وقال أبو بكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " عارضة الأحوذي ": قول أصحابنا جائز جهل منهم يعني المالكية م: (والصحيح أنه سنة مؤكدة) ش: وكذا ذكره في " المحيط "، و " البدائع "، و " التحفة " وقوله: والصحيح احتراز، عن قول القدوري أنه مستحب.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واظب عليه في العشر الأواخر من رمضان) ش: هذا أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر

(4/121)


والمواظبة دليل السنة قال: وهو اللبث في المسجد مع الصوم، ونية الاعتكاف، أما اللبث فركنه؛ لأنه ينبئ عنه، فكان وجوده به، والصوم من شرطه عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
والنية شرط في سائر العبادات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأواخر من رمضان، حتى قبضه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده» . إلا ابن ماجه، فإنه أخرجه عن أبي بن كعب قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف الشعر الأواخر من رمضان فسافر عاماً، فلما كان في العام القابل اعتكف عشرين يوماً» .
وأخرجه أبو داود والنسائي أيضاً، ولفظهما ولم يعتكف عاماً م: (والمواظبة دليل السنة) ش: قيل: المواظبة دليل الوجوب.
وأجيب: بأن المواظبة دليل السنة المؤكدة، وهي في قوة الوجوب، والأحسن أن يقال بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم ينكر على من تركه، ولو كان واجباً لأنكر، وكأن المواظبة بلا ترك معارضة بترك الإنكار، وذكر في " المبسوط "، و " البدائع " أن الزهري قال: عجباً من الناس كيف تركوا الاعتكاف ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل الشيء ويتركه، [....] الاعتكاف حتى قبض - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، قيل في جوابه إن أكثر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يعتكفوا.
قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يبلغني أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن المسيب ولا أحدا من سلف هذه الأمة اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأراهم تركوه لشدته، لأن ليله ونهاره سواء.
وقال في " المجموعة ": تركوه لأنه مكروه في حقهم إذ هو كالوصال المنهي عنه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وهو اللبث في المسجد مع الصوم، ونية الاعتكاف، أمما اللبث فركنه؛ لأنه ينبئ عنه) ش: أي لأن الاعتكاف يخبر عن اللبث م: (فكان وجوده به) ش: أي فكان وجود الاعتكاف باللبث م: (والصوم من شرطه عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي الصوم الواجب من شرطه، وهو مذهب علي، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد والقاسم بن محمد ونافع وابن المسيب والأوزاعي والزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وبه قال مالك، والثوري، والحسن بن حي والشافعي في " القديم ".
وقال الشافعي وأحمد: ليس بشرط، وبه قال داود وأبو ثور، لا في الواجب ولا في النفل، وهو قول عبد الله بن مسعود وطاووس وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

م: (والنية شرط في سائر العبادات) ش: يعني في كل العبادات لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

(4/122)


هو يقول: إن الصوم عبادة، وهو أصل بنفسه، فلا يكون شرطا لغيره. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا اعتكاف إلا بالصوم» . والقياس في مقابلة النص المنقول غير مقبول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«الأعمال بالنيات» م: (هو) ش: أي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (يقول: إن الصوم عبادة، وهو أصل بنفسه، فلا يكون شرطا لغيره) ش: وبه قال أحمد في رواية، وهو مذهب ابن مسعود، كما قلنا، فالقياس مع الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأن كونه شرطاً يقتضي أن يكون تبعاً، وبين الأصل والتبع منافاة، ولكنا تركنا القياس استحساناً بالحديث الذي أشار إليه بقوله: م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا اعتكاف إلا بالصوم» ش: هذا الحديث رواه الدارقطني ثم البيهقي من حديث عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا اعتكاف إلا بالصوم» ، وفيه سويد بن عبد العزيز.
قال الدارقطني: تفرد به وقال البيهقي: وسويد ضعيف لا يقبل ما تفرد به، وقد روي عن عطاء، عن عائشة موقوفاً.
قلت: روى أبو داود في " سننه " عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا ما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع..
وقال المنذري في " مختصره ": وعبد الرحمن بن إسحاق أخرج له مسلم، ووثقه ابن معين وغيره، ورواه البيهقي في " شعب الإيمان "، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب به، وفيه قالت: السنة في المعتكف أن يصوم، وقال: أخرجاه في " الصحيح " وروى قوله: - والسنة في المعتكف ... إلخ، فقد قيل: إنه من قول عروة.
وروى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوماً عند الكعبة، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اعتكف وصم» ".
م: (والقياس في مقابلة النص المنقول غير مقبول) ش: هذا ظاهر، ولكن فيه بحث من وجهين.

(4/123)


ثم الصوم شرط لصحة الواجب منه رواية واحدة، ولصحة التطوع فيما روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لظاهر ما روينا، وعلى هذه الرواية لا يكون أقل من يوم، وفي رواية الأصل وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقله ساعة، فيكون من غير صوم لأن مبنى النفل على المساهلة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أن الله تعالى شرع الاعتكاف مطلقاً بقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: آية 187] ، فاشتراط الصوم زيادة عليه بخبر الواحد وهو نسخ لا يجوز.
والثاني: الاعتكاف يتحقق في الليالي، والصوم فيها غير مشروع، وفي ذلك تحقق المشروط دون الشرط وهو باطل، فدل أنه ليس بشرط.
والجواب عن الأول: بأن الإمساك عن الجماع ثبت شرطاً لصحة الاعتكاف بهذا النص القطعي، وهو أحد ركني الصوم فألحق به، والركن الآخر وهو الإمساك عن شهوة البطن بالدلالة لاستوائهما في الحظر والإباحة، كما ألحق الجماع بالأكل والشرب ناسياً في حق بقاء الصوم بالدلالة لهذا المعنى، ثم لما ثبت وجوب الإمساك على المعتكف عن الشهوتين لله تعالى كان صوماً.
والثاني: بأن الشرط إنما يثبت بحسب الإمكان فإن المرأة عليها صوم الشهر متتابعاً ثم ينقطع التتابع بعذر الحيض، والصوم في الليالي غير ممكن.

م: (ثم الصوم شرط) ش: يعني عندنا م: (لصحة الواجب منه) ش: أي من الاعتكاف، والواجب أن يقول: لله علي أن أعتكف يوماً أو شهراً أو يعلقه بشرط فيقول إن شفى الله مريضي، والاعتكاف النفل أن يشرع فيه من غير إجابة بالنذر م: (رواية واحدة) ش: أي ليس فيه اختلاف الروايات، فمعناه في جميع الروايات م: (ولصحة التطوع) ش: أي الصوم شرط أيضاً لصحة الاعتكاف التطوع م: (فيما روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لظاهر ما روينا، وهو قوله: الاعتكاف بصوم لأنه يشمل الواجب والنفل وعلى هذه الرواية لا يكون) ش: وعلى هذه الرواية أي رواية الحسن عن أبي حنيفة لا يكون أي الاعتكاف م: (أقل من يوم) ش: لأن الصوم مقدر باليوم.
م: (وفي رواية الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقله ساعة) لأن الاعتكاف لبث في مكان فلا يقدر بوقت كالوقوف بعرفة، فإذا لم يقدر بوقت يكون معتكفاً بقدر ما دام، وله ثواب المعتكفين ما دام في المسجد بنية الاعتكاف.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قدر أقل الاعتكاف انتقل بأكثر اليوم إقامة للأكثر مقام الكل م: (فيكون من غير صوم) ش: يعني إذا كان أقله ساعة فلا يكون فيه صوم م: (لأن مبنى النفي على المساهلة، ألا ترى أنه يقعد في صلاة النفل مع القدرة على القيام) ش: لأن باب النفل أوسع.

(4/124)


ألا ترى أنه يقعد في صلاة النفل مع القدرة على القيام. ولو شرع فيه ثم قطعه لا يلزمه القضاء في رواية الأصل؛ لأنه غير مقدر، فلم يكن القطع إبطالا، وفي رواية الحسن يلزمه؛ لأنه مقدر باليوم كالصوم،
ثم الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد الجماعة؛ لقول حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. وعن أبي حنيفة: أنه لا يصح إلا في مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس؛ لأنه عبادة انتظار الصلاة فيختص بمكان تؤدى فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو شرع فيه) ش: أي في الاعتكاف النفل م: (ثم قطعه لا يلزمه القضاء في رواية الأصل؛ لأنه غير مقدر) ش: لشيء يكون زائداً على ما أتى به الشرع م: (فلم يكن القطع إبطالا) ش: لكون إتمامه غير لازم.
م: (وفي رواة الحسن يلزمه) ش: أي القضاء م: (لأنه مقدر باليوم كالصوم) ش: لضرورة لزوم القضاء في شرطه وهو الصوم.

[مكان الاعتكاف]
م: (ثم الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد الجماعة) ش: أراد به مسجداً تصلى فيه جماعة بعض الصلوات كمساجد الأسواق م: (لقول حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة) ش: هذا رواه الطبراني في " معجمه " حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن إبراهيم النخعي أن حذيفة قال لابن مسعود: ألا تعجب من قوم بين دارك ودار أبي موسى يزعمون أنهم معتكفون، قال: فلعلهم أصابوا، وأخطأت أو حفظوا ونسيت، قال: أما أنا فقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة.
م: (وعن أبي حنيفة) ش: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أنه لا يصح إلا في مسجد) ش: جماعة م: (تصلى فيه الصلوات الخمس؛ لأنه عبادة انتظار الصلاة فيختص بمكان تؤدى فيه) ش: الصلاة. هذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يجوز إلا في مسجد له إمام ومؤذن وتصلى فيه الصلوات كلها.
وفي " الفتاوى ": يجوز الاعتكاف في الجامع وإن لم يصلوا فيه بالجماعة، أما إذا كان يصلى فيه الصلوات الخمس بالجماعة فالاعتكاف فيه أفضل. وقال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": أفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام ثم في مسجد المدينة وهو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم في مسجد بيت المقدس ثم في المساجد العظام التي كثر أهلها.
وفي " المنتقى ": عن أبي يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة. وفي " البدائع ": الاعتكاف الواجب، والنفل لا يصحان إلا في

(4/125)


أما المرأة تعتكف في مسجد بيتها؛ لأنه هو الموضع لصلاتها فيتحقق انتظارها فيه، ولو لم يكن لها في البيت مسجد تجعل موضعا فيه فتعتكف فيه. ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان، أو الجمعة أما الحاجة فلحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «وكان النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان» ؛ ولأنه معلوم وقوعها، ولا بد من الخروج في تقضيتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المسجد، وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح في كل مسجد.
وقال الأترازي: والصحيح عندي أنه يصح في كل مسجد.
قلت: هذا قول الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ونسبه إلى نفسه.

[مكان الاعتكاف بالنسبة للمرأة]
م: (أما المرأة فتعتكف في مسجد بيتها) ش: المراد من مسجد بيتها هو المكان المتعين للصلاة م: (لأنه هو الموضع لصلاتها فيتحقق انتظارها فيه) ش: أي انتظارها للصلاة، أي في الموضع الذي تصلي فيه، وبه قال النخعي والثوري وابن علية.
وفي السروجي: ولا تعتكف في مسجد جماعة ذكره في الأصل. وفي " منية المفتي ": لو اعتكفت في المسجد جاز. وفي " المحيط ": روى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جوازه، وكراهته في المسجد، وفي " البدائع ": وليس لها أن تعتكف في بيتها في غير مسجد بيتها وهو الموضع المعد لصلاتها. وفي المرغيناني: لا يجوز في بيت لا مسجد فيه.
وقال ابن بطال: قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معتكف المرأة، والعبد، والمسافر حيث شاءوا، وقال النووي: المذهب أن المرأة لا يصح اعتكافها إلا في المسجد كالرجل.
م: (ولو لم يكن لها في البيت مسجد تجعل موضعاً فيه فتعتكف فيه) ش: وفي " المجتبى ": لو لم يكن في مسجد بيتها موضع تجعل فيه مسجدا ًفتعتكف فيه، ولو اعتكفت في مسجد بيتها فليس لزوجها أن يأتيها ولا أن يمنعها من الاعتكاف، لكن لا ينبغي لها أن تعتكف بغير إذن زوجها، وكذا العبد لا يعتكف بغير إذن مولاه، ولو أذن لهما ثم إن منعهما صح [ويلزم] ويأثم، وبه قال الشافعي، وقال مالك: ليس له أن يمنعهما، والمكاتب لو اعتكف بغير إذنه يصح وليس له منعه. وقال مالك: له منعه، ولو طلقت المعتكفة في المسجد أو توفي عنها زوجها جاز لها الرجوع إلى بيتها لتعتد فيه ثم ترجع إلى المسجد على اعتكافها، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - تتم اعتكافها في المسجد.
م: (ولا يخرج) ش: أي المعتكف م: (من المسجد إلا لحاجة الإنسان) ش: وهو التغوط وإراقة البول م: (أو الجمعة) ش: أي أو الجمعة أي يخرج لها.
م: (أما الحاجة فلحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان» ش: هذا الحديث غريب بهذا اللفظ وأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن عائشة - رضي

(4/126)


فيصير الخروج لها مستثنى،
ولا يمكث بعد فراغه؛ من الطهور لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها. وأما الجمعة فلأنها من أهم حوائجه، وهي معلوم وقوعها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الخروج إليها مفسد؛ لأنه يمكنه الاعتكاف في الجامع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» م: (ولأنه معلوم وقوعها) ش: أي وقوع الحاجة م: (فلا بد من الخروج في تقضيتها فصير الخروج لها مستثنًى) ش: لأن الضرورات تبيح المحظورات، ثم في خروجه لقضاء الحاجة لا تفاوت بين أن يدخل تحت سقف غير سقف المسجد أو لا فإنه جائز، وكان مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: إذا خرج للحاجة لا ينبغي أن يدخل تحت سقف، فإن أواه سقف غير سقف المسجد فسد اعتكافه لعدم الضرورة فيه، وهذا ليس بشيء، فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان يدخل حجرته إذا خرج لحاجته كذا في " المبسوط ".

م: (ولا يمكث بعد فراغه؛ من الطهور) ش: بفتح الطاء مصدر، وقال المبرد خمسة من المصادر على مفعول بفتح الفاء؛ الطهور، والوضوء، والقبول، والودوع، والركوع، وفي " المغرب ": الطهور بالفتح مصدر بمعنى التطهر، ومنه مفتاح الصلاة الطهور، وقال ابن الأثير الطهور بالضم وبالفتح الماء الذي يتطهر به كالوضوء، والوضوء والسحور والسحور، قال: سيبويه: الطهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معاً م: (لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها) ش: أي بقدر الضرورة.
م: (وأما الجمعة فلأنها من أهم حوائجه) ش: لأنها حاجة دينية ولا يمكن من إقامتها إلا بالخروج م: (وهي معلومٌ وقوعها) ش: أي الجمعة معلوم وقوعها، فيكون الخروج إليها مستثنى.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الخروج إليها) ش: أي إلى الجمعة م: (مفسدٌ) ش: للاعتكاف م: (لأنه يمكنه الاعتكاف في الجامع) ش: وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي " الذخيرة " للمالكية: يبطل بالخروج للجمعة على المشهور، وروي عنه كقولنا، وقال ابن العربي: إذا خرج للجمعة لا يفسد في الصحيح، وبقولنا قال سعيد بن جبير، والحسن البصري، والنخعي، وأحمد، وعبد الملك، وابن المنذر، وفي " الإكمال ": ومن تلزمه الجمعة لا يعتكف إلا في الجامع، وهو المشهور من مذهب مالك، وهو قول الشافعي، والكوفيين، وقال السروجي: قوله الكوفيين غير صحيح.

(4/127)


ونحن نقول: الاعتكاف في كل مسجد مشروع، وإذا صح الشروع فالضرورة مطلقة في الخروج، ويخرج حين تزول الشمس؛ لأن الخطاب يتوجه بعده، وإن كان منزله بعيدا عنه يخرج في وقت يمكنه إدراكها، ويصلي قبلها أربعا، وفي رواية ستا، الأربع سنة، والركعتان تحية المسجد، وبعدها أربعا أو ستا على حسب الاختلاف في سنة الجمعة، وسننها توابع لها فألحقت بها، ولو أقام في مسجد الجامع أكثر من ذلك، لا يفسد اعتكافه؛ لأنه موضع اعتكاف إلا أنه لا يستحب؛ لأنه التزم أداءه في مسجد واحد، فلا يتمه في مسجدين من غير ضرورة.
ولو خرج من المسجد ساعة بغير عذر فسد اعتكافه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ونحن نقول: الاعتكاف في كل مسجد مشروع، فإذا صح الشروع) ش: أي في مسجد غير جامع م: (فالضرورة مطلقةٌ) ش: بضم الميم وسكون الطاء وكسر اللام أي مجوزة على الإطلاق م: في الخروج) ش: إلى الجمعة م: (ويخرج حين تزول الشمس؛ لأن الخطاب يتوجه بعده) ش: أي بعد زوال الشمس عن كبد السماء م: (وإن كان منزله بعيدًا عنه) ش: أي عن الجامع م: (يخرج في وقت يمكنه إدراكها) ش: أي إدراك الجمعة م: (ويصلي قبلها) ش: أي قبل الجمعة م: (أربعًا) ش: أي يصلي أربع ركعات.
م: (وفي رواية ستا، الأربع سنةٌ، والركعتان تحية المسجد، وبعدها أربعًا أو ستا) ش: أي، أو يصلي ست ركعات م: (على حسب الاختلاف في سنة الجمعة) ش: فإن عند أبي حنيفة، ومحمد يصلي أربعاً وعند أبي يوسف يصلي ستا م: (وسننها توابع لها فألحقت بها) ش: كأذكارها.
م: (ولو أقام في مسجد الجامع أكثر من ذلك) ش: أي أكثر من صلاة الجمعة وسنتها م: (لا يفسد اعتكافه؛ لأنه موضع اعتكاف) ش: فلا يضره ذلك م: (إلا أنه لا يستحب) ش: استثناء من قوله: لا يفسد اعتكافه، أي لا يفسد اعتكافه بإقامة المعتكف في الجامع أكثر من صلاة وسنتها، إلا أن يثبت فيه بعد الفراغ لا يستحب بل يكره له ذلك م: (لأنه التزم أداءه في مسجد واحد، فلا يتمه في مسجدين من غير ضرورة) ش: رعاية للمسجد الذي اعتكف فيه بقدر الإمكان.

[خروج المعتكف من المسجد بدون عذر]
م: (ولو خرج من المسجد ساعةً بغير عذر فسد اعتكافه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: العذر الخروج لغائط أو بول أو جمعة لأنه لا بد منه، وكذا إذا انهدم المسجد، وفي السقف يجوز له أن يتحول إلى مسجد آخر في خمسة أشياء.
أحدها: أن ينهدم مسجده.
الثاني: أن يتفرق أهله فلا يجتمعون فيه.
الثالث: أن يخرجه منه سلطان.

(4/128)


لوجود المنافي وهو القياس، وقالا: لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم وهو الاستحسان؛ لأن في القليل ضرورة. قال وأما الأكل، والشرب، والنوم يكون في معتكفه؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم يكن له مأوى إلا المسجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرابع: أن يأخذه ظالم.
الخامس: أن يخاف على نفسه وماله من المكابرين.
وفي المرغيناني: إن خرج لمرض يبطل اعتكافه، لأن وقت المرض غير معلوم فلم يكن مستثنى، وقال الحاكم في " الكافي ": وكذا يبطل لو أخذه غريم فحبسه ساعة. قوله في المتن - ساعة - يعني وإن كان قليلاً، وسواء كان عامداً أو ناسياً، وفي " المبسوط " و " التحفة " قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أقيس.
م: (لوجود المنافي) ش: للبث م: (وهو) ش: أي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو م: (القياس) ش: وبه قال مالك والشافعي، وأحمد، إلا أن عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخرج لعيادة أبويه ولا يخرج لجنازتهما. م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (لا يفسد حتى يكون) ش: أي الخروج م: (أكثر من نصف يوم) ش: لأن للأكثر منه حكم الكل والأقل منه عفو، وإن كان بغير عذر ولهذا إذا خرج لحاجة الإنسان فتأنى في المشي لا يفسد اعتكافه، وإن كان لا يحتاج إلى التأني في المشي لأنه في حكم اليسير. وفي " الذخيرة ": الاختلاف في الاعتكاف الواجب، أما في النفل فلا بأس بأن يخرج بغير عذر لأن التطوع غير مقدر في ظاهر الرواية، وهو أي قولهما م: (الاستحسان؛ لأن في القليل ضرورةً) ش: والضرورة مستثناة م: (وأما الأكل، والشرب، والنوم يكون في معتكفه) ش: أي في موضع الاعتكاف م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن له مأوى إلا في المسجد) ش: يعني في حال كونه معتكفاً، وهذا معلوم في الأحاديث والنصوص المتطابقة ويقال في غالب أحواله لم يتخذ مأوى إلا المسجد فكان أكله متحققاً فيه فلا ضرورة إلى الخروج، وبه قال مالك وابن شريح من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو الأظهر عند صاحب " التهذيب ".
وقال المزني وأكثر أصحابه: له الخروج للأكل والشرب لأن في تكلفه الأكل في المسجد مشقة ونوعاً من ترك المروءة أيضاً، فإنه قد يختار أن لا يعرف جنس طعامه لفقره أو لتورعه، فلو كلفناه الأكل يفوت غرضه، وأيضاً قد يكون في المسجد غيره فيشق عليه الأكل دونه، ولو أكل معه لم يكفهما الطعام فجعلنا ذلك عذرا في إباحة الأكل في المنزل، كذا في تتمتهم، وفي " شرح الوجيز ": لو عطش ولم يجد في المسجد ماء يخرج، وإن وجد فيه فوجهان

(4/129)


ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة في المسجد فلا ضرورة إلى الخروج.
ولا بأس بأن يبيع ويبتاع في المسجد من غير أن يحضر السلعة لأنه قد يحتاج إلى ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته، إلا أنهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أصحهما لا يخرج.
م: (ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة) ش: أي حاجة الأكل والشرب م: (في المسجد فلا ضرورة إلى الخروج) ش: قيد بقوله؛ لأنه يمكن لأنه إذا لم يمكن يخرج، وفي " البدائع ": لا يخرج لأكل وشرب، ونوم، ولا عيادة مريض، ولا صلاة جنازة، فإن خرج فسد اعتكافه عامداً أو ناسيا، بخلاف ما لو خرج مكرهاً، وفي " شرح الإرشاد ": لا يخرج لأداء شهادة وإن تعين لأدائها، لأن هذا لا يقع إلا نادراً، فلا عبرة للنادر، وبه قال مالك. وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لو تعين أداؤها عليه لا تبطل بالخروج، وإن لم يتعين تبطل، وفي " الذخيرة " للمالكية: يؤديها في المسجد ولا يخرج.

[ما يجوز للمعتكف]
م: (ولا بأس بأن يبيع) ش: أي المعتكف م: (ويبتاع) ش: أي أو يشتري م: (في المسجد من غير أن يحضر السلعة) ش: وفي " التنجيس " هذا إذا باع أو اشترى لحاجته الأصلية لا للتجارة، فإنه للتجارة مكروه. لأن المسجد بني للصلاة لا للتجارة.
وفي " الذخيرة ": له أن يبيع ويشتري في المسجد الطعام، وما لا بد منه، وإذا أراد أن يتخذ ذلك متجراً يكره له. وقال الكرخي: قوله - من غير أن يحضر السلعة - دليل على أنه لا بأس به مطلقاً، سواء كان له منه بد أو لم يكن.
وقال الشافعي: يبيع ويشتري ولا يكره منه، وقطع الماوردي بكراهة البيع والشراء وعمل الصنائع. وقال في البويطي: أكره البيع والشراء في المسجد، ومثله عن أبي حامد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال النووي في " شرح التهذيب ": وهو الأصح وكرهه عطاء والزهري، وكان مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: يخرج لشراء الطعام ثم يرجع، وفي " جوامع الفقه ": للمتعكف أن يبيع ويشتري في المسجد من غير إحضار السلعة ويتزوج ويراجع ويحرم بحج وعمرة ويتطيب ويتردد في نواحي المسجد ويصعد المنارة، وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والشافعي.
وقال معمر: لا يتطيب المعتكف، وقال عطاء: لا يتطيب المعتكف وفي " الخزانة " كره التحرز للمعتكف ومنع سحنون من المالكية إمامة المعتكف في أحد قوليه في الفرض والنفل وكذا أذانه في غير المنارة، وفي المنارة منعه مالك مرة وأجازه أخرى مع العلماء.
م: (لأنه) ش: أي لأن المعتكف م: (قد يحتاج إلى ذلك) ش: أي إلى البيع والشراء م: (بأن لا يجد من يقوم بحاجته، إلا أنهم قالوا) ش: استثناء.

(4/130)


قالوا: يكره إحضار السلعة للبيع، والشراء؛ لأن المسجد متحرز عن حقوق العباد، وفيه شغله بها،
ويكره لغير المعتكف البيع والشراء فيه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جنبوا مساجدكم صبيانكم - إلى أن قال -: وبيعكم، وشراءكم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (يكره إحضار السلعة للبيع والشراء؛ لأن المسجد متحرز) ش: على بناء المجهول من التحريز بالحاء المهملة، معناه أن بقعة المسجد قد تحرزت م: (عن حقوق العباد) ش: فصارت حقاً لله تعالى م: (وفيه شغله بها) ش: أي وفي إحضار السلعة شغل المسجد بفتح الشين بها أي بالسلعة فيكره شغله بالسلع للتجارة.

م: (ويكره لغير المعتكف البيع والشراء فيه) ش: أي في المسجد م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «جنبوا مساجدكم صبيانكم - إلى أن قال -: وبيعكم، وشراءكم» ش: هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ واثلة بن الأسقع، روى حديثه ابن ماجه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع» ، ورواه الطبراني في " معجمه " عن العلاء بن كثير عن مكحول عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة، قالوا سمعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول، فذكره وسنده ضعيف.
ومعاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى حديثه عبد الرزاق في " مصنفه " من حديث مكحول عنه، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جنبوا مساجدكم» ... الحديث، باللفظ المذكور، وروى النسائي، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك» .

م: (قال: ولا يتكلم إلا بخير) ش: قال الله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53] [الإسراء: آية 53] ، أي قل للمؤمنين يقولوا للمشركين الكلمة التي هي أحسن وألين، ولا تحاشوهم فالنص يقتضي أن لا يتلكم خارج المسجد إلا بخير، فالمسجد أولى، وله قراءة القرآن والحديث، والعلم، والتدريس، وكتابة أمور الدين، وسماع العلم.
وقال القاضي عياض وأبو بكر بن العربي: منعه مالك من ذلك وهو قول بن حنبل، واعتباره بالطواف والصلاة، وقال أبو الطيب في " المجرد " قال الشافعي في " الأم " و " الجامع

(4/131)


قال: ولا يتكلم إلا بخير، ويكره له الصمت؛ لأن صوم الصمت ليس بقربة في شريعتنا لكنه يتجانب ما يكون مأثما.
ويحرم على المعتكف الوطء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] [البقرة: الآية 187]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكبير ": لا بأس أن يقص في المسجد، لأن القصص وعظ وتذكير. وقال النووي: ما قاله الشافعي محمول على الأحاديث المشهورة والمغازي والرقائق مما ليس فيه وضع ولا ما تحمله عقول العوام ولا ما يذكره أهل التواريخ والقصص من قصص الأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وحكاياتهم أن بعض الأنبياء جرى له كذا من فتنة أو نحوها، فإن كل هذا يمنع منه انتهى.
قلت: يمنع من ذلك من كان غير معتكف، ويمنع الطرقية الذين يعملون المواعيد في المساجد ويوردون الأحاديث الموضوعة والأخبار التي ليست لها صحة، وفي " جوامع الفقه ": يكره التعليم فيه بأجر، وكذا كتابة المصحف بأجر والخياطة، وقيل: إن كان الخياط يحفظ المسجد فلا بأس بأن يخيط فيه ولا يستطرقه إلا لعذر، ويكره على سطحه ما يكره فيه.
م: (ويكره له الصمت) ش: أي ترك التحدث مع الناس، قال الإمام حميد الدين الضرير: إنما يكره الصمت إذا اعتقده قربة، أما إذا لم يعتقده قربة فلا يكره لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من صمت نجا» رواه عبد الله بن عمر- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال الكاكي: قيل معنى الصمت النذر بأن لا يتكلم أصلا كما كان في شريعة من قبلنا وقيل: أن يسكت ولا يتكلم أصلا، قاله الإمام بدر الدين خواهر زاده.
م: (لأن صوم الصمت ليس بقربة في شريعتنا) ش: قالوا: إن صوم الصمت من فعل المجوس وروى أبو حنيفة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن صوم الوصال وصوم الصمت» وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر رجلاً نذر أن يقوم في الشمس ولا يتكلم ولا يستظل ويصوم، أن يجلس ويستظل ويتكلم» رواه البخاري. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل» . رواه أبو داود، وفي " المغني ": الصمت عن الكلام ليس من شريعة الإسلام، وأجازه أبو ثور وابن المنذر.
م: (لكنه يتجانب ما يكون مأثما) ش: متصل بقوله: يكره له الصمت، يعني يتحدث بما شاء بعد أن لا يكون في كلامه مأثم، والمأثم بمعنى الإثم.

[ما يحرم على المعتكف]
م: (ويحرم على المعتكف الوطء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: الآية 187] ) ش: قيل: كيف [.....] للمعتكف الوطء، أجيب بأنه يجوز له الخروج للحاجة، فعند ذلك أيضاً يحرم الوطء عليه لما أن اسم المعتكف لا يزول عنه بذلك الخروج، وفي " شرح النازلات " كانوا يخرجون ويقضون حاجتهم في الجماع ثم يغتسلون فيرجعون إلى

(4/132)


وكذا اللمس، والقبلة، لأنه من دواعيه، فيحرم عليه؛ إذ هو محظوره كما في الإحرام بخلاف الصوم، لأن الكف ركنه لا محظوره، فلم يتعد إلى دواعيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معتكفهم فنزل {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ} [البقرة: 187] .... الآية وسواء كان الوطء بالليل أو بالنهار عامداً كان أو ناسيا، وبه قال مالك وأحمد وسواء كان في المسجد أو خارجه.
وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كان ناسياً لاعتكافه أو جاهلاً بتحريمه لم تبطل على المذهب، وبه قال داود، ونقل المزني عن الشافعي أن الاعتكاف لا يفسده الوطء؛ إلا ما يوجب الحد، وقال إمام الحرمين: يقتضي هذا أن لا يفسد بالوطء في الدبر ووطء البهيمة إذ لم يوجب فيهما الحدود، وعلى إمام الحرمين فقال النووي: المذهب المشهور أن الاعتكاف يفسد بكل وطء سواء فيه المرأة أو البهيمة أو اللواط وغيره.
م: (وكذا اللمس والقبلة) ش: أي وكذا يحرم لمس زوجته وقبلته إياها، وفي بعض النسخ ويكره له المس. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا كان اللمس بغير شهوة لا يمنع.
وفي " خزانة الأكمل ": اللمس والقبلة إن كان معهما إنزال يفسد اعتكافه، وبدون الإنزال لا يفسد، وإن نظر فأنزل أو تفكر فأنزل أو احتلم لا يفسد. وفي " المحيط " و " البدائع " و " التحفة " و " المنافع " قالوا: يحرم عليه اللمس والقبلة إن كان معهما إنزال، ولم يشترطوا فيهما الشهوة، وفي العبد إن نظر إلى امرأته بشهوة فأمنى لا يفسد بل يغتسل ويعود إلى معتكفه.
وفي المرغيناني: يكره للمعتكف المباشرة الفاحشة، وإن أمن على نفسه. ولا يكره للصائم إذا أمن، وهذا يدل على أن اللمس من غير شهوة لا يحرم على المعتكف، وإن أطلقوا الحرمة في الكتب المشهورة، وعن ابن سماعة أنه ذكر عن بعض أصحابنا أن جماع الناسي لا يفسد الاعتكاف، لأنه فرع الصوم.
م: (لأنه) ش: أي لأن في اللمس والقبلة م: (من دواعيه) ش: أي من دواعي الوطء م: (فيحرم عليه إذ هو محظوره) ش: أي إذ الوطء محظور الاعتكاف م: (كما في الإحرام) ش: أي كما هو محظور في حالة الإحرام، والحظر في اللغة المنع، وكثيراً ما يراد به الحرام، يقال حظرت الشيء إذا حرمته م: (بخلاف الصوم) ش: جواب عن سؤال مقدر بأن يقال: الجماع يفسد الصوم، كما أنه يفسد الاعتكاف فأجاب بقوله - بخلاف الصوم -.
م: (لأن الكف) ش: أي عن الجماع م: (ركنه) ش: أي ركن الصوم م: (لا محظوره، فلم يتعد إلى دواعيه) ش: أي فلم يتعد حكم الحرمة من الوطء إلى دواعي الوطء، تقدير هذا الموضع أن الجماع محظور في الاعتكاف بالنص، بخلاف الصوم، فإن التقبيل واللمس لا يحرم بالصوم، لأن الجماع ليس بحرام في الصوم، لكن الكف عن الجماع ركن فيه، وحرمة الجماع

(4/133)


فإن جامع ليلا، أو نهارا عامدا، أو ناسيا بطل اعتكافه لأن الليل محل الاعتكاف بخلاف الصوم، وحالة العاكفين مذكرة فلا يعذر بالنسيان. ولو جامع فيما دون الفرج فأنزل، أو قبل، أو لمس فأنزل بطل اعتكافه؛ لأنه في معنى الجماع حتى يفسد به الصوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إنما ثبت لفوات الركن ضرورة وجوب الكف، فلم تتعد الحرمة إلى دواعيه إلا إذا خاف الوقوع في الجماع، وفي " الأم " اعتكاف الركن هو اللبث لا الكف عن الجماع فكان الجماع من محظورات اللبث، بدليل أن الحرمة تثبت النهي.
بقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] ، وموجب النهي الحرمة أي دواعيه لأنه من توابع المحظورات كما في الإحرام. م: (فإن جامع) ش: أي المعتكف م: (ليلا، أو نهارا) ش: أي في الليل أو النهار حالة كونه م: (عامدا) ش: أي قاصداً م: (أو ناسيا) ش: أي أو جامع حال كونه ناسياً م: (بطل اعتكافه) ش: وبه قال مالك وأحمد، وسواء فيه أنزل أو لم ينزل. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا جامع ناسياً لا يبطل اعتكافه، روى ابن سماعة عن أصحابنا مثله.
م: (لأن الليل محل الاعتكاف بخلاف الصوم) ش: أراد بهذا بيان أن كل ما كان من محظورات الاعتكاف لا يختلف فيه حكم السهو والعمد، والليل والنهار، ولهذا إذا جامع يفسد اعتكافه سواء جامع ليلاً أو نهاراً أو ناسيا، ولكل ما كان من محظورات الصوم مختلف فيه حكم السهو والعمد، والليل والنهار، ولهذا إذا أكل أو شرب ليلاً عامدا أو ناسيا لا يضره، ولو أكل في النهار ناسيا لا يضره، وكذا لو جامع في النهار ناسيا لا يفسد صومه، وإن أفسد الاعتكاف، ولو أكل في النهار عامدا يفسد الاعتكاف بفساد صومه.
م: (وحالة العاكفين مذكرة فلا يعذر بالنسيان) ش: أشار بهذا الكلام إلى الفرق بين الصوم والاعتكاف، وهو أن المعتكف اقترن به ما يذكره وهو حالة العكوف فلا ينسى بالنسيان عادة، ولا يعذر بالنسيان، والصائم لم تقترن به حالة تذكره فيعذر بالنسيان، وهو أيضاً جواب عن سؤال مقدر، يقال: الاعتكاف فرع على الصوم، والفرع ملحق بالأصل في حكمه فلو جامع ناسياً في رمضان لم يفسد الصوم، فكيف يفسد الاعتكاف، فأجاب بقوله: وحالة العاكفين مذكرة.
م: (ولو جامع) ش: أي المعتكف م: (فيما دون الفرج) ش: مثل البطن والفخذ م: (فأنزل، أو قبل، أو لمس فأنزل بطل اعتكافه؛ لأنه في معنى الجماع حتى يفسد به الصوم) ش: لأنه إنزال بمباشرة فصار كالإنزال بالوطء من حيث قضاء الشهوة، وللشافعي فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه لا يفسد اعتكافه وإن أنزل، كما لا يفسد الإحرام بها وإن أنزل، فإنهما متقاربان في المعنى؛ لأن كل واحد منهما يدوم الليل، والنهار.

(4/134)


ولو لم ينزل لا يفسد، وإن كان محرما؛ لأنه ليس في معنى الجماع، وهو المفسد، ولهذا لا يفسد به الصوم.
قال: ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمه اعتكافها بلياليها؛ لأن ذكر الأيام على سبيل الجمع يتناول ما بإزائها من الليالي، يقال: ما رأيتك منذ أيام، والمراد بلياليها، وكانت متتابعة، وإن لم يشترط التتابع؛ لأن مبنى الاعتكاف على التتابع، لأن الأوقات كلها قابلة له بخلاف الصوم؛ لأن مبناه على التفرق، لأن الليالي غير قابلة للصوم فيجب على التفرق حتى ينص على التتابع، وإن نوى الأيام خاصة، صحت نيته لأنه نوى الحقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثاني: أن يفسد بها الاعتكاف وإن لم ينزل، وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والثالث: مثل قولنا، وبه قال المزني وأصحاب أحمد.
م: (ولو لم ينزل لا يفسد، وإن كان محرما؛ لأنه ليس في معنى الجماع، وهو المفسد) ش: أي الجماع هو المفسد م: (ولهذا لا يفسد به الصوم) ش: أي ولأجل أن التقبيل أو اللمس من غير إنزال لا يفسد به الصوم، لأنه ليس في معنى الجماع.

[حكم من أوجب على نفسه اعتكاف يومين أو أيام]
م: (ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام) ش: نحو أن يقول: لله علي أن أعتكف ثلاثة أيام م: (لزمه اعتكافها بلياليها؛ لأن ذكر الأيام على سبيل الجمع يتناول ما بإزائها من الليالي، يقال: ما رأيتك منذ أيام، والمراد بلياليها) ش: لأن ذكر أحد العددين على طريق الجمع ينتظم ما بإزائه من العدد، ألا ترى إلى قصة زكريا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حيث قال: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] [آل عمران: آية 41] ، وقال: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] [مريم: آية 10] ، والقصة كانت واحدة.
م: (وكانت) ش: أي الأيام م: (متتابعة، وإن لم يشترط التتابع؛ لأن مبنى الاعتكاف على التتابع) ش: لوجوده في اليوم والليلة م: (لأن الأوقات كلها قابلة له) ش: أي للاعتكاف قوله: - كلها - بالنصب لأنه توكيد الأوقات، وخبر أن قوله - قابلة - وبقولنا قال: مالك وأحمد، ولأحمد في نذر الصوم المطلق روايتان في وجوب التتابع. وقال زفر والشافعي: هو بالخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق كالنذر بالصوم.
م: (بخلاف الصوم؛ لأن مبناه على التفرق، لأن الليالي غير قابلة للصوم فيجب على التفرق حتى ينص على التتابع) ش: نحو أن يقول: لله علي أن أصوم شهراً متتابعاً يلزمه التتابع، وإذا قال لله عليه أن أصوم شهراً يكون له الخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق، لأن التفريق فيه أصل لوجوده في النهار خاصة.
م: (وإن نوى الأيام خاصة صحت نيته؛ لأنه نوى الحقيقة) ش: أي حقيقة كلامه إذ اليوم اسم لبياض النهار.

(4/135)


ومن أوجب على نفسه اعتكاف يومين يلزمه بلياليهما. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تدخل الليلة الأولى؛ لأن المثنى غير الجمع، وفي المتوسطة ضرورة الاتصال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: الحقيقة منصرف اللفظ بدون قرينة ونية، فما وجه قوله: لأنه نوى الحقيقة؟
أجيب: كأنه اختار ما ذهب إليه بعضهم أن اليوم مشترك بين بياض النهار، ومطلق الوقت واحد، ومعنى المشترك يحتاج إلى ذلك لتعيين الدلالة لا لنفس الدلالة، وعلى تقدير أن يكون مختاره ما عليه الأكثرون، وهو أنه مجاز في مطلق الوقت، فجوابه أن ذكر الأيام على سبيل الجمع صارف له عن الحقيقة فيحتاج إلى النية دفعاً للصارف عن الحقيقة لا للدلالة.
م: (ومن أوجب على نفسه اعتكاف يومين يلزمه بلياليهما) ش: هذا ظاهر الرواية؛ لأن الليلتين تتناولان يومهما عرفاً، يقال: أرك منذ ليلتين، فيدخل الغروب في اليوم الثاني، ولو نذر اعتكاف [ليلة لا يصح لأنه لا يتناول يومها، والليلة ليست بمحل للصوم، وإذا نذر اعتكاف] يوم صح.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تدخل الليلة الأولى؛ لأن المثنى غير الجمع) ش: كون المثنى غير الجمع ظاهر، ولما كان كذلك كان لفظ المثنى ولفظ المفرد سواء، ولو قال: علي أن أعتكف يوماً لم تدخل ليلته بالاتفاق، فكذا في التثنية.
م: (وفي المتوسطة) ش: أي في الليلة المتوسطة وهي الليلة الوسطى م: (ضرورة الاتصال) ش: يعني اتصال البعض الآخر بالبعض، وهذه الضرورة لم توجد في الليلة الأولى قيل: إن أبا يوسف ترك أصله لأن المثنى له حكم الجمع عنده كما في مسألة الطريق ومحاذاة النساء، وجوابه يحتمل أن يكون روايتان في أن المثنى له حكم الجمع أم لا.
وقال الأكمل: فإن قيل: لما كان المثنى غير الجمع وجب أن لا يكتفى في الجمعة بالاثنين سوى الإمام، وقد اكتفي بالاثنين كما تقدم في باب الجمعة.
أجيب: بأن الأصل ما ذكرت ها هنا بأن العمل فيه بأوضاع الوحدان والجمع، إلا أني وجدت في الجمعة معنى لم يوجد في غيرها، وهو أنه إنما سميت جمعة لمعنى الاجتماع، وفي الجماعة والتثنية ذلك، فإن كانت التثنية في تحقيق معنى الاجتماع كالجمع، فاكتفيت بها، انتهى.
قلت: كلامه بهذه العبارة يوهم أنه هو القائل بما قاله حيث أسنده إلى نفسه وليس كذلك، فإن القائل لهذا هو أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قال في " النهاية ": وأما أبو يوسف فيقول كان من حق حكم التثنية أن يغاير حكم الجمع في كل موضع، لأن فيه عملاً بالأوضاع وهو وحدان وتثنية وجمع، إلا أني قد وجدت في الجمعة، فذكره إلى آخر ما ذكره الأكمل.

(4/136)


وجه الظاهر: أن في المثنى معنى الجمع، فيلحق به احتياطا لأمر العبادة، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال صاحب " النهاية ": قوله: قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تدخل الليلة الأولى كان من حقه أن يقال: عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما هو المذكور بلفظ عن في نسخ شروح " المبسوط " و " الجامع الكبير ".
م: (وجه الظاهر) ش: أشار به إلى أن ما ذكره أبو يوسف خلاف الظاهر م: (أن في المثنى معنى الجمع، فيلحق به) ش: أي بالجمع (احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط م: (لأمر العبادة) ش: أي لأجل أمر العبادة، وفيه إشارة إلى أن أبا حنيفة ومحمدا لم يلحقا المثنى بالجمع في الجمعة لعدم الاحتياط في ذلك؛ لأن الاحتياط في الخروج عن عهدة ما عليه يتعين، وذلك في الإلحاق غير معين لأن الجماعة شرط على حدة بالاتفاق، وفي كون التثنية بمعنى الجمع تردد لتجاذب المفرد والجمع، إذ هي بينهما في اشتراط الجمع لا تردد في الخروج، فكان شرطاً، وأما في الاعتكاف ففي إلحاقه بالجمع خروج عنهما بيقين، لأن إيجاب ليلتين مع يومين أحوط من إيجاب يومين بليلة فافهم.

(4/137)